ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي

سفر الحوالي

ـ[ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي]ـ المؤلف: سفر بن عبد الرحمن الحوالي دكتوراة بإشراف الأستاذ: محمد قطب، 1405 هـ - 1406 هـ الناشر: دار الكلمة الطبعة: الأولى، 1420 هـ / 1999 م [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو مذيل بالحواشي]

_ رسالة مقدمة لنيل درجة التخصص العليا (الدكتوراه) جامعة أم القرى - كلية الشريعة والدراسات الإسلامية - قسم الدراسات العليا الشرعية - فرع العقيدة

المقدمة

المقدمة الحمد لله الذي خلق السماوات وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وصلى الله وسلم على رسوله المبعوث رحمة للعالمين، الذي أوضح الحجة وأبان المحجة وترك الأمة على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.. أما بعد: فإن التفرق في الدين والتخاصم في رب العالمين سنة الأمم قبلنا وواقع حالنا بعدهم، وقد كانت أول فرقة مرقت من الدين وشقت صفوف المسلمين هي (الخوارج) . وإنما كان ضلالها حينئذ في مسألة الإيمان؛ إذ كفرت المسلمين بالذنوب، واستحلت دمائهم وأموالهم، ثم تتابعت الفتن وظهرت الفرق، وكلما ظهرت البدع وانتقصت الطاعات وارتكبت المحرمات ازداد حال الأمة تفرقاً وذلاً وضلالاً. هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ربى أصحابه على التسليم والاتباع والسمع والطاعة، فلا تقديم بين يدي الله ورسوله، ولا اعتراض على أمره، ولا تولي عن طاعته، فكانوا خير أصحاب وحواريين كما كان نبيهم صلى الله عليه وسلم خير نبي ورسول. آمنوا بالله ورسوله الإيمان الصادق الحي الذي أثنى الله تعالى عليهم به في كتابه، وما عرفوه فلسفة ولا نظريات ولا جدلاً، وإنما هو الطاعة في المنشط والمكره، والصبر في الرخاء والشدة، والجهاد بكل معنى من معاني الجهاد. لم يزل هذا الإيمان يكمل ويزداد من زمن الاضطهاد والحصار بمكة، إلى أحداث أحد والخندق بالمدينة، إلى أيام مؤتة وحنين وتبوك، حتى استقامت نفوسهم وزكت قلوبهم وصلحت أعمالهم، فما قبض الله تعالى صفيه من خلقه إلا وقد صاروا أهلاً لحمل الأمانة وإبلاغ الرسالة والقيام بأمر هذا الدين كله. فاجتثوا خبث المرتدين، ثم ثنوا بالدولتين العظميين فركبوا إليها البر الأجرد والبحر الأخضر، وما كانت إلا سنوات معدودات حتى أنفقت كنوز كسري وقيصر في سبيل الله عز وجل، وأصبحت الظعينة تسير من خراسان إلى الأندلس لا تخاف إلا الله، ودفع ملوك الهند والصين الجزية لأتباع خاتم المرسلين، وخمدت نار المجوسية وخنست النواقيس والصلبان إلى غياهب أوروبا الهمجية، وظهر أمر الله وأعداؤه كارهون.

