عثمان بن عفان ذو النورين

محمد رضا

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

مقدمة المحقق.

مقدمة المحقق.

- عالمٌ بالحلال والحرام، جامعٌ لكتاب اللَّه العزيز، سهلٌ ممتنعٌ، كريمٌ معطاءٌ، لينٌ، واصلٌ للرَّحِم، محبٌّ لأهله وعشيرته، مُكْرمٌ لهم إلى حدٍّ جعلهم يتطاولون على مقامه، ويسيئون للأمة باسمه، لكن مع هذا كله فهو مؤمن بما وعده عليه الصلاة والسلام بأن اللَّه سيقمِّصه قميصاً فلا ينزعه، وسيهلك دونه. فقد أدى ما أمره اللَّه ورسوله، فصدق ما عاهد به وقضى نَحْبَه. هذا هو عثمان بن عفَّان الخليفةُ الراشديُّ الثالث. {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37] . هذا حقيقة ما شعرت به عندما بدأت بتحقيق هذا الكتاب، فقارئ تاريخ أمَّتنا العربية لم يعد يعرف برواية من يعتد، ولا من يُصدِّق، لا سيما وأن اختلاف الروايات وتناقضها أحياناً واردٌ في أمَّات الكتب والمصادر، ففي كتب التاريخ هذه ما يتنافى وعقائد القراء وإيمانهم، وفيها ما لا ترتاح له قلوبهم. إن أخطر ما يهدِّد تاريخنا هو الفكر المشوش الذي تزخر به أمَّات كتبنا، وكثيراً ما نجد الرواية نفسها في أكثر من مصدر، ولكن كلٌّ رواها حسب ميوله وانتمائه الفكري، والسياسي، واعتقاده. لذا حاولت في تحقيق ورصد الأحداث التي في كتاب "عثمان بن عفَّان" رضي اللَّه عنه من أكثر من مصدر قدر المستطاع، إضافة إلى التعريف بشخصيات مسرح أحداث هذه الحِقبة التاريخية التي كان فيها الخليفة الراشديُّ الثاني على رأس السلطتين الزمنية والروحية. أخيراً، ليس خطأ أن نرجع إلى الوراء بنظرة نافذة مجردة فاحصة - لكن بموضوعية - لتاريخنا العربي عَلَّنا نقف على حقيقة ماضينا، وحاضرنا، ومستقبلنا، فمن يعرف التاريخ يدرك الحاضر والمستقبل. أسأل اللَّه عزَّ وجلَّ أن ينفعني وإخواني المسلمين بعلمه وهدايته. إنه السميع البصير القدير على كل شيء وهو حسبي ونعم الوكيل. محمد أمين الضنَّاوي.

ترجمة المؤلف.

ترجمة المؤلف.

- محمد رضا (1) هو أديب مصري، ولد في مصر ونشأ فيها، تعلَّم اللغة العربية وآدابها وبرع فيها، شغل منصب أمين مكتبة الجامعة بالقاهرة، وكان أحد المدرسين بمدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية. وفاته: توفي بالقاهرة سنة 1369 هـ - 1950 م. مؤلفاته: له مؤلفات عديدة في التاريخ الإسلامي، والفلسفة، والتربية، من هذه المؤلفات: -1- محمد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. -2- أبو بكر الصدَّيق. -3- عمر بن الخطاب (الفاروق) . -4- عثمان بن عفَّان (ذي النورين) . -5- علي بن أبي طالب (أبو السبطين) . -6- الحسن والحسين (ابنا علي بن أبي طالب) . وهو كتاب في سيرتهما. -7- أبو حامد الغزَّالي، حياته ومصنَّفاته.

_ (1) جريدة المصري 5/2/1950 م، ومعجم المطبوعات 1958 م.

مقدمة المؤلف.

مقدمة المؤلف.

- الحمد للَّه رب العالمين، وأحكم الحاكمين، والصلاة والسلام على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. أما بعد، فقد شاء اللَّه سبحانه وتعالى أن أثابر على ما بدأت به من وضع كتب في التاريخ الإسلامي خدمة للمسلمين في جميع أقطار الأرض. وها أنذا أتقدم إلى الباحثين والقارئين من أبناء اللغة العربية بالكتاب الرابع من سلسلة التاريخ الإسلامي في حياة "عثمان بن عفان" - رضي اللَّه عنه - وخلافته. وهو ثالث الخلفاء الراشدين، وبذلك سددت فراغاً وأكملت نقصاً إذ كان الناس إلى الآن لا يجدون كتاباً قائماً بذاته لكل خليفة، يتناول ترجمته وما جرى من الحوادث في عهده، حتى إن علماء الإفرنج مع اجتهادهم في التأليف نراهم قد حذوا حذو مؤلفي المسلمين فلم يفردوا لكل خليفة كتاباً. فللأستاذ "موير" كتاب: تاريخ الخلافة الإسلامية، وللأستاذ "واشنجتون [واشنطون] إيرفنج" كتاب: محمد وخلفائه، وكلاهما في مجلد واحد، وهكذا غيرهما من المؤلفين. ولا شك أن هذا نقص يجب تداركه، على أنه لا يغيب عنا أن نذكر أن العلاَّمة رفيق بك العظم قد تدارك الأمر فجعل لكل خليفة جزءاً من كتابه: أشهر مشاهير الإسلام، ولم أعثر إلا على الأجزاء الأربعة الأولى إلى عثمان. ثم لا نجد غير كتب التاريخ العامة كالطبري وهو ثقة، وابن الأثير، وابن خلدون وهو مختصر، اختصره من الطبري غالباً. وحوليات البرنس كيتاني الذي ترجم النصوص العربية إلى اللغة الإيطالية. والكتب العربية في الخلفاء الراشدين ما هي إلا سير. ثم كتب التراجم: كأسد الغابة والإصابة، وطبقات ابن سعد، والاستيعاب، والكمال، والتهذيب الخ، وهي تكاد تكون متشابهة إنما بعضها مطوَّل وبعضها مختصر وقد نقل عنها المستشرقون في تأليف دائرة المعارف الإسلامية، فلم يزيدوا عليها إلا تعليقات من عندهم ترمي إلى التشكيك من غير تحقيق كما ذكرناه في كتابنا هذا في وفاة العباس بن عبد المطلب، واستسقاء عمر بن الخطاب به في حياته. أما كتاب تاريخ الأمم الإسلامية للمرحوم محمد الخضري بك، فهو مختصر ألقاه محاضرات في الجامعة المصرية القديمة، وكان فيها محتاطاً أشد الاحتياط، فلم يزج بنفسه في التفاصيل ومناقشة مختلف الروايات، فلا يجد فيه مُريد التوسع بغيته. هذا ويجب أن يكون -[10]- المؤرخ في زماننا مجيداً للغة أجنبية على الأقل، ولا يكفي أن يُتَرجم له. ففي عهد الخلفاء مثلاً يتحتم الإطلاع على ما كتبه الإفرنج في تاريخ سقوط الدولة الرومانية وتاريخ مصر، والرجوع إلى دوائر المعارف، فمؤرخو العرب مثلاً يذكرون المقوقس كأنه كان حياً عندما فتح عمرو بن العاص الإسكندرية للمرة الثانية مع أنه كان قد مات الخ. أما الواقدي: فقد قرأت شيئاً مما كتبه عن فتوح إفريقية فرأيت العجب العجاب، فهي قصص لا يصح اعتبارها تاريخاً، ولا حاجة بي إلى ضرب الأمثال خشية الإطالة. ولنعد إلى عثمان - رضي اللَّه عنه - فنقول: إن اختياره قد تمَّ بتفويض أرباب الشورى إلى عبد الرحمن بن عوف أمر اختيار أحد الرجلين: علي، أو عثمان، بعد أن تنازل هو عن ترشيح نفسه لعدم رغبته في الخلافة وكان صهر عثمان، وكان أغلب المسلمين يريدون تولية عثمان بعد عمر. فقد كان عمر شديداً لا يحابي أحداً، ولا يخاف أحداً، ولا يتهاون، ولا يلين مع حرصه على إجراء العدل، وكانوا يرهبونه ويحسبون حسابه، وكان شديداً حتى على نفسه، متقشفاً كارهاً للترف والتنعم في المأكل والملبس. أما عثمان فقد كان ليناً حليماً، رحيماً، يصل أهله، شديد الحياء، لا يميل إلى العنف. فكان انتخابه كما قيل: رد فعل لخلافة من قبله. ولما كان عليٌّ شديداً لم يريدوا توليته. قال الأستاذ رفيق بك العظم: "والذي أعتقده أن قريشاً وإن كانت لا تريد استخلاف علي لأسباب سيأتي بيانها إلا أن الخلافة من أبي بكر إلى عثمان تمت على ترتيب طبيعي بحكم الحاجة، وعلى وفق المعروف يومئذ للمسلمين، والثابت عندهم من أقوال الرسول صلى اللَّه عليه وسلم التي تشير إلى مثل هذا الترتيب في المقام والدرجة التي وضع كلاً منهم فيها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وعليٌ نفسه يعرف ذلك ويعترف به" اهـ (1) . لكن هل كان ذلك ملحوظاً في اختيار عثمان؟ لا أظن ذلك، ولم يكن ولم يكن يلحظه عمر بن الخطاب حين اختار أهل الشورى. وقد خاف بنو أمية سيادة بني هاشم فنجحوا في اختيار عثمان، وكانت شخصية عثمان فوق ذلك شخصية محبوبة ومحترمة، وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يحبه، ويقربه، ويلاطفه لحسن أخلاقه، فزوجه ابنتيه، فهذه أسباب هيأت لعثمان تسلم الخلافة -[11]-. لما ولي عثمان - رضي اللَّه عنه - الخلافة قضى الشطر الأول منها وهو أحب إلى الناس من عمر للينه ورأفته، وقد امتلأت الأيدي من المغانم. إن الفتنة التي أدَّت إلى قتل عثمان - والتي سَنُعنَى بتفصيلها في كتابنا هذا - قد أدَّت إلى نتائج وخيمة. أدَّت إلى انقسام المسلمين، وسفك الدماء، والتحزْب، والتشيَع، وتفرقة الكلمة بعد قتله - رضي اللَّه عنه - واقتتلوا للأخذ بثأره حتى قتل من المسلمون تسعون ألفاً!!. إن للفتنة أسباباً ذكرها المؤرخون وأصدق المصادر التي بين أيدينا تاريخ ابن جرير الطبري. وقد كانت بين كبار الصحابة وعثمان - رضي اللَّه عنه - محادثات ومباحثات طويلة وعديدة ومشاورات بشأن الفتنة ونشأتها، وأسبابها، فإنه - رضي اللَّه عنه - ما ترك أحداً يوثق به ويعوّل على رأيه إلا استشاره. وقد أدلى إليه كل برأيه. وهنا يجدر بي أن أبين موقف المؤرخ ومسؤوليته فأقول: المؤرخ يستطيع أن يستعرض الحوادث أن يستنتج منها ما يبني حكمه عليه كالقاضي النزيه، وليس من شأنه أن يلتمس المعاذير ويميل كل الميل مع قوم دون آخرين. فإن من عَدَّ السيئات حسنات، والأغلاط في حكم الصواب جرياً وراء إحساسه وعواطفه، أو خشية الرأي العام، أو البيئة، أو لإشباع شهوة في نفسه، أو للتظاهر بالعلم، أو الصلاح لا يعد في نظرنا مؤرخاً، بل متحيزاً، أو مغرضاً. وقد تصدَّى قوم لتدوين سير بعض السلف فنزهوهم عن جميع الهفوات معتبرين ذلك تعبداً، وصلاحاً، ونسكاً، غاضين الطرف عن الحوادث المؤلمة التي ترتبت عليها. وهذا فضلاً عن كونه مخالفاً مخالفة صريحة للتاريخ ولآراء المعاصرين من السلف الصالح الذين هم أعرف من غيرهم بالدين وأصوله، بأساليب الحكم في زمانهم، وأسباب السخط العام، فإنه مضيع للفائدة المرجوة من التاريخ وما فيه من عبر يعتبر بها الخلف. ومن المؤرخين من يتصدَّى للطعن، واللعن، وتشويه الحقائق، وتسوئة للمحاسن بدافع التعصب لرأي، أو لكي يعدُّ من أرباب العقول الراجحة. وهؤلاء ينفثون سمومهم ولا يدركون مغبة ما تخطه أقلامهم الجامحة من إفك وبهتان. وإني أرجو أن أكون قد خدمت الحقيقة والتاريخ ببحثي في سيرة عثمان - رضي اللَّه عنه -، وقدَّمت لأهل هذا العصر والعصور المقبلة درساً يستفيدون منه في أمور دينهم ودنياهم.

_ (1) كتاب أشهر مشاهير الإسلام، رفيق بك العظم.

[الكتاب]

[الكتاب]

الفصل الأول: حياة عثمان (1) بن عفان رضي الله عنه.

الفصل الأول: حياة عثمان (1) بن عفَّان رضي اللَّه عنه.

(47 ق. هـ - 35 هـ / 576 م - 656 م) -[15]-. هو عثمان بن (2) عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، فهو قرشي أموي يجتمع هو والنبي صلى اللَّه عليه وسلم في عبد مناف، وهو ثالث الخلفاء الراشدين. ولد بالطائف بعد الفيل بست سنين على الصحيح (سنة 576 م) . وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف، وأم أروى البيضاء بنت عبد المطلب عمة الرسول صلى اللَّه عليه وسلم (3) .

_ (1) للاستزادة راجع: الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 589، ابن الأثير ج 2/ص 475، الأخبار الطوال ص 139، الاستيعاب 1778، أسد الغابة ج 3/ص 584، الإنباء في تاريخ الخلفاء ص 48، الإصابة ترجمة ج 4/ص 456، البدء والتاريخ ج 6/ص 192، تاريخ الإسلام ج 3/ص 177، تاريخ الخلفاء لابن زيد ص 24، تاريخ خليفة بن خياط ص 131، تاريخ مختصر الدول ص 103، تاريخ اليعقوبي ص 162، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 118، تذكرة الحفاظ ج 1/ص 8، تقريب التهذيب ج 2/ص 12، التنبيه والإشراف ص 291، تهذيب الأسماء واللغات ج 1/ص 321، تهذيب التهذيب ج 7/ص 142، الجرح والتعديل ص 156، طبقات الفقهاء ص 40، طبقات ابن سعد ج 3/ص 53، العقد الفريد ج 4/ص 310، الفخري ص 97، الكنى والأسماء ج 1/ص 8، مآثر الأناقة ج 1/ص 93، المحبّر ص 14، المِحَن ص 63، مروج الذهب ج 1/ص 543، المعارف ص 191، المغني ص 282، نهاية الأرب ج 19/ص 402، تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، حسن إبراهيم حسن ج 1/ص 252. (2) هو عثمان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب. يجتمع نسبه مع الرسول صلى اللَّه عليه وسلم في الجد الخامس من جهة أبيه. (3) المسعودي، مروج الذهب ج 2/ص 340، الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 692، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 74، تاريخ الإسلام ج 1/ص 252.

- كنيته (1) : -[17]-. يكنى بأبي عبد اللَّه وأبي عمرو، كني أولاً بابنه عبد اللَّه ابن زوجته رقية بنت النبي صلى اللَّه عليه وسلم. توفي عبد اللَّه سنة أربع من الهجرة بالغاً من العمر ست سنين. ويقال لعثمان - رضي اللَّه عنه -: (ذو النورين) لأنه تزوج رقية، وأم كلثوم، ابنتيَّ النبي صلى اللَّه عليه وسلم. ولا يعرف أحد تزوج بنتيَّ نبي غيره (2) .

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 692، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 2/ص 74، السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 119. (2) السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 119.

- أولاده وأزواجه (1) : -1- عبد اللَّه بن رقية. -2- عبد اللَّه الأصغر، وأمه فاختة بنت غزوان بن جابر. -3- عمرو، وأمه أم عمرو بنت جُنْدب. -4- خالد، وأمه أم عمرو بنت جُنْدب. -5- أُبان، وأمه أم عمرو بنت جُنْدب. -6- عمر، وأمه أم عمرو بنت جُنْدب. -7- مريم وأمها أم عمرو بنت جُنْدَب. -8- الوليد، وأمه فاطمة بنت الوليد بن عبد شمس. -9- سعيد، وأمه فاطمة بنت الوليد بن عبد شمس. -10- أم سعيد وأمها فاطمة بنت الوليد بن عبد شمس. -11- عبد الملك وأمه أم البنين بنت عُيينة بن حصن بن حذيفة. -12- عائشة، وأمها رملة بنت شيبة بن ربيعة. -13- أم أبان، وأمها رملة بنت شيبة بن ربيعة. -14- أم عمرو وأمها رملة بنت شيبة بن ربيعة. -15- مريم، وأمها نائلة بنت الفُرَافِصَة ابن الأحوص. -16- أم البنين وأمها أم ولد وهي التي كانت عند عبد اللَّه بن يزيد بن أبي سفيان -[18]-. فأولاده ستة عشر: تسعة ذكور، وسبع إناث، وزوجاته تسع، ولم تذكر هنا أم كلثوم لأنها لم تعقب، وقتل عثمان وعنده رملة، ونائلة، وأم البنين، وفاختة، غير أنه طلق أم البنين وهو محصور.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 692، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 2/ص 75، السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 119.

- زوجته رقية: رقية بنت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وأمها خديجة، وكان رسول اللَّه قد زوَّجها من عتبة بن أبي لهب، وزوَّج أختها أم كلثوم عتيبة بن أبي لهب، فلما نزلت: {تبت} [المسد: 1] قال لهما أبو لهب وأمهما - أم جميل بنت حرب بن أمية - {حمالة الحطب} : فارقا ابنتَي محمد، ففارقاهما قبل أن يدخلا بهما كرامة من اللَّه تعالى لهما، وهواناً لابني أبي لهب، فتزوج عثمان بن عفان رقية بمكة، وهاجرت معه إلى الحبشة، وولدت له هناك ولداً فسماه: "عبد اللَّه"، وكان عثمان يُكنى به (1) ، فبلغ الغلام ست سنين، فنقر عينه ديك، فورم وجهه، ومرض، ومات. وكان موته سنة أربع، وصلى عليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ونزل أبوه عثمان حفرته. ورقية أكبر من أم كلثوم. ولما سار رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى بدر كانت ابنته رقية مريضة، فتخلَّف عليها عثمان بأمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فتوفيت يوم وصول زيد بن حارثة (2) مبشراً بظفر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بالمشركين (3) . وكانت قد أصابتها الحصبة فماتت بها.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 692، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 74. (2) هو زيد بن حارثة بن شراحيل، الكلبي، أبو أسامة، اختطف في الجاهلية صغيراً، واشترته خديجة بنت خويلد فوهبته إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم - قبل الإسلام - وأعتقه وزوَّجه بنت عمته، واستمر الناس يسمونه زيد بن محمد حتى نزلت آية {ادعوهم لآبائهم} ، وهو من أقدم الصحابة إسلاماً، كان النبي صلى اللَّه عليه وسلم لا يبعثه في سرية إلا أمَّره عليها، وكان يحبِّه ويقدِّمه، وجعل له الإمارة في غزوة مؤتة، فاستشهد فيها سنة 8 هـ. للاستزادة راجع: الإصابة ج 1/ص 563، صفة الصفوة ج 1/ص 147، خزانة الأدب ج 1/ص 363، الروض الأنف ج 1/ص 164، تهذيب التهذيب ج 3/ص 401، تقريب التهذيب ج 1/ص 273، خلاصة تهذيب الكمال ج 1/ص 350، الكاشف ج 1/ص 337، تاريخ البخاري الصغير ج 1/ص 8، الجرح والتعديل ج 3/ص 559، أسد الغابة ج 3/ص 281، تجريد أسماء الصحابة ج 1/ص 198. (3) تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، حسن إبراهيم حسن، ج 1/ص 253.

- زوجته أم كلثوم: -[19]-. بنت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وأمها خديجة، وهي أصغر من أختها رقية، زوَّجها النبي صلى اللَّه عليه وسلم من عثمان بعد وفاة رقية، وكان نكاحه إياها في ربيع الأول من سنة ثلاث، وبنى بها في جمادى الآخرة من السنة، ولم تلد منه ولداً، وتوفيت سنة تسع وصلى عليها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ونزل في قبرها عليّ، والفضل (1) ، وأسامة بن زيد (2) . وقيل: إن أبا طلحة الأنصاري استأذن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في أن ينزل معهم، فأذن له. وقال: "لو أن لنا ثالثة لزوجنا عثمان بها". وروى سعيد بن -[20]- المسيب أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم رأى عثمان بعد وفاة رقية مهموماً لهفانا. فقال له: "ما لي أراك مهموماً"؟ فقال: يا رسول اللَّه وهل دخل على أحد ما دخل عليَّ ماتت ابنة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم التي كانت عندي وانقطع ظهري، وانقطع الصهر بيني وبينك. فبينما هو يحاوره إذ قال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: "هذا جبريل عليه السلام يأمرني عن اللَّه عز وجل أن أزوجك أختها أم كلثوم على مثل صداقها، وعلى مثل عشرتها (3) " فزوجه إياها.

_ (1) هو العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، أبو الفضل، القرشي، المكي، من أكابر قريش في الجاهلية والإسلام، جدّ الخلفاء العباسيين، قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في وصفه: "أجود قريش كفاً وأوصلها، هذا بقية آبائي"، وهو عمه، كان محسناً لقومه، سديد الرأي، واسع العقل، مولعاً بإعتاق العبيد، كانت له سقاية الحج وعمارة البيت الحرام أي لا يدع أحداً يسبّ أحداً في المسجد ولا يقول فيه هجراً. أسلم قبل الهجرة وكتم إسلامه، أقام بمكة يكتب إلى رسول اللَّه أخبار المشركين. ثم هاجر إلى المدينة وشهد وقعة حنين فكان ممن ثبت حين انهزم الناس، شهد فتح مكة، وعمي في آخر عمره، وكان إذا مر بعمر في أيام خلافته ترجَّل عمر إجلالاً له، وكذلك عثمان، عمَّر طويلاً، ولد سنة 51 ق. هـ. وتوفي سنة 32 هـ. أحصي وُلده في سنة 200 هـ، فبلغوا 33000. للاستزادة راجع: أسد الغابة ج 3/ص 164، تهذيب الكمال ج 2/ص 658، تهذيب التهذيب ج 5/ص 122، تقريب التهذيب ج 1/ص 397، خلاصة تهذيب الكمال ج 2/ص 35، الكاشف ج 2/ص 66، تاريخ البخاري الكبير ج 7 ص 2، تاريخ البخاري الصغير ج 1/ص 15، الجرح والتعديل ج 6/ص 210، تجريد أسماء الصحابة ج 1/ص 295، الإصابة ج 3/ص 631، الاستيعاب ج 2/ص 810، الوافي بالوفيات ج 16/ص 629، سير الأعلام ج 2/ص 78، البداية والنهاية ج 7/ص 161، الثقات ج 3/ص 288، صفة الصفوة ج 1/ص 203، ذيل المذيّل 10، تاريخ الخميس ج 1/ص 165، المرزباني 262، المحبَّر 63، أسماء الصحابة الرواة ترجمة 85. (2) هو أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل، من كنانة عوف، أبو محمد، صحابي جليل، نشأ على الإسلام وكان أبوه من أوَّل الناس إسلاماً، استعمله رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على جيش فيه أبو بكر وعمر. للاستزادة راجع: وفيات الأعيان ج 1/ص 300، تهذيب التهذيب ج 1/ص 250، صفة الصفوة ج 1/ص 110، طبقات ابن سعد ج 4/ص 310، تهذيب ابن عساكر ج 2/ص 225، الإصابة ج 1/ص 310، تهذيب الكمال ج 1/ص 118، تقريب التهذيب ج 1/11، الكاشف ج 1/ص 285، تاريخ ابن معين ج 3/ص 110، تاريخ الصحابة الرواة 110، سير أعلام النبلاء ج 2/ص 310، أسد الغابة ج 1/ص 250، الثقات ج 3/ص 333، الاستيعاب ج 1 ص 405. (3) ورد في الجامع الكبير المخطوط ج 2، (36200) .

- صفته (1) : كان عثمان جميلاً وكان ربعة - لا بالقصير ولا بالطويل -، حسن الوجه، رقيق البشرة كبير اللحية، أسمر اللون، كثير الشعر، ضخم الكراديس (2) ، بعيد ما بين المنكبين، له جُمَّة (3) أسفل من أذنيه، جذل الساقين، طويل الذراعين، شعره قد كسا ذراعيه. أقنى (بيِّن القنا) ، بوجهه نكتات جدري، وكان يصفر لحيته ويشد أسنانه بالذهب (4) . وكان - رضي اللَّه عنه - أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بما كان فيها من خير وشر، وكان رجال قريش يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمور لعلمه، وتجاربه، وحسن مجالسته، وكان شديد الحياء، ومن كبار التجار. أخبر سعيد بن العاص أن عائشة - رضي اللَّه عنها - وعثمان حدثاه: أن أبا بكر استأذن النبي صلى اللَّه عليه وسلم وهو مضطجع على فراشه لابس مرط عائشة فأذن له وهو كذلك، فقضى إليه حاجته، ثم انصرف. ثم استأذن عمر فأذن له، وهو على تلك الحال، فقضى إليه حاجته، ثم انصرف. ثم استأذن عليه عثمان فجلس وقال لعائشة: "اجمعي عليك ثيابك" فقضى إليه حاجته، ثم انصرف. قالت عائشة: يا رسول اللَّه لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر كما فزعت لعثمان! قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: "إن عثمان رجل حيي وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحال لا يُبلغ إليّ حاجته" (5) . -[21]- وقال الليث: قال جماعة من الناس: "ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة" (6) . لا يوقظ نائماً من أهله إلا أن يجده يقظان فيدعوه فيناوله وضوءه، وكان يصوم الدهر (7) ، ويلي وضوء الليل بنفسه. فقيل له: لو أمرت بعض الخدم فكفوك، فقال: لا، الليل لهم يستريحون فيه. وكان ليَّن العريكة، كثير الإحسان والحلم. قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: "أصدق أمتي حياءً عثمان" (8) . وهو أحد الستة الذين توفي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، وقال عن نفسه قبل قتله: "واللَّه ما زنيت في جاهلية وإسلام قط".

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 691، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 74، السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 120. (2) الكراديس: جمع كردوسة، كل عظمين التقيا في مفصل، وقيل رؤوس العظام. (3) جُمَّة: مجتمع شعر الرأس، إذا تدلَّى من الرأس إلى شحمة الأذن، القاموس المحيط، مادة: جمَّ] . (4) ابن كثير، البداية والنهاية ج 7/ص 192. (5) رواه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب: 27، وأحمد في (م 6/ص 155) . (6) رواه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب: 26، وأحمد في (م 6/ص 155) . (7) الإصابة ج 4/ص 223. (8) رواه ابن ماجه في المقدمة، باب: 11، وأحمد في (م 3/ص 184) .

- لباسه: رئي وهو على بغلة عليه ثوبان أصفران له غديرتان، ورئي وهو يبني الزوراء (1) على بغلة شهباء مصفِّراً لحيته، وخطب وعليه خميصة (2) سوداء وهو مخضوب بحناء، ولبس ملاءة صفراء وثوبين ممصرين، وبرداً يمانياً ثمنه مائة درهم، وتختم في اليسار، وكان ينام في المسجد متوسداً رداءه.

_ (1) الزوراء: دار عثمان بالمدينة. (2) الخميصة: كساء أسود له علمان، فإن لم يكن معلماً فليس بخميصة.

- إسلامه (1) : أسلم عثمان رضي اللَّه عنه في أول الإسلام قبل دخول رسول اللَّه دار الأرقم، وكانت سنِّه قد تجاوزت الثلاثين، دعاه أبو بكر إلى الإسلام فأسلم، ولما عرض أبو بكر عليه الإسلام قال له: ويحك يا عثمان واللَّه إنك لرجل حازم ما يخفى عليك الحق من الباطل، هذه الأوثان التي يعبدها قومك، أليست حجارة صماء لا تسمع، ولا تبصر، ولا تضر، ولا تنفع؟ فقال: بلى، واللَّه إنها كذلك، قال أبو بكر: هذا محمد بن عبد اللَّه قد بعثه اللَّه برسالته إلى جميع خلقه، فهل لك أن تأتيه وتسمع منه؟ فقال: نعم. وفي الحال مرَّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: "يا عثمان أجب اللَّه إلى جنته فإني رسول اللَّه إليك وإلى -[22]- جميع خلقه". قال: فواللَّه ما ملكت حين سمعت قوله أن أسلمت، وشهدت أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأن محمد رسول عبده ورسوله، ثم لم ألبث أن تزوجت رقية. وكان يقال: أحسن زوجين رآهما إنسان، رقية وعثمان. كان زواج عثمان لرقية بعد النبوة لا قبلها، كما ذكر السيوطي (2) ذلك خطأ. وفي طبقات ابن سعد: قال عثمان: يا رسول اللَّه قدمت حديثاً من الشام، فلما كنا بين معان والزرقاء فنحن كالنيام إذا منادٍ ينادينا: أيها النيام هبّوا فإن أحمد قد خرج بمكة فقدمنا فسمعنا بك. وفي إسلام عثمان تقول خالته سعدى: هدى اللَّه عثمان الصفيَّ بقوله ... فأرشده واللَّه يهدي إلى الحق فبايع بالرأي السديد محمداً ... وكان ابن أروى لا يصد عن الحق وأنكحه المبعوث إحدى بناته ... فكان كبدر مازج الشمس في الأفق فداؤك يا ابن الهاشميين مهجتي ... فأنت أمين اللَّه أرسلت في الخلق لما أسلم عثمان أخذه عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية فأوثقه رباطاً وقال: أترغب عن ملة آبائك إلى دين محدث! واللَّه لا أخليك أبداً حتى تدع ما أنت عليه من هذا الدين. فقال: واللَّه لا أدعه أبداً. فلما رأى الحكم صلابته في دينه تركه (3) . وفي غداة اليوم الذي أسلم فيه عثمان جاء أبو بكر بعثمان بن مظعون (4) وأبي عبيدة بن -[23]- الجراح (5) ، وعبد الرحمن بن عوف (6) ، وأبي مسلمة بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم، فأسلموا وكانوا مع من اجتمع مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ثمانية وثلاثين رجلاً. وأسلمت أخت عثمان آمنة بنت عفان، وأسلم أخوته لأمه الوليد وخالد وعمارة، أسلموا يوم الفتح، وأم كلثوم، وبنو عقبة بن أبي معيط ابن عمرو بن أمية أمهم كلهم أروى، ذكر ذلك الدارقطني في كتاب الأخوة، وذكر أن أم كلثوم من المهاجرات الأُوَل، يقال: إنها أول قرشية بايعت النبي صلى اللَّه عليه وسلم، وأنكحها زيد بن حارثة، ثم خلقه عليها عبد الرحمن بن عوف ثم تزوجها الزبير بن العوام (7) .

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 692، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 74. (2) السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 118. (3) السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 119، ابن سعد، الطبقات الكبرى ج 3/ص 55. (4) هو عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة الجمحي، أبو السائب، صحابي، كان من حكماء العرب في الجاهلية، يحرم الخمر، أسلم بعد 13 رجلاً، وهاجر إلى أرض الحبشة مرتين، أراد التبتل والسياحة في الأرض زهداً بالحياة، فمنعه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فاتخذ بيتاً يتعبد فيه، فأتاه النبي صلى اللَّه عليه وسلم فأخذ بعضادتي البيت، وقال: "يا عثمان، إن اللَّه لم يبعثني بالرهبانية - مرتين أو ثلاثاً - وإن خير الدين عند اللَّه الحنفية السمحة"، شهد بدراً، ولما مات جاءه النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقتله ميتاً حتى رُؤيت دموعه تسيل على خد عثمان، وهو أوَّل من مات بالمدينة من المهاجرين وأوَّل من دفن بالبقيع منهم سنة 2 هـ. للاستزادة راجع: طبقات ابن سعد ج 3/ص 286، الإصابة ترجمة 5455، صفة الصفوة ج 1/ص 178، حلية الأولياء ج 1/ص 102، تاريخ الخميس ج 1/ص 411، والمرزباني 254. (5) هو عامر بن عبد اللَّه بن الجرَّاح بن هلال بن أهيب، ويقال: وُهَيْب بن ضبّة بن الحارث بن فهر، أبو عبيد بن الجرَّاح، القرشي، الفهري، الأمير القائد، فاتح الديار الشامية، صحابي، أحد العشرة المبشرين بالجنة، قال ابن عساكر: داهيتا قريش أبو بكر وأبو عبيدة. كان لقبه: أمين الأمة، ولد بمكة، كان من السابقين إلى الإسلام شهد المشاهد كلها، ولاه عمر قيادة الجيش الزاحف إلى الشام بعد خالد بن الوليد، توفي بطاعون عمواس سنة 18 هـ ودفن في غور بيسان، وفي الحديث: "الكل نبي أمين وأميني أبو عبيدة بن الجراح"، رواه ابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق (7: 163) . (6) هو عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب بن مُرّة بن كعب بن لؤي بن غالب، صحابي وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وهو أحد الستة أصحاب الشورى الذين جعل عمر الخلافة فيهم، وهو أحد السابقين إلى الإسلام، قيل: هو الثامن. المتوفى سنة 32 هـ. للاستزادة راجع: تهذيب الكمال ج 2/ص 809، تهذيب التهذيب ج 6/ص 244، تقريب التهذيب ج 1/ص 494، خلاصة تهذيب الكمال ج 2/ص 147، الكاشف ج 2/ص 179، تاريخ البخاري الكبير ج 5/ص 239، تاريخ البخاري الصغير ج 1/ص 50، الجرح والتعديل ج 5/ص 247، أسد الغابة ج 3/ص 480، الإصابة ج 4/ص 349، تجريد أسماء الصحابة ج 1/ص 353، الاستيعاب ج 2/ص 844، سير أعلام النبلاء ج 1/ص 68، البداية والنهاية ج 7/ص 163، أسماء الصحابة الرواة ترجمة 51، الأعلام ج 3/ص 321، صفة الصفوة ج 1/ص 135، حلية الأولياء ج 1/ص 98، تاريخ الخميس ج 2/ص 257، البدء والتاريخ ج 5/ص 86، الرياض النضرة ج 2/ص 281، الجمع بين رجال الصحيحين، الطبقات الكبرى ج 2/ص 110. (7) هو الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، الأسدي، القرشي، أبو عبد اللَّه، الصحابي الشجاع، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأول من سَلَّ سيفه في الإسلام، وهو ابن عمة النبي صلى اللَّه عليه وسلم، أسلم وعمره 12 سنة، شهد بدراً، وأحد، وغيرهما، كان على بعض الكراديس في اليرموك، شهد الجابية مع عمر بن الخطاب، قالوا: كان في صدر ابن الزبير أمثال العيون في الطعن والرمي، وجعله عمر في من يصلح للخلافة بعده، وكان موسراً، كثير المتاجر، خلف أملاكاً بيعت بنحو أربعين مليون درهم، كان طويلاً جداً إذا تخط رجلاه الأرض، قتله ابن جرموز غيلة يوم الجمل، بوادي السباع، كان خفيف اللحية أسمر اللون، كثير الشعر، للاستزادة راجع: تهذيب التهذيب ج 3/ص 318، تقريب التهذيب ج 1/ص 259، خلاصة تهذيب الكمال ج 1/ص 334، الكاشف ج 1/ص 320، تاريخ البخاري الكبير ج 3/ص 320، تاريخ البخاري الكبير ج 3/ص 409، تاريخ البخاري الصغير ج 1/ص 36، أسد الغابة ج 2/ص 249، صفة الصفوة ج 1/ص 132، حلية الأولياء ج 1/ص 89.

- هجرته (1) : -[24]-. هاجر عثمان إلى أرض الحبشة فاراً بدينه مع زوجته رقية بنت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فكان أول مهاجر إليها، ثم تابعه سائر المهاجرين إلى أرض الحبشة، ثم هاجر الهجرة الثانية إلى المدينة. عن أنس قال: أول من هاجر إلى الحبشة عثمان، وخرجت معه ابنة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم (2) ، فأبطأ على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خبرهما، فجعل يتوكف الخبر فقدمت امرأة من قريش من أرض الحبشة فسألها، فقالت: رأيتها، فقال: "على أيّ حال رأيتها؟ " قالت: رأيتها وقد حملها على حمار من هذه الدواب وهو يسوقها، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: "صحبهما اللَّه، إن كان عثمان لأول من هاجر إلى اللَّه عز وجل بعد لوط" (3) .

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 692، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 74، السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 120. (2) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 1/ص 547، السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 120. (3) رواه ابن أبي عاصم في السنة (2: 596) .

- تبشيره بالجنة (1) : كان عثمان رضي اللَّه عنه أحد العشرة الذين شهد لهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بالجنة. عن أبي موسى الأشعري (2) ، قال: كنت مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في حديقة بني فلان والباب علينا -[25]- مغلق إذ استفتح رجل فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: "يا عبد اللَّه بن قيس، قم فافتح له الباب وبشَّره بالجنة" فقمت، ففتحت الباب فإذا أنا بأبي بكر الصدِّيق فأخبرته بما قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فحمد اللَّه ودخل وقعد، ثم أغلقت الباب فجعل النبي صلى اللَّه عليه وسلم ينكت بعود في الأرض فاستفتح آخر فقال: يا عبد اللَّه بن قيس قم فافتح له الباب وبشَّره بالجنة، فقمت، ففتحت، فإذا أنا بعمر بن الخطاب فأخبرته بما قال النبي صلى اللَّه عليه وسلم، فحمد اللَّه ودخل، فسلم وقعد، وأغلقت الباب فجعل النبي صلى اللَّه عليه وسلم ينكت بذلك العود في الأرض إذ استفتح الثالث الباب فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: "يا عبد اللَّه بن قيس، قم فافتح الباب له وبشره بالجنة على بلوى تكون" (3) ، فقمت، ففتحت الباب، فإذا أنا بعثمان بن عفان، فأخبرته بما قال النبي صلى اللَّه عليه وسلم، فقال: "اللَّه المستعان وعليه التكلان"، ثم دخل، فسلم وقعد. وقال صلى اللَّه عليه وسلم: "أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد في الجنة، والآخر لو شئت سميته" (4) ، ثم سمَّى نفسه. وعن سعيد بن زيد أن رجلاً قال له: أحببت علياً حباً لم أحبه شيئاً قط. قال: "أحسنت، -[26]- أحببت رجلاً من أهل الجنة". قال: وأبغضت عثمان بغضاً لم أبغضه شيئاً قط، قال: "أسأت، أبغضت رجلاً من أهل الحنة"، ثم أنشأ يحدث قال: بينما رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على حراء ومعه أبو بكر وعمر، وعثمان وعلي، وطلحة والزبير قال: "اثْبُتْ حِرَاءُ ما عليك إلا نبيُّ أو صدِّيق أو شهيد" (5) . وعن أنس قال: صعد النبي صلى اللَّه عليه وسلم أحداً ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف الجبل فقال: "اثبت أحد فإنما عليك نبيٌّ وصدِّيق وشهيدان" (6) . وعن حسان بن عطية قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: "غفر اللَّه لك يا عثمان ما قدَّمتَ، وما أخَّرتَ، وما أسررتَ، وما أعلنتَ، وما هو كائن إلى يوم القيامة" (7) .

_ (1) تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، حسن إبراهيم حسن، ج 1/ص 253. (2) هو عبد اللَّه بن قيس بن سليم بن حضّار بن حرب بن عامر بن عنز بن بكر بن عامر بن عذر بن وائل بن ناجية بن الجماهز بن الأشعر، أبو موسى الأشعري، من بني الأشعر من قحطان، صحابي من الشجعان الولاة الفاتحين، أحد الحكمين اللذين رضي بهما علي ومعاوية بعد حرب صفِّين، ولد في زبيد باليمن سنة 21 ق. هـ، قدم مكة عند ظهور الإسلام، فأسلم، وهاجر إلى أرض الحبشة، ثم استعمله رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على زبيد وعدن، ولاه عمر بن الخطاب البصرة سنة 17 هـ، افتتح أصبهان والأهواز، ولما ولي عثمان أقرَّه عليها، ثم عزله، فانتقل إلى الكوفة، فطلب أهلها من عثمان توليته عليهم، فولاه فأقام بها إلى أن قتل عثمان، فأقرَّه عليّ، ثم كانت وقعة الجمل وأرسل علي يدعو أهل الكوفة لينصروه، فأمرهم أبو موسى بالقعود في الفتنة، فعزله علي فأقام إلى أن كان التحكيم وخدعه عمرو بن العاص، فارتد أبو موسى إلى الكوفة، فتوفي فيها سنة 44 هـ، كان أحسن الصحابة صوتاً في التلاوة، خفيف الجسم، قصيراً، وفي الحديث: "سيد الفوارس أبو موسى". للاستزادة راجع: تهذيب الكمال ج 2/ص 724، تهذيب التهذيب ج 5/ص 362، تقريب التهذيب ج 1/ص 441، خلاصة تهذيب التهذيب ج 2/ص 89، الكاشف ج 2/ص 119، تاريخ البخاري الكبير ج 5/ص 22، الجرح والتعديل ج 5/ص 138، الثقات ج 3/ص 221، التجريد ج 1/ص 330، الإصابة ج 4/ص 211، الاستيعاب ج 3/ص 679، الوافي بالوفيات ج 17/ص 407، سير الأعلام ج 2/ص 380، صفة الصفوة ج 1/ص 335، طبقات ابن سعد ج 4/ص 79، غاية النهاية ج 1/ص 442، حلية الأولياء ج 1/ص 256. (3) رواه ابن أبي عاصم في السنة (2: 546) ، والبغوي في شرح السنة (14: 108) . (4) رواه أبو داود في كتاب السنة، باب: في الخلفاء، وابن ماجه في المقدمة، باب: فضائل أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وأحمد في (م 1/ص 187) . (5) رواه أبو داود في كتاب السنة، باب: في الخلفاء، والترمذي في كتاب المناقب، باب: 27، وابن ماجه في المقدمة باب: في فضائل أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. (6) رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب: قول النبي صلى اللَّه عليه وسلم: "لو كنت متخذاً خليلاً"، وأبو داود في كتاب السنة، باب: في الخلفاء، وأحمد في (م 5/ص 331) . (7) رواه المتقي الهندي في كتاب كنز العمال (32847) ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء (6: 2253) .

- تخلّفه عن بيعة الرضوان (1) : في الحديبية دعا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له فقال: يا رسول اللَّه إني أخاف قريشاً على نفسي، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها، ولكني أدلّك على رجل أعز بها مني، عثمان بن عفان، فدعا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عثمان بن عفان، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحربهم وأنه إنما جاء زائراً لهذا البيت ومعظَّماً لحرمته. فخرج عثمان إلى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص (2) حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها، -[27]- فحمله بين يديه، ثم أجاره حتى بلَّغ رسالة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان (3) وعظماء قريش فبلغهم عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ما أرسله به، فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إليهم: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف، فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، واحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول اللَّه والمسلمين أن عثمان بن عفان قد قتل، وقيل: إنه دخل مكة ومعه عشرة من الصحابة بإذن رسول اللَّه ليزوروا أهاليهم ولم يذكروا أسمائهم، وقيل: إن قريشاً احتبست عثمان عندها ثلاثة أيام، وأشاع الناس أنهم قتلوه هو والعشرة الذين معه. وعلى كل حال أبطأ عثمان رضي اللَّه عنه عن الرجوع فقلق عليه المسلمون، فلما بلغ ذلك الخبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: "لا نبرح حتى نناجز القوم" (4) . ولما لم يكن قتل عثمان رضي اللَّه عنه محققاً، بل كان بالإشاعة بايع النبي صلى اللَّه عليه وسلم عنه على تقدير حياته. وفي ذلك إشارة منه إلى أن عثمان لم يُقتل، وإنما بايع القوم أخذاً بثأر عثمان جرياً على ظاهر الإشاعة تثبيتاً وتقوية لأولئك القوم، فوضع يده اليمنى على يده اليسرى وقال: "اللَّهم هذه عن عثمان في حاجتك وحاجة رسولك". قال تعالى يذكر هذه البيعة: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّه عَنِ المُؤْمِنين إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] ، وبعد أن جاء عثمان رضي اللَّه عنه بايع بنفسه.

_ (1) تاريخ الإسلام للذهبي ج 1/ص 253. (2) هو أبان بن سعيد بن العاص الأموي، أبو الوليد، صحابي مشهور من ذوي الشرف، كان في عصر النبوة من شديدي الخصومة للإسلام والمسلمين، ثم أسلم سنة 7 هـ، بعثه رسول اللَّه سنة 9 هـ عاملاً على البحرين على البحرين، فخرج بلواء معقود أبيض وراية سوداء، أقام في البحرين إلى أن توفي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فسافر أبان إلى المدينة ولقيه أبو بكر فلامه على قدومه، فقال: آليت ألا أكون عاملاً لأحد بعد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، أقام إلى أن كانت وقعة أجنادين في خلافة أبي بكر، فحضرها واستشهد بها سنة 13 هـ على الأرجح، وقيل: توفي في خلافة عثمان. للاستزادة راجع: الإصابة ج 1/ص 10، تاريخ الإسلام للذهبي ج 1/ص 378، حسن الصحابة ص 220، تهذيب ابن عساكر ج 2/ص 124. (3) هو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، ولد سنة 57 ق. هـ، صحابي، من سادات قريش في الجاهلية، وهو والد معاوية رأس الدولة الأموية، كان من رؤساء المشركين في حرب الإسلام عند ظهوره، قاد قريشاً وكنانة يوم أحد، ويوم الخندق لقتال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وأسلم يوم الفتح سنة 8 هـ، وأبلى بعد إسلامه البلاء الحسن، وشهد حنيناً والطائف، ففقئت عينه يوم الطائف، ثم فقئت الأخرى يوم اليرموك، فعمي، وكان من الشجعان الأبطال، ولمَّا توفي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان أبو سفيان عامله على نجران، ثم أتى الشام، وتوفي بالمدينة، وقيل: بالشام سنة 31 هـ. للاستزادة راجع: الأغاني ج 6/ص 89، فتوح البلدان للبلاذري ص 224، نكت الهميان ص 172، المحبّر ص 246، البدء والتاريخ ج 5/ص 107، تهذيب الكمال ج 2/ص 602، تهذيب التهذيب ج 4/ص 411، تقريب التهذيب ج 1/ص 365، تاريخ البخاري الكبير ج 4/ص 301، تاريخ البخاري الصغير ج 1/ص 44، الجرح والتعديل ج 4/ص 1869، الوافي بالوفيات ج 16/ص 284، أسد الغابة ج 3/ص 412. (4) رواه ابن كثير في البداية والنهاية (4: 167) .

- تخلفه عن غزوة بدر (1) : -[28]-. تزوَّج عثمان رضي اللَّه عنه رقية بنت رسول اللَّه بعد النبوة، وتوفيت عنده في أيام غزوة بدر في شهر رمضان من السنة الثانية من الهجرة، وكان تأخره عن بدر لتمريضها بإذن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فجاء البشير بنصر المؤمنين يوم دفنوها بالمدينة، وضرب رسول اللَّه لعثمان بسهمه وأجره في بدر فكان كمن شهدها، أي أنه معدود من البدريين.

_ (1) السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 118.

- اختصاصه بكتابة الوحي: عن فاطمة بنت عبد الرحمن عن أمها أنها سألت عائشة وأرسلها عمها فقال: إن أحد بنيك يقرئك السلام ويسألك عن عثمان بن عفان فإن الناس قد شتموه فقالت: لعن اللَّه من لعنه، فواللَّه لقد كان عند نبي اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وأن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لمسند ظهره إليَّ، وأن جبريل ليوحي إليه القرآن، وأنه ليقول له: اكتب يا عثيم فما كان اللَّه لينزل تلك المنزلة إلا كريماً على اللَّه ورسوله. أخرجه أحمد وأخرجه الحاكم وقال: "قالت: لعن اللَّه من لعنه، لا أحسبها قالت: إلا ثلاث مرات، لقد رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو مسند فخذه إلى عثمان، وإني لأمسح العرق عن جبين رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وأن الوحي لينزل عليه وأنه ليقول: اكتب يا عثيم، فواللَّه ما كان اللَّه لينزل عبداً من نبيه تلك المنزلة إلا كان عليه كريماً". وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إذا جلس جلس أبو بكر عن يمينه، وعمر عن يساره، وعثمان بين يديه، وكان كَاتبَ سر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.

- كراماته (1) : عن نافع: أن جهجاهاً الغفاري تناول عصا عثمان وكسرها على ركبته فأخذته الأكلة (2) في رجله، وعن أبي قلابة، قال: كنت في رفقة بالشام سمعت صوت رجل يقول: يا ويلاه النار، وإذا رجل مقطوع اليدين والرجلين من الحقوين، أعمى العينين، منكباً لوجهه، فسألته عن حاله فقال: إني قد كنت ممن دخل على عثمان الدار، فلما دنوت منه صرخت زوجته فلطمتها فقال: "ما لك قطع اللَّه يديك ورجليك وأعمى عينيك وأدخلك النار! "، فأخذتني رعدة عظيمة وخرجت هارباً فأصابني ما ترى ولم يبقى من دعائه إلا النار، قال: فقلت له بعداً لك وسحقاً، أخرجهما -[29]- الملأ في سيرته، وعن مالك أنه قال: كان عثمان مرَّ بحش كوكب (3) فقال: إنه سيدفن هنا رجل صالح فكان أول من دفن فيه.

_ (1) السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 131. (2) الأَكَلَة: الحكَّة. (3) حش كوكب: موقع إلى جانب بقيع الغرقد بالمدينة.

- تجهيزه جيش العسرة (1) : يقال لغزوة تبوك غزوة العُسرة، مأخوذة من قوله تعالى: {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة: 117] . ندب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الناس إلى الخروج وأعلمهم المكان الذي يريد ليتأهبوا لذلك، وبعث إلى مكة وإلى قبائل العرب يستنفرهم وأمر الناس بالصدقة، وحثهم على النفقة والحملان، فجاءوا بصدقات كثيرة، فكان أول من جاء أبو بكر الصدِّيق رضي اللَّه عنه، فجاء بماله كله 40. 4000 درهم فقال له صلى اللَّه عليه وسلم: "هل أبقيت لأهلك شيئاً؟ " قال: أبقيت لهم اللَّه ورسوله. وجاء عمر رضي اللَّه عنه بنصف ماله فسأله: "هل أبقيت لهم شيئاً؟ " (2) قال: نعم، نصف مالي. وجاء عبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه عنه بمائتي أوقية، وتصدق عاصم بن عَدِيّ (3) بسبعين وسقاً من تمر، وجهَّز عثمان رضي اللَّه عنه ثلث الجيش جهزهم بتسعمائة وخمسين بعيراً وبخمسين فرساً. قال ابن إسحاق: أنفق عثمان رضي اللَّه عنه في ذلك الجيش نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها. وقيل: جاء عثمان رضي اللَّه عنه بألف دينار في كمه حين جهز جيش العُسرة فنثرها في حجر رسول اللَّه فقبلها في حجر وهو يقول: "ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم". وقال رسول اللَّه: "من جهز جيش العُسرة فله الجنة" (4) .

_ (1) السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 121. (2) رواه ابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق (1: 11) . (3) هو عاصم بن عَدِيّ بن الجد البلوي، العجلاني، حليف الأنصار، صحابي، كان سيد بني عجلان، استخلفه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على العالية من المدينة، عاش عمراً طويلاً، قيل: 120 سنة، توفي سنة 45 هـ. للاستزادة راجع: الإصابة ترجمة 4346. (4) رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب: مناقب عثمان بن عفان أبي عمر القرشي رضي اللَّه عنه.

- حفره بئر رومة (1) : واشترى بئر رومة من اليهود بعشرين ألف درهم، وسبلها للمسلمين. كان رسول اللَّه قد قال: "من حفر بئر رومة فله الجنة" (2) -[30]-. وهذه البئر في عقيق المدينة: روي عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "نعم القليب قليب المُزَني"، وهي التي اشتراها عثمان بن عفان فتصدق بها. وروي عن موسى بن طلحة عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "نعم الحفير حفير المزني" - يعني رومة -، فلما سمع عثمان ذلك ابتاع نصفها بمائة بكرة وتصدق بها على المسلمين فجعل الناس يستقون منها. فلما رأى صاحبها أنه امتنع منه ما كان يصيب منها باعها من عثمان بشيء يسير فتصدق بها كلها.

_ (1) السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 121. (2) تذكرة الحفاظ ج 1/ص 9.

- علمه وقراءته القرآن (1) : كان عثمان أعلم الصحابة بالمناسك، وبعده ابن عمر. وكان يحيي الليل، فيختم القرآن في ركعة، قالت امرأة عثمان حين قتل: لقد قتلتموه وإنه ليحيي الليل كله بالقرآن في ركعة، وعن عطاء ابن أبي رباح: "إن عثمان بن عفان صلى بالناس، ثم قام خلف المقام، فجمع كتاب اللَّه في ركعة كانت وتره فسميت بالبتيراء"، وكان يضرب المثل به في التلاوة، أما عمر بن الخطاب فكان يضرب المثل به في قوة الهيبة، وعلي بن أبي طالب في القضاء.

_ (1) رواه ابن حجر العسقلاني في تغليق التعليق (937) .

- زيادته في المسجد النبوي (1) (سنة 29 هـ/ 650 م) : كان المسجد النبوي على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مبنيَّاً باللبن وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئاً وزاد فيه عمراً وبناه على بنائه في عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم باللبن والجريد وأعاد عمده خشباً، ثم غيَّره عثمان، فزاد فيه زيادة كبيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والفضة، وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج، وجعل أبوابه على ما كانت أيام عمر ستة أبواب. وروى يحيى عن المطلب بن عبد اللَّه بن حنطب قال: لما ولي عثمان بن عفان سنة أربع وعشرين، كلَّمه الناس أن يزيد في مسجدهم، وشكوا إليه ضيقه يوم الجمعة، حتى إنهم ليصلون في الرحاب. فشاور فيه عثمان أهل الرأي من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فأجمعوا على أن يهدمه -[31]- ويزيد فيه، فصلَّى الظهر بالناس، ثم صعد المنبر فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس إني أردت أن أهدم مسجد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وأزيد فيه وأشهد أني سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: "من بنى مسجداً بنى اللَّه له بيتاً في الجنة" (2) ، وقد كان لي فيه سلف، وإمام سبقني وتقدمني عمر بن الخطاب، كان قد زاد فيه وبناه، وقد شاورت أهل الرأي من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فأجمعوا على هدمه وبنائه وتوسيعه"، فحسن الناس يومئذ ذلك ودعوا له، فأصبح، فدعا العمال وباشر ذلك بنفسه، وكان رجلاً يصوم الدهر ويصلي الليل، وكان لا يخرج من المسجد، وأمر بالفضة المنخولة تعمل ببطن نخل، وكان أول عمله في شهر ربيع الأول من سنة 29 هـ، وفرغ منه حين دخلت السنة لهلال المحرم سنة 30 فكان عمله عشرة أشهر. قال الحافظ ابن حجر: كان بناء عثمان للمسجد سنة ثلاثين على المشهور. وقيل: في آخر سنة من خلافته. وروى يحيى عن أفلح بن حميد عن أبيه قال: لما أراد عثمان أن يكلم الناس على المنبر ويشاورهم قال له مروان بن الحكم (3) : فداك أبي وأمي، هذا أمر خير لو فعلته ولم تذكر لهم، -[32]- فقال: وبحك، إني أكره أن يروا أني أستبد عليهم بالأمور، قال مروان: فهل رأيت عمر حين بناه وزاد فيه ذكر لهم؟ قال: اسكت إن عمر اشتد عليهم فخافوه حتى لو أدخلهم في جحر ضب دخلوا، وإني لنت لهم، حتى أصبحت أخشاهم. قال مروان بن الحكم: فداك أبي وأمي لا يسمع هذا منك فيُجترأ عليك. وقد جعل عثمان طول المسجد مائة وستين ذراعاً وعرضه مائة وخمسين.

_ (1) أوردها ابن كثير في عام 26 هـ، والطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 606: "في عام 29 هـ، وسَّع عثمان الحرم وبناه بالفضة - الكلس -"، وكما ذكر ابن كثير ذلك في البداية والنهاية في الجزء السابع، السيوطي تاريخ الخلفاء ص 124. (2) رواه مسلم في كتاب المساجد، باب: 24، والترمذي في كتاب الصلاة، باب: 120، والبخاري في كتاب الصلاة، باب: من بنى مسجداً، وابن ماجه في كتاب الإقامة، باب: من بنى مسجداً، والدارمي في كتاب الصلاة، باب: من بنى مسجداً، وأحمد في (م 1/ص 20) . (3) هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، أبو عبد الملك، المولود سنة 2 هـ، خليفة أموي هو أوَّل من ملك من بني الحكم بن أبي العاص، وإليه ينسب بنو مروان، ودولتهم المروانية، ولد بمكة ونشأ بالطائف، سكن المدينة، فلما كانت أيام عثمان جعله خاصته واتخذه كاتباً له، ولما قتل عثمان خرج مروان إلى البصرة مع طلحة والزبير وعائشة، يطالبون بدمه، وقاتل مروان في وقعة الجمل قتالاً شديداً، وانهزم أصحابه فتوارى، شهد صفين مع معاوية، ثم أمنَّه علي فأتاه فبايعه، وانصرف إلى المدينة فأقام إلى أن ولي معاوية الخلافة، فولاه المدينة سنة (42 هـ - 49 هـ) ، أخرجه منها عبد اللَّه بن الزبير، فسكن الشام، ولما ولي يزيد بن معاوية الخلافة وثب أهل المدينة على من فيها من بني أمية فأجلُّوهم إلى الشام، وكان فيهم مروان، ثم عاد إلى المدينة، وحدثت فتن كان من أنصارها، وانتقل إلى الشام مدة، ثم سكن تدمر، وبعد اعتزال معاوية بن يزيد الخلافة، دعا مروان إلى نفسه، فبايعه أهل الأردن سنة 64 هـ ودخل الشام فأحسن تدبيرها وولى ابنة عبد الملك على مصر بعد أن خرج لها بعد أن تفشَّت فيها البيعة لابن الزبير، ثم عاد إلى دمشق ولم يطل أمره، توفي سنة 65 هـ بالطاعون. وقيل: غطَّته زوجته أم خالد بالوسادة وهو نائم، فقتلته. فدام حكمه تسعة أشهر و 18 يوماً، هو أوَّل من ضرب الدنانير الشامية وكتب عليها {قل هو اللَّه أحد} ، وكان يلقب: خَيْط باطل، لطول قامته واضطراب خَلْقِه. للاستزادة راجع: أسد الغابة ج 4/ص 348، التهذيب ج 10/ص 91، البدء والتاريخ ج 6/ص 19، تاريخ الخميس ج 2/ص 306.

- زيادته في المسجد الحرام (1) (سنة 26 هـ/ 647 م) : كان المسجد الحرام فناء حول الكعبة، وفناء للطائفين، ولم يكن له على عهد النبي صلى اللَّه عليه وسلم، وأبي بكر رضي اللَّه عنه جدار يحيط به، وكانت الدور محدقة به، وبين الدور أبواب يدخل الناس من كل ناحية، فلما استخلف عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه، وكثر الناس وسع المسجد واشترى دوراً وهدمها وزادها فيه واتخذ للمسجد جداراً قصيراً دون القامة، وكانت المصابيح توضع عليه، وكان عمر رضي اللَّه عنه أول من اتخذ الجدار للمسجد الحرام. فلما استخلف عثمان رضي اللَّه عنه ابتاع منازل ووسعه بها أيضاً، وبنى المسجد الحرام، والأروقة، فكان عثمان رضي اللَّه عنه أول من اتخذ للمسجد الأروقة (2) . وكانت كسوة الكعبة في الجاهلية الأنطاع (3) والمغافر، فكساها رسول اللَّه الثياب اليمانية، ثم كساها عمر وعثمان القُباطي (4) .

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 595، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ص 481، السيوطي، تاريخ الخلفاء 123، الذهبي، تاريخ الإسلام ج 3/ص 315. (2) ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 43. (3) الأنطاع: بُسط من الأديم أي الجلد. (4) القُباطي: ثياب من كتان نُسجت في مصر. [القاموس المحيط، مادة: قبط] .

- تحويل الساحل من الشعيبة إلى جدة: في سنة 26 هـ كلَّم أهل مكة عثمان رضي اللَّه عنه أن يحول الساحل من الشُعَيْبة، وهي ساحل مكة قديماً في الجاهلية إلى ساحلها اليوم وهي جُدَّة لقربها من مكة. فخرج عثمان إلى جدة ورأى موضعها، وأمر بتحويل الساحل إليها ودخل البحر -[33]- واغتسل فيه وقال: إنه مبارك، وقال لمن معه: ادخلوا البحر للاغتسال، ولا يدخل أحد إلا بمئزر، ثم خرج من جدة على طريق عسفان إلى المدينة، وترك الناس ساحل الشعيبة في ذلك الزمان واستمرت جدة بندراً إلى الآن لمكة المشرفة.

- أكل عثمان الليَّن من الطعام: عن عمرو بن أمية الضُمري، قال: إن قريشاً كان من أسن منهم مولعاً بأكل الخزيرة (1) ، وإني كنت أتعشى مع عثمان خزيراً من طِبْخ من أجود ما رأيت قط، فيها بطون الغنم وأدمها اللبن والسمن، فقال عثمان: كيف ترى الطعام؟ فقلت: هذا أطيب ما أكلت قط، فقال: يرحم اللَّه ابن الخطاب، أكلتَ معه هذه الخزيرة قط؟ قلت: نعم، فكادت اللقمة تفرث (2) بين يدي حين أهوي بها إلى فمي وليس فيها لحم، وكان أدمها السمن، ولا لبن فيها، فقال عثمان: صدقت، إن عمر رضي اللَّه عنه أتعب واللَّه من تبع أثره، وأنه كان يطلب بثنيه عن هذه الأمور ظَلفَاً (3) . أما واللَّه ما أكله من مال المسلمين ولكني أكله من مالي، أنت تعلم أني كنت أكثر قريش مالاً وأجدَّهم في التجارة، ولم أزل آكل من الطعام ما لان منه وقد بلغت سنَّاً، فأحب الطعام إليًّ ألينه ولا أعلم لأحد عليَّ في ذلك تبعة. وعن عبد اللَّه بن عامر قال: كنت أفطر مع عثمان في شهر رمضان، فكان يأتينا بطعام هو ألين من طعام عمر، قد رأيت على مائدة عثمان الدَّرَمك (4) وصغار الضأن كل ليلة وما رأيت عمر قط أكل من الدقيق منخولاً، ولا أكل من الغنم إلا مسانَّها. فقلت لعثمان في ذلك، فقال: يرحم اللَّه عمر ومن يطيق ما كان عمر يطيق!.

_ (1) الخزيرة: اللحم البائت يقطَّع صغاراً في القدر، ثم يطبخ بالماء الكثير، والملح فإذا أميت طبخاً ذُرَّ عليه الدقيق فعصد به. [القاموس المحيط، مادة: خزر] . (2) تفرث: أي تتفتت. [القاموس المحيط، مادة: فرث] . (3) الظلف: الشدة والغلظ في المعيشة. [القاموس المحيط، مادة: ظلف] . (4) الدَّرَمَك: هو دقيق الحواري، وهو تحريف الدرمق.

- كرمه رضي اللَّه عنه: كان لعثمان على طلحة خمسون ألفاً، فخرج عثمان يوماً إلى المسجد فقال له طلحة: قد تهيأ مالك فاقبضه. قال: هو لك يا أبا محمد معونة لك على مروءتك.

- بعض أحكامه: -[34]-. استخف رجل بالعباس بن عبد المطلب، فضربه عثمان، فاستحسن منه ذلك وقال: أيفخم رسول اللَّه عمه وأرخص في الاستخفاف به، لقد خالف رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من فعل ذلك ورضي به. وحدث بين الناس النشو (1) ، فأرسل عثمان يطوف عليهم فمنعهم من ذلك، ثم اشتد ذلك فأفشى الحدود ونبّأ ذلك عثمان، وشكاه إلى الناس، فاجتمعوا على أن يجلدوا في التنفيذ فأخذ نفر منهم وجلدوا. وبلغ عثمان أن ابن ذي الحبكة النهدي يعالج نيْرنجاً (2) قال محمد بن سلمة: إنما هو نيرنج، فأرسل إلى الوليد بن عقبة ليسأله عن ذلك فإن أقرَّ به أوجعه، فدعا به، فسأله، فقال: إنما هو رفق وأمر يعجب منه، فأمر، فعُزِّرَ، وأخبر الناس خبره وقرأ عليهم كتاب عثمان: "إنه قد جُدّ بكم فعليكم بالجدّ وإياكم والهزّال". فكان الناس عليه وتعجبوا من عثمان على وقوف مثل خبره فغضب، فنفر في الذين نفروا.

_ (1) النشو: السُكر. (2) النيرج: نوع من السحر.

- فراسته: دخل رجل على عثمان فقال له عثمان: يدخل عليّ أحدكم والزنا في عينيه، فقال الرجل: أَوَحْيٌ بعد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم؟! فقال: لا، ولكن فراسة صادقة.

- أوليات عثمان (1) : هو أول من رزق المؤذنين، وأول من ارتج عليه في الخطبة، وأول من قدَّم الخطبة في العيد على الصلاة، وأول من فوَّض إلى الناس إخراج زكاتهم، وأول من ولي الخلافة في حياة أمه، وأول من اتخذ صاحب شرطة، وأول من هاجر بأهله من هذه الأمة، وأول من جمع الناس على حرف واحد في القراءة، وأول من زاد النداء الثالث يوم الجمعة على الزوراء، وأول من نخل له الدقيق، وأول من أقطع القطائع، وأول من حمى الحمى لنعم الصدقة.

_ (1) السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 131.

- حَجَّه رضي اللَّه عنه (1) : -[35]-. حجَّ عثمان بالناس سنوات خلافته كلها إلا آخر حجة، وحجَّ بأزواج النبي صلى اللَّه عليه وسلم كما كان يصنع عمر.

_ (1) ابن الأثير الكامل في التاريخ ج 3/ص 70.

- قتله (1) : قتل عثمان يوم الجمعة 18 ذي الحجة سنة 35 من الهجرة (يونيه سنة 656 م) بعد العصر، وكان يومئذٍ صائماً. قال ابن إسحاق: قتل عثمان على رأس إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهراً، واثنين وعشرين يوماً من مقتل عمر بن الخطاب، وعلى رأس خمس وعشرين من متوفى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 689، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 58، وفي الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 690- 691: "قتل وهو ابن اثنتين وثمانين سنة"، "خمس وسبعين سنة"، "وثلاث وستين سنة".

