ظاهرة التقاص في النحو العربي
دردير محمد أبو السعود
مدخل
مدْخل ... ظاَهِرة التقاَصّ فِي النَّحو العرَبيَّ للدكتور دردير مُحَمَّد أَبُو السُّعُود أستاذ مشارك بكلية اللُّغَة الْعَرَبيَّة بالجامعة التَّقاص أسلوب من أساليب الْعَرَب، وطرفة من طرفهم، وملحة من ملح كَلَامهم، فَهُوَ يكْسب التراكيب طلاوة وتبادلاً، وَالْقَوَاعِد دقة، وَالْقِيَاس شمولا، واتساعاً، واللغة مرونة وتداخلاً، وَالْكَلَام إِحَالَة وتبدلاً وَقد أَشَارَ إِلَيْهِ بعض النُّحَاة1 فِي مصنفاتهم، وَلم يتناولوه تنَاول شُمُول وإحاطة، وَلَكِن تعرضوا لَهُ تعرض إِيمَاء وَإِشَارَة. لذَلِك رَأَيْت أَن أعرض هَذِه الظَّاهِرَة عرضا يوقفنا عَلَيْهَا، ويجليها ويطلعنا على دورها فِي الأساليب، ويجدر بِنَا أَن نعرفها لُغَة وَاصْطِلَاحا ونستعين بِاللَّه تَعَالَى فَنَقُول: التَّقَاصّ لُغَة: مَأْخُوذ من القص، وَالْقصاص لُغَة فِيهِ، وَهُوَ الْقَتْل بِالْقَتْلِ، أَو الْجرْح بِالْجرْحِ، أَو الْقطع بِالْقطعِ. وفى الْقَامُوس2 قاصصته مقاصة وقصاصا إِذا كَانَ لَك عَلَيْهِ دين مثل مَا لَهُ عَلَيْك، فَجعلت الدّين فِي مُقَابلَة الدّين، مَأْخُوذ من اقتصاص الْأَثر، وَمثل ذَلِك الْمَعْنى فِي الْمِصْبَاح وَالْمُخْتَار. وَفِي اللِّسَان والتاج والمحكم3: التَّقَاصّ: هُوَ التناصف فِي الْقصاص. قَالَ الشَّاعِر: فرمنا الْقصاص وَكَانَ التَّقَاصّ ... حكما وعدلا على المسلمينا فالمادة تَدور حول معنى الْقطع والتتبع.
وَاصْطِلَاحا: هُوَ أَن تَأْخُذ الْكَلِمَة حكما من أُخْرَى أخذت مثله مِنْهَا تِلْكَ الْكَلِمَة الْأُخْرَى. وَبِعِبَارَة أُخْرَى: أَن تتبادل الكلمتان حكما خَاصّا بهما. بِمَعْنى أَن تُعْطِي كل مِنْهُمَا الْأُخْرَى حكما مُسَاوِيا لما أَخَذته مِنْهَا. وَقد تتأتى هَذِه الظَّاهِرَة بَين ألقاب الْإِعْرَاب، وفى إِبْدَال بعض الْحُرُوف من بعض، وَفِي زِيَادَة بعض الْحُرُوف.