واستمرت تلك الموجة الكبرى والمدة العظمى ما شاء الله أن تستمر، ثم أخذت في الانحسار لما ظهرت الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، واستجاب فئات من هذه الأمة للحاقدين والهدامين من بقايا الأديان المنسوخة وشراذم الفلسفات الممحوقة، وأصابت الأمة سنة الأمم الأولى؛ فتجارت ببعضها الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبة، فما مرقت الخوارج إلا وتزندقت الشيعة وفسقت المرجئة ثم ألحدت القدرية - وهذه الأربع هي أصول الفرق - ثم تتابعت الفتن وتكاثرت الأرزاء، فلولا أن هذا الدين من عند الله وله من جنده المخلصين من يرعاه لما بقيت له من باقية. ولكن الله جلت حكمته قضى ألا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة لا يضيرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله و " جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يتشبه عليهم " (1) . والخلاف في مسألة الإيمان - مع كونه أول خلاف في الملة - ظل من أعظم قضايا الخلاف بين هذه الأمة في عصورها كلها، وفي مطلع العصر الحديث أصبحت أعظم القضايا التي تشغل بال هذه الأمة وذلك منذ أن ظهرت دعوة الشيخ محمد ابن عبد الوهاب رحمه الله التي أعادت الحنيفية جذعة نقية. فقد أطبق أعداء السنة على أنها دعوة خارجية وفكرة حرورية لأنها - بزعمهم - تكفر المسلمين، وما كفرت مسلماً قط، وإنما كفرت المشركين وحاربت المارقين. ومهما يكن من أمر فقد أحدثت الدعوة المباركة صدى عالمياً كبيراً اضطر مخالفها إلى إعادة النظر في الإيمان والكفر والشرك والتوحيد. ثم كانت موجة الحملات الصليبية الأخيرة (الاستعمار) وفتنة الحضارة الغربية الجاهلية، فذهلت الأمة عن دينها ونسيت انتمائها حتى شاء الله تعالى أن تخرج من بقايا دعوة الشيخ أو من أصدائها دعوات وحركات تنادي بالإسلام من جديد.

_ (1) من مقدمة الرد على الجهمية والزنادقة، للإمام أحمد رحمه الله.

وفي العقود الأخيرة خاصة ظهرت بواكير عودة صادقة إلى الإسلام الكامل والتخلص من أثار الغزو الحضاري الكافر وتمثل ذلك في شباب فتحوا أعينهم على أمة منهارة متطاحنة تعاني أمراضاً مزمنة في كل منحى ومجال. أمة ترضى من دينها إلى الانتساب الاسمي بلا عمل ولا جهاد ولا دعوة، وتلقي مسؤولية كل عجز ومرض وتخلف وذل على تخطيط الأعداء ومؤامرات الاستعمار. ثم وقعت في السنوات الأخيرة أحداث كبرى على الساحة الإسلامية أثبتت الفراغ العقدي الهائل الذي يسيطر على الأمة، والفوضى الرهيبة التي يعاني منها الشباب في التصورات والسلوك. لقد استطعنا - نحن شباب الإسلام - أن نكسر طوق الولاء المطلق للغرب، وأن نرفض حضارته الزائفة إلى حد لا بأس به وعرفنا الكثير من عدونا وخططه ومؤامراته، لكننا حتى الآن لم نعرف حقيقة من نحن؟ وفي أي طريق نسير؟ نردد: إنا مسلمون وفي طريق الإسلام نسير ... ولكن أقدامنا تصطدم بصخور وركام أنتجتها قرون طويلة من الضلالات والانحرافات. وعلينا لكي نرتقي بأنفسنا وأمتنا أن نجتاز عقبة شائكة يعترضها ثلاث وسبعون طريقاً، الطريق المنجي منها طريق واحد فقط وما عداه مهلكة، وهذا الطريق الوحيد هو منهج أهل السنة والجماعة الذي نجزم عن دين ويقين أنه منهج الفرقة الناجية الذي لا يقبل الله سواه. وإن تعجب فاعجب لكون النظرة الغالبة على كثير من شباب الدعوة الإسلامية اليوم هو أن عقيدة أهل السنة والجماعة لا تعدوا أن تكون تصورات نظرية صحيحة لعالم الغيب وقضايا الاعتقاد وليست - مع ذلك - منهجاً للدعوة والإصلاح والتغيير!! ويجب أن نعترف بأن السبب في هذا الفهم القاصر هو حملة العقيدة - قبل كل شيء - الذين لم يوضحوا معالمها ويكشفوا عن كمالها الذي هو حقيقة كمال الإسلام نفسه. ولهذا رأيت من واجبي - وقد وفقني الله لأن أتربى على هذه العقيدة وأعرف حقيقتها العلمية وأتمثل منهجها العملي مستوحى من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ووقائع الدعوات التجديدية السنية - أن أسخر حياتي العلمية لهذا الأمر العظيم. وقد بدأت ذلك برسالة "التخصص الأولى" التي كان موضوعها:

(العلمانية: نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية) ثم ثنيت بهذه الرسالة لنيل درجة "التخصص العليا" فكانت الأولى تعالج فصل الدين عن الحياة، والأخرى تعالج فصل الإيمان عن العمل، كلتاهما على ضوء هذه العقيدة، ومن هنا كانتا تعبران عن قضية واحدة وإن تباعد موضوعاهما ظاهراً. وقد كانت الأولى بلا ريب طريقاً للأخرى؛ فمن خلال الدراسة لأسباب العلمانية الطاغية على الحياة الإسلامية المعاصرة رأيت رأي العين أن سبب كل انحراف وذل وهزيمة وفرقة في حياتنا، لا يزيد عن شيء واحد هو البعد عن منهج أهل السنة والجماعة في العقيدة والسلوك وسبيل الإصلاح. وانطلاقاً من ذلك كان منهجي في هذه الرسالة يقوم على ثلاثة أسس: * الأول: دراسة " الإرجاء " على أنه " ظاهرة فكرية " لا " فرقة تاريخية ". والفرق بين هذين كبير جداً في طبيعة البحث وفي آثاره ونتائجه؛ فحين نبحث الإرجاء على أنه فرقة من الفرق التي طواها التاريخ فمن أهم ما يفوتنا هو معرفة حقيقة واقعنا المعاصر الذي يسيطر عليه الفكر الإرجائي، وحينئذ لا يزيد البحث عن كونه عملاً " أكاديمياً " يضاف إلى مجموعة المؤلفات التي تتحدث عن تاريخ الفرق وآرائها. أما حين نبحثه على أنه ظاهرة فكرية نشأت ثم تطورت إلى واقع ضخم يواجه كل دعوة تجديدية، ونفسر بها كثيراً من أسباب التخاذل والتردي الذي تعاني منه الأمة عامة والدعوة خاصة، فإن النتائج الإيجابية لذلك ستنهال علينا من كل جانب، وحسبنا إن لم نعط القضية حقها أن نثيرها ونبعثها ونخطو في سبيلها ما استطعنا ثم الله يهيئ لها ما يشاء. ومن هنا انصب الاهتمام على " ركن العمل " وضرورته للإيمان والدعوة وكيف تخلت الأمة عنه مكتفية من الإيمان بالاسم والإقرار. وهنا لا بد من بيان حقيقة مهمة كان لها أثرها البالغ في منهج البحث: وهي أن الإرجاء لم يكن - في الأصل - دعوة واعية مقصودة لترك العمل والتفلت من الطاعات، وإنما كان تفسيراً ضالاً لحقيقة الإيمان أنتجته أسباب تاريخية شرحناها في موضعها. ولكن الأمة وهي تتراخى عن العمل بالتدريج وتنفلت من الواجبات وتنحدر عن قمة الامتثال رويداً رويداً فكانت تجد في الإرجاء تفسيراً مريحاً يبرر لها تراخيها وتفريطها - وهذه حقيقة نفسية معروفة - فكل ما انحسر عنه العمل واقعياً ستره ثوب الإرجاء الواسع نظرياً.