- دفنه (1) : دفن في حش كوكب وقد كان اشتراه ووسع به البقيع، ليلة السبت بين المغرب والعشاء فصلَّى عليه جبير بن مطعم (2) وخلفه حكيم بن حِزام (3) ، وأبو جهم بن -[36]- حذيفة (4) ، وسيأتي تفصيل قتله ودفنه في آخر هذا الكتاب إن شاء اللَّه.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 688، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 69. (2) هو جبير بن مُطعم بن عديَّ بن نوفل بت عبد مناف، أبو سعيد، القرشي، المتوفى سنة 58 هـ. للاستزادة راجع: تهذيب الكمال ج 1/ص 184، تهذيب التهذيب ج 2/ص 63، تقريب التهذيب ج 1/ص 125، خلاصة تهذيب الكمال ج 1/ص 161، الكاشف ج 1/ص 180، تاريخ البخاري الكبير ج 2/ص 225، تاريخ البخاري الصغير ج 1/ص 6، الجرح والتعديل ج 2/ص 2113، تجريد أسماء الصحابة ج 1/ص 78، أُسد الغابة ج 1/ص 322، الإصابة ج 1/ص 462، الاستيعاب ج 1/ص 432، شذرات الذهب ج 1/ص 59، الوافي بالوفيات ج 11/ص 58، البداية والنهاية ج 8/ص 46، سير أعلام النبلاء ج 3/ص 95، الثقات ج 3/ص 50، أسماء الصحابة الرواة ترجمة 57، نقعة الصديان ترجمة 283. (3) حكيم بن حِزام بن خويلد بن أسد بن عبد العُزَّى، أبو خالد، صحابي، قرشي، وهو ابن أخي خديجة أم المؤمنين، مولده بمكة في الكعبة، شهد حرب الفجار، كان صديقاً للنبي صلى اللَّه عليه وسلم قبل البعثة وبعدها، عمَّر طويلاً، قيل: 120 سنة، توفي سنة 54 هـ بالمدينة، وفي وفاته خلاف قيل: سنة 50 و 54 و 58 و 60، كان من سادات قريش في الجاهلية والإسلام، عالماً بالنسب، أسلم يوم الفتح، وهو من قال الرسول صلى اللَّه عليه وسلم فيه يومئذٍ: "من دخل دار أبو سفيان فهو آمن، ومن دخل دار حكيم بن حِزام فهو آمن". للاستزادة راجع: تهذيب الكمال ج 1/ص 317، تهذيب التهذيب ج 2/ص 447، تقريب التهذيب ج 1/ص 194، خلاصة تهذيب الكمال ج 1/ص 248، تاريخ البخاري الكبير ج 3/ص 11، تاريخ البخاري الصغير ج 1/ص 102، الجرح والتعديل ج 3/ص 786، صفة الصفوة ج 1/ص 304، شذرات الذهب ج 1/ص 60. (4) هو عامر أو عمير، أبو عبيد بن حذيفة بن غانم، أبو جَهم، من قريش من بني عدي بن كعب، أحد المعمّرين، أسلم يوم فتح مكة، اشترك في بناء الكعبة مرتين، الأولى: في الجاهلية، والثانية: حين بناها ابن الزبير سنة 64 هـ، ومات في تلك الفينة سنة 70 هـ، وهو أحد الأربعة الذين دفنوا عثمان. للاستزادة راجع: نسب قريش ص 369، سمط اللآلى ص 539 والإصابة، الكنى، ترجمة 206.

- ما خلف عثمان: كان لعثمان عند خازنه يوم قتل 30. 500. 000 درهم ومن الدنانير 100. 50 أي ما يزيد عن 800. 000 جنيه فانتهبت وذهبت، وترك 1000 بعير بالرَّبذة. وترك صدقات بها براديس وخيبر ووادي القرى قيمة 10. 000. 000 دينار.

- صدقاته: عن ابن عباس قال: قحط الناس في زمان أبي بكر. فقال أبو بكر: لا تمسون حتى يفرج اللَّه عنكم. فلما كان من الغد جاء البشير إليه قال: لقد قدمت لعثمان ألف راحلة برَّاً وطعاماً قال: فغدا التجار على عثمان، فقرعوا عليه الباب، فخرج إليهم وعليه ملاءة قد خالف بين طرفيها على عاتقه. فقال لهم: ما تريدون؟ قالوا: قد بلغنا أنه قدم لك ألف راحلة برَّاً وطعاماً. بعنا حتى نوسع به على فقراء المدينة، فقال لهم عثمان: ادخلوا، فدخلوا، فإذا ألف وقر قد صدت في دار عثمان فقال لهم: كم تربحوني على شرائي من الشام؟ قالوا: العشرة اثني عشر. قال: قد زادوني. قالوا: العشرة أربعة عشر. قال: قد زادوني. قالوا: العشرة خمسة عشر. قال: قد زادوني قالوا: من زادك ونحن تجار المدينة؟ قال: زادوني بكل درهم عشرة. هل عندكم زيادة؟ قالوا: لا. قال: فأشهدكم معشر التجار أنها صدقة على فقراء المدينة.

- خوفه: -[37]-. كان لعثمان عبد فقال له: إني كنت عركت أذنك فاقتص مني، فأخذ بأذنه ثم قال عثمان: اشدد، يا حبذا قصاص في الدنيا لا قصاص في الآخرة. وروي عنه أنه قال: "لو أني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي لاخترت أن أكون رماداً قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير".

- ثناء عليٌّ عليه: قال عليٌّ رضي اللَّه عنه: كان عثمان أوصلنا للرحم وأتقانا للرب. وقال رضي اللَّه عنه: أنا وطلحة والزبير وعثمان كما قال اللَّه تعالى: {ونَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ متَقَابِلِينَ} [الحجر: 47] . وسأله سائل عن عثمان بعد قتله فقال له: إن عثمان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا، واللَّه يحب المحسنين.

- الأحاديث الواردة في فضله: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: -1- "اللَّهم إني رضيت عن عثمان فارض عنه". -2- "غفر اللَّه لك يا عثمان ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما هو كائن إلى يوم القيامة". -3- "عثمان أحيا أمتي وأكرمها". -4- "عثمان في الجنة". -5- "عثمان حيي تستحي منه الملائكة". -6- عثمان رفيقي معي في الجنة". -7- "عثمان وليي في الدنيا والآخرة". -8- "رحمك اللَّه يا عثمان ما أصبت من الدنيا، ولا أصابت منك". -9- "يا عثمان إنك ستبلى بعدي فلا تقاتلن".

- عثمان وأبو عبيدة: اختصم عثمان وأبو عبيدة عامر بن الجراح، فقال أبو عبيدة: يا عثمان تخرج عليَّ في الكلام وأنا أفضل منك بثلاث. فقال عثمان: وما هن؟ قال: الأولى إني كنت يوم البيعة حاضراً وأنت غائب، والثانية شهدت بدراً ولم تشهده، والثالثة كنت ممن ثبت يوم أحد ولم تثبت -[38]- أنت. فقال عثمان: صدقت، أما يوم البيعة فإن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعثني في حاجة ومدَّ يده عني، وقال: هذه يد عثمان بن عفان وكانت يده الشريفة خيراً من يدي. وأما يوم بدر فإن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم استخلفني على المدينة، ولم يمكنني مخالفته، وكانت ابنته رقية مريضة واشتغلت بخدمتها حتى ماتت ودفنتها. وأما انهزامي يوم أحد فإن اللَّه عفا عني وأضاف فعلي إلى الشيطان. فقال تعالى: {إنَّ الذَّيِنَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّه عَنْهُمْ إنَّ اللَّه غَفُورٌ حَلِيم} [آل عمران: 155] فخصمه عثمان وغلبه.

الفصل الثاني: خلافة عثمان بن عفان (1) رضي الله عنه (24 هـ/ 644 م) .

الفصل الثاني: خلافة عثمان بن عفَّان (1) رضي اللَّه عنه (24 هـ/ 644 م) .

- عثمان قبل الخلافة (2) : كان عثمان رضي اللَّه عنه تاجراً غنياً، جميل الصورة. وقد بادر إلى الإسلام بناء على دعوة أبي بكر الصدَّيق فزوَّجه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم رقية وهاجر بها إلى الحبشة، ثم زوَّجه أم كلثوم بعد وفاتها. وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يثق به ويحبه ويكرمه لحيائه، ودماثة أخلاقه، وحسن عشرته، وما كان يبذله من المال لنصرة المسلمين، وبشره بالجنة كأبي بكر وعمر وعلي وبقية العشرة، وأخبره بأنه سيموت شهيداً. وكان أحد كتاب الوحي، لكن لم يكن له في الغزوات حظ كغيره من الصحابة مثل أبي بكر، وعمر، وعلي، وسعد بن أبي وقاص، وجعفر، وطلحة، وخالد بن الوليد، وغيرهم، فلم يرق دماً، ولم يبارز أحداً، ولم يخرج أميراً على جيش في إحدى السرايا، ولم يثبت في غزوة أحد مع رسول اللَّه، واستخلفه رسول اللَّه على المدينة في غزوته إلى ذات الرقاع وإلى غطفان، وكان محبوباً من قريش، وكان حليماً، رقيق العواطف، كثير الإحسان. وقد توفي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو عنه راض به، وروى عن رسول اللَّه مائة وستة وأربعين حديثاً، وكانت العلاقة بيننا وبين أبي يكر وعمر وعليّ على أحسن ما يرام، ولم يكن من الخطباء حتى إنه قد ارتج عليه في أول خطبة خطبها، وكان أعلم الصحابة بالمناسك، حافظاً للقرآن، ولم يكن متقشفاً مثل عمر بل كان يأكل اللين من الطعام. هذه صفة عثمان رضي اللَّه عنه قبل الخلافة (3) .

_ (1) المسعودي، مروج الذهب ج 2/ص 341. (2) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 5/ص 43. (3) المسعودي، مروج الذهب ج 2/ص 341.

- خلافة عثمان رضي اللَّه عنه (سنة 24 هـ/ 644 م) : -[42]-. كانت مبايعة عثمان يوم الاثنين لليلة بقيت من ذي الحجة سنة 23 هـ، واستقبل الخلافة في المحرم سنة 24 هـ، وقيل لهذه السنة عام الرُّعاف (1) ، لأنه كثر فيها الرُّعاف (2) في الناس، ولي عثمان الخلافة وعمره 68 عاماً ميلادياً، أو 70 عاماً هجرياً، أي أنه كان في سن الشيخوخة (3) ، وقد كان عمر رضي اللَّه عنه يخشى أن يميل الخليفة بعده إلى أقاربه، ويحابيهم، ويحرم ذوي الكفايات فتسوء الحال، فقال لعليّ: إن وليت من أمر المؤمنين شيئاً فلا تحملن بني عبد المطلب على رقاب الناس. وقال لعثمان: يا عثمان إن وليت من أمر المسلمين شيئاً فلا تحملن بني أبي معيط على رقاب الناس. وكذلك قال لعبد الرحمن بن عوف: فإن كنت على شيء من أمر الناس يا عبد الرحمن فلا تحمل ذوي قرابتك على رقاب الناس. أما أبو بكر رضي اللَّه عنه فإنه قال لما اختار عمر للخلافة: "أترضون بمن أستخلف عليكم فإني واللَّه ما ألوت من جهد الرأي ولا وليت ذا قرابة، وإني قد استخلفت عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوه" (4) . ثم إن عمر احتاط فأوصى الخليفة بعده بأن يبقى عماله سنة وليس في وسعه أن يفعل أكثر من ذلك، ولندع ذلك الآن إلى فرصة أخرى. لما بويع عثمان خرج إلى الناس وأراد أن يخطبهم فأُرْتِجَ عليه، ثم قال بعد أن حمد اللَّه وأثنى عليه: "أيها الناس إن أول مركب صعب، وإن بعد اليوم أياماً، وإن أعش تأتكم الخطبة على وجهها، وما كنا خطباء وسُيعَلّمنا اللَّه" لكنه خطبهم خطبة أخرى ذكرها الطبري (5) فقال: -[43]-. "إنكم في دار قلعة وفي بقية أعمار فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه فلقد أتيتم صُبّحتهم أو مُسيّتم. ألا وإن الدنيا طويت على الغرور فلا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم باللَّه الغرور. اعتبروا بمن مضى. ثم جدوا ولا تغفلوا، فإنه لا يغفل عنكم. أين أبناء الدنيا وإخوانها الذين أثاروها وعمروها ومتعوا بها طويلاً؟ ألم تلفظهم؟ ارموا بالدنيا حيث رمى اللَّه بها، واطلبوا الآخرة فإن اللَّه قد ضرب لها مثلاً والذي هو خير فقال: {وَاضْرِبْ لَهمُ مَثَلَ اَلحْيَاةِ الدُنْيَا كَمَاء أنْزَلنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ تَذْرُوْهُ الرَّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} إلى قوله أملاً [الكهف: 45] وهذه خطبة كما يراها القارئ في الزهد واحتقار الدنيا وعدم الركون إليها. وأول ما فعل عثمان رضي اللَّه عنه بعد البيعة، أنه جلس في جانب المسجد ودعا عبيد اللَّه بن عمر بن الخطاب (6) ، وكان قد قتل جماعة من الذين تسببوا في قتل أبيه وشاور الأنصار في أمره وأشار عليّ بقتله. فقال عمرو بن العاص: لا يقتل عمر بالأمس، ويقتل ابنه اليوم. فجعلها عثمان دية واحتملها وقال: أنا وليه. وكان زياد بن لبيد البياضي الأنصاري إذا رأى عبيد اللَّه يقول: ألا يا عبيد اللَّه ما لك مهرب ... ولا ملجأ من ابن أروى ولا خفر أصبت دماً واللَّه في غير حله ... حراماً وقتل الهرمزان له خطر على غير شيء غير أن قال قائل ... أتتهمون الهرمزان على عمر فقال سفيه والحوادث جمة ... نعم أتهمه قد أشار وقد أمر وكان سلاح العبد في جوف بيته ... يقلبها والأمر بالأمر يعتبر كان الهرمزان (7) من قواد الفرس، وقد أسره المسلمون بتستر وأرسلوه إلى المدينة في خلافة عمر بن الخطاب، فلما رأى عمر سأل: أين حرسه وحجابه؟ قالوا: ليس له حارس ولا حاجب، ولا كاتب، ولا ديوان فقال: "ينبغي له أن يكون نبياً"، ثم أسلم وفرض له عمر ألفين وأنزله بالمدينة. وقيل: إن السكين التي قتل بها عمر رؤيت قبل قتله عند الهرمزان فلما بلغ عبيد -[44]- اللَّه بن عمر ذلك ذهب إليه وقتله، فهذا هو الهرمزان المذكور في شعر زياد بن لبيد. فشكا عبيد اللَّه إلى عثمان زياد بن لبيد فنهى عثمان زياداً فقال في عثمان: أبا عمرو عبيد اللَّه رهن ... فلا تشكك بقتل الهْرْمزان أتعفو إذ عفوت بغير حق ... فما لك بالذي تحكي يدان فدعا عثمان زياداً فنهاه وشذ به.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 589، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 2/ص 475، السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 123، الذهبي، تاريخ الإسلام ج 3/ص 311. (2) الرُّعاف: الدم يخرج من الأنف. [القاموس المحيط، مادة: رَعَفَ] . (3) جاء في تاريخ القرون الوسطى لجامعة كمبردج: "إن اختيار عثمان للخلافة تمَّ بعد تردد طويل، وذلك لأنه أضعف الستة وألينهم عريكة، وكان كلّ فيهم يؤمل أن يحكم بواسطته، ثم يخلفه، وهذا الاختيار كان كردّ فعل لخلافة عمر القوية الشديدة". (4) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 352، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 2/ص 273. (5) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 589. (6) هو عبيد اللَّه بن عمر بن الخطاب العدوي القرشي، صحابي، من أنجاد قريش وفرسانهم، ولد في عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، أسلم بعد إسلام أبيه، ثم سكن المدينة، غزا إفريقية مع عبد اللَّه بن سعد، ورحل إلى الشام في أيام علي، فشهد صفِّين مع معاوية، وقُتل فيها. للاستزادة راجع: طبقات ابن سعد ج 5/ص 314، الإصابة ج 2/ص 423، مقاتل الطالبين ص 12، الأخبار الطوال ص 180. (7) الهُرمُزان: هو من أمراء الجيش الفارسي في معركة القادسية سنة 14 هـ. انهزم إلى خوزستان حيث قاوم العرب مقاومة عنيفة.

- ولاية سعد بن أبي وقاص (1) الكوفة (2) (سنة 25 هـ/ 646 م) : كان عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه عزل سعد بن أبي وقاص عن الكوفة، وولى مكانه المغيرة بن شعبة (3) ، وقد اتهم سعد بأنه لا يحسن الصلاة، وأن الصيد يلهيه ولا يقسم بالسوية، -[45]- ولا يعدل في القضية. لكنها تُهم لم تثبت، قد أذاعها بعض حساده، فأوصى عمر رضي اللَّه عنه الخليفة من بعده أن يستعمل سعداً وقال: "إني لم أعزله عن سوء ولا خيانة". فكان أول عامل بعث به عثمان على الكوفة سعد، وعزل المغيرة الذي كان يومئذ بالمدينة. وروى الواقدي أن عمر أوصى أن يقر عماله سنة، فلما ولي عثمان أقرَّ المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة، ثم عزله واستعمل سعد بن أبي وقاص، ثم عزله واستعمل الوليد بن عقبة (4) . قال الطبري (5) : فإن كان ما رواه الواقدي من ذلك فولاية سعد الكوفة من قبل عثمان كانت سنة 25 هـ.

_ (1) هو سعد بن أبي وقّاص مالك بن أهيب بن عبد مناف القرشي الزهري من أخوال النبي صلى اللَّه عليه وسلم فهو من بني زهرة أهل آمنة بنت وهب أم النبي صلى اللَّه عليه وسلم، وكان يعتَزْ بهذه الخُوُّولَة، أبو إسحاق، هو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأول من رمى بسهم في سبيل اللَّه، وأحد الستة الذين عينهم عمر بن الخطاب للخلافة، ويقال له: فارس الإسلام، للاستزادة راجع: الاستيعاب ج 2/ص 870، الإصابة ج 2/ص 30، المِلل والنِحَل ج 1/ص 20، أشهر مشاهير الإسلام ج 3/ص 535، الطبقات الكبرى ج 1/ص 21، تحفة الأحوذي ج 10/ص 253، سير أعلام النبلاء ج 1/ص 62، زعماء الإسلام ص 114، رجال حول الرسول ص 141، سعد بن أبي وقاص وأبطال القادسية للسحّار، الرياض النضرة ج 2/ص 292، صفة الصفوة ج 1/ص 138، تهذيب ابن عساكر ج 6/ص 93، المعارف ص 106، أُسْد الغابة ج 2/ص 290، جمهرة أنساب العرب 71، تاريخ الإسلام ج 1/ص 79، فتوح مصر وأخبارها ص 318، البداية والنهاية ج 8/ص 72، صور من حياة الصحابة ص 285، الأعلام ج 3/ص 87. (2) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 590، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 2/ص 475، تاريخ الخلفاء ص 123، الذهبي تاريخ الإسلام ج 3/ص 315. (3) هو المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن قيس، أبو عيسى، الثقفي، المتوفى سنة 50 هـ أحد دهاة العرب وقادتهم وولاتهم، يقال له: "مغيرة الرأي"، أسلم قبل الحديبية وكانت سنة 5 هـ. للاستزادة راجع: الإصابة ترجمة 8181، أُسْد الغابة ج 4/ص 160، طبقات ابن سعد ج 4/ص 200، الطبري ج 6/ص 100، ذيل المذيل ج 15/ص 18، ابن الأثير ج 3/ص 111، تهذيب الكمال ج 3/ص 68، تهذيب التهذيب ج 10/ص 86، الأعلام ج 7/ص 57. (4) هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط، أبو وهب الأموي، القرشي، والٍ من فتيان قريش وشعرائهم وأجوادهم، فيه ظُرف ومجون ولهو، وهو أخو عثمان بن عفان لأمه، أسلم يوم فتح مكة، بعثه رسول اللَّه على صدقات بني المصطلق، ثم ولاه عمر صدقات بني تغلب، ولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص سنة 25 هـ فانصرف إليها، وأقام إلى سنة 29 هـ، فشهد عليه جماعة عند عثمان بشرب الخمر فعزله، ودعا به إلى المدينة، فجاء، فحدّه وحبسه، ولمَّا قُتل عثمان تحوَّل إلى الجزيرة الفراتية، فسكنها، واعتزل الفتنة بين معاوية وعلي، لكنه حرَّض معاوية، ورثى عثمان، مات سنة 61 هـ، بالرقة. للاستزادة راجع: الأغاني ج 5/ص 122، معرفة علوم الحديث للحاكم النيسابوري ص 193. (5) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 590.

الفصل الثالث: كتب عثمان بن عفان رضي الله عنه.

الفصل الثالث: كتب عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه.

- كتب عثمان (1) :

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 590.

- عزل سعد بن أبى وقاص عن الكوفة وتولية الوليد بن عقبة (1) : لم تطل ولاية سعد على الكوفة فعزله عثمان وولى بعده الوليد بن عقبة والسبب في عزل سعد هو أنه استقرض من عبد اللَّه بن مسعود (2) من بيت المال مالاً فأقرضه، فلما تقاضاه لم يتيسر -[51]- عليه فارتفع بينهما الكلام حتى استعان عبد اللَّه بأناس على استخراج المال، واستعان سعد بأناس على استنظاره فاقتربوا وبعضهم يلوم بعضاً. يلوم هؤلاء سعداً ويلوم هؤلاء عبد اللَّه. عن قيس بن أبي حازم قال: كنت جالساً عند سعد وعنده ابن أخيه هاشم بن عتبة (3) فأتى ابن مسعود سعداً فقال له: أدِّ المال الذي قِبَلك. فقال له سعد: ما أراك إلا ستلقى شرَّاً. هل أنت إلا ابن مسعود عبد من هذيل؟! فقال: أجل واللَّه إني لابن مسعود وإنك لابن حمينة. فقال هاشم: إنكما لصاحبا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ينظر إليكما. فطرح سعد عوداً كان في يده وكان رجلاً فيه حدة ورفع يديه. وقال: اللَّهم رب السماوات والأرض. فقال عبد اللَّه: ويلك قل خيراً ولا تلعن. فقال سعد عند ذلك: أما واللَّه لولا اتقاء اللَّه لدعوت عليك دعوة لا تخطئك. فولى عبد اللَّه سريعاً حتى خرج، وكان سعد بن أبي وقاص مجاب الدعوة. غضب عثمان رضي اللَّه عنه على سعد وعلى ابن مسعود بسبب هذه المشادة فعزل سعداً ولم يعزل ابن مسعود، بل أقره واستعمل الوليد بن عقبة، وكان عاملاً لعمر على ربيعة بالجزيرة، فقدم الكوفة، فلم يتخذ لداره باباً حتى خرج من الكوفة. ولعل القارئ يعجب لماذا أقر عثمان ابن مسعود ولم يعزله؟ فنقول إن عبد اللَّه بن -[52]- مسعود لما كان غلاماً كان يرعى أغنام عقبة بن أبي معيط (4) ، وكان إسلامه قديماً، وهو أول من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فهو راعٍ لعقبة بن أبي معيط - والد الوليد - أي أنه من أتباع بني أمية، وكان عمر رضي اللَّه عنه بعثه إلى الكوفة معلماً ووزيراً، ثم إن ابن مسعود لم يكن والياً حتى يعزله عثمان رضي اللَّه عنه، بل كان وزيراً للمالية. أما الوليد الذي خلف سعداً فهو أموي، أخو عثمان لأمه، أسلم يوم الفتح، ولا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن أن قوله عز وجل: {إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] نزلت في الوليد بن عقبة وذلك أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعثه مصدقاً إلى بني المصطلق فعاد وأخبر عنهم أنهم ارتدوا ومنعوا الصدقة، وذلك أنهم خرجوا إليه يتلقونه فهابهم، فانصرف عنهم، فبعث إليهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خالد بن الوليد (5) فأخبروه أنهم متمسكون بالإسلام ونزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذيِنَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]-[53]-. لما قدم الوليد على سعد قال له: واللَّه ما أدري أَكِسْتَ (6) بعدنا أم حمقنا بعدك؟! فقال: "لا تجز عن أبي إسحاق فإنما هو الملك يتغداه قوم ويتعشاه آخرون". فقال سعد: "أراكم واللَّه ستجعلونه مُلكاً". وكان الوليد من رجال قريش ظرفاً وحلماً وشجاعة وأدباً، وكان من الشعراء المطبوعين. قال الطبري (7) : فقدم الوليد في السنة الثانية من إمارة عثمان، وقد كان سعد عمل عليها سنة وبعض أخرى فقدم الكوفة، وكان أحب الناس في الناس وأرفقهم بهم، فكان كذلك خمس سنين وليس على داره باب. وحدثنا أبو فرج الأصفهاني في الجزء الخامس من الأغاني عن سبب تولية الوليد الكوفة فقال: لم يكن يجلس مع عثمان رضي اللَّه عنه على سريره إلا العباس ابن عبد المطلب وأبو سفيان بن حرب والحكم بن العاص والوليد بن عقبة، فأقبل الوليد يوماً فجلس، ثم أقبل الحكم. فلما رآه عثمان زحل (8) له عن مجلسه فلما قام الحكم قال له الوليد: واللَّه يا أمير المؤمنين، لقد تلجلج في صدري بيتان قلتهما حين رأيتك آثرت عمك على ابن أمك. فقال له عثمان رضي اللَّه تعالى عنه: إنه شيخ قريش، فما البيتان اللذان قلتهما؟ قال: قلت: رأيت لعم المرء زُلْفَى قرابة ... دون أخيه حادثاً لم يكن قدماً فأمَّلْتُ عَمْراً أن يَشِبّ وخالداً ... لكي يدعواني يوم مزحمة عمّا يعني عمراً وخالداً ابني عثمان. فرق له عثمان وقال له: قد وليتك العراق - يعني الكوفة - اهـ. ولا يصدق إنسان يعرف مكانة عثمان رضي اللَّه عنه أنه ولى الوليد الكوفة بعد أن أنشده هذين البيتين إرضاء له.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 590، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 2/ص 476. (2) هو عبد اللَّه بن مسعود بن غافل بن حبيب شمخ بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس، الهُذَلي، أبو عبد الرحمن، صحابي، من أكابرهم فضلاً وعقلاً وقرباً من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو من أهل مكة، ومن السابقين إلى الإسلام، وأول من جهر بقراءة القرآن بمكة، كان خادم رسول اللَّه الأمين، وصاحب سرّه ورفيقه في حلِّه وترحاله وغزواته، يدخل عليه كل وقت ويمشي معه. نظر إليه عمر يوماً وقال: وعاء مليء علماً، ولي بعد وفاة النبي صلى اللَّه عليه وسلم بيت مال الكوفة، ثم قدم المدينة في خلافة عثمان، فتوفي فيها نحو ستين عاماً، كان قصيراً جداً، يكاد الجلوس يوارونه، كان يحب الإكثار من التطيّب، فإذا خرج من بيته عرف جيران الطريق أنه مرَّ، من طيب رائحته. للاستزادة راجع: الإصابة ج 4/ص 129، الاستيعاب ج 1/ص 359، أُسد الغابة ج 3/ص 256، تذكرة الحفاظ ج 1/ص 12، البداية والنهاية ج 7/ص 162، شذرات الذهب ج 1/ص 38، تاريخ الإسلام للذهبي ج 2/ص 100، سير أعلام النبلاء ج 1/ص 331، صفة الصفوة ج 1/ص 154، غاية النهاية ج 1/ص 458، البدء والتاريخ ج 5/ص 97، حلية الأولياء ج 1/ص 124، تاريخ الخميس ج 2/ص 257، البيان والتبيين ج 2/ص 56، المحبّر ص 161، تهذيب الكمال ج 2/ص 740، تهذيب التهذيب ج 6/ص 27، تقريب التهذيب ج 1/ص 450. (3) هو هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، صحابي، خطيب من الفرسان، يلقب بالمِرْقال، وهو ابن أخي سعد بن أبي وقاص، أسلم يوم فتح مكة، ونزل الشام بعد فتحها، أرسله عمر مع ستة عشر رجلاً من جند الشام مدداً لسعد بن أبي وقاص في العراق، شهد القادسية، أصيبت عينه يوم اليرموك فقيل له الأعور، وفتح جلولاء، وكان مع علي بن أبي طالب في حروبه، تولى قيادة الرَّجَّالة في صفّين، قتل في آخر أيامها سنة 37 هـ. للاستزادة راجع: ذيل المذيل، الأخبار الطوال، رغبة الآمل ج 3/ص 115، معجم ما استعجم، نسب قريش، وقعة صفّين، مرآة الجنان ج 1/ص 10. (4) هو عقبة بن أبان بن ذكوان بن أمية بن عبد شمس، من مقدمي قريش في الجاهلية، كنيته أبو الوليد، كان شديد الأذى للمسلمين عند ظهور الدعوة، فأسروه يوم بدر وقتلوه، ثم صلبوه، وهو أول مصلوب في الإسلام، قتل سنة 2 هـ. للاستزادة راجع: الروض الآنف ج 2/ص 76، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 2/ص 27. (5) هو خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمرو بن مخزوم، المخزومي، القرشي، سيف اللَّه الفاتح الكبير، الصحابي، كان من أشراف قريش في الجاهلية، يلي أعنة الخيل، شهد مع مشركيهم حروب الإسلام إلى عمرة الحديبية، أسلم قبل فتح مكة هو وعمرو بن العاص سنة 7 هـ، فسرَّ به رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وولاه الخيل، ولمَّا ولي أبو بكر وجَّهه لقتال مسيلمة ومن ارتد من أعراب نجد، ثم سيَّره إلى العراق سنة 12 هـ، ففتح الحيرة وجانباً عظيماً منه، وحوَّله إلى الشام وجعله أمير من فيها من الأمراء. ولمَّا ولي عمر عزله عن قيادة الجيوش بالشام وولى أبا عبيدة بن الجرَّاح، فلم يثن ذلك من عزمه، واستمر يقاتل بين يدي أبي عبيدة إلى أن تمَّ لهما الفتح سنة 14 هـ، فرحل إلى المدينة، فدعاه عمر ليوليه، ومات في حمص في سوريا، وقيل: بالمدينة سنة 21 هـ. كان مظفراً خطيباً فصيحاً، يشبه عمر بن الخطاب في خَلْقه وصفته، قال أبو بكر: عجزت النساء أن يلدن مثل خالد. روى له المحدثون ثمانية عشر حديثاً، وأخباره كثيرة. للاستزادة راجع: الإصابة ج 1/ص 413، الاستيعاب ج 2/ص 427، تهذيب الكمال ج 1/ص 366، تقريب التهذيب ج 1/ص 219، خلاصة تهذيب الكمال ج 1/ص 285، الكاشف ج 1/ص 275، تاريخ البخاري الكبير ج 3/ص 136، الجرح والتعديل ج 3/ص 1607، لسان الميزان ج 2/ص 389، أُسد الغابة ج 2/ص 109، تجريد أسماء الصحابة ج 1/ص 124، طبقات ابن سعد ج 7/ص 479، سير الأعلام ج 1/ص 366، البداية والنهاية ج 7/ص 113، شذرات الذهب ج 1/ص 15، الثقات ج 3/ص 101، صفة الصفوة ج 1/ص 268، تاريخ الخميس ج 2/ص 247، ذيل المذيّل ص 43. (6) أَكِسْتَ: يقال رجل أَوْكَس أي خسيس أو قليل الحظ. [القاموس المحيط، مادة: وَكَسَ] . (7) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 595. (8) زَحَل: أيّ تَنحَّى.

- نقض أهل الإسكندرية الصلح (1) (سنة 25 هـ/ أواخر سنة 645 م) : جاء في دائرة المعارف البريطانية أنه بعد استيلاء العرب على الإسكندرية بقليل، انتهز -[54]- الروم فرصة تغيب عمرو بن العاص (2) وارتحال جزء كبير من جيشه. فاستولوا على الإسكندرية. فلما بلغ عمرو بن العاص ذلك عاد سريعاً واستولى على المدينة، وهذا يوافق ما جاء في ابن الأثير. كان استيلاء الرومان على الإسكندرية في أوائل سنة 25 هـ وأواخر سنة 645 م وكان عمرو بن العاص استخلف على الإسكندرية عبد اللَّه ابن حذافة (3) . قال الأستاذ بتلر: "وعلى كل حال فمن المؤكد أنه قد عزل قبل نزول الجيش الروماني إلى البر، وأن خلفه لم يكن كفأً فترك وسائل الدفاع في حالة ضعف شديد". أما رواية الطبري (4) فتفيد أن عمرو بن العاص كان قد استدعي إلى مكة، فلما ذاعت أخبار الثورة في الإسكندرية صدرت الأوامر إليه بتولي القيادة. وجاء في تاريخ كامبردج للقرون الوسطى (5) ما يؤيد استدعاء عمرو بن العاص بعد عزله وتولية عبد اللَّه. كاتب الروم قسطنطين بن هرقل (6) - وكان الملك يومئذ - يخبرونه بقلة من عندهم من -[55]- المسلمين - وكانوا ألف جندي - وبما هم فيه من الذلة وأداء الجزية، فبعث رجلاً من أصحابه يقال له: "أمنويل Emanuel The Eunuch" في ثلاثمائة مركب مشحونة بالمقاتلة - ولم يكن للمسلمين أسطول كالأسطول الروماني. وقد رست هذه المراكب في ميناء الإسكندرية بلا إنذار، فقتل حرس الإسكندرية من المسلمين - ويبلغون ألفاً - ولم ينج منهم إلا القليل. ولم يقتصر الجيش الروماني على الاستيلاء عليها، بل توغلوا في البلاد والقرى المجاورة في أرض الدلتا واستولوا على الغلال والأموال بلا حساب، وعاملوا الأهالي معاملة الأعداء المحاربين. كان العنصر الروماني في الإسكندرية هو السائد، ويرى الأستاذ بتلر أن الجيش الروماني لو استمر في زحفه إلى الفسطاط بدلاً من ضياع الوقت في بلاد الدلتا، لكان في وسعه التغلب على عبد اللَّه بن أبي سرح (7) وإعادة حصن بابليون، ولكنهم لم يقدموا على ذلك وبذا مكنوا عمرو بن العاص من إعادة مركزه وتنظيم جيشه اهـ. سار عمرو في خمسة عشر ألفاً، والتقى بالجيش الروماني الذي يفوقه عدداً بـ "نقيوس"، فالتحمت بينهم الحرب، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وأصيب جواد عمرو بن العاص بسهم فنزل واضطر أن يحارب على قدميه، وانتهى الأمر بانهزام جيش "أمنويل" وفراره نحو الإسكندرية في حالة ارتباك عظيم، فتحصنوا بها، فقاتلهم عمرو أشد قتال، ونصب المجانيق فأخذت جُدُرَها، وألح بالحرب حتى دخلها بالسيف عنوة، وقتل أمنويل وهدم المسلمون جدار الإسكندرية، وكان عمرو نذر لئن فتحها ليفعلن ذلك. ووضع عمرو على أرض الإسكندرية الخراج، وعلى أهلها الجزية، وبذلك استولى العرب للمرة الثانية. ويقول الأستاذ بتلر: "إن ذلك كان صيف سنة 646 م" -[56]-. روى البلاذري عن يزيد بن أبي حبيب (8) قال: "كان عثمان عزل عمرو بن العاص عن مصر وجعل عليها عبد اللَّه بن سعد، فلما نزلت الروم الإسكندرية سأل أهل مصر عثمان أن يقر عمراً حتى يفرغ من قتال الروم، لأن له معرفة بالحرب رهيبة في أنفس العدو حتى هزم الخ". وقد أخطأ مؤرخو العرب فقالوا: إن المقوقس كان حيَّاً في هذه الغزوة والحقيقة أنه كان قد مات منذ زمن طويل، كما قرر الأستاذ بتلر، وقد أدرك البلاذري خطأ وجود المقوقس في ذلك الوقت فقال ما نصه: "وروي أن المقوقس اعتزل أهل الإسكندرية حين نقضوا فأقره عمرو ومن معه على أمرهم الأول، وروي أيضاً أنه كان قد مات قبل الغزاة". والحقيقة أن بنيامين كان بطريركاً وزعيماً للوطنيين المصريين فظن المؤرخون أنه المقوقس، وهذا خلط في الحوادث والتواريخ، وقد كانت وفاة المقوقس في 21 مارس سنة 642 م (9) على ما جاء في تاريخ كامبردج للقرون الوسطى. أما الأستاذ بتلر فيؤرخ وفاته 14 يوليه سنة 642 م. ولم يكن البطريرك بنيامين موجوداً في الإسكندرية عند دخول الروم، ويظن أنه هرب، لكنه على كل حال بقي موالياً للعرب، ولم ينقض صلحهم، بل الذي نقضه الروم. كانت نتيجة نقض الإسكندرية الصلح أن استولى عليها العرب مرة ثانية، وقتلوا الروم، ولم يكن هناك سبب واضح لنقض معاهدة الصلح، فما فعله الإمبراطور كان مخالفاً للقوانين الحربية، كما قال الأستاذ بتلر، ولا يوجد ما يبرره فلا غرو إذا عامل العرب الثائرين بالشدة، ثم إن عمراً بعد أن أخضع الثوار في الإسكندرية ذهب لإخضاع المدن التي ثارت في الدلتا. ولما تمَّ له ذلك أرسل الأسرى إلى المدينة فأعادهم عثمان رضي اللَّه عنه. وكان الروم لما خرجوا من الإسكندرية قد أخذوا أموال أهل تلك القرى من وافقهم ومن خالفهم، فلما ظفر بهم المسلمون جاء أهل القرى الذين خالفوهم فقالوا لعمرو بن العاص: إن الروم أخذوا دوابنا وأموالنا، ولم نخالف نحن عليكم، وكنا على الطاعة. فرد عليهم ما عرفوا من أموالهم بعد إقامة البينة هذا ما ذكره ابن الأثير وأشار إليه الأستاذ بتلر معترفاً بفضل المبادئ التي -[57]- سار عليها عمرو في إدارة حكومته وبشرف طبيعته، وكان أهل هذه القرى المذكورة الذين تظلموا لعمرو من الروم أقباطاً.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 594، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 2/ص 476. (2) هو عمرو بن العاص بن وائل بن أشم بن سعيد بن سهم، أبو عبد اللَّه، السهمي، القرشي، المتوفى سنة 43 هـ، أسلم في عام الحديبية، وهو واحد من عظماء العرب ودُهَاتهم وأولي الرأي والحزم والدهاء. للاستزادة راجع: تهذيب التهذيب ج 8/ص 66، تقريب التهذيب ج 2/ص 86، خلاصة تهذيب الكمال ج 2/ص 90، الكاشف ج 8/ص 10، تاريخ البخاري الكبير ج 3/ص 165، تاريخ البخاري الصغير ج 1/ص 330، الجرح والتعديل ج 6/ص 200، الثقات ج 3/ص 120، الاستيعاب ج 3/201، أُسد الغابة ج 4/ص 330، تجريد أسماء الصحابة ج 1/ص 314، الإصابة ج 4/ص 515، سير الأعلام ج 3/ص 6، طبقات ابن سعد ج 9/ص 77، البداية والنهاية ج 8/ص 96، أسماء الصحابة الرواة ص 110، تاريخ الإسلام للذهبي ج 2/ص 123، جمهرة الأنساب 215. (3) هو عبد اللَّه بن حذافة بن قيس السهمي القرشي، أبو حذافة، صحابي، أسلم قديماً، بعثه النبي صلى اللَّه عليه وسلم إلى كسرى، هاجر إلى الحبشة، وقيل: شهد بدراً، أسره الروم أيام عمر، ثم أطلقوه، شهد فتح مصر، توفي بها أيام عثمان سنة 33 هـ، كانت فيه دعابة وله حديث. للاستزادة راجع: تهذيب التهذيب ج 5/ص 185، إمتاع الأسماع ج 1/ص 308، حسن الصحابة ص 305، المحبّر ص 77، تاريخ الإسلام للذهبي ج 2/ص 87، الجمحي ص 196. (4) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 594. (5) تاريخ كامبردج للقرون الوسطى ج 2/ص 35. (6) هو ابن هرقل الثاني ملك الروم. (7) هو عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح القرشي، العامري، من بني عامر بن لؤي، من قريش، فاتح أفريقية، فارس بني عامر، من أبطال الصحابة، أسلم قبل فتح مكة، وهو من أهلها، وكان من كتَّاب الوحي، كان على ميمنة عمرو بن العاص حين افتتح مصر، ولي مصر سنة 25 هـ، بعد عمرو بن العاص، فاستمر نحو 12 عاماً، اعتزل الحرب بين علي ومعاوية في صفَّين، توفي بعسقلان فجأة وهو قائم يصلي سنة 37 هـ، وهو أخو عثمان بن عفان من الرضاع. للاستزادة راجع: أُسد الغابة ج 3/ص 173، ابن إياس ج 1/ص 26، الاستقصاء ج 1/ص 35، معالم الإيمان ج 1/ص 110، ذيل المذيّل ص 31، تاريخ الجزائر ج 1/ص 317، الروض الآنف ج 2/ص 274، ابن عساكر ج 7/ص 432، البداية والنهاية ج 7/ص 250، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 114، النجوم الزاخرة ج 1/ص 7. (8) هو يزيد بن أبي حبيب واسمه سويد، أبو رجاء، الأزدي، ثقة، فقيه، للاستزادة راجع: تهذيب الكمال ج 3/ص 1531، تهذيب التهذيب ج 11/ص 318، الكاشف ج 3/ص 275، الجرح والتعديل ج 9/ص 1122، تاريخ الإسلام ج 5/ص 184، الثقات ج 5/ص 546. (9) كامبردج القرون الوسطى ج 2/ص 351.

- غزو أرمينية وآذربيجان (1) (سنة 25 هـ/ 646 م) : قلنا إن الوليد بن عقبة تولى مكان سعد بن أبي وقاص في الكوفة فعزل عتبة بن فرقد عن آذربيجان، وكان أميراً عليها لعمر بن الخطاب. وروى الطبري أنه كان بالرَّيِّ وآذربيجان 10,000 مقاتل من أهل الكوفة 6000 بآذربيجان، و 4000 بالري، وكان بالكوفة 40. 000. فنقض أهل أرمينية وآذربيجان الصلح بعد أن عزل الوليد عتبة ابن فرقد فغزاهم الوليد. فدعا سلمان بن ربيعة الباهلي (2) ، فبعثه أمامه مقدمة له، وخرج الوليد في جيش وهو يريد التوغل في أرض أرمينية فمضى حتى دخل آذربيجان. وبعث عبد اللَّه بن شُبْيل بن عوف الأحمسي في 4000 فأغار على أهل موقان والببر والطيلسان ورجع إلى الوليد. ثم صالح الوليد أهل آذربيجان على 800. 000 درهم، وذلك هو الصلح الذي كانوا صالحوا -[58]- عليه حذيفة بن اليمان (3) سنة 22 هـ بعد موقعة نهاوند بسنة، ثم إنهم حبسوها عند وفاة عمر. فلما هزمهم الوليد وصالحهم قبض منها المال وبث فيمن حولهم من الأعداء الغارات. ولما عاد عبد اللَّه بن شبيل من غارته بعث سلمان بن ربيعة الباهلي إلى أرمينية في 12000، فهزمهم (4) .

_ (1) ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 2/ص 477، حدثت تغييرات في حدود أرمينية لما طرأ عليها من التقلبات، فحدودها القديمة من جهة الشرق: بحر الخزر، وبلاد العجم، والجنوب: أشورية، وما بين النهرين، وأرض السريان، وكيليكية، والغرب: آسيا الصغرى، والشمال: البحر الأسود، وكرجستان، وأفغانستان، وكانت سابقاً تمتد نحو جبال القوقاز، وتتصل بها من الجهة الشمالية وإلى بحر قزوين. (2) هو سلمان بن ربيعة بن يزيد بن عمرو بن سهم بن ثعلبة، أبو عبد اللَّه، الباهلي، صحابي، متوفى سنة 30 هـ، من القادة القضاة شهد فتوح الشام، والقادسية، سكن العراق، استقضاه عمر على الكوفة، قال ابن قتيبة في المعارف: "هو أوَّل قاضٍ قضى لعمر بن الخطاب بالعراق" وقال أيضاً: "قُتل في بلنجر، من أرض الترك أو من أرمينية، ويقال: إن عظامه عند أهل بلنجر، في تابوت، إذا احتبس عليهم المطر أخرجوه فاستسقوا به، فسقوا". ثم وَلِيَ غزو أرمينية في زمن عثمان، واستشهد فيها. للاستزادة راجع: الإصابة ج 2/ص 185، تهذيب التهذيب ج 4/ص 220، تهذيب الكمال ج 1/ص 338، تقريب التهذيب ج 1/ص 285، خلاصة تهذيب الكمال ج 1/ص 111، المعارف 185، الكاشف ج 1/ص 285، تاريخ البخاري الكبير ج 4/ص 117، الجرح والتعديل ج 4/ص 266، طبقات ابن سعد ج 6/ص 308، البداية والنهاية ج 7/ص 205، الثقات ج 4/ص 228. (3) هو حذيفة بن حُسَيْل، ويقال حِسْل بن جابر العبسي، أبو عبد اللَّه، واليمان لقب حسل، صحابي، من الولاة الشجعان الفاتحين، كان صاحب سر النبي صلى اللَّه عليه وسلم في المنافقين، لم يعلمهم أحد غيره، ولما ولي عمر سأله: أفي عمَّالي أحد من المنافقين؟ فقال: نعم، واحد. فقال: من هو؟ قال: لا أذكره، وحدث حذيفة بهذا الحديث بعد حين فقال: وقد عزله عمر كأنَّما دَل عليه. كان عمر إذا مات ميت يسأل عن حذيفة، فإذا حضر الصلاة عليه صلى عليه عمر، وإلا لم يصلِّ عليه، ولاه عمر المدائن بفارس، له مشاهد، توفي سنة 36 هـ. للاستزادة راجع: تهذيب الكمال ج 1/ص 238، تهذيب التهذيب ج 2/ص 156، خلاصة تهذيب الكمال ج 1/ص 201، الكاشف ج 1/ص 210، أُسد الغابة ج 1/ص 463، الإصابة ج 2/ص 45، تجريد أسماء الصحابة ج 1/ص 125، الاستيعاب ج 1/ص 334، حلية الأولياء ج 1/ص 270، تاريخ الإسلام للذهبي ج 2/ص 152، صفة الصفوة ج 1/ص 249. (4) ابن كثير، البداية والنهاية ج 7/ص 150.

- معاوية بن أبي سفيان (1) يطلب المدد (2) : بعد أن عاد الوليد بن عقبة من الغزو أتاه كتاب عثمان رضي اللَّه عنه هذا نصه -[59]-: "أما بعد فإن معاوية بن أبي سفيان كتب إليَّ يخبرني أن الروم قد أجلبت على المسلمين بجموع عظيمة، وقد رأيت أن يمدهم إخوانهم من أهل الكوفة، فإذا أتاك كتابي هذا فابعث رجلاً ممن ترضى نجدته وبأسه وشجاعته وإسلامه في ثمانية آلاف أو تسعة آلاف أو عشرة آلاف إليهم من المكان الذي يأتيك فيه رسولي والسلام". يرى القارئ من ذلك أن أهالي البلاد التي دخلت في حوزة الإسلام انتهزوا فرصة وفاة عمر رضي اللَّه عنه لمحاربة المسلمين فنقض أهل الإسكندرية الصلح، لكن عمرو بن العاص هزمهم، ونقض كذلك أهل أرمينية وآذربيجان صلحهم فهزمهم الوليد، والآن نجد معاوية بالشام يطلب المدد، لأن الروم جمعوا جيوشهم وأجلبوا على المسلمين. وبعد أن وصل إلى الوليد كتاب الخليفة قام في الناس فحمد اللَّه وأثنى عليه وقال: "أما بعد، أيها الناس فإن اللَّه قد أبلى المسلمين في هذا الوجه بلاءً حسناً، رد عليهم بلادهم التي كفرت، وفتح بلاداً لم تكن افتتحت، وردهم سالمين غانمين مأجورين، فالحمد للَّه رب العالمين. وقد كتب أمير المؤمنين يأمرني أن أندب منكم ما بين العشرة الآلاف إلى الثمانية الآلاف. تمدون إخوانكم من أهل الشام فإنهم قد جاشت عليهم الروم وفي ذلك الأجر العظيم، والفضل المبين فانتدبوا رحمكم اللَّه مع سلمان بن ربيعة الباهلي". فانتدب الناس وخرج ثمانية آلاف رجل من أهل الكوفة فمضوا حتى دخلوا مع أهل الشام أرض الروم وعلى جند أهل الشام حبيب بن مسلمة بن خالد الفهري (3) وعلى جند أهل الكوفة سلمان بن ربيعة فصد المسلمون هجوم الروم، فأصاب الناس ما شاءوا من سبي وغنائم، وافتتحوا حصوناً كثيرة، وساروا منتصرين حتى بلغوا آسيا الصغرى مجتازين أرمينية فوصلوا طبرستان -[60]- واتصلوا بزملائهم على الشاطئ الشرقي لبحر قزوين، واتجهوا نحو الشمال إلى أن وصلوا تفليس والبحر الأسود. فهذا نصر عظيم وتوسع في الفتح سريع لا نظير له في تاريخ العالم.

_ (1) هو معاوية بن "أبي سفيان" صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، القرشي، الأموي، مؤسس الدولة الأموية في الشام، وأحد دهاة العرب المتميّزين الكبار، أسلم سنة 8 هـ، وتعلم الكتابة والحساب واستعمله النبي صلى اللَّه عليه وسلم لكتابة الوحي، هو أوَّل مسلم ركب بحر الروم للغزو، وكان عمر بن الخطاب يقول إذا نظر إليه: "هذا كسرى العرب". للاستزادة راجع: البدء والتاريخ ج 6/ص 10، شذور العقود للمقريزي ج 6/ص 266، منهاج السنة ج 2/ص 300، تاريخ اليعقوبي ج 2/ص 140، تطهير الجنان ص 128، الكامل في التاريخ ج 4/ص 260، تهذيب الكمال ج 3/ص 10، تهذيب التهذيب ج 10/ص 35، خلاصة تهذيب الكمال ج 3/ص 66، الكاشف ج 3/ص 71، تاريخ البخاري الكبير ج 7/ص 18، تاريخ البخاري الصغير ج 1/ص 97، الثقات ج 3/ص 199، أُسد الغابة ج 5/ص 251، البداية والنهاية ج 8/ص 300، الاستيعاب ج 3/ص 401، سير الأعلام ج 3/ص 265، طبقات ابن سعد ج 9/ص 203، نقعة الصديان ترجمة ص 317. (2) ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 2/ص 480. (3) هو حبيب بن مسلمة بن مالك الفهري، القرشي، أبو عبد الرحمن، قائد من كبار الفاتحين، يقرنه بعضهم بخالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح ولد بمكة سنة 2 ق. هـ ورأى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وخرج إلى الشام مجاهداً في أيام أبي بكر، فشهد اليرموك، ودخل دمشق مع أبي عبيدة فولاه إنطاكية، ثم أمره عمر بن الخطاب بإمداد سراقة بن عمر وكان قد ولي غزو الباب، فسار حبيب وتوغل في أرمينية، واشتهرت أعماله وشجاعته فيها، ثم قصد المدينة حاجاً فأكرمه عمر، كان معاوية يستشيره في كثير من شؤونه وكان يسمى "حبيب الروم" لكثرة دخوله بلادهم ونيله منهم، وهو فاتح كثير من بلاد أرمينية، كان عثمان يريد توليته أرمينية كلها، إلا أنه خاف أن تشغله السياسة عن القيادة، لما صفا الملك لمعاوية ولاه أرمينية فتوفي فيها سنة 42 هـ. للاستزادة راجع: تهذيب ابن عساكر ج 4/ص 35، أشهر مشاهير الإسلام 872.

- عزل عمرو بن العاص عن مصر (1) وفتح أفريقية (سنة 26 هـ/ 647 م) : لما ولي عثمان أقر عمرو بن العاص على عمله، وكان لا يعزل أحداً إلا عن شكاة، أو استعفاء من غير شكاة، ثم عزل عمرو بن العاص عن خراج مصر، واستعمل عليه عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح أمير الصعيد في زمن عمر بن الخطاب. كان عمرو بن العاص صاحب السلطة في مصر زمن عمر رضي اللَّه عنه، فكان قائد الجيش، وصاحب الخراج، لكن عمر كان يستبطئ عمراً في جمع الخراج، ويستقل ما يجبيه من مصر. ومما كتبه له في هذا الشأن: "وأعجب ما عجبت أنها - أي مصر - لا تؤدي نصف ما كانت تؤديه من الخراج قبل ذلك على غير قحط ولا جدب". لكن يلاحظ أن عمرو بن العاص ألغى كثيراً من الضرائب التي كانت تجبى في عهد الدولة الرومانية، وكانت سبب شكوى المصريين وتألمهم من الحكم الروماني. وعلى كل حال لم يفكر عمر بن الخطاب في نزع الخراج من عمرو وقصره على الحرب مع تشدده عليه في جباية الخراج. فلما ولي عثمان رأى إسناد الخراج إلى عبد اللَّه بن سعد أبي سرح (2) وكان أخا عثمان من الرضاعة (أرضعت أمه عثمان) ، فكتب عبد اللَّه إلى عثمان يقول: إن عمراً كسر عليَّ الخراج، وكتب عمرو يقول: إن عبد الله قد كسر عليَّ مكيدة الحرب، فعزل عثمان عمراً واستقدمه واستعمل بدله عبد اللَّه على حرب مصر وخراجها، أي أنه أعطاه السلطة التي كانت مخولة لعمرو من قبل، فقدم عمرو مغضباً، فدخل على عثمان وعليه جبة محشوة فقال: ما حشو جبتك؟ قال: عمرو، فقال عثمان: قد علمت أن حشوها عمرو ولم أرد هذا، إنما سألتك أقطن هو أم غيره؟ ثم بعث عبد اللَّه بن سعد إلى عثمان بمال من مصر قد حشد فيه، فدخل عمرو على عثمان فقال عثمان: يا عمرو هل تعلم أن تلك اللقاح (3) درَّت بعدك؟ فقال عمرو: إن فصالها هلكت. يريد عثمان أن مصر قد كثر خراجها على يد عبد اللَّه بن سعد، فقال له عمرو: إن فصالها هلكت أي أن أولاد اللقاح قد هلكت بحرمانها من اللبن، يريد أن في ذلك إرهاقاً لأهالي مصر وتحميلهم ما لا يطاق -[61]-. وهذه الزيادة التي أخذها عبد اللَّه، إنما هي على الجماجم فإنه أخذ عن كل رأس ديناراً خراجاً عن الخراج فحصل لأهل مصر بسبب ذلك الضرر الشامل. وكانت هذه أول شدة وقعت لأهل مصر في مبتدأ الإسلام، ويقال: إن عبد اللَّه جبى خراج مصر في تلك السنة 14. 000. 000 ديناراً بعد أن كان 12. 000. 000 زمن عمرو بن العاص، وهذا ما دعا عثمان رضي اللَّه عنه إلى توجيه اللوم إلى عمرو، فكان جوابه ما ذكر. كان عبد اللَّه من جند مصر، وكان قد أمره عثمان بغزو أفريقية سنة خمس وعشرين وقال له عثمان: إن فتح اللَّه عليك فلك من الفيء خمس الخمس نفلاً. وأمر عبد اللَّه بن نافع بن عبد القيس وعبد اللَّه بن نافع بن الحارث (4) على جند وسرّحهما، وأمرهما بالاجتماع مع عبد اللَّه بن سعد صاحب أفريقية، ثم يقيم عبد اللَّه في عمله، فخرجوا حتى قطعوا أرض مصر، وكان من بين الجيش الذي أرسله عثمان جماعة من أعيان الصحابة منهم: ابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو بن العاص، وابن جعفر، والحسن، والحسين، فسار بهم عبد اللَّه بن سعد إلى أن وصلوا برقة فلقيهم عقبة بن نافع (5) فيمن معه من المسلمين، وساروا إلى طرابلس الغرب في جيش عدده -[62]- 40. 000 فنهبوا من عندَها من الروم، وسار نحو شمال أفريقية وبث السرايا في كل ناحية، وكان ملكهم اسمه جرجير (Greaorius) وملكه من طرابلس إلى طنجة (6) فلما بلغه خبر المسلمين، تجهَّز وجمع العساكر وأهالي البلاد من قبائل البربر غير المدربين على القتال فبلغ عسكره 120. 000، والتقى هو والمسلمون في مكان بينه وبين سُبَيطلة يوم وليلة، وهذه المدينة كانت في ذلك الوقت دار الملك (Sujetula) ، بينها وبين القيروان سبعون ميلاً، وكان بها حصن قوي، فأقاموا هناك يقتتلون كل يوم. وراسله عبد اللَّه بن سعد يدعوه إلى الإسلام، أو الجزية فامتنع منهما وتكبَّر عن قبول أحدهما. وقيل: كان عدد جيش المسلمين 20. 000 وانقطع خبر المسلمين عن عثمان فسيَّر عبد اللَّه بن الزبير (7) في جماعة إليهم ليأتيه بأخبارهم. فسار مجدّاً ووصل إليهم، وأقام، ولما وصل كثر الصياح والتكبير في المسلمين، فسأل جرجير عن الخبر! فقيل: قد أتاهم عسكر ففت ذلك في عضده. ورأى عبد اللَّه بن الزبير قتال المسلمين كل يوم من الصباح إلى الظهر فإذا أذن بالظهر عاد كل فريق إلى خيامه وشهد القتال من الغد فلم يرَ ابن أبي سرح معهم، فسأل عنه، فقيل: إنه -[63]- سمع منادي جرجير يقول: من قتل عبد اللَّه بن سعد، فله مائة ألف دينار وأزوَّجه ابنتي، وهو يخاف. فحضر عنده (في خيمته) وقال له: تأمر منادياً ينادي من أتاني برأس جرجير نفلته مائة ألف، وزوَّجته ابنتك، واستعملته على بلاده، ففعل ذلك، فصار جرجير يخاف أشد من عبد اللَّه. ثم إن عبد اللَّه بن الزبير قال لعبد اللَّه بن سعد: إن أمرنا يطول مع هؤلاء وهم في أمداد متصلة وبلادهم لهم، ونحن منقطعون عن المسلمين وبلادهم، وقد رأيت أن نترك غداً جماعة صالحة من أبطال المسلمين في خيامهم متأهبين ونقاتل نحن الروم في باقي العسكر إلى أن يضجروا أو يملوا، فإذا رجعوا إلى خيامهم ورجع المسلمون ركب من كان في الخيام من المسلمين ولم يشهدوا القتال وهم مستريحون، ونقصدهم على غرة، فلعل اللَّه ينصرنا عليهم. فأحضر جماعة من أعيان الصحابة واستشارهم، فوافقوه على ذلك، فلما كان الغد فعل عبد اللَّه ما اتفقوا عليه، وأقام جميع شجعان المسلمين في خيامهم وخيولهم عندهم مسرجة، ومضى الباقون فقاتلوا الروم إلى الظهر قتالاً شديداً. فلما أذن بالظهر همَّ الروم بالانصراف على العادة فلم يمكنهم ابن الزبير وألح عليهم بالقتال حتى أتعبهم، ثم عاد عنهم هو والمسلمون فكل من الطرفين ألقى سلاحه ووقع تعباً فعند ذلك أخذ عبد اللَّه بن الزبير من كان مستريحاً من شجعان المسلمين وقصد الروم، فلم يشعروا بهم حتى خالطوهم وحملوا عليهم حملة رجل واحد وكبَّروا فلم يتمكن الروم من لبس السلاح حتى غشيهم المسلمون.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 5/ص 48، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 2/ص 480. (2) أسلم عبد اللَّه بن سعد قبل الفتح وهاجر إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وكان يكتب الوحي لرسول الله صلى اللَّه عليه وسلم ثم ارتد مشركاً، وسار إلى قريش بمكة فقال لهم: إني كنت أصرف محمداً حيث أريد، كان يملي عليَّ {عزيز حكيم} فأقول: أو عليم حكيم فيقول: نعم كل صواب. فلما كان يوم الفتح أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بقتله ولو وجد تحت أستار الكعبة، ففر عبد اللَّه بن سعد إلى عثمان بن عفان فتبعه عثمان حتى أتى به إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعد ما اطمأن أهل مكة فاستأمنه له فصمت رسول اللَّه طويلاً ثم قال: نعم، فلما انصرف عثمان قال رسول اللَّه لمن حوله: ما صمت إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه، فقال رجل من الأنصار: فهلا أومأت إلي يا رسول اللَّه؟ فقال: إن النبي لا ينبغي أن يكون له خائنة الأعين، وأسلم ذلك اليوم فحسن إسلامه ولم يظهر منه بعد ذلك ما ينكر عليه. (3) اللقاح: جمع اللقحة وهي الناقة الحلوب الغزيرة اللبن، وقد شبَّه مصر بها، ودرَّت أي أخرجت لبنها. [القاموس المحيط، مادة: لقح] . (4) هو نافع بن الحارث بن كلدة الثقفي الطائفي، أول من ابتنى داراً، واقتنى الخيل بالبصرة، كان من رقيق أهل الطائف أمه مولاة للحارث، واعترف الحارث أنه ولده فنسب إليه، ولما ظهر الإسلام، نزل من الطائف إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم وأسلم، شهد الحروب ثم كان مع عتبة بن غزوان حين وجهه عمر إلى الأهواز والأبله، نزل عتبة بأرض البصرة قبل أن تُبنى، فتح الأبله فوجد فيها غنائم كثيرة، فكتب بخبرها إلى عمر، وأرسل الكتاب مع نافع فسر عمر والمسلمون. للاستزادة راجع: الأخبار الطوال ص 123، الإصابة ترجمة 8654، الاستيعاب ج 3/ص 512، فتوح البلدان للبلاذري ص 359، معجم البلدان ج 2/ص 192 (5) هو عقبة بن نافع بن عبد القيس الأموي، القرشي، الفهري، فاتح من كبار القادة في صدر الإسلام، هو باني مدينة القيروان، ولد في حياة النبي صلى اللَّه عليه وسلم سنة 1 ق. هـ، ولا صحبة له، شهد فتح مصر وهو ابن خالة عمرو بن العاص، فوجهه عمرو إلى أفريقية سنة 42 هـ والياً، فافتتح كثيراً من تخوم السودان وكُوَرها في طريقه، وعلا ذكره، فولاه معاوية أفريقية سنة 50 هـ، فأوغل في بلاد أفريقية حتى أتى وادي القيروان، فأعجبه، فبنى فيه مسجداً لا يزال إلى اليوم يُعرف بجامع عقبة، وأمر من معه فبنوا فيه مساكنهم، عزله معاوية سنة 55 هـ، فعاد إلى المشرق، ولما توفي معاوية ولاه يزيد على المغرب سنة 62 هـ، فقصد القيروان وخرج منها بجيش كثيف، ففتح حصوناً ومدناً، تقدم إلى المغرب الأقصى، فبلغ البحر المحيط، وعاد فلما كان في تهودة وهي من أرض الزاب تقدمته العساكر إلى القيروان وبقي في عدد قليل، فطمع به الفرنج، فأطبقوا عليه فقتلوه ومن معه ودفن بالزاب سنة 63 هـ. للاستزادة راجع: الاستقصا ج 1/ص 36، البيان المغرب ج 1/ص 19، فتح العرب للمغرب ص 130، بغية الرواد ج 1/ص 76. (6) قال مستر ج. ب. بري الذي علَّق على كتاب جيبون في سقوط الإمبراطورية الرومانية - طبعة سنة 1911 م، ج 5/ص 490، بالهامش -: "ولا شك في أن جريجوري ثار على كوتستانس وأعلن نفسه إمبراطوراً". (7) هو عبد اللَّه بن الزبير بن العوام، القرشي، الأسدي، أبو بكر، فارس قريش في زمنه، أول مولود في المدينة بعد الهجرة ولد سنة 1 هـ، شهد فتح أفريقية زمن عثمان، بويع له بالخلافة سنة 64 هـ، عقيب موت يزيد بن معاوية، فحكم مصر، والحجاز، واليمن، وخراسان، والعراق، وأكثر الشام، وجعل قاعدة ملكه المدينة، كانت له مع الأمويين مواقع هائلة حتى سيَّروا إليه الحجاج بن يوسف الثقفي في أيام عبد الملك بن مروان، فانتقل إلى مكة، نشبت بينهما حروب انتهت بمقتل ابن الزبير بعد ما خذله أصحابه، وهو في عشر الثمانين سنة 73 هـ، كان من الخطباء المعدودين في قريش، يشبه بذلك بأبي بكر، كانت مدة خلافته تسع سنين، نقش في أيامه الدراهم وكتب على وجه "محمد رسول اللَّه" وعلى الآخر "أمر اللَّه بالوفاء والعدل"، وهو أول من ضرب الدراهم المستديرة. للاستزادة راجع: ج 4/ص 135، فوات الوفيات ج 1/ص 210، تاريخ الخميس ج 2/ص 301، حلية الأولياء ج 1/ص 329، اليعقوبي ج 3/ص 2، صفة الصفوة ج 1/ص 322، الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 7/ص 202، تهذيب ابن عساكر ج 7/ص 396، شذور العقود للمقريزي ص 6، جمهرة الأنساب ص 113.

- قتل جرجير وانهزام الروم (1) انتصر المسلمون بفضل الخطة التي دبرها عبد اللَّه بن الزبير، لأن الجيشين اعتادا القتال إلى الظهر وطرح السلاح والركون إلى الراحة بعد العناء من القتال، ثم استئناف الحرب في اليوم التالي وهكذا. ولو بقي الحال على هذا المنوال لطال أمد القتال بلا جدوى لكن عبد اللَّه رأى أن يحارب بنصف الجيش في الصباح والنصف الآخر بعد الظهر حتى لا يتمكن العدو من الراحة كما ألف. وعبد اللَّه بن الزبير بن العوام أمه أسماء بنت أبي بكر الصدَّيق ذات النطاقين - وهو أول -[64]- مولود في الإسلام بعد الهجرة - فحنكه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بتمرة لاكها في فيه، ثم حنكه بها، فكان ريق رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أول شيء دخل جوفه، وسماه عبد اللَّه، وكان صوّاماً قوّاماً، طويل الصلاة، عظيم الشجاعة. وقد أخطأ جيبون في كتابه: "سقوط الدولة الرومانية" فتوَّهم أن الذي انتصر في هذه الموقعة هو الزبير نفسه الذي تسلق حصن بابليون، والصواب أنه عبد اللَّه بن الزبير، كما ذكره ابن الأثير وابن خلدون. انهزم الروم وقتل منهم خلق كثير وقتل جرجير. قتله ابن الزبير وأخذت ابنته سبية وكانت تحارب مع أبيها وهي موصوفة بالجمال وتحسن ركوب الخيل وتجيد الرمي. وحاصر المدينة عبد اللَّه بن سعد حتى فتحها ووجد فيها من الأموال شيئاً كثيراً، وكان سهم الفارس 3000 دينار وسهم الراجل ألفاً، وقد دام القتال خمسة عشر شهراً. ولما فتح عبد اللَّه مدينة سبيطلة بثَّ جيوشه في البلاد، فبلغت قَفْصَة (2) فسبوا وغنموا، وسير عسكره إلى حصن الأجم، وقد احتمى به أهل تلك البلاد فحاصره، وفتحه بالأمان، فصالحه أهل أفريقية على 2. 500. 000 دينار (3) . ونفل عبد اللَّه بن الزبير ابنة الملك، وأرسل إلى عثمان البشارة، وكان مقام عبد اللَّه بن سعد سنة وثلاثة أشهر وذلك سنة 27 هـ، وحمل الخمس إلى المدينة فاشتراه مروان بن الحكم بمبلغ 500. 000 دينار فوضعها عنه عثمان، وكان هذا مما أُخذ عليه (4) . ومروان بن الحكم هو ابن عم عثمان، وكان مع أبيه بالطائف حتى استخلف عثمان فردهما، واستكتب عثمان مروان وضمَّه إليه. وفي ذلك بقول عبد الرحمن الكندي: سأحلف باللَّه جهد اليميـ ... ــن (اليمين) ما ترك اللَّه أمراً سدى ولكن خلقت لنا فتنة ... لكي نبتلي بك أو تبتلي دعوت اللعين فأدنيته ... خلافاً لسنة من قد مضى وأعطيت مروان خمس العبا ... د (العباد) ظلماً لهم وحميت الحمى كان بيع خمس الغنائم لمروان (5) مما أخذ على عثمان رضي اللَّه عنه: -[65]-. أولاً: لأن مروان ابن عمه. ثانياً: لأنه لا يُعلم على أي أساس قدر الخمس بهذا المبلغ فقد يساوي أضعاف ذلك. ثالثاً: لأن عثمان هو الذي دفع المبلغ. رابعاً: لأنه لم تجر سنة رسول اللَّه وأبي بكر وعمر ببيع الغنائم لا إلى غريب، ولا إلى قريب، بل كانت توزع على المسلمين في الحال. أما ابن الزبير فإنه رجع إلى عثمان بالبشارة بفتح أفريقية ومعه ابنة جرجير. وقيل: بل وقعت لرجل آخر من الأنصار.