أولا: تحقيقها بين ألقاب الإعراب
أَولا: تحقيقها بَين ألقاب الإِعراب: أما وُرُودهَا بَين ألقاب الْإِعْرَاب فقد تحقق بَين الْجَرّ وَالنّصب حَيْثُ جَاءَ الْجَرّ مَحْمُولا على النصب فِيمَا لَا ينْصَرف لشبهه بِالْفِعْلِ فِي وجود العلتين الفرعيتين أَو عِلّة تقوم مقامهما. كَمَا حمل النصب على الْجَرّ فِي جمع الْمُؤَنَّث السَّالِم، وفى التَّثْنِيَة، وَجمع الْمُذكر السَّالِم طلبا للمقاصة1. أما نصب جمع الْمُؤَنَّث بالكسرة فَهُوَ تَابع للجر إِجْرَاء للفرع على وتيرة الأَصْل الَّذِي هُوَ جمع الْمُذكر السَّالِم، فَإِن النصب فِيهِ تَابع للجر، لِأَنَّهُ لولم يحمل نَصبه على جَرّه للَزِمَ مزية الْفَرْع على الأَصْل2. وَأما نصب الْمثنى فقد جَاءَ بِالْيَاءِ حملا على الْجَرّ، لِأَنَّهُ يجر بِالْيَاءِ. وَأما حمل النصب على الْجَرّ فِي جمع الْمُذكر السَّالِم كَمَا فِي التَّثْنِيَة فلأنك لَو قلبت الْوَاو ألفا فِي النصب لأفضى ذَلِك إِلَى الالتباس بالمثنى الْمَرْفُوع3. وَإِنَّمَا حمل النصب على الْجَرّ دون الرّفْع، لوُجُود مُنَاسبَة بَينهمَا فِي وُقُوع كل مِنْهُمَا فضلَة فِي الْكَلَام4، وَلِأَنَّهُ يُشبههُ فِي الافتقار إِلَى الْعَامِل اللَّفْظِيّ5، وَلِأَن الفتحة إِلَى الكسرة أقرب من الضمة إِلَيْهَا فَحمل على الْأَقْرَب مِنْهُ6. وَقد علل أبوعلي الْفَارِسِي لهَذِهِ الظَّاهِرَة فِي هَذَا الْمقَام تعليلا حسنا حَيْثُ بَين أَن
مُوَافقَة الْجَرّ النصب فِيمَا لَا ينْصَرف، كموافقة النصب الْجَرّ فِي التَّثْنِيَة وَالْجمع فَلَيْسَ الِاتِّفَاق للْبِنَاء، وَإِنَّمَا هُوَ لِاجْتِمَاع النصب والجر فِي كَونهمَا فضلتين، وَفِي كَونهمَا كاملتين بعد اسْتِعْمَال الْجُمْلَة المتضمنة للْفِعْل، أَو معنى الْفِعْل بجزئيها اللَّذين هما الْحَدث والمحدث عَنهُ، وَمن ثمَّ اتفقَا أَيْضا فِي بَاب الضَّمِير1. وَمِمَّا يُقَوي هَذِه الظَّاهِرَة ويؤكد تحقيقها فِي هَذَا الْموضع وجود شبه بذهن عَلامَة كل من النصب والجر. فالفتحة تشبه الكسرة وَإِن اخْتلف موضعهَا. كَمَا أَن الْيَاء لَا يتَغَيَّر وَضعهَا سَوَاء أَكَانَت عَلامَة للجر، أم عَلامَة للنصب، وَإِن اخْتلفت حَرَكَة مَا قبلهَا وَمَا بعْدهَا فِي التَّثْنِيَة وَالْجمع.
ثانيا: في إبدال بعض الحروف من بعض