ولهذا لم يكن المرجئة القدماء بحاجة إلى أكثر من كشف شبهاتهم النظرية وردهم بالدليل العلمي الصريح. ولكن الحال تغير بعد انتشار الظاهرة وسيطرتها؛ إذ أصبحت الأمة في القرون الأخيرة تتبنى الإرجاء عقيدة ومنهجاً وتعد مخالفه خارجاً مارقاً، وتضبط دينها وأحكام إيمانها بأصوله وقواعده. فصارت تعتقد أن التصديق القلبي المجرد من قول اللسان وعمل الأركان هو حقيقة الإيمان الذي أنزل به الله الكتب وبعث به الرسل وجعله مناط النجاة من عذابه في الآخرة، وتبني على ذلك لوازم وأحكاماً، أهونها تخطئه السلف في إجماعهم على أنه قول وعمل وعدم تكفير طوائف من المرتدين. وأصبح معنى كون الصلاة والزكاة والصيام والحج أركاناً للإسلام هو اعتقاد وجوبها والإقرار به وإن لم يعمل من ذلك شيئاً. ونحو ذلك مما يستغربه الناظر أول وهلة، ثم يتأمل فإذا هو عندهم حقيقة واقعة. والأدهى من ذلك أن تقوم بعض اتجاهات الدعوة الإسلامية - التي عملها وغرضها في الأصل إعادة الناس إلى حقيقة الإيمان اعتقاداً وعملاً - على هذا الفكر العقيم وتتبناه وتدعوا إليه، كما سنبينه في الفقرة التالية. من هنا كان لا بد من تغيير منهج العرض والمناقشة لقضية الإيمان وعلاقته بالعمل والدعوة بانتهاج منهج يجمع بين الدليل العلمي النظري من النصوص وكلام السلف، وبين الدليل الواقعي المحسوس من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وحقيقة النفس البشرية ذاتها. وإيضاحاً لذلك نقارن بين نص من كلام أحد رؤوس المرجئة في مرحلة تأسيس الإرجاء، وبين ما يكتبه بعض الدعاة المعاصرين. يقول عمر بن ذر الهمداني (1) أحد رؤوس المرجئة، وابن ذر ابن عبد الله الهمداني الذي قال عنه الإمام أحمد: إنه أول من تكلم في الإرجاء " لما رأى العابدون الليل قد هجم عليهم ونظر إلى أهل السآمة والغفلة قد سكنوا إلى فرشهم ورجعوا إلى ملاذهم من الضجعة والنوم، قاموا إلى الله فرحين مستبشرين بما قد وهب لهم من حسن عبادة السهر وطول التهجد، فاستقبلوا الليل بأبدانهم وباشروا ظلماته بصفاح وجوههم، فانقضى عنهم الليل وما

_ (1) انظر: حلية الأولياء (5/108- 115) ، وتهذيب الكمال، لوحة 1008

انقضت لذتهم من التلاوة ولا ملت أبدانهم من طول العبادة، فأصبح الفريقان وقد ولى عنهم الليل وبربح وغبن. أصبح هؤلاء قد ملوا النوم والراحة، وأصبح هؤلاء متطلعين إلى مجيء الليل للعبادة - شتان بين الفريقين. فاعملوا لأنفسكم رحمكم الله في هذا الليل وسواده فإن المغبون من غبن خير الليل والنهار والمحروم من حرم خيرهما وإنما جعلا سبيلاً للمؤمنين إلى طاعة ربهم ووبالاً على الآخرين للغفلة عن أنفسهم فأحيوا لله أنفسكم بذكره فإنما تحيا القلوب بذكر الله. كم من قائم في هذا الليل قد اغتبط بقيامه في حضرته وكم من نائم في هذا الليل قد ندم على طول نومه عندما يرى من كرامة الله عز وجل للعابدين غداً فاغتنموا ممر الساعات والليالي والأيام رحمكم الله" (1) . فهذا الرجل كان يقول: الإيمان هو الاعتقاد والإقرار فقط، لكن هل يتصور منه أن يقول: إن مجرد التصديق القلبي دون قول ولا عمل كاف في النجاة عند الله، أم إن القضية عنده شبهة نظرية مجردة لم يكن لها أي مدلول واقعي إلا الهروب من تكفير صاحب المعصية الذي وقعت فيه الخوارج؟ غير إن هذا القول نفسه قاله بعض الدعاة المعاصرين امتداداً لظاهرة الإرجاء العامة وقد ذكرنا كلامهم في موضعه. • الثاني: معالجة واقع الدعوة الإسلامية المعاصرة، فالمشاهد اليوم أن أصحاب الدعوة ينقسمون غالباً - فريقين -، وكل فريق تتوزعه فرق وآراء واجتهادات: - أحدهما: فطن إلى أصل القضية ومكمن الدواء فأراد أن يصحح الأصول ويجلي بديهيات الدين ويربط ذلك بالعمل وضرورته لكنه سلك في سبيل ذلك حرفة عقيمة في الفهم، وإشارة موغلة في الغلو ظاناً أن هذا هو منهج العزيمة والاستقامة، فوقع في طامة التكفير - أعني تكفير أعيان عوام المسلمين من المخالفين -. وهكذا نفر من بدعة ليقع في بدعة شر منها وسد على نفسه منافذ الاتصال بالناس وإيصال الحق لقلوبهم فتحولت دعوته إلى نظرة عميقة تتآكل كل يوم وتفرز بدعاً جديدة واستتبع ذلك انحرافاً خطيراً في منهج التلقي