_ (1) ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 2/ص 484. (2) قَفْصَة: هي بلدة صغيرة بينها وبين القيروان ثلاثة أيام. (3) وقيل بذلوا له 300 قنطار من الذهب. (4) ابن كثير، البداية والنهاية ج 7/ص 152. (5) ذكر ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 2/ص 484: "وحمل خُمس أفريقية إلى المدينة فاشتراه مروان بن الحكم بخمسمائة ألف دينار، فوضعها عنه عثمان، وكان هذا مما أُخذ عليه".

- فتح قبرص (1) (سنة 28 هـ/ 649 م) : قبرص (2) من أكبر جزائر البحر الأبيض المتوسط في أقصى شرقيه، وهي جزيرة جبلية بها سلسلتان من الجبال. يشتغل أهلها بالزراعة وأرضها خصبة جداً، وكانت تابعة للإمبراطورية الرومانية. كان فتح قبرص على يد معاوية سنة 28 هـ غزاها في هذه السنة، وغزاها معه جماعة من الصحابة، فيهم أبو ذر (3) ، -[66]- وعبادة بن الصامت (4) ، ومعه زوجته أم حرام (5) ، وأبو الدرداء (6) ، وشداد بن أوس (7) . واستعمل عليهم عبد اللَّه بن قيس الحارثي (8) . وكان معاوية قد ألحَّ على عمر بن الخطاب في غزو -[67]- البحر لقرب الروم من حمص. وقال: إن قرية من قرى حمص ليسمع أهلها نُباح كلابهم وصياح دجاجهم. فكتب عمر إلى عمرو بن العاص: صف لي البحر وراكبه. فكتب إليه عمرو بن العاص: "إني رأيت خلقاً كبيراً يركبه خلق صغير ليس إلا السماء والماء. إن ركد خرق القلوب وإن تحرك أزاغ العقول. يزاد فيه اليقين قلة. والشك كثرة. وهم فيه كدود على عود إن مال غرق وإن اعتدل برق" (9) . فلما قرأ الكتاب عمر كتب إلى معاوية: "والذي بعث محمداً صلى اللَّه عليه وسلم بالحق لا أحمل فيه مسلماً أبداً، وقد بلغني أن بحر الشام يشرف على أطول شيء من الأرض فيستأذن اللَّه في كل يوم وليلة أن يغرق الأرض!! فكيف أحمل الجنود على هذا الكافر باللَّه، لمسلم أحب إليَّ مما حوت الروم وإياك أن تعرض إليَّ فقد علمت ما لقي العلاء مني" (10) . إن هذا الكتاب غريب فإنه يدل على أن العرب كانوا يخشون البحر، وقد حسبه عمر خطراً يهدد الأرض بالغرق كل يوم وليلة واعتبره كافراً. وعلى كل حال كان عمر رضي اللَّه عنه يكره أن يجازف بالمسلمين في البحر. فلما كان زمن عثمان رضي اللَّه عنه كتب إليه معاوية يستأذنه في غزو البحر وألحَّ عليه في ذلك. وأخيراً أجابه عثمان. ولكنه احتاط فلم يجعل التجنيد إجبارياً بل جعله اختيارياً حيث قال: "لا تنتخب الناس ولا تقرع بينهم. خيِّرهم، فمن اختار الغزو طائعاً فاحمله وأعنه". وبهذه نراه أجاب معاوية من جهة، ومن جهة أخرى لم يجازف بإرسال المسلمين، فجعل التجنيد -[68]- اختيارياً حتى إذا ما هزموا لم يكن ملوماً، والظاهر أنه كان لا يزال متأثراً برأي عمر من حيث تخوفه من البحر. فأول أسطول جهزه المسلمون كان لغزو قبرص سنة 28 هـ تحت قيادة عبد اللَّه بن قيس، وسار إليها عبد اللَّه بن سعد من مصر بسفن أقلعت من الإسكندرية فاجتمعوا غليها فصالحهم أهلها على جزية 7000 دينار كل سنة (11) يؤدون إلى الروم مثلها ولا منعة لهم على المسلمين ممن أرادهم من سواهم، وعلى أن يكونوا عوناً للمسلمين على عدوهم ويكون طريق الغزو للمسلمين عليهم. وعلى ذلك أخذت قبرص بسهولة فقد كانت الحامية المسيحية فيها ضعيفة. وقيل: إن عبد اللَّه بن قيس غزا في البحر خمسين غزوة بين شاتية وصائفة، ولم يغرق فيه أحد، ثم إنه قتل عندما كان مشتغلاً بكشف مرفأ في الروم، إذ خرج في قارب طليعة، فانتهى إلى المرفأ من أرض الروم، فعرفوه وقتلوه، ذلك في آخر زمان عبد اللَّه بن قيس الحارثي. وفي هذه الغزوة ماتت أم حرم بيت ملحان الأنصارية زوجة عبادة بن الصامت. ألقتها بغلتها بجزيرة قبرص فاندقت عنقها فماتت تصديقاً للنبي صلى اللَّه عليه وسلم. وقد كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يكرمها ويزورها في بيتها ويقيل عندها، وأخبرها أنها شهيدة. ففي ذات يوم نام في بيتها فاستيقظ وهو يضحك وقال: "عُرض عليَّ ناس من أمتي يركبون ظهر البحر الأخضر كالملوك على الأسرة". فقالت: يا رسول اللَّه ادع اللَّه أن يجعلني منهم. قال: "إنك منهم". ثم نام فاستيقظ وهو يضحك فقالت: يا رسول اللَّه ما يضحكك؟! قال: "عُرض عليَّ ناس من أمتي يركبون ظهر البحر الأخضر كالملوك على الأسرة". قالت: يا رسول اللَّه ادع اللَّه أن يجعلني منهم. قال: أنت من الأولين" (12) . فتزوجها عبادة بن الصامت فأخرجها معه، فلما جاز البحر ركبت دابة فصرعتها فقتلتها وقد دفنت رحمها اللَّه في قبرص. وفي هذه السنة 28 هـ تزوج عثمان نائلة ابنة الفرافصة، وكانت نصرانية فأسلمت قبل أن يدخل بها (13) . وسيأتي لها ذكر عند مقتل عثمان رضي اللَّه عنه. وفيها بنى عثمان داره بالمدينة المسماة بالزوراء وفرغ منها.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 600، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 2/ص 488، السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 123: "وفي سنة سبع وعشرين هجرية غزا معاوية قُبْرُس"، الذهبي، تاريخ الإسلام ج 3/ص 325. (2) وهي عند الطبري في تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 600، وابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 2/ص 488، والسيوطي، تاريخ الخلفاء ص 123، والذهبي في تاريخ الإسلام ج 3/ص 325: "قُبْرُس" بالسين، والمؤلف هنا أوردها بالصاد. (3) أبو ذر الغفاري هو جندب بن جُنادة بن سفيان بن عبيد، من بني غفار، من كنانة بن خزيمة، أبو ذر، صحابي من كبارهم، قديم الإسلام، يقال: أسلم بعد أربعة وكان خامساً، يضرب به المثل في الصدق، هو أوَّل من حيَّا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بتحية الإسلام، هاجر بعد وفاة النبي صلى اللَّه عليه وسلم إلى بادية الشام، فأقام إلى أن توفي أبو بكر وعمر وولي عثمان، فسكن دمشق وجعل ديدنه تحريض الفقراء على مشاركة الأغنياء في أموالهم، فاضطرب هؤلاء، فشكاه معاوية - وكان والي الشام - إلى عثمان الخليفة، فاستقدمه الأخير إلى المدينة، فاستأنف على نشر رأيه، فأمره عثمان بالرحيل إلى الربذة وهي قرية من قرى المدينة، فسكنها إلى أن مات سنة 32 هـ، ولمَّا مات لم يكن في داره ما يكفَّن به وذلك لأنه كان كريماً لا يخزن من المال قليلاً ولا كثيراً، ولعل أول اشتراكي طاردته الحكومات. في اسمه واسم أبيه خلاف. للاستزادة راجع: طبقات ابن سعد ج 4/ص 161، الإصابة ج 7/ص 60، صفة الصفوة ج 1/ص 238، حلية الأولياء ج 1/ص 156، ذيل المذيّل ص 27، الذريعة ج 1/ص 316، الكنى والأسماء ج 1/ص 28. (4) عبادة بن الصامت الأنصاري الخزرجي، شهد العقبة الأولى والثانية، وكان نقيباً على قوافل بني عوف بن الخزرج، وآخى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بينه وبين أبي مرئد الغنوي، وشهد بدراً، وأحداً، والمشاهد كلها مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، واستعمله على بعض الصدقات، وكان يُعلِّم أهل الصفة القرآن، ولما فتح المسلمون الشام، أرسله عمر بن الخطاب، وأرسل معه معاذ بن جبل، وأبا الدرداء ليعلموا الناس القرآن ويفقِّهوهم في الدين، وأقام عبادة بحمص وكان طويلاً جسيماً جميلاً. (5) هي أم حرام بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام الأنصارية، الخزرجية، وهي خالة أنس بن مالك رضي اللَّه عنه وزوجة عبادة بن الصامت رضي اللَّه عنه، توفيت بقبرس سنة 27 هـ ودفنت بها. ابن الأثير، الكامل في التاريخ ص 489 الهامش رقم (1) . (6) هو عويمر بن مالك بن قيس بن أمية، الأنصاري، الخزرجي، أبو الدرداء، وهو مشهور بهذا الاسم، المتوفى سنة 32 هـ، صحابي، من الحكماء والفرسان القضاة، كان قبل البعثة تاجراً، ثم انقطع للعبادة، اشتهر بالشجاعة والنسك، هو أوَّل قاضٍ في الشام، ولاه معاوية بأمر من عمر، قال ابن الجزري: "كان من العلماء الحكماء، وهو أحد الذين جمعوا القرآن، حفظاً على عهد النبي صلى اللَّه عليه وسلم بلا خلاف. للاستزادة راجع: الإصابة ج 1/ص 11، حلية الأولياء ج 1/ص 167، الاستيعاب ج 3/ص 250، التاج ج 2/ص 300، غاية النهاية ج 1/ص 260، صفة الصفوة ج 1/ص 57، حُسن الصحابة 110، تاريخ الإسلام للذهبي ج 2/ص 123، الكوكب الدرية ج 1/ص 260، تهذيب التهذيب ج 8/ص 160، تاريخ البخاري الكبير ج 7/ص 177، الثقات ج 3/ص 168، أُسد الغابة ج 4/ص 200، تجريد أسماء الصحابة ج 1/ص 300، طبقات ابن سعد ج 2/107. (7) هو شداد بن أوس بن ثابت الخزرجي، الأنصاري، أبو يعلى، صحابي من الأمراء، ولاه عمر ولاية حمص، لما قُتل عثمان اعتزل، وعكف على العبادة، كان فصيحاً، حليماً، حكيماً، قال أبو الدرداء: "لكل أمة فقيه، وفقيه هذه الأمة شداد بن أوس". توفي في القدس سنة 58 هـ، عن 75 سنة. له في كتب الحديث روايات. للاستزادة راجع: تهذيب الكمال ج 1/ص 573، تهذيب التهذيب ج 1/ص 347، خلاصة تهذيب الكمال ج 1/ص 444، الكاشف ج 2/ص 5، الثقات ج 2/ص 185، أُسد الغابة ج 2/ص 547، تجريد أسماء الصحابة ج 1/ص 253، الاستيعاب ج 2/ص 694، الإصابة ج 3/ص 319، طبقات ابن سعد ج 2/ص 374، صفة الصفوة ج 1/ص 296، حلية الأولياء ج 1/ص 264. (8) هو عبد اللَّه بن قيس الحارثي، حليف بني فزارة، أمير البحر في صدر الإسلام، كان مقيماً في الشام، أراد معاوية غزو قبرس فولاه قيادة الغزاة سنة 27 هـ فتقدم يريدها فالتقى بعبد اللَّه بن سعد قادماً في غزو مصر، فصالحهما أهل قبرس على سبعة آلاف دينار يؤدونها كل سنة، غزا خمسين غزاة، صيفاً وشتاءً، ولم يغرق من جيشه أحد، ولم ينكب، قتله الروم وهو يطوف في أحد المرافئ متخفَّياً، دلَّتهم عليه امرأة كانت تتسوَّل فأعطاها، فعرفته فراسة. للاستزادة راجع: الكامل لابن الأثير ج 3/ص 37، الإصابة ترجمة 6335. (9) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 600، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 2/ص 488. (10) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 600، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 2/ص 488. (11) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 601، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 2/ص 489. (12) رواه أحمد في (م 6/ص 361) . (13) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 603.

- عزل أبي موسى الأشعري عن البصرة وتولية عبد اللَّه بن عامر (1) (سنة 29 هـ/ 650 م) -[70]-. عزل عثمان رضي اللَّه عنه في سنة 29 هـ أبا موسى الأشعري عن البصرة لثلاث سنين مضت من خلافته. وولى عبد اللَّه بن عامر بن كريز (2) وهو ابن خاله (3) . وكان سبب عزل أبي موسى أن أهل ايْذَج (4) ، والأكراد كفروا، فنادى أبو موسى في الناس وحضَّهم وندبهم، وذكر من فضل الجهاد في الرُّجلة (5) حتى حمل نفر على دوابهم وأجمعوا على أن يخرجوا رجالاً (6) . وقال آخرون: لا واللَّه لا نعجل بشيء حتى ننظر ما يصنع، فإن أشبه قوله فعله فعلنا كما يقول، فلما خرج أخرج ثقله (7) من قصره على أربعين بغلاً، فتعلقوا بعنانه وقالوا: احملنا على بعض هذه الفضول وارغب في المشي كما رغَّبتنا، فضرب القوم بسوطه، فتركوا دابته فمضى، وأتوا عثمان فاستعفوه منه، وقالوا: ما كل ما نعلم نحب أن نقوله فأبدلنا نه. فقال: من تحبون؟ فقالوا: غيلان بن خرشة، في كل أحد عوض من هذا العبد الذي قد أكل أرضاً وأحيا أمر الجاهلية فينا. أما منكم خسيس فترفعوه! أما منكم فقير فتجبروه! يا معشر قريش حتى -[71]- يأكل هذا الشيخ الأشعري هذه البلاد؟ فانتبه لها عثمان فعزل أبا موسى وولَّى عبد اللَّه بن عامر، فلما سمع أبو موسى قال: يأتيكم غلام عمر، خراج، ولاَّج، كريم الجدات، والخالات، والعمات، يجمع له الجندان، وكان عمر عبد اللَّه خمساً وعشرين سنة، وجمع له جند أبي موسى، وجند عثمان بن أبي العاص الثقفي (8) من عمان والبحرين، واستعمل على خراسان عمير بن عثمان بن سعد (9) ، وعلى سجستان عبد اللَّه بن عمير الليثي وهو من ثعلبة، فأثخن فيها إلى كابل، وأثخن عمير في خراسان حتى بلغ فرغانة لم يدع دونها كورة إلا أصلحها، وبعث إلى مكران عبيد اللَّه بن معمر (10) ، فأثخن فيها حتى بلغ النهر، وبعث إلى كرمان عبد الرحمن بن -[72]- عبيس، وبعث إلى الأهواز وفارس نفراً، ثم عزل عبد اللَّه بن عمير، واستعمل عبد اللَّه بن عامر فأقره عليها سنة، ثم عزله واستعمل عاصم بن عمرو (11) وعزل عبد الرحمن بن عبيس وأعاد عدي بن سهيل بن عدي (12) ، وصرف عبيد اللَّه بن معمر إلى فارس، واستعمل مكانه عمير بن عثمان، واستعمل على خراسان أمير (13) بن أحمر اليشكري، واستعمل على سجستان سنة أربع عمران بن الفضيل البرجمي، ومات عاصم بن عمرو بكرمان (14) .

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 604، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 2/ص 491. (2) هو عبد اللَّه بن عامر بن كُريز بن ربيعة، الأموي، أبو عبد الرحمن، أمير فاتح، ولد بمكة سنة 4 هـ، ولي البصرة أيام عثمان سنة 29 هـ، فوجَّه جيشاً إلى سجستان فافتتحها صلحاً، وافتتح الدوار وغيرها، قُتل عثمان وهو على البصرة، شهد وقعة الجمل ولم يحضر صفِّين، ولاه معاوية البصرة ثلاث سنين بعد اجتماع الناس على خلافته، ثم صرفه منها، فأقام في المدينة ومات بمكة سنة 59 هـ، دفن بعرفات، كان شجاعاً، سخياً، وصولاً لقومه، رحيماً، محباً للعمران، هو أول من اتخذ الحياض بعرفة، وأجرى إليها العين، وسقى الناس الماء، قال الإمام عليّ: "ابن عامر سيد فتيان قريش"، ولما بلغ معاوية نبأ وفاته قال: "يرحم اللَّه أبا عبد الرحمن، بمن نفاخر ونباهي". للاستزادة راجع: تاريخ الإسلام للذهبي ج 2/ص 266، طبقات ابن سعد ج 5/ص 30، البدء والتاريخ ج 5/ص 109، أشهر مشاهير الإسلام ص 854، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 206. (3) ابن كثير، البداية والنهاية ص 154. (4) أيذج: كورة وبلد بين خوزستان وأصبهان، وهي في وسط الجبال، يقع بها ثلج كثير، زرعهم على الأمطار، لهم بطيخ كثير، وهي كثيرة الزلازل، وبها معادن كثيرة، وبها بيت نار قديم كان يوقد إلى أيام الرشيد. (5) الرُّجْلة: القوة على المشي. [القاموس المحيط، مادة: رَجَلَ] . (6) رجالاً: أي ماشين. [القاموس المحيط، مادة: رَجَلَ] . (7) ثقله: أمتعته وأثقاله كلها. (8) هو عثمان بن أبي العاص بن بشر بن عبد بن دهمان أبو عبد اللَّه، الثقفي، من أهل الطائف، أسلم في وفد ثقيف، استعمله النبي صلى اللَّه عليه وسلم على الطائف، فبقي في عمله لأيام عمر، المتوفى سنة 51 هـ، وهو الذي منع ثقيفاً عن الردَّة، خطبهم فقال: "كنتم آخر الناس إسلاماً فلا تكونوا أولهم ارتداداً". للاستزادة راجع: طبقات ابن سعد ج 5/ص 66، جمهرة الأنساب ص 118، تهذيب التهذيب ج 7/ص 67، تقريب التهذيب ج 2/ص 90، خلاصة تهذيب الكمال ج 2/ص 13، الكاشف ج 2/ص 55، تاريخ البخاري الكبير ج 6/ص 80، تاريخ البخاري الصغير ج 1/ص 112، الجرح والتعديل ج 6/ص 200، البداية والنهاية ج 8/ص 155، الثقات ج 3/ص 301، أُسد الغابة ج 3/ص 267، تجريد أسماء الصحابة ج 1/ص 310، الإصابة ج 4/ص 225، الاستيعاب ج 3/ص 112، سير الأعلام ج 2/ص 11، أسماء الصحابة الرواة ترجمة ص 95. (9) هو عمير بن سعد بن عبيد الأوسي، الأنصاري، صحابي من الولاة الزُّهَّاد، وكان عمر يقول: "وددت أن لي رجالاً مثل عمير بن سعد أستعين بهم على أعمال المسلمين". وفي تقريب التهذيب: "كان عمر بن الخطاب يسميه "نسيج وحده" وهي كلمة تطلق على الفائق". للاستزادة راجع: الإصابة ترجمة 6038، صفة الصفوة ج 1/ص 280، حلية الأولياء ج 1/ص 85، تهذيب الكمال ج 2/ص 76، تهذيب التهذيب ج 8/ص 165، تقريب التهذيب ج 2/ص 260، خلاصة تهذيب الكمال ج 2/ص 300، تعجيل المنفعة ج/ص 400، تاريخ البخاري الكبير ج 6/ص 110، تاريخ البخاري الصغير ج 1/ص 200، الجرح والتعديل ج 6/ص 371، الثقات ج 3/ص 153، أُسد الغابة ج 2/ص 250، الاستيعاب ج 3/ص 201. (10) هو عبد اللَّه بن معمر بن عثمان التيمي القرشي، أمير من القادة الشجعان الأشداد، ومن أجواد قريش، ولاه عثمان بن عفان قيادة جيش الفتح في أطراف اصطخر، ونشبت معارك استشهد في إحداها، وبلغ من قوته أنه كان يأخذ عظم البقر الشديد الذي لا يكسر إلا بالفؤوس فيكسره بيده ويأخذ مخَّه. للاستزادة راجع: الإصابة ترجمة 5319، ابن الأثير، الكامل في التاريخ أحداث سنة 23. (11) هو عاصم بن عمرو التميمي، أحد الشعراء الفرسان، من الصحابة، له أخبار وأشعار في فتوح العراق، أبلى في القادسية البلاء الحسن. للاستزادة راجع: الإصابة ترجمة 4349. (12) هو عدِّي بن حاتم بن عبد اللَّه بن سهيل بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي بن أحزم بن ربيعة بن جرول بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيئ، أبو طريف، الطائي، المتوفى سنة 68 هـ وله من العمر 120 سنة، صحابي شهير ممن ثبت على الإسلام وحضر فتوح العراق وحروب علي. للاستزادة راجع: تهذيب الكمال ج 2/ص 120، تهذيب التهذيب ج 7/ص 282، تقريب التهذيب ج 2/ص 10، خلاصة تهذيب الكمال ج 2/ص 311، الكاشف ج 2/ص 111، تعجيل المنفعة ج 1/ص 16، تاريخ البخاري الكبير ج 7/ص 220، تاريخ البخاري الصغير ج 1/ص 301، الجرح والتعديل ج 7/ص 265، الثقات ج 3/ص 110، أُسد الغابة ج 4/ص 225، تجريد أسماء الصحابة ج 1/ص 312، الإصابة ج 4/ص 65، الاستيعاب ج 3/ص 200، أسماء الصحابة الرواة ترجمة 49، طبقات ابن سعد ج 1/ص 209. (13) ورد في الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 605: "أمين"، وفي ابن الأثير، الكامل في التاريخ: "أُمَيْر". (14) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 605، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 2/ص 492.

- عثمان رضي اللَّه عنه يصلي بمِنَى صلاة المقيم (1) (سنة 29 هـ/ 650 م) : صلى عثمان بالناس بمنى أربعاً، فأتى آتٍ عبد الرحمن بن عوف فقال: هل لك في أخيك؟ قد صلى بالناس أربعاً. فصلى عبد الرحمن بأصحابه ركعتين، ثم خرج حتى دخل على عثمان فقال له: ألم تصلِّ في هذا المكان مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ركعتين؟ قال: بلى. قال: أفلم تصلِّ مع أبي بكر ركعتين؟ قال: بلى. قال: أفلم تصلِّ مع عمر ركعتين؟ قال: بلى. قال: ألم تصلِّ صدراً من خلافتك ركعتين؟ قال: بلى. ثم قال: فاسمع مني يا أبا محمد، إني أخبرت أن بعض من حج -[73]- من أهل اليمن وجفاة الناس قد قالوا في عامنا الماضي: إن الصلاة للمقيم ركعتان، هذا إمامكم عثمان يصلي ركعتين وقد اتخذت بمكة أهلاً فرأيت أن أصلي أربعاً لخوف ما أخاف على الناس، وأخرى قد اتخذت بها زوجة ولي بالطائف مال، فربما أطلعته فأقمت بعد الصدر. فقال عبد الرحمن بن عوف: ما من هذا شيء لك فيه عذر. أما قولك: اتخذت أهلاً فزوجتك في المدينة تخرج بها إن شئت، وتقدم بها إذا شئت إنما تسكن بسكناك. وأما قولك: ولي مال بالطائف، فإن بينك وبين الطائف مسيرة ثلاث ليال، وأنت لست من أهل الطائف. وأما قولك: يرجع من حج من أهل اليمن وغيرهم فيقولون هذا إمامكم عثمان يصلي ركعتين وهو مقيم، فقد كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ينزل عليه الوحي والناس يومئذٍ الإسلام فيهم قليل، ثم أبو بكر مثل ذلك، ثم عمر. فضرب الإسلام بجرانه فصلى بهم عمر حتى مات ركعتين. فقال عثمان: هذا رأي رأيته.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 606، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 2/ص 494.

- موقعة الصواري (1) (سنة 31 هـ/ 652 م) : بعد ثلاث سنين من سقوط قبرص في يد المسلمين خرج الروم في جمع لم يجتمع مثله لهم قط منذ كان الإسلام فخرجوا في أسطول مؤلف من 500 سفينة، وقيل أكثر. وتحدُّوا المسلمين وعليهم عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح الذي جهز كل سفينة في مصر، وكانت مراكب المسلمين مائتي مركب ونيفاً، واختار جيشاً من الشجعان، فأمن الفريقان بعضهم بعضاً حتى قرنوا بين سفن المسلمين والروم بين صواريها، وكانت الريح هبَّت فرست السفن على الشاطئ، وربط المسلمون السفن بعضها إلى ببعض بالقرب من الإسكندرية، واشتبك القتال بين الفريقين ووثب الرجال على الرجال يتضاربان بالسيوف على السفن حتى رجعت الدماء إلى الساحل تضربها الأمواج وطرحت الأمواج جثث الرجال فقتل من المسلمين بشر كثير وقتل من الروم عدد كثير أيضاً، وصبروا يومئذ صبراً لم يصبروا مثله في موطن قط. وفي النهاية عجز الروم عن مقاومة المسلمين لشجاعتهم وحسن بلائهم، وانهزموا، وفرَّ قائدهم إلى سرقوسة (Syracause) وهي أكبر مدينة بجزيرة صقلية (2) (Scile) .

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 618، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 13، ابن كثير، البداية والنهاية ج 7/ص 157. (2) صِقِلِّية: بثلاث كسرات وتشديد اللام والياء أيضاً مشدَّدة، وبعضهم يقول: بالسين، وأكثر أهل صقلّية يفتحون الصاد واللام، وهي من جزائر البحر الأبيض المتوسط، مثلثة الشكل، خصيبة وبها مدينة بلرم. ذكر ابن حمديس صقلية في شعره فقال: ذكرت صقلية والهوى ... بهيج للنفس تذكارها فإن كنت أخرجت من جنة ... فإني أحدث أخبارها ولمَّا فتحها المسلمون عمروها، وأحسنوا عمارتها بعد أن كانت خاملة، وفيها كثير من الفواكه.

- من هو قائد الروم في موقعة الصواري (1) ؟ -[74]-. جاء في تاريخ الطبري وصف معركة الصواري وذكر قائد الروم كما يلي (2) : "فلقوا جموع الروم في خمسمائة أو ستمائة فيها القسطنطين بن هرقل فقال: أشيروا عليَّ. قالوا: ننظر الليلة، فباتوا يضربون بالنواقيس، وبات المسلمون يصلون ويدعون اللَّه، ثم أصبحوا وقد أجمع القسطنطين أن يقاتل، فقربوا سفنهم، وقرب المسلمون، فربطوا بعضها إلى بعض، وصف عبد اللَّه بن سعد المسلمين على نواحي السفن، وجعل يأمرهم بقراءة القرآن، ويأمرهم بالصبر، ووثب الروم في سفن المسلمين على صفوفهم حتى نقضوها فكانوا يقاتلون على غير صفوف. فاقتتلوا قتالاً شديداً. ثم إن اللَّه نصر المؤمنين فقتلوا منهم مقتلة عظيمة لم ينج من الروم إلا الشريد". فأنت ترى أن اسم القائد الروماني في موقعة الصواري كما ذكره الطبري (3) "القسطنطين بن هرقل"، وذكره ابن الأثير (4) في تاريخه بدون أداة تعريف "قسطنطين". واكتفى الأستاذ موير (5) في كتابه (الخلافة ص 206 طبعة سنة 1924) بقوله: "إن قائد الروم أبحر إلى سرقوسة، وهنالك غضب عليه أهلها لانهزامه وعجلوا بقتله في حمامه" وكتب في الهامش: إن كنستانس الثاني - بناء على رأي تيوفان - هو الذي قتل بهذه الكيفية. وقال الأستاذ واشنجتون [واشنطون] ايرفنج (6) : "إن الإمبراطور فرَّ بالمراكب". والحقيقة أن قائد الروم في -[75]- موقعة الصواري هو كنستانس الثاني الذي ذكره مؤرخو العرب باسم قسطنطين، وكان هذا الإمبراطور يلقب بـ: "هرقل" وسمي عند تتويجه بـ: "قسطنطين"، إلا أن تيوفان يسميه "كنستانس" وهو معروف بكنستانس الثاني واسمه الرسمي "قسطنطين" فهو بالضبط كنستانس الثاني ابن قسطنطين الثالث ابن هرقل، وكان موله سنة 630 م. وذكرت دائرة المعارف البريطانية في الطبعة الأخيرة: "أنه قتل في الحمام من غير أن تذكر أسباب قتله". وجاء في المقريزي: "فبعث اللَّه عليهم ريحاً فغرقتهم إلا قسطنطين، فإنه نجا بمركبه، فألقته الريح بصقلية. فسألوه عن أمره، فأخبرهم. فقالوا: شتتت النصرانية، وأفنيت رجالها. ولو دخلت العرب علينا لم نجد من يردهم. فقال: خرجنا مقتدرين فأصابنا هذا. فصنعوا له الحمام ودخلوا عليه. فقال: ويلكم يذهب رجالكم وتقتلون ملككم! قالوا: كأنه غرق معهم، ثم قتلوه، وخلوا من كان معه في المركب. وفي هذه السنة - 31 هـ - غزا عبد اللَّه غزوة الأساود حتى بلغ دنقلة.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 618، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 14. (2) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 619. (3) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 618. (4) ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 13. (5) هو وِلْيَم مُوِير (1234 هـ - 1323 هـ، 1819 م - 1905 م) مستشرق بريطاني من أصل اسكتلندي، أمضى حياته في خدمة الحكومة البريطانية، بالهند، دخل البنغال وعمل في الاستخبارات، تعلم الحقوق في جامعتي (جلاسجو وايدنبرج) وكان سكرتيراً لحكومة الهند سنة 1865- 1868 م، ثم عُيِّن مديراً لجامعة ايدنبرج سنة 1885- 1902 م، له: شهادة القرآن لكتب أنبياء الرحمن، السيرة النبوية، تاريخ الخلافة الإسلامية، تاريخ دولة المماليك في مصر، وله مقالات في شعراء العرب. (6) إيرفينغ واشنطن (1783 م - 1859 م) أديب أميركي، من رواد الأدب في أميركا الشمالية. للاستزادة راجع: المنجد في اللغة والأعلام.

- بدء الطعن على عثمان رضي اللَّه عنه (1) : أقام عبد اللَّه بن سعد بذات الصَّوَاري بعد الهزيمة أياماً، ورجع فكان أول ما تكلم به "محمد بن أبي حذيفة ومحمد بن (2) أبي بكر (3) " في أمر عثمان في هذه الغزوة، وأظهروا عيبه، -[76]- وما غيَّر وما خالف به أبا بكر وعمر، ويقولان: إنه استعمل عبد اللَّه بن سعد رجلاً كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قد أباح دمه، ونزل القرآن بكفره، وأخرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قوماً وأدخلهم. ونزع أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. واستعمل سعيد بن العاص (4) وابن عامر. فبلغ ذلك عبد اللَّه بن سعد فقال: ألا تركبا معنا؟ فركبا في مركب ما معهما إلا القبط، فلقوا العدو، فكانا أقل المسلمين نكاية وقتالاً، فقيل لهما في ذلك، فقالا: كيف نقاتل مع عبد اللَّه بن سعد، استعمله عثمان وعثمان فعل كذا وكذا؟ فأرسل إليهما عبد اللَّه ينهاهما، ويتهددهما، ففسد الناس بقولهما، وتكلموا ما لم يكونوا ينطقون به. وروي أن محمد بن أبي حذيفة جعل يقول للرجل: أما واللَّه لقد تركنا خلفنا الجهاد حقاً، فيقول الرجل: وأيّ جهاد، فيقول: عثمان بن عفان فعل كذا وكذا. واستحل كلاهما دم عثمان. ولد محمد بن أبي حذيفة بأرض الحبشة على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو ابن خال معاوية بن أبي سفيان أخذه عثمان بن عفان عنده بعد أن قتل أبوه حذيفة فكفله إلى أن كبر، ثم سار إلى مصر فصار من أشد الناس تأليباً على عثمان -[77]-. وأما محمد بن أبي بكر فقد ولد في حجة الوداع بذي الحليفة لخمس بقين من ذي العقدة، والذي دعا محمد بن أبي حذيفة إلى الخروج على عثمان أنه كان يتيماً في حجر عثمان، فسأله عثمان العمل حين ولي، فقال: يا بني لو كنت رضًى، ثم سألتني العمل لاستعملتك، ولكن لست هناك. قال: فأذن لي فلأخرج فلأطلب ما يقوتني. قال: اذهب حيث شئت، وجهَّزه من عنده، وحمله وأعطاه، فلما وقع إلى مصر كان فيمن تغير عليه أن منعه الولاية. ثم إن الذي دعا محمد بن أبي بكر إلى الطعن في عثمان أن محمداً كانت عليه دالة، فلزمه حق، فأخذه عثمان من ظهره ولم يُدْهِن فاجتمع هذا إلى هذا فصار مذمماً بعد أن كان محمداً.

_ (1) المسعودي، مروج الذهب ج 2/ص 347. (2) هو محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن مناف، صحابي من الأمراء، ولد بأرض الحبشة في عهد النبوة، استشهد أبوه يوم اليمامة، فربَّاه عثمان بن عفان، فلما شَبَّ رغب في غزو البحر فجهزه عثمان وبعثه إلى مصر، فغزا غزوة الصواري مع عبد اللَّه بن سعد، ولما عاد منها جعل يتألف الناس، وأظهر خلاف عثمان، فرأسوه عليهم، فوثب على والي مصر عقبة بن عامر سنة 35 هـ. وأخرجه من الفسطاط، دعا إلى خلع عثمان، فكتب إليه يذَّكره بتربيته له ويعاتبه، فلم يرتجع، سيَّر جيشاً إلى المدينة فيه ستمائة رجل كانت لهم يد في مقتل عثمان، أقره عليٌّ على إمارة مصر، ولما أراد معاوية الخروج إلى صفِّين بدأ بمصر، فقاتله محمد في العريش، ثم تصالحا، فاطمأن محمد، فلم يلبث معاوية أن قبض عليه وسجنه في دمشق، ثم أرسل إليه من قتله في السجن سنة 36 هـ. للاستزادة راجع: الإصابة ترجمة 7769. (3) هو محمد بن عبد اللَّه (أبو بكر الصديق) بن عثمان بن عامر التميمي القرشي، أمير مصر، وهو ابن الخليفة الأول أبو الصديق كان يدعى: "عابد قريش" ولد بين المدينة ومكة في حجة الوداع، نشأ في المدينة في حجر علي بن أبي طالب - وكان قد تزوج أمه أسماء بنت عميس بعد وفاة أبيه - وشهد مع علي وقعتي الجمل وصفِّين، وولاه على إمارة مصر، بعد موت الأشتر، فدخلها سنة 37 هـ. ولما اتفق علي ومعاوية على التحكيم فات علياً أن يشترط على معاوية أن لا يقاتل أهل مصر، انصرف علي يريد العراق، فبعث معاوية عمرو بن العاص بجيش من أهل الشام إلى مصر، فدخلها حرباً، بعد معارك شديدة، واختفى ابن أبي بكر، فعرف معاوية بن خديج مكانه، فقبض عليه وقتله وأحرقه لمشاركته في مقتل عثمان بن عفان، وقيل: لم يحرق. دفنت جثته مع رأسه في مسجد يعرف بمسجد زمام خارج مدينة الفسطاط. للاستزادة راجع: الولاة والقضاة ص 26، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 140، الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 6/ص 53، ابن إياس ج 1/ص 26. (4) هو سعيد بن العاص بن أمية، الأموي، القرشي، ولد سنة 3 هـ، صحابي من الأمراء، الولاة، الفاتحين، ربيَّ في حجر عمر بن الخطاب، ولاه عثمان الكوفة وهو شاب، فلما بلغها خطب في أهلها ونسبهم إلى الشقاق والخلاف، فشكوه إلى عثمان، فاستدعاه إلى المدينة فأقام فيها إلى أن كانت الثورة عليه، فدافع سعيد عنه وقاتل دونه إلى أن قتل عثمان، فخرج إلى مكة، فأقام إلى أن ولي معاوية، فعهد إليه بولاية المدينة، فتولاَّها إلى أن مات، وهو أحد الذين كتبوا المصحف لعثمان، توفي سنة 59 هـ، حسب قول الذهبي في تاريخ الإسلام، حوادث سنة 59 هـ. للاستزادة راجع: الإصابة ترجمة 3261، طبقات ابن سعد ج 5/ص 19، تهذيب ابن عساكر ج 6/ص 131، تاريخ الإسلام ج 2/ص 266، آثار المدينة المنورة للأنصاري ص 37.

- عزل الوليد بن عقبة عن الكوفة (1) : كان للكوفة شأن عظيم، وتأثير في مجرى الحوادث في ذلك الوقت، وقد أخذ أهلها يتذمرون ويتحزبون، ويثيرون الفتن على الولاة، فلم تطل ولاية المغيرة على الكوفة (2) ، فعزله عثمان، وولى مكانه سعد بن أبي وقاص، عملاً بوصية عمر، إلى أن حدث الخلاف بينه وبين ابن مسعود، الذي كان على بيت المال (3) ، فغضب عثمان على سعد، فعزله، وولى مكانه الوليد بن عقبة، وهو أخو عثمان لأمه. وكان شجاعاً، لكنه كان متهماً بشرب الخمر، ثم إن أبا عقبة بن أبي معيط كان من أشد الناس عداوة لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ومن المستهزئين به، ولما أسر في غزوة بدر وقدم للقتل نادى: يا معشر قريش ما لي أقتل بينكم صبراً؟! فقال له النبي صلى اللَّه عليه وسلم: "بكفرك واجترائك على اللَّه ورسوله" (4) ، وعقبة (5) هو الذي وضع سلا الجزور على ظهر النبي صلى اللَّه عليه وسلم وهو ساجد. فهناك مجال واسع للطعن على ولاية الوليد بن عقبة: أولاً: لأنه ابن عقبة بن أبي معيط المعروف بعدائه لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. ثانياً: لأنه هو الذي ذكر في القرآن بقوله تعالى: {إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] . ثالثاً: لأنه كان متهماً بشرب الخمر -[78]-. رابعاً: لأن المسلمين يعلمون قرابته لعثمان، وقد كان من الصحابة من هو أحق منه بهذا المركز، ولا سيما سعد الذي كانت له مواقف مشهورة في حرب الفرس، ومع ذلك كان الوليد محبوباً، وقام بغزوات عدة ظهرت فيها شجاعته، لكن أهل الكوفة حملوا عليه حملة شديدة. وقد بقي خمس سنين وليس لداره باب. ثم إن شُباناً من أهل الكوفة نقبوا على ابن الحَيْسُمَان الخزاعي وكاثروه فنذر بهم (6) . وخرج عليهم بالسيف وصرخ، فأشرف عليهم أبو شريح الخزاعي وكان قد انتقل من المدينة إلى الكوفة للقرب من الجهاد. فصاح بهم أبو شريح فلم يلتفتوا إليه وقتلوا ابن الحيْسمان وأخذهم الناس وفيهم زهير بن جُنْدَب الأزدي ومورَّع بن أبي مورع الأسدي وشبيل ابن أبيّ الأزدي وغيرهم فشهد عليهم أبو شريح وابنه فكتب فيهم الوليد إلى عثمان بقتلهم فقتلهم على باب القصر، في الرَّحبة. ولهذا أخذ في القسامة (7) بقول ولي المقتول عن ملأ من الناس ليكف الناس عن القتل. وكان أبو زبيد الطائي الشاعر في الجاهلية والإسلام في بني تغلب وكانوا أخواله فجحدوه ديناً له، فأخذ له الوليد حقه إذا كان عاملاً عليهم فشكر أبو زبيد ذلك له وانقطع إليه، وغشيه بالمدينة والكوفة، وكان نصرانياً، فأسلم عند الوليد. وكان معروفاً بشرب الخمر، فأنزله داراً لعقيل بن أبي طالب على باب المسجد فاستوهبها منه زبيد فوهبها له، فكان ذلك أول الطعن على الوليد بالكوفة، لأن أبا زبيد كان يخرج من منزله حتى يشق الجامع إلى الوليد فَيَسْمُرَ عنده، ويشرب معه، ويخرج فيشق المسجد، وهو سكران. فلذلك نبهم عليه. فبينما هو عنده أتى آتٍ أبا زينب، وأبا مورع، وجندباً، وكانوا يتربصون للوليد منذ قتل أبناءهم، ويضعون له العيون للإيقاع به، فقال لهم: إن الوليد وأبا زبيد يشربان الخمر، فثاروا وأخذوا معهم نفراً من أهل الكوفة، فاقتحموا عليه، فلم يروه، فأقبلوا يتلاومون، وسبَّهم الناس، وكتم الوليد ذلك عن عثمان. وجاء جندب ورهط معه إلى ابن مسعود فقالوا له: إن الوليد معتكف على الخمر وأذاعوا ذلك. فقال ابن مسعود: "من استتر عنا لم نتبع عورته". فعاتبه الوليد على قوله حتى تغاضبا، ثم أتى الوليد بساحر، فأرسل إلى ابن مسعود يسأله عن حده، واعترف الساحر عند ابن مسعود، وكان يخيل إلى الناس أنه يدخل في دبر الحمار، ويخرج في فيه، فأمره ابن مسعود بقتله. فلما -[79]- أراد الوليد قتله أقبل الناس ومعهم جندب بن كعب، فضرب الساحر، فقتله، فحبسه الوليد، وكتب إلى عثمان فيه، فأمره بإطلاقه وتأديبه، فغضب لجندب أصحابه، وخرجوا إلى عثمان يستعفون من الوليد، فردهم خائبين، فلما رجعوا أتاهم كل موتور، فاجتمعوا معهم على رأيهم، ودخل أبو زينب وأبو مُورَع وغيرهم على الوليد، فتحدثوا عنده، فنام، فأخذا خاتمه وسارا إلى المدينة. واستيقظ الوليد فلم ير خاتمه، فسأل نساءه عن ذلك فأخبرنه أن آخر من بقي عنده رجلان صفتهما كذا وكذا فاتهمهما وقال: هما أبو زينب وأبو مورع، وأرسل يطلبهما فلم يوجدا. فقدما على عثمان ومعهما غيرهما، وأخبراه أنه شرب الخمر. فأرسل إلى الوليد فقدم المدينة ودعا بهما عثمان. فقال: أتشهدان أنكما رأيتماه يشرب. فقالا: لا. قال: فكيف؟ قالا: اعتصرناها من لحيته، وهو يقيء الخمر. فأمر سعيد بن العاص فجلده. فأورث ذلك عداوة بين أهليهما. وقيل: إن الذي جلده عبد اللَّه بن جعفر بن أبي طالب جلده أربعين جلدة وهو الصحيح، لأن علياً أمر ابنه الحسن أن يجلده، فقال الحسن: ولِّ حارَّها من تولى قارها (8) ، فأمر عبد اللَّه بن جعفر فجلده أربعين، فقال عليّ: أمسك. جلد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وأبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكل سُنَّة. وهذا أحب إليَّ. وقيل: إن الوليد قد سكر وصلى الصبح بأهل الكوفة أربعاً، ثم التفت إليهم وقال: أزيدكم؟ (9) فقال ابن مسعود: "ما زلنا معك في زيادة منذ اليوم". وشهدوا عليه عند عثمان، فأمر علياً بجلده، فأمر عليٌّ جعفراً فجلده. وروي أنه لما أحضر عثمان رضي اللَّه عنه الوليد في شرب الخمر حضر الحُطيئة، فاستأذن على عثمان وعنده بنو أمية متوافرون، فطمعوا أن يلتمس للوليد عذراً فقال (10) : شهد الحُطيئة يوم يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر خلعوا عِنانك إذ جريت ولو ... تركوا عنانك لم تزل تجري ورأوا شمائل ماجد أنف ... يعطي على الميسور والعسر فنُزعت مكذوباً عليكَ ولم ... تنزع إلى طمع ولا فقر فسروا بذلك وظنوا أنه قد قام بعذره. فقال رجل من بني عجل يرد على الحطيئة: نادى وقد تمت صلاتهم ... أأزيديكم - ثملاً - وما يدري -[80]- فأبوا أبا وهب ولو فعلوا ... وصلتْ صلاتهُمُ إلى العشر فوجم القوم وأطرقوا. فأمر به عثمان رضي اللَّه تعالى عنه فحُدَّ. شهد على الوليد أبو زينب، وأبو مورع، وجُندَب، وسعد بن مالك الأشعري، ولم يشهد عليه إلا يمانٍ. "أي أن كل من شهد عليه من اليمن". جُلد الوليد في المدينة أمام أقارب عثمان، أمام بني أمية، أمام علي بن أبي طالب وأولاده وأنصاره، وهذه فضيحة شنيعة: أولاً: لأنه كان والياً على الكوفة والخمر محرمة في الشريعة الإسلامية، ويُحدُّ شاربها، والوالي هو الذي يقيم الحدود، فيجب عليه أن يكون قدوة للناس في الصلاح والتقوى وإتباع الكتاب والسنة. ثانياً: لأنه أخو الخليفة الذي ولاه مكان سعد بن أبي وقاص، فاختيار عثمان للوليد لم يكن موفقاً. فما كل ذي قرابة يصلح للحكم، ومن خلق الناس أنهم يتربصون وقوع الخطأ ممن يعين لقرابته لأولي الأمر، فإذا هفا هفوة، أو أذنب طعنوا عليه، وعددوا مثالبه، وطعنوا على من ولاه. وقد قيل: إن عثمان رضي اللَّه عنه كان واقعاً تحت تأثير أقاربه وبني أمية، وكان يثق بهم. أما أبو بكر وعمر رضي اللَّه عنهما، فقد كانا يتجنبان المحاباة ولا يراعيان غير المصلحة العامة. ولم يرَ عثمان بداً من جلد الوليد بعد أن شهدوا عليه إقامة للحدود. وفي الطبري: كان الناس في الوليد فرقتين، العامة معه والخاصة عليه. فما زال عليهم من ذلك الخشوع حتى كانت صفِّين، فولى معاوية، فجعلوا يقولون عيَّب عثمان بالباطل، فقال لهم عليّ عليه السلام: "إنكم وما تعيرون به عثمان كالطاعن نفسه ليقتل ردفه، ما ذنب عثمان في رجل ضربه بقوله وعزله عن عمله. وما ذنب عثمان فيما صنع عن أمرنا؟ " (11) . وعن نافع بن جبير قال: قال عثمان رضي اللَّه عنه: إذا جلد الرجل الحرّ ثم ظهرت توبته جازت شهادته. وقيل: كان الوليد أدخل الناس على الناس خيراً - حتى جعل يقسم للولائد والعبيد، ولقد تفجَّع عليه الأحرار والمماليك، كان يُسْمَع الولائد - وعليهن الحداد - يقلن: يا ويلتا قد عزل الوليد ... وجاءنا مُجوّعاً سعيد ينقص في الصاع ولا يزيد ... فَجُوَّعَ الإماء والعبيد

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 608، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 3. (2) ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 53. (3) أي وزيراً للمالية. (4) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (6: 89) . (5) كان عقبة بن أبي معيط تزوج أروى بعد وفاة عفَّان، فولدت له الوليد، وخالداً، وعمارة، وأم كلثوم، كل هؤلاء أخوة عثمان لأمه. (6) نَذَرَ بهم: علم بهم واستعد لهم. (7) القَسَامة: بالفتح، الأيمان تُقسَم على أولياء القتيل إذا ادَّعوا الدم، يقال: قتل فلان بالقَسَامة إذا اجتمعت جماعة من أولياء القتيل فادعوا على رجل أنه قتل صاحبهم، ومعهم دليل دون البينة، فحلفوا خمسين يميناً أن المدعى عليه قتل صاحبهم، فهؤلاء الذين يقسمون على دعواهم يسمَّون قَسَامَة أيضاً. (8) أي: ولِّ مكروه الأمر من تولى محبوبه. (9) السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 123. (10) ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 4. (11) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 612.

- تولية سعيد بن العاص الكوفة (1) (سنة 30 هـ/ 651 م) : -[81]- هو سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي، الأموي، وجده هو المعروف بأبي أحيحة. وأم سعيد هي أم كلثوم بنت عمرو بن عبد اللَّه بن أبي قيس. ولد عام الهجرة. وقيل: بل ولد سنة إحدى. وقتل أبوه العاص يوم بدر كافراً، قتله عليّ بن أبي طالب. وكان سعيد من أشراف قريش وأجوادهم وفصحائهم، وهو أحد الذين كتبوا المصحف لعثمان رضي اللَّه عنه. وكان كثير الجود والسخاء، إذا سأله سائل وليس عنده ما يعطيه كتب به ديناً إلى وقت ميسرته. وكان يجمع إخوانه كل جمعة يوماً فيصنع لهم الطعام، ويخلع عليهم، ويرسل إليهم بالجوائز، ويبعث إلى عيلاتهم بالبر الكثير، وكان يبعث مولى له إلى المسجد بالكوفة في كل ليلة جمعة ومعه الصرر فيها الدنانير، فيضعها بين يدي المصلين، فكثر المصلون بالمسجد بالكوفة في كل ليلة جمعة، إلا أنه كان عظيم الكبر. وإن عربية القرآن أقيمت على لسان سعيد بن العاص، لأنه كان أشبههم لهجة برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. توفي سعيد سنة 59 هـ، ولما حضرته الوفاة قال لبنيه: "أيكم يقبل وصيتي؟ قال ابنه الأكبر: أنا يا أبت. قال: إن فيها وفاء ديني. قال: وما دينك؟ قال: ثمانون ألف دينار. قال: وفيما أخذتها؟ قال: يا بني في كريم سددت خلته. وفي رجل جاءني ودمه ينزوي في وجهه من الحياء، فبدأته بحاجته قبل أن يسألنيها". وكان سعيد قد ربيَّ في حجر عثمان، فلما فتح الشام قدمه فأقام مع معاوية. فذكر عمر يوماً قريشاً، فسأل عنه، فأخبر أنه بالشام فاستقدمه، فقدم عليه. فقال له: بلغني عنك بلاء وصلاح، فازدد يزدك اللَّه خيراً، وقال له: هل لك زوجة؟ قال: لا. وجاء عمر بنات سفيان بن عوف ومعهن أمهن فقالت أمهن: هلك رجالنا، وإذا هلك الرجال ضاع النساء فضعهن في أكفائهن، فزوَّج سعيداً إحداهن، وزوَّج عبد الرحمن بن عوف الأخرى، وأتاه بنات مسعود بن نعيم النهشلي فقلن له: قد هلك رجالنا وبقي الصبيان فضعنا في أكفائنا. فزوَّج سعيداً إحداهن، وجبير بن مطعم الأخرى، وكانت عمومته ذوي بلاء في الإسلام وسابقة فلم يمت عمر حتى كان سعيد من رجال قريش. فلما استعمله عثمان سار حتى أتى الكوفة أميراً ورجع ومعه الأشتر، وأبو خشة الغفاري، وجندب بن عبد اللَّه، وأبو مصعب بن جثامة، وكانوا ممن شخص مع الوليد يعيبونه فصاروا عليه. ولما وصل سعيد الكوفة صعد المنبر (2) فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم -[82]- قال (3) : "واللَّه لقد بعثت إليكم وإني لكاره، ولكني لم أجد بداً إذا أمرت أن آتمر، إلا أن الفتنة قد أطلعت خطمها وعينيها وواللَّه لأضربن وجهها حتى أقمعها أو تعييني، وإني لرائد نفسي اليوم". ثم نزل وسأل عن أهل الكوفة فعرف حال أهلها. وهذه الخطبة إنذار لأهل الكوفة بأنه سيستعمل الشدة معهم.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 608، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 2/ص 3. (2) قبل أن يصعد سعيد المنبر أمر بغسله فقال: اغسلوا هذا المنبر فإن الوليد كان رجساً نجساً فلم يصعده حتى غسل، عيباً على الوليد. (3) ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 5.

- كتاب سعيد إلى عثمان (1) : ثم كتب سعيد إلى الخليفة كتاباً قال فيه: "إن أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم، وغُلب أهل الشرف منهم والبيوتات السابقة، والغالب على تلك البلاد روادف قدمت وأعراب لحقت، حتى لا ينظر إلى ذي شرف وبلاء من نابتتها ولا نازلتها". فكتب عثمان إليه: "أما بعد، ففضل أهل السابقة والقدمة ممن فتح اللَّه عليه تلك البلاد، وليكن من نزلها بسببهم تبعاً لهم، إلا أن يكونوا تثاقلوا عن الحق وتركوا القيام به وقام به هؤلاء، واحفظ لكل منزلته، وأعطهم جميعاً بقسطهم من الحق. فإن المعرفة بالناس بها يصاب العدل". فأرسل سعيد إلى وجوه الناس من أهل الأيام والقادسية فقال: "أنتم وجوه من وراءكم. والوجه ينبئ عن الجسد فأبلغونا حاجة ذي الحاجة، وخلة ذي الخلة، وأدخلوا معهم من يحتمل من اللواحق والروادف". كثر القيل والقال وقال بعض شعراء الكوفة يندد بسعيد وكثرة التبديل في الولاة: فررت من الوليد إلى سعيد ... كأهل الحجر إذ جزعوا فباروا بلينا من قريش كل عام ... أميرٌ مُحْدَثٌ أو مستشار لنا نار نخوّفها فنخشى ... وليس لهم فلا يخشون نار ثم إن سعيد جعل القراء في سمره، ففشت القالة في أهل الكوفة، فكتب سعيد إلى عثمان بذلك، فجمع الناس وأخبرهم بما كتب إليه فقالوا له: أصبت لا تطمعهم فيما ليسوا له بأهل، فإنه إذا نهض في الأمور من ليس بأهل لها لم يحتملها وأفسدها، فقال عثمان: -[83]- "يا أهل المدينة استعدوا واستمسكوا. فقد دبت إليكم الفتن، وإني واللَّه لأستخلصن لكم الذي لكم حتى أنقله إليكم، إن رأيتم حتى يأتي من شهد مع أهل العراق سهمه فيقيم معه في بلاده، فقالوا: كيف تنقل إلينا سهمنا من الأرضين؟ فقال: ببيعها ممن شاء بما كان له بالحجاز واليمن وغيرها من البلاد ففرحوا وفتح اللَّه لهم أمراً لم يكن في حسابهم، وفعلوا ذلك واشتراه رجال من كل قبيلة وجارٍ لهم عن تراضٍ منهم ومن الناس وإقرار بالحقوق.

_ (1) ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 5.

- غزوة طبرستان (1) (سنة 30 هـ/ 651 م) : نبذة عن تاريخها وتسميتها: تعرف طبرستان باسم مازندران أيضاً، وهي ولاية من ولايات إيران قديماً، وموقعها إلى الجنوب الشرقي من بحر طبرستان، وهو بحر الخزر أو بحر قزوين، يحدها من الغرب كيلان، أو الجيلان، ومن الجنوب العراق العجمي وخراسان البُرز. ومن الشرق خراسان أيضاً، ومن نواحيها أستراباذ، وهي إلى الشرق، وقاعدتها دُنباوند أو ديماقند. وجاء في كتب العرب أن معنى طبرستان موضع الأطبار فهي مؤلفة من لفظتين "طبر"، وهي تعريب تبر الفارسية اسم لنوع من الفؤوس، وإستان معناها الموضع، أو الناحية. سميت بذلك لكثرة ما فيها من الأطبار (2) . قال القزويني في استعمارها وتسميتها: إن بعض الأكاسرة اجتمع في جيشه جناة كثيرون، فقال وزيره: نأمر بهم إلى بعض البلاد ليعمروها، فإن عمروها كان العمران لك، وإن تلفوا برئت من دمهم، واختار أرض طبرستان، وهي يومئذٍ جبال وأشجار، فأرادوا قطع الأشجار، وطلبوا فؤوساً، والفأس بالعجمية "تبر" فكثرت بها الفؤوس، فقالوا: "طبرستان". ويؤيد ذلك ياقوت في كلامه عن أهلها - إن أهل تلك الجبال كثيرو الحروب، وأكثر أسلحتهم بل كلها الأطبار، حتى إنك قلَّ أن ترى صعلوكاً، أو غنياً، إلا وبيده الطبر، صغيرهم وكبيرهم.

_ (1) ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 6، ابن كثير، البداية والنهاية ج 7/ص 154. (2) الأطبار: الفؤوس. [القاموس المحيط، مادة: طَبَرَ] .

- غزوها: وللعرب في طبرستان وقائع مشهورة، فاستولوا عليها، وكانت جزءاً من مملكتهم. وأول من -[84]- قصدها سويد بن مقرن، أرسله أخوه نعيم بأمر عمر، فسار سويد نحو قومس فأخذها سلماً، ثم دخل جرجان، وقيل: صالحه الأصبهند - صاحب طبرستان. ثم غزاها سعيد بن العاص. خرج عبد اللَّه بن عامر من البصرة يريد خراسان فسبق سعيداً، ونزل أبرشهر، وبلغ نزول أبرشهر سعيداً، فنزل سعيد قومس (1) وهي صلح، صالحهم حذيفة بعد نهاوند فأتى جرجان، فصالحوه على 2. 000. 000 ثم أتى طَمِية (2) وهي كلها من طبرستان متاخمة جرجان. وهي مدينة على ساحل البحر، وهي في تخوم جرجان، فقاتله أهلها حتى صلى صلاة الخوف. فقال لحذيفة: كيف صلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم؟ فأخبره. فصلى بها سعيد صلاة الخوف وهم يقتتلون. وضرب يومئذٍ سعيد رجلاً من المشركين على حبل عاتقه فخرج السيف من تحت مرفقه، وحاصرهم فسألوا الأمان فأعطاهم، على أن لا يقتل منهم رجلاً واحداً. ففتحوا الحصن فقتلهم جميعاً إلا رجلاً واحداً وحوى ما كان في الحصن. وفتح سعيد بن العاص نامية، وهي ليست بمدينة بل صحارى، ثم قفل إلى الكوفة فمدحه كعب بن جعيْل فقال: فنعم الفتى إذ جال جيلانُ دونه ... وإذ هبطوا من دَستبى ثم أبهرا تعلم سعيد الخير أن مطيتي ... إذا هبطت أشفقتُ من أن تعَقَّرا كأنك يوم الشعب ليثُ خفية ... تحرَّد من ليث العرين وأصحرا تسوس الذي ما ساس قبلك واحد ... ثمانين ألفاً دارعين وحسَّرا ولما صالح سعيد أهل جرجان كانوا يجبون أحياناً مائة ألف، وأحياناً مائتي ألف، وأحياناً ثلاثمائة ألف، وكانوا ربما أعطوا ذلك وربما منعوه، ثم امتنعوا وكفروا.

_ (1) قومس: كورة كبيرة واسعة بها مدن وقرى ومزارع في ذيل جبل طبرستان. (2) طَمِية: وردت في ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 7: "طُمِيْسَة" ولعل ورودها في هذا الكتاب خطأ والصواب هو ما جاء في الكامل في التاريخ لابن الأثير، وهي مدينة مشهورة من سهول طبرستان.

- سقوط خاتم رسول اللَّه (1) من إصبع عثمان (2) (سنة 30 هـ/ 651 م) : لما أراد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن يكتب إلى الأعاجم كتباً يدعوهم إلى اللَّه عز وجل وقال له رجل: يا رسول اللَّه إنهم لا يقبلون كتاباً إلا مختوماً. فأمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن يعمل له خاتم من فضة، -[85]- فجعله في إصبعه، وكان نقشه ثلاثة أسطر "محمد" سطر، و "رسول" سطر، و "اللَّه" سطر. والأسطر الثلاثة تقرأ من أسفل إلى فوق، محمد آخر الأسطر، ورسول في الوسط، واللَّه فوق، وكانت الكتابة مقلوبة لتكون على الاستواء إذا ختم به، فكان ذلك الخاتم في يده صلى اللَّه عليه وسلم، ولما استخلف أبو بكر ختم به. ثم ولي عمر بن الخطاب فجعل يتختم به، ثم ولي من بعده عثمان فتختم به ست سنين فحفر بئراً بالمدينة شرباً للمسلمين (3) ، وهي على ميلين من المدينة، وكانت قليلة الماء، فجاء عثمان ذات يوم فقعد على رأس البئر فجعل يعبث بالخاتم، فسقط من يده في البئر فطلبوه فيها، ونزحوا ما فيها من الماء، فلم يعثروا عليه، فجعل فيه مالاً عظيماً لمن جاء به، واغتم لذلك غماً شديداً، فلما بئس منه صنع خاتماً آخر على مثاله ونقشه، فبقي في إصبعه حتى قتل، ثم ضاع هذا الخاتم ولم يُعلم من أخذه. وقد تشاءم المسلمون لضياع خاتم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وقالوا: إن عثمان لما مال عن سيرة مَن كان قبله كان أول ما عوقب به ذهاب خاتم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من يده. قال أحمد بن يحيى بن جابر: نسبت إلى أريس رجل من المدينة من اليهود وعليها مال لعثمان بن عفان. والأريس في لغة أهل الشام الفلاَّح وهو الأكار، وجمعه أريسون وأرارسة وأرارس. وفي الأصل جمع أريس بتشديد الراء.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 614، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 9، ابن كثير، البداية والنهاية ج 7/ص 155. (2) هو بئر أرِيْس: بئر بالمدينة بقباء مقابل مسجدها. (3) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 615، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 11.