ثَانِيًا: فِي إِبْدَال بعض الْحُرُوف من بعض إِبْدَال الْهمزَة من الْهَاء ... ثَانِيًا: فِي إِبْدَال بعض الْحُرُوف من بعض: 1- إِبْدَال الْهمزَة من الْهَاء: من حُرُوف الْإِبْدَال القياسي الْهمزَة وَالْهَاء، لِأَنَّهُمَا من حُرُوف "هدأت موطيا" وهما يتبادلان الْإِبْدَال، بِمَعْنى أَن الْهَاء قد تبدل همزَة، كَمَا أَن الْهمزَة قد تبدل هَاء. فإبدال الْهمزَة من الْهَاء يكون فِي الِاسْم والحرف. فإبدالها من الْهَاء فِي الِاسْم جَاءَ فِي قَوْلهم: مَاء وَشاء2. وَالْأَصْل موه وشوه. قلبت الْوَاو ألفا، وأبدلت الْهمزَة هَاء. وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي الْجمع. قَالُوا فِي جمع مَاء: أمواء، وَالْأَصْل أمواه، وَإِذا ثَبت أَن أَصْلهَا هَاء، ثَبت أَن الْهمزَة مبدلة عَنْهَا قَالَ الشَّاعِر: وبلدة قالصة أمواؤها ... مَا صِحَة رأد الضُّحَى أفياؤها3 وَالدَّلِيل على أَن هَذِه الْهمزَة مبدلة من الْهَاء، رُجُوعهَا فِي التصغير والتكثير، قَالُوا فِي تَصْغِير مَاء مُوَيه، وَفِي جمعه مياه وأمواه. والتصغير والتكثير يردان الْأَشْيَاء إِلَى أُصُولهَا. وَقد أكد ابْن عُصْفُور إِبْدَال الْهمزَة من الْهَاء بقوله: "وَإِنَّمَا جعلت الْهَاء هِيَ الأَصْل،
لِأَن أَكثر تصاريف الْكَلِمَة عَلَيْهَا، قَالُوا: أمواه ومياه وماهت الرَّكية1. إِلَى غير ذَلِك من تصاريفها"2 وَكَذَلِكَ ورد إِبْدَال الْهمزَة من الْهَاء فِي قَوْلك: (آل) 3، وأصل آل: أهل فأبدلت الْهَاء همزَة فَقيل: أَأْل، ثمَّ أبدلت الثَّانِيَة ألفا لسكونها إِثْر فتح فَقيل: آل، كَمَا قَالُوا آدم وَآخر فِي الِاسْم، وآمن وآثر فِي الْفِعْل، وَالْأَصْل: أأْدم وأَأخر، وأَأمن وأَأَْثر. وَالدَّلِيل على أَن أصل آل: أهل قَول الْجَمَاعَة فِي التصغير: أُهَيْل، وَلَو كَانَت الْألف منقلبة عَن غير هَاء- أَي عَن وَاو- لقيل فِي تصغيره (أُوَيل) . وَقد اخْتَار هَذَا الرَّأْي يُونُس4. وَمِمَّا يُؤَكد أَن الْهمزَة فِي (آل) أَصْلهَا هَاء الْإِضَافَة إِلَى الضَّمِير، فقد قَالُوا أهلك وَأَهله كثيرا، لِأَن الضَّمِير يرد الْأَشْيَاء إِلَى أُصُولهَا. ولاَ يُقَال: آلك وَآله إِلَّا قَلِيلا، وَذَلِكَ مثل قَول عبد الْمطلب جد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وانصر على دين الصليـ ... ـب وعابديه الْيَوْم آلَكْ5 وَقَول الآخر: أَنا الرجل الحامي حَقِيقَة وَالِدي ... آلي كَمَا تَحْمِي حَقِيقَة آلكا6 وَنَحْو قَول الْكِنَانِي: "رجل من آلك وَلَيْسَ مِنْك "7. وَجَاء إِبْدَال الْهمزَة من الْهَاء- أَيْضا- فِي اسْم الْإِشَارَة حَيْثُ إِنَّهُم قَالُوا فِي هَذَا آذا. وَجَاء على ذَلِك قَول الشَّاعِر: فَقَالَ فريق: آأذا إِذْ نحوتهم ... نعم وفريق لَا يمُنُ الله مَا نَدْرِي8 أَرَادَ: أَهَذا، فقلبت الْهَاء همزَة، ثمَّ فصل بَين الهمزتين بِأَلف، وأبدلت كَذَلِك فِي غير اسْم الْإِشَارَة، مثل قَوْلهم: الْأَزَل والهزل، وَهُوَ مأزول ومهزول9. وَأما إبدالها فِي الْحَرْف فقد ورد فِي: هَلْ وهَلاَّ. فَقَالُوا: ألْ فعلت كَذَا؟ يُرِيدُونَ هَل