_ (1) منقول من الحلية الموضع السابق.

والاستمداد، حيث وضعت أصول ومعايير لا تقل شراً وخطراً عن شرائع الطواغيت الوضعية. - والآخر: انطلق في دعوته بدون منهج واضح ولا تصور اعتقادي متكامل، فلم يتناول الأمر بالتأصيل العلمي بل بالتهويش العاطفي، فكان أن واجهه أصحاب الفريق الأول بأصول وقواعد لا يملك مثلها ولا يستطيع ردها، فهرب من التكفير إلى التبرير، وأخذ يسند هذا الواقع المنحرف ويؤصله بنظريات بدعية، ووجد في مذهب المرجئةـ الذي أصبح كما قلنا هو الظاهرة الفكرية العامة - بغية وسنداً، فنسى نفسه ونسى مهمته الأساس وهو تغيير هذا الواقع لا تبريره. * فالفريق الأول: أعاد مذهب الحرورية جذعاً. * والآخر: أحيا مذهب المرجئة غضاً ونقله من الدوائر الأكاديمية التقليدية إلى منهج العمل والتغيير!! وهكذا أصبحت الكتابة عن هذا الموضوع "حقيقة الإيمان" على ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة ضرورية لكبح جماح الغالين ودفع تفريط المقصرين. • الثالث: وهو كالنتيجة للأولين - اختطاط منهج للبحث يزيد على مجرد البحث العلمي النظري للقضية - أي إيراد الأدلة ونقضها - بإضافة عناصر جديدة تخاطب البديهة والوجدان والعقل معاً، وأهم جانب من ذلك استحضار واقع الجيل القدوة الذي رباه النبي صلى الله عليه وسلم، والتأسي بهم في استكمال الإيمان والدعوة إليه والحكم على تاركه، وكذا بيان حقيقة النفس الإنسانية، التي لا تخلو قط من إرادة وعمل، وربط بذلك بحكمة الدين وغايته التي هي إصلاح الإرادات وتزكية الأعمال، مما بين أن الإيمان اعتقاد وعمل على الحقيقة الشرعية والواقعية والنفسية في آن واحد. على هذا دارت مباحث هذه الرسالة، التي أسأل الله تعالى أن ينفعني بها وإخواني المسلمين، وأن يجعل كل ما بذل فيها من جهد ونَصَب خالصاً لوجهه الكريم. وتبعاً لذلك قسمتها إلى خمسة أبواب: • الباب الأول: يبحث في حقيقة الإيمان وارتباط العمل به من خلال: 1- دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته. 2- حقيقة النفس الإنسانية. 3- حقيقة الإيمان الشرعية.