- تسيير أبي ذر الغفاري إلى الربذة (1) (سنة 30 هـ/ 651 م) : أبو ذر الغفاري: وهو جندب بن جُنادة - على المشهور - وكان من كبار الصحابة وفضلائهم، قديم الإسلام. لما بلغ أبا ذر مبعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي، فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله، ثم ائتني، فانطلق الأخ حتى قدم وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر، فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وسمعت منه كلاماً ما هو بالشعر. فقال: ما شفيتني مما أردت، فتزود وحمل قربة فيها ماء حتى قدم مكة فأتى المسجد، فالتمس النبي صلى اللَّه عليه وسلم وهو لا يعرفه، وكره أن يسأل عنه، فانتظر ودخل على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فسمع من قوله وأسلم. فقال له النبي صلى اللَّه عليه وسلم: "ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري" (2) . قال: والذي نفسي بيده لأصرخنَّ بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: "أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمداً عبده ورسوله"، فقاموا إليه، فضربوه حتى أضجعوه، وأتى -[86]- العباس فأكب عليه، وقال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار، وأنه طريق تجاركم إلى الشام، فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد لمثلها فضربوه وثاروا عليه، فأكب العباس إليه. قال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: "أبو ذر في أمتي على زهد عيسى بن مريم". كان أبو ذر بالشام في خلافة عثمان، وكان معاوية عاملاً عليها، فلما ورد ابن السوداء (3) الشام لقي أبا ذر فقال: يا أبا ذر ألا تعجب إلى معاوية يقول: "المال مال اللَّه ألا إن كل شيء للَّه"، كأنه يريد يحتجنه (4) دون الناس ويمحو اسم المسلمين (5) فأتاه أبو ذر. فقال: ما يدعوك إلى أن تسمي مال المسلمين مال اللَّه؟ قال: يرحمك اللَّه يا أبا ذر ألسنا عباد اللَّه، والمال ماله، والخلق خلقه، والأمر أمره؟ قال: فلا تقله. قال: فإني لا أقول إنه ليس للَّه، ولكن سأقول مال المسلمين. وأتى ابن السوداء أبا الدرداء، فقال له: من أنت، أظنك واللَّه يهودياً. فأتى عبادة بن الصامت فتعلق به معاوية. فقال: هذا واللَّه الذي بعث عليك أبا ذر. وقام أبو ذر بالشام وجعل يقول: "يا معشر الأغنياء وأسواء الفقراء. بُشِّر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا يُنفقونها في سبيل اللَّه بمكاوٍ من نار تُكوى بها جباهم وجنوبهم وظهورهم" (6) -[87]-. فما زال حتى ولع الفقراء بمثل ذلك، وأوجبوه على الأغنياء، وحتى شكا الأغنياء ما يلقون من الناس. حرض أبو ذر بذلك الفقراء وفهمهم أن لهم حقوقاً لدى الأغنياء، وأن الذين يكنزون المال لهم في الآخرة عذاب أليم فهو بذلك يدعو إلى نوع من التكافل. وقد تخوَّف الأغنياء من ثورة الفقراء، ومطالبتهم بالمال، لذلك شكوا إلى معاوية. فكتب معاوية إلى عثمان أن أبا ذر قد أعضل بي (7) ، وقد كان من أمره كيت وكيت. فكتب إليه عثمان: "إن الفتنة قد أخرجت خطمها (8) وعينيها، فلم يبق إلا أن تثب فلا تنكأ القرح، وجهِّز أبا ذر إليَّ، وابعث معه دليلاً وزوِّده، وارفق به، وكفكف الناس ونفسك ما استطعت، فإنما تمسك ما استمسكت" الطبري (9) . وجاء في ابن الأثير (10) : إن الأغنياء لما شكوا إلى معاوية ما يلقون من الفقراء، أرسل إلى أبي ذر بألف دينار في جنح الليل، فأنفقها - على الفقراء -، فلما صلى معاوية الصبح، دعا رسوله الذي أرسله إليه، فقال: اذهب إلى أبي ذر فقل له أنقذ جسدي من عذاب معاوية، فإنه أرسلني إلى غيرك، وإني أخطأت بك، ففعل ذلك. فقال له أبو ذر: يا بني قل له واللَّه ما أصبح عندنا من دنانيرك ديناراً، ولكن أخرنا ثلاثة أيام حتى نجمعها. فلما رأى معاوية أن فعله يصدق قوله كتب إلى عثمان الخ. فلما قدم أبو ذر المدينة، ورأى المجالس في أصل سلع (11) ، قال: بشِّر أهل المدينة بغارة شعواء وحرب مذكار. ودخل على عثمان فقال: يا أبا ذر ما لأهل الشام يشكون -[88]- ذَرَبك (12) ؟ فأخبره أنه لا ينبغي أن يقال مال اللَّه، ولا ينبغي للأغنياء أن يقتنوا مالاً. فقال: يا أبا ذر عليَّ أن أفضي ما عليَّ، وآخذ ما على الرعية، ولا أجبرهم على الزهد، وأن أدعوهم إلى الاجتهاد والاقتصاد. قال: فتأذن لي في الخروج، فإن المدينة ليست لي بدار. فقال: أو تستبدل بها إلاَّ شرَّاً منها. قال: أمرني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن أخرج منها إذا بلغ البناء سَلْعاً. قال: فانفذ لما أمرك به، فخرج حتى نزل الربذة (13) ، فحط بها منزلاً، وأقطعه عثمان صرمة من الإبل (14) ، وأعطاه مملوكين، وكان أبو ذر يتعاهد المدينة حتى لا يعود أعرابياً، وكان يحب الوحدة والخلوة، فدخل على عثمان وعنده كعب الأحبار فقال لعثمان: لا ترضوا من الناس بكف الأذى حتى يبذلوا المعروف، وقد ينبغي للمؤدي الزكاة أن لا يقتصر عليها حتى يحسن إلى الجيران والإخوان ويصل القرابات. فقال كعب: مَن أدَّى الفريضة فقد قضى. فرفع أبو ذر محجنه (15) ، فضربه، فشجَّه، فاستوهبه عثمان، فوهبه له وقال: يا أبا ذر اتق اللَّه واكفف يدك ولسانك. الطبري (16) . ولما نزل أبو ذر الربذة أقيمت الصرة وعليها رجل يلي الصدقة فقال: تقدم يا أبا ذر. فقال: لا، تقدَّم أنت فإن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال لي: "اسمع وأطع وإن كان من رقيق الصدقة"، وكان أسود يقال له: مجاشع. وذكر الطبري رواية عن محمد بن سيرين قال: خرج أبو ذر إلى الربذة من قبل نفسه لما رأى عثمان لا ينزع له (17) الخ. ثم قال الطبري (18) بعد أن أورد قصة أبي ذر وإقامته بالربذة: وأما الآخرون فإنهم رووا في سبب ذلك أشياء كثيرة وأموراً شنيعة كرهت ذكرها. وقال اليعقوبي في تاريخه: -[89]- "وبلغ عثمان أن أبا ذر يقعد في مسجد رسول اللَّه، ويجتمع إليه ناس، فيحدث بما فيه الطعن عليه، وأنه وقف بباب المسجد فقال: "أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر الغفاري، أنا جندب بن جنادة الربذيّ {إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَليمٌ} [آل عمران: 33- 34] . محمد الصفوة من نوح. فالأول من إبراهيم، والسلالة من إسماعيل، والعترة الهادية من محمد. إنه شرف شريفهم، واستحقوا الفضل في قوم هم فينا كالسماء المرفوعة، وكالكعبة المستورة، أو كالقبة المنصوبة، أو كالشمس الضاحية، أو كالقمر الساري، أو كالنجوم الهادية، أو كالشجرة الزيتونية، أضاء زيتها، وبورك زبدها. ومحمد وارث علم آدم، وما فضلت به النبيون، وعليٌّ بن أبي طالب وصيُّ محمد ووارث علمه. أيتها الأمة المتحيَّرة بعد نبيها، أما لو قدمتم من قدم اللَّه، وأخرتم من أخر اللَّه، وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت نبيكم لأكلتم من فوق رؤوسكم، ومن تحت أقدامكم، ولما عال ولى اللَّه، ولا طاش سهم من فرائض اللَّه، ولا اختلف اثنان في حكم اللَّه، إلا وجدتم علم ذلك عندهم من كتاب اللَّه وسنة نبيه. فأما إذا فعلتم فذوقوا وبال أمركم {وَسَيَعْلَمُ الذِّينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] . وبلغ عثمان أيضاً أن أبا ذر يقع فيه ويذكر ما غيَّر وبدَّل من سنن رسول اللَّه وسنن أبي بكر وعمر فسيَّره إلى الشام إلى معاوية. وكان يجلس في المسجد فيقول كما كان يقول، ويجتمع إليه الناس حتى كثر من يجتمع إليه ويسمع منه. وكان يقف على باب دمشق إذا صلى صلاة الصبح فيقول: جاءت القطار تحمل النار. لعن اللَّه الآمرين بالمعروف التاركين له، ولعن اللَّه الناهين عن المنكر الآتين له. وكتب معاوية إلى عثمان: إنك قد أفسدت الشام على نفسك بأبي ذر، فكتب إليه أن احمله على قتب بعير بغير وطاء. أنك تقول سمعت رسول اللَّه يقول: إذا كملت بنو أمية ثلاثين رجلاً اتخذوا بلاد اللَّه دولاً وعباد اللَّه خولاً ودين اللَّه دغلاً (19) . فقال: نعم، سمعت رسول اللَّه يقول ذلك. فقال لهم: أسمعتم رسول اللَّه يقول ذلك؟ فبعث إلي عليٍّ بن أبي طالب فأتاه فقال: يا أبا الحسن أسمعت رسول اللَّه يقول ما حكاه أبو ذر؟ وقصَّ عليه الخبر. فقال: نعم. قال: وكيف تشهد؟ قال: يقول رسول اللَّه: "ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء ذا لهجة أصدق من أبي ذر" (20) . فلم يقم بالمدينة حتى أرسل إليه عثمان واللَّه لتخرجن عنها. قال: أتخرجني من حرم رسول اللَّه؟ قال: نعم، أنفك راغم. قال: فإلى مكة؟ قال: لا. قال: فإلى البصرة؟ قال: لا. قال: فإلى الكوفة؟ قال: لا. ولكن إلى الربذة التي خرجت منها حتى تموت بها. يا مروان أخرجه ولا تدع أحداً يكلمه حتى يخرج. فأخرجه على جمل ومعه امرأته وابنته، فخرج وعليٌّ والحسن والحسين -[90]- وعبد اللَّه بن جعفر وعمار بن ياسر ينظرون. فلما رأى أبو ذر علياً، قام إليه فقبَّل يده ثم بكى وقال: إني إذا رأيتك ورأيت ولدك ذكرت قول رسول اللَّه فلم أصبر حتى أبكي فذهب عليّ يكلمه. فقال له مروان: إن أمير المؤمنين قد نهى أن يكلمه أحد. فرفع عليّ السوط فضرب وجه ناقة مروان وقال: تنحَّ نحاك اللَّه إلى النار. ثم شيَّعه، فكلمه بكلام يطول شرحه، وتكلم كل رجل من القوم، وانصرفوا، وانصرف مروان إلى عثمان فجرى بينه وبين عليِّ في هذا بعض الوحشة وتلاحيا كلاماً. فلم يزل أبو ذر بالربذة حتى توفي". هذا ما ذكره اليعقوبي في تاريخه خاصَّاً بأبي ذر وتسييره إلى الربذة من غير أن يسنده إلى أحد من الرواة كدأب الطبري في رواياته، وقد اتفق الطبري وابن الأثير وابن خلدون على أن عثمان رضي اللَّه عنه أذن لأبي ذر بالخروج إلى الربذة، بناءً على طلبه، لأنه لم يطق الإقامة بالمدينة، لكن عبارة اليعقوبي صريحة في أنه نفاه. وإنا نستبعد أن ينفي عثمان رضي اللَّه عنه أبا ذر، لأن أبا ذر صحابي محترم مشهور بالزهد والصلاح والتشدد في الدين، وله مكانة عالية في نفوس المسلمين، ومما يدل على أن حكاية اليعقوبي مكذوبة ما ذكره من أن عثمان قال لمعاوية: "احمله على قتب بعير بغير وطاء" فقدم إلى المدينة وقد ذهب لحم فخذيه. فعثمان رضي اللَّه عنه لا يأمر بإرهاق صحابي كبير كأبي ذر كما هو معروف عنه من الحلم والرأفة. فيكون ما ذكره الطبري من أنه رضي اللَّه عنه كتب إلى معاوية - وجهَّز أبا ذر وزوده وأرفق به - هو الصواب، لأنه يطابق ما جبل عليه عثمان رضي اللَّه عنه من الرفق واحترام كبار الصحابة. وفي طبقات ابن سعد رواية عن عبد اللَّه بن الصامت قال: دخلت مع أبي ذر في رهط من غفار على عثمان بن عفان من الباب الذي لا يُدخل عليه منه وتخوفنا عثمان عليه، فانتهى إليه فسلم عليه، ثم ما بدأه بشيء إلا قال: أحسبتني منهم يا أمير المؤمنين واللَّه ما أنا منهم ولا أدركهم. لو أمرتني أن آخذ بعرقُوَتيْ قَتب لأخذت بهما متى أمرت، ثم استأذنه إلى الربذة فقال: نعم نأذن لك، ونأمر لك بنعم من نعم الصدقة، فتصيب من رسْلها. فنادى أبو ذر: دونكم معاشر قريش دنياكم فاعذَموها لا حاجة لنا فيها. ومما يدل على مكانة أبي ذر ما رواه عبد اللَّه بن عمرو قال: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: "ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق من أبي ذر" (21) . وعن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: "ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي -[91]- لهجة أصدق من أبي ذر. من سره أن ينظر إلى تواضع عيسى ابن مريم فلينظر إلى أبي ذر (22) .

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 615، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 11. (2) رواه ا

- أمر المصاحف (1) (سنة 30 هـ/ 651 م) لما عاد حذيفة بن اليمان من غزو الباب قال لسعيد بن العاص: لقد رأيت في سفرتي هذه أمراً لئن ترك الناس ليختلفن في القرآن، ثم لا يقومون عليه أبداً، قال: وما ذاك؟ قال: رأيت أناساً من أهل حمص يزعمون أن قراءتهم خيرٌ من قراءة غيرهم، وأنهم أخذوا القرآن عن المقداد. ورأيت أهل دمشق يقولون: إن قراءتهم خيرٌ من قراءة غيرهم، ورأيت أهل الكوفة يقولون مثل ذلك، وأنهم قرؤوا على ابن مسعود. وأهل البصرة يقولون مثل ذلك، وأنهم قرؤوا على أبي موسى، ويسمُّون مصحفه "لباب القلوب". فلما وصلوا إلى الكوفة أخبر حذيفة بن اليمان بذلك، وحذرهم ما يخاف، فوافقه أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وكثير من التابعين، وقال له أصحاب ابن مسعود: ما تنكر؟ ألسنا نقرؤه على قراءة ابن مسعود؟ فغضب حذيفة ومن وافقه وقالوا: إنما أنتم أعراب فاسكتوا فإنكم على خطأ. وقال حذيفة: واللَّه لئن عشت لآتين أمير المؤمنين، ولأشيرن عليه أن يحول بين الناس وبين ذلك، فأغلظ له ابن مسعود، فغضب سعيد وقام، وتفرَّق الناس، وغضب حذيفة، وسار إلى عثمان، فأخبره بالذي رأى وقال: أنا النذير العريان فأدركوا الأمة. وفي البخاري رواية عن حذيفة أنه قال لعثمان: "أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى". وكان حذيفة يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وآذربيجان مع أهل العراق. جمع عثمان رضي اللَّه عنه الصحابة وأخبرهم الخبر، فأعظموه ورأوا جميعاً ما رأى حذيفة. فأرسل إلى حفصة بنت عمر زوجة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك. وكانت هذه الصحف هي التي كتبت في أيام أبي بكر، فإن القتل لما كثر في الصحابة يوم اليمامة قال عمر لأبي بكر: إن القتل قد كثر واستحرَّ بقرَّاء القرآن يوم اليمامة، وإني أخشى أن يستحرَّ القتل بالقرَّاء، فيذهب من القرآن كثير. وإني أرى أن تأمر بجمعه، فأمر أبو بكر زيد بن ثابت، فجمعه من الرقاع والعُسُب (2) ، وصدور الرجال. فكانت الصحف عند أبي بكر، ثم عند عمر، فلما توفي عمر أخذتها حفصة فكانت عندها، فأرسل عثمان إليها وأخذها منها، وأمر زيد بن ثابت (3) ، -[92]- وعبد اللَّه بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام (4) ، فنسخوها في المصاحف. وقال عثمان: إذا اختلفتم فاكتبوها بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم، ففعلوا. فلما نسخوا الصحف ردَّها عثمان إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وحرق ما سوى ذلك، وأمر أن يعتمدوا عليها ويدعوا ما سواها، فكل الناس عرف فضل هذا العمل إلا ما كان من أهل الكوفة، فإن المصحف لما قدم عليهم فرح به أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وسلم، وأصحاب عبد اللَّه ومن وافقهم امتنعوا عن ذلك وعابوا الناس، فقام فيهم ابن مسعود وقال: ولا كل ذلك فإنكم واللَّه سبقتم سابقينا فأربعوا على ظلعكم (5) . ولما قدم على الكوفة قام إليه رجل فعاب عثمان بجمع الناس على المصحف، فصاح وقال: اسكت فعن ملأ منا فعل ذلك فلو وليت منه ما ولي عثمان لسلكت سبيله (6) -[93]-. قال زيد: فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقرأ بها فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري - {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 32]- فألحقناها في سورتها في المصحف. واختلف في عدد المصاحف التي أرسل بها عثمان إلى الآفاق. قال السيوطي في الإتقان: والمشهور أنها خمسة. وقال ابن أبي داود من طريق سمعت أبي حاتم السجستاني يقول: كتب سبعة مصاحف فأرسل إلى مكة وإلى الشام، وإلى اليمن، وإلى البحرين، وإلى البصرة، وإلى الكوفة، وحبس بالمدينة واحداً. واختلف في ترتيب السور هل هو توقيفي أو باجتهاد الصحابة؟ قال الكرماني في البرهان: ترتيب السور هكذا هو عند اللَّه في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب. وقال مالك: ترتيب السور باجتهاد الصحابة. وقال السيوطي في الإتقان: والذي ينشرح له الصدر ما ذهب إليه البيهقي وهو أن جميع السور ترتيبها توقيفي إلا براءة والأنفال.

_ (1) ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 8. (2) العُسُب: عُسُب النخل، وهي الجريد الذي لا خوص له، واحدها عسيب. (3) هو زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد بن لَوْذان بن عمرو، أبو خارجة، الأنصاري، صحابي من أكابرهم، كان كاتب الوحي، ولد في المدينة سنة 11 ق. هـ ونشأ بمكة، قُتل أبوه وهو ابن ست سنين، هاجر مع النبي صلى اللَّه عليه وسلم وهو ابن 11 سنة، تعلَّم وتفقَّه في الدين، فكان رأساَ بالمدينة في القضاء والفتوى والقراءة والفرائض، كان عمر يستخلفه على المدينة إذا سافر، فقلَّما رجع إلا أقطعه حديقة من نخل، كان ابن عباس - على جلالة قدره وسعة علمه - يأتيه إلى بيته للأخذ عنه، ويقول: العلم يؤتى ولا يأتي. وأخذ ابن عباس بركاب زيد، فنهاه زيد، فقال ابن عباس: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا، فأخذ زيد كفه وقبَّلها، وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بآل بيت نبينا، وكان أحد الذين جمعوا القرآن في عهد النبي صلى اللَّه عليه وسلم من الأنصار، وعرضه عليه، وهو الذي كتبه في المصحف لأبي بكر، ثم لعثمان حين جهَّز المصاحف إلى الأمصار. ولما توفي سنة 45 هـ رثاه حسان بن ثابت، وقال أبو هريرة: اليوم مات حبر هذه الأمة، وعسى اللَّه أن يجعل في ابن عباس منه خلفاً. للاستزادة راجع: غاية النهاية ج 1/ص 296، صفة الصفوة ج 1/ص 294، العبر للذهبي ج 1/ص 53، تهذيب التهذيب ج 3/ص 399، الاستيعاب ج 2/ص 537، الوافي بالوفيات ج 15/ص 24، طبقات ابن سعد ج 1/ص 37، الثقات ج 3/ص 135. (4) هو عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، القرشي، المدني، ولد سنة 1 هـ، أبو محمد، تابعي، ثقة، جليل القدر، من أشراف قريش، وهو أحد الأربعة الذين عهد إليهم عثمان بن عفان نسخ القرآن بمصاحف لتوزيعها على الأمصار، توفي سنة 43 هـ. للاستزادة راجع: تهذيب التهذيب ج 6/ص 156، الإصابة ترجمة 6195. (5) أربع على ظلعك: أي أنك ضعيف فتنكب عما لا تطيقه. (6) قال ابن قيم الجوزية، في كتاب الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ص 18- 19: "ومن ذلك جمع عثمان رضي اللَّه عنه الناس على حرف واحد من الأحرف السبعة التي يطلق لهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم القراءة بها لما كان ذلك مصلحة، فلما خاف الصحابة رضي اللَّه عنهم على الأمة أن يختلفوا في القرآن ورأوا أن جمعهم على حرف واحد أسلم وأبعد من وقوع الاختلاف فعلوا ذلك ومنعوا الناس من القراءة بغيره. وهذا كما لو كان للناس عدة طرق إلى البيت وكان سلوكهم من تلك الطرق يوقعهم في التفرق والتشتت ويطمع فيهم العدو، فرأى الإمام جمعهم على طريق واحد، وترك بقية الطرق جاز ذلك ولم يكن فيه إبطال لكون تلك الطرق موصلة إلى المقصود وإن كان فيه نهي من سلوكها لمصلحة الأمة.

- مقتل يزدجرد بن شهريار (1) (سنة 31 هـ/ 651 م) : كان يزدجرد بن شهريار بن كسرى ملك فارس قد تولى في خلافة عمر بن الخطاب سنة 14 هـ، وهو الذي جمع جيشاً تحت قيادة رستم لمحاربة المسلمين، فانهزم جيشه ففر إلى خراسان. ولم يزل المسلمون يتبعونه ويقفون أثره من مدينة إلى مدينة، وهو يهرب حتى بيته جماعة من الترك فقتلوه سنة 31 هـ. وقد اختلف في سبب قتله: قال ابن إسحاق: هرب يزدجرد من كرمان في جماعة يسيرة إلى مرو فسأل مرزبانها مالاً، فمنعه، فخافوا على أنفسهم، فأرسلوا إلى الترك يستنصرونهم عليه، فأتوه، فبيتوه، فقتلوا أصحابه، وهرب يزدجرد حتى أتى منزل رجل ينقر الأرحاء على شط المرغاب (2) فأوى إليه ليلاً فلما نام قتله. وزاد بعضهم أن النقار أخذ متاعه وجواهره وألقى جسده في المرغاب، وأصبح أهل مرو فاتبعوا أثره حتى خفي عليهم عند منزل النقار، فأخذوه، فأقر لهم بقتله، وأخرج متاعه، فقتلوا النقار وأهل بيته، وأخذوا متاعه ومتاع يزدجرد وأخرجوه من المرغاب، فجعلوه في تابوت من خشب. وقال بعضهم: إنهم حملوه إلى إصطخر فدفن بها في أول سنة 31 هـ. وهو آخر ملوك الفرس، وصفا الملك بعده للعرب. وكان عمره عندما قُتل 34 سنة.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 620، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 14، ابن كثير، البداية والنهاية ج 7/ص 158. "خراسان في الشمال الشرقي من بلاد فارس". (2) شط المرغاب: نهر بمرو.

- فتح خراسان (1) (سنة 34 هـ/ 652 م) : -[95]- لما قتل عمر بن الخطاب نقض أهل خراسان وغدروا، فلما استخلف عثمان بن عفان ولَّى عبد اللَّه بن عامر بن كريز البصرة في سنة 28. ويقال 29، وهو ابن 25 سنة، وهو ابن خال عثمان بن عفان، ولد على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وكان كريماً، ميمون النقيبة (2) ، فافتتح من أهل فارس ما افتتح، ثم غزا خراسان، واستخلف على البصرة زياد بن أبي سفيان (3) ، وسار إلى كرمان (4) فاستعمل عليها مجاشع بن مسعود السلمي، وأمره بمحاربة أهلها، وكانوا قد نكثوا، واستعمل على سجستان (5) الربيع بن زياد الحارثي، وكانوا أيضاً قد نقضوا الصلح، وسار ابن عامر إلى نيسابور، وجعل على مقدمته الأحنف بن قيس (6) ، فأتى الطبَسين، وهما حصنان، وهما بابا -[96]- خراسان، فصالحه أهلها على 600. 000 درهم، وسار إلى قهستان، فلقيه أهلها، وقاتلهم حتى ألجأهم إلى حصنهم. وبعث ابن عامر سرية إلى رستاق زام من أعمال نيسابور، ففتحه عنوة، وفتح باخرْز (7) ، من أعمال نيسابور أيضاً، وفتح جُوَين (8) ، وسبى سبياً، ووجَّه ابن عامر الأسود بن كلثوم العدوي من عديِّ الرباب، وكان ناسكاً، إلى بيهق من أعمال نيسابور، فدخل حيطان البلد من ثلمة كانت فيها، ودخلت معه طائفة من المسلمين، فأخذ العدو عليهم تلك الثلمة، فقاتل الأسود حتى قتل هو، وطائفة ممن معه. وقام بأمر المسلمين بعده أخوه أدهم بن كلثوم فظفر، وفتح بيهق (9) ، وكان الأسود يدعو إلى اللَّه أن يحشره من بطون السباع والطير، فلم يواره أخوه، ودفن من استشهد من أصحابه. وفتح ابن عامر بُشت (10) من نيسابور وأشبَنذ ورُخَّ وزاره وخوَاف وأسفرائن وأرغيان (11) من نيسابور، ثم أتى أبرشهر وهي مدينة نيسابور، فحصر أهلها أشهراً، وكان على كل ربع منها رجل موكل به، وطلب صاحب ربع من تلك الأرباع الأمان على أن يدخل المسلمين المدينة، فأعطاه وأدخلهم إياها ليلاً، ففتحوا الباب، وتحصَّن مرزبانها في القهندز (12) ، ومعه جماعة. وطلب الأمان على أن يصالحه عن جميع نيسابور على وظيفة يؤديها، فصالحه على ألف ألف درهم، وولي نيسابور حين فتحها قيس بن الهيثم السلمي (13) ، ووجَّه ابن عامر عبد اللَّه بن خازم السلمي (14) إلى حُمراندر من -[97]- نسا (15) ، وهو رستاق قرية ففتحه، وأتاه صاحب نسا فصالحه على 300. 000 درهم. ويقال: على احتمال الأرض من الخراج على أن لا يقتل أحداً ولا يسبيه. وقدم بهمنة عظيم أبيورد (16) على ابن عامر فصالحه على 400. 000 درهم، ويقال وجه إليها ابن عامر عبد اللَّه بن خازم فصالح أهلها على 400. 000 درهم، ووجَّه عبد اللَّه بن عامر عبد اللَّه بن خازم إلى سَرَخْس (17) فقاتلهم، ثم طلب زاذويه مرزبانها الصلح على تأمين مائة رجل، وأن يدفع إليه النساء، فصارت ابنته في سهم خازم، واتخذها وسماها مَيساء، وغلب ابن خازم على أرض سرخس، ويقال: إنه صالحه على أن يؤمن مائة نفس فسمَّى له المائة، ولم يسم نفسه فقتله ودخل سَرخس عنوة، ووجه ابن خازم من سرخس يزيد بن سالم مولى شريك بن الأعور إلى كيف وبينة ففتحهما. وأتى كنازتك مرزبان طوس ابن عامر فصالحه على طوس على 600. 000، ووجَّه ابن عامر جيشاً إلى هراة عليه أوس ابن ثعلبة ويقال: خُليد بن عبد اللَّه الحنفي، فبلغ عظيم هراة ذلك فشخص إلى ابن عامر، وصالحه على هراة وبادغيس وبوشنج غير طاغون وباغون فإنه فتحهما عنوة، وكتب له ابن عامر: "بسم اللَّه الرحمن الرحيم. هذا ما أمر به عبد اللَّه بن عامر عظيم بوشنج وبادغيس. أمره بتقوى اللَّه ومناصحة المسلمين وإصلاح ما تحت يديه من الأرضين، وصالحه على هَراة. سهلها وجبلها على أن يؤدي من الجزية ما صالحه عليه، وأن يقسم ذلك على الأرضين عدلاً بينهم، فمن منع ما عليه فلا عهد له ولا ذمة. وكتب ربيع بن نهشل وجثم بن عامر" (18) . وأرسل مرزبان مرو الشاهجان يسأل الصلح، فوجَّه ابن عامر إلى مرو حاتم بن النعمان الباهلي، فصالحه على ألف ألف ومائتي ألف درهم. وكان في صلحهم أن يوسعوا للمسلمين في منازلهم وأن عليهم قسمة المال، وليس على المسلمين إلا قبض ذلك. وكانت مرو صلحاً كلها -[98]- إلا قرية منها يقال لها: السنج، فإنها أخذت عنوة. ووجَّه عبد اللَّه ابن عامر الأحنف، وهو حصن من مرو الروذ وله رستاق عظيم يعرف برستاق الأحنف، ويدعى بشق الجرد. فحصر أهله، فصالحوه على 300,000. فقال الأحنف: أصالحكم على أن يدخل رجل منا القصر فيؤذن فيه ويقيم فيكم حتى أنصرف، فرضوا، وكان الصلح عن جميع الرستاق، ومضى الأحنف إلى مرو الروذ، فحصر أهلها، وقاتلوه قتالاً شديداً، فهزمهم المسلمون، فاضطروهم إلى حصنهم، وكان المرزبان من ولد باذام صاحب اليمن أو ذا قرابة له، فكتب إلى الأحنف أنه دعاني إلى الصلح إسلام باذام، فصالحه على 600. 000. ووجَّه الأحنف الأقرع بن حابس التميمي (19) في خيل، وقال: "يا بني تميم تحابوا وتباذلوا تعتدل أموركم، وابدأوا بجهاد بطونكم وفروجكم يصلح لكم دينكم، ولا تغلوا يسلم لكم جهادكم". فسار الأقرع، فلقي العدو بالجوزجان (20) فكانت في المسلمين جولة ثم كرّوا فهزموهم، وفتحوا الجوزجان عنوة. وفتح الأحنف الطالقان صلحاً، وفتح الفارياب، ثم سار الأحنف إلى بلخ، وهي مدينة طخارا فصالحهم أهلها على 400. 000، فاستعمل على بلخ أرسيد بن المتشمس، ثم سار إلى خوارزم، وهي من سقي النهر جميعاً ومدينتها شرقية فلم يقدر عليها فانصرف إلى بلخ وقد جبى أرسيد صلحها. قال أبو عبيدة: فتح ابن عامر ما دون النهر، فلما بلغ أهل ما وراء النهر أمره طلبوا إليه أن يصالحهم ففعل. فيقال: إنه عبر النهر حتى أتى جميع مواضعه. وقيل بل أتوه وصالحوه، وبعث من قبض ذلك، فأتته الدواب، والوصفاء، والوصائف، والحرير، والثياب. ثم إنه أحرم شكراً للَّه. ولما تم لابن عامر هذا الفتح قال له الناس: ما فتح لأحد ما فتح عليك، فارس وكرمان وسجستان وخراسان. فقال: لا جرم لأجعلن شكري للَّه على ذلك أن أخرج محرماً من موقفي -[99]- هذا فأحرم بعمرة من نيسابور. وقدم على عثمان واستخلف على خراسان قيس بن الهيثم. جميع هذه المدن والقرى التي مر ذكرها هي بخراسان. ولما كانت فارسية فقد يستغربها القارئ ويصعب عليه النطق بها، وقد اضطررت إلى ذكرها، لأن المسلمين فتحوها تحت قيادة عبد اللَّه بن عامر، وفتح أغلبها صلحاً، لأنهم لم يستطيعوا مقاومة المسلمين، وقد قتل يزدجرد آخر ملوك الفرس.

_ (1) خراسان في الشمال الشرقي من بلاد فارس تحدها شمالاً خيوا وشرقاً أفغانستان وجنوباً وغرباً ولايات كرمان الفارسية وفرس ولورستان والعراق العجمي. ومن أمهات مدن خراسان نيسابور وهراة ومرو وكانت قصبتها وبلخ وطالقان ونسا. للاستزادة راجع: الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 620، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 14. (2) ميمون النقيبة: أي مبارك النفس مظفَّراً بما يحاول. (3) هو زياد بن أبيه، أمير من دهاة العرب، القادة الفاتحين، الولاة، من أهل الطائف، فقيل: عُبَيد الثقفي، وقيل: أبو سفيان، ولدته أمه سميّة وهي جارية الحارث بن كلدة الثقفي في الطائف سنة 1، وتبنَّاه عُبَيد الثقفي مولى الحارث بن كلدة، وأدرك النبي صلى اللَّه عليه وسلم ولم يره، وأسلم في عهد أبي بكر، وكان كاتباً للمغيرة بن شعبة، ثم لأبي موسى الأشعري أيام إمرته على البصرة، ثم ولاه علي بن أبي طالب على فارس، ولما توفي عليّ امتنع زياد على معاوية، وتحصَّن في قلاع فارس، وتبين لمعاوية أنه أخوه من أبيه "أبي سفيان" فكتب إليه بذلك، فقدم عليه وألحقه معاوية بنسبه سنة 44 هـ، قال الأصمعي: أول من ضرب الدنانير والدراهم ونقش عليها اسم "اللَّه" ومحا عنها اسم الروم ونقوشهم، زياد. للاستزادة راجع: ابن خلدون ج 3/ص 5، ابن الأثير الكامل في التاريخ ج 3/ص 195، الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 6/ص 162، تهذيب ابن عساكر ج 4/ص 406، ميزان الاعتدال ج 1/ص 355، لسان الميزان ج 2/ص 493، البدء والتاريخ ج 6/ص 2، خزانة الأدب ج 2/ص 517، الذريعة ج 1/ص 331، عقود اللطائف. (4) كرمان ولاية بين فارس، ومكران، وسجستان، وخراسان. (5) سجستان بينها وبين كرمان 130 فرسخاً. (6) هو الأحنف بن قيس بن معاوية بن حُصين المرِّي السعدي المنقري التميمي، أبو بحر، سيد تميم، أحد العظماء الدهاة، الفصحاء الشجعان الفاتحين، يضرب به المثل في الحلم، ولد في البصرة سنة 3 ق. هـ أدرك النبي صلى اللَّه عليه وسلم ولم يره، شهد فتوح خراسان وقال ياقوت في معجم البلدان ج 3/ص 409: "أنقذه عمر سنة 18 هـ، لغزو خراسان، فدخلها وتملَّك مدنها، وهرب منه يزدجرد بن شهريار ملك الفرس إلى خاقان ملك الترك بما وراء النهر، اعتزل الفتنة يوم الجمل، ثم شهد صفِّين مع عليّ، ولمَّا انتظم الأمر لمعاوية عاتبه، فأغلظ له الأحنف في الجواب، فسُئل معاوية عن صبره عليه، فقال: هذا الذي إذا غضب، غضب له مائة ألف لا يدرون فِيمَ غضب. كان صديقاً لمصعب بن الزبير، وفد الكوفة وتوفي فيها سنة 72 هـ وهو عنده. للاستزادة راجع: طبقات ابن سعد ج 7/ص 66، ابن خلكان ج 1/ص 230، ذكر أخبار أصبهان ج 1/ص 224، جمهرة الأنساب ص 206، تهذيب ابن عساكر ج 7/ص 10، تاريخ الخميس ج 2/ص 309، تاريخ الإسلام للذهبي ج 3/ص 129. (7) بين نيسابور وهراة. (8) يسميها أهل خراسان كوبان، بينها وبين نيسابور عشرة فراسخ. (9) من أعمال نيسابور. (10) سميت بذلك: لأنها كالظهر لنيسابور. والظهر باللغة الفارسية يقال له: بشت. (11) كورة من نواحي نيسابور. (12) القهندز: كالحصن، تعريبها معناه: القلعة العتيقة. (13) هو قيس بن الهيثم بن قيس بن الصلت بن حبيب السلمي، من الخطباء الشجعان، من أعيان البصرة في صدر الإسلام، كان من أنصار بني أمية فيها، ثم قام بدعوة عبد اللَّه بن الزبير، وصحب أخاه مصعباً في ثورته، إلى أن قُتل، فتوجَّه إلى عبد الملك بن مروان، فعفا عنه وأكرمه، توفي سنة 188 هـ بالبصرة. للاستزادة راجع: النووي ج 2/ص 64، ذيل المذيل ص 35، والمرزباني ص 333، الإصابة ج 3/ص 235. (14) هو عبد اللَّه بن خازم بن أسماء بن الصلت السلمي البصري، أبو صالح، أمير خراسان، له صحبة، كان من أشجع الناس، أسود اللون، كثير الشعر، يتعمم بعمامة خزّ سوداء، يلبسها في الجُمع والأعياد والحرب، ويقول: كسانيها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، قال البغدادي: هو غربان العرب في الإسلام، له فتوحات وغزوات، ولي إمرة خراسان لبني أمية، واستمر عشر سنين، وفي أيامه كانت فتنة ابن الزبير، فكتب إليه ابن خازم بطاعته، فأقره على خراسان، فبعث إليه عبد الملك بن مروان يدعوه إلى طاعته، فأبى، فلما قُتل مصعب بن الزبير بعث إليه عبد الملك برأسه فغسله وصلى عليه، ثم انتقض عليه أهل خراسان، فقتلوه، وأرسلوا رأسه إلى عبد الملك سنة 72 هـ. (15) مدينة بخراسان، ينسب إليها النسائي صاحب السنن. (16) أَبِيوَرْد: مدينة بخراسان بين سرخس ونسا. (17) ويقال بالتحريك والأول أكثر: مدينة قديمة بين نيسابور ومرو صحيحة التربة كثيرة المراعي، قليلة القرى. (18) ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 60. (19) هو الأقرع بن حابس بن عقال المجاشعي الدارمي التميمي، صحابي، من سادات العرب في الجاهلية، قدم على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في وفد بني دارم من تميم، فأسلموا، وشهد حنيناً وفتح مكة والطائف، سكن المدينة، وكان من المؤلفة قلوبهم، ورحل إلى دومة الجندل في خلافة أبي بكر، وكان مع خالد بن الوليد في أكثر وقائعه حتى اليمامة، واستشهد بجوزجان سنة 31 هـ، ومن

- فتح إصطخر (1) : إصطخر: كورة وبلدة في بلاد فارس، وبها كثير من المدن والقرى، أشهرها البيضاء ومائتين ونيريز وأبرقوه ويزد وغيرها. وبها كانت خزائن الملوك قبل الإسلام. قيل: وفي جبالها معدن الحديد. وفي دارا بجرد إحدى قراها معدن الزئبق. وفي إصطخر وضع هيستاسب كتاب زرادشت نبي المجوس لما كانت في عظمتها. وعلى ثلاثة أو أربعة فراسخ من ميان تجد آثار مدينة إصطخر الشهيرة في قديم الزمان باسم برسبوليس وهي مدينة قديمة كانت سابقاً دار سلطنة بلاد فارس. لما جاء الإسلام كان أول من غزا بلاد فارس العلاء بن الحضرمي (2) في خلافة عمر سنة 17 هجرية. سار بجيوشه بحراً وخرجوا بإصطخر فقاتلهم أهلها قتالاً شديداً فانجلى القتال عن هزيمة أهل إصطخر. ثم دخل أبو موسى الأشعري بلاد فارس في نفس السنة، ودفع لواء إصطخر إلى عثمان بن أبي العاص الثقفي لما فرق الألوية على رجاله فلم يتيسر الفتح إلا سنة 18 هـ، وقيل بعد ذلك. قال ابن الأثير (3) : وقصد عثمان بن أبي العاص الثقفي إصطخر فالتقى هو وأهلها بجور -[100]- فاقتتلوا، وانهزم الفرس وفتح المسلمون جور، ثم إصطخر وقتلوا الكثير، وفر بعضهم فدعا عثمان إلى الذمة والجزية، فأجابه الهربذ إليها فتراجعوا، وكان عثمان قد جمع الغنائم فبعث بخمسها إلى عمر، وقسم الباقي في الناس. ثم عصت إصطخر فعاد إليها عثمان سنة 27 هـ، وفتحها ثانية. ثم انتفض الفرس فواقعهم عبيد اللَّه بن معمر على باب إصطخر سنة 29 هـ فقتل وانهزم المسلمون، فبلغ الخبر عبد اللَّه بن عامر فسار إليهم والتقوا بإصطخر، فانهزم الفرس، وقتل منهم كثيرون، وفتحت إصطخر عنوة. وأتى دارا بجرد وقد غدر أهلها ففتحها، وصار إلى جور، فانتفضت إصطخر فلم يرجع إليها إلا بعد أن فتح جور ففتحها أيضاً عنوة بعد أن حاصرها واشتد القتال عليها ورماها بالمناجيق، وقتل من أهلها خلق كثير، وأفنى أكثر أهل البيوتات ووجوه الأساودة كانوا قد لجأوا إليها، والذي استخلفه على إصطخر شريك بن الأعور الحارثي فبنى مسجدها. قال البلاذري في فتوح البلدان: "لما فرغ عبد اللَّه بن عامر من فتح جور، كرَّ على أهل إصطخر وفتحها عنوة بعد قتال شديد، ورمى بالمناجيق، وقتل بها من الأعاجم 40. 000" الخ.

_ (1) فتوح البلدان البلاذري، الذهبي، تاريخ الإسلام ج 3/ص 379. (2) هو العلاء بن عبد اللَّه الحضرمي، صحابي، من رجال الفتوح في صدر الإسلام، أصله من حضرموت، سكن أبوه مكة فَوُلد العلاء ونشأ فيها، توفي سنة 21 هـ، ولاَّه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم البحرين سنة 8 هـ، وأقرَّه أبو بكر ثم عمر، وهو الذي سير عرفجة بن هرثمة إلى شواطئ فارس سنة 14 هـ بالسفن، فكان أول من فتح جزيرة بأرض فارس في الإسلام، ويقال: إن العلاء أول مسلم ركب البحر للغزو. للاستزادة راجع: البدء والتاريخ ج 5/ص 183، تهذيب الأسماء ج 1/ص 280، الإصابة ترجمة 5644، ابن سعد ج 4/ص 333، جمهرة الأنساب ص 187، صفة الصفوة ج 1/ص 189، تاريخ الإسلام للذهبي ج 2/ص 165، المحبّر تحت عنوان "رسل النبي صلى اللَّه عليه وسلم إلى الملوك والأشراف". (3) ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 2/ص 439.

- فتح كِرْمَان (1) : لما سار ابن عامر إلى فارس وجَّه مجاشع بن مسعود السلمي (2) إلى كرمان (3) وكان أهلها قد نكثوا وغدروا، ففتح بيمنت عنوة، واستبقى أهلها وأعطاهم أماناً، وبنى قصراً يعرف بقصر مجاشع. وفتح بروخروة، وأتى الشيرجان وهي مدينة كرمان، وأقام عليها أياماً يسيرة، وأهلها متحصِّنون، وقد خرجت لهم خيل فقاتلهم ففتحها عنوة، ثم إن كثيراً من أهلها جلوا عنها وفتح -[101]- جِيْرَفْت (4) عنوة، وسار في كرمان فدوَّخ أهلها وأتى القُفص وتجمع له بهرُمور خلق كثير من الأعاجم فقاتلهم فظفر بهم وظهر عليهم. وهرب كثير من أهل كرمان فركبوا البحر، ولحق بعضهم بمكران، وأتى بعضهم سجستان، فأقطعت العرب منازلهم وأراضيهم فعمروها وأدوا العشر فيها، واحتفروا القنوات في مواضع منها.

_ (1) ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 22. (2) هو مجاشع بن مسعود بن ثعلبة السلمي، صحابي من القادة الشجعان استخلفه المغيرة بن شعبة على البصرة في خلافة عمر، غزا كابل وصالحه صاحبها الأصبهجد، وقيل: كان على يديه فتح حصن أبرويز بفارس، وكان يوم الجمل مع عائشة أميراً على بني سليم، فقتل فيه سنة 36 هـ، قبل الوقعة ودفن بداره في بني سدوس بالبصرة، كان من الكرماء. للاستزادة راجع: ذكر أخبار أصبهان ج 1/ص 70، الإصابة ترجمة 7723، تهذيب التهذيب ج 10/ص 38، الجمع بين رجال الصحيحين ج 2/ص 515، معجم ما استعجم 1108، العقد الفريد ج 2/ص 66. (3) كِرْمَان: وتسمى قديماً كرمانيا، وهي مقاطعة من بلاد فارس بالجنوب الشرقي. (4) جِيرَفْت: مدينة بكِرْمان من أعيان مدنها وأنزهها.

- فتح سجستان وكابل (1) : فتحت سجستان في أيام عمر بن الخطاب، ثم إن أهلها نقضوا عهدهم. فلما توجَّه ابن عامر إلى خراسان سير إليها من كرمان الربيع بن زياد الحارثي (2) ، فأتى حصن زالق فأغار على أهله في يوم مهرجان فأخذ دهقانه فافتدى نفسه بأن ركز عنزةً، ثم غمرها ذهباً وفضة، وصالح الدهقان على حقن دمه وصالحه على صلح أهل فارس، ثم أتى قرية يقال لها كَركويه (3) على خمسة أميال من زالق فصالحوه على غير قتال، ثم أتى زالق وأخذ الأدلاَّء منها إلى زَرَنج (4) ، وسار حتى نزل الهندمند، وأتى زوشت وهي من زرنج على ثلثي ميل فخرج إليه أهلها فقاتلوه قتالاً شديداً، وأصيب رجال من المسلمين، ثم كرَّ المسلمون وهزموهم حتى اضطروهم إلى المدينة بعد أن قتلوا منهم مقتلة عظيمة (5) ، ثم أتى الربيع ناشروذ (6) قرية فقاتل أهلها وظفر بهم، ثم مضى إلى شرواذ (7) قرية فغلب عليها، ثم حاصر مدينة زرنج بعد أن قاتل أهلها، فبعث إليه أبرْويز مرزبانها يستأمنه ليصالحه، فأمر بجسد من أجساد القتلى، فوضع له، فجلس عليه واتكأ على آخر، وأجلس أصحابه على أجساد القتلى مثله. وكان الربيع آدم أفوه طويلاً. -[102]- فلما رآه المرزبان هاله فصالحه على ألف وَصِيف مع كل وَصِيف (8) جام من ذهب، ودخل المسلمون المدينة، ثم أتى سناروذ (9) وهو وادٍ فعبره وأتى القريتين، وهناك مربط فرس رُسْتَم (10) فقاتله أهلها فظفر بهم، ثم عاد إلى زرنج وأقام بها سنتين، ثم أتى ابن عامر واستخلف بها رجلاً من بني الحارث بن كعب فأخرجوه وأغلقوها. وكانت ولاية الربيع سنتين ونصفاً، وسبى في ولايته هذه 40. 000 رأس، وكان كاتبه الحسن البصري (11) ، ثم ولى ابن عامر عبد الرحمن بن سَمُرَة بن حبيب بن عبد شمس (12) سجستان، فأتى زرنج فحصر مرزبانها في قصره في -[103]- يوم عيد لهم فصالحه على ألفي ألف درهم، وألفي وصيف. وغلب ابن سَمُرَة على ما بين زرنج وكَشّ (13) من ناحية الهند، وغلب من ناحية طريق الرُّخَّج (14) على ما بينه وبين بلاد الداور (15) ، فلما انتهى إلى بلاد الداور حصرهم في جبل الزور (16) ، ثم صالحهم، فكانت عدة من معه من المسلمين 8000 فأصاب كل رجل منهم 4000 ودخل على الزور وهو صنم من ذهب عيناه ياقوتتان فقطع يده وأخذ الياقوتتين، ثم قال للمرزبان: دونك الذهب والجوهر، وإنما أردت أن أعلمك أنه لا يضر ولا ينفع. وفتح كابل وزابلستان. وأتى عبد الرحمن زرنج فأقام بها حتى اضطرب أمر عثمان، فاستخلف عليها أمير بن أحمر اليشكريّ، وانصرف من سجستان، فأخرج أهلها أمير بن أحمر وامتنعوا.

_ (1) سجستان: معرب سيستان، وكانت قديماً تسمَّى: ساقستان، أي بلاد الساقة، وهي ولاية بالجنوب الغربي من أفغانستان يتبعها قسم داخل حدود بلاد العجم. (2) هو أخو المهاجر بن زياد وهو من قال عنه عمر بن الخطاب: "ما صَدَقني أحد منذ استخلفت كما صَدَقني الربيع بن زياد". للاستزادة راجع: أسد الغابة ج 2/ص 207، تاريخ الطبري ج 4/ص 183، الإصابة ج 1/ص 80، الكامل في التاريخ/ الفهارس، جمهرة أنساب العرب ص 391، تهذيب التهذيب ج 3/ص 244، حياة الصحابة ج 2/ص 168. (3) كركويه: مدينة من نواحي سجستان. (4) زرنج: مدينة هي قصبة سجستان. (5) ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 22. (6) ناشروذ: قرية بسجستان. (7) شرواذ: قرية بسجستان. (8) الوَصِيف: الخادم، وجمعه وُصَفَاء. (9) سناروذ: اسم لنهر سجستان يأخذ من نهر هند مند فيجري على قدر فرسخ من سجستان فيتفرع منه أنهر يسقي الرساتيق وتجري فيه السفن أيام المد. ورد في المتن: "هو وادٍ" وهذا خطأ اقتضى تصويبه. (10) رُسْتَم: بضم الراء وفتح التاء، هو رُسْتَم بن الفرخزاد، ورُسْتَم لفظة فارسية، معناها: نَجَوْتُ، ويقال إن أمه تعذَّبت بولادته لِشِدَة تَعَسُّرها، وعندما وضعته صاحت: رُسْتَم أي نَجَوْتُ، فسمي بهذا الاسم. قتلت أَزْرميدُخت والده، ورُسْتَم من القواد المشهورين في فارس، هزمه سعد بن أبي وقاص في معركة القادسية. (11) هو الحسن بن يَسَار البصري، أبو سعيد، تابعي، كان إمام أهل البصرة، وحبر الأمة في زمنه، هو أحد العلماء الفقهاء الفصحاء الشجعان النسَّاك، ولد بالمدينة سنة 21 هـ، شبَّ في كنف علي بن أبي طالب، استكتبه الربيع بن زياد والي خراسان في عهد معاوية، سكن البصرة، وعظمت هيبته في القلوب، فكان يدخل على الولاة فيأمرهم وينهاهم، لا يخاف في اللَّه لومة لائم، قال فيه الغزالي: كان الحسن البصري أشبه الناس كلاماً بكلام الأنبياء، وأقربهم هدياً من الصحابة، كان غاية في الفصاحة، تتصبَّب الحكمة من فيه، له مع الحجاج بن يوسف مواقف، توفي في البصرة سنة 110 هـ. للاستزادة راجع: تهذيب التهذيب ج 2/ص 110، وفيات الأعيان ج 1/ص 115، ميزان الاعتدال ج 1/ص 254، حلية الأولياء ج 2/ص 131، ذيل المذيل ص 93، أمالي المرتضى ج 1/ص 106، الأزهرية ج 3/ص 725. (12) هو عبد الرحمن بن سَمُرَة بن حبيب بن عبد شمس القرشي، أبو سعيد، صحابي، من القادة الولاة، أسلم يوم الفتح، شهد غزوة مؤتة، سكن البصرة، افتتح سجستان، وغزا خراسان، ثم عاد إلى البصرة فتوفي فيها سنة 50 هـ، كان اسمه في الجاهلية: "عبد كلال"، سماه النبي صلى اللَّه عليه وسلم عبد الرحمن. للاستزادة راجع: تهذيب التهذيب ج 6/ص 190، تهذيب الكمال ج 2/ص 792، تقريب التهذيب ج 1/ص 483، خلاصة تهذيب الكمال ج 2/ص 136، الكاشف ج 2/ص 167، تاريخ البخاري الكبير ج 5/ص 242، تاريخ البخاري الصغير ج 1/ص 96، الجمع بين رجال الصحيحين ص 282، دول الإسلام للذهبي ج 1/ص 26، نسب قريش ص 150، الجرح والتعديل ج 5/ص 241، الثقات ج 3/ص 249، أسد الغابة ج 3/ص 454، تجريد أسماء الصحابة ج 1/ص 348، الإصابة ج 4/ص 310، الاستيعاب ج 2/ص 835، سير الأعلام ج 2/ص 571، أسماء الصحابة الرواة ترجمة ص 149. (13) الكَشّ: قرية على ثلاثة فراسخ من جرجان على الجبل. (14) الزُّخَّج: كورة من أعمال سجستان، ومدينة من نواحي كابل. (15) ورد في الكامل في التاريخ لابن الأثير، ج 3/ص 23: "الداون" ولعل ما ورد في متن هذا الكتاب خطأ على الأرجح، والصواب هو "الداون" وليس "الداور". (16) ورد في الكامل في التاريخ لابن الأثير، ج 3/ص 26: "الزوز" ولعل ما ورد في متن هذا الكتاب خطأ على الأرجح، والصواب هو "الزوز" وليس "الزور".

- وفاة أبي سفيان (1) (سنة 31 هـ/ 652 م) : أبو سفيان صخر بن حرب وهو والد يزيد ومعاوية، ولد قبل الفيل بعشر سنين، وكان من أشراف قريش. وكان تاجراً يجهز التجار بماله وأموال قريش إلى الشام وغيرها من أرض العجم، وكان يخرج أحياناً بنفسه، وكانت إليه راية الرؤساء التي تسمى العقاب. وإذا حميت الحرب اجتمعت قريش فوضعتها بيد الرئيس. وقيل كان أفضل قريش رأياً في الجاهلية ثلاثة: عتبة، وأبو جهل، وأبو سفيان، فلما أتى الإسلام أدبر في الرأي. وهو الذي قاد قريشاً كلها يوم أحد، ولم يقدها قبل ذلك رجل واحد إلا يوم ذاك فكيف قادها المطلب!. وكان أبو سفيان صديق العباس، وأسلم ليلة الفتح، وأعطاه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من غنائمها مائة بعير وأربعين أوقية، وأعطى ابنيه يزيد ومعاوية كل واحد مثله. وشهد الطائف مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ففقئت عينه يومئذ، وفقئت الأخرى يوم اليرموك. وشهد اليرموك تحت راية ابنه يزيد يقاتل ويقول: "يا نصر اللَّه اقترب"، وكان يقف على الكراديس يقص ويقول: "اللَّه، اللَّه، إنكم دارة العرب وأنصار الإسلام. وإنهم دارة الروم وأنصار -[104]- المشركين. اللَّهم هذا يوم من أيامك. اللَّهم أنزل نصرك على عبادك". وروي أنه لما أسلم ورأى المسلمين وكثرتهم قال للعباس: "لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً" فقال له العباس: "إنها النبوة". قال: "فنعم". وكان من المؤلفة قلوبهم وحسن إسلامه. توفي سنة 31 هـ، وصلى عليه عثمان، وكان عمره 88 سنة.

_ (1) ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 24.

- غزوة بلنجرد (1) (سنة 32 هـ/ 653 م) : بلنجرد: مدينة الخزَر خلف باب الأبواب. ذكرنا في كتاب "الفاروق عمر بن الخطاب" أن عبد الرحمن بن ربيعة (2) زحف بجيشه (يريد بلنجرد) (3) فخافهم الترك في أول الأمر وقالوا: إن هؤلاء أي العرب ملائكة لا يعمل فيهم السلاح. فاتفق أن تركياً اختفى في غيضة (4) ورشق مسلماً بسهم فقتله. فنادى في قومه أن هؤلاء يموتون، كما تموتون، فلا تخافوهم. فاجترأوا عليهم، وأوقعوا بهم حتى استشهد عبد الرحمن بن ربيعة، وأخذ الراية أخوه، ولم يزل يقاتل حتى أمكنه دفن أخيه بنواحي بلنجرد، ورجع بقية المسلمين على طريق جيلان. وفي سنة 32 هـ انتصرت الخزر والترك على المسلمين، وسببه أن الغزوات لما تتابعت عليهم تذامروا (5) وقالوا: كنا لا يُقرن بنا أحد حتى جاءت هذه الأمة "العربية" فصرنا لا نقوم لها. لما قتل عبد الرحمن بن ربيعة وانهزم المسلمون افترقوا فرقتين فرقة نحو الباب، فلقوا سلمان بن ربيعة أخا عبد الرحمن، كان قد سيره سعيد بن العاص مدداً للمسلمين بأمر عثمان، فلما لقوه نجوا معه. وفرقة نحو جيلان وجرجان، فيهم سلمان الفارسي (6) وأبو -[105]- هريرة (7) ، وكان في ذلك العسكر يزيد بن معاوية النخعي (8) ، وعلقمة بن قيس (9) ، ومعضد -[106]- الشيباني، وأبو مفرز التميمي في خباء واحد، وخالد بن ربيعة، والحلحان ابن دري، والقرثع في خباء، فكانوا متجاورين في ذلك العسكر. وكان القرثع يقول: ما أحسن لمع الدماء على الثياب. وكان عمرو بن عتبة يقول لقباء عليه أبيض: ما أحسن حمرة الدماء على بياضك، ورأى يزيد بن معاوية في منامه أن غزالاً جيء به لم ير أحسن منه فلف في ملحفة، ثم دفن في قبر لم ير أحسن منه، عليه أربعة نفر قعوداً، فلما استيقظ واقتتل الناس رمي بحجر فهشم رأسه فمات فكأنما زين ثوبه بالدماء وليس بتلطيخ، فدفن في قبر على الصورة التي رأى. وقال معضد لعلقمة: أعرني بردك أعصب به رأسي، ففعل، فأتى برج بلنجرد الذي أصيب فيه يزيد فرماهم فقتل منهم. وأتاه حجر عرّادة (10) ففضخ هامته فأخذه أصحابه، فدفنوه إلى جنب يزيد، وأخذ علقمة البرد فكان يغسله، فلا يخرج أثر الدم منه. وكان يشهد فيه الجمعة، ويقول: يحملني على هذا أن دم معضد فيه. وأصاب عمرو بن عتبة جراحة فرأى قباءه كما اشتهى ثم قتل، وأما القرثع فإنه قاتل حتى خرق بالحراب. فبلغ الخبر بذلك إلى عثمان فقال: إنا للَّه وإنا إليه راجعون، انتكث أهل الكوفة. اللَّهم تب عليهم وأقبل بهم. وكان عثمان قد كتب إلى سعيد بن العاص أن ينفذ سلمان إلى الباب للغزو فسيره، فلقي المهزومين على ما تقدم، فنجاهم اللَّه به. فلما أصيب عبد الرحمن استعمل سلمان بن ربيعة على الباب واستعمل على الغزو بأهل الكوفة حذيفة بن اليمان وأمدَّهم عثمان بأهل الشام. عليهم حبيب بن مسلمة فتأمر عليه سلمان وأبى حبيب حتى قال أهل الشام: لقد هممنا بضرب سلمان. فقال الكوفيون: إذن، واللَّه نضرب حبيباً ونحبسه، وإن أبيتم كثرت القتلى فينا وفيكم (11) ، وأراد حبيب أن يتأمر على صاحب الباب كما يتأمر أمير الجيش إذا جاء من الكوفة، فكان ذلك أول -[107]- خلاف وقع بين أهل الكوفة، وغزا حذيفة ثلاث غزوات، فقتل عثمان في الثالثة، ولقيهم مقتل عثمان. فقال حذيفة بن اليمان: "اللَّهم العن قتلته وشتَّامه، اللَّهم إنا كنا نعاتبه ويعاتبنا فاتخذوا ذلك سلماً إلى الفتنة، اللَّهم لا تمتهم إلا بالسيوف".

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 627، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 25. (2) هو عبد الرحمن بن ربيعة بن يزيد، الباهلي، والٍ من الصحابة، كان يُلقَّب: ذا النور، ولاَّه عمر قضاء الجيش الذي وجَّهه إلى القادسية، وعهد إليه بقسمة الغنائم، ثم ولاَّه الباب، وقتال الترك والخزرج، استمر بولايته هذه إلى أن استشهد في بعض وقائعه ببنجر. للاستزادة راجع: الإصابة ترجمة ص 5110، وابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3، ياقوت، معجم البلدان "بنجر". (3) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 627، وابن كثير، البداية والنهاية ج 7/ص 155، ذكر "بلنجرد" باسم "بلنجر". (4) غيضة: أجمة. [القاموس المحيط، مادة: غيض] . (5) تذامروا: تحاضّوا على القتال وتلاوموا. [القاموس المحيط، مادة: تذَّمر] . (6) هو سلمان الفارسي، صحابي، مقدّم من مجوس أصبهان، عاش عمراً طويلاً، توفي سنة 36 هـ، اختلفوا فيما كان يسمى به في بلاده، قالوا: نشأ في قرية جيلان، فرحل إلى الشام، فالموصل، فنصّيبين، فعمورية، وقرأ كتب الفارسية، والرومية، واليهودية، قصد بلاد العرب فلقيه قوم من بني كلب فاستخدموه، ثم استعبدوه وباعوه، فاشتراه رجل من قريظة وجاء به إلى المدينة، فسمع بخبر النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقصده وسمع كلامه وأسلم، كان قوي الجسم، صحيح الرأي، عالماً بالشرائع وغيرها، وهو الذي دلَّ المسلمين على حفر الخندق في غزوة الأحزاب، جُعل أميراً على المدائن، فأقام فيها حتى وفاته. للاستزادة راجع: أخبار سلمان وزهده وفضائله، لابن بابويه القمي، طبقات ابن سعد ج 4/ص 111، تهذيب ابن عساكر ج 6/ص 300، الإصابة ترجمة 3350، حلية الأولياء ج 1/ص 187، صفة الصفوة ج 1/ص 125، المسعودي ج 1/ص 210، محاسن أصفهان 25، الذريعة ج 1/ص 85. (7) هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، الملقب بأبي هريرة، ولد سنة 21 ق. هـ صحابي، كان أكثر الصحابة حفظاً للحديث ورواية له، نشأ يتيماً ضعيفاً في الجاهلية، قدم المدينة ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بخيبر، أسلم سنة 7 هـ، لزم صحبة النبي صلى اللَّه عليه وسلم روى عنه 5374 حديثاً، نقلها عن أبي هريرة أكثر من 800 رجل بين صحابي وتابعي، ولي إمرة المدينة مرة، لما صارت الخلافة إلى عمر استعمله على البحرين، ثم رآه ليِّن العريكة مشغولاً بالعبادة، فعزله، وأراده بعد زمن على العمل فأبى، توفي سنة 59 هـ في المدينة، كان يفتي. للاستزادة راجع: تهذيب الأسماء واللغات ج 2/ص 270، الإصابة ترجمة 1179، الجواهر المضيئة ج 2/ص 418، صفة الصفوة ج 1/ص 285، حلية الأولياء ج 1/ص 376، ذيل المذيل ص 111، حسن الصحابة ص 166، الذريعة ج 7/ص 114، تهذيب الكمال ج 2/ص 795، تهذيب التهذيب ج 6/ص 199، تقريب التهذيب ج 1/ص 485، خلاصة تهذيب الكمال ج 2/ص 397، الكاشف ج 2/ص 169، الجرح والتعديل ج 5/ص 246، أسد الغابة ج 6/ص 318، طبقات ابن سعد ج 4/ص 52. (8) هو يزيد بن معاوية النخعي، فارس من أشراف العرب من صدر الإسلام، يمني الأصل، ممن نزل بالكوفة، كان من أصحاب عبد اللَّه بن مسعود، له ذكر في البخاري، حفر غزوة بلنجر، قاتل الترك والخزر قتالاً شديداً، فأصابه حجر من حصن بلنجر هشم رأسه فتوفي سنة 32 هـ. للاستزادة راجع: الكامل في التاريخ لابن الأثير ج 3/ص 50، تهذيب الكمال ج 3/ص 54، تهذيب التهذيب ج 11/ص 360، تقريب التهذيب ج 2/ص 371، خلاصة تهذيب الكمال ج 3/ص 177، الكاشف ج 3/ص 286، تاريخ البخاري الكبير ج 8/ص 355، الجرح والتعديل ج 9/ص 1216، تاريخ الثقات ص 481، الثقات ج 5/ص 545، معرفة الثقات 2036، طبقات ابن سعد ج 9/ص 209. (9) هو علقمة بن قيس بن عبد اللَّه بن مالك بن علقمة بن سلامان بن كهل النخعي الهمداني أبو شبل، تابعي، كان فقيه العراق، يشبه ابن مسعود في هديه، وسمته، وفضله، ولد في حياة النبي صلى اللَّه عليه وسلم، وروى الحديث عن الصحابة، غزا خراسان وأقام بخوارزم سنتين، وبمرو مدة، سكن الكوفة وتوفي فيها سنة 62 هـ. للاستزادة راجع: تهذيب التهذيب ج 7/ص 276، تذكرة الحفاظ ج 1/ص 45، حلية الأولياء ج 2/ص 98، تاريخ بغداد ج 12/ص 296، تهذيب الكمال ج 2/ص 953، تقريب التهذيب ج 2/ص 31، خلاصة تهذيب الكمال ج 2/ص 241، الكاشف ج 2/ص 277، تاريخ البخاري الكبير ج 7/ص 41، تاريخ البخاري الصغير ج 1/ص 123، الجرح والتعديل ج 6/ص 2258، تاريخ الثقات ص 339، تاريخ بغداد ج 12/ص 696. (10) عرّادة: آلة تستخدم في الحرب لدك الحصون، أصغر من المنجنيق، وترمي بالحجارة البعيدة المرمى، جمعها عرّادات. [القاموس المحيط، مادة: عرد] . (11) وقال أوس بن مغراء في ذلك: إن تضربوا سلمان نضرب حبيبكم ... وإن ترحلوا نحو ابن عفان نرحل وإن تقسطوا فالثغر ثغر أميرنا ... وهذا أمير في الكتائب مقبل ونحن ولاة الثغر كنا حماته ... ليالي نرمي كل ثغر وننكل

- خروج الترك مع ملكهم قارن (1) (سنة 32 هـ/ 653 م) : خرجت جموع من الترك من ناحية خراسان في 40. 000 عليهم قارن من ملوكهم، فانتهى إلى الطبسين واجتمع له أهل باذغيس وهراة وقهستان، وكان على خراسان يومئذ ابن الهيثم السلمي استخلفه عليها ابن عامر عند خروجه إلى مكة محرماً، فدوَّخ جهتها، وكان معه ابن عمه عبد اللَّه بن خازم فقال لابن عامر: اكتب لي على خراسان عهداً إذا خرج منها قيس ففعل. فلما أقبلت جموع الترك قال قيس لابن خازم: ما ترى؟ قال: أرى أن تخرج من البلاد، فإن عهد ابن عامر عندي بولايتها، فترك منازعته وذهب إلى ابن عامر. وقيل: أشار عليه أن يخرج إلى ابن عامر يستمده، فلما خرج أشهر عهد ابن عامر له بالولاية عند مغيب قيس، وسار ابن خازم للقاء الترك في أربعة آلاف، وأمر الناس فحملوا الودك (2) ، فلما قرب من قارن أمر الناس أن يربط كل رجل منهم على زج رمحه خرقة، أو قطناً، ثم يكثروا دهنه، ثم سار حتى أمسى فقدم مقدمته ستمائة، ثم أتبعهم، وأمر الناس فأشعلوا النار في أطراف الرماح، فانتهت مقدمته إلى معسكر قارن نصف الليل، فناوشوهم وهاج الناس على دهش، وكانوا آمنين من البيات، ودنا ابن خازم منهم فرأوا النيران يمنة وميسرة تتقدم وتتأخر، وتنخفض وترتفع، فهالهم ذلك، ومقدمة ابن خازم يقاتلونهم، ثم غشيهم ابن خازم وأكثروا القتل في المشركين، وقتل ملكهم قارن فانهزم المشركون واتبعهم المسلمون يقتلونهم كيف شاءوا وأصابوا سبياً كثيراً وكتب ابن خازم بالفتح إلى ابن عامر فرضي وأقره على خراسان. هذه الخدعة الحربية التي ابتدعها ابن خازم بإشعال أطراف الرماح ومداهمة العدو ليلاً هي أول خدعة سمعنا بها في التاريخ الإسلامي، وقد فزع العدو لرؤيتها وهالهم الأمر، وبذلك انتصر المسلمون على الأتراك في هذه الموقعة.

_ (1) ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 25. (2) الودك: الدسم من اللحم، والشحم، وهو ما يتحلّب منهما. [القاموس المحيط، مادة: ودك] .

الفصل الرابع: وفاة كبار الصحابة.

الفصل الرابع: وفاة كبار الصحابة.

توفي بين سنة 32 هـ وسنة 34 هـ عدد من كبار الصحابة رضوان اللَّه عليهم، فرأيت أن أقدم للقراء نبذة عن تاريخ كل منهم لأنهم توافوا في حياة عثمان رضي اللَّه عنه. أما أبو ذر فقد سبق أن ذكرت سيرته عند تسييره إلى الربذة.

- وفاة أبي ذر الغفاري (1) (سنة 32 هـ/ 653 م) : لما حضرت أبا ذر الوفاة في سنة ثمان في ذي الحجة من إمارة عثمان قال لابنته: "استشرفي يا بنية، فانظري هل ترين أحداً؟ قالت: لا. قال: فما جاءت ساعتي بعد. ثم أمرها فذبحت شاة، ثم طبختها. ثم قال: إذا جاءك الذين يدفنونني فقولي لهم إن أبا ذر يقسم عليكم أن لا تركبوا حتى تأكلوا. فلما نضجت قدرها، قال لها: انظري هل ترين أحداً؟ قالت: نعم، هؤلاء ركب مقبلون. قال: استقبلي بي الكعبة. ففعلت وقال: "بسم اللَّه وباللَّه وعلى ملَّة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم) . ثم خرجت ابنته فتلقتهم وقالت: رحمكم اللَّه اشهدوا أبا ذر فادفنوه قالوا: وأين هو؟ فأشارت إليه وقد مات. قالوا: ونعمة عين، لقد أكرمنا اللَّه بذلك. وإذا ركب من أهل الكوفة فيهم ابن مسعود فمالوا إليه وابن مسعود يبكي ويقول: صدق رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم "يموت وحده ويبعث وحده". فغسلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه. فلما أرادوا أن يرتحلوا قالت: إن أبا ذر يقرأ عليكم السلام وأقسم عليكم أن لا تركبوا حتى تأكلوا. ففعلوا، وحملوهم حتى أقدموهم مكة، ونعوه إلى عثمان، فضم ابنته إلى عياله وقال: يرحم اللَّه أبا ذر ويغفر لرافع بن خديج (2) سكوته. وفي رواية أخرى أنه قال: يرحم اللَّه أبا ذر ويغفر له نزوله الربذة.