فعلت كَذَا؟ حكى ذَلِك قطرب1 عَن أبي عُبَيْدَة. وَقَالُوا: ألاَّ فعلت يُرِيدُونَ هلاَّ فعلت. والإبقاء على الأَصْل فِي (هَل) هُوَ الْأَكْثَر، بيد أَن الْهمزَة وَالْهَاء فِي ألاَّ وهلا سَوَاء. وَقد عدهما بعض النَّحْوِيين2 من حُرُوف التحضيض، كَمَا ذهب غَيرهمَا إِلَى أَنَّهُمَا مادتان مستقلتان3. فالهمزة أَصْلِيَّة فِي (ألاَّ) كَمَا أَن الْهَاء أَصْلِيَّة فِي (هلاَّ) بِخِلَاف (هَل وأل) فَإِن الِاسْتِفْهَام بهما لَيْسَ على دَرَجَة وَاحِدَة، لِكَثْرَة الِاسْتِفْهَام ووضوحه بهل، وندرته بألْ. وَجَاء إِبْدَال الْهمزَة من الْهَاء- فِي غير مَا تقدم- على قلَّة فِي اسْم الْفِعْل4. قَالُوا فِي هَيْهَات: أيهات. فإبدال الْهمزَة من الْهَاء إِبْدَال قياسي، وهما من مخرج وَاحِد. وكونهما من مخرج وَاحِد جدير بِأَن يُقَوي هَذَا الْإِبْدَال ويؤكده. قَالَ الصَّيْمَرِيّ: "قلبت الْهَاء همزَة، لِأَنَّهَا من مخرج الْهَاء، وَهِي أقوى مِنْهَا فِي الصَّوْت "5. وَلَكِن ابْن يعِيش6 ذهب إِلَى أَن هَذَا الْإِبْدَال إِنَّمَا تمّ لضرب من التَّقَاصّ. وَذَلِكَ لِكَثْرَة إِبْدَال الْهَاء من الْهمزَة على الْعَكْس. وَذَلِكَ أَمر يقتضينا الْإِشَارَة إِلَى إِبْدَال الْهَاء من الْهمزَة- عكس مَا تقدم- حَتَّى نلم بأطراف الْمَسْأَلَة. ونؤكد الظَّاهِرَة الَّتِي ارتضاها ابْن يعِيش.
إبدال الهاء من الهمزة
2-إِبْدَال الْهَاء من الْهمزَة: ذهب ابْن الْأَنْبَارِي وَابْن عُصْفُور وَابْن يعِيش إِلَى أَن الْهَاء تبدل من الْهمزَة فِي مَوَاضِع كَثِيرَة من كَلَام الْعَرَب7. وَهَذَا الْإِبْدَال وَارِد فِي الِاسْم وَالْفِعْل والحرف. (أ) إبدالها فِي الِاسْم: أما إبدالها فِي الِاسْم فقد ورد فِي: إياك. قَالُوا: هياك. قَالَ الشَّاعِر: فهياك وَالْأَمر الَّذِي إِن توسعت ... موارده ضَاقَتْ عَلَيْك مصادره8
وَقَالَ الآخر:1 يَا خَال هلا قلت إِذْ أَعْطَيْتنِي ... هياك هياك وحنواء الْعُنُق2 كَمَا ورد قَوْلهم: هِبْرِيَّة، وَالْأَصْل فِيهِ: إبرية، وَهُوَ الحزاز فِي الرَّأْس. وَقَالُوا فِي مهيمن، أَصله: مؤيمن فأبدلت الْهمزَة هَاء3. (ب) إبدالها فِي الْفِعْل: وَأما إبدالها فِي الْفِعْل فقد ورد فِي قَوْلهم: أنرت الثَّوْب، وأرحت الْمَاشِيَة وأرقت المَاء، وَأَرَدْت الشَّيْء، فأبدلوا فِي الْجَمِيع الْهَاء من الْهمزَة فَقَالُوا: هنرت الثَّوْب، وهرحت الْمَاشِيَة، وهرقت