• والباب الثاني: يبحث في التاريخ الفكري للإرجاء منذ نشأته إلى أن أصبح فرقاً كثيرة، ثم ظاهرة فكرية عامة وواقعاً طاغياً، مع الاهتمام الخاص بقضية " ترك العمل " وحكمها عند المرجئة والأسباب الفكرية لوقوع ذلك. • والباب الثالث: الإرجاء الظاهرة، وتفصيل الكلام على نوعي الإرجاء، إرجاء الفقهاء والعباد وإرجاء المتكلمين والمتمنطقين، وحكم ترك العمل في الطور النهائي للظاهرة. • والباب الرابع: تفصيل لعلاقة الإيمان بالعمل، والظاهر بالباطن مع الاهتمام الخاص بأعمال القلوب التي كان الانحراف فيها من أعظم أسباب انتشار الظاهرة وشرح نماذج منها وهي بعض شروط لا إله إلا الله. • والباب الخامس: بيان أن الإيمان حقيقة مركبة من ركني القول والعمل، توصلاً بذلك إلى معرفة بطلان مذهب المرجئة في حكم تارك العمل مطلقاً، وبيان حكم صاحب الكبيرة على ضوء ذلك، وسبب ضلال الفرق فيه. ثم نقض أهم الشبهات النقلية للمرجئة على أن العمل غير داخل في الإيمان. هذا ولا يفوتني أن أتقدم بخالص الشكر وعظيم التقدير إلى أستاذي الكريم الأستاذ محمد قطب، الذي بذل من الوقت الثمين والرأي الصائب ما كان له أثره البالغ في إنجاز هذه الرسالة وتقويمها. كما أشكر للجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية ولجامعة أم القرى بمكة المكرمة ممثلتين في مسئوليهما كافة، مما أتيح لي من فرصة لطلب العلم وخدمة لتحصيله، وأخص بالشكر الأخوة العاملين بمركز البحث العلمي، وكذا كل من قدم لي خدمة، أو أسدى إلى توجيهات من الأساتذة الكرام أو الأخوة الزملاء. والحمد لله أولاً وآخراً.

الباب الأول: حقيقة الإيمان وارتباط العمل به

الباب الأول: حقيقة الإيمان وارتباط العمل به ويشتمل على: • دعوة النبي صلى الله عليه وسلم (ارتباط العمل بحقيقة الدين والدعوة) • حقيقة النفس الإنسانية • حقيقة الإيمان الشرعية

مقدمة

الباب الأول: حقيقة الإيمان وارتباط العمل به مقدمة: يقول الله تعالى: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» (1) . ويقول جل ذكره: «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» (2) . ويقول: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» (3) . هذه الآيات الكريمة انتظمت أصول الغايات والحقائق الكبرى للدين، وهي: الغاية من خلق الثقلين وحقيقة مهمتهم. الغاية من إرسال الرسل وحقيقة دعوتهم. حقيقة سنة اقتران القوة بالحق لتحقيق تلك الغايات. فالله تبارك وتعالى خلق آدم وذريته مفطورين على الإيمان والتوحيد، وظلت الجماعة البشرية الأولى سائرة على هذا المنهج القويم ما شاء الله أن تسير (4) ، ثم أصابتها السنة الكونية «وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ» (5) ، تلك السنة التي تقتضي وتستلزم من الحكم والمصالح، وظهور آثار صفات الله عز وجل ما يعجز عنه البيان.

_ (1) [الذاريات: 56] (2) [البقرة: 213] (3) [الحديد: 25] (4) هذا هو الراجح في تفسير آية: "كان الناس أمة واحدة" [البقرة: 213] ، انظر: الطبري (2/336- 337) ، وابن كثير (1/314- 365) ، وانظر إغاثة اللهفان (2/203) ، ويدل له ما في الحديث الآتي "وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم" الحديث. (5) [هود: 118، 119]

ومنذ أن وقع الشرك الأول في بني آدم