_ (1) سبقت ترجمته. (2) هو رافع بن خديج بن رافع الأنصاري الأوسي الحارثي، صحابي، عريق قومه بالمدينة، شهد أحد والخندق ولد سنة 12 ق. هـ، وتوفي في المدينة متأثراً بجراحه سنة 74 هـ. للاستزادة راجع: تهذيب التهذيب ج 3/ص 229، الإصابة ج 2/ص 186.

- وفاة عبد الرحمن بن عوف (1) (سنة 32 هـ/ 653 م) : -[112]- وفي هذه السنة توفي عبد الرحمن بن عوف، وأمه الشفاء بنت عوف. ولد بعد الفيل بعشر سنين، وأسلم قبل أن يدخل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم دار الأرقم. وكان أحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام. وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر. وكان من المهاجرين الأولين. هاجر إلى الحبشة، وإلى المدينة، وآخى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع كما ذكر في كتاب "محمد رسول اللَّه"، وشهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. وبعثه رسول اللَّه إلى دومة الجندل، وعمَّمه بيده وسدلها بين كتفيه وقال: إن فتح اللَّه عليك فتزوج ابنة ملكهم، أو قال شريفهم، وكان الأصبغ بن ثعلبة بن ضمضم الكلبي شريفهم فتزوج ابنته تماضر بنت الأصبغ فولدت له أبا سلمة بن عبد الرحمن، وكان أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب لهم: الشورى الذين جعل عمر بن الخطاب الخلافة فيهم. وصلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خلفه في سفره. وجرح يوم أُحد إحدى وعشرين جراحة في رجله فكان يعرج منها. وسقطت ثنيتاه فكان أهتم. وكان كثير الإنفاق في سيبل اللَّه عز وجل. أعتق في يوم ثلاثين عبداً. ولما آخى رسول اللَّه بينه وبين سعد بن الربيع (2) قال له سعد: إن لي مالاً فهو بيني وبينك شطران. ولي امرأتان فانظر أيتهما أحببت حتى أخالعها فإذا حلت فتزوجها. فقال: لا حاجة لي في أهلك ومالك، بارك اللَّه لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق "لأنه كان من كبار التجار" فاشترى، وباع، وربح. وقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: "عبد الرحمن بن عوف أمين في السماء أمين في الأرض" (3) . ولما توفي عمر رضي اللَّه عنه قال عبد الرحمن بن عوف لأصحاب الشورى الذين جعلوا عمر الخلافة فيهم: من يخرج نفسه منها ويختار للمسلمين؟ فلم يجيبوه إلى ذلك. فقال: أنا أخرج نفسي من الخلافة، وأختار للمسلمين. فأجابوه إلى ذلك، وأخذ مواثيقهم عليه فاختار عثمان فبايعه - كما ذكرنا في كتابنا الفاروق -[113]-. وكان عظيم التجارة مجدوداً فيها. كثير المال. قيل: إنه دخل على أم سلمة فقال: يا أمة قد خفت أن تهلكني كثرة مالي. قالت: يا بني أنفق. ولما كثر ماله قدم له ذات يوم راحلة تحمل البر، وتحمل الدقيق والطعام، فلما دخلت المدينة سمع لأهل المدينة رَجة، فقالت عائشة: ما هذه الرجة؟ فقيل لها عير قدمت لعبد الرحمن بن عوف، سبعمائة بعير تحمل البر والدقيق. فقالت عائشة: سمعت النبي صلى اللَّه عليه وسلم يقول: "يدخل عبد الرحمن بن عوف الجنة حبواً" (4) . فلما بلغ ذلك عبد الرحمن قال: يا أمة إني أشهدك أنها بأحمالها وأحلاسها وأقتابها في سبيل اللَّه عز وجل. وتصدق عبد الرحمن بن عوف على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بشطر ماله. أربعة آلاف. ثم تصدق بأربعين ألفاً. ثم تصدق بأربعين ألف دينار. ثم حمل على خمسمائة فرس في سبيل اللَّه، ثم حمل على خمسمائة راحلة في سبيل اللَّه. وكان عامة ماله من التجارة. فهل يقتدي به في زماننا هذا كبار الأغنياء الذين يكنزون الذهب والفضة، والأوراق المالية، ويمتلكون الضياع الواسعة، والعمارات الشاهقة، فيبذلون جزءاً منها في سبيل اللَّه، وإعانة الفقراء الذين ضاقت مذاهبهم، وساءت حالهم، ولا يجدون لهم معيناً؟ اللَّهم لقد فسد الزمان. وفسدت القلوب، وزاد الجشع والطمع. وانمحت عاطفة الخير وصار كل إنسان لا يفكر إلا في نفسه ولذَّاته وشهواته. لذلك اتسعت مسافة الخلف بين الأغنياء والفقراء، وحقد كلٌ على أخيه في الإنسانية، وكثرت حوادث التعدي، وشعر الفقير بالحيف، ونقم على النظم الحالية، وتفككت روابط الأسر والصداقة، وفشا الربا. وهذه حالة محزنة، لطف اللَّه بعباده. كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها!. فبلغ ذلك النبي صلى اللَّه عليه وسلم، فقال: "دعوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه" (5) . وهذا إنما كان بينهما لما سيَّر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة بعد فتح مكة فقَتل فيهم خالدٌ خطأ. فودى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم القتلى وأعطاهم ثمن ما أخذ منهم، وكان بنو جذيمة قد قتلوا في الجاهلية -[114]- عوف بن عوف والد عبد الرحمن بن عوف وقتلوا الفاكه بن المغيرة عم خالد. فقال له عبد الرحمن: إنما قتلتهم لأنهم قتلوا عمك. وقال له خالد: إنما قتلوا أباك وأغلظ في القول. فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم ما قال. توفي عبد الرحمن سنة 32 هـ وهو ابن 75 سنة، وأوصى بخمسين ألف دينار في سبيل اللَّه. وأوصى لمن بقي ممن شهد بدراً لكل 400 دينار، وكانوا مائة فأخذوها، وأخذ عثمان فيمن أخذ وأوصى بألف فرس في سبيل اللَّه. ولما مات قال علي بن أبي طالب: اذهب يا ابن عوف فقد أدركت صفوَها وسبقت رَنْقها (6) . وكان سعد بن أبي وقاص فيمن حمل جنازته وهو يقول: واجبلاه وخلف مالاً عظيماً من ذهب قطع بالفؤوس حتى مجلت يدي الرجال منه. وترك ألف بعير ومائة فرس وثلاثة آلاف شاة ترعى بالبقيع. وترك أربع نسوة. أخرجت امرأة من إرثها بثمانين ألفاً يعني صولحت وكان طويلاً أبيض مشرباً بحمرة. حسن الوجه. رقيق البشرة. أهدب الأشفار. أقنى. له جمة. ضخم الكفين. غليظ الأصابع (علامة الغنى) . لا يغير لحيته ولا رأسه.

_ (1) سبقت ترجمته. (2) هو سعد بن الربيع بن عمرو، من بني الحارث بن الخزرج، صحابي من كبارهم، كان أحد النقباء يوم العقبة، وشهد موقعة بدر، واستشهد يوم أحد سنة 3 هـ. للاستزادة راجع: صفة الصفوة ج 1/ص 191، الإصابة ترجمة 3147. (3) رواه أحمد في (م 1/ص 193) بمعناه. (4) رواه ابن كثير في البداية والنهاية (7: 164) . (5) رواه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وسلم، باب: قول النبي صلى اللَّه عليه وسلم: "لو كنت متخذاً خليلاً". ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب: 221، وأبو داود في كتاب السنة، باب: في النهي عن سبِّ أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، والترمذي في المناقب، باب: 58، وابن ماجه في المقدمة، باب: في فضائل أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وأحمد في (م 3/ص 11) . (6) رَنْقَها: كدرها. [القاموس المحيط، مادة: رنق] .

- وفاة العباس بن عبد المطلب (1) (سنة 32 هـ/ 653 م) : توفي في هذه السنة أيضاً العباس بن عبد المطلب كما ذكره الطبري (2) وهو عمِّ رسول -[115]- اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وصنو أبيه. يكنى أبا الفضل بابنه الفضل، وأمه نتيلة بنت خباب، وهي أول عربية كست البيت الحرير والديباج وأصناف الكسوة. وسببه أن العباس ضاع وهو صغير فنذرت إن وجدته أن تكسو البيت فوجدته، ففعلت. وكان أسن من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بسنتين. وقيل: بثلاث سنين. وكان العباس في الجاهلية رئيساً في قريش. وإليه كانت عمارة المسجد الحرام، والسقاية في الجاهلية. أما السقاية فمعروفة. وأما عمارة المسجد الحرام فإنه كان لا يدع أحداً يسب في المسجد الحرام، ولا يقول فيه هجراً لا يستطيعون لذلك امتناعاً. لأن ملأ قريش كانوا قد اجتمعوا وتعاقدوا على ذلك. فكانوا له أعواناً عليه. وشهد مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بيعة العقبة لما بايعه الأنصار ليشدد له العقد، وكان حينئذٍ مشركاً. وكان ممن خرج مع المشركين يوم بدر مكرَهاً. وأسر يومئذٍ فيمن أسر. وكان قد شد وثاقه فسهر النبي صلى اللَّه عليه وسلم تلك الليلة ولم ينم، فقال له بعض أصحابه: ما يسهرك يا نبي اللَّه؟ فقال: "أسهر لأنين العباس". فقام رجل من القوم فأرخى وثاقه. فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: "ما لي لا أسمع أنين العباس؟ " فقال الرجل: أنا أرخيت من وثاقه. فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: "فافعل ذلك بالأسرى كلهم" (3) . (وهذا هو العدل) وفدى يوم بدر نفسه، وابني أخويه: عقيل بن أبي طالب (4) ونوفل بن الحارث (5) -[116]-. ثم هاجر إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم وشهد معه فتح مكة وانقطعت الهجرة وشهد حنيناً، وثبت مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لما انهزم الناس بحنين. وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يعظمه ويكرمه بعد إسلامه وكان وصولاً لأرحام قريش. محسناً إليهم. ذا رأي سديد، وعقل غزير. قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: "أيها الناس من آذى عمي فقد آذاني، فإنما عم الرجل صنو أبيه" (6) . وعن العباس قال: أتيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقلت: علمني يا رسول اللَّه شيئاً أدعو به. فقال: "يا عباس، يا عم رسول اللَّه، سل اللَّه العافية في الدنيا والآخرة" (7) . واستسقى عمر بن الخطاب بالعباس رضي اللَّه عنهما عام الرمادة لما اشتد القحط، فسقاهم اللَّه تعالى به، وأخصبت الأرض، فقال عمر: هذا واللَّه الوسيلة إلى اللَّه والمكان منه. لكن دائرة المعارف الإسلامية قالت (8) : إن هذه القصة خرافة وضعها العباسيون. وهذا تعنّت وتشكيك. لأن حسان بن ثابت (9) ذكر استسقاء عمر بالعباس في شعره. فلو كان ذلك خرافة لما ذكره حسان -[117]- بالمرة. ولا يخفى أن حسان قال ذلك الشعر زمن عمر بن الخطاب وإليك قوله: سأل الإمام وقد تتابع جدبنا ... فسقى الغمام بغرة العباس عم النبي وصنو والده الذي ... ورث النبي بذاك دون الناس أحيا الإله به البلاد فأصبحت ... مخضرة الأجناب بعد الياس وعن أنس بن مالك. أنهم كانوا إذا قحطوا على عهد عمر خرج بالعباس فاستسقى به وقال: "اللَّهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا عليه السلام إذا قحطنا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا عليه السلام فاسقنا". وعن موسى بن عمر قال: أصاب الناس قحط، فخرج عمر ابن الخطاب فأخذ يستسقي بيد العباس، فاستقبل به القبلة. فقال: "هذا عم نبيك عليه السلام جئنا نتوسل به إليك فاسقنا، فما رجعوا حتى سقوا. وعن عبد الرحمن بن حاطب، عن أبيه قال: رأيت عمر آخذاً بيد العباس فقام به فقال: اللَّهم إنا نستشفع بعم رسولك صلى اللَّه عليه وسلم إليك (10) . فليست قصة الاستسقاء خرافة كما زعمت دائرة المعارف الإسلامية فقد رواها جمع من الصحابة. ولما سقى الناس طفقوا يتمسحون بالعباس ويقولون هنيئاً لك ساقي الحرمين. وكان الصحابة يعرفون للعباس فضله، ويقدمونه، ويشاورونه، ويأخذون برأيه، وكان له من الولد عشرة ذكور سوى الإناث. توفي العباس بالمدينة، وصلى عليه عثمان، ودفن بالبقيع، وهو ابن ثمان وثمانين سنة. وكان طويلاً، جميلاً، أبيض.

_ (1) هو العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، أبو الفضل، القرشي، المكي، من أكابر قريش في الجاهلية والإسلام، جد الخلفاء العباسيين، قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في وصفه: "أجود قريش كفاً وأوصلها، هذا بقية آبائي"، وهو عمه، كان محسناً لقومه، سديد الرأي، واسع العقل، مولعاً بإعتاق العبيد، كانت له سقاية الحج وعمارة المسجد الحرام أي لا يدع أحداً يسبُّ أحداً في المسجد ولا يقول فيه هجراً. أسلم قبل الهجرة وكتم إسلامه، أقام بمكة يكتب إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أخبار المشركين، ثم هاجر إلى المدينة وشهد وقعة حنين فكان ممن ثبت حين انهزم الناس، شهد فتح مكة وعمي في آخر عمره، وكان إذا مرَّ بعمر في أيام خلافته ترجَّل عمر إجلالاً له، وكذلك عثمان عمَّر طويلاً، ولد سنة 51 ق. هـ وتوفي سنة 32 هـ. أحصي ولده في عام 200 هـ فبلغوا 33000. للاستزادة راجع: أسد الغابة ج 3/ص 164، تهذيب الكمال ج 2/ص 658، تهذيب التهذيب ج 5/ص 122، تقريب التهذيب ج 1/ص 397، خلاصة تهذيب الكمال ج 2/ص 35. (2) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 629 وفيه: أنه مات وهو ابن ثمان وثمانين سنة، وكان أسنّ من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بثلاث سنين". (3) رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (4: 7) . (4) هو عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، أبو زيد، أخو علي رضي اللَّه عنه وجعفر، المتوفى سنة 60 هـ. للاستزادة راجع: تهذيب الكمال ج 2/ص 947، تهذيب التهذيب ج 7/ص 254، تقريب التهذيب ج 2/ص 29، خلاصة تهذيب الكمال ج 2/ص 238، الكاشف ج 2/ص 275، تاريخ البخاري الكبير ج 7/ص 50، تاريخ البخاري الصغير ج 1/ص 145، الجرح والتعديل ج 6/ص 218، الثقات ج 3/ص 259، أسد الغابة ج 4/ص 64، الإصابة ج 4/ص 531، الاستيعاب ج 3 4، ترجمة ص 1078، طبقات ابن سعد ج 4/ص 10، وج 8/ص 15، سير أعلام النبلاء ج 1/ص 218، وج 3/ص 99، أسماء الصحابة الرواة ترجمة ص 273. (5) هو نوفل بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي، القرشي، صحابي كان من أغنياء قريش وأجوادهم وشجعانهم، أخرجه قومه يوم بدر لقتال المسلمين، وهو كاره، فأسر ثم أسلم، وكان أسنّ من أسلم من بني هاشم، ورجع إلى مكة، ثم هاجر إلى رسول اللَّه أيام الخندق، شهد فتح مكة وحضر حنيناً والطائف، ثبت مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يوم حنين، فكان عن يمينه تبرع في هذه الوقعة بثلاثة آلاف رمح، عاش إلى خلافة عمر بن الخطاب، توفي سنة 15 هـ. للاستزادة راجع: طبقات ابن سعد ج 4/ص 30، الإصابة ترجمة 8828، أسد الغابة ج 5/ص 46، ذيل المذيل ص 8. (6) رواه مسلم في كتاب الزكاة، باب: 11، وأبو داود في كتاب الزكاة، باب: في تعجيل الزكاة، والترمذي في كتاب المناقب، باب: 28، وأحمد في (م 1/ص 94) . (7) رواه المتقي الهندي في كنز العمال (3302) ، والكحال في الأحكام النبوية في الصناعة الطبية (1: 1128) ، والذهبي في الطب النبوي (7) . (8) دائرة المعارف الإسلامية (م 1/ص 10، النسخة الإنكليزية) . (9) هو حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام بن عمرو، أبو عبد الرحمن، الأنصاري، الخزرجي، شاعر الرسول صلى اللَّه عليه وسلم، المتوفى سنة 54 هـ، وله من العمر 120 سنة، عاش 60 سنة من عمره في الجاهلية و 60 سنة في الإسلام، مخضرم، كانت له ناصية يسدلها بين عينيه، وكان يضرب بلسانه روثة أنفه من طوله، كان شديد الهجاء، فحل الشعراء، قال المبرد في الكامل في التاريخ والأدب: "أعرق قوم كانوا في الشعر آل حسان". للاستزادة راجع: تهذيب ابن عساكر ج 4/ص 360، معاهد التنصيص ج 1/ص 163، خزانة البغدادي ج 1/ص 363، ذيل المذيل ص 25، الأغاني ج 4/ص 25، شرح الشواهد 11، ابن سلام 211، الشعر والشعراء 110، حُسن الصحابة 13، نكت الهميان 125، تهذيب الكمال ج 1/ص 300، تهذيب التهذيب ج 2/ص 440، تقريب التهذيب ج 1/ص 180، خلاصة تهذيب الكمال ج 1/ص 281، الكاشف ج 1/ص 305، تاريخ البخاري الكبير ج 3/ص 107، الجرح والتعديل ج 3/ص 112، أسد الغابة ج 2/ص 103. (10) ابن سعد، الطبقات الكبرى ج 4/ص 19، طبعة ليدن سنة 1322 هـ/1908 م.

- وفاة عبد اللَّه بن مسعود (1) وممن توفي في هذه السنة عبد اللَّه بن مسعود بن غافل، وأمه أم عبد بنت عبدُود بن سوداء. أسلمت أيضاً وهاجرت. فهو صحابي ابن صحابية. أسلم قديماً قبل عمر بن الخطاب حين أسلم سعيد بن زيد (2) وزوجته فاطمة بنت الخطاب (3) -[118]-. قال ابن مسعود يذكر سبب إسلامه: "كنت غلاماً يافعاً في غنم لعقبة بن أبي معيط أرعاها، فأتى النبي صلى اللَّه عليه وسلم ومعه أبو بكر. فقال: "يا غلام هل معك من لبن؟ " فقلت: نعم، ولكني مؤتمن. فقال: "ائتني بشاة لم ينز عليها الفحل". فأتيته بعناق أو جذعة. فاعتقلها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فجعل يمسح الضرع ويدعو حتى أنزلت، فأتاه أبو بكر بصحفة، فاحتلب فيها. ثم قال لأبي بكر: "اشرب". فشرب أبو بكر، ثم شرب النبي صلى اللَّه عليه وسلم بعده. ثم قال للضرع: "أقلص". فقلص، فعاد كما كان. ثم أتيته فقلت: يا رسول اللَّه علِّمني من هذا الكلام أو من هذا القرآن. فمسح رأسي وقال: "إنك غلام معلم" (4) . قال: فلقد أخذت منه سبعين سورة ما نازعني فيها بشر". وهو أول من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. اجتمع يوماً أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقالوا: واللَّه ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط!. فمن رجل يسمعهم؟ فقال عبد اللَّه بن مسعود: أنا. فقالوا: إنا نخشاهم عليك. إنما نريد رجلاً له عشيرة تمنعه من القوم إن أرادوه. فقال: دعوني فإن اللَّه سيمنعني. فغدا عبد اللَّه حتى أتى المقام في الضحى وقريش في أنديتها، فقال رافعاً صوته: (بسم اللَّه الرحمن الرحيم الرحمن {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ القُرْآنَ} [الرحمن: 1 2] ) فاستقبلها، فقرأ بها، فتأملوا. فجعلوا يقولون: ما يقول ابن أم عبد!؟ ثم قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد فقاموا، فجعلوا يضربون في وجهه. وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء اللَّه أن يبلغ. ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا بوجهه. فقالوا: هذا الذي خشينا عليك. فقال: ما كان أعداء اللَّه قط أهون عليَّ منهم الآن. ولئن شئتم غاديتهم بمثلها غداً. قالوا: حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون. ولما أسلم عبد اللَّه أخذه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إليه، وكان يخدمه فكان يدخل عليه ويلبسه نعله، ويمشي معه وأمامه ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام. وهاجر الهجرتين جميعاً إلى الحبشة، وإلى المدينة، وصلى إلى القبلتين، وشهد بدراً، وأُحداً، والخندق، وبيعة الرضوان، وسائر المشاهد مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وشهد اليرموك بعد النبي صلى اللَّه عليه وسلم -[119]-. وهو الذي أجهز على أبي جهل، وشهد له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بالجنة. وسيَّره عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه إلى الكوفة وكتب إلى أهلها: "إني قد بعثت عمار بن ياسر أميراً، وعبد اللَّه بن مسعود معلماً ووزيراً، وهما من النجباء من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من أهل بدر فاقتدوا بهما، وأطيعوا، واسمعوا قولهما. وقد آثرتكم بعبد اللَّه على نفسي". وليس بعد ذلك ثناء وتقدير. ولما مرض عبد اللَّه عاده عثمان بن عفان فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي. قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة اللَّه. قال: ألا آمر لك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني. قال: ألا آمر لك بعطاء؟ قال: لا حاجة لي فيه. قال: يكون لبناتك. قال: أتخشى على بناتي الفقر؟ إني أمرت بناتي أن يقرأن كل ليلة سورة الواقعة، إني سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: "من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً" (5) . وفي أسد الغابة وتهذيب اللغات والأسماء أنه توفي سنة 32 هـ. وكان عمره يوم توفي بضعاً وستين سنة. وكان يعرف بصاحب سواد رسول اللَّه (6) ، وسواكه ونعله. وكان عبد اللَّه يلبس رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم نعليه، ثم يمشي أمامه بالعصا، حتى إذا أتى مجلسه نزع نعليه فأدخلهما في ذراعيه وأعطاه العصا، فإذا أراد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن يقوم ألبسه نعليه، ثم مشى بالعصا أمامه حتى يدخل الحجرة قبل رسول اللَّه. وكان يصوم الاثنين والخميس. وكان رجلاً نحيفاً قصيراً. دقيق الساقين. وكان من كبار الصحابة، وساداتهم، وفقهائهم، ومقدميهم في القرآن، والفقه، والفتوى، وأصحاب الخلق، والأتباع في العلم. مات بالمدينة، ودفن بالبقيع عند قبر عثمان بن مظعون كما أوصى وهو ابن بضع وستين سنة. وقيل: إنه ترك تسعين ألف درهم.

_ (1) ابن كثير، البداية والنهاية ج 7/ص 162. (2) هو سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل، أبو الأعور هو أحد العشرة المبشرين بالجنة، المتوفى سنة 50 هـ. للاستزادة راجع: تهذيب التهذيب ج 4/ص 185، تقريب التهذيب ج 1/ص 170، الجرح والتعديل ج 4/ص 110، أسماء الصحابة الرواة ترجمة 64، طبقات ابن سعد ج 3/ص 64، صفة الصفوة ج 1/ص 83، حلية الأولياء ج 1/ص 80، الرياض النضرة ج 1/ص 115، صورة من حياة الصحابة، الأعلام ج 3/ص 94. (3) هي فاطمة بنت الخطاب بن نُفيل القرشية، صحابية من السابقات إلى الإسلام، أسلمت قبل أخيها عمر، وأخفت إسلامها عنه، فدخل عليها فسمعها تتلو آيات من القرآن، فضربها وشجَّها، والخبر معروف من إسلام عمر، كانت زوجة لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل. للاستزادة راجع: ابن سعد ج 8/ص 195، السيرة النبوية ج 1/ص 271، جمهرة الأنساب 143، الإصابة باب النساء ترجمة 837. (4) رواه الطبراني في المعجم الكبير (9: 77) . (5) رواه السيوطي في الدر المنثور (6: 153) ، والفتني في تذكرة الموضوعات (78) . (6) صاحب سواد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أي صاحب سرَّه.

- وفاة عبد اللَّه بن زيد بن عبد ربه (1) الذي أُري الأذان (سنة 32 هـ/ 653 م) : شهد عبد اللَّه العقبة، وبدراً، والمشاهد كلها مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وهو الذي أُري الأذان في النوم، فأمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بلالاً أن يؤذن على ما رآه عبد اللَّه. وكانت رؤياه في السنة الأولى بعد ما بنى رسول اللَّه مسجده -[120]-. قال عبد اللَّه: لما أصبحنا أتيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فأخبرته بالرؤيا فقال: "هذه رؤيا حق. فقم مع بلال فإنه أندى صوتاً منك، فألق عليه ما قيل لك وليناد بذلك"، فلما سمع عمر بن الخطاب نداء بلال بالصلاة خرج إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو يجر رداءه وهو يقول: يا رسول اللَّه، والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي قال، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: "فللَّه الحمد فذاك أثبت" (2) .

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 629، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 29. (2) رواه أبو داود في كتاب الصلاة، باب: كيف الأذان، والترمذي في كتاب المواقيت، باب: 25، وابن ماجه في كتاب الأذان، باب: بدء الأذان، والدارمي في كتاب الصلاة، باب: في بدء الأذان وأحمد في (م 4/ص 43) .

- وفاة أبي الدرداء الأنصاري (1) (سنة 32 هـ/ 653 م) : اسمه عويمر بن مالك، وقيل اسمه عامر بن مالك، وعويمر لقب. تأخر إسلامه قليلاً. كان آخر أهل داره إسلاماً، وحسن إسلامه، وكان فقيهاً، عاقلاً، حكيماً. آخى رسول اللَّه بينه وبين سلمان الفارسي. وقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: "عويمر حكيم أمتي" (2) . شهد ما بعد أحد من المشاهد. مر أبو الدرداء يوماً على رجل أصاب ذنباً وكانوا يسبونه. فقال: أرأيتم لو وجدتموه في قَلِيب (3) ألم تكونوا مستخرجيه؟ قالوا: بلى. قال: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا اللَّه الذي عافاكم. قالوا: أفلا تبغضه. قال: إنما أبغض عمله فإذا تركه فهو أخي. ولما نزل به الموت بكى فقالت له أم الدرداء: وأنت تبكي يا صاحب رسول اللَّه؟ قال: نعم. وما لي لا أبكي ولا أدري علام أهجم من ذنوبي. ودعا ابنه بلالاً فقال: ويحك يا بلال، اعمل للساعة، اعمل لمثل مصرع أبيك، واذكر به مصرعك وساعتك فكأن قد. ثم قبض. وكان أبو الدرداء مقرئ أهل دمشق وقاضيهم. يهابه معاوية، ويتأدب معه.

_ (1) ورد في ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 24، أن الصحابي أبو الدرداء قد توفي في العام 31 هـ. (2) رواه ابن حجر في المطالب العالية (4112) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (33132) ، والألباني في السلسلة الضعيفة (2: 150) . (3) قَلِيب: بئر قديمة. [القاموس المحيط، مادة: قلب] .

- وفاة المقداد بن الأسود الكندي (1) (سنة 32 هـ/ 654 م) : -[121]- هو قديم الإسلام من السابقين وهاجر إلى أرض الحبشة، ثم عاد إلى مكة فلم يقدر على الهجرة إلى المدينة لما هاجر إليها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. عن ابن إسحاق قال: أتى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لما سار إلى بدر الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا غيرهم فاستشار رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الناس فقال أبو بكر فأحسن. وقال عمر فأحسن. ثم قام المقداد فقال: يا رسول اللَّه امض لما أمرت به فنحن معك. واللَّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: "اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن نقول: "اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق نبياً لو سرت بنا إلى بَرْكِ الغِماد (2) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خيراً ودعا له. قيل: لم يكن ببدر صاحب فرس غير المقداد، وشهد المشاهد كلها مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. وشهد فتح مصر. وكانت وفاته بالمدينة، ومات بأرض له بالجرف، وحمل إلى المدينة، ودفن بالبقيع، وأوصى إلى الزبير بن العوام، وصلى عليه عثمان رضي اللَّه عنه. وكان عمره سبعين سنة، وكان رجلاً ضخماً، طويلاً، آدم، ذا بطن، كثير شعر الرأس، يصفر لحيته، وهي حسنة، وليست بالعظيمة ولا بالخفيفة، أعين، مقرون الحاجبين، أقنى. وبعد أن توفي المقداد جعل عثمان يثني عليه فقال الزبير: لاَ أُلفْيَنَّكَ بعد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زوّدتني زادي

_ (1) هو المقداد بن عمرو، ويعرف بابن الأسود، الكندي، الحضرمي، أبو معبد، صحابي من الأبطال ولد سنة 37 ق. هـ، هو أحد السبعة الذين كانوا أول من أظهر الإسلام، وهو أول من قاتل على فرس في سبيل اللَّه، وفي الحديث: "إن اللَّه أمرني بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم: علي، والمقداد، وأبو ذر، وسلمان"، كان في الجاهلية من سكان حضرموت، واسم أبيه عمرو بن ثعلبة البهراني الكندي، توفي سنة 33 هـ. للاستزادة راجع: الإصابة ترجمة 8185، التهذيب ج 10/ص 285، صفة الصفوة ج 1/ص 167، حلية الأولياء ج 1/ص 172، ذيل المذيل 10، السالمي ج 1/ص 160، مجمع الزوائد ج 9/ص 306، الجرح والتعديل ج 4/ص 426. (2) الغماد: بكسر الغين، وقال ابن دريد بالضم والكسر أشهر، موضع وراء مكة، بخمس ليالٍ مما يلي البحر، وقيل: بلد باليمن.

- وفاة أبي طلحة الأنصاري (1) (سنة 34 هـ/ 655 م) : -[122]- اسمه زيد بن سهل الأنصاري النجّاري (2) ، شهد بدراً، وآخى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بينه وبين أبي عبيدة بن الجراح، شهد المشاهد كلها مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. وكان من الرماة المذكورين من الصحابة، وهو من الشجعان، وله يوم أُحد مقام مشهود. كان بقي مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بنفسه يرمي بين يديه ويتطاول بصدره ليقي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. ويقول: "نحري دون نحرك ونفسي دون نفسك". وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: "صوت أبي طلحة في الجيش خير من مائة رجل" (3) . وقتل يوم حنين عشرين رجلاً وأخذ أسلابهم. وكان أكثر الأنصار مالاً. توفي بالمدينة وهو ابن سبعين سنة، وصلى عليه عثمان بن عفان. وكان لا يخصب وكان آدم مربوعاً.

_ (1) ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 24 أورد ابن الأثير في الهامش رقم (2) أن وفاته كانت سنة 31 هـ. واسمه "زيد بن سهيل الأنصاري النّجّاري". (2) هو زيد بن سهل بن الأسود النّجّاري، الأنصاري، صحابي من الشجعان الرماة المعدودين في الجاهلية والإسلام، مولده في المدينة سنة 36 ق. هـ، ولما ظهر الإسلام كان من كبار أنصاره، فشهد العقبة، وبدراً، وأُحداً، والخندق، وسائر المشاهد، كان جهير الصوت، وفي الحديث: "صوت أبي طلحة في الجيش خير من ألف رجل"، كان ردف رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يوم خيبر. توفي بالمدينة سنة 34 هـ، وقيل: ركب البحر غازياً فمات فيه. للاستزادة راجع: طبقات ابن سعد ج 3/ص 64، تهذيب ابن عساكر ج 6/ص 4، صفة الصفوة ج 1/ص 190. (3) رواه أحمد في (م 3/ص 261) ، وفيه: "خير من فئة".

- وفاة عبادة بن الصامت الأنصاري (1) (سنة 34 هـ/ 655 م) : اسمه غنم بن عوف (2) . شهد العقبة الأولى والثانية. وآخى رسول اللَّه بينه وبين أبي مرثد الغنوي (3) . وشهد بدراً، وأُحداً، والخندق، والمشاهد كلها مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. واستعمله رسول -[123]- اللَّه على بعض الصدقات وقال له: "اتق اللَّه. لا تأتي يوم القيامة ببعير تحمله له رغاء أو شاة لها ثؤاج" (4) . قال: "فوالذي بعثك بالحق لا أعمل على اثنين". وهو من الذين جمعوا القرآن زمن رسول اللَّه. وكان عبادة يعلم أهل الصفة القرآن. ولما فتح المسلمون الشام أرسله عمر بن الخطاب، وأرسل معه معاذ بن جبل (5) وأبا الدرداء، ليعلموا الناس القرآن بالشام ويفقهوهم في الدين. وأقام عبادة بحمص، وأقام أبو الدرداء بدمشق، ومضى معاذ إلى فلسطين، ثم صار عبادة بعد إلى فلسطين. وكان معاوية خالفه في شيء أنكره عبادة فأغلظ له معاوية في القول فقال عبادة: لا أساكنك بأرض واحدة أبداً ورحل إلى المدينة. فقال عمر: ما أقدمك؟ فأخبره، فقال: ارجع إلى مكانك لا يفتح اللَّه أرضاً لست فيها أنت ولا أمثالك. وكتب إلى معاوية: لا إمرة لك عليه. وبايع عبادة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على أن لا يخاف في اللَّه لومة لائم. فقام في الشام خطيباً فقال: "يا أيها الناس. إنكم قد أحدثتم بيوعاً لا أدري ما هي. ألا إن الفضة بالفضة وزناً بوزن، تبرها وعينها. والذهب بالذهب وزناً بوزن تبره وعينه. ألا ولا بأس ببيع الذهب بالفضة يداً بيد والفضة أكثر ولا يصلح نسيئة. ألا وإن الحنطة بالحنطة مدْياً بمدى. والشعير بالشعير مدياً بمدي (6) . ألا ولا بأس ببيع الحنطة بالشعير والشعير أكثرهما يداً بيد، ولا يصلح نسيئة، والتمر بالتمر مدياً بمدي، والملح بالملح مدياً بمدي، ومن زاد أو ازداد فقد أربى". وعبادة أحد النقباء. بدري كبير، وكان طويلاً جسيماً جميلاً من كبار زاد العلماء. توفي بالرملة. وقيل: توفي ببيت المقدس وهو ابن اثنتين وسبعين سنة.

_ (1) ابن الأثير الكامل في التاريخ ج 3/ص 45. (2) عبادة بن الصامت الأنصاري الخزرجي، شهد العقبة الأولى والثانية، وكان نقيباً على قوافل بني عوف بن الخزرج، وآخى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بينه وبين أبي مرئد الغنوي، وشهد بدراً، وأُحداً، والمشاهد كلها مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، واستعمله على بعض الصدقات، وكان يعلم أهل الصفة القرآن، ولما فتح المسلمون الشام، أرسله عمر بن الخطاب، وأرسل معه معاذ بن جبل، وأبا الدرداء ليعلموا الناس القرآن ويفقهوهم في الدين، وأقام عبادة بحمص وكان طويلاً جسيماً جميلاً. (3) هو مرثد بن كنَّاز بن الحصين بن يربوع الغنوي، صحابي ابن صحابي، من أمراء السرايا، آخى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بينه وبين عبادة بن الصامت، شهد بدراً، وأُحداً، كان يحمل الأسرى، ووجَّهه النبي صلى اللَّه عليه وسلم أميراً على سرية إلى مكة، فاستشهد يوم الرجيع سنة 4 هـ. للاستزادة راجع: تهذيب التهذيب ج 10/ص 82، إمتاع الأسماع ج 1/ص 174، الإصابة ترجمة 7880، الاستيعاب ج 3/ص 410. (4) رواه البيهقي في السنن الكبرى (4: 158) ، وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق (7: 213) . (5) هو معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس ولد سنة 20 قبل الهجرة وتوفي سنة 18 هـ، الأنصاري، الخزرجي، أبو عبد الرحمن، صحابي جليل، كان أعلم الأمة بالحلال والحرام، هو أحد الستة الذين جمعوا القرآن على عهد النبي صلى اللَّه عليه وسلم. للاستزادة راجع: طبقات ابن سعد ج 3/ص 250، أُسد الغابة ج 4/ص 300، الإصابة ترجمة 8039، حلية الأولياء ج 1/ص 170، مجمع الزوائد ج 9/ص 188، غاية النهاية ج 2/ص 287، صفة الصفوة ج 1/ص 111، المحبّر ص 125. (6) المدي: بالضم مكيال تسعة عشر صاعاً، وهو غير المد يسع، والجمع: أمداء.

الفصل الخامس: الفتنة.

الفصل الخامس: الفتنة.

- تسيير أهل الفتنة في العراق إلى معاوية في الشام (1) : اختار سعيد بن العاص والي الكوفة بعد الوليد بن عقبة وجوه الناس، وأهل القادسية، وقراء أهل البصرة دخلته إذا خلا، فأما إذا جلس الناس فإنه يدخل عليه كل أحد. فجلس للناس يوماً فدخلوا عليه فبينا هم جلوس يتحدثون قال خنيس بن فلان الأسدي: ما أجود طلحة بن عبيد اللَّه! (2) . فقال سعيد بن العاص::إن من له مثل النشاستج (3) لحقيق أن يكون جواداً. واللَّه لو أن ليِّ مثله لأعاشكم اللَّه عيشاً رغداً" -[128]-. فقال عبد الرحمن بن خنيس، وهو حدث: واللَّه لوددت أن هذا الملطاط (4) لك يعني ما كان لكسرى على جانب الفرات الذي يلي الكوفة. قالوا: فضَّ اللَّه فاك. واللَّه لقد هممنا بك. فقال خنيس: غلام فلا تجاوزوه. فقالوا: يتمنى له من سوادنا. قال: ويتمنى لكم أضعافه. قالوا: لا يتمنى لنا ولا له. قال: ما هذا بكم. قالوا: أنت واللَّه أمرته بها. فثار إليه الأشتر، وابن ذي الحبكة، وجندب، وصعصعة، وابن الكواء، وكميل، وعمير بن ضابئ فأخذوه. فذهب أبوه ليمنع عنه، فضربوهما حتى غشي عليهما، وجعل سعد يناشدهم ويأبون، حتى قضوا منهما وطراً. فسمعت بذلك بنو أسد فجاءوا وفيهم طليحة (5) ، فأحاطوا بالقصر، وركبت القبائل، فعادوا بسعيد، فخرج سعيد إلى الناس فقال: أيها الناس. قوم تنازعوا وتهاووا وقد رزق اللَّه العافية. ثم قعدوا وعادوا في حديثهم وتراجعوا. وأفاق الرجلان فقال: أبكما حياة؟ قالا: قتلتنا غاشيتك (6) قال: لا يغشوني واللَّه أبداً فاحفظا عليَّ ألسنتكما ولا تجرَّئا عليَّ الناس، ففعلا (7) . ولما انقطع أولئك النفر من ذلك، قعدوا في بيوتهم وأقبلوا على الإذاعة حتى لامه أهل -[129]- الكوفة في أمرهم. فقال: هذا أميركم وقد نهاني أن أحرك شيئاً فمن أراد أن يحرك شيئاً فليحركه، إن هؤلاء النفر لما قعدوا في بيوتهم تكلموا في حق الخليفة عثمان وشتموه. وقيل: بل كان السبب في ذلك أنه كان يسمر (8) عند سعيد بن العاص وجوه أهل الكوفة منهم مالك بن كعب والأسود بن يزيد (9) ، وعلقمة بن قيس، ومالك الأشتر (10) وغيرهم. فقال سعيد: إنما هذا السواد بستان قريش فقال الأشتر: أتزعم أن السواد الذي أفاءه اللَّه علينا بأسيافنا بستان لك ولقومك، وتكلم القوم معه. فقال عبد الرحمن الأسدي وكان على شرطة سعيد -: أتردون على الأمير مقالته؟ وأغلظ عليهم. فقال الأشتر: مَنْ ههنا؟ لا يفوتنكم الرجل، فوثبوا عليه، فوطأوه وطأً شديداً حتى غشي عليه. ثم جرّوه برجله فنضح بماء فأفاق. فقال: قتلتني من انتخبت. فقال: واللَّه لا يسمر عندي أحد أبداً فجعلوا يجلسون في مجالسهم يشتمون عثمان وسعيداً. واجتمع إليهم الناس حتى كثروا، فكتب سعيد وأشراف أهل الكوفة إلى عثمان في إخراجهم. ومن هنا يتضح أن الفتنة قد بلغت عندئذٍ حداً عظيماً في الكوفة فضعف مركز الوالي، ولم -[130]- يقدر أن يؤدبهم، حتى اجترأوا أن يضربوا من رد عليهم ضرباً مبرحاً من غير أن يستطيع أن يبدي حراكاً ولما منع الاجتماع أخذوا يشتمونه ويشتمون الخليفة. كتب أشراف أهل الكوفة إلى عثمان في إخراجهم فكتب: إذا اجتمع ملؤكم على ذلك فألحقوهم بمعاوية. وكتب عثمان إلى معاوية: "إن أهل الكوفة قد أخرجوا إليك نفراً خلقوا للفتنة فرعهم وقم عليهم فإن آنست منهم رشداً فاقبل منهم، وإن أعيوك فاردد عليهم". فلما قدموا على معاوية رحب بهم، وأنزلهم كنيسة تسمى "مريم"، وأجرى عليهم بأمر عثمان ما كان يجري عليهم بالعراق، وجعل يتغدى ويتعشى معهم فقال لهم يوماً: "إنكم قوم من العرب، لكم أسنان وألسنة، وقد أدركتم بالإسلام شرفاً، وغلبتم الأمم، وحويتم مراتبهم ومواريثهم. وقد بلغني أنكم نقمتم قريشاً، وإن قريشاً لو لم تكن عدتم أذلة كما كنتم، إن أئمتكم لكم إلى اليوم جنة فلا تسدوا عن جنتكم. وإن أئمتكم اليوم يصبرون لكم على الجور ويحتملون منكم المؤونة. واللَّه لتنتهن أو ليبتلينكم اللَّه بمن يسومكم، ثم لا يحمدكم على الصبر، لم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرعيَّة في حياتكم وبعد موتكم". فقال رجل من القوم، وهو صعصعة: "أما ما ذكرت من قريش، فإنها لم تكن أكثر العرب ولا أمنعها في الجاهلية فتخوفنا. وأما ما ذكرت من الجنة فإن الجنة إذا اختُرقت خُلص إلينا". فقال معاوية: "عرفتكم الآن. علمت أن الذي أغراكم على هذا قلة العقول، وأنت خطيب القوم ولا أرى لك عقلاً، أعظم عليك أمر الإسلام، وأذكرك به وتذكرني الجاهلية، وقد وعظتك، وتزعم لما يجنك أنه يخترق إليك ولا ينسب ما يخترق إلى الجنة. أخزى اللَّه أقواماً أعظموا أمركم ورفعوا إلى خليفتكم افقهوا ولا أظنكم تفقهون. إن قريشاً لم تعز في جاهلية ولا إسلام إلا باللَّه عز وجل، لم تكن بأكثر العرب ولا أشدهم، ولكنهم كانوا أكرمهم أحساباً، ومحضهم أنساباً وأعظمهم أخطاراً وأكملهم مروءة، ولم يمتنعوا في الجاهلية والناس يأكل بعضهم بعضاً إلا باللَّه الذي لا يُستذل من أعز، ولا يوضع من رفع، فبوَّأهم حَرَماً آمناً يُتَخَطف الناس من حولهم. هل تعرفون عرباً أو عجماً أو سوداً أو حمراً إلا قد أصابهم الدهر في بلدهم وحُرْمتهم بدولة إلا ما كان من قريش فإنه لم يُردهم أحد من الناس بكيد إلا جعل اللَّه خده الأسفل حتى أراد اللَّه أن ينتقذ من أكرم واتبع دينه من هوان الدنيا وسوء مرد الآخرة، فارتضى لذلك خير خلقه، ثم ارتضى له أصحاباً فكان خيارهم قريشاً، ثم بُنيَ هذا الملك عليهم وجعل هذه الخلافة فيهم. ولا يصلح ذلك إلا عليهم، فكان اللَّه يحوطهم في الجاهلية وهم على كفرهم باللَّه، أفتراه لا يحوطهم وهم على دينه، وقد حاطهم في الجاهلية من الملوك الذين كانوا يدينونكم. أف لك ولأصحابك. ولو أن -[131]- متكلماً غيرك تكلم، ولكنك ابتدأت. فأما أنت يا صعصعة فإن قريتك شر قرى عربية، وأنتها نبتاً، وأعمقها وادياً، وأعرفها بالشر، وألأمها جيراناً. لم يسكنها شريف قط، ولا وضيع إلا سُبَ بها وكانت عليه هُجْنَة (11) ثم كانوا أقبح العرب ألقاباً، وألأمهم أصهاراً، نُزَّاع الأمم، وأنتم جيران الخط وفَعَلة فارس حتى أصابتكم دعوة النبي صلى اللَّه عليه وسلم، ونكبتك دعوته، وأنت نزيع شطير في عمان لم تسكن البحرين، فتشركهم في دعوة النبي صلى اللَّه عليه وسلم. فأنت شر قومك حتى إذا أبرزك الإسلام وخلطك بالناس وحملك على الأمم التي كانت عليك، أقبلت تبغي دين اللَّه عِوَجاً وتنزع إلى اللامة والذلة ولا يضع ذلك قريشاً، ولن يضرهم ولن يمنعهم من تأدية ما عليهم. إن الشيطان عنكم غير غافل. قد عرفكم بالشر من بين أمتكم فأغرى بكم الناس، وهو صارعكم، لقد علم أنه لا يستطيع أن يرد بكم قضاء قضاه اللَّه ولا أمراً أراده اللَّه، ولا تدركون بالشر أمراً إلا فتح عليكم شراً منه وأخزى". أرسل هؤلاء النفر الذين أحدثوا الشغب واللغط في الكوفة، وعابوا على سعيد بن العاص وعثمان إلى معاوية بالشام. وفي نظرنا أن سبب هذه الفتنة كما أورده الطبري وابن الأثير (12) تافه لا يدعو إلى كل ما حدث. فقد ذكر أن عبد الرحمن بن خنيس وهو شاب قال: "واللَّه لوددت أن هذا الملطاط لك" يعني لسعيد أي ما كان لكسرى على جانب الفرات. فهذا الذي أثار ثائرتهم. شاب يتمنى أن تكون لسعيد بن العاص هذه الناحية من الفرات حتى يجود بمثل ما كان يجود به طلحة بن عبيد اللَّه. وقد كان سعيد كما ذكرنا في ترجمته كريماً يقيم الولائم، ويتصدق على المصلين. غاظ هؤلاء القوم الذين كانوا يحضرون مجلس سعيد، وكان يخصهم بسمره أن يتمنى هذا الشاب ذلك. ولو أنه مجرد تمنٍ ومع هذا تعدوا عليه وضربوه وضربوا أباه. وقد توسَّل إليهم الوالي بجلالة قدره أن يتركوهما فلم يفد فأشبعوهما ضرباً. وكل ما قدر عليه سعيد أنه منع أن يتسامروا عنده بعد ذلك. وذُكر سبب غير ذلك وهو قول سعيد: "إنما هذا السواد بستان قريش". فأغلظوا عليه القول، فغضب صاحب شرطته (13) ولامهم على ما كان منهم، فأوسعوه ضرباً حتى غشي عليه. فلا بد أن هؤلاء الذين قربهم سعيد كانوا يحقدون عليه ويتحيَّنون الفرص للانتقام منه، لكنه حسب حسابهم، ولم يعاقبهم بنفسه على تهوّرهم واعتدائهم ومخالفتهم أمره خشية اتساع الخرق واشتداد الفتنة، فكتب إلى الخليفة في شأنهم وفوَّض إليه الأمر. فلما ذهبوا إلى معاوية وهو كما -[132]- نعلم قويٌّ في حكومته، ماهر في سياسته، وجدوا أنفسهم بمعزل عن أعوانهم، فأراد أن يكبح جماحهم ويوقفهم عند حدهم ويظهر لهم حقيقة أمرهم وماضيهم وحاضرهم بخطبته البليغة التي نشرناها. فوصفهم بقلة العقول وحقر من اتبعهم وعظمهم، لأنهم لا يستحقون التعظيم، وذلك فضل قريش في الجاهلية والإسلام على سائر القبائل العربية وفضل الإسلام عليهم، ثم وجه الخطاب إلى صعصعة، فقال: إن قريته شر القرى إلى آخر ما قال حتى أفرغ ما في جعبته، وأروى غُلته من غير خوف ولا وجل، ثم بالغ في الاحتقار بهم فإن قام بعد أن ألقى خطبته وتركهم فتقاصرت إليهم أنفسهم. فلما كان بعد ذلك أتاهم فقال: "إني أذنت لكم فاذهبوا حيث شئتم لا ينفع اللَّه بكم أحداً أبداً ولا يضره. ولا أنتم برجال منفعة ولا مضرة، فإن أرتم النجاة فالزموا جماعتكم ولا يبطرنكم الإنعام، فإن البطر لا يعتري الخيار اذهبوا حيث شئتم فسأكتب إلى أمير المؤمنين فيكم". فلما خرجوا دعاهم وقال لهم: "إني معيد عليكم أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان معصوماً فولاَّني وأدخلني في أمره، ثم استخلف أبو بكر فولاَّني. ثم استخلف عمر فولاَّني. ثم استخلف عثمان فولاَّني. فلم يولني أحد إلا وهو عني راضٍ". وإنما طلب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم للأعمال أهل الجزاء من المسلمين والغنى، وأن اللَّه ذو سطوات ونقمات يمكر بمن مكر به، فلا تتعرضوا للأمر وأنتم تعلمون من أنفسكم غير ما تظهرون، فإن اللَّه غير تارككم حتى يختبركم، ويبدي للناس سرائركم، وقد قال عز وجل: {الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1، 2] . وكتب معاوية إلى عثمان: "إنه قدم عليَّ أقوام ليست لهم عقول ولا أديان، أضجرهم العدل، لا يريدون اللَّه بشيء ولا يتكلمون بحجة. إنما همهم الفتنة وأموال أهل الذمة، واللَّه مبتليهم ومختبرهم. ثم فاضحهم وليسوا بالذين ينكون أحداً إلا مع غيرهم، فإنه سعيد ومن قبله عنهم فإنهم ليسوا الأكثر من شغب أو تكبر". وخرج القوم من دمشق فقالوا: لا ترجعوا إلى الكوفة فإنهم يشتمون بكم وميلوا بنا إلى الجزيرة ودعوا العراق والشام فأووا إلى الجزيرة وسمع بهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وكان معاوية قد ولاَّه حمص وولَّى عامل الجزيرة حَرّان والرقَّة فدعا بهم فقال: "يا آلة الشيطان لا مرحباً بكم ولا أهلاً، قد رجع الشيطان محسوراً وأنتم بعدُ نٍشَاط، خسَّر اللَّه عبد الرحمن إن لم يؤدبكم حتى يحسركم، يا معشر من لا أدري أعرب أم عجم لكي لا تقولوا لي ما يبلغني أنكم تقولون -[133]- لمعاوية: أنا ابن خالد بن الوليد. أنا ابن مَنْ عجمته العاجمات. أنا ابن فاقئ الردة. واللَّه لئن بلغني يا صعصعة بن ذُل أن أحداً ممن دق أنفك، ثم أمصّك لأطيرن بك طَيْرة بعيدة المهوى". فأقامهم أشهراً كلما ركب أمشاهم، فإذا مرَّ به صعصعة قال: "يا ابن الحطيئة (14) أعلمت أن من لم يُصلحه الخير أصلحه الشر. ما لك لا تقول كما كان يبلغني أنك تقول لسعيد ومعاوية! ". فيقولون: نتوب إلى اللَّه أقلنا أقالك ال

- خلو الكوفة من الرؤساء (1) : -[136]- أذن معاوية لأهل الفتنة الذين أمر عثمان بتسييرهم إلى الشام أن يذهبوا أنى شاءوا، فتحدثوا فيما بينهم فقالوا: إن العراق والشام ليسَا لنا بدار فعليكم بالجزيرة فأتوها اختياراً، فغدا عليهم عبد الرحمن بن خالد فسامهم الشدة كما ذكرناه وتابعوه وتابوا، وسرح الأشتر إلى عثمان فدعا به وقال: اذهب حيث شئت. فقال: أرجع إلى عبد الرحمن، فرجع. ووفد سعيد بن العاص إلى عثمان سنة إحدى عشرة من خلافة عثمان. وكان سعيد قد ولي قبل مخرجه إلى عثمان بسنة وبعض أخرى: -1- الأشعث بن قيس (2) : أذربيجان. -2- سعيد بن قيس (3) : الري. -3- النُّسيَر العجلي (4) : همذان. -[137]- -4- السائب بن الأقرع: أصبهان. -5- مالك بن حبيب: ماه. -6- حكيم بن سلام الخزامي: الموصل. -7- جرير بن عبد اللَّه: قرقيسيا. -8- سلمان بن ربيعة: الباب. -9- عتيبة بن النهاس: حُلوان. -10- القعقاع بن عمرو (5) : جعله على الحرب. هؤلاء عشرة من الكبار أُرسلوا إلى جهات متعددة. ولو أنهم بقوا بالكوفة لكان لهم تأثير في منع ما عساه أن يحدث من الشغب والفتنة، ولكن سعيد بن العاص لم يكن يتوقع انتشار الفتنة فأرسلهم إلى هذه المراكز لأغراض حربية. وبذلك خلت الكوفة من الرؤساء.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 634 639. (2) الأشعث بن قيس بن معدي كرب الكندي، أبو محمد، ولد سنة 23 ق. هـ. أمير كندة في الجاهلية والإسلام، كانت إقامته في حضرموت، وفد على النبي صلى اللَّه عليه وسلم بعد ظهور الإسلام، في جمع من قومه، أسلم وشهد اليرموك، فأصيبت عينه، ولما ولي أبو بكر الخلافة امتنع الأشعث وبعض بطون كندة عن تأدية الزكاة، فتنحى والي حضرموت بمن بقي على الطاعة من كندة، وجاءته النجدة فحاصر حضرموت فاستسلم الأشعث وفتحت حضرموت عنوة، وأرسل الأشعث موثوقاً إلى أبي بكر المدينة ليرى فيه رأيه، فأطلقه أبو بكر وزوَّجه أخته أم فروة، فأقام في المدينة وشهد الوقائع وأبلى البلاء الحسن، ثم كان مع سعد بن أبي وقاص في حروب العراق، ولما آل الأمر إلى علي كان الأشعث معه يوم صفِّين، على راية كندة، وحضر معه وقعة النهروان، وورد المدائن، ثم عاد إلى الكوفة فتوفي فيها سنة 40 هـ على أثر اتفاق الحسن ومعاوية، كان من ذوي الرأي والإقدام، موصوفاً بالهيبة، هو أول راكب في الإسلام مشت معه الرجال يحملون الأعمدة بين يديه ومن خلفه. للاستزادة راجع: ابن عساكر ج 3/ص 64، الآمدي 45، تاريخ الخميس ج 2/ص 289، ثمار القلوب 69، ذيل المذيل 34، خزانة الأدب للبغدادي ج 2/ص 465، تاريخ بغداد ج 1/ص 196. (3) هو سعيد بن قيس بن زيد، من بني زيد بن مريب، من همدان، فارس من الأجواد الدهاة، من سلالة ملوك همدان، كان خاصاً بالإمام علي، قاتل معه يوم صفِّين، كان إليه أمر همدان بالعراق، وإليه ينسب السعيدين في بيت زُود باليمن. للاستزادة راجع: الإكليل ج 10/ص 46 50. (4) هو النُّسَيْر بن ديسم بن ثور بن عريجة بن ملحم بن هلال بن ربيعة، العجلي، من بني عجل بن لجيم، قائد، فاتح، أدرك النبي صلى اللَّه عليه وسلم، شهد في عهد عمر الفتوح كلها والقادسية، وهو من تُنسب إليه قلعة النُسير قرب نهاوند، كانت من قلاع الفرس فاعتصم بها قوم منهم، أيام زحف العرب، حاصرها وفتحها فعرفت باسمه سنة 21 هـ، توفي سنة 35 هـ. للاستزادة راجع: التاج ج 3/ص 564، جَمْهرة الأنساب ص 295، الكامل في التاريخ لابن الأثير ج 3/7، ياقوت في معجم البلدان ج 8/ص 287 288، الإصابة ترجمة 8810، الآمدي، المؤتلف والمختلف ص 61. (5) هو القعقاع بن عمرو التميمي، أحد فرسان العرب وأبطالهم في الجاهلية والإسلام، له صحبة، شهد اليرموك وفتح دمشق وأكثر وقائع أهل العراق مع الفرس، سكن الكوفة، وأدرك وقعة صفِّين مع علي بن أبي طالب، وكان يتقلَّد في أوقات الزينة سيف هرقل (ملك الروم) ويلبس درع بهرام (ملك الفرس) وهما مما أصابه من الغنائم في حروب فارس، وكان شاعراً فحلاً، قال أبو بكر: "صوت القعقاع في الجيش خير من ألف رجل"، توفي سنة 58 هـ. للاستزادة راجع: الكامل في التاريخ حوادث سنة 16 هـ، الإصابة ترجمة 7129.

- عزل سعيد بن العاص (1) وتولية أبي موسى الأشعري: خرج يزيد بن قيس وهو يريد خلع عثمان، ومعه الذين كان يكاتبهم ابن السوداء (2) فقال القعقاع بن عمرو: إنما نستعفي من سعيد: فقال يزيد: أما هذا فنعم، وكاتب المسيرين (3) -[138]- ليقدموا عليه. فسار الأشتر والذين عند عبد الرحمن بن خالد فسبقهم الأشتر فلم يفجأ الناس إلا والأشتر على باب المسجد مسجد الكوفة يقول: جئتكم من عند أمير المؤمنين عثمان وتركت سعيداً يريد علي نقصان نسائكم على مائة درهم ورد أولي البلاء منكم إلى ألفين ويزعم أن فيئكم بستان قريش فاستخف الناس. وجعل أهل الرأي ينهونهم فلا يسمع منهم. فخرج يزيد وأمر منادياً ينادي: من شاء أن يلحق بيزيد لرد سعيد فليفعل، فبقي أشرافهم وحلماؤهم في المسجد، وعمرو بن حُرَيث (4) يومئذٍ خليفة سعيد، فصعد المنبر، فحمد اللَّه وأثنى عليه وأمرهم بالاستماع والطاعة. فقال له القعقاع: "أترد السيل عن أدراجه؟ هيهات، لا واللَّه لا يسكن الغوغاء إلا المشرفية، ويوشك أن تنتضي ويعجون هجيج العيدان، ويتمنون ما هم فيه اليوم فلا يرده اللَّه عليهم أبداً فاصبر". قال: أصبر، وتحوَّل إلى منزله. وخرج يزيد بن قيس، فنزل الجرَعة وهي قريب من القادسية ومعه الأشتر فوصل إليهم سعيد بن العاص. فقالوا: لا حاجة لنا بك. قال: إنما يكفيكم أن تبعثوا إلى أمير المؤمنين رجلاً وإليَّ رجلاً. وهل يخرج الألف لهم عقول إلى رجل واحد. وجاء في الطبري نص الخطبة التي ألقاها عليهم عمرو بن حُرَيث نائب سعيد وهي كما يلي (5) : "اذكروا نعمة اللَّه عليكم إذا كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً، بعد أن كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها. فلا تعودوا في شر قد استنقذكم منه اللَّه عز وجل. أبعد الإسلام وهديه وسنته لا تعرفون حقاً وتصيبون بابه! ". ولما انصرف عنهم سعيد أحسوا بمولى لهم على بعير قد حسر. فقال: واللَّه ما كان ينبغي لسعيد أن يرجع فقتله الأشتر، ومضى سعيد حتى قدم على عثمان فأخبره بما فعلوا وأنهم يريدون البدل. وأنهم يختارون أبا موسى. قال: "أثبتنا أبا موسى عليهم وواللَّه لا نجعل لأحد عذراً ولا نترك لهم حجة، ولنصبرن كما أمرنا حتى نبلغ ما يريدون". وقد أراد عثمان بخلع سعيد وتنصيب أبي موسى أن تهدأ الفتنة ولا يكون لأحد بعد ذلك عذر أو شكوى. وكتب إليهم: -[139]- "أما بعد، فقد أمّرت عليكم من اخترتم وأعفيتكم من سعيد، وواللَّه لأقرضنكم عرضي ولأبذلن لكم صبري ولأستصلحنكم بجهدي فلا تدعوا شيئاً أحببتموه لا يُعصى اللَّه فيه إلا سألتموه، ولا شيئاً كرهتموه لا يعصى اللَّه فيه إلا استعفيتم منه. أنزل فيه عندما أحببتم حتى لا يكون لكم على اللَّه حجة كما أمرنا حتى تبلغوا ما تريدون". ورجع من الأمراء من قرب عمله من الكوفة فرجع جرير من قرقيسياء. وعتيبة من حُلوان. وقام أبو موسى الأشعري فتكلم بالكوفة فقال: "أيها الناس لا تنفروا في مثل هذا ولا تعودوا لمثله. ألزموا جماعتكم الطاعة وإياكم والعجلة. فأجابوه إلى ذلك. وقالوا: فصلِّ بنا، قال لا. إلا على السمع والطاعة لعثمان بن عفان. قالوا: السمع والطاعة لعثمان.

_ (1) المسعودي مروج الذهب ج 2/ص 346. (2) هو عبد اللَّه بن سبأ، وكان يهودياً من جنوب بلاد العرب فأسلم واستفسد الناس على عثمان وبثَّ دعايته في الآفاق وتنقل في الحجاز والبصرة والكوفة والشام ومصر يدعو الناس للثورة. (3) وهم الذين سيَّرهم عثمان إلى معاوية ومنهم الأشتر وصعصعة. (4) عمرو بن حريث بن عمرو بن عثمان بن عبد اللَّه بن عمرو بن مخزوم القرشي، يكنى أبا سعيد، رأى النبي صلى اللَّه عليه وسلم، وقيل: إنه أول قرشي اتخذ بالكوفة داراً وكان من أغنى أهل الكوفة وولي لبني أمية بالكوفة. (5) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 642.

- رسول أهل الكوفة إلى عثمان (1) : اجتمع ناس من المسلمين فتذاكروا أعمال عثمان وما صنع فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا إليه رجلاً يكلمه ويخبره بأحداثه فأرسلوا إليه عامر بن عبد اللَّه التميمي، وهو الذي يدعى عامر بن عبد قيس فدخل عليه فقال: إن ناساً من المسلمين اجتمعوا فنظروا في أعمالك فوجدوك قد ركبت أموراً عظاماً، فاتق اللَّه عز وجل، وتب إليه، وانزع عنها. فقال عثمان: انظروا إلى هذا، فإن الناس يزعمون أنه قارئ، ثم هو يجيء فيكلمني في المحقَّرات، فواللَّه ما يدري أين اللَّه. قال عامر: أنا لا أدري أين اللَّه؟ قال: نعم، واللَّه ما تدري أين اللَّه. قال عامر: بلى واللَّه إني لأدري أن اللَّه بالمرصاد لك.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 643 645، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 39 42.

- عثمان يجمع أهل الرأي ليشاورهم في الأمر (1) : أرسل عثمان إلى معاوية بن أبي سفيان، وإلى عبد اللَّه بن سعد بن أبي سُرح، وإلى سعيد بن العاص، وإلى عمرو بن العاص، وإلى عبد اللَّه بن عامر فجمعهم ليشاورهم في أمره وما طلب إليه وما بلغه عنهم، فلما اجتمعوا عنده قال لهم: -[140]- "إن لكل امرئ وزراء ونصحاء، وإنكم وزرائي ونصحائي، وأهل ثقتي، ولقد صنع الناس ما قد رأيتم وطلبوا إليَّ أن أعزل عمالي وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبون فاجتهدوا رأيكم وأشيروا عليَّ". فقال له عبد اللَّه بن عامر: "رأيي لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك وأن تجمهرهم في المغازي حتى يذلوا لك فلا يكون همة أحدهم إلا نفسه، وما هو فيه من دَبَرة دابته وقمل فروه". فقال عثمان: (إن هذا الرأي لولا ما فيه) خشي عثمان أن ينفذ رأي ابن عامر الذي يقضي بقطع دابر قادة الفتنة للخلاص من شرهم ودسائسهم. ثم أقبل عثمان على معاوية فقال: ما رأيك؟ قال: "أرى لك يا أمير المؤمنين أن ترد عُمالك على الكفاية لما قِبَلهم وأنا ضامن لك قِبَلي". ثم أقبل على عبد اللَّه بن سعد فقال: ما رأيك؟ قال: "أرى يا أمير المؤمنين أن الناس أهل طمع، فأعطهم من هذا المال تعطف عليهم قلوبهم". ثم أقبل على عمرو بن العاص فقال له: ما رأيك؟. قال: "أرى أنك قد ركبت الناس بما يكرهون فاعتزم أن تعدل، فإن أبيت فاعتزم أن تعتزل، فإن أبيت فاعتزم عزماً وامض قُدماً". فرأى عمرو أن عثمان لا يعدل فطلب إليه أن يعتزل أو يعدل ولا يتردد فقال عثمان: "ما لك قِملَ فروك. أهذا الجد منك؟ ". فسكت عمرو حتى إذا تفرَّقوا قال: "لا واللَّه يا أمير المؤمنين لأنت أعز عليَّ من ذلك. ولكني قد علمت أن سيبلغ الناس قول كل رجل منا، فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي، فأقود إليك خيراً أو أدفع عنك شراً". لكن كلام عمرو هذا من شأنه أن يزيد نار الفتنة والنقمة على عثمان اشتعالاً، لأنه قال بصريح العبارة ـ: "فاعتزم أن تعدل". ومعنى هذا أنه لا يعدل، فكيف يستطيع عمرو بعد ذلك أن يقود إلى عثمان خيراً أو يدفع عنه شراً؟!. ومعلوم أن عمراً كان ساخطاً على الخليفة، لأنه عزله عن ولاية مصر بعد أن فتحها. ولما أحس عمرو بأنه كدَّر عثمان بقوله أمام هؤلاء النفر أراد أن يسترضيه على حدة فقال ما قال -[141]-. رد عثمان بعد ذلك عماله على أعمالهم وأمرهم بالتضييق على من قبلهم وأمرهما بتجمير الناس في البعوث، وعزم على تحريم أعطياتهم ليطيعوه ويحتاجوا إليه.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 643 645، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 39- 42.