المَاء، وهردت الشَّيْء. وَذَلِكَ لاتِّفَاقهمَا مخرجا لِأَنَّهُمَا من أقْصَى الْحلق4. (جـ) إبدالها فِي الْحَرْف: وَأما إبدالها فِي الْحَرْف فقد ورد فِي همزَة إِنَّ الْمُؤَكّدَة، وإنْ الشّرطِيَّة، وأيَا فِي النداء، وَفِي همزَة الِاسْتِفْهَام، وَإِلَيْك بَيَان ذَلِك. جَاءَ إِبْدَال الْهَاء من همزَة إِنَّ الْمُشَدّدَة الْمَكْسُورَة مَعَ اللَّام. وَذَلِكَ على طَرِيق اللُّزُوم حَيْثُ قَالُوا: يهَنَّكَ قَائِم، قَالَ الشَّاعِر: أَلا يَا سنا برق على قُلَل الْحِمْيَ ... لَهِنَّك من برق عَلَيَّ كريم5 وَكَذَلِكَ أبدلت من همزَة (إِنْ) الشّرطِيَّة6 مثل قَوْلهم: هِنْ فعلت. تُرِيدُ: إِنْ فعلت. وَهِي لُغَة طَيء7. وَأما إبدالها من همزَة (أَيَا) فِي النداء فَفِي قَوْلهم: هيا وأيا، وَإِن كَانَ أيا أَكثر من هيا. قَالَ الشَّاعِر: وانصرفت وَهِي حَصَان مُغضبة ... وَرفعت بصوتها هَيَا أَبه8
وإبدالها من همزَة الِاسْتِفْهَام فِي مثل قَوْلهم: هَزَيْدُ منطلقٌ. يُرِيدُونَ: أَزِيد منطلق. وَأنْشد الْفراء: وأتى صواحبها فَقُلْنَ: هَذَا الَّذِي ... منح الْمَوَدَّة غَيرنَا وجفانا1 يُرِيدُونَ: أذا الَّذِي. بإبدال الْهَاء من الْهمزَة. فإبدال الْهَاء من الْهمزَة مَقْصُور على السماع- كَمَا بَينا- غير أَن ابْن يعِيش2جعله كثيرا، وقاس عَلَيْهِ إِبْدَال الْهمزَة من الْهَاء، وَجعله ضربا من التَّقَاصّ. أَي أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا أَخذ حكما أَخذه مِنْهُ الآخر. فإبدال الْهمزَة من الْهَاء، تمّ لِأَن الْهَاء أبدلت من الْهمزَة. فَكل مِنْهُمَا فعل بِالْآخرِ مثل مَا فعل الآخر بِهِ، وَهَذَا الضَّرْب هُوَ الَّذِي عرف لَدَى النُّحَاة بالتقاص، وارتضوه سمة لهَذِهِ الظَّاهِرَة، ومصطلحا لهَذِهِ الْقَاعِدَة.
قلب الهمزة واوا
3- قلب الْهمزَة واواً: تبين لنا مِمَّا تقدم أَن ظَاهِرَة التَّقَاصّ تتأتى فِي إِبْدَال الْهمزَة من الْهَاء، وإبدال الْهَاء من الْهمزَة. ونبين الْآن وُرُودهَا بَين الْوَاو والهمزة، ويتحقق ذَلِك فِي إِبْدَال كل مِنْهُمَا من الآخر. فالهمزة تقلب واواً، كَمَا أَن الْوَاو تقلب همزَة، ويتضح ذَلِك على النَّحْو التَّالِي: (أ) قلب الْهمزَة واواً: تبدل الْهمزَة واواً فِي عدَّة مَوَاضِع هِيَ3: ا- أَن تكون الْهمزَة للتأنيث، فَإِنَّهَا تبدل واواً باطراد على سَبِيل اللُّزُوم فِي التَّثْنِيَة وَالْجمع بِالْألف وَالتَّاء وَالنّسب. فَتَقول فِي صحراء وعشراء ونفساء: صحراوين وعشراوين ونفساوين، وصحراوات وعشراوات ونفساوات، وصحراويّ وعشراويّ ونفساوي. 2- أَن تكون الْهمزَة قبل الْألف فِي الْجمع الَّذِي لَا نَظِير لَهُ فِي الْآحَاد، بِشَرْط أَن يكتنف ألف الْجمع همزتان، وَذَلِكَ نَحْو: ذوائب فِي جمع ذؤابة. أَصله ذآئب، فأبدلت الْهمزَة واواً هروباً من ثقل اجْتِمَاع الهمزتين وَالْألف، وَهَذَا الْإِبْدَال اطرادي لَازم. 3- أَن تقع الْهمزَة لاماً لجمع على مفاعل وَقد سلمت فِي الْمُفْرد، وَذَلِكَ مثل: هِراوة، قَالُوا فِي جمعه هراوي، بإبدال الْهمزَة واوا ليشكل الْجمع مفرده. 4- أَن تلتقي همزتان فِي كلمة وتسكن الثَّانِيَة بعد ضم. فَإِنَّهَا يجب إبدالها واواً. وَذَلِكَ
نَحْو: أومن وأوثر. وَالْأَصْل: أُؤْمِن وأؤثر. إِلَّا أَنه رفض الأَصْل هروبا1 من اجْتِمَاع همزتين. 5- أَن تكون الثَّانِيَة مَضْمُومَة مُطلقًا. أَي سَوَاء انْضَمَّ مَا قبلهَا أَو انْفَتح أوِ انْكَسَرَ، أَو تكون مَفْتُوحَة بعد فتح أَو ضم. وَذَلِكَ مثل: أُوُمٌ، وأوُمّ وإِوُمّ. وَالْأَصْل: أُؤم، وأؤُم، وإِؤُم. وَمثل أُُويدم تَصْغِير آدم. وأَوادم جمع آدم. وَالْأَصْل: أُؤيدم وأَأًدم. فأبدلت الثَّانِيَة فِي الْجَمِيع واواً. وَهَذَا الْإِبْدَال قياسي مطرد لَازم. (ب) قلب الْوَاو همزَة: تقدّمت مَوَاضِع قبل الْهمزَة واواً، وَأمر هَذِه الْمَسْأَلَة يحتم علينا ذكر الْمَوَاضِع الَّتِي تبدل فِيهَا الْوَاو همزَة حَتَّى ينْكَشف وَجه هَذِه الظَّاهِرَة، ونصل إِلَى النتيجة الَّتِي نرجوها. وَمن الْمُقَرّر فِي هَذَا الْبَاب2 أَن الْوَاو تقلب همزَة فِي خَمْسَة مَوَاضِع: 1- أَن تتطرف إِثْر ألف زَائِدَة مثل: كسَاء وسماء وَدُعَاء. وَالْأَصْل: كساو وسماو ودعاو. 2- أَن تقع عينا لاسم فَاعل فعل ثلاثي أعلت عين فعله نَحْو: صَائِم وقائم، وَالْأَصْل: صاوم وقاوم. 3- أَن تقع مُدَّة ثلاثية زَائِدَة فِي الْمُفْرد إِذا كَانَ جمعه على مِثَال مفاعل. نَحْو: عَجَائِز ورعائف جمعي عَجُوز ورعوفة، وَالْأَصْل عجاوز ورعاوف. 4- أَن تقع ثَانِي لينين اكتنفهما ألف مفاعل مثل: أَوَائِل وسيائد. وَالْأَصْل: أواول وسياود فِي جمع أول وَسيد. 5- أَن تتصدر فِي الْكَلِمَة واوان. فَإِن الأولى مِنْهُمَا تقلب همزَة بِشَرْط أَن لَا تكون الثَّانِيَة مِنْهُمَا مُدَّة غير أَصْلِيَّة، أَي: أَن تكون الثَّانِيَة غير مُدَّة وَذَلِكَ نَحْو قَوْلك فِي جمع الأولى أُنْثَى الأول أُوَل. وَالْأَصْل: وُوَل وَنَحْو ذَلِك فِي جمع واصلة وواقية تَقول: أواصل وأواق، وَالْأَصْل: وواصل، ووواق. أَو تكون الثَّانِيَة مُدَّة أَصْلِيَّة نَحْو: الأولى أُنْثَى الأول. أَصْلهَا وَولى بواوين أولاهما فَاء، وَالثَّانيَِة عين سَاكِنة.