- علي بن أبي طالب يحادث عثمان في أمر الفتنة (1) : لما كانت سنة 34 هـ كتب أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعضهم إلى بعض أن أقدموا، فإن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد، وكثر الناس على عثمان، ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد، وأصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يرون ويسمعون ليس فيهم أحد ينهى، ولا يذبُّ إلا زيد بن ثابت، وأبو أسيد الساعدي، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت، فاجتمع الناس وكلموا عليّ بن أبي طالب، فدخل على عثمان فقال: "الناس ورائي وقد كلَّموني فيك. واللَّه ما أدري ما أقول لك. وما أعرف شيئاً تجهله ولا أدلك على أمر لا تعرفه. إنك لتعلم ما نعلم. ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه ولا خلونا بشيء فنبلغكه وما خُصصنا بأمر دونك وقد رأيت وسمعت وصحبت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ونلت صهره، وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الخير منك ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك. وإنك أقرب إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم رَحِماً. ولقد نلت من صهر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ما لم ينالا. ولا سبقناك إلى شيء. فاللَّه اللَّه في نفسك فإنك واللَّه ما تُبصَّر من عمَى ولا تُعَلَّم من جهل، وإن الطريق لواضح بيَّن، وإن أعلام الدين لقائمة. تَعلَّم يا عثمان أن أفضل عباد اللَّه عند اللَّه إمام عادل هُدِي وهَدَى فأقام سنة معلومة وأمات بدعة متروكة. فواللَّه إن كُلاَّ لبيَّن، وإن السنن لقائمة لها أعلام، وإن البدع لقائمة لها أعلام، وإن شرَّ الناس عند اللَّه إمام جائر ضَلَّ وضُلَّ به فأمات سُنة معلومة وأحيا بدعة متروكة. وإني سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: "يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر فيلقى في جهنم، فيدور فيها كما تدور الرحى، ثم يرتطم في غمرة جهنم" (2) . وإني أحذرك اللَّه وأحذرك سطوته ونقماته فإن عذابه شديد أليم، وأحذرك أن تكون إمام هذه الأمة المقتول، فإن يقال يقتل في هذه الأمة إمام فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة وتُلْبَس أمورها عليها، ويتركهم شِيَعاً فلا يبصرون لحق لعلو الباطل، يموجون فيها موجاً ويمرحون مَرَحاً". فقال عثمان: (3) "قد واللَّه علمت ليقولُنّ الذي قلتَ. أما واللَّه لو كنت مكاني ما عنفتك ولا -[142]- أسلمتك ولا عبتُ عليك، ولا جئتُ منكراً إن وصلتُ رَحماً، وسددتُ خَلة، وآويت ضائعاً، ووليت شبيهاً بمن كان عمر يولي. أنشدك اللَّه يا عليُّ هل تعلم أن المغيرة بن شُعبة ليس هناك؟ قال: نعم. قال: فتعلم أن عمر ولاه؟ قال: نعم. قال: فَلِمَ تلومني أن وليت ابن عامر في رَحمه وقرابته. قال عليُّ: سأخبرك، إن عمر بن الخطاب كان كل من ولى فإنما يطأ على صماخه إن بلغه عنه حرف جلبه ثم بلغ به أقصى الغاية وأنت لا تفعل. ضعفت ورفقت على أقربائك. قال عثمان: هم أقرباؤك أيضاً. فقال علي: لعمري إن رحمهم مني لقريبة، ولكن الفضل في غيرها. قال عثمان: هل تعلم أن عمر ولى معاوية خلافته كلها؟ فقد وليته. فقال عليُّ: أنشدك اللَّه هل تعلم أن معاوية كان أخوف من عمر من يَرفْأ غلام عمر منه. قال: نعم. قال عليّ: فإن معاوية يقطع الأمور دونك وأنت تعلمها. فيقول للناس هذا أمر عثمان فيبلغك ولا تُغير على معاوية. ثم خرج عليُّ من عند عثمان، وخرج عثمان على أثره، فجلس على المنبر فقال:

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 644، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 43. (2) رواه ابن كثير في البداية والنهاية (7: 168) . (3) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 645، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 44.

- خطبة عثمان في المسجد (1) : "أما بعد، فإن لكل شيء آفة، ولكل أمر عاهة، وإن آفة هذه الأمة وعاهة هذه النعمة: عيَّابون، طعَّانون، يرونكم ما تحبون ويُسرون ما تكرهون يقولون لكم ويقولون، أمثال النعام يتبعون أول ناعق. أحب مواردها إليها البعيد لا يشربون إلا نَغصاً ولا يَرِدون إلا عكراً، لا (2) يقوم لهم رائد وقد أعيتهم الأمور، وتعذرت عليهم المكاسب. ألا فقد واللَّه عبتم عليَّ بما أقررتم لابن الخطاب بمثله ولكنه وطئكم برجله؟ وضربكم بيده وقمعكم بلسانه فدِنْتم له على ما أحببتم أو كرهتم، ولِنْتُ لكم وأوطأت لكم كففي [؟؟] ، وكففت يدي ولساني عنكم، فاجترأتم عليّ. أما واللَّه لأنا أعز نفراً وأقرب ناصراً وأكثراً عدداً وأقمن إن قلت هَلُم. أُتِيَ إليّ. ولقد أعددت لكم أقرانكم، وأفضلت عليكم فضولاً، وكشرت لكم عن نابي. وأخرجتم مني خُلُقاً لم أكن أحسنه، ومنطقاً لم أنطق به، فكفوا عليكم ألسنتكم، وطعنكم، وعيبكم على ولاتكم، فإني قد كففت عنكم مَن لو كان هو الذي يكلمكم لرضيتم منه بدون منطقي هذا، ألا فما تفقدون من حقكم. واللَّه ما قصرت في بلوغ ما كان يبلغ مَن قبلي. ومَن لم تكونوا تختلفون عليه فضلَ فضْلٍ من مال. فما لي لا أصنع في الفضل ما أريد. فَلِمَ كنت إماماً" (3) -[143]-. فقام مروان بن الحكم فقال: إن شئتم حكَّمنا واللَّه بيننا وبينكم السيف. نحن واللَّه وأنتم كما قال الشاعر: فرشنا لكم أعراضنا فنبت بكم ... معارسكم تبنون في دِمن الثرى فقال عثمان: اسكت لا سُكِّتّ. دعني وأصحابي. ما منطقك في هذا؟ ألم أتقدم إليك ألا تنطق؟ فسكت مروان ونزل عثمان. قال عثمان لعليٍّ: إنه عيَّن من عينَّهم عمر بن الخطاب، ومع ذلك لم يؤاخذه أحد. فعيَّن المغيرة ومعاوية، فكان ردُّ عليٍّ أن عمر كان لا يتسامح مع من ولاَّه إذا ارتكب شيئاً، وأن عثمان يعامل أقاربه بالرفق ولا يعاقبهم. هذا ملخص ما دار بينهما -. أما الخطبة التي ألقاها عثمان فلم يكن لها تأثير في تهدئة الفتنة، بل اشتد قوله على الناس وعظم وزاد تألبهم عليه. ويلاحظ أن مروان يتداخل ويهدد الناس بالحرب بالرغم من أن عثمان كان قد أمره بلزوم الصمت.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 645، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 44. (2) "لا" مثبتة في الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 645، وزيدت اعتماداً على نص الطبري في ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 44. (3) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 645، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 44.

- كيف بدأ السخط على عثمان (1) وكيف تدرجت الفتنة؟: ذكرنا في كتابنا "عمر بن الخطاب" أن عمرو بن العاص هو الذي أشار عليه بفتح مصر، فتردد ثم جهزه بجيش، ثم صار يمده من آن لآخر حسب الضرورة إلى أن تمكَّن عمرو من غزو مصر وضمَّها إلى الخلافة العربية. فإليه يرجع الفضل في فتحها. وكان عمر رضي اللَّه عنه يستبطئ عمراً في جباية الخراج، ويستقل ما يجبيه منها، وقد كاتبه في ذلك إلا أن عمراً لم يشأ إرهاق المصريين، فوضع عنهم كثيراً من الضرائب التي أثقلت كواهلهم، وكانت موضع شكواهم من الحكم الروماني. ومات عمر وعلى مصر عمرو بن العاص وعلى قضائها خارجة بن حذافة (2) . فلما ولي عثمان أقرهما سنتين، وقيل: أكثر، ثم عزل عمراً واستعمل عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح أخا عثمان من الرضاعة، فكان سبباً في سخط عمرو على عثمان، فأخذ يطعن عليه سراً وعلانية. وهذا أمر طبيعي -[144]-. أولاً: لأن عمراً كان يرى أنه صاحب الفضل في فتح مصر، وأنه لم يرتكب وزراً يستحق عليه العزل (3) . ثانياً: لأن الذي خلفه هو عبد اللَّه بن سعد وسيرته معلومة للصحابة فهو الذي ارتد مشركاً زمن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ثم أذاع أنه كان يصرف رسول اللَّه حيث أراد عندما كان يملي عليه القرآن فكان يملي عليه "عزيز حكيم" فيقول: أو "عليم حكيم" فيقول: نعم. كل صواب. فلما كان يوم فتح مكة أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بقتله، فتشفع له عثمان. تحدَّث الناس في سيرة الوالي الجديد على مصر واستاء كثير من هذا التعيين، ووجد عمرو سلاحاً للطعن على عثمان. وروى الواقدي أنه لما نزع عثمان عمرو بن العاص من مصر غضب عمرو غضباً شديداً وحقد على عثمان. وقد أراد عثمان أن يظهر لعمرو أن عبد اللَّه بن سعد جدَّ واجتهد، وحصَّل من مصر أكثر مما كان يحصله عمرو. فلما بعث عبد اللَّه بن سعد إلى عثمان بمال من مصر قال: يا عمرو، هل تعلم أن تلك اللقاح درَّت بعدك؟ فقال عمرو: وإن فصالها هلكت. لم ينقطع عمرو عن الطعن على عثمان، ومع ذلك نرى عثمان يستشيره في جملة من استشارهم في أمر الفتنة، فأظهر له أنه لا يزال ساخطاً عليه ودعاه إلى الاعتزال ورماه بالجور، وهو الوحيد الذي دعاه إلى الاعتزال من بين من استشارهم إذ قال له: "أرى أنك قد ركبت الناس بما يكرهون فاعتزم أن تعتزل، فإن أبيت فاعتزم عزماً وامض قدماً" ولا عبرة بما قاله له بعد انصراف القوم "لا واللَّه يا أمير المؤمنين لأنت أعز عليَّ من ذلك الخ". وقد عاب على عثمان محمد بن أبي حذيفة بعد غزوة الصواري وقال: لقد تركنا خلفنا الجهاد، فيقول الرجل: وأي جهاد! فيقول: عثمان بن عفان فعل كذا وكذا حتى أفسد على الناس فقدموا بلدهم. وقد أفسدهم وأظهروا من القول ما لم يكونوا ينطقون به واشترك مع محمد بن حذيفة في الطعن على عثمان محمد بن أبي بكر، واستحلاَّ دمه وقالا: استعمل عبد اللَّه بن سعد، رجلاً كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أباح دمه ونزل القرآن بكفره، واستعمل سعيد بن العاص وعبد اللَّه بن عامر، وهو ابن خال عثمان، فانتشرت هذه المطاعن في مصر وغيرها. أما في الكوفة فإن عثمان عزل سعد بن أبي وقاص لما حدث بينه وبين ابن مسعود من المشادة التي تقدَّم ذكرها وكان ابن مسعود على بيت المال لكنه لم يعزله، بل أقره وسعد بن أبي وقاص كما نعلم من سيرته أحد المبشرين بالجنة وأحد الستة الذين رشَّحهم عمر بن -[145]- الخطاب للخلافة، وأول من أراق دماً في سبيل اللَّه وكان يقال له: "فارس الإسلام". واستعمله عمر على الجيوش التي بعثها إلى بلاد الفرس، وكان أمير الجيش الذي هزم الفرس بالقادسية وبجلولاء وفتح المدائن، وولاه عمر العراق. هذا هو سعد بن أبي وقاص الذي عزله عثمان عن الكوفة فمن هو الذي ولاَّه خلفاً له؟ لقد ولَّى الوليد بن عقبة أخا عثمان لأمه وهو الذي نزل في حقه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذَّينَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبأٍ فَتَبَيَّنُوا} . [الحجرات: 6] . نعم، إن الوليد كان شاعراً شجاعاً، وكان أحب إلى الناس وأرفقهم بهم لكنهم مع ذلك طعنوا عليه لقرابته من عثمان واتهموه بشرب الخمر فأقام عليه الخليفة الحدَّ، وعزله وولَّى سعيد بن العاص مكانه، وهو أمويٌّ من أشراف قريش، قتل أبوه العاص يوم بدر كافراً قتله علي ابن أبي طالب لكن الفتنة لم تخمد بل اشتدت، فتطاول عليه نفر من أشراف الكوفة، وضربوا أحد أتباعه ضرباً مبرحاً، فسيَّرهم إلى الشام بأمر عثمان، وكان بينهم وبين معاوية ما كان مما ذكرناه في موضعه ولما عادوا أخيراً بثوا الفتنة وطلبوا عزل سعيد، فأجاب عثمان لطلبهم لئلا يكون لهم حجة عليه وولَّى أبا موسى الأشعري كما أرادوا. غير أن الفتنة كان قد استفحل خطبها واندلع لهيبها، فكاتب أصحاب رسول اللَّه بعضهم بعضاً وكذبوا علياً رضي اللَّه عنه وكان غير راضٍ عن تصرفات عثمان، ومحاباته لأقاربه. وبالطبع كان لعليّ أتباع يرون رأيه فدخل عليه وذكر له أنه يجلُّ قدره لصحبته لرسول اللَّه وما نال من صهره. وذكَّره بحديث النبي صلى اللَّه عليه وسلم في شأن الإمام الجائر، لكن عثمان كان يرى أنه ولَّى من ولاَّهم عمر ومع ذلك لم يجرؤ أحد أن يعتب عليه، فردَّ عليه عليّ أن عمر كان شديداً لا يتسامح مع أحد إذا هفا، أو أخطأ. ومعاوية يفعل ما يشاء باسم عثمان الذي ضعف ورقَّ على أقاربه، ثم صعد عثمان إلى المنبر وخطب خطبته التي نشرناها، فاشتد سخط الناس عليه لعدم تحوَّله عن خطته وانتحال المعاذير لنفسه وتهديدهم باستعمال الشدة معهم. وقد حدث في سنة 30 هـ أن سقط خاتم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من إصبع عثمان في بئر أريس، ثم ضاع، فتشاءم المسلمون لضياع هذا الخاتم وقالوا: إن عثمان لما مال عن سيرة من كان قبله كان أول ما عوقب به ذهاب خاتم رسول اللَّه من يده. وهذا الحادث من سوء حظ عثمان. وفي السنة نفسها قام أبو ذر الغفاري الصحابي المعروف بزهده ونسكه في وجه معاوية، وعاب عليه جمع المال وقال: "يا معشر الأغنياء وأسواء الفقراء بشِّر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل اللَّه بمكاوٍ من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم". فلما ثار الفقراء على الأغنياء شكا الأغنياء إلى معاوية ما يلقون من الناس، فخشي معاوية الفتنة، وكتب إلى عثمان بما فعله أبو ذر، فاستدعاه إلى المدينة، فاختار أبو ذر الخروج إلى -[146]- الربذة، وأقام بها إلى أن مات. وادعى بعضهم أن عثمان نفاه، وكان الذي حرَّض أبا ذر على القيام في وجه معاوية ابن السوداء الذي يدعى عبد اللَّه بن سبأ.

_ (1) راجع كتاب عمر بن الخطاب للمؤلف، تحقيق محمد أمين الضنَّاوي، طبعة سنة 1997، دار الكتب العلمية بيروت. (2) هو خارجة بن حُذافة بن غانم، من بني كعب بن لؤي، صحابي من الشجعان، كان يُعدُّ بألف فارس، أمدَّ به عمر بن الخطاب عمرو بن العاص، فشهد معه فتح مصر وولي شرطتها، واتفق أن عمراً اشتكى بطنه ليلة الائتمار بقتله وقتل علي ومعاوية، فاستخلف خارجة على الصلاة بالناس، فقتله عمرو بن بكر الذي انتدب لقتل عمرو بن العاص، وقال قاتله لما علم خطأه: أردت عمر وأراد اللَّه خارجة. للاستزادة راجع: الإصابة ج 1/ص 399، ابن الأثير، الكامل في التاريخ فقتل علي. (3) قال الأستاذ واشنطون إيرفنج في كتابه "محمد وخلفاؤه": إن من أعظم الأخطاء التي ارتكبها عثمان عزل عمرو بن العاص عن ولاية مصر وتولية عبد اللَّه بن سعد أخيه من الرضاعة مكانه.

- عبد اللَّه بن سبأ (1) ودعايته ضد عثمان: كان عبد اللَّه بن سبأ يهودياً من أهل صنعاء أمه سوداء. أسلم زمن عثمان، ثم تنقل في بلدان المسلمين يحاول ضلالتهم، فبدأ بالحجاز، ثم بالبصرة، ثم الكوفة، ثم الشام، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام فأخرجوه حتى أتى مصر فقال لهم: العجب ممن يصدق أن عيسى يرجع ويكذب أن محمداً يرجع فوضع لهم الرجعة - رجعة محمد رسول اللَّه آخر الزمان - فقبلت منه (2) ، ثم قال لهم بعد ذلك: إنه كان لكل نبي وصي، وعلي وصي محمد، فمن أظلم ممن لم يُجز وصية رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. ثم قال لهم بعد ذلك: إن عثمان أخذها بغير حق. وهذا وصي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. فانهضوا في هذا الأمر، فحركوه، وابدأوا بالطعن على أمرائكم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تستميلوا الناس. وادعوهم إلى هذا الأمر. وبثَّ دعاته، وكاتب من استفسد في الأمصار وكاتبوه، ودعوا في السر إلى ما عليه رأيهم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم، ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون فيقرؤه أولئك في أمصارهم، وهؤلاء في أمصارهم، حتى تناولوا بذلك المدينة وأوسعوا الأرض إذاعة، وهم يريدون غير ما يظهرون، ويسرون غير ما يبدون فيقول أهل كل مصر: إنا لفي عافية مما ابتلي به هؤلاء إلا أهل المدينة فإنهم جاءهم ذلك عن جميع الأمصار فقالوا: إنا لفي عافية مما فيه الناس. وإنا لا ندري السبب الذي حمل ابن السوداء على نشر هذه الدعاية ضد عثمان وتحزُّبه لعلي بن أبي طالب، وإن الإنسان ليعجب من ارتحال هذا الرجل من مصر إلى مصر، واحتماله المشقَّات، واختلاقه المذاهب وحضّ الناس على بثِّ الدعوة إلا إذا كان قد أراد بذلك هدم الإسلام وحدوث الفتن والثورات، ولو أن عثمان استعمل الشدة مع -[147]- أمثال عبد اللَّه بن سبأ، وأدبهم لما اجترأوا على بثِّ بذور الفتن، لكنه لاَن لهم فلم يخشوا بأسه.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 647، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 46. (2) واستشهد بقوله تعالى: {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} . وهذا تضليل، لأن المعاد هنا مكة، فكان اللَّه تعالى وعده وهو بمكة في أذى وغلبة من أهلها أن يهاجر منها ويعيده إليها ظاهراً ظافراً، فتأمل!.

- إرسال مندوبين إلى الأمصار لاستطلاع الأخبار (1) : أتى الناس عثمان فقالوا: يا أمير المؤمنين أيأتيك عن الناس الذي يأتينا؟ فقال: ما جاءني إلا السلامة، وأنتم شركائي وشهود المؤمنين فأشيروا علي (2) . قالوا: نشير عليك أن تبعث رجالاً ممن تثق بهم إلى الأمصار حتى يرجعوا إليك بأخبارهم، فدعا محمد بن مسلمة فأرسله إلى الكوفة، وأرسل أسامة بن زيد إلى البصرة، وأرسل عمار بن ياسر إلى مصر، وأرسل عبد اللَّه بن عمر إلى الشام، وفرق رجالاً سواهم، فرجعوا جميعاً قبل عمار. فقالوا: ما أنكرنا شيئاً أيها الناس، ولا أنكره أعلام المسلمين ولا عوامهم. تأخر عمار حتى ظنوا أنه قد اغتيل فوصل كتاب من عبد اللَّه بن أبي سرح يذكر أن عماراً قد استماله قومه، وانقطعوا إليه منهم عبد اللَّه ابن السوداء وخالد بن مُلجم وسودان بن حُمران وكنانة بن بشر فثبطوا عماراً عن المسير إلى المدينة. فكتب عثمان إلى أهل الأمصار: "إني آخذ العمال بموافاتي كل موسم وقد سلطت الأمة منذ وليت على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا يرفع علي شيء ولا على أحد من عمالي إلا أعطيته، وليس لي ولعيالي حق قبل الرعية إلا وهو متروك لهم، وقد رفع إليَّ أهل المدينة أن أقواماً يُشتمون ويضربون، فمن ادعى شيئاً من ذلك فليواف الموسم يأخذ حقه حيث كان مني أو عمالي. أو تصدقوا فإن اللَّه يجزي المتصدقين". فلما قرئ هذا الكتاب في الأمصار بكى الناس ودعوا لعثمان وقالوا: إن الأمة لتتمخض بشر.

_ (1) ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 47. (2) ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 47.

- عثمان يستشير عمال الأمصار (1) لم يطمئن عثمان إلى الأخبار التي تلقاها ممن بعثهم فأرسل إلى عمال الأمصار فقدموا في الموسم وهم: -[148]- -1- عبد اللَّه بن عامر. -2- وعبد اللَّه بن سعد. -3- ومعاوية. وأدخل معهم في المشورة سعيد بن العاص وعمرو بن العاص. فلما اجتمعوا عنده قال: "ويحكم ما هذه الشكاية وما هذه الإذاعة؟ إني واللَّه لخائف أن تكونوا مصدوقاً عليكم وما يُعصب هذا إلا بي". فقالوا له: ألم تبعث؟ ألم يرجع إليك الخبر عن القوم؟ ألم يرجع رسلك ولم يشافههم أحد بشيء؟ لا واللَّه ما صدقوا ولا بروا. ولا نعم لهذا الأمر أصلاً وما كنت لتأخذ به أحداً فيقيمك على شيء. وما هي إلا إذاعة لا يحل الأخذ بها ولا الانتهاء إليها. قال: فأشيروا عليَّ. فقال سعيد بن العاص: "هذا أمر مصنوع يصنع في السر فيلقى به غير ذي المعرفة فيخبر به فيتحدث به في مجالسهم". قال: فما دواء ذلك؟. قال: طلب هؤلاء القوم، ثم قتل هؤلاء الذين يخرج هذا من عندهم. وقال عبد اللَّه بن سعد: خذ من الناس الذي عليهم إذا أعطيتهم الذي لهم. فإنه خير من أن تدعهم. وقال معاوية: قد وليتني فوليت قوماً لا يأتيك عنهم إلا الخير والرجلان أعلم بناحيتهما. قال: فما الرأي؟. قال: حسن الأدب. قال: فما ترى يا عمرو؟. قال: أرى أنك قد لنت لهم وتراخيت عنهم، وزدتهم على ما كان يصنع عمر، فأرى أن تلزم طريقة صاحبيك فتشتد في موضع الشدة، وتلين في موضع اللين، إن الشدة تنبغي لمن لا يألو الناس شراً، واللين لمن يخلف الناس بالنصح، وقد فرشتهما جميعاً. فقام عثمان فحمد اللَّه وأثنى عليه وقال: "كل ما أشرتم به عليَّ قد سمعت. ولكل أمر باب يؤتى منه، إن هذا الأمر الذي يخاف على هذه الأمة كائن، وإن بابه الذي يغلق عليه فيكفكف به اللين والمؤاتاة والمتابعة إلا في حدود اللَّه تعالى ذكره التي لا يستطيع أحد أن يبادي بعيب أحدها، فإن سدَّه شيء فرفق، فذاك ليفتحن، وليست لأحد عليَّ حجة حق، وقد علم اللَّه أني لم آل الناس خيراً ولا نفسي، وواللَّه إن رحى الفتنة لدائرة فطوبى لعثمان إن مات ولم يحركها، كفكفوا الناس وهبوا لهم حقوقهم واغتفروا لهم، وإذا تعوطِيتْ حقوق اللَّه، فلا تدهنوا فيها". وهذا لم يبلغنا ماذا فعل عثمان في أمر عمار الذي أرسل إلى مصر ولم يعد. وكتب بشأنه -[149]- عبد اللَّه بن أبي سرح أن قوماً استمالوه وانقطعوا إليه، وذكرهم بالاسم. إن في عدم عودة عمار وانقطاعه إلى من استمالوه دليلاً على اشتداد الفتنة في مصر، وكان الواجب يقضي استدعاء عمار بأي وسيلة، وسؤاله عن الحالة في مصر وماذا قالوا له؟ ولماذا لم يعد كغيره؟ إلى غير ذلك، فإذا ثبت أن هناك مؤامرة ودسيسة، وعرف من هم رؤساء الفتنة حقق معهم، وعندئذ يُجازي كل بما يستحق. أما تركهم ينقلون أحاديث السوء ويذيعون الفتنة، ويحرضون على الجهاد، ويبيحون دم الخليفة فذلك مما يزيد الفتنة. ثم إن عثمان رضي اللَّه عنه كان أعطى عبد اللَّه بن خالد بن أسيد خمسين ألفاً، وأعطى مروان خمسة عشر ألفاً فردَّ ذلك منهما منعاً للقيل والقال.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 648، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 47.

- معاوية يدعو عثمان إلى الشام (1) : كان معاوية قد قال لعثمان غداة ودَّعه وخرج (2) : "يا أمير المؤمنين انطلق معي إلى الشام قبل أن يهجم عليك من لا قِبَل لك به. فإن أهل الشام على الأمر لم يزالوا". فقال: "لا أبيع جوار رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بشيء، وإن كان فيه قطع خيط عنقي". فقال معاوية: "فأبعث إليك جنداً منهم يقيم بين ظهراني أهل المدينة لنائبة إن نابت المدينة، أو إياك". قال: "لا أضيق على جيران رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم". فقال: "واللَّه لَتُغْتَلنَّ أو لَتُغْزَيَنّ". قال: "حسبي اللَّه ونعم الوكيل".

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 650، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 50. (2) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 650.

- عثمان يرد على منتقديه (1) : أرسل عثمان إلى الكوفيين والبصريين الذين وفدوا المدينة بدعوى أنهم يريدون أن يسألوا عثمان عن أشياء، ثم يرجعون ويزعمون أنهم قرروه بها، فلم يخرج منها ولم يتب، ثم يخرجون كأنهم حجاج، وعندئذٍ يحيطون به ويخلعونه، فإن أبى قتلوه. فلما بلغ عثمان عزمهم هذا ضحك وقال: اللَّهم سلِّم هؤلاء فإنك إن لم تسلمهم شقوا. ونادى: الصلاة جامعة وهم عندهم في أصل -[150]- المنبر فأقبل أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حتى أحاطوا به فحمد اللَّه وأثنى عليه فقالوا جميعاً: اقتلهم فإن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: "من دعا إلى نفسه، أو إلى أحد وعلى الناس إمام، فعليه لعنة اللَّه فاقتلوه" وقال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: لا أحِل لكم إلا ما قتلتموه وأنا شريككم، فقال عثمان: بل نعفو ونقبل ونبصرهم بجهدنا، ولا نحاد أحداً حتى يركب حداً أو يُبدي كفراً. إن هؤلاء ذكروا أموراً قد علموا منها مثل الذي علمتم إلا أنهم زعموا أنهم يذاكرونيها ليوجبوها عليَّ عند من لا يعلم، وقالوا: أتم الصلاة في السفر، وكانت لا تُتم. إلا وإني قدمت بلداً فيه أهلي فأتممت لهذين الأمرين. أو كذلك؟ قالوا: اللَّهم نعم. وقالوا: وحميتَ حِمىً، وإني واللَّه ما حميتُ حِمى حُمى، قبلي، واللَّه ما حموا شيئاً لأحد، ما حموا إلا ما غلب عليه أهل المدينة، ثم لم يمنعوا من رعيه أحداً، واقتصروا لصدقات المسلمين يحمونها لئلا يكون بين من يليها وبين أحد تنازع، ثم ما منعوا ولا نحَّوا منها أحداً إلا من ساق درهماً. وما لي من بعير غير راحلتي. وما لي ثاغية ولا راغية (2) ، وإني قد وُليت وإني أكثر العرب بعيراً وشاة فما لي اليوم شاة ولا بعير غير بعيرين لحجي. أكذلك؟ قالوا: اللَّهم نعم. وقالوا: كان القرآن كتباً فتركتها إلا واحداً. ألا وإن القرآن واحد جاء من عند واحد. وإنما أنا في ذلك تابع لهؤلاء، أكذلك؟ قالوا: نعم. وسألوه أن يقتلهم. وقالوا: إني رددت الحكم (3) وقد سيَّره رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، والحكم مكي سيَّره رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من مكة إلى الطائف، ثم ردَّه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. فرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم سيَّره، ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ردَّه، أكذلك؟ قالوا: نعم. وقالوا: استعملت الأحداث، ولم أستعمل إلا مجتمِعاً محتمِلاً مرضيَّاً. وهؤلاء أهل عَمَلهم فسلوهم عنه وهؤلاء أهل بلده. ولَقَد ولَّى من قبلي أحدثَ منهم وقيل في ذلك لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أشد مما قيل لي في استعماله أسامة، أكذلك؟ قالوا: اللَّهم نعم. يعيبون للناس ما لا يفسرون. وقالوا: إني أعطيت ابن أبي سرح ما أفاء اللَّه عليه، وإني إنما نفلته الخُمس ما أفاء اللَّه عليه من الخُمس، فكان مائة ألف وقد أنفذ مثل ذلك أبو بكر وعمر رضي اللَّه عنهما، فزعم الجند أنهم يكرهون ذلك فرددته عليهم وليس ذاك لهم. أكذلك؟ قالوا: نعم -[151]-. وقالوا: إني أحب أهل بيتي وأعطيهم. فأما حبي فإنه لم يمِل معهم على جَوْر. بل أحمل الحقوق عليهم. وأما إعطاؤهم فإني ما أعطيهم من مالي ولا أستحل أموال المسلمين لنفسي، ولا لأحد من الناس، ولقد كنت أعطي العطية الكبيرة الرغيبة من صلب مالي أزمان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما، وأنا يومئذٍ شحيح حريص، أفحين أتيتُ على أسنان أهل بيتي وفَنِي عمري وودعتُ الذي لي في أهلي قال الملحدون ما قالوا! وإني واللَّه ما حملت على مصر من الأمصار فضلاً فيجوز ذلك لمن قاله. ولقد رددته عليهم وما قدم عليَّ إلا الأخماس ولا يحل لي منها شيء فولَّى المسلمون وضعها في أهلها دوني ولا يُتلفت من مال اللَّه بفلس فما فوقه، وما أتبلغُ منه ما آكل إلا من مالي. وقالوا: أعطيتَ الأرض رجالاً. وإن هذه الأرضين شاركهم فيها المهاجرون والأنصار أيام افتُتحت، فمن أقام بمكان من هذه الفتوح فهو أُسوُة أهله، ومن رجع إلى أهله لم يُذهب ذلك ما حوى اللَّه له. فنظرتُ في الذي يُصيبهم مما أفاء اللَّه عليهم فبعتُه لهم بأمرهم من رجال أهل عقار ببلاد العرب، فنقلت إليهم نصيبهم فهو في أيديهم دوني". ثم تركهم عثمان، فذهبوا ورجعوا إلى بلادهم.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 651. (2) ما لي ثاغية ولا راغية: ما لي شاة ولا بعير. (3) الحكم المذكور هنا هو الحكم بن أبي العاص بن أمية عمُّ عثمان، أسلم يوم الفتح، وهو طريد رسول اللَّه، نفاه من المدينة إلى الطائف وخرج معه ابنه مروان. قيل: نفاه رسول اللَّه لأنه كان يتسمع سر رسول اللَّه ويطلع عليه في بابه، وكان يحكي رسول اللَّه في مشيته وبعض حركاته. ومرَّ الحكم يوماً فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: "ويل لأمتي مما في صلب هذا".

- حصر عثمان (1) (شوال سنة 35 هـ/ 656 م) : كان بمصر محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة يحرِّضان على عثمان، فلما خرج المصريون خرج فيهم عبد الرحمن بن عُدَيْس البَلَويّ (2) في خمسمائة (3) فكان أمير الجيش القادم من مصر لحصر عثمان، وفيهم كنانة بن بشر الليثي، وسودان بن حمران السكوني وقُتَيرة بن فلان السكوبيّ، وعليهم جميعاً الغافقي بن حرس العَكِّي وخرج أهل الكوفة وفيهم زيد بن صوحان العبد، والأشتر النخعي، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد اللَّه بن الأصم العامري وهم في عدد أهل مصر. وخرج أهل البصرة فيهم حُكَيم بن جَبَلة العبدي (4) ، وذُرَيح بن عباد، -[152]- وبِشر بن شُريح القيسي، وابن المحرَّش، وهم بعدد أهل مصر وأميرهم حرقوص بن زُهَيْر السعدي (5) . خرج هؤلاء كالحجاج، وذكر الطبري (6) أن ابن السوداء خرج من خرَّج من أهل مصر. أما أهل مصر فإنهم كانوا يشتهون "علياً". وأما أهل البصرة فإنهم كانوا يشتهون "طلحة". وأما أهل الكوفة كانوا يشتهون "الزبير"، فلما كانوا من المدينة على ثلاث، تقدَّم ناس من أهل البصرة فنزلوا ذا خُشُب، وناس من أهل الكوفة فنزلوا الأعْوَص، وجاءهم ناس من أهل مصر، وتركوا عامتهم بذي المَرْوة، ومشى فيما بين مصر وأهل البصرة زياد بن النضر وعبد اللَّه بن الأصم وقالا: لا تعجلوا ولا تعجلونا حتى ندخل لكم المدينة ونرتاد، فإنه بلغنا أنهم عسكروا لنا. فواللَّه إن كان أهل المدينة قد خافونا واستحلوا قتالنا، ولم يعلموا علمنا، فهم إذا علموا علمنا أشد وإن أمرنا هذا لباطل. وإن لم يستحلوا قتالنا ووجدنا الذي بلغنا باطلاً لنرجعن إليكم بالخبر. قالوا: اذهبا، فدخل الرجلان، فلقيا أزواج النبي صلى اللَّه عليه وسلم وعلياً، وطلحة، والزبير. وقالا: إنما نأتمّ هذا البيت ونستعفي هذا الوالي من بعض عمالنا ما جئنا إلا لذلك، واستأذناهم للناس بالدخول، فكلهم أبى ونهى، وقال: بيض ما يفرخن، فرجعا إليهم فاجتمع نفر من أهل مصر فأتوا علياً، ومن أهل البصرة نفر فأتوا طلحة، ومن أهل الكوفة نفر فأتوا الزبير. وقال كل فريق منهم: بايعوا صاحبنا وإلا كدناهم وفرقنا جماعتهم، ثم كررنا عليهم نبغتهم فأتى المصريون علياً وهو في عسكر عند أحجار الزيت متقلداً سيفه، وقد أرسل ابنه الحسن إلى عثمان فيمن اجتمعوا إليه، فسلموا عليه وعرضوا عليه، فصاح بهم وطردهم وقال: "لقد علم الصالحون أن جيش ذي المروة، وذي خشب والأعوص ملعونون على لسان محمد صلى اللَّه عليه وسلم" فانصرفوا عنه. وجيش ذي المروة هم المصريون. أما جيش ذي خُشُب فهم أهل البصرة. وأما جيش الأعوص فهم أهل الكوفة. وهذه أماكن بالقرب من المدينة -[153]-. وأتى البصريون طلحة، وهو في جماعة أخرى إلى جنب عليّ وقد أرسل ابنه إلى عثمان، فسلم البصريون عليه وعرضوا عليه، فصاح بهم وطردهم وقال لهم مثل ذلك. وأتى الكوفيون الزبير وهو في جماعة أخرى، وقد سرح ابنه عبد اللَّه إلى عثمان، فسلموا عليه وعرضوا عليه، فصاح بهم وطردهم وقال لهم مثل ذلك. فرجعوا وتفرقوا عن ذي المروة وذي خشب والأعوص إلى عسكرهم ليتفرق أهل المدينة، ثم رجعوا إليهم، فلما بلغوا عسكرهم تفرَّق أهل المدينة، فرجعوا بهم فلم يشعر أهل المدينة إلا والتكبير في نواحيها ونزلوها وأحاطوا بعثمان. وقالوا من كفَّ يده فهو آمن. وصلى عثمان بالناس أياماً ولزم الناس بيوتهم، ولم يمنعوا أحداً من كلام فأتاهم الناس فكلموهم وفيهم علي. فقال: ما ردكم بعد ذهابكم ورجوعكم عن رأيكم؟ فقالوا: أخذنا مع بريد كتاباً بقتلنا. وأتاهم طلحة فقال البصريون مثل ذلك. وأتاهم الزبير فقال الكوفيون مثل ذلك. وقال الكوفيون والبصريون: نحن ننصر إخواننا ونمنعهم جميعاً كأنما كانوا على ميعاد. فقال لهم علي: كيف علمتم يا أهل الكوفة ويا أهل البصرة بملقى أهل مصر؟ وقد سرتم مراحل، ثم طويتم نحونا هذا الأمر. واللَّه إنه أمر أبرم بالمدينة. قالوا: فضعوه على ما شئتم، ولا حاجة لنا في هذا الرجل ليعتزلنا وهو في ذلك يصلي بهم، وهم يصلون خلفه، ويغشى من شاء عثمان وهم في عينه أدق من التراب، وكانوا لا يمنعون أحداً من الكلام، وكانوا يمنعون الناس من الاجتماع. يلاحظ أن الذين خرجوا لحصر عثمان من الأمصار الثلاثة: مصر والكوفة والبصرة يتراوح عددهم بين 1500 و 3000 على أكثر تقدير. فهو ليس جيشاً يصعب على أهل المدينة صده. نقول ذلك وليس لدينا إحصاء عن سكان المدينة في ذلك الوقت نستطيع به أن نعرف منه قدرتها على الدفاع عن الخليفة. كما أننا لم نقف على أمر من عثمان إلى أهل المدينة بالاستعداد للدفاع عنه وردّ هؤلاء المهاجمين. غير أنا وجدنا نص كتابه الذي أرسله إلى الأمصار يستنجدهم فيه، وهو الذي سننشره، ويلاحظ كذلك أن الشاميين لم يرسلوا جيشاً كغيرهم من الأمصار لحصر عثمان، وذلك راجع إلى ما كان من تأثير معاوية في تلك البلاد.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 650، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 53. (2) هو عبد الرحمن بن عُدَيْس البَلَوي بن عمرو بن البَلَوي، شجاع، صحابي، ممن بايع تحت الشجرة، شهد فتح مصر، ثم كان قائد الجيش الذي بعثه ابن أبي حذيفة والي مصر إلى المدينة لخلع عثمان، ولما قتل عثمان عاد إلى مصر، فطلبه معاوية بن أبي سفيان وقبض عليه وسجنه في لدّ بفلسطين ففر، فأدركه صاحب فلسطين فقتله. للاستزادة راجع: حسن المحاضرة ج 1/ص 91. ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3، حوادث سنة 36، الإصابة ترجمة 5155. (3) وقيل في ألف. (4) هو حُكيم بن جَبَلَة العبدي، من بني عبد القيس صحابي، كان شريفاً مطاعاً، من أشجع الناس، ولاَّه عثمان إمرة السند، ولم يستطع دخولها فعاد إلى البصرة، اشترك في الفتنة أيام عثمان، لما كان يوم الجمل أقبل في ثلاثمائة من بني عبد القيس وربيعة، فقاتل مع أصحاب علي، قطعت رجله فأخذها وضرب بها الذي قطعها له، فقتله بها، وبقي يقاتل، ونزف دمه، فجلس متكئاً على المقتول الذي قطع رجله، فمرَّ به فارس، فقال: من قطع رجلك؟ قال: وِسادي! وقُتل في هذه الوقعة سنة 36 هـ. (5) هو حُرقوص بن زهير السعدي، الملقب بذي الخويصرة، صحابي من بني تميم، خاصم الزبير فأمر النبي صلى اللَّه عليه وسلم باستيفاء حقه منه، أمره عمر بن الخطاب بقتال الهرمزان، فاستولى على سوق الأهواز ونزل بها، ثم شهد صفين مع علي بعد الحكمين صار من أشد الخوارج على علي، قتل فيمن قُتل في النهروان سنة 37 هـ. للاستزادة راجع: الإصابة ترجمة 1661، الذريعة ج 10/ص 193، ياقوت ج 1/ص 412، الكامل للمبرد ص 595. (6) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 652.

- كتاب عثمان إلى أهل الأمصار يستمدهم (1) : -[155]- "بسم اللَّه الرحمن الرحيم. أما بعد، فإن اللَّه عز وجل بعث محمداً بالحق بشيراً ونذيراً فبلغ عن اللَّه ما أمر به، ثم مضى وقد قضى الذي عليه، وخلف فينا كتابه، فيه حلاله وحرامه، وبيَّن الأمور التي قدَّر، فأمضاها على ما أحب العباد، وكرهوا فكان الخليفة أبو بكر رضي اللَّه عنه، وعمر رضي اللَّه عنه، ثم أُدخلتُ في الشورى على غير علم ولا مسألة عن ملأ من الأمة، ثم أجمع أهل الشورى على ملأ منهم ومن الناس على غير طلب مني ولا محبة. فعملت فيهم ما يعرفون ولا ينكرون، تابعاً غير مستتبع، متبعاً غير مبتدع، مقدياً غير متكلف، فلما انتهت الأمور وانتكث الشر بأهله بدت ضغائن وأهواء على غير إجرام ولا ترة فيما مضى إلا إمضاء الكتاب. فطلبوا أمراً وأعلنوا غيره بغير حجة ولا عذر، فعابوا عليَّ أشياء مما كانوا يرغبون، وأشياء عن ملأ من أهل المدينة لا يصلح غيرها، فصبرتُ لهم نفسي، وكففتُها عنهم منذ سنين، وأنا أرى وأسمع، فازدادوا على اللَّه عز وجل جرأة حتى أغاروا علينا في جوار رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وحَرَمَه، وأرض الهجرة، وثابت إليهم الأعراب، فهم كالأحزاب أيام الأحزاب، أو من غزانا بأحُد إلا ما يُظهرون، فمن قدر على اللحاق بنا فليلحق". يستنجد عثمان بهذا الكتاب أهل الأمصار، ويحثهم للمنع عنه ويعرفهم ما الناس فيه.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 653.

- قدوم عبد اللَّه بن أبي سرح إلى عثمان (1) : لما تكلَّم الناس بخلع عثمان، وفد عبد اللَّه على عثمان سنة 35 هـ واستخلف على مصر عقبة بن عامر الجهني، وقيل: بل استخلف السائب ابن هشام العامري فظهر عليه محمد بن أبي حذيفة بن عتبة الأموي، فأزال عنها السائب وتأمَّر على مصر، فرجع عبد اللَّه بن أبي سرح، فمنعه محمد بن أبي حذيفة من دخول الفسطاط فمضى إلى عسقلان، فأقام بها حتى قتل عثمان، وقيل: بل أقام بالرملة حتى مات فارّاً من الفتنة، فتوفي ولم يبايع لعلي ولا لمعاوية، وكانت وفاته سنة 37 هـ.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 654.

- خطبة معاوية: ذكروا أن ابن عباس قال: خرجت إلى المسجد فإني لجالس فيه مع علي حين صليت العصر، إذ جاء رسول عثمان يدعو علياً. فقال علي: نعم. فلما أن ولى الرسول -[156]- أقبل علي فقال: لِمَ تراه دعاني؟ فقلت له: دعاك ليكلمك. فقال: انطلق معي. فأقبلت فإذا طلحة والزبير وسعد وأناس من المهاجرين، فجلسنا، فإذا عثمان عليه ثوبان أبيضان. فسكت القوم ونظر بعضهم إلى بعض فحمد اللَّه عثمان ثم قال: "أما بعد، فإن ابن عمي معاوية هذا قد كان غائباً عنكم وعما نلتم مني وما عاتبتكم عليه وعاتبتموني. وقد سألني أن يكلِّمكم وأن يكلِّمه من أراد". فقال سعد بن أبي وقاص: وما عسى أن يقال لمعاوية أو يقول إلا ما قلت أو قيل لك! فقال: على ذلكم، تكلم يا معاوية فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد، يا معشر المهاجرين وبقية الشورى فإياكم أعني، وإياكم أريد فمن أجابني بشيء فمنكم واحد، فإني لم أرد غيركم. توفي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فبايع الناس أحد المهاجرين التسعة، ثم دفنوا نبيهم فأصبحوا سالماً أمرهم كأن نبيهم بين أظهرهم. فلما أيس الرجل من نفسه بايع رجلاً من بعده أحد المهاجرين، فلما احتضر ذلك الرجل شك في واحد أن يختاره، فجعلها في ستة نفر بقية المهاجرين فأخذوا رجلاً منهم لا يألون عن الخير فيه فبايعوه وهم ينظرون إلى الذي هو كائن من بعده لا يشكون ولا يمترون. مهلاً مهلاً أيها المهاجرون. فإن وراءكم من إن دفعتموه اليوم اندفع عنكم، ومن إن فعلتم الذي أنتم فاعلوه دفعكم بأشد من ركنكم وأعدّ من جمعكم، ثم استن عليكم بسنتكم، ورأى أن دم الباقي ليس بممتنع بعد دم الماضي. فسددوا وارفقوا لا يغلبكم على أمركم من حدتكم". فقال علي بن أبي طالب: "كأنك تريد نفسك يا ابن اللخناء لست هنالك". فقال معاوية: مهلاً عن بنت عمك. فإنها ليست بشر نسائك. يا معشر المهاجرين وولاة هذا الأمر. ولاَّكم اللَّه إياه فأنتم أهله. وهذان البلدان مكة والمدينة مأوى الحق ومنتهاه. وإنما ينظر التابعون إلى السابقين والبلدان إلى البلدين، فإن استقاموا استقاموا وأيم اللَّه الذي لا إله إلا هو لئن صفقت إحدى اليدين على الأخرى لا يقوم السابقون للتابعين ولا البلدان للبلدين وليسلبن أمركم، ولينقلن المُلك من بين أظهركم. وما أنتم في الناس إلا كالشامة السوداء في الثور الأبيض. فإني رأيتكم نشبتم في الطعن على خليفتكم وبطرتم معيشتكم وسفهتم أحلامكم. وما كل نصيحة مقبولة. والصبر على بعض المكروه خير من تحمله كله". ثم خرج القوم وأمسك عثمان ابن عباس، فقال له: "يا ابن عمي ويا ابن خالتي. فإنه لم يبلغني عنك في أمر شيء أحبه ولا أكرهه عَلَيَّ ولا لِيَ. وقد علمت أنك رأيت بعض ما رأى الناس فمنعك عقلك وحلمك من أن تظهر ما أظهروا، وقد أحببت أن تعلمني رأيك فيما بيني وبينك فأعتذر".

- رأي ابن عباس: -[157]- قال ابن عباس فقلت: "يا أمير المؤمنين، إنك قد ابتليتني بعد العافية، وأدخلتني في الضيق بعد السعة. وواللَّه إن رأيي لك أن يجلُّ سنك ويعرف قدرك وسابقتك. وواللَّه لوددت أنك لم تفعل ما فعلت مما ترك الخليفتان قبلك. فإن كان شيئاً تركاه لما رأيا أنه ليس لهما، علمت أنه ليس لك كما لم يكن لهما وإن كان ذلك لهما فتركاه خيفة أن ينال منهما مثل الذي نيل منك تركته لما تركاه له ولم يكونا أحق بإكرام أنفسهما منك بإكرام نفسك". قال: فما منعك أن تشير عليَّ بهما قبل أن أفعل ما فعلت؟ قال: وعلمي أنك تفعل ذلك قبل أن تفعل. قال: فهب لي صمتاً حتى ترى رأيي.

- حملة معاوية على المهاجرين: لما خرج ابن عباس قال عثمان لمعاوية: "ما ترى، فإن المهاجرين قد استعجلوا القدر ولا يد لهم مما في أنفسهم؟. فقال معاوية: الرأي أن تأذن لي فأضرب أعناق هؤلاء القوم. قال: من؟. قال: عليٌّ، وطلحة، والزبير. قال عثمان: سبحان اللَّه، أقتل أصحاب رسول اللَّه بلا حدث أحدثوه ولا ذنب ركبوه!. قال معاوية: فإن لم تقتلهم فإنهم سيقتلونك. قال عثمان: لا أكون أول من خلف رسول اللَّه في أمته بإهراق الدماء. قال معاوية: فاختر مني إحدى ثلاث خصال. قال عثمان: وما هي؟. قال معاوية: أرتب لك ههنا أربعة آلاف فارس من خيل أهل الشام يكونون لك رداء وبين يديك يداً. قال عثمان: أرزقهم من أين؟. قال معاوية: من بيت المال. قال عثمان: أرزق أربعة آلاف من الجند من بيت مال المسلمين لحرز دمي لا فعلت هذا!. قال: فثانية. قال: وما هي؟ قال: فرّقهم عنك فلا يجتمع منهم اثنان في مصر واحد، واضرب عليهم البعوث والندب حتى يكون دبر بعير أحدهم أهم عليه من صلاته. قال عثمان: سبحان اللَّه. شيوخ المهاجرين، وكبار أصحاب رسول اللَّه، وبقية الشورى، أخرجهم من ديارهم وأفرق بينهم وبين أهلهم وأبنائهم؟ لا أفعل هذا -[158]-. قال معاوية: فثالثة. قال: وما هي؟ اجعل لي الأمر الطلب بدمك إن قتلت. قال عثمان: نعم. هذه لك إن قتلت فلا يطل دمي (1) . هذا ما جرى من المناقشة بين معاوية وعثمان ولم يوافقه عثمان على التنكيل بالمهاجرين بالقتل أو النفي، إنما وافقه على المطالبة بدمه، فلما قتل عثمان طالب معاوية علياً بدم عثمان رضي اللَّه عنه وحاربه. إن هذه الآراء التي أبداها معاوية لعثمان رضي اللَّه عنه بشأن التنكيل بالمهاجرين قد وجدناها مسطورة في كتاب "الإمامة والسياسة" لابن قتيبة لكنا لا نصدق أن معاوية أشار بقتل عليّ وطلحة والزبير أو نفيهم وقد بحثنا عن هذا الخبر في الطبري فلم نجد له أثراً. أما كتاب الإمامة والسياسة المشار إليه فمشكوك في صحة نسبته إلى ابن قتيبة. ويرجح الأستاذ "ده غوي" أن هذا المصنف كتبه رجل مصري أو مغربي في حياة ابن قتيبة.

_ (1) ابن قتيبة، الإمامة والسياسة.

- خروج أهل الأمصار لنجدة عثمان بعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري. وبعث عبد اللَّه بن سعد معاوية ابن حُديج، وخرج من الكوفة القعقاع بن عمرو، وقام بالكوفة نفر يحضون على إعانة أهل المدينة منهم: عقبة بن عامر، وعبد اللَّه بن أبي أوفى، وحنظلة الكاتب وغيرهم من أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وسلم. ومن التابعين: مسروق والأسود وشريح وعبد اللَّه بن حكيم وغيرهم. وقام بالبصرة عمران بن حصين وأنس بن مالك وهشام بن عامر وغيرهم من الصحابة، ومن التابعين كعب بن سوار وهرم بن حيان وغيرهما. وقام بالشام جماعة من الصحابة والتابعين وكذلك بمصر. أما جيش الشام فقد تأخر، فلما بلغهم خبر مقتل الخليفة عند منتصف الطريق بين الشام والمدينة قفلوا راجعين. وقيل: إن معاوية تعمَّد تأخير المدد.

- خطبة عثمان ورجمه بالحصباء (1) : ولما جاءت الجمعة التي على أثر نزول المصريين المدينة خرج عثمان فصلى بالناس، ثم قام على المنبر فقال: "يا هؤلاء العِدى: اللَّه اللَّه، فواللَّه إن أهل المدينة ليعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد صلى اللَّه عليه وسلم فامحوا الخطايا بالصواب فإن اللَّه عز وجل لا يمحو السيئ إلا بالحسن". -[159]- فقام محمد بن مسلمة فقال: أشهد بذلك، فأخذه حكيم بن جبلة (من جيش البصرة) فأقعده. فقام زيد بن ثابت فأقعده محمد ابن أبي قتيرة. وثار القوم بأجمعهم، فحصبوا الناس حتى أخرجوهم من المسجد وحصبوا عثمان حتى صرع على المنبر مغشياً عليه، فاحتمل، فأدخل داره، واستقل نفر من أهل المدينة مع عثمان منهم سعد بن مالك، والحسن بن علي، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة، فأرسل إليهم عثمان يعزم عليهم بالانصراف فانصرفوا. وأقبل عليّ وطلحة والزبير فدخلوا على عثمان بعودته من صرعته، ويشكون بثهم، ثم رجعوا إلى منازلهم. وصلى عثمان بالناس بعد ما نزل به في المسجد ثلاثين يوماً، ثم منعوه الصلاة، وصلى بالناس أميرهم الغافقي، وتفرَّق أهل المدينة في حيطانهم، وأُلزموا بيوتهم، لا يجلس أحد ولا يخرج إلا بسيفه يمتنع به، وكان الحصار أربعين يوماً ومن تعرَّض لهم وضعوا فيه السلاح. وقيل: إن عثمان رضي اللَّه عنه خطب الناس وقال لهم: "إنهم قد أسرعوا الفتنة، واستطالوا عمري، واللَّه لئن فارقتهم ليتمنون أن عمري كان عليهم مكان كل يوم سنة، يرون من قدماء المسفوكة والإحن والأثرة الظاهرة والأحكام المغيرة".

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 654، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 52.

- زيارة عثمان لعلي في بيته ورجوع المصريين (1) : جاء عثمان إلى عليٍّ فدخل عليه بيته فقال له: يا ابن عم، إن قرابتي قريبة ولي عليك حق عظيم، وقد جاء ما ترى من هؤلاء القوم وهم مصبحي، ولك عند الناس قدر، وهم يسمعون منك، وأحب أن تركب إليهم فتردهم عنِّي، فإن في دخولهم عليَّ توهيناً لأمري وجراءة عليَّ. فقال علي: على أيِّ شيء أردهم عنك؟. قال: على أن أصير إلى ما أشرت إليه ورأيته لي. فقال عليٌّ: إني قد كلمتك مرة بعد أخرى فكل ذلك تخرج وتقول، ثم ترجع عنه، وهذا من فعل مروان وابن عامر ومعاوية وعبد اللَّه بن سعد. فإنك أطعتهم وعصيتني. قال عثمان: فأنا أعصيهم وأطيعك. فأمر عليٌّ الناس، فركب ومعه من المهاجرين والأنصار ثلاثون رجلاً فيهم سعيد بن زيد، وأبو جهم العدوي وجُبير بن مطعم (2) ، وحكيم بن حزام، ومروان، وسعيد بن العاص، وعبد -[160]- الرحمن بن عتاب بن أسيد. ومن الأنصار أبو أسيد الساعدي وأبو حميد، وزيد بن ثابت، وحسان بن ثابت وكعب بن مالك (3) ، ومن العرب نيار بن مكرز (4) ، فأتوا المصريين بذي خشب فكلموهم، وكان الذي يكلمهم علياً ومحمد بن مسلمة. فسمعوا كلامهما ورجعوا إلى مصر. فقال ابن عديس لمحمد بن سلمة: أتوصينا بحاجة؟ قال: نعم. تتقي اللَّه وترد من قِبلك عن إمامهم، فإنه قد وعدنا أن يرجع وينزع. قال ابن عديس: أفعل إن شاء اللَّه. ورجع عليّ ومن معه إلى المدينة فدخل على عثمان فأخبره برجوعهم وكلمه بما في نفسه وخرج من عنده. فمكث عثمان ذلك اليوم وجاءه مروان، بكر الغد. فقال له: تكلَّم وأعلم الناس أن أهل مصر قد رجعوا، وأن ما بلغهم عن إمامهم كان باطلاً قبل أن يجيء الناس إليك من أمصارهم، ويأتيك ما لا تستطيع دفعه. ففعل عثمان. فلما خطب الناس قال له عمرو بن العاص: اتق اللَّه يا عثمان فإنك قد ركبت أموراً وركبناها معك فتب إلى اللَّه نتب. فناداه عثمان: وإنك هنا يا ابن النابغة قَملت واللَّه جبتك منذ عزلتك عن العمل. فنودي من ناحية أخرى: تب إلى اللَّه. فرفع يديه واستقبل القبلة وقال: "اللَّهم إني أول تائب". وخرج عمرو بن العاص إلى فلسطين. وكان يقول: واللَّه إني كنت لألقى الراعي فأحرضه على عثمان.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 657، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 54. (2) هو جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، أبو سعيد، القرشي، المتوفى، سنة 58 هـ. للاستزادة راجع: تهذيب الكمال ج 1/ص 184، تهذيب التهذيب ج 2/ص 63، تقريب التهذيب ج 1/ص 125، خلاصة تهذيب الكمال ج 1/ص 161، الكاشف ج 1/ص 180، تاريخ البخاري الكبير ج 2/ص 225، تاريخ البخاري الصغير ج 1/ص 6، الجرح والتعديل ج 2/ص 113، تجريد أسماء الصحابة ج 1/ص 78، أسد الغابة ج 1/ص 322، الإصابة ج 1/ص 462، الاستيعاب ج 1/ص 432، شذرات الذهب ج 1/ص 59، الوافي بالوفيات ج 11/ص 58، البداية والنهاية ج 8/ص 46، سير أعلام النبلاء ج 3، ص 95، الثقات ج 3/ص 50، أسماء الصحابة الرواة ترجمة 57، نقعة الصديان ترجمة 83. (3) هو كعب بن مالك بن عمرو بن القين، الأنصاري، السلمي (بفتح السين واللام) ، الخزرجي، صحابي من أكابر الشعراء من أهل المدينة، اشتهر في الجاهلية، كان في الإسلام من شعراء الرسول صلى اللَّه عليه وسلم، شهد أكثر الوقائع، ثم كان من أصحاب عثمان، وأنجده يوم الثورة، وحرَّض الأنصار على نصرته، ولما قُتل عثمان قعد عن نصرة علي، فلم يشهد حروبه، عُمي في آخر عمره وعاش سبعاً وسبعين سنة، توفي سنة 50 هـ. للاستزادة راجع: الأغاني ج 15/ص 29، الإصابة 7433، نكت الهميان 231، خلاصة تهذيب الكمال ج 2/ص 273، رغبة الأمل ج 2/ص 73، المرزباني 342، حُسن الصحابة ص 43، خزانة الأدب للبغدادي ج 1/ص 200. (4) في الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 658: "نيار بن مِكْرم".

- توبة عثمان (1) : -[161]- تاب عثمان بناء على طلب عمرو بن العاص، وقيل: إن علياً جاء عثمان بعد انصراف المصريين فقال له: تكلَّم كلاماً يسمعه الناس منك ويشهدون عليه ويشهد اللَّه على ما في قلبك من النزوع والإنابة. فإن البلاد قد تمخضت عليك فلا آمن ركباً آخرين يقدمون من الكوفة فتقول: يا علي اركب إليهم، ولا أقدر أن أركب إليهم، ولا أسمع عذراً، ويقدم ركب آخرون من البصرة فتقول: يا عليّ اركب إليهم، فإن لم أفعل رأيتني قد قطعت رحمك، واستخففت بحقك. فخرج عثمان فخطب الخطبة التي نزع فيها وأعطى الناس من نفسه التوبة، فحمد اللَّه وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: "أما بعد، أيها الناس فواللَّه ما عاب من عاب منكم شيئاً أجهله، وما جئت شيئاً إلا وأنا أعرفه، ولكني منتني نفسي وكذبتني وضلَّ عني رشدي. ولقد سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: "مَن زلَّ فليتب ومَن أخطأ فليتب ولا يتمادى في الهلكة (2) . إن من تمادى في الجور كان أبعد من الطريف فأنا أول من اتعظ. أستغفر اللَّه مما فعلت وأتوب إليه. فمثلي نزع وتاب. فإذا نزلت فليأتني أشرافكم فليروني رأيهم لئن ردني الحق عبداً لأستنن بسنة العبد، ولأذلنَّ ذل العبد ولأكوننَّ كالمرقوق (3) إن مُلك صبر، وإن عُتِق شكر، وما عن اللَّه مذهب إلا إليه فلا يعجزن منكم خياركم أن يدنوا إليَّ لئن أبت يميني لتتابعني شمالي". فرقَّ الناس له يومئذٍ، وبكى من بكى منهم، وقام إليه سعيد بن زيد فقال: يا أمير المؤمنين ليس بواصل لك من ليس معك. اللَّه اللَّه في نفسك فأتمم على ما قلت. أورد الطبري (4) هذه الخطبة بنصها، وأتى على ملخصها ابن الأثير (5) وقد تاب فيها أمام الناس واستغفر اللَّه.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 658، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 54. (2) ابن كثير في البداية والنهاية (7: 172) . (3) المرقوق: الرقيق. (4) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 658. (5) ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 54.

- مروان يفسد توبة عثمان (1) : كان عثمان رضي اللَّه عنه مستسلماً لمروان ولأقاربه، وهذا ما لاحظه عليٌّ رضي اللَّه عنه، -[162]- فكان لهم تأثير شديد فيه. فلما تاب هذه التوبة وخطب تلك الخطبة التي رقَّت لها قلوب الناس ودخل بيته، دخل عليه مروان وقيل: إنه وجد مروان وسعيداً ونفراً من بني أمية ولم يكونوا شهدوا الخطبة، (لكن لا بدَّ أنهم سمعوا بها إن لم يكونوا شهدوها) ، فلما جلس قال مروان: يا أمير المؤمنين أتكلم أم أصمت؟ فقالت نائلة ابنة الفرافصة، امرأة عثمان -: لا، بل اصمت. فإنهم واللَّه قاتلوه ومؤثموه. إنه قد قال مقالة لا ينبغي له أن ينزع عنها. فأقبل عليها مروان فقال: ما أنت وذاك، فواللَّه لقد مات أبوك وما يحسن يتوضأ. فقالت له: مهلاً يا مروان عن ذكر الآباء، تخبَّر عن أبي وهو غائب تكذب عليه، وإن أباك لا يستطيع أن يدفع عنه. أما واللَّه لولا أنه عمَّه، وأنه يناله غمّه أخبرتك عنه ما لن أكذب عليه. فأعرض عنها مروان. ثم قال: يا أمير المؤمنين أتكلَّم أم أصمت؟ قال: بل تكلَّم. فقال مروان: بأبي أنت وأمي واللَّه لوددت أن مقاتلتك هذه كانت وأنت ممتنع منيع فكنت أول من رضي بها وأعلن عليها. ولكنك قلت ما قلت حين بلغ الحزام الطُّبْيَيْن (2) وخلف السيل الزُّبَى (3) ، وحين أعطى الخطة الذليلة الذليل. واللَّه لإقامة على خطيئة تستغفر اللَّه منها أجمل من توبة تخوَّف عليها، وإنك إن شئت تقرَّبت بالتوبة، ولم تقرر بالخطيئة وقد اجتمع إليك على الباب مثل الجبال من الناس. فقال عثمان: فاخرج إليهم فكلِّمهم فإني أستحي أن أكلمهم. فخرج مروان إلى الباب والناس يركب بعضهم بعضاً. فقال: "ما شأنكم قد اجتمعتم كأنكم قد جئتم لنهب. شاهت الوجوه. كل إنسان آخذ بإُذُن صاحبه إلا من أريدَ. جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا. اخرجوا عنا لئن رميتمونا ليمرن عليكم منا أمر لا يسركم ولا تحمدوا غِبَّ رأيكم. ارجعوا إلى منازلكم، فإنا واللَّه ما نحن مغلوبين على ما في أيدينا". فرجع الناس وخرج بعضهم حتى أتى علياَ فأخبره الخبر. فجاء علي رضي اللَّه عنه مغضباً حتى دخل على عثمان. فقال: أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بتحرّفك عن دينك وعن عقلك مثل جمل الظعينة يقاد حيث يسار به واللَّه ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه. وأيم اللَّه إني لأراه سيوردك، ثم لا يصدرك. وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك. أذهبت شرفك وغُلبت على أمرك.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 658، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 56. (2) الطُّيْبَيْن: حملة الضَّرْع للحيوان، أو الضَّرْع نفسه. (3) الزُّبَى: الرابية لا يعلوها الماء، مفردها: زُبية. [القاموس المحيط، مادة: زبي] .

- نائلة زوجة عثمان تنصحه وتحذره مروان (1) : -[163]- لما خرج عليّ دخلت عليه نائلة زوجته، وقالت: أتكلم أو أسكت؟ فقال: تكلمي. فقالت: سمعت قول عليّ لك، وأنه ليس يعاودك، وقد أطعت مروان يقودك حيث شاء. قال: فما أصنع؟. قالت: تتقي اللَّه وحده لا شريك له، وتتبع سنة صاحبيك من قبلك، فإنك متى أطعت مروان قتلك. ومروان ليس له عند الناس قدر ولا هيبة ولا محبة، وإنما تركك الناس لمكان مروان. فأرسل إلى عليّ فاستصلحه فإن له قرابة منك فهو لا يعصيك. فأرسل إلى عليّ فأبى أن يأتيه وقال: قد أعلمته أني لست بعائد. فبلغ مروان مقالة نائلة فيه، فجاء إلى عثمان فجلس بين يديه. فقال: أتكلم أو أسكت؟ فقال: تكلم. فقال: إن بنت الفرافصة. فقال عثمان: لا تذكرنَّها بحرف فَأُسَوِّدُ (2) وجهك، فهي واللَّه أنصح لي منك. فكفَّ مروان.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 659، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 57. (2) ورد في الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 660: "فَأُسَوِّئ لك وجهك"، وفي ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 57: "فَأُسَوَّد وجهك".

- ما خشيه مروان من توبة عثمان: لقد تاب عثمان عمَّا فعله باستشارة مروان وأمثاله من بني أمية، لأن علياً أراد منه أن يذيع التوبة حتى ينصرف الأعداء عنه ولا يعودوا إلى التألب عليه. فلما تاب رضي الناس عنه. ونعتقد أن عثمان لو ترك وشأنه من غير تدخل هؤلاء المستشارين من أقاربه، لما فعل شيئاً مما استوجب سخط الناس عليه. لكنهم ما كانوا يتركونه يتصرف في الأمور. كانوا يملون عليه إرادتهم ويصرفونه حيث شاءوا، وكان لا يخالفهم لما ركب في طبعه من اللين ورقة الجانب للأقارب ولكبر سنه. فلما استاء الناس منه وضايقوه وكلَّمه عليّ الذي استنجد به لردهم عنه، تاب وأذاع توبته على الملأ حتى بكى من سمعه، إلا أن هذه التوبة أسخطت مروان وأقارب عثمان، لأن فيها رجوعاً عن الخطة التي اتبعها فيما مضى، إذ التوبة تقضي عليه أن ينظر في شكاوى الناس فيولِّي من يصلح بغض الطرف عن القرابة، كما كان يفعل أبو بكر وعمر. وهذا ما خشيه مروان. ويدل على ذلك قوله للناس بعد خطبة عثمان: (تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا) . هذا ما كان يخشاه مروان. أما حياة عثمان الذي أغدق عليهم النعم، تلك الحياة التي كانت مهددة، فلم تكن تهمه، لأن مشورته هي التي بغضت الناس في عثمان. انصرف الناس راضين -[164]- وقالوا: قد تاب الرجل، وما كاد علي يطمئن ويظن أنه قد أطاعه، حتى خرج عليهم مروان وهدم هذه السياسة الحميدة فغضب علي غضباً شديداً وغضب الناس. وكان الأجدر بعثمان والحالة هذه أن يدع التردد بعد أن تبين له الحق والصواب ويمنع مروان من الكلام بما يخالف توبته، ويعلن تمسَّكه بما قال حتى لا يقال: إن مروان يصرفه ويتحكم فيه، وأن ما يبرمه ويقرره الخليفة ينقضه مروان.

- غضب علي رضي اللَّه عنه (1) : أتى عثمان إلى عليّ بمنزله ليلاً فقال له: إني غير عائد وإني فاعل. فقال له عليٌّ: بعد ما تكلَّمت على منبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وأعطيت من نفسك، ثم دخلت بيتك فخرج مروان إلى الناس يشتمهم على بابك ويؤذيهم. فخرج عثمان من عنده وهو يقول: خذلتني وجرأت الناس عليَّ. فقال عليٌّ: واللَّه إني لأكثر الناس ذبَّاً عنك، ولكني كلما جئت بشيء أظنه لك رضا جاء مروان بأخرى فسمعت قوله وتركت قولي ولم يعد علي يعمل كما كان يعمل (2) .

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 660، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 57. (2) ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 57.

- الجرأة على عثمان (1) : قيل: إن إبلاً من إبل الصدقة قدم بها على عثمان فوهبها لبعض بني الحكم، فبلغ ذلك عبد الرحمن ببن عوف فأرسل إلى المِسْوَر بن مَخْرَمَة (2) وإلى عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، فأخذها فقسمها عبد الرحمن في الناس وعثمان في الدار ولا بدَّ أن هذه الحادثة التي رواها الطبري وابن الأثير كانت قبل سنة 35 هـ، لأن عبد الرحمن بن عوف توفي في سنة 32 هـ. وقيل: كان أول من اجترأ على عثمان بالقول جَبَلة بن عمرو الساعدي، مرَّ به عثمان وهو -[165]- في نادي قومه وبيده جامعة (3) ، فسلم، فرد القوم. فقال جبلة: لمَ تردون على رجل فعل كذا وكذا. ثم قال لعثمان: واللَّه لأطرحن هذه الجامعة في عنقك، أو لتتركن بطانتك هذه الخبيثة: مروان وابن عامر وابن سعد. منهم من نزل القرآن بذمه وأباح رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم دمه. فاجترأ الناس عليه. وقد تقدَّم قول عمرو بن العاص له في خطبته. قيل: وخطب يوماً وبيده عصا كان النبي صلى اللَّه عليه وسلم وأبو بكر وعمر يخطبون عليها فأخذها جهجهاه الغفاري من يده وكسرها على ركبته اليمنى فدخلت شظية منها فيها فبقي الجرح حتى أصابته الأكلة في ركبته.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 660، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 58. (2) هو المِسْوَر بن مَخْرَمَة بن نوفل بن أهيب، القرشي، الزهري، أبو عبد الرحمن، من فضلاء الصحابة وفقهائهم، أدرك النبي صلى اللَّه عليه وسلم وهو صغير وسمع منه، كان مع خاله عبد الرحمن بن عوف ليالي الشورى، حفظ عنه أشياء، روى عن الخلفاء الأربعة وغيرهم من أكابر الصحابة، شهد فتح أفريقية مع عبد اللَّه بن سعد، هو الذي حرَّض عثمان على غزوها، ثم كان مع ابن الزبير فأصابه حجر من حجارة المنجنيق في الحصار بمكة فقُتل. للاستزادة راجع: الإصابة ترجمة 7995، معالم الإيمان ج 1/ص 107، ذيل المذيل 20، السالمي ج 2/ص 181، نسب قريش 262، التاج ج 3/ص 284. (3) الجامعة: الغل، لأنها تجمع اليدين إلى العنق. [القاموس المحيط، مادة: جمع] .

- طلب المهلة ثلاثة أيام (1) : عاد المصريون إلى عثمان وكتبوا له: "بسم اللَّه الرحمن الرحيم. أما بعد، فاعلم أن اللَّه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فاللَّه اللَّه، ثم اللَّه اللَّه فإنك على دنيا فاستتم إليها معها آخرة، ولا تنس نصيبك من الآخرة فلا تسوغ لك الدنيا. واعلم إنا واللَّه، للَّه نغضب وفي اللَّه نرضى. وإنا لن نضع سيوفنا عن عواتقنا حتى يأتينا توبة مصرَّحة، أو ضلالة مجلحة مبلّجة. فهذه مقالتنا لك وقضيتنا إليك واللَّه عذيرنا منك والسلام". وكتب أهل المدينة إلى عثمان يدعونه إلى التوبة ويحتجون ويقسمون له باللَّه لا يمسكون عنه أبداً حتى يقتلوه، أو يعطيهم ما يلزمه من حق اللَّه. فلما خاف القتل شاور نصحاءه وأهل بيته. فقال لهم: قد صنع القوم ما قد رأيتم فما المخرج؟. فأشاروا عليه أن يرسل إلى عليِّ بن أبي طالب فيطلب إليه أن يردهم عنه ويعطيهم ما يرضيهم ليطاولهم حتى يأتيه أمداده، لأنه كان كتب إلى معاوية كتاباً قال له فيه: "فابعث إليَّ من قبلك من مقاتلة أهل الشام". فقال عثمان: إن القوم لن يقبلوا التعليل، وقد كان مني في قدمتهم الأولى ما كان، فمتى أعطهم ذلك يسألوني الوفاء به. فقال مروان بن الحكم: يا أمير المؤمنين مقاربتهم حتى تقوى طاولوك. فإنما بغوا عليك فأرسل إلى عليّ فلما جاء قال: يا أبا الحسن إنه قد كان من الناس ما قد رأيت، وكان مني ما قد علمت، ولست آمنهم على قتلي فارددهم عني، فإن لهم اللَّه عز وجل أن أعتبهم من كل ما يكرهون، وأن أعطيهم الحق من نفسي ومن غيري، وإن كان في ذلك سفك دمي -[166]-. فقال له عليّ: الناس إلى عدلك أحوج منهم إلى قتلك. وإني لأرى أقواماً لا يرضون إلا بالرضى وقد أعطيتهم في قدمتهم عهداً من اللَّه لترجعن عن جميع ما نقموا فرددتهم عنك، ثم لم تف لهم بشيء من ذلك، فلا تغرني هذه المرة من شيء، فإني معطيهم عليك الحق. قال: نعم فأعطهم، فواللَّه لأوفين لهم. فخرج علي إلى الناس فقال: "أيها الناس إنكم إنما طلبتم الحق فقد أعطيتموه. إن عثمان قد زعم أنه منصفكم من نفسه ومن غيره وراجع عن جميع ما تكرهون. فاقبلوا منه ووكدوا عليه". قال الناس: قد قبلنا فاستوثق منه، فإنا واللَّه لا نرضى بقول دون فعل. فقال لهم عليّ: ذلك لكم. ثم دخل عليه فأخبره الخبر. فقال عثمان: اضرب بيني وبينهم أجلاً يكون لي فيه مهلة فإني لا أقدر على ردِّ ما كرهوا في يوم واحد. قال له عليّ: ما حضر بالمدينة فلا أجل له. وما غاب فأجله وصول أمرك. قال: نعم، ولكن أجلني فيما بالمدينة ثلاثة أيام (2) . قال عليّ: نعم. فخرج إلى الناس فأخبرهم بذلك، وكتب بينهم وبين عثمان كتاباً أجَّله فيه ثلاثاً على أن يرد كل مظلمة، ويعزل كل عامل كرهوه. ثم أخذ عليه في الكتاب أعظم ما أخذ اللَّه على أحد من خلقه من عهد وميثاق وأشهد عليه أناساً من وجوه المهاجرين والأنصار. فكفَّ المسلمون عنه ورجعوا إلى أن يفي لهم بما أعطاهم من نفسه. هذه الرواية تدل على أن عثمان إنما طلب المهلة حتى يأتيه المدد، وفي الطبري (3) عدا ذلك أنه كان يستعد للقتال بالسلاح وقد كان اتخذ جنداً عظيماً من رقيق الخُمس.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 663، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 61. (2) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 664، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 61. (3) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 664.

- كتاب عثمان إلى عامله بمصر (1) بقتل محمد بن أبي بكر: جاء المصريون يشكون من ابن أبي سرح، فكتب إليه عثمان كتاباً يتهدده فيه، فأبى ابن أبي سرح أن يقبل ما نهاه عنه عثمان، وضرب بعض من أتاه من قبل عثمان من أهل مصر فقتله، فخرج من أهل مصر جماعة فنزلوا المسجد وشكوا إلى الصحابة في مواقيت الصلاة ما صنع ابن أبي سرح بهم فقال طلحة بن عبيد اللَّه، فكلم عثمان بكلام شديد وأرسلت عائشة رضي اللَّه عنها إليه فقالت: تقدم إليك أصحاب رسول اللَّه وسألوك عزل هذا الرجل فأبيت، فهذا قد قتل منهم رجلاً فأنصفهم من عاملك، ودخل عليه عليّ بن أبي طالب فقال: إنما يسألونك رجلاً مكان رجل وقد ادعوا قِبَلَه دماً، فاعزله عنهم، واقض بينهم فإن وجب عليه حق فأنصفهم منه. فقال لهم: اختاروا -[167]- رجلاً أوليه عليكم مكانه، فأشار الناس عليه بمحمد بن أبي بكر. فقالوا: استعمل علينا محمد بن أبي بكر فكتب عهده وولاَّه. ويقال: إن بعض أهل المدينة من مبغضي عثمان حرَّض مروان بن الحكم أن يكتب عن لسانه كتاباً إلى والي مصر بقتل محمد ورفاقه وأرسلوا الكتاب مع غلام لعثمان. فسار الغلام على بعير يسرع في مشيه. فلما خرج من المدينة وبلغهم سألوه عن وجهته، فقال: أنا غلام أمير المؤمنين. قالوا: أمعك كتاب؟. قال: لا. ففتشوه، فوجدوا الكتاب في أنبوبة من الرصاص، ففتحوه، فإذا فيه: "إذا أتاك محمد بن أبي بكر وفلان وفلان فاحتل في قتلهم، وأبطل كتابه، وقرّ على عملك حتى يأتيك رأيي في ذلك إن شاء اللَّه تعالى". فلما قرأ محمد الكتاب رجع إلى المدينة مع من معه والغلام، ودخل على عثمان ومعه عليّ بن أبي طالب. فقال عليّ: هذا الغلام غلامك؟. قال: نعم، والبعير بعيرك؟ قال: نعم. قال: فأنت كتبت هذا الكتاب؟. قال: لا واللَّه ما كتبت هذا الكتاب، ولا أمرت به، ولا علم لي به. قال عليّ: والخاتم خاتمك؟. قال: نعم. قال: فكيف يخرج غلامك ببعيرك بكتاب عليه خاتمك ولا تعلم؟. فحلف أنه لا يعلم شيئاً من ذلك. فقال عليّ: لا يحلف عثمان إلا صادقاً فهو بريء من هذا الأمر. ولكنهم عرفوا أن الخط خط كاتبه مروان بن الحكم، وكان عنده في الدار فسألوه أن يدفعه إليهم فأبى خوفاً عليه أن يقتل. فطلب إليه المصريون أن يخلع نفسه فأبى، فارتفعت الأصوات. فقام عليّ وأخرج المصريين وخرج معهم، ثم رجع المصريون، وانضم إليهم أشياعهم، فحاصروه في داره ومنعوه الماء. وجاء في الطبري (2) أنهم وجدوا في الكتاب: "بسم اللَّه الرحمن الرحيم. أما بعد، فإذا قدم عليك عبد الرحمن بن عديس فاجلده مائة جلدة، واحلق رأسه ولحيته، وأطل حبسه حتى يأتيك أمري، وعمرو بن الحمق فافعل به مثل، وسودان بن حمران مثل ذلك، وعروة بن النباع الليثي مثل ذلك". فلما كلمه المصريون في ذلك قال: "واللَّه ما كتبت، ولا أمرت، ولا شوورت، ولا علمت". فقال المصريون: فمن كتبه؟. قال: لا أدري. قال: أَفَيُجترأ عليك فيُبعث غلامك، وجمل من صدقات المسلمين، ويُنقش على خاتمك، ويُكتب إلى عاملك بهذه الأمور العظام وأنت لا تعلم؟! قالوا: فليس مثلك بوَلي. اخلع نفسك من هذا الأمر كما خلعك اللَّه منه، قال: لا أخلع قيمصاً ألبسنيه اللَّه عز وجل (3) -[168]-. وعلى كل حال أنكر عثمان علمه بالكتاب، وتبرأ منه، وحلف أنه لا يعلم شيئاً عنه، ولا بدَّ أنه صادق، وأن الكتاب مفتعل.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 662، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 59. (2) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 665. (3) روى ابن ماجه في (حديث 112) عن عائشة قالت: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: "يا عثمان إن ولاَّك اللَّه هذا الأمر يوماً، فأرادك المنافقون أن تخلع قيمصك الذي قَمَّصَك اللَّه فلا تخلعه". يقول ذلك ثلاث مرات. قال النعمان: فقلت لعائشة: ما منعك أن تُعْلِمِي الناس بهذا؟. قالت: أُنْسِيتُهُ. كما أورد البلاذري في أنساب الأشراف ج 5/ص 76، من حديث نافع عن ابن عمر، أنه دخل على عثمان فقال له عثمان: انظر ما يقول هؤلاء، يقولون: اخلع نفسك أو نقتلك. فقال له ابن عمر: أَمُخَلَّدٌ أنت في الدنيا؟. قال: لا. قال: هل يزيدون على أن يقتلوك؟. قال: لا. قال: لا. قال: هل يملكون لك جنة أو نار؟. قال: لا. قال: فلا تخلع قميص اللَّه عنك، فتكون سُنَّة كلما كره قومٌ خليفتهم خلعوه أو قتلوه.

- اتهام عليٍّ بتزوير الكتاب رواية غريبة!! جاء في دائرة المعارف الإسلامية، النسخة الإنجليزية (1) ، "إن البلاذري روى دون غيره من المؤرخين أن عثمان اتهم علياً بتزوير الكتاب، وهذا ما ظنه كيتاني في حولياته (2) من غير أن يطَّلع على رواية البلاذري". لم يتمكن كيتاني من الإطلاع على رواية البلاذري، لأنها مذكورة في كتاب "أنساب الأشراف" الذي لا يزال تحت الطبع ببيت المقدس، وقد عثرت على الجزء الحادي عشر منه بمكتبة الجامعة المصرية، وهو مطبوع على الحجر بمدينة غريفز ولد سنة 1883، وليس فيه ذكر لهذه الرواية، لأن هذا الجزء يبدأ بذكر مصعب بن الزبير في أيام عبد الملك. إن دائرة المعارف الإسلامية لم تبد رأيها في توجيه هذه التهمة إلى عليّ، بل أوردت ذلك كي يعلم أن هناك رواية أخرى غير ما أجمع عليه المؤرخون من اتهام مروان. وأن كيتاني تبادر إلى ظنه أن عثمان اتهم علياً فطابق ظنه هذا رواية البلاذري التي نأسف لعدم تمكننا من الإطلاع عليها مثل كيتاني. وكان الأجدر بدائرة المعارف أن لا تترك المسألة معلقة هكذا من غير أن نناقشها ونشير إلى عدم صحة هذه الرواية وبعدها عن الصواب. وإنا نقول: إنه لم يدر بخلد عثمان أن يتهم علياً، ولا يمكن أن يدور بخلده ذلك، لأن الغلام الذي خرج يحمل الكتاب لتوصيله إلى والي مصر هو غلام عثمان، والبعير بعيره، والخاتم خاتمه، وهذا الخاتم لا يتوصل إليه علي، بل يتوصل إليه مروان كاتب عثمان، ومستشاره، وملازمه في داره. أضف إلى ذلك أنهم عرفوا أن الخط خط مروان هذا من جهة. ومن جهة أخرى -[169]- فإنه لا حظَّ لعلي في تزوير الكتاب، فإنه إذا لم يضبط ووصل إلى يد الوالي نفذ أمر عثمان القاضي بإعدام محمد بن أبي بكر، أو إعدام غيره ممن قدموا المدينة وعادوا إلى مصر، أو تعذيبهم وهم ليسوا أعداء لعليّ، بل من محبيه، وعلى عكس ذلك كان مروان، فإن من مصلحته القضاء على محمد بن أبي بكر، أو غيره من المتآمرين على الخليفة المعارضين لحكم ابن أبي سرح.

_ (1) دائرة المعارف الإسلامية، النسخة الإنكليزية، (م 3/ص 1010) . (2) حوليات كيتاني ج 8/ص 159.

- اشتداد الحصار (1) : لما اشتد الحصار على عثمان رضي اللَّه عنه أرسل إلى عليٍّ، وطلحة، والزبير، فحضروا فأشرف عليهم فقال: "يا أيها الناس. اجلسوا فجلسوا يا أهل المدينة أستودعكم اللَّه وأسأله أن يحسن عليكم الخلافة من بعدي. أنشدكم اللَّه هل تعلمون أنكم دعوتم اللَّه عند مصاب عمر أن يختار لكم ويجمعكم على خيركم. أتقولون: إن اللَّه لم يستجب لكم وهنتم عليه، وأنتم أهل حقه. أم تقولون: هان على اللَّه دينه فلم يبال من ولى، والدين لم يتفرق أهله يومئذٍ، أم تقولون: لم يكن أخذ عن مشورة إنما كان لمكابرة فوكل اللَّه الأمة إذا عصته ولم يشاوروا في الإمامة، أم تقولون: إن اللَّه لم يعلم عاقبة أمري. وأنشدكم باللَّه أتعلمون لي من سابقة خير وقدم خير قدمه اللَّه لي يحق على كل من جاء بعدي أن يعرفوا لي فضلها، فمهلاً لا تقتلوني فإنه لا يحل إلا قتل ثلاثة: رجل زنى بعد إحصانه، أو كفر بعد إيمانه، أو قتل نفساً بغير حق. فإنكم إذا قتلتموني وضعتم السيف على رقابكم، ثم لم يرفع اللَّه عنكم الاختلاف أبداً" (2) . قالوا: أما ما ذكرت من استخارة الناس بعد عمر، ثم ولوك فإن كل ما صنع اللَّه خيرة، ولكن اللَّه جعلك بلية ابتلى بها عباده. وأما ما ذكرت من قدمك وسلفك مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فقد كنت كذلك، وكنت أهلاً للولاية، ولكن أحدثت ما علمته، ولا نترك إقامة الحق عليك مخافة الفتنة عاماً قابلاً. وأما قولك إنه لا يحل إلا قتل ثلاثة، فإنا نجد في كتاب اللَّه قتل غير الثلاثة الذين سميت: قتل من سعى في الأرض فساداً، وقتل من بغى، ثم قاتل على بغيه، وقتل من حال دون شيء من الحق ومنعه وقاتل دونه، وقد بغيت ومنعت وحلت دونه وكابرت عليه، ولم تقد من نفسك من ظلمت، وقد تمسكت بالإمارة علينا. فإن زعمت أنك لم تكابرنا عليها فإن الذين قاموا دونك ومنعوك منا إنما يقاتلون لتمسكك بالإمارة، فلو خلعت نفسك لانصرفوا عن القتال معك. فسكت عثمان، ولزم الدار، وأمر أهل المدينة بالرجوع، وأقسم عليهم فرجعوا إلا -[170]- الحسن بن علي، وابن عباس، ومحمد بن طلحة، وعبد اللَّه بن الزبير، وأشباهاً لهم، واجتمع إليهم أناس كثير. لم يردّ عليهم عثمان، بل سكت. فهل اقتنع بأقوالهم وحججهم؟ إنه لو اقتنع لتنازل عن الخلافة. فإذا لم يقتنع. فلماذا لم يقرع الحجة بالحجة؟. لكنه على كل حال أصر على عدم التنازل كما أصر على التمسك بسياسته، فلم يعزل أحداً ممن كرهوه، ولم يجب مطالبهم التي كان قد علم بها من قبل، فلا بدَّ أنه كان يرى أنهم مخطئون فيما يطلبون.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 670، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 62. (2) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 672، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 62.

- المحاصرون يمنعون عنه الماء (1) : كانت مدة الحصار أربعين يوماً (2) ، أو ما يقرب من ذلك، فلما مضت ثمان عشرة ليلة قدم ركبان من الأمصار فأخبروا بخير من تهيأ إليهم من الجنود وشجعوا الناس، فعندئذٍ حالوا بين الناس وبين عثمان ومنعوه كل شيء حتى الماء، فأرسل عثمان إلى عليٍّ سراً، وإلى طلحة، والزبير، وأزواج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: "إنهم قد منعوني حتى الماء، فإن قدرتم أن ترسلوا إلينا الماء فافعلوا" (3) . فكان أولهم إجابة عليٌّ وأم حبيبة زوج النبي صلى اللَّه عليه وسلم، فجاء عليّ في الغلس (4) فقال: "يا أيها الناس، إن الذي تفعلون لا يشبه أمر المؤمنين، ولا أمر الكافرين فلا تقطعوا عن هذا الرجل الماء ولا المادة، فإن الروم وفارس لتأسر فتطعم وتسقي". فقالوا: لا واللَّه ولا نعمة عين. فرمى بعمامته في الدار بأني قد نهضت ورجعت، وجاءت أم حبيبة على بغلة لها مشتملة على إداوة. فضربوا وجه بغلتها فقالت: إن وصايا بني أمية عند هذا الرجل. فأحببت أن أسأله عنها لئلا تهلك أموال الأيتام والأرامل. فقالوا: كاذبة، وقطعوا حبل البغلة بالسيف، فنفرت وكادت تسقط عنها، فتلقاها الناس، فأخذوها وذهبوا بها إلى بيتها. وتجهزت عائشة خارجة إلى الحج هاربة واستتبعت أخاها، فأبى، فقالت: "أمَ واللَّه لئن استطعت أن يحرمهم اللَّه ما يحاولون لأفعلن" (5) . وجاء حنظلة الكاتب حتى -[171]- قام على محمد بن أبي بكر فقال: يا محمد، تستتبعك أم المؤمنين فلا تتبعها، وتدعوك ذؤبان العرب إلى ما لا يحل فتتبعهم؟!. فقال: ما أنت وذاك يا ابن التميمية؟. فقال: يا ابن الخثعمية إن هذا الأمر إن صار إلى التغلب غلبتك عليه بنو عبد مناف وانصرف وهو يقول: عجبت لما يخوض الناس فيه ... يرومون الخلافة أن تزولا ولو زالت لزال الخير عنهم ... ولاقوا بعدها ذلاً ذليلاً وكانوا كاليهود أو النصارى (6) ... سواء كلهم ضلوا السبيلا ولحق بالكوفة. وخرجت عائشة وهي ممتلئة غيظاً على أهل مصر وجاءها مروان بن الحكم فقال: يا أم المؤمنين، لو أقمت كان أجدر أن يراقبوا هذا الرجل. فقالت: أتريد أن يصنعوا بي كما صنع بأم حبيبة. ثم لا أجد من يمنعني لا واللَّه ولا أُعيّرُ ولا أدري إلى ما يسلم أمر هؤلاء. وبلغ طلحة والزبير ما لقي عليّ، وأم حبيبة، فلزموا بيوتهم، وبقي عثمان يسقيه آل حزم في الغفلات. عليهم الرقباء. فأشرف عثمان على الناس فاستدعى ابن عباس، فأمره أن يحج بالناس وكان ممن لزم الباب. فقال: جهاد هؤلاء أحب عليَّ من الحج، فأقسم عليه فانطلق.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 672، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 63. (2) ورد في الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 668: (فأقاموا على حصاره تسعة وأربعين يوماً". (3) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 672، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 63. (4) الغلس: ظلمة آخر الليل. [القاموس المحيط، مادة: غلس] . (5) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 673، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 64. (6) ورد في ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 64: "وكالنصارى".

- حجُّ ابن عباس بالناس وكتاب عثمان إلى أهل مكة (1) (سنة 35 هـ/ 656 م) : قال عثمان رضي اللَّه عنه وهو محصور: يا ابن عباس، اذهب إلى خالد بن العاص (2) وهو بمكة فقل له: يقرأ عليك أمير المؤمنين السلام ويقول لك: إني محصور منذ كذا وكذا يوماً لا أشرب إلا من الأجاج (3) ، وقد مُنعت بئراً اشتريتها من صلب مالي رومه، فإنما يشربها الناس ولا أشرب منها شيئاً، ولا آكل إلا مما في بيتي، مُنعت أن آكل مما في السوق شيئاً، وأنا محصور كما ترى، فأمره، وقل له فليحج بالناس وليس بفاعل. فإن أبى فاحجج أنت بالناس. قال ابن عباس: فقدمت الحج في العشر، فجئت خالد بن العاص فقلت له ما قال لي عثمان. فقال لي: هل لي طاقة بعداوة من ترى، وهذا الأمر لا يقضى إلا إليه يعني علياً وأنت أحق أن تحمل له ذلك، فحججت بالناس. ثم قفلت في آخر الشهر فقدمت المدينة، وإذا عثمان قد قتل، وإذا الناس يتواثبون على رقبة عليّ بن أبي طالب، فلما رآني عليّ ترك الناس وأقبل عَلَيَّ فانتجاني فقال: ما -[172]- ترى فيما وقع، فإنه قد وقع أمر عظيم كما ترى لا طاقة لأحد به. فقلت: أرى أنه لا بدَّ للناس منك اليوم فأرى أنه لا يبايع اليوم أحد إلا اتهم بدم هذا الرجل. فأبى إلا أن يبايع فاتّهم بدمه. لما خرج ابن عباس يريد الحج مرَّ بعائشة رضي اللَّه عنها في الصّلصُل بنواحي المدينة على سبعة أميال منها فقالت: يا ابن عباس، أنشدك اللَّه فإنك قد أعطيت لساناً إزعيلاً (4) أن تخذل عن هذا الرجل، وأن تشكك فيه الناس فقد بانت لهم بصائرهم وأنهجت، ورُفعت لهم المنار، وتحلبوا من البلدان لأمر قد جمّ. وقد رأيت طلحة ابن عبيد اللَّه قد اتخذ على بيوت الأموال والخزائن مفاتيح فإن يَلٍ يَسر بسيرة ابن عمه أبي بكر رضي اللَّه عنه. فأجابها ابن عباس: يا أمة لو حدث بالرجل حدث ما فزع الناس إلا إلى صاحبنا يعني علياً فقال: إيهاً عنك إني لست أريد مكابرتك ولا مجادلتك. هذا يبين لنا موقف عائشة ورأيها، فإنها أرادت من ابن عباس أن يقوم بالدعوة ضد عثمان في مكة، وأن يشكك الناس فيه، وكانت تريد أن يتولى الخلافة بعد عثمان طلحة بن عبيد اللَّه، لا عليّ. وطلحة أسلم بدعوة أبي بكر الصدِّيق، وقد أبلى يوم أحد بلاءً عظيماً، ووقى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بنفسه، واتقى عنه النبل حتى شلُّت إصبعه، وضرب ضربة على رأسه، وحمل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على ظهره حتى صعد معه الصخرة، وكان شديداً على عثمان، وقتل يوم الجمل، وكان شهد ذلك اليوم محارباً لعليِّ بن أبي طالب. وقال طلحة يوم الجمل: ندمت ندامة الكسعيّ لما ... شربت رضى بني جرم برغمي اللَّهم خذ لعثمان حتى يرضى. وقد كان أهل البصرة يريدون طلحة، كما كان أهل مصر يريدون عليّاً. أما أهل الكوفة فكانوا يشتهون الزبير. فعائشة كانت تريد طلحة، ولا ترغب في عليّ رضي اللَّه عنه، ويرجع السبب في نفورها منه إلى حديث الإفك (5) فإن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لما استشار علياً في شأن عائشة قبل أن ينزل الوحي ببراءتها قال: "يا رسول اللَّه لم يضيِّق اللَّه عليك والنساء سواها كثير".

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 684. (2) هو خالد بن العاص ابن أخي الحارث وأبي جهل ابن هشام، قُتل أبو العاص يوم بدر كافراً، واستعمله عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه على مكة لما عزل عنها نافع بن عبد الحارث، واستعمله عليها عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه. (3) الأجاج: الماء الشديد الملوحة. (4) إزعيلاً: نشيطاً. (5) راجع كتاب "محمد رسول اللَّه" للمؤلف.

- كتاب عثمان إلى أهل مكة (1) : كتب عثمان كتاباً إلى أهل مكة يسألهم أن يأخذوا له بالحق ممن حصروه، وأعطاه لابن -[173]- عباس. قال ابن عباس: فقرأت هذا الكتاب عليهم قبل التروية (2) بمكة بيوم ثم قدمت المدينة. وهذا نص الكتاب كما نسخه عبد المجيد بن سُهَيْل بن عكرمة (3) : "بسم اللَّه الرحمن الرحيم من عبد اللَّه عثمان أمير المؤمنين إلى المؤمنين والمسلمين. سلام عليكم. فإني أحمد اللَّه إليكم الذي لا إله إلا هو. أما بعد، فإني أذكركم باللَّه عز وجل الذي أنعم عليكم، وعلمكم الإسلام، وهداكم من الضلالة، وأنقذكم من الكفر، وأراكم البينات، وأوسع عليكم من الرزق، ونصركم على العدو، وأسبغ عليكم نعمته. فإن اللَّه عز وجل يقول وقوله الحق: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34] وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ. وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} إلى قوله {لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 102- 105] وقال وقوله الحق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} إلى قوله {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [المائدة: 6- 7] وقال وقوله الحق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} إلى قوله {فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 6- 8] وقوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} إلى قوله {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77] وقال وقوله الحق: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} إلى قوله {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن: 16] وقال وقوله الحق: {وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} إلى قوله {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 91- 96] وقال وقوله الحق: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ} إلى قوله {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59] وقال وقوله الحق: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} إلى قوله {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} [النور: 55] وقال وقوله الحق: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهُ} إلى قوله {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [الفتح: 10] . أما بعد، فإن اللَّه عز وجل رضي لكم السمع والطاعة والجماعة، وحذركم المعصية والفرقة والاختلاف، ونبَّأكم ما قد فعله الذين من قبلكم، وتقدم إليكم فيه ليكون له الحجة عليكم إن عصيتموه، فاقبلوا نصيحة اللَّه عز وجل واحذروا عذابه، فإنكم لن تجدوا أمة هلكت إلا من بعد أن تختلف إلا أن يكون لها رأس يجمعها، ومتى ما تفعلوا ذلك لا تقيموا الصلاة جميعاً وسُلط عليكم عدوُّكم ويستحل بعضكم حُرم بعض، ومتى يفعل ذلك لا يُقم للَّه سبحانه دين، وتكونوا شيعاً، وقد قال اللَّه عز وجل لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ -[174]- ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159] وإني أوصيكم بما أوصاكم اللَّه، وأحذركم عذابه، فإن شعيباً صلى اللَّه عليه وسلم قال لقومه: {وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيَبكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ} إلى قوله {رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود: 89- 90] (4) . أما بعد، فإن أقواماً ممن كان يقول في هذا الحديث، أظهروا للناس إنما يدعون إلى كتاب اللَّه عز وجل والحق، ولا يريدون الدنيا ولا المنازعة فيها. فلما عُرض عليهم الحق إذا الناس في ذلك شتى، منهم آخذ للحقٍ ونازعٌ عنه حين يُعطاه، ومنهم تارك للحقٍ ونازل عنه في الأمر يريد أن يبتزه بغير الحق. طال عليهم عمري، ورَاث عليهم أملهم إلا مرة فاستعجلوا القدر، وقد كتبوا إليكم أنهم قد رجعوا بالذي أعطيتهُم، ولا أعلم أني تركت من الذي عاهدتهم عليه شيئاً كانوا زعموا أنهم يطلبون الحدود فقلت: أقيموها على من علمتم تعداها. أقيموها على من ظلمكم من قريب أو بعيد قالوا: كتابُ اللَّه يتلى. فقلت: فليتله من تلاه غير غال فيه بغير ما أنزل اللَّه في الكتاب، وقالوا: المحروم يرزق والمال يُوفى ليُستن فيه السنة الحسنة ولا يُعتدى في الخُمس، ولا في الصدقة، ويؤمر ذو القوة والأمانة، وتُرَدّ مظالم الناس إلى أهلها فرضيتُ بذلك واصطبرت له وجئت نسوة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حتى كلمتهن فقلت: ما تأمرنني؟. فقلن: تؤمر عمرو بن العاص وعبد اللَّه بن قيس، وتدع معاوية، فإنما أمَّره أمير قبلك فإنه مصلح لأرضه راضٍ به جنده، واردد عمراً فإن جنده راضون به وأمره فليصلح أرضه فكل ذلك فعلت. وأنه اعتديَّ علي بعد ذلك وعدا على الحق. كتبت إليكم وأصحابي الذين زعموا في الأمر استعجلوا القدر ومنعوا مني الصلاة وحالوا بيني وبين الصلاة وابتزوا مما قدروا عليه بالمدينة كتبت إليكم كتابي هذا وهم يخبرونني إحدى ثلاث: إما يقيدونني بكل رجل أصبته خطأ أو صواباً غير متروك منه شيء، وإما أعتزل الأمر فيؤمرون آخر غيري، وإما يرسلون إلى من أطاعهم من الأجناد وأهل المدينة فيتبرؤون من الذي جعل اللَّه سبحانه لي عليهم من السمع والطاعة، أما إقادتي من نفسي فقد كان من قبلي خلفاء تخطئ وتصيب فلم يُستقد من أحد منهم، وقد علمت إنما يريدون نفسي. وأما أن أتبرأ من الإمارة فإن يكلبوني أحبُّ إليَّ من أن أتبرأ من عمل اللَّه عز وجل وخلافته. وأما قولكم يُرسلون إلى الأجناد وأهل المدينة فيتبرؤون من طاعتي فلست عليكم بوكيل، ولم أكن استكرهتهم من قبل على السمع والطاعة. ولكن أتوها طائعين يبتغون مرضاة اللَّه عز وجل، وإصلاح ذات البين. ومن يكن منكم إنما يبتغي الدنيا فليس بنائل منها إلا ما كتب اللَّه عز وجل، ومن يكن إنما يريد وجه اللَّه والدار الآخرة وصلاح الأمة وابتغاء مرضاة اللَّه عز وجل والسنة -[175]- الحسنة التي استن بها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم والخليفتان من بعده رضي اللَّه عنهما فإنما يجزي بذلكم اللَّه. وليس بيدي جزاؤكم ولو أعطيتكم الدنيا كلها لم يكن في ذلك ثمن لدينكم ولم يغنٍ عنكم شيئاً. فاتقوا اللَّه واحتسبوا ما عنده فمن يرضى بالنكث منكم فإني لا أرضاه له ولا يرضى اللَّه سبحانه أن تنكثوا عهده. وأما الذي يخبرونني فإنما كله النزع والتأمير فملكت نفسي ومن معي ونظرت حكم اللَّه وتغيير النعمة من اللَّه سبحانه وتعالى وكرهتُ سُنة السوء وشقاق الأمة وسفك الدماء فإني أنشدكم باللَّه والإسلام ألا تأخذوا إلا الحق وتعطوه مني، وتركَ البغي على أهله وخذوا بيننا بالعدل كما أمركم اللَّه عز وجل، فإني أنشدكم اللَّه سبحانه وتعالى الذي جعل عليكم العهد والمؤازرة في أمر اللَّه فإن اللَّه سبحانه قال وقوله الحق: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} [الإسراء: 34] فإن هذه معذرة إلى اللَّه ولعلكم تذكرون. أما بعد، فإني لا أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم. وإن عاقبتُ أقواماً فما أبتغي بذلك إلا الخير، وإني أتوب إلى اللَّه عز وجل من كل عمل عملته وأستغفره إنه لا يغفر الذنوب إلا هو. إن رحمة ربي وسعت كل شيء إنه لا يقنط من رحمة اللَّه إلا القوم الضالون، وإنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون. وأنا أسأل اللَّه عز وجل أن يغفر لي ولكم وأن يؤلف قلوب هذه الأمة على الخير ويكرّه إليها الفسق. والسلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته أيها المؤمنون والمسلمون. هذا كتاب طويل كتبه عثمان رضي اللَّه عنه، وقرأه ابن عباس على أهل مكة في موسم الحج. وقد استشهد بكثير من آيات القرآن الكريم لأنه كان يحفظ القرآن، ويكثر من تلاوته ويتعبَّد به. وهذه الآيات التي استشهد بها كان غرضه من إيرادها حض المؤمنين على طاعة اللَّه والاعتصام بحبله، والتخويف من عذاب اللَّه وعاقبة نقض الأيمان بعد توكيدها، ووجوب طاعة اللَّه والرسول وأولي الأمر ولزوم الجماعة والتحذير من الاختلاف والتفريق. ثم أمر بإقامة الحدود ورد المظالم وشكا إليهم ما يلقاه من الحصر ومنع الماء والزاد عنه وقال: إنه لا يعتزل ولا يتخلى عن واجبه، ولم يكره أحداً على اختياره خليفة، بل اختاروه طائعين، وذكر أنه تجنب سفك الدماء والشقاق. ثم تاب إلى اللَّه واستغفره ولم يبرئ نفسه، فإن النفس أمارة بالسوء وسأل اللَّه أن يؤلف بين قلوب الأمة. إلا أن هذا الكتاب لم يأت بالغرض الذي رمى إليه عثمان من تحريره وتلاوته، لأن المحاصرين كانوا قد شددوا عليه الحصار فإن ابن عباس لما عاد إلى المدينة بعد تأدية فريضة الحج وجد عثمان قد قتل.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 685. (2) التروية: اليوم الثامن من ذي الحجة. (3) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 685. (4) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 660.

الفصل السادس: قتل عثمان "- ونبذ من أخباره

الفصل السادس: قتل عثمان "- ونُبَذٌ مِنْ أَخْبَارِهِ -" (35 هـ/ 656 م) .

- قتل عثمان (1) يوم الجمعة 8 من ذي الحجة سنة 35 هـ. قال ابن عديس لأصحابه: لا تتركوا أحداً يدخل على عثمان ولا يخرج من عنده. وأصرَّ المصريون على قتله. وقصدوا الباب فمنعهم الحسن، وابن الزبير، ومحمد بن طلحة، ومروان، وسعيد بن العاص، ومن معهم من أبناء الصحابة. واجتلدوا (2) ، فزجرهم عثمان وقال: أنتم في حلٍّ من نصرتي، فأبوا، ففتح الباب لمنعهم. فلما خرج ورآه المصريون رجعوا فركبهم هؤلاء، وأقسم عثمان على أصحابه ليدخلن، فدخلوا، فأغلق الباب دون المصريين. فقام رجل من أسلم يقال له نيار بن عياض وكان من الصحابة، فنادى عثمان، فبينا هو يناشده أن يعتزلهم إذ رماه كثير بن الصلب الكندي بسهم فقتله. فقالوا لعثمان عند ذلك: ادفع إلينا قاتله لنقتله به. قال: لم أكن لأقتل رجلاً نصرني وأنتم تريدون قتلي. فلما رأوا ذلك ثاروا إلى الباب، فلم يمنعهم أحد منه، والباب مغلق، لا يقدرون على الدخول منه، فجاءوا بنار، فأحرقوه. وثار أهل الدار وعثمان يصلي قد افتتح {طه} ، فما شغله ما سمع ما يخطئ وما يتتعتع حتى أتى عليها. فلما فرغ جلس إلى المصحف يقرأ فيه وقرأ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] فقال لمن عنده بالدار: إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قد عهد إليَّ عهداً فأنا صابر عليه. ولم يحرقوا الباب إلا وهم يطلبون ما هو أعظم منه. اقتحم الناس الدار من الدورة التي حولها حتى ملؤوها ولا يشعر الذين بالباب ممن وقفوا -[180]- للدفاع. وأقبلت القبائل على أبنائهم فذهبوا بهم إذ غلبوا على أميرهم وندبوا رجلاً لقتله، فانتدب له رجل فدخل عليه البيت فقال: "اخلعها وندعك". فقال: "ويحك، واللَّه ما كشفت امرأة في جاهلية ولا إسلام، ولا تغنيتُ ولا تمنيت ولا وضعت يميني على عورتي منذ بايعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ولست خالعاً قميصاً كسانيه اللَّه عز وجل، وأنا على مكاني حتى يُكرم اللَّه أهل السعادة ويُهين أهل الشقاء". فخرج وقالوا: ما صنعت؟ فقال: عَلِقنا واللَّه، واللَّه ما ينجينا من الناس إلا قتله، وما يحل لنا قتله. فأدخلوا عليه رجلاً من بني ليث. فقال: ممن الرجل؟ فقال: ليثي. فقال: لست بصاحبي. قال: وكيف؟ فقال: ألست الذي دعا لك النبي صلى اللَّه عليه وسلم في نفر أن تحفظوا يوم كذا وكذا؟ قال: بلى. قال: فلن تضيع، فرجع وفارق القوم. فأدخلوا عليه رجلاً من قريش، فقال: يا عثمان إني قاتلك؟. قال: كلا يا فلان لا تقتلني. قال: وكيف؟ قال: إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم استغفر لك يوم كذا وكذا، فلن تقارف دماً حراماً. فاستغفر ورجع وفارق أصحابه. فأقبل عبد اللَّه بن سلام (3) حتى قام على الباب ينهاهم عن قتله وقال: "يا قوم، لا تسلّوا سيف اللَّه بينكم. فواللَّه إن سللتموه لا تغمدوه، ويلكم إن سلطانكم اليوم يقوم بالدرَّة، فإن قتلتموه لا يقوم إلا بالسيف. ويلكم إن مدينتكم محفوفة بملائكة اللَّه. واللَّه لئن قتلتموه لتتركنها" (4) . فقالوا: يا ابن اليهودية، وما أنت وهذا فرجع عنهم. وروي عن عبد اللَّه بن عمير عن ابن أخي عبد اللَّه بن سلام قال: لما أُريد قتل عثمان رضي اللَّه عنه جاء عبد اللَّه بن سلام فقال له عثمان: ما جاء بك؟ قال: جئت في نصرك. قال: اخرج إلى الناس فاطردهم عني فإنك خارج خير إليَّ منك داخل. فخرج عبد اللَّه إلى الناس فقال: "أيها الناس، إنه كان اسمي في الجاهلية فلاناً، فسماني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عبد اللَّه، ونزلت فيَّ -[181]- آيات من كتاب اللَّه عز وجل. ونزل فيَّ: {وَشَهدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرائِيلَ عَلَى مِثلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف: 10] ونزل فيَّ: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكِتَابِ} [الرعد: 43] . إن للَّه سيفاً مغموداً، وإن الملائكة قد جاورتكم في بلدكم هذا الذي نزل فيه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. فاللَّه اللَّه في هذا الرجل إن تقتلوه لتطردن جيرانكم الملائكة، وليسلنّ سيف اللَّه المغمود فيكم، فلا يغمد إلى يوم القيامة، قالوا: اقتلوا اليهودي. فانظر الفرق الشاسع بين عبد اللَّه بن سلام الذي تطوَّع للدفاع عن عثمان وبين عبد اللَّه بن سبأ الذي كان يحرَّض الناس على قتله. فإن كليهما كان يهودياً وأسلم. وكان آخر من دخل عليه ممن رجع إلى القوم محمد بن أبي بكر. فقال له عثمان: "ويلك على اللَّه تغضب؟ هل لي إليك جُرم إلا حق أخذته منك؟ ورجع. فلما خرج محمد بن أبي بكر وعرفوا انكساره، ثار قتيرة وسودان بن حُمران والغافقي لعنهم اللَّه فضربه الغافقي بحديدة معه، وضرب المصحف برجله، فاستدار المصحف فاستقر بين يديه، وسالت عليه الدماء. وجاء سودان بن حمران ليضربه، فانكبت عليه زوجة عثمان نائلة، واتقت السيف بيدها، فتغمدها ونفح أصابعها. فأطن أصابع يدها، فغمز أوراكها، وقال: إنها لكبيرة العجيزة. وضرب عثمان فقتله، ودخل غلمة لعثمان مع القوم لينصروه، وقد كان عثمان أعتق من كف منهم، فلما رأوا سودان قد ضربه أهوى له بعضهم، فضرب عنقه، فقتله، ووثب قتيرة على الغلام فقتله، وانتهبوا ما في البيت، وأخرجوا من فيه، ثم أغلقوه على ثلاثة قتلى (5) . فلما خرجوا إلى الدار وثب غلام لعثمان آخر على قتيرة فقتله، ودار القوم فأخذوا ما وجدوا حتى تناولوا ما على النساء، وأخذ رجل مُلاءة نائلة، والرجل يدعى كلثوم بن تجيب، فتنحَّت نائلة. فقال: وَيحَ أمك من عجيزة ما أتمك، وبصر به غلام لعثمان فقتله، وقُتل، وتنادى القوم أبصر رجل من صاحبه وتنادوا في الدار: أدركوا بيت المال لا تسبقوا إليه، وسمع أصحاب بيت المال أصواتهم، وليس فيه إلا غِرارتان. فقالوا: النجاء، فإن القوم إنما يحاولون الدنيا، فهربوا، وأتوا بيت المال، فانتهبوه، وماج الناس فيه، فالتانئ يسترجع ويبكي، والطارئ يفرح، وندم القوم. وكان الزبير قد خرج من المدينة، فأقام على طريق مكة لئلا يشهد مقتله. فلما أتاه الخبر بمقتل عثمان وهو بحيث هو قال: "إنا للَّه وإنا إليه راجعون، رحم اللَّه عثمان وانتصر له". وأتى الخبر طلحة فقال: "رحم اللَّه عثمان وانتصر له وللإسلام". وقيل له: إن القوم نادمون. فقال: تبَّاً لهم، وقرأ: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَى أَهْلِهِم يَرْجِعُونَ} [يس: 50]-[182]-. وأُتِيَ عليٌّ فقيل: قُتل عثمان فقال: "رحم اللَّه عثمان وخلف علينا بخير". وقيل: ندم القوم فقرأ: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ....} [الحشر: 16] . الآية. وطُلب سعد فإذا هو في حائطه وقد قال: لا أشهد قتله. فلما جاء قتله، قال: فررنا من المدينة فدنينا وقرأ: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 104] ، اللَّهم أندمهم ثم خذهم (6) . وفي رواية أخرى (7) : إن محمد بن أبي بكر تسوَّر على عثمان من دار عمرو بن حزم، ومعه كنانة بن بشر بن عتّاب، وسودان بن حُمران، وعمرو بن الحمق، فوجدوا عثمان عند امرأته نائلة، وهو يقرأ في المصحف {سورة البقرة} فتقدمهم محمد بن أبي بكر، فأخذ بلحية عثمان فقال: قد أخزاك اللَّه يا نَعْثَل (8) . فقال عثمان: لستُ بنعثل، ولكن عبد اللَّه وأمير المؤمنين. فقال محمد: ما أغنى عنك معاوية وفلان وفلان. فقال عثمان: يا ابن أخي دعْ عنك لحيتي فما كان أبوك ليقبض على ما قبضت عليه. فقال محمد: ما أريد بك أشد من قبضي على لحيتك. فقال عثمان: أستنصر اللَّه عليك وأستعين به. ثم طعن جبينه بمِشْقَص (9) في يده. ورفع كنانة بن بشر بن عتّاب مشاقص كانت في يده فَوَجَأَ بها (10) في أصل أذن عثمان، فمضت حتى دخلت في حَلقه، ثم علاه بالسيف حتى قتله. وقيل: ضرب كنانة بن بشر جبينه ومُقَدم رأسه بعمود، فخرَّ لجنبه. وضربه سودان بن حُمران المرادي بعد ما خرَّ لجنبه فقتله. وأما عمرو ابن الحَمِق (11) فوثب على عثمان فجلس على صدره وبه رمق فطعنه تسع طعنات وقال: أما ثلاث منهن فإني طعنتهن للَّه. وأما ست فإني طعنت إياهن لما كان في صدري عليه -[183]-. وعن جدة الزبير بن عبد اللَّه قالت (12) : لما ضربه المشاقص قال عثمان: "بسم اللَّه توكلت على اللَّه"، وإذا الدم يسيل على اللحية يقطر والمصحف بين يديه فاتكأ على شقه الأيسر وهو يقول: "سبحان اللَّه العظيم" وهو في ذلك يقرأ المصحف والدم يسيل على المصحف حتى وقف الدم عند قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137] . وأطبق المصحف وضربوه جميعاً ضربة واحدة. فضربوه واللَّه بأبي وهو يحيي الليل في ركعة، ويصل الرحم، ويُطعم الملهوف، ويحمل الكَلَّ، فرحمه اللَّه". وعن الزهري قال (13) : قُتل عثمان عند صلاة العصر، وشدَّ عبدٌ لعثمان أسود على كنانة بن بشر فقتله. وشدَّ سودان على العبد فقتله. ودخلت الغوغاء دار عثمان فصاح إنسان منهم: أيحل دم عثمان ولا يحل ماله؟ فانتهبوا متاعه. فقامت نائلة فقالت: لصوص ورب الكعبة! يا أعداء اللَّه ما ركبتم من دم عثمان أعظم. أما واللَّه لقد قتلتموه صوَّاماً قوَّاماً يقرأ القرآن في ركعة. ثم خرج الناس من دار عثمان فأغلق بابه على ثلاثة قتلى: -1- عثمان. -2- وعبد عثمان الأسود. -3- كنانة بن بشر. وقد اختلف الرواة في حكاية محمد بن أبي بكر فذكر بعضهم أنه طعن جبين عثمان بمشقص كان في يده. وقيل: إن عثمان لما أمسك محمد لحيته قال له عثمان: أستنصر اللَّه عليك وأستعين به فتركه. وابن الأثير يرجح أنه تركه ولم يضربه. وذكر ابن الأثير (14) أنهم أرادوا قطع رأسه فوقعت نائلة عليه وأم البنين، فصحن وضربن الوجوه. فقال ابن عديس: اتركوه. وأقبل عمير بن ضابئ فوثب عليه وكسر ضلعاً من أضلاعه وقال: سجنت أبي حتى مات في السجن. وبلغ الخبر علياً وطلحة والزبير وسعداً فخرجوا وقد ذهبت عقولهم للخبر حتى دخلوا على عثمان فقال عليّ لابنيه: كيف يقتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب، ورفع يده فلطم الحسن، وضرب الحسين على صدره. وشتم محمد بن طلحة وعبد اللَّه بن الزبير، وخرج وهو غضبان -[184]- حتى أتى منزله فجاء الناس يهرعون إليه يريدون مبايعته فقال: "واللَّه إني لأستحي أن أبايع قوماً قتلوا عثمان، وإني لأستحي من اللَّه تعالى أن أبايع وعثمان لم يدفن". فافترقوا، وتمت البيعة له.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 668، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 64. (2) اجتلدوا: تضاربوا. [القاموس المحيط، مادة: جلد] . (3) هو عبد اللَّه بن سلام بن الحارث، الإسرائيلي، أبو يوسف، صحابي، قيل: إنه من نسل يوسف بن يعقوب المتوفى سنة 43 هـ، أسلم عند قدوم النبي صلى اللَّه عليه وسلم المدينة، كان اسمه "حصين" فسمَّاه النبي صلى اللَّه عليه وسلم عبد اللَّه وفيه نزلت الآية: {وشهد شاهد من بني إسرائيل} والآية: {ومن عنده علم الكتاب} وعندما قامت الفتنة بين علي ومعاوية اتخذ سيفاً من خشب واعتزلها. للاستزادة راجع: خلاصة تهذيب الكمال ج 1/ص 124، الإصابة ج 3/ص 118، الاستيعاب ج 2/ص 311. (4) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 668، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 64. (5) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 676، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 68. (6) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 676. (7) الطبري، تاريخ

- مروان ودفاعه عن عثمان (1) لما ألقى الناس النيران في أبواب دار عثمان فاحترق بعضها قال: ما احترق الباب إلا لما هو أعظم منه. لا يحركنَّ رجل منكم يده. فواللَّه لو كنت أقصاكم لتخطوكم حتى يقتلوني. ولو كنت أدناكم ما جاوزوني إلى غيري وإني لصابر كما عهد إليَّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لأصرعن مصرعي الذي كتب اللَّه عز وجل لي. فقال مروان: واللَّه لا تقتل وأنا أسمع الصوت. ثم خرج بالسيف على الباب يتمثل بهذا الشعر: قد علمتْ ذات القرون الميل ... والكف والأنامل الطفول أبي أروع أول الرعيل ... بغارة مثل قَطا الشليل ثم صاح: من يبارز وقد رفع أسفل درعه فجعله في منطقته، فوثب إليه ابن النباع، فضربه على رقبته من خلفه، فأثبته حتى سقط، فما ينبض منه عرق، فأدخل بيت فاطمة ابنة أوْس جدة إبراهيم بن العديّ وكانت أرضعت مروان، وأرضعت له. وفي رواية أن فاطمة وثبت على عبيد بن رفاع الذي أراد أن يجهز عليه بعد ضربة ابن النباع وقالت: إن كنت إنما تريد قتل الرجل فقد قتل، وإن كنت تريد أن تلعب بلحمه فهذا قبيح. فكفَّ عنه. فما زالوا يشكرونها لها فاستعملوا ابنها إبراهيم بعد.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 659، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 66.

- فظاعة الجرم!! لم يتوقع أحد من الصحابة أن يُقتل عثمان. أما الحسن والحسين ومن معهما فقد كانوا يحرسون بابه، ولكن القتلة تسوَّروا عليه من دار مجاورة لداره. لقد قتلوه قتلة شنيعة ترتعد منها الفرائص، ومثلوا به وهو يتلو القرآن، وكانت تلاوة القرآن نوعاً من العبادة، فضربه بعضهم بحديدة، وبعضهم ضربه بمشقص، وطعنه آخر بتسع طعنات، وكسر الآخر ضلعاً من أضلاعه. ولم يكتفوا بذلك بل تعدوا على امرأته المخلصة بالسيف وببذيء الكلام، وأرادوا قطع رأسه بعد أن فارق الحياة، ونهبوا أمتعة المنزل وما في بيت المال، ومنعوا عنه الماء أثناء الحصار حتى -[185]- غضب عليّ وهالته قسوتهم، فقال لهم: "أيها الناس إن الذي تفعلون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين فلا تقطعوا عن هذا الرجل الماء ولا المادة فإن الروم وفارس لتأسر فتطعم وتسقي". لا أحد يبرز قتل عثمان والتمثيل به. ولم يجترئ عليه أحد من كبار الصحابة حتى المخالفين له في الرأي، لأنهم كانوا يجلُّونه، ويوقرونه، لمكانه من رسول اللَّه، وأياديه البيضاء في سبيل الإسلام، وحسن أخلاقه، وعواطفه، وسائر فضائله التي لا ينكرها أحد. لا شك أن هؤلاء القتلة مجرمون، غلاظ الأكباد، قساة القلوب. فلم يراعوا حرمة صحبته للرسول، وصهره، ومنزلته في الإسلام، وخدماته الجليلة، وبذل الأموال الطائلة لنصرته ورفعته، ولم يخجلوا من التهجم على رجل فاضل قال عنه رسول اللَّه: "إن الملائكة تستحي منه" (1) . رجل سهل، لين، كريم، كفَّ يده، ونهى عن سفك دم المسلمين، وهو محاصر أشد الحصار، مهدد بالقتل، وكان مثال الصالحين، والقراء للقرآن، وعاش محبباً للناس لا يميل إلى الشدة والعنف، لقد فتكوا به وهو قابع في بيته، يتعبد بتلاوة القرآن، ونهى أصحابه حتى عن الدفاع عنه. فأيِّ قلب لا يتفطر، وأيِّ دمع لا ينهمر، وأيِّ فؤاد لا يذوب كمداً وأسى على قتل الخليفة الصالح من غير أن يرتكب إثماً يوجب القتل. إن الذي جنى على عثمان وبغَّضه في الناس هم كما قلنا وقال غيرنا من كبار المؤرخين المحققين أقاربه الذين كان يحسن إليهم، فإنهم كانوا مستشاري سوء، ولم يكن لهم رأي صائب ونظر بعيد، وكانوا مع ذلك يصرفونه حسب أغراضهم وأهوائهم لا حسب ما تقضي به مصلحة المسلمين عامة. وقد ظل عثمان كما قبل ست سنوات في بدء حكمه وهو أحب الناس إلى الناس. فلو أنه ترك وشأنه يدبر الأمور بطبيعته الخيّرة الهادئة التي لا تميل إلى الشدة والقسوة والتعدي، وبلطفه وأدبه وإحسانه وبما اشتهر عنه أيام الرسول لما شكا منه شاك، بل لكان عهده عهد خير وسلام. لكن أقاربه قد تمكَّن منهم حب الذات والجشع، فانتهزوا فرصة خلافته، واستغلوا صفة حميدة فيه ألا وهي صلة الرحم، فكانوا يأتونه من هذه الجهة لينالوا مأربهم من ولاية وثراء واستئثار بالحكم، وقد تحكَّموا فيه زمن شيخوخته فلم يقوَّ على مقاومتهم وخلافهم. فكان ما كان من سفك دمه وبث بذور الفتن والشقاق. قال جيبون في كتاب سقوط الإمبراطورية الرومانية: "إن عثمان اختار فخُدع، ووثق فغُدر، وصار من كان موضع ثقته عديم الفائدة وعدواً لحكومته، وانقلب إحسانه جوراً وتذمراً".

_ (1) رواه مسلم في فضائل الصحابة، باب: 26، وأحمد في (م 6/ص 155) .

- قتلة عثمان وخاذلوه: -[186]- أجمع أهل السنة على أن عثمان كان إماماً على شرط الاستقامة إلى أن قُتل. وأجمعوا على أن قاتليه قتلوه ظلماً، فإن كان فيهم من استحل دمه فقد كفر. ومن تعمد قتله من غير استحلال كان فاسقاً غير كافر. والذين هجموا عليه واشتركوا في دمه معروفون بقطع بفسقهم، منهم محمد بن أبي بكر، ورفاعة بن رافع، والحجاج بن غزنة، وعبد الرحمن بن خصل الجمحي، وكنانة بن بشر النخعي، وسندان بن حمران المرادي، وبسرة بن رهم، ومحمد بن أبي حذيفة، وابن عتيبة، وعمرو بن الحمق الخزاعي. وأما الذين قعدوا عن نصرة عثمان فهم فريقان: فريق كانوا معه في الدار فدفعوا عنه كالحسن بن علي بن أبي طالب، وعبد اللَّه بن عمر، والمغيرة بن الأخنس، وسعيد بن العاص، وسائر من كان في الدار من موالي عثمان، إلى أن أقسم عليهم بترك القتال وقال لغلمانه: "من وضع السلاح فهو حر". فهؤلاء أهل طاعة وبر وإحسان. والفريق الثاني من القعدة عن نصرته فريقان: فريق أرادوا نصرة عثمان فنهاهم عثمان عنها، كعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد، ومحمد بن مسلمة، وعبد اللَّه بن سلام. فهؤلاء معذورون لأنهم قعدوا عنه بأمره. والفريق الثاني: قوم من السوقة أعانوا الهاجمين فشاركوهم في الفسق واللَّه حسبهم. ودليلنا على براءة عثمان مما قذف به ورود الروايات الصحيحة بشهادة الرسول له صلى اللَّه عليه وسلم بالجنة عند تجهيز جيش العسرة، وما روي من أنه يدخل الجنة بلا حساب، ولا يدخل الجنة إلا مؤمن. وقد روي أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم صعد جبل حراء، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فقال: "اسكن حراء فما عليك إلا نبي أو صدّيق أو شهيد" (1) . وفي هذا دليل على أن عثمان قُتل شهيداً، ودليل صحة إمامته إجماع الأمة بعد عمر أن الإمامة لواحد من أهل الشورى وكانوا ستة، فاجتمع خمسة عليه فحصل إجماع الأمة على إمامته (2) .

_ (1) رواه الدارقطني في (ج 4/ص 198) . (2) أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي. أصول الدين (م 1/ص 287 289) ، ط 1، استنابول سنة 1346 هـ 1928 م.

- كتاب نائلة بنت الفرافصة إلى معاوية: كتبت نائلة بنت الفرافصة زوجة عثمان رضي اللَّه عنه إلى معاوية كتاباً مع النعمان بن بشير وبعثت إليه بقميص عثمان مخضباً بالدماء. وهذا هو نص كتابها: من نائلة بنت الفرافصة إلى معاوية بن أبي سفيان -[187]-. "أما بعد، فإني أدعوكم إلى اللَّه الذي أنعم عليكم وعلمكم الإسلام وهداكم من الضلالة. وأنقذكم من الكفر. ونصركم على العدو. وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة. وأنشدكم اللَّه وأذكركم حقه وحق خليفته أن تنصروه بعزم اللَّه عليكم فإنه قال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] فإن أمير المؤمنين بُغي عليه، ولو لم يكن لعثمان عليكم إلا حق الولاية لحق على كل مسلم يرجو إمامته أن ينصره، فكيف وقد علمتم قدمه في الإسلام، وحسن بلائه، وأنه أجاب اللَّه وصدق كتابه، واتبع رسوله، واللَّه أعلم به، إذ انتخبه فأعطاه شرف الدنيا وشرف الآخرة! وإني أقص عليكم خبره. إني شاهدة أمره كله. إن أهل المدينة حصروه في داره، وحرسوه ليلهم ونهارهم، قياماً على أبوابه بالسلاح يمنعونه من كل شيء قدروا عليه حتى منعوه الماء، فمكث هو ومن معه خمسين ليلة وأهل مصر قد أسندوا أمرهم إلى محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر وطلحة والزبير فأمروهم بقتله. وكان معهم من القبائل خزاعة وسعد بن بكر وهذيل وطوائف من جهينة ومزينة وأنباط يثرب. فهؤلاء كانوا أشد الناس عليه. ثم إنه حصر، فرشق بالنبل، فجرح ممن كان في الدار ثلاثة نفر. فأتاه الناس يصرخون إليه ليأذن لهم في القتال فنهاهم وأمرهم أن يردوا إليهم نبلهم فردوها عليهم. فما زادهم ذلك في القتل إلا جرأة وفي الأمر إلا إغراقاً فحرقوا باب الدار. ثم جاء نفر من أصحابه فقالوا: إن ناساً يريدون أن يأخذوا من الناس بالعدل فاخرج إلى المسجد يأتوك فانطلق فجلس فيه ساعة وأسلحة القوم مطلة عليه من كل ناحية. فقال: ما أرى اليوم أحداً يعدل. فدخل الدار وكان معهم نفر ليس على عامتهم سلاح. فلبس درعه وقال لأصحابه: لولا أنتم ما لبست اليوم درعي. فوثب عليه القوم فكلَّمهم ابن الزبير وأخذ عليهم ميثاقاً في صحيفة بعث بها إلى عثمان. عليكم عهد اللَّه وميثاقه أن لا تقربوه بسوء حتى تكلّموه وتخرجوا. فوضع السلاح، ودخل عليه القوم يقدمهم محمد بن أبي بكر. فأخذ بلحيته ودعوا باللقب. فقال: أنا عبد اللَّه وخليفته عثمان فضربوه على رأسه ثلاث ضربات، وطعنوه في صدره ثلاث طعنات وضربوه على مقدم العين فوق الأنف ضربة أسرعت في العظم، فسقطت عليه، قد أثخنوه وبه حياة، وهم يريدون أن يقطعوا رأسه فيذهبوا به فأتتني ابنة شيبة بن ربيعة فألقت بنفسها معي فوطئنا وطئاً شديداً عُرِّينا من حلينا وحرمة أمير المؤمنين أعظم. فقتلوا أمير المؤمنين في بيته مقهوراً على فراشه. وقد أرسلت إليكم بثوبه عليه دمه فإنه واللَّه إن كان أثم من قتله فما سلم من خذله. فانظروا أين أنتم من اللَّه، وأنا أشتكي كل ما مسنا إلى اللَّه عز وجل وأستصرخ بصالحي عباده. فرحم اللَّه عثمان ولعن قتلته وصرعهم في الدنيا مصارع الخزي والمذلة وشفى منهم الصدور". فحلف رجال من أهل الشام أن لا يمسوا غسلاً حتى يقتلوا عليّاً أو تفنى أرواحهم. وهذا كتاب طويل ذكرت فيه زوجة عثمان تفاصيل قتله بعد أن فجعت بفقده، لكنها لم -[188]- تذكر أسماء من باشروا القتل. وقد كانت نائلة من أخلص المخلصين لزوجها، ودافعت عنه بقدر طاقتها، وعرضت نفسها للقتل. وهكذا فليكن الوفاء والإخلاص. وقد حرضت معاوية والمسلمين بهذا الكتاب على الأخذ بالثأر.

- موقف علي رضي اللَّه عنه إزاء قتل عثمان: كان علي رضي اللَّه عنه أحد الستة الذين رشَّحهم عمر بن الخطاب للخلافة بعده. وقد بايع عبد الرحمن بن عوف عثمان بناء على ما اجتمع إليه من رأي أصحاب رسول اللَّه وأمراء الأجناد وأشراف الناس. فقال عمار: إن أردت ألاَّ يختلف المسلمون فبايع علياً. فقال المقداد ابن الأسود: صدق عمار، إن بايعت علياً قلنا سمعنا وأطعنا. وقال ابن أبي سرح: إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان. فقال عبد اللَّه بن أبي ربيعة: صدق، إن بايعت عثمان قلنا سمعنا وأطعنا. فشتم عمار ابن أبي سرح وقال: ومتى كنت تنصح المسلمين. وأخيراً بايع عثمان فاستاء عليّ وقال: حبوته حبو دهر. ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا يعني بني أمية فصبر جميل واللَّه المستعان على ما تصفون. واللَّه ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك. واللَّه كل يوم هو في شأن. فقال عبد الرحمن: يا علي، لا تجعل على نفسك سبيلاً فإني نظرت وشاورت الناس، فإذا هم لا يعدلون بعثمان. فخرج علي وهو يقول: سيبلغ الكتاب أجله. بايع عبد الرحمن عثمان لأنه كما قال نظر وشاور وهو مع ذلك صهر عثمان، وكان لعلي رجال يؤيدونه، لكنه سكت بعد ذلك وأطاع. وكان عثمان يعرف قدره ويقدر رأيه غير أنه تركه ولم يقلده ولاية ما، فلما اشتدت الفتنة لجأ إليه يستشيره ويستنجد به ليرد عنه عادية الأعداء فبذل له من النصح أخلصه فلم يعمل بنصحه لتسلط حاشيته ومستشاريه عليه وقد كانوا يبغضونه في علي خشية أن يطيعه فيفسد عليهم سياستهم وتدابيرهم. لم يكن عليّ يتحامل على عثمان بل كان يجلّه لقد قال له وهو يحدثه في أمر الفتنة: "واللَّه ما أدري ما أقول لك، وما أعرف شيئاً تجهله، ولا أدلك على أمر لا تعرفه. إنك لتعلم ما نعلم. ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشيء فنبلغكه، وما خصصنا بأمر دونك. وقد رأيت وسمعت صحبت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ونلت صهره الخ". ثم أظهر له علي موضع ضعفه وسبب شكوى الناس فقال: "ضعفت، ورفقت على أقربائك". وقال: "إن معاوية يقطع الأمور دونك، وأنت تعلمها فيقول للناس هذا أمر عثمان فيبلغك ولا تغيّر على معاوية" -[189]-. ولما ذهب عثمان إلى عليّ في بيته يسأله أن يرد المصريين عنه قال له: "قد كلمتك مرة بعد أخرى فكل ذلك تخرج وتقول، ثم ترجع عنه وهذا من فعل مروان وابن عامر ومعاوية وعبد اللَّه بن سعد. فإنك أطعتهم وعصيتني". فقال عثمان: فأنا أعصيهم وأطيعك. فركب عليّ وردَّ عنه المصريين. ولما خطب عثمان وتاب، ثم خرج مروان وشتم الناس وأفسد عليه توبته غضب علي وحق له أن يغضب نصحته زوجته نائلة أن يستصلحه. ثم طلب عثمان المهلة ثلاثة أيام وأكد لعليّ أنه يعطيهم الحق من نفسه ومن غيره. فخرج فأخبرهم بذلك، وكتب بينهم وبين عثمان كتاباً أجله فيه ثلاثاً على أن يرد كل مظلمة ويعزل كل عامل كرهوه. فكف المسلمون عنه، ورجعوا، إلا أنه كان قد طلب الأجل انتظاراً للمدد من الأمصار حتى إذا قدموا وأنس القوة حاربهم، كما أوحى إليه مروان بن الحكم. وما كان عليّ يدري شيئاً من ذلك بل كان يحسب أنه إنما طلب الأجل ليتسنى له إجابتهم إلى ما يريدون في هذه المدة، لأنه قال له: "اضرب بيني وبينهم أجلاً يكون فيه مهلة فإني لا أقدر على رد ما كرهوا في يوم واحد". ومضت الأيام الثلاثة ولم يغيّر شيئاً. وعدا ذلك أمر عليّ ابنه وأبناء الصحابة أن يحرسوا باب عثمان، فماذا يصنع عليّ بعد ذلك؟. وماذا كان في طاقته؟. وعن شداد بن أوس قال: لما اشتد الحصار بعثمان يوم الدار أشرف على الناس فقال: يا عباد اللَّه. قال: فرأيت عليّ بن أبي طالب خارجاً من منزله معتماً بعمامة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم متقلداً سيفه. أمامه الحسن وعبد اللَّه بن عمر في نفر من المهاجرين والأنصار حتى حملوا على الناس وفرَّقوهم، ثم دخلوا على عثمان فقال له عليّ: السلام عليك يا أمير المؤمنين إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لم يلحق هذا الأمر حتى ضرب بالمقبل المدبر وإني لا أرى القوم إلا قاتليك فمرنا فلنقاتل. فقال عثمان: أنشد اللَّه رجلاً رأى للَّه حقاً وأقرَّ أن لي عليه حقاً أن يهريق في سببي ملء محجمة من دم أو يهريق دمه فيَّ. فأعاد عليّ عليه القول، فأجابه بمثل ما أجابه، ثم دخل المسجد وحضرت الصلاة فقالوا: يا أبا الحسن تقدَّم فصلِّ بالناس فقال: لا أصلي بكم والإمام محصور، ولكن أصلي وحدي، فصلَّى وحده وانصرف إلى منزله الخ. وأخذ علي يبحث عن قتلة عثمان فسأل امرأته فقالت: لا أدري، إلا أن دخل عليه محمد بن أبي بكر ومعه رجلان لا أعرفهما فدعا محمداً وسأله، قال واللَّه لم تكذب دخلت عليه وأنا أريد قتله فذكر لي أبي فقمت عنه وأنا تائب للَّه. وجميع الروايات تثبت براءة عليّ رضي اللَّه عنه من دم عثمان.

- رؤيا عثمان (1) : -[190]- عن عبد اللَّه بن سلام أنه قال: أتيت عثمان وهو محصور أسلم عليه فقال: مرحباً بأخي مرحباً بأخي. أفلا أحدثك ما رأيت الليلة في المنام؟ فقال: بلى. قال: رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في هذه الخَوْخة (2) وإذا خوخة في البيت. فقال: أحصروك؟ فقلت: نعم. فقال: عطشوك؟ فقلت: نعم. فأدلى لي دلواً من ماء فشربت حتى رويت فإني لأجد برداً بين كتفيَّ وبين بدني. إن شئت نصرت عليهم، وإن شئت أفطرت عندنا. قال: فاخترت أن أفطر عندهم. قال: فقتل عثمان في ذلك اليوم. وعن مسلم عن أبي سعيد مولى عثمان، أن عثمان أعتق عشرين مملوكاً، ودعا بسراويل، فشدَّها عليه ولم يلبسها في جاهلية ولا إسلام. قال: إني رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم البارحة وأبا بكر وعمر فقالوا لي: صبراً، فإنك تفطر عندنا القابلة، ثم دعا بمصحف فنشره بين يديه. عن ابن عمر أن عثمان أصبح يحدث الناس. قال: رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في المنام. قال: يا عثمان أفطر عندنا غداً فأصبح صائماً وقتل من يومه. واختلاف الروايات محمول على تكرار الرؤيا فكانت مرة نهاراً ومرة ليلاً.

_ (1) ابن كثير، البداية والنهاية ج 7/ص 195. (2) الخوخة: كوَّة يدخل منها الضوء إلى البيت.

- وصيته: عن العلاء بن الفضل عن أمه. قال: لما قُتل عثمان فتشوا خزائنه فوجدوا فيها صندوقاً مقفلاً ففتحوه فوجدوا فيه ورقة مكتوباً فيها: "هذه وصية عثمان: بسم اللَّه الرحمن الرحيم. عثمان بن عفان يشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن اللَّه يبعث من في القبور ليوم لا ريب فيه. إن اللَّه لا يخلف الميعاد. عليها يُحيى وعليها يموت. وعليها يُبعث إن شاء اللَّه".

- آخر خطبة لعثمان رضي اللَّه عنه (1) : ذكر الطبري آخر خطبة خطبها عثمان رضي اللَّه عنه في جماعة: "إن اللَّه عز وجل إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكموها لتركنوا إليها. إن الدنيا تفنى والآخرة تبقى. فلا تُبطرنكم الفانية ولا تشغلنكم عن الباقية فآثروا ما يبقى على -[191]- ما يفنى. فإن الدنيا منقطعة وإن المصير إلى اللَّه. اتقوا اللَّه عز وجل فإن تقواه جُنة من بأسه ووسيلة عنده. واحذروا من اللَّه الغِيرَ والزموا جماعتكم ولا تصيروا أحزاباً {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران: 103] .

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 672.

- دفن عثمان رضي اللَّه عنه (1) : قيل: بقي عثمان ثلاثة أيام لم يدفن، ثم إن حكيم بن حزام وجبير بن مطعم، كلَّما علياً في أن يأذن في دفنه، فقعدوا له في الطريق بالحجارة، وخرج به ناس يسير من أهله وغيرهم، وفيهم الزبير والحسن وأبو جهم بن حذيفة ومروان بين المغرب والعشاء، فأتوا به حائطاً من حيطان المدينة يسمى حَش كوكب (2) . وهو خارج البقيع فصلَّى عليه جبير بن مطعم، وخلفه حكيم بن حزام، وأبو جهم بن حذيفة، ونيار بن مكرم الأسلمي، وجاء ناس من الأنصار ليمنعوا من الصلاة عليه، ثم تركوهم خوفاً من الفتنة. وعن الربيع بن مالك بن أبي عامر، عن أبيه قال: كنت أحد حملة عثمان بن عفان حين توفي حملناه على باب، وإن رأسه يقرع الباب لإسراعنا به، وإن بنا من الخوف لأمراً عظيماً، حتى واريناه في قبره في حش كوكب. وأرسل عليّ إلى من أراد أن يرجم سريره ممن جلس على الطريق لما سمع بهم فمنعهم عنه. ونزل في قبره، بيان وأبو جهم وحبيب، وقيل: شهد جنازته علي وطلحة وزيد بن ثابت، وكعب بن مالك، وعامة من أصحابه. وعن الحسن قال: شهدت عثمان بن عفان دفن في ثيابه بدمائه، وفي البخاري أنه لم يغسل.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 687، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 69. (2) الحش: البستان. وحَش كوكب: موقع إلى جانب بقيع الغرقد بالمدينة.

- مدة حياته (1) : كانت مدة حياة عثمان على المشهور 82 سنة. قال الواقدي: لا خلاف عندنا أنه قُتل وهو ابن اثنتين وثمانين سنة وهو قول أبي اليقظان.

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 689.

- خطبة علي عليه السلام عند بيعته بعد مقتل عثمان رضي اللَّه عنه (1) : -[192]- "أيها الناس، كتاب اللَّه وسنة نبيكم، لا يدَّع مدعٍ إلا على نفسه. شُغِلَ الجنةُ والنارُ أمامه. ساعٍ نجا. وطالبٌ يرجو. ومقصرٌ في النار، ثلاثة واثنان: ملَك طار بجناحيه، ونبي أخذ اللَّه بيديه، لا سادسَ. هلك من اقتحم. وردِيَ من هوى. واليمين والشمال مضلَة، الوسطى الجادَّةُ: منهج عليه باقٍ: الكتاب وآثار النبوة. إن اللَّه أدَّب هذه الأمة بأدبين: السوطِ والسيفِ، فلا هوادة فيهما عند الإمام. فاستتروا ببيوتكم، وأصلحوا ذات بينكم، والتوبة من ورائكم من أبدى صفحته للحق هلك. قد كانت أمور ملتم علي فيها مَيلة لم تكونوا عندي محمودين ولا مصيبين. واللَّه أن لو أشاء أن أقول لقلت. عفا اللَّه عما سلف. انظروا، فإن أنكرتم فأنكروا وإن عَرَفتم فاروُوا. حق وباطل ولكل أهل، واللَّه لئن أمِّر الباطل لقديماً فعل. ولئن أمر الحق لَرُبَّ ولعل. ما أدبر شيء فأقبل".

_ (1) ابن قتيبة، عيون الأخبار (م 2/ص 236) .

- عمال عثمان سنة وفاته (1) : قتل عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه وعماله على الأمصار كما يلي: -1- عبد اللَّه بن الحضرمي على مكة. -2- القاسم بن ربيعة الثقفي على الطائف. -3- يعلى بن منية على صنعاء. -4- عبد اللَّه بن ربيعة على الجند. -5- عبد اللَّه بن عامر على البصرة، خرج منها ولو يول عليها عثمان. -6- سعيد بن العاص على الكوفة. -7- عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح على مصر. -8- معاوية بن أبي سفيان على الشام. -9- عبد الرحمن بن خالد بن الوليد على حمص. -10- حبيب بن مسلمة على قنسرين. -11- أبو الأعور بن سفيان على الأردن. -12- علقمة بن حكيم الكناني على فلسطين. -13- عبد اللَّه بن قيس الفزاري على البحرين. -14- أبو الدرداء على القضاء -[193]-. -15- جرير بن عبد اللَّه على قرقيسياء. -16- الأشعث بن قيس على أذربيجان. -17- عتيبة بن النهاس على حُلوان. -18- مالك بن حبيب على ماه. -19- النسَير على همذان. -20- سعيد بن قيس على الرَّيِّ. -21- السائب بن الأقرع على أصبهان. -22- حبيش على ماسبذان. -23- عقبة بن عمرو على بيت المال. -24- زيد بن ثابت على قضاء عثمان.

_ (1) ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 75.

- فتوح المسلمين في خلافة عثمان: حكم عثمان رضي اللَّه عنه اثني عشر عاماً وكانت خلافته فتحاً وفوزاً للمسلمين امتدت سطوتهم إلى بلاد النوبة في مصر واتصلت بحدود الهند حتى ضربت النقود الإسلامية على ما قيل بهراة، وأنشؤوا الأساطيل بعد أن لم يكن لهم سفينة واحدة في البحر وغزوا الجزر، وحاربوا في البحر، وزادت هيبتهم في نفوس الدول الأخرى، ولا سيما الروم، وفتح المسلمون شمالي أفريقية، وقتلوا آخر ملك للفرس وغزوا الترك، وواصلوا الفتوح حتى القوقاز مجتازين الفيافي والقفار والجبال، واستولوا على جزيرة قبرس ورودس، واستأذن معاوية بفتح القسطنطينية فأذن له فسار إليها ورجع عنها بعد أن حاصرها مدة. تمت كل هذه الفتوح العظيمة بسرعة مدهشة لم يعهدها التاريخ من قبل بالرغم من الفتن الداخلية والنقمة على عثمان، وبالرغم من لين الخليفة وشدّة حياته، لأن المسلمين كانوا يجاهدون في سبيل اللَّه بقوة إيمانهم وقد ذاقوا حلاوة الفتح والنصر والغنائم، فلم يكن يعوقهم عن الفتح عائق. وقد قامت هذه الفتوح على يد الولاة الذين ولاَّهم عثمان أمثال الوليد وسعيد بن العاص وعبد اللَّه بن عامر وعبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح ومعاوية. فلا غرو إذا قلنا إن عهد عثمان كان عهد فوز للمسلمين كانت هذه الفتوح العظيمة سبباً في اتساع الدنيا على الصحابة. فكثرت الأموال حتى كان الفَرس يُشترى بمائة ألف، وحتى كان البستان يباع بالمدينة بأربعمائة ألف درهم، وكانت المدينة عامرة كثيرة الخيرات والأموال والناس يجبى إليها خراج الممالك وهي دار الأمان، وقبة الإسلام، فبطر لناس بكثرة الأموال والخيل والنعم وفتحوا أقاليم الدنيا واطمأنوا وتفرغوا. ثم أخذوا ينقمون على خليفتهم.

الفصل السابع: آراء ومواقف في مقتل عثمان رضي الله عنه.

الفصل السابع: آراء ومواقف في مقتل عثمان رضي اللَّه عنه.

- رأي الأستاذ فريد وجدي في مقتل عثمان: نورد هنا ما كتبه الأستاذ فريد وجدي في دائرة المعارف خاصَّاً بمقتل عثمان: "إن الناظر في حادثة عثمان على ما أحاطها به المؤرخون من عبارات التضليل الباعث عليه ضعف النقد، يعدها أمراً جليلاً، وهي في حقيقتها أمر طبيعي، كانت نتيجتها لازمة لمقدمات سابقة. ونحن لا نود أن نقول بأن عثمان رضي اللَّه عنه استحق أن يقتل. ولكنا نقول: إنه استحق أن يعزل، ولكن الشكل الفذُّ الذي كانت عليه الحكومة إذ ذاك لم يسمح إلا بحدوث هذه النتيجة المحزنة المريعة. عثمان استحق أن يعزل لجملة أسباب: أولاً - لضياع هيبة الخلافة في عهده، فإنه كان يجترئ رجل مثل "جهجاه" على كسر العصا التي كان يتوكأ عليها، وهو على المنبر، فلم يقوَّ على معاقبته بما يستحق، أو بمؤاخذته بحيث لا يجترئ بمثلها. وقد تبيَّن من تاريخ حياته أنه كان يصعد المنبر فيتوب مما فعل، ويستغفر اللَّه، ثم يعود سيرته الأولى من الخضوع لرأي فتية بني أمية. وفي توبته إقرار بأنه أخطأ، ثم في عودته دليل محسوس على خضوعه للمؤثرين عليه، وكفى بهذا مسقطاً لهيبة الخلافة، وهي الوظيفة التي كانت تعتبر تالية لمقام النبوة. ثانياً - لوقوعه تحت تأثير قرابته، من أمثال عبد اللَّه بن أبي سرح، وعمرو بن العاص (1) ، وسعيد بن العاص، ومروان بن الحكم، ومعاوية بن أبي سفيان، وغيرهم، وهم إما من الطلقاء الذين مَنَّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عليهم بالعفو عند فتح مكة بعد أن كان تاريخهم في مكافحة الدعوة الإسلامية أقبح تاريخ. وإما من الفتيان الذين لا حريجة لهم في الدين، ولا صفة لهم بين المؤمنين -[198]-. ثالثاً - لحرمانه المجتمع الإسلامي من مكونيه الأولين أمثال علي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وأبي أيوب الأنصاري، وعبد اللَّه بن عمر، وغيرهم من كبار الصحابة، واعتماده على فتيان بني أمية. فكان يرسل إلى الولايات الكبرى كمصر وسورية والعراقين والفرس من أولئك الفتية ممن لا يحسنون قيادة، ولا يعرفون سيادة. ويترك أمثال أولئك الكاملين عاطلين بلا عمل، وهم مكونو المجتمع الإسلامي وأرواحه التي أقامته من المجتمعات البشرية. هذه الأمور الثلاثة وحدها كانت كافية لإهلاك المجتمع الإسلامي وحلِّ الوحدة الدينية، وهي وحدها كانت كافية لجمع المسلمين على خلع ذلك الخليفة، ولكن شكل تلك الحكومة لم يكن يسمح لهم بخلعه، فحدثت الحادثة التي انتهت بقتله. كان عثمان يستطيع أن يتلافى الوقوع في شرِّ هذه الحوادث بتولية أمثال علي وطلحة والزبير الولايات الكبيرة. فإن هؤلاء النفر كان لهم من المقام الرفيع، والسوابق الجليلة، والحب في نفوس الناس ما كان يقيم الكافة على الطريق السوِّي، ويوجد للمجتمع الإسلامي روحه المدبر، ولكن عثمان كان تحت تأثير مثل عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح المطعون في دينه، ومروان بن الحكم المكروه من الناس وغيرهما من الغلمان والأحداث دون أولئك الصحابة الأكرمين الذين استعان بهم النبي صلى اللَّه عليه وسلم نفسه في تكوين الأمة، واستعان بهم أبو بكر وعمر في تقويم معرج الشؤون. فكيف لا تنحرف عنه الأمة؟. وكيف لا تسقط مهابة الخلافة؟. وكيف لا يجترئ الناس عليه!. إن قتل عثمان رضي اللَّه عنه على حسن سوابقه وفضله في إقامة الدين، وبذله نفسه وماله في مساعدة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، يعد من الأمور المريعة. ولكن الثائرين طلبوا إليه أن يخلع نفسه فأبى فحاصروه ليحملوه على ذلك فأصر على الإباء. فدخلوا عليه وهددوه بالقتل فلم يزدد إلا إباءً فاستهدف نفسه بذلك لما حدث. هذا رأينا ولكن إخواننا المؤلفين الأولين كانوا يذهبون في تعظيم الأشخاص مذهباً لا يلائم نصَّ الدين نفسه، فاستنكروا حادثة عثمان استنكاراً لم يفعله معاصروه أنفسهم".

_ (1) يلاحظ أن عمرو بن العاص كان ناقماً على عثمان بعد أن عزله عن ولاية مصر سابقاً غير أن عثمان كان مع ذلك يستشيره.

- رأي رفيق بك العظم: كتب الأستاذ رفيق بك العظم المؤرخ الشهير في ترجمته حياة عثمان بن عفان كلمة في هؤلاء الناقمين على عثمان وفي أهمية تاريخ الصحابة، ما يأتي: "إنَّ من يطالع هذا الخبر من أسراء الاستبداد وأليفي الاستعباد يعجب من جرأة القوم وتجاوزهم حدود الحشمة مع وجود الصحابة، وأعجب منه عندهم أن يتجاوز عن القوم لا ينالهم -[199]- أدنى عقاب على ما فعلوه سوى التوبيخ، إذ لو حدث من غيرهم ما حدث منهم في حكومة أخرى غير الحكومة الإسلامية يومئذٍ لما كان جزاؤهم إلا القتل أو قضاء الحياة في أعماق السجون. ولكن شأن العرب وشأن الإسلام وحكومته يومئذٍ لا يضاهيه شأن الأمم الأخرى وحكوماتها. إذ العرب قد اعتادوا بأصل الفطرة حرية الفكر والقول. وشرائع الإسلام لم تكن مصادمة لتلك الفطرة، بل هي معينة لها، داعية لتهذيبها وارتقائها. فالقرآن يأمر المسلمين عامة بقول الحق، وأن يقوموا بالقسط ويشهدوا بالحق ولو على أنفسهم، ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر. وفي هذا كله ما يجيز لهم الانتقاد على الأمراء والعمال ويطلق لهم العنان فيما اعتادته فطرتهم من حرية القول، بشرط أن لا يترتب على قولهم حدُّ من الحدود الشرعية كالقذف وكل ما يمسُّ بالشرف والعرض ويدعو إلى إقامة الحدِّ، أو أية عقوبة من عقوبات التعزير. لهذا قام هؤلاء الناس وغيرهم في الأمصار الإسلامية يظهرون الطعن على عثمان وعماله باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس من يجرؤ على معاقبتهم، أو الضرب على أيديهم من العمال، لأنه حق من الحقوق التي خولتها لهم الفطرة والشرع. ولم يظهر عليهم النكير إلا بعد أن ترتب على عملهم حق من حقوق اللَّه في قتل عثمان رحمه اللَّه ورضي اللَّه عنه. وهذا عين ما يشاهد الآن في الممالك الأوربية ذات الحكومات الشورية من إطلاق ألسنة الانتقاد على الحكومات ومناقشة أهل الشورى للوزراء في كل جليل وحقير. وكثيراً ما يلجئون الوزراء إلى اعتزال مناصبهم إذا رأوا منهم ما يستدعي ذلك، فيعتزلونها صاغرين. وشأنهم هذا شأن المسلمين في ذلك العهد مع أمرائهم كما رأيت. وترى العبرة في عثمان رضي اللَّه عنه وعماله ونهوض الأمة لمؤاخذته على أمور هي ولا نكران للحق أقل مما يأتيه أصغر عامل من عمال الدول المطلقة في هذا العصر وفي كل عصر. ومع هذا فقد أفضى الأمر إلى طرد عماله من الأمصار، ثم إجلاب الناس عليه بالخيل والرجل من كل مصر وقتله بين ظهراني إخوانه من المهاجرين والأنصار. فليت شعري كيف نسي المسلمون تاريخ هذه النشأة التي نشأ عليها أسلافهم وأهملوا أمور شريعتهم التي عمل بها مؤسسو دولتهم فاستخذوا بعد ذلك للأمراء واستسلموا للقضاء حتى صاروا أسراء الاستبداد، وتعبَّدهم الملوك في كل الأنحاء، وسامتهم الدول الحاكمة عليهم من إسلامية ومسيحية دروب الخسف. وأذاقتهم أنواع الهوان. وأين تلك الروح البارَّة والنفس العالية التي كانت تأبى الضيم وتغضب للحق فترى أن الموت والحياة سيان في سبيل الذود عن حقوقها والاحتفاظ بحريتها. لا جرم أن الأمة الإسلامية قد أُنست ذلك لأمرين: الأول: عدم العناية بوضع قواعد الشورى على الأصول الثابتة منذ نشوء الدولة كما سبق بيان هذا في صدر هذا الجزء. والثاني: تحريم العلماء بإيعاز الأمراء الخوض في تاريخ الخلفاء -[200]- الراشدين (1) وأخبار الصدر الأول التي كلها حياة. كلها عبر. حرية. وليس في كل ما كان بين الصحابة من الأمور العظام، والفتن الجسام، ما يدعو ديناً أو أدباً إلى اجتناب الخوض في أخبارهم والنظر في تاريخهم تعظيماً لهم واحتراماً لجنابهم، وتسليماً بسلامة مقاصدهم كما يذهب إليه خدام الأمراء من بعض العلماء. إذ لو كان في أخبارهم ما يمنع من الخوض فيها ديناً، أو أدباً لاستلزم أنها أعمال تحطُّ من منزلتهم وتقلل من احترامهم. وهذا باطل بالبداهة. والحقيقة هي أن هذا التحريم لم يكن إلا بإيعاز الأمراء الجبارين والزعماء المستبدين. لأن تاريخ الصدر الأول وأخبار الصحابة كلها تدل على حياة منبثة في صدور القوم ومقاصد عالية تعلي شأن أولئك الرجال، وواللَّه ليس في تاريخ من تواريخ الأمم في بدء نشأتها وإبان ظهورها ما في تاريخ الخلفاء الراشدين. ووقائع الصحابة من الحوادث التي ترمي كلها إلى غرض الحرية وتمحيص الحق مما قلَّ أن يكون في أمة حديثة النشأة ودولة جديدة التكوين. أما أن فريقاً منهم أخطأ وفريقاً أصاب. وفريقاً بغى وفريقاً بغي عليه. فهذا الحكم إنما هو تابع للمقاصد والمقاصد كانت كلها متجهة إلى تمحيص الحق والرغائب العالية. فمن العبث أن يحكم بخطأ فريق ما دام يعتقد أنه على صواب. ومثاله هؤلاء المحرضون على عثمان، فإنا مع اعتقادنا أن عثمان رضي اللَّه عنه خير من كثير غيره ممن أتى بعده من الخلفاء. ومع علمنا أنه لم يأتِ من حبِّ النفس أو الأثرة بجزء مما يأتيه حتى أشهر من اشتهر بالعدل من الخلفاء الأمويين أو العباسيين، أو غيرهم فإن أولئك الثائرين على عماله الناقمين منه مهما كان الدافع لهم إلى ذلك العمل فإن غايتهم التي يقصدون إليها بحسب الظاهر هي العدل بين الناس بعدم الاستئثار بمصالح المسلمين ومنافع الأمة كما تعودوا ذلك من الخليفتين السابقتين، وإن كانت سيرتهما في الخلافة وسياسة الملك فوق المستطاع لمن عداهما. لهذا لم يستطع أن يمد إليهم العمال بسوء فهم إذا أوخذوا فإنما يؤاخذون من جهة أنهم كانوا يطلبون من عثمان فوق ما يستطاع بالنسبة إليه. وأنهم غلوا في ذم سيرته تذرعاً لمحو الصبغة الأموية من الدولة غلواً يلامون عليه ما دام ذلك الغلو لغرض آخر يرمون إليه. وأما قتلته فإنهم أخزاهم اللَّه ليسوا بمؤاخذين وحسب بل هم ملعونون على لسان كبار الصحابة كحذيفة بن اليمان وأضرابه، وهو مسؤولون عن عملهم دون غيرهم. وقد جنوا على الأمة في مستقبلها جناية كبرى كما سنشير إليه بعد إن شاء اللَّه -[201]-. إذا تقرر هذا، فاعلم أن أخبار الصحابة إنما حرم بعضهم الخوض فيها، لأنها أخبار قوم ملئت صدورهم بالحياة ونفوسهم بالعزة. وهم بالضرورة قدوة الأمة، والمنادون منذ نشأت الدولة بصوت العدل والحرية والحق. فوقوف الناس على أخبارهم والأخذ والردُّ فيما حدث بينهم يُحيي في القلوب روح الحرية، ويبعث على استظهار عامة الناس للحجة التي يصادمون بها آلات الاستبداد من الخلفاء والملوك الذين حولوا الخلافة إلى الملك العضوض، وأمعنوا في التمكُّن من رقاب الناس. ولهذا ولما كثر خوض الناس في أخبار الصحابة أرادوا إلهاءهم عنها بحجة حرمة الخوض فيها، فأوعزوا إلى الوضاع والقصاصين بوضع أخبار المغازي، وقصة عنترة، وأشباهها في أعصر مختلفة لا تعلم بالتحقيق، إلا إذا صحَّ نسبة أكثر تلك الكتب إلى الواقدي والأصمعي، فإنها تكون في عصر العباسيين وذلك ليتلهى بها العامة عن التاريخ الصحيح الذي يبعث في النفوس روح الجرأة على قول الحق والتشبه بسلف الأمة ورجالها، ورافعي دعامة دولتها في مناهضة أرباب العتو والجبروت ومحبي الاستبداد وآلهة الملك. هذا ما أراه في هذا الباب واللَّه أعلم بالصواب".

_ (1) قال: نريد بالخوض هنا معناه اللغوي وهو من قولهم: خاض الماء أي تغلغل فيه. فإذا كان مراد القائلين بحرمة الخوض في أخبار الصحابة هذا التغلغل فلا نسلم لهم بحرمته وإذا كان مرادهم به المعنى المجاز كالخوض في الباطل ونحوه فهذا ما لا ننكره عليهم بل هو مما نقول ونسلم به وأنا أريد الخوض هنا بالمعنى الأول. فليتنبه له.

- المدافعون عن عثمان: قد أبدينا رأينا في سياسة عثمان رضي اللَّه عنه، وذكرنا في مواطن شتى أسباب الفتنة، وما استوجب غضب الناس عليه وقتئذٍ، كما أننا ذكرنا ردَّه على منتقديه، لكنه رضي اللَّه عنه عاد فتاب في خطبة له، وإن كان لم يغيّر سياسته بسبب تسلط أقاربه عليه، غير أن بعض المؤلفين تعرَّضوا لأسباب النقمة وفنَّدوها واحدة واحدة، ومعنى ذلك أن الأمة الإسلامية في ذلك الوقت وقد أجمعت تقريباً عدا أقاربه على نقد خطته السياسية كانوا على خطأ، مع العلم بأن كبار الصحابة كانوا لا يرون رأيه وينقدون سياسته ونصحوا مراراً بالإقلاع عنها، فالدفاع عنه وتبرئته من كل خطأ أدى إلى هذه الكارثة التي أعقبتها كوارث مناقض لرأي الصحابة ولتوبته الأخيرة. وليس يتضح الحق بمثل هذا الدفاع، وقد نقل الأستاذ فريد وجدي بعض ما كتبه أبو بكر محمد بن يحيى الأشعري في كتابه "التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان" دفاعاً عنه فليراجعه من أراد التفصيل والكتاب موجود بدار الكتب المصرية. ولا يفوتنا في هذا المقام أن نأتي على ذكر مثال مما ردَّ به أبو جعفر أحمد، الشهير بالمحب الطبري، صاحب كتاب "الرياض النضرة في مناقب العشرة" قال: الأول: ما نقموا عليه من عزله جمعاً من الصحابة، منهم أبو موسى عزله عن البصرة وولاها عبد اللَّه بن عامر. ومنهم عمرو بن العاص عزله عن مصر وولاها عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح، وكان ارتد في حياة النبي صلى اللَّه عليه وسلم ولحق بالمشركين، فأهدر النبي صلى اللَّه عليه وسلم دمه بعد الفتح إلى -[202]- أن أخذ له عثمان الأمان، ثم أسلم. ومنهم عمار بن ياسر عزله عن الكوفة، ومنهم المغيرة بن شعبة عزله عن الكوفة أيضاً، ومنهم عبد اللَّه بن مسعود عزله عن الكوفة أيضاً وأشخصه إلى المدينة. الجواب: أما القضية الأولى وهي عزل من عزله من الصحابة فإليك التفصيل: أما أبو موسى فكان عذره في عزله أوضح من أن يذكر فإنه لو لم يعزله اضطربت البصرة والكوفة وأعمالهما للاختلاف الواقع بين جند البلدين. وقصته: أنه كتب إلى عمر في أيامه يسأله المدد فأمده بجند الكوفة، فأمرهم أبو موسى قبل قدومهم عليه برامهرمز فذهبوا إليها وفتحوها، وسبوا نساءها وذراريها، فحمدهم على ذلك، وكره نسبة الفتح إلى جند الكوفة دون جند البصرة فقال لهم: إني كنت أعطيتهم الأمان وأجلتهم ستة أشهر فردوا عليهم، فوقع الخلاف في ذلك بين الجندين وكتبوا إلى عمر فكتب عمر إلى صلحاء جند أبي موسى، مثل البراء وحذيفة وعمران بن حصين وأنس بن مالك وسعيد بن عمرو الأنصاري وأمثالهم وأمرهم أن يستحلفوا أبا موسى، فإن حلف أنه أعطاهم الأمان وأجلهم ردوا عليهم فاستحلفوه فحلف ورد السبي عليهم وانتظر لهم أجلهم وبقي الجند حانقين على أبي موسى، ثم رفع على أبي موسى إلى عمر وقيل له: لو أعطاهم الأمان لعلم ذلك، فأشخصه عمر وسأله عن يمينه فقال: ما حلفت إلا على حق. قال: فَلِمَ أمرت الجند حتى فعلوا ما فعلوا وقد وكلنا أمرك في يمينك إلى اللَّه تعالى، فارجع إلى عملك. فليس نجد الآن من يقوم مقامك، ولعلنا إن وجدنا من يكفينا عملك وليناه. فلما مضى عمر لسبيله وولى عثمان شكا جند البصرة شح أبي موسى، وشكا جند الكوفة ما نقموا عليه، فخشي عثمان ممالأة الفريقين على أبي موسى فعزله عن البصرة، وولاَّها أكرم الفتيان عبد اللَّه بن عامر بن كريز وكان من سادات قريش وهو الذي سقاه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ريقه حين حُمِلَ إليه طفلاً في مهده. وأما عمرو بن العاص فإنما عزله، لأن أهل مصر أكثروا شكايته، وكان عمر قبل ذلك عزله لشيء بلغه عنه، ثم لما ظهرت توبته ردَّه، كذلك عزله عثمان لشكاية رعيته، كيف والرافضة يزعمون أن عمراً كان منافقاً في الإسلام، وعلى زعمهم فقد أصاب عثمان في عزله، فكيف يعترضون على عثمان بما هو مصيب فيه عندهم؟. وأما تولية عبد اللَّه فمن حسن النظر عنده، لأنه تاب وأصلح عمله، وكانت له فيما ولاَّه آثار محمودة، فإنه فتح من تلك النواحي طائفة كبيرة حتى انتهى في إغارته إلى الجزائر التي في بحر بلاد الغرب وحصَّل في فتوحه ألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار سوى ما غنمه من صنوف الأموال، وبعث بالخمس منها إلى عثمان، وفرَّق الباقي في جنده، وكان في جنده جماعة من الصحابة ومن أولادهم، كعقبة بن عامر الجهني، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص قاتلوا تحت رايته، وأدُّوا طاعته، ووجدوه أقدر على سياسة الأمر من عمرو بن -[203]- العاص، ثم أبان عن حسن رأي في نفسه عند وقوع الفتنة فإنه حين قتل عثمان اعتزل الفريقين، ولم يشهد مشهداً، ولم يقاتل أحداً بعد قتال المشركين. وأما عمار بن ياسر فأخطؤوا في ظن عزله، فإنه لم يعزله وإنما عزله عمر. كان أهل الكوفة قد شكوه، فقال عمر: من يعذرني من أهل الكوفة، إن استعملت عليهم تقياً استضعفوه، وإن استعملت عليهم قوياً فجروه، ثم عزله وولَّى المغيرة بن شعبة، فلما ولِيَ عثمان شكوا المغيرة إليه، وذكروا أنه ارتشى في بعض أموره، فلما رأى ما وقرَّ عندهم منه استصوب عزله عنهم، ولو كانوا مفترين عليه. والعجب من هؤلاء الرافضة كيف ينقمون على عثمان عزل المغيرة وهم يكفرون المغيرة على أنا نقول: ما زال ولاة الأمر قبله وبعده يعزلون من أعمالهم من رأوا عزله ويولون من رأوا توليته بحسب ما تقتضيه أنظارهم. عزل عمر خالد بن الوليد عن الشام وولى أبا عبيدة، وعزل عماراً عن الكوفة وولاَّها المغيرة بن شعبة، وعزل علي قيس بن سعد عن مصر وولاَّها الأشتر النخعي. ألا ترى إلى معاوية وكان مما ولى عمر لما ضبط الجزيرة وفتح البلاد إلى حدود الروم وفتح جزيرة قبرس وغنم منها مائة ألف رأس سوى ما غنم من البياض وأصناف المال وحمدت سيرته وسراياه أقره على ولايته. وأما ابن مسعود فسيأتي الاعتذار عنه فيما بعد. هذا جواب المحب الطبري معتذراً عن عثمان في المسألة الأولى التي ذكرها. ونحن نقول: إن الخليفة له أن يعزل من شاء من الولاة ممن يرتكبون وزراً، أو يشك في سيرتهم، ويعين من يثق بهم، لكنهم نقموا على عثمان أنه كان يراعي أقاربه، ويخصهم بالولاية، ويتسامح معهم. وإن الفتنة لم تنشأ عن شكوى خاصة بل عن عدة أمور كانت في مجموعها سبباً في السخط العام. فعبد اللَّه بن عامر الذي ولاَّه عثمان البصرة مكان أبي موسى كان ابن خاله، وكان عمره خمساً وعشرين عاماً وقتئذٍ مع اعترافنا بفتوحه وشجاعته، وولى مصر عبد اللَّه بن سعد ابن أبي سرح وهو أخوه من الرضاعة، وكان كاتب الوحي، ثم ارتد مشركاً، وأهدر رسول اللَّه دمه إلى أن أخذ عثمان له الأمان. نعم إنه فتح شمال إفريقية لكن عمراً المعزول عن ولاية مصر، والذي له الفضل في فتحها قد أغضبه أن يعزل فوجد مجالاً للطعن على الوالي الجديد من هاتين الناحيتين وغيرهما، وظل ناقماً طاعناً على عثمان إلى النهاية، ولا يخفى أن عمراً كان داهية في وسعه توسيع دائرة الفتنة. أما عبد اللَّه بن مسعود الذي عزله عثمان عن الكوفة، فقد كان سيَّره عمر بن الخطاب إلى الكوفة وكتب إلى أهلها: "إني قد بعثت عمار بن ياسر أميراً، وعبد اللَّه بن مسعود معلماً ووزيراً، وهما من النجباء من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من أهل بدر فاقتدوا بهما وأطيعوا واسمعوا قولهما، -[204]- وقد آثرتكم بعبد اللَّه على نفسي". فهذه هي شهادة عمر في عمار بن ياسر وعبد اللَّه بن مسعود. وعمر لا يحابي أحداً ولا يقول غير الحق. فعزل عبد اللَّه بن مسعود أحدث استياء لما له من العلم والفضل وعن زيد بن وهب قال: لما بعث عثمان إلى عبد اللَّه بن مسعود يأمره بالقدوم عليه بالمدينة وكان بالكوفة اجتمع الناس عليه فقالوا: أقم ونحن معك نمنعك أن يصل إليك شيء تكرهه. فقال عبد اللَّه: إن له عليّ حق الطاعة، وإنها ستكون أمور وفتن فلا أحب أن أكون أوّل من فتحها، فرد الناس وخرج إليه. قال المحب الطبري: "الثاني: ما ادعوا عليه من الإسراف في بيت المال وذلك بأمور منها أن الحكم بن العاص لما ردَّه من الطائف إلى المدينة، وقد كان طرده النبي صلى اللَّه عليه وسلم وصله من بيت المال بمائة ألف درهم وجعل لابنه الحارث سوق المدينة يأخذ منها عشور ما يباع فيها. ومنها أنه وهب لمروان خمس أفريقية. ومنها أن عبد اللَّه بن خالد بن أسد بن أبي العاص بن أمية قدم عليه فوصله بثلاثمائة ألف درهم. ومنها ما رواه أبو موسى قال: كنت إذا أتيت عمر بالمال والحلية من الذهب والفضة، لم يلبث أن يقسم بين المسلمين حتى لا يبقى منه شيء. فلما ولي عثمان أتيت به فكان يبعث به إلى نسائه وبناته. فلما رأيت ذلك أرسلت دمعي وبكيت. فقال لي: ما يبكيك؟ فذكرت له صنيعه وصنيع عمر. فقال: رحم اللَّه عمر كان حسنة وأنا حسنة ولكلٍ ما اكتسب. قال أبو موسى: إن عمر كان ينزع الدرهم الفرد من الصبي من أولاده فيردّه في مال اللَّه ويقسّمه بين المسلمين، فأراك قد أعطيت إحدى بناتك مجمراً (1) من الذهب مكللاً باللؤلؤ والياقوت، وأعطيت الأخرى درتين لا يعرف كم قيمتهما. فقال: إن عمر عمل برأيه ولا يألو عن الخير، وأنا أعمل برأيي ولا آلو عن الخير. وقد أوصاني اللَّه تعالى بذوي قراباتي، وأنا مستوصٍ بهم وأبرّ برّهم. ومنها ما قالوا إنه أنفق أكثر بيت المال في ضياعه ودوره التي اتخذها لنفسه ولأولاده. وكان عبد اللَّه بن أرقم ومعيقيب على بيت المال في زمن عمر فلما رأيا ذلك استعفيا فعزلهما، وولاَّه زيد بن ثابت وجعل المفاتيح بيده. فقال له يوماً: قد فضل في بيت المال فضلة خذها لك، فأخذها زيد فكانت أكثر من مائة ألف درهم". "وأما القصة الثانية فهو ما ادعوه من إسرافه في بيت المال فأكثر ما نقلوه عنه مفترى عليه ومختلق وما صحَّ منه فعذره فيه واضح. وأما ردّه الحكم إلى المدينة فقد ذكر رضي اللَّه عنه أنه كان استأذن النبي صلى اللَّه عليه وسلم في ردّه إلى المدينة فوعده بذلك. فلما ولى أبو بكر سأله عثمان ذلك فقال: كيف أرده إليها وقد نفاه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. فقال له عثمان ذلك. فقال له: إني لم أسمعه يقول لك ذلك، ولم -[205]- تكن مع عثمان بينة على ذلك، فلما ولي عمر سأله ذلك فأبى، ولم يريا الحُكم بقول الواحد، فلما ولى قضى بعلمه، وهو قول أكثر الفقهاء، وهو مذهب عثمان، وهذا بعد أن تاب الحكم عما كان طرده لأجله، وإعانة التائب مما تحمد. وأما صلته من بيت المال بمائة ألف، فلم تصح، وإنما الذي صح أنه زوَّج ابنه من ابنة الحارث بن الحكم، وبذل لها من مال نفسه مائة ألف درهم، وكان رضي اللَّه عنه ذا ثروة في الجاهلية والإسلام، وكذلك زوَّج ابنته أم أبان من ابن مروان بن الحكم، وجهَّزها من خاص ماله بمائة ألف لا من بيت المال، وهذه صلة رحم يحمد عليها. وأما طعنهم على عثمان أنه وهب خمس أفريقية من مروان بن الحكم فهو غلط منهم، وإنما المشهور في القضية أن عثمان كان جهز ابن أبي سرح أميراً على آلاف من الجند، وحضر القتال بأفريقية. فلما غنم المسلمون أخرج ابن أبي سرح الخمس من الذهب وهو خمسمائة ألف دينار فأنفذها إلى عثمان، وبقي من الخمس أصناف من الأثاث والمواشي مما يشق حمله إلى المدينة فاشتراها مروان منه بمائة ألف درهم، نقد أكثرها وبقيت منها بقية، ووصل عثمان مبشراً بفتح أفريقية وكانت قلوب المسلمين مشغولة خائفة أن يصيب المسلمين من أفريقية نكبة، فوهب له عثمان م

- رأي الأستاذ المرحوم محمد الخضري بك ومناقشته: كتب الأستاذ محمد الخضري بك (1) : "وكل ما نقموه عليه يعني على عثمان أمر لا حرج على الإمام فعلها، منها توليته أقاربه وليس في هذا أدنى عيب، لأن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ولَّى علياً وهو ابن عمه. ولو كانت تولية القريب عيباً لنهى عنها عليه السلام ولم يفعلها. ومع ذلك فالإسلام سوَّى بين الناس لا قريب عنده ولا بعيد. فالأمر موكول لرأي الإمام الذي ألقيت إليه مقاليد الأمة، فإن ولَّى من حاد عن الدين شكونا إليه، فإن لم يقبل صبرنا كما أمر بذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، لأن شق عصا الجماعة من مصائب الأمم التي تسرع إليها الخراب وليس في الشرع ما يبيح خلع الإمام إلا كفره الصراح". هذا هو رأي الأستاذ الخضري بك رحمه اللَّه في كتابه المشار إليه فهو ممن يبررون عمل عثمان ويرون أنه اتبع الشرع والسنة. وإنا نقول: إن تولية عثمان أقاربه أحدثت سخطاً عامَّاً، وأخذ السخط يتسع على مرِّ الأيام، وكان في وسعه تجنب ذلك، لكنه رضي اللَّه عنه كان يتوب ويعد بعزلهم، ثم لا يفعل شيئاً. إن عثمان إذاً كان يريد مساعدة أهله وأقاربه برَّاً بهم، فقد كان هناك وسائل غير توليتهم الأمصار الكبيرة التي يشترط فيمن يتولاها الكفاية وحسن السمعة ونقاء الماضي، وكان كثير من الصحابة كما قدمنا حائزين لهذه الصفات والمؤهلات، ومع ذلك ضرب عنهم صفحاً ولم يسند هذه المراكز وقد قيل: من الحكمة وضع الأشياء في مواضعها. فلما ولَّى أقاربه اعترض الناس بطبيعة الحال وامتعضوا ورموه بأنه لم يراع المصلحة العامة، بل راعى أقاربه وقدمهم في الوظائف الكبيرة على من هم أهل لذلك ممن يجلهم ويحترمهم الجمهور، وكان بين هؤلاء الأقارب المتهم في دينه وتقواه. ثم إنه عزل من سبق له الفضل في الفتح لإحلال القريب محله. وإذا كان الإسلام سوَّى بين الناس لا قريب عنده ولا بعيد فكان الواجب إذن يقضي على الخليفة باختيار من يصلح لا إيثار القريب لقرابته بغض الطرف عن المصلحة العامة التي هي فوق كل مصلحة -[208]-. نعم إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لم يَنه عن تولية القريب لكن على أن يكون هذا القريب شخصاً ممتازاً حكيماً. وهذا ما فعله رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فإنه باعتراف جميع المؤرخين من عرب وعجم لم يخطئ في تولية أحد القيادة، أو الحكم، فكان عارفاً بأقدار الرجال. وكان عمر رضي اللَّه عنه إذا تبين له أنه لم يوفق في تولية أحد وظهر فيما بعد ضعفه، أو عجزه، أو ارتكب أمراً شائناً عزله في الحال وولى غيره، كي تنتظم الأمور ويقام العدل وتهاب الرعية الوالي. لكن عثمان رضي اللَّه عنه بالرغم من سخط الناس من ولاته واعتراض كبار الصحابة المشهورين بأصالة الرأي وبعد النظر والتقوى ظل متمسكاً بهم إلى النهاية حتى قتل، ولم يعزل غير سعيد بن العاص بعد أن بلغت الفتنة أشدها في الكوفة. كاتب الناس بعضهم بعضاً في الأمصار، وتبادلوا الرسائل التي تطعن على عثمان وعلى ولاة عثمان، وأخيراً قامت الثورة، وكان جمهور المسلمين قسمين: ثائراً يريد عزل الخليفة، فإن لم يعتزل يقتل، وقسماً غير راضٍ عن سياسته، ويودُّ أن يعتزل حسماً للنزاع وقمعاً للفتنة، لكنه التزم الحياد ولم يبق في صف عثمان غير أهله وأقاربه، حتى قيل: إن عبد الرحمن بن عوف وهو صهره ندم على اختياره خليفة، بل وزاد على ذلك أنه نقض بعض ما عمله عثمان. فقد جاء في الطبري أن إبلاً من إبل الصدقة جيء بها على عثمان فوهبها لبعض ولد الحكم ابن أبي العاص فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف فأخذها وقسَّمها بين الناس وعثمان في داره. وعلى ذلك كان السواد الأعظم في ذلك إما ناقماً عليه أو غير راضٍ عن خطئه، ولولا ذلك لوجد عثمان من يدافع عنه ويصدّ عنه غارة طائفة خرجت عليه، ولفدوه بأرواحهم بل لما نهض من كل مصر جيش يطالب بخلعه. نعم إن عبد اللَّه بن سبأ كان عاملاً قوياً في نشر الفتنة، لكن عبد اللَّه هذا لم يقدم على نشر دعايته الواسعة النطاق إلا لما علم أن الناس يستمعون له، وأن النفوس مستعدة لقبول كلامه. ولو تصوَّرنا أن عثمان لم يكن يعلم اتجاه الرأي العام ضده لكان معذوراً لكن حصره أربعين أو خمسين يوماً لا يؤيد ذلك، بل الثابت أنه أيقن أخيراً بخطورة الحال لما طال الحصر وأحرقوا بابه وألقوا النار في منزله ومنعوا عنه الماء. إلا أن قتله كان جرماً شنيعاً وخطباً مريعاً، فإن القتلة قد استعجلوا القدر وكان قد بلغ سن الشيخوخة وضعفت قواه، وعلى كل حال لم يبرر أحد قتله، بل عدَّه عقلاء الأمة نكبة عليها وفاتحة للخلاف والانقسام. وقال الخضري بك (2) : "فقد كانوا يعيبون معاوية، وهذا لم يوجده عثمان، بل ولاَّه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وولاَّه أبو بكر، وولاَّه عمر، ولم نرَ من العمال من استمر موثوقاً به من عمر في حياته كلها إلا أفراداً قلائل منهم -[209]- معاوية بن أبي سفيان، فقد كان والياً من أول حياة عمر إلى آخرها، وكانت الشام أعدل ولايات المسلمين وأهدأها". وإنا نجد الجواب على ذلك في ردِّ عليّ رضي اللَّه عنه حين قال له عثمان: "هل تعلم أن عمر ولَّى معاوية خلافته كلها؟. فقد وليته". فأجابه عليٌّ: "أنشدك اللَّه! هل تعلم أن معاوية كان أخوف من عمر من يرفأ غلام عمر منه؟ قال: نعم. قال عليٌّ: فإن معاوية يقطع الأمور دونك وأنت تعلمها، فيقول للناس: هذا أمر عثمان فيبلغك، ولا تُغَيِّر على معاوية". فسكت ولم يجب. فمعاوية ما كان يستطيع أن يقطع أمراً وينسبه إلى الخليفة في زمن عمر، لأنه كان يخشاه، كما كان يخشى غلام عمر، لكنه في زمن عثمان كان يفعل ما يشاء لاطمئنانه إليه، فإن اعترض عليه معترض ادَّعى أن ذلك بأمر الخليفة، وكان عثمان إذا بلغه ذلك لم يؤاخذه. فالقول بأن معاوية ولاَّه عمر وأقرَّه طول حياته لا يبرر أعمال معاوية زمن عثمان.

_ (1) محمد الخضري بك، إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء. (2) محمد الخضري بك، تاريخ الأمم الإسلامية" ص 395.

- ما رثي به عثمان من الأشعار (1) : قال حسان بن ثابت (2) شاعر النبي صلى اللَّه عليه وسلم يمدح عثمان ويبكيه ويهجو قاتله: أتركتمُ غزوَ الدروبِ وراءَكُمْ ... وغزوتُمُونَا عندَ قبرِ محمدٍ فلبئسَ هَدْى المُسلمينَ هَديتُم ... ولبئسَ أمرُ الفاجرِ المُتعمِدِ أَنْ تُقدِمُوا نَجعلْ قُرَى سِرَواتِكُم ... حَولَ المدينةِ كُلَّ ليَّن مَذُود (3) أو تُدبروا فلبئسَ ما سَافَرتُم ... ولمثلِ أَمرِ أَميرِكُمْ لَم يَرَشُد وكأنَّ أَصحابَ النَّبيِ عشيةً ... بُدُنٌ تذبّح عندِ بابِ المَسْجدِ أَبكِي أَبَا عَمْروٍ لِحُسن بَلائِهِ ... أَمْسَى مُقِيماً (4) فِي بَقِيعِ الغَرْقَدِ وقال (5) : إن تمس دار ابن أروَى منه خاويةٌ (6) ... باب صريعٌ وباب محرقٌ خرب (7) -[210]- قد يصادف باغي الخير حاجَتَه ... فيها ويهوى إليها الذكر والحسب يا أيها الناس أبدوا ذات أنفسكم ... لا يستوي الصدق عند اللَّه والكذب قوموا بحق مليك الناس تعترفوا ... بغارة عُصُبٍ من خلفها عصبُ فيهم خبيث شهاب الموت يقدمهم ... مستلئماً قد بدا في وجهه الغضب وقال أيضاً (8) : من سرَّهُ الموتُ صَرْفاً لاَ مِزَاجَ لهُ ... فليأتِ مَأسَدَةً في دارِ عُثْمَانَا مُسْتَشْعِرِي حلقٍ الماذيَّ قد شفعتْ ... قبلَ المَخَاطمِ بِيضٌ زَانَ أَبدانا صبراً فِدىَّ لكم أمي وما ولدت ... قد ينفع الصبرُ في المكروهِ أحيانا فقد (9) رضينا بأهل الشأم نافرة ... وبالأمير وبالإخوان إخوانا إني لمنهم وإن غابوا وإن شهدوا ... ما دمت حيَّاً وما سميت حسانا لتسمعُن وشيكا في ديارهم ... اللَّه أكبر يا ثارات عثمانا يا ليت شعري وليت الطيرَ تخبرني ... ما كان شأن عليٍ وابن عفانا وقال كعب بن مالك الأنصاري: يا للرجال لِلُبّك المخطوف ... ولدمعك المترقرق المنزوف ويح لأمر قد أتاني رائع ... هدَّ الجبال فانقضت برجوف قتلُ الخليفة كان أمراً مفظعاً ... قامت لذاك بليّة التخويف قتل الإمام له النجوم خواضع ... والشمس بازغة له بكسوف يا لهف نفسي إذ تولّوا غدوة ... بالنعش فوق عوائق وكتوف ولوا وأدلوا في الضريح أخاهم ... ماذا أجنّ ضريحه المسقوف من نائل أو سؤدد وحمالة ... سبقت له في الناس أو معروف كم من يتيم كان يجبر عظمه ... أمسى بمنزله الضياعُ يطوف ما زال يقبلهم ويرأب ظلمهم ... حتى سمعت برنة التلهيف أمسى مقيماً بالبقيع وأصبحوا ... متفرقين قد أجمعوا بخفوف النار موعدهم بقتل إمامهم ... عثمان ظهراً في التلاد عفيف جمع الحمالة بعد حلم راجح ... والخير فيه مبيّن معروف -[211]- يا كعب لا تنفك تبكي مالكاً ... ما دمت حيّاً في البلاد تطوف فأبكي أبا عمرو عتيقاً واصلاً ... ولواءهم إذ كان غيرَ سخيف وليبكه عند الحفاظ معظِّم ... والخيل بين مقانبٍ وصفوف قتلوك يا عثمان غير مدنس ... قتلا لعمرك واقفاً بسقيف وقال أيضاً: فكفَّ يديه ثم أغلق بابه ... وأيقن أن اللَّه ليس بغافل وقال لأهل الدار لا تقتلوهم ... عفا اللَّه عن كل امرئ لم يقتل فكيف رأيت اللَّه صب عليهم الـ ... ـعداوة (العداوة) والبغضاء بعد التواصل وكيف رأيت الخير أدبر بعده ... عن الناس إدبار الرياح الحوافل وقال الحباب بن يزيد المجاشعيّ عم الفرزدق: لعمرُ أبيك فلا تجزعن ... لقد ذهب الخير إلا قليلا لقد سفه الناس في دينهم ... وخلّى ابن عفان شرّاً طويلا أعاذلَ كلُّ امرئ هالكٌ ... فسيروا إلى اللَّه سيراً جميلا وقال القاسم بن أمية بن أبي الصلت: لعمري لبئس الذِّبح ضحيتم به ... وخنتم رسول اللَّه في قتل صاحبه وقالت زينب بنت العوام: وعطشتم عثمان في جوف داره ... شربتم كشرب الهيم شرب حميم فكيف بنا أم كيف بالنوم بعد ما ... أصيب ابن أروى وابن أم حكيم وقالت ليلى الأخيلية: قتل ابن عفان الإمام ... وضاع أمر المسلمينا وتشتتت سبل الرشا ... د لصادرين وواردينا فانهض معاوي نهضة ... تشفي بها الداء الدفينا وقال أيمن بن خزيمة: ضحوا بعثمان في الشهر الحرام ضحى ... وأي ذِبح حرام وَيحْهم ذبحوا -[212]- وأي سنة كفر سن أولهم ... وباب شر على سلطانهم فتحوا ماذا أرادوا أضل اللَّه سعيهم ... بسفك ذاك الدم الزاكي الذي سفحوا وقال الوليد بن عقبة: ألا مَن لليل لا تغور كواكبُهْ ... إذا لاح نجم لاح نجم يراقبَه بني هاشم ردوا سلاح ابن أختكم ... ولا تهبوه لا تحل مناهبه بني هاشم لا تعجلوا بإقادة ... سواء علينا قاتلوه وسالبه فقد يجبر العظم الكسير وينبري ... لذي الحق يوماً حقه فيطالبه وإنا وإياكم وما كان منكم ... كصدع الصفا لا يرأب الصدع شاعبه بني هاشم كيف التعاقد بيننا ... وعند عليٍ سيفه وجرائبه لعمرك ما أنسى ابن أروى وقتله ... وهل يَنسَيَن الماء ما عاش شاربه همو قتلوه كي يكونوا مكانه ... كما غدرت يوماً بكسرى مرازبه وإني لمجتاب إليكم بجحفلٍ ... يصم السميعَ جرسُه وجلائبه وقال الوليد يرثي عثمان ويحرض معاوية على الأخذ بثأره: واللَّه ما هند بأمك إن مضى النهـ ... ـار (النهار) ولم يثأر بعثمان ثائر أيقتلُ عبدُ القوم سيدَ أهله ... ولم يقتلوه ليت أمك عاقر وإنا متى نقتلهم لا يقد بهم ... مقيد فقد دارت عليك الدوائر وقال أيمن بن خُريم بن فاتك الأسدي وكان عثمانيّاً: تعاقد الذابحو عثمان ضاحية ... فأيّ ذبح حرام ويحهم ذبحوا ضحوا بعثمان في الشهر الحرام ولم ... يخشوا على مطمح الكفر الذي طمحوا

_ (1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 694، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 76. (2) ديوان حسان بن ثابت ص 101. (3) ورد في ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 76: "كلٌ لَدْنٍ" (4) ورد في ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 76: "أحسى ضحيعاً". (5) ديوان حسان بن ثابت ص 22. (6) ورد في ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 77: "اليوم خاوية" (7) ابن كثير، البداية والنهاية ج 7/ص 196 197. (8) ديوان حسان بن ثابت صفحة 409 410. (9) ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 77: "لقد".

- خطبة ابنته عائشة بعد قتله: قالت بعد أن حمدت اللَّه وأثنت عليه: يا ثارات عثمان إنا للَّه وإنا إليه راجعون. أفنيتْ نفسه. وطُل دمه في حرم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. ومنع من دفنه. اللَّهم ولو يشاء لامتنع ووجد من اللَّه عز وجل حاكماً. ومن المسلمين ناصراً. ومن المهاجرين شاهداً. حتى يفيء إلى الحق من سدِر عنه أو تطيح هامات وتُفرى غلاصم. وتخاض دماء، ولكن استوحشَ مما أنستم به. واستوخم -[213]- ما استمرأتموه. يا من استحل حرم اللَّه ورسوله واستباح حماه. لقد كره عثمان ما أقدمتم عليه. ولقد نقمتم عليه أقل مما أتيتم إليه. فراجع فلم تراجعوه. واستقال فلم تقيلوه. رحمة اللَّه عليك يا أبتاه احتسبت نفسك. وصبرت لأمر ربك حتى لحقت به. وهؤلاء الآن قد ظهر منهم تراوض الباطل، وإذكاء الشنآن، وكوامن الأحقاد، وإدراك الإحن والأوتار. وبذلك وشيكاً كان كيدهم، وتبغيهم، وسعى بعضهم ببعض. فما أقالوا عائراً. ولا استعتبوا مذنباً، حتى اتخذوا ذلك سبباً إلى سفك الدماء. وإباحة الحمى. وجعلوا سبيلاً إلى البأساء والعنت. فهل أعلنت كلمتكم وظهرت حسكتكم إذ ابن الخطاب قائم على رؤوسكم. مائل في عرصاتكم يرعد ويبرق بإرعابكم. يقمعكم غير حذر من تراجعكم الأمانيّ بينكم وهلا نقمتم عليه عوداً وبدءاً، إذ ملك ويملّك عليكم من ليس منكم بالخلق اللين والجسم الفصيل. يسعى عليكم وينصب لكم. لا تنكرون ذلك منه خوفاً من سطوته وحذراً من شدته. وأن يهتف مقسوراً أو يصرخ بكم معذوراً. إن قال صدقتم قالته. وإن سأل بذلتم سألته، يحكم في رقابكم وأموالكم كأنكم عجائز صلع وإماء قصع، فبدأ مفلتاً لابن أبي قحافة بإرث نبيكم على بعد رحمه، وضيق يده، وقلة عدده. فوقى اللَّه شرها، زعم للَّه درّه ما أعرفه ما صنع أو لم يخصم الأنصار بقيس، ثم حكم بالطاعة لمولى أبي حذافة، يتمايل بكم يميناً وشمالاً. قد خطب عقولكم، واستمهر وجلكم، ممتحناً لكم، ومعترفاً أخطاركم، وهل تسمو هممكم إلى منازعة. ولولا تيك لكان قسمه خسيساً، وسميه تعيساً. لكن بدأ بالرأي، وثنَّى بالقضاء، وثلث بالشورى، ثم غدا سامراً مُسلطاً درته على عاتقه، فتطأطأتم له تطأطؤ الحِقة. ووليتموه أدباركم حتى علا أكتافكم. فلم يزل ينعق بكم في كل مرتع، ويشدد منكم على كل مخنقٍ، ويتورط بالحوباء. عرفتم أو نكرتم لا تألمون ولا تستنطقون. حتى إذا عاد الأمر فيكم، ولكم، وإليكم، في مونِقَةٍ من العيش عرقها وشيج، وفرعها عميم، وظلها ظليل. تتناولون من كثب ثمارها أنَّى شئتم رغداً، وجلبت عليكم عشارُ الأرض درراً، واستمرأتم أكلكم من فوقكم ومن تحت أرجلكم من خصب غدق وامق شرق. تنامون في الخفض، وتستلينون الدَّعة. ومقتَّم زبرجة الدنيا وحرجتها. واستحليتم غضارتها ونضرتها. وظننتم أن ذلك سيأتيكم من كثب عفواً. ويتحلب عليكم رسلاً، فانتضيتم سيوفكم، وكسرتم جفونكم. وقد أبى اللَّه أن تُشام سيوف جُردت بغياً وظلماً، ونسبتم قول اللَّه عز وجل: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذَا مَسُّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} [المعارج: 19 21] فلا يهنئكم الظفر. ولا يستوطن بكم الظلم إلا على رجلين، ولا ترن القوس إلا على سيتين، فأثبتوا على الغرز أرجلكم، فقد ضللتم هداكم في المتيهة الخرقاء، كما أضل أدحية الحل. وسيعلم كيف تكون إذا كان الناس عباديد. وقد نازعتكم الرجال، واعترضت عليكم الأمور، وساورتكم الحروب بالليوث، وقارعتكم الأيام بالجيوش، وحمى عليكم الوطيس. فيوماً تدعون من لا يجيب ويوماً تجيبون من لا يدعو. وقد بسط باسطكم كلتا يديه يرى -[214]- أنهما في سبيل اللَّه، فيد مقبوضة وأخرى مقصورة، والرؤوس تنزو عن الطلي والكواهل، كما ينقف التنوم. فما أبعد نصر اللَّه من الظالمين، وأستغفر اللَّه مع المستغفرين.

- خطبة زوجته نائلة بنت الفرافصة: قالت بعد أن حمدت اللَّه وأثنت عليه: عثمان ذو النورين قتل مظلوماً بينكم بعد الاعتذار وإن أعطاكم العتبى. معاشر المؤمنين وأهل الملِّة لا تستنكروا مقامي. ولا تستكثروا كلامي، فإني حرَّى عَبْرَى. رزئت جليلاً. وتذوقت ثكلاً من عثمان بن عفان. ثالث الأركان من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في الفضل، عند تراجع الناس في الشورى يوم الإرشاد. فكان الطيِّب المرتضى المختار، حتى لم يتقدمه متقدم، ولم يشك في فضله متأثم. ألقوا إليه الأزّمة، وخلوه والأمة حين عرفوا له حقه، وحمدوا مذهبه وصدقه. فكان واحدهم غير مدافع وخيرتهم غير منازع. لا ينكر له حسن الغَناء ولا عنه سماح النعماء. إذ وصل أجنحة المسلمين حين نهضوا إلى رؤوس أئمة الكفر حيث ركضوا فقلَّدوه الأمور. إذ لم يكن فيهم له نظير، فسلك بهم سبيل الهدى. وبالنبي وصاحبيه اقتدى. مخسئاً للشيطان إلى مداحره. مقصياً للعدوان إلى مزاجره. تنقشع منه الطواغيت، وتزايل عنه المصاليت. حتى امتدَّ له الدين. واتصل له السبيل المستقيم. ولحق الكفر بالأطراف، قليل الآلاف والأحلاف. فتركه حين لا خير في الإسلام في افتتاح البلاد. ولا رأي لأهله في تجهيز البعوث. فأقام يمدَّكم بالرأي. ويمنعكم بالأدنى. يصفح عن مسيئكم في إساءته. ويقبل من محسنكم بإحسانه. ويكافئكم بماله. ضعيف الانتصار منكم. قوي المعونة لكم. فاستلنتم عريكته حين منحكم محبته، وأجرركم أرسانكم. آمناً جرأتكم وعدوانكم. فأراكموه الحق إخواناً. وأراكموه الباطل شيطاناً في عقب سيرة من رأيتموه فظاً. وعددتموه غليظاً. فهدكم منه بالقمع. وطاعتكم إياه على الجدع. يعاملكم الحسبة. ويتخونكم بالضر. وكان اللَّه أعلم بآدابكم ومصالحكم. فللَّه هو كان قد نظر في ضمائركم، وعرف إعلانكم وسرائركم. فحين فقدكم سطوته وأمنتم بطشه، رأيتم أن الطرق قد انشعبت لكم. والسبل قد اتصلت بكم. ظننتم أن اللَّه يصلح عمل المفسدين. فعدوتم عدوة الأعداء. وشددتم شدة السفهاء على التقي النقي، الخفيف بكتاب اللَّه عز وجل لساناً. الثقيل عند اللَّه ميزاناً. فسفكتم دمه. وانتهكتم حرمه. واستحللتم منه الحُرَم الأربع: حرمة الإسلام، وحرمة الخلافة، وحرمة الشهر الحرام، وحرمة البلد الحرام. فليعلمنَّ الذين سعوا في أمره، ودبوا في قتله، ومنعونا من دفنه. اللَّهم إنه بئس للظالمين بدلاً، وأنهم شر مكاناً، وأضعف جنداً. لتتعبدنكم الشبهات. ولتفرقن بكم الطرقات. ولتفرقن بكم الطرقات، ولتذكرن بعدها عثمان. ولا عثمان. وكيف -[215]- يسخط اللَّه من بعده. وأين كنتم لعثمان ذي النورين منفس الكرب. زوج ابنتي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وصاحب المربد ورومة. هيهات واللَّه ما مثله بموجود. ولا مثل فعله بمعدود. يا هؤلاء إنكم في فتنة عمياء، صمّاء، طباق السماء. ممتدة الجران. شوهاء العيان في كثير من الأمر. قد توزع كل ذي حق حقه. ويئس من كل خير خيرُ أهله. فلهوات الشر فاغرة، وأنياب السوء كاشرة، وعيون الباطل خزْر، وأهلوه شزر، ولئن نكرتم أمر عثمان، وبشعتم الدَّعة لتنكرن غير ذلك من غيره، حين لا ينفعكم عتاب، ولا يسمع منكم استعتاب.

§1/1