هَذِه هِيَ مَوَاضِع قلب الْوَاو همزَة، وَقد تقدّمت مَوَاضِع قلب الْهمزَة واواً. وَقد تمّ هَذَا الْقلب المتبادل بَين الْوَاو والهمزة على طَرِيق الْمُقَاصَّة. لِأَن الْهمزَة وَإِن لم تكن من حُرُوف الْعلَّة، فَهِيَ شَبيهَة بِالْألف، وَلِهَذَا عدهَا بعض الصرفيين1 من حُرُوف الْعلَّة. وأيا مَا كَانَ فَإِن الْألف أخف حُرُوف الْعلَّة، وَكَذَلِكَ مَا أشبههَا وَهُوَ الْهمزَة بِخِلَاف الْوَاو فَإِنَّهَا أثقلها. فاللجوء- حِينَئِذٍ- إِلَى قلب الْوَاو همزَة لجوء إِلَى التَّخْفِيف، لِأَنَّهُ انْتِقَال من الثّقل إِلَى الخفة. بِخِلَاف الْعَكْس، وَهُوَ قلب الْهمزَة واواً. لِأَنَّهُ انْتِقَال من الْخَفِيف إِلَى الثقيل. لهَذَا كَانَ قلب الْهمزَة واواً فِي نَحْو صحراء وعشراء ونفساء فِي التَّثْنِيَة وَالْجمع بِالْألف وَالتَّاء، وَالنّسب2، انْتِقَال من الخفة إِلَى الثّقل، لِأَن الْهمزَة أخف من الْوَاو- كَمَا علمنَا- وَلَكِن ذَلِك تمّ على سَبِيل التَّقَاصّ. فَكَمَا أَن الْوَاو قلبت همزَة. كَذَلِك أبدلت الْهمزَة واواً على طَرِيق الْمُبَادلَة والمقاصة، نظرا لتحقيق الشّبَه بَينهمَا، بِسَبَب أَن الْهمزَة شَبيهَة بِالْألف وهى حرف عِلّة. بيد أَن ابْن "فلاح " جعل هَذِه الظَّاهِرَة3 متحققة بإبدال الْهمزَة واواً فِي الْجمع بِالْألف وَالتَّاء فَقَط. فِي مثل صحراء وصحراوات. أَي أَنه قصر الْمُقَاصَّة على جمع الْمُؤَنَّث السَّالِم، اقتصاصا من قلب الْوَاو همزَة. وَنحن إِذْ نقدر لِابْنِ فلاح جهده فِي الْإِشَارَة إِلَى هَذِه الظَّاهِرَة، وَفِيمَا ذهب إِلَيْهِ. نرى أَنه لَا ضير من جعل الْمُقَاصَّة شَامِلَة لكل الْمسَائِل الَّتِي تقلب فِيهَا الْهمزَة واواً، اطرادا للقاعدة، وشمولا للظاهرة، وتثبيتا للْقِيَاس، وتعميما للمصطلح، وتوسعاً فِي أساليب اللُّغَة، لِأَنَّهَا- بِلَا شكّ- تقبل ذَلِك وَلَا تضيق بِهِ.
ثالثا: في زيادة بعض الحروف
ثَالِثا: فِي زِيَادَة بعض الْحُرُوف: من الْمُقَرّر أَن- اللَّام ألف- أَصْلهَا الْألف الَّتِي هِيَ مَدَّةَ سَاكِنة، وَلكنهَا دُعِمت بِاللَّامِ قَبْلها متحركة ليمكن الِابْتِدَاء1 بهَا، وليصح النُّطْق كَمَا صَحَّ بِسَائِر الْحُرُوف غَيرهَا. لِأَن السَّاكِن لَا يُمكن الِابْتِدَاء بِهِ. وَإِنَّمَا دُعمت بِاللَّامِ قبلهَا وَلم تُدعَم بِهَمْزَة الْوَصْل الَّتِي يُؤْتى بهَا توصلا إِلَى النُّطْق بالساكن، لِأَنَّهُ لَا يُمكن الْإِتْيَان بهَا قبل الْألف، وَلِأَن ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى نقض الْغَرَض الَّذِي قصدُوا لَهُ، لِأَن همزَة الوصَل قد تَأتي مَكْسُورَة، وَلَو كسرت لانقلبت الْألف يَاء مَكْسُورَة لانكسار مَا قبلهَا. فَيُقَال: (إِي) فَلَا تصل إِلَى الْألف الَّتِي اعتمدت2عَلَيْهَا، فَلَمَّا لم يجز ذَلِك، عَدَلوا إِلَى اللَّام دون غَيرهَا، لِأَن الْعَرَب توصلوا إِلَى النُّطْق بلام التَّعْرِيف بِزِيَادَة الْألف قبلهَا، توصلا إِلَى النُّطْق بهَا، فحركوا الْألف فَصَارَت همزَة، وجعلوها همزَة3وصل نَحْو: الْغُلَام وَالْفرس وَالْجَارِيَة. فَلَمَّا افْتَقَرت الْألف إِلَى حرف جِيءَ بِاللَّامِ قبلهَا فِي (لَا) توصلا إِلَى النُّطْق بِالْألف الساكنة ليَكُون ذَلِك ضربا من التَّقَاصّ والتعويض بَين الحرفين فَصَارَ لَا. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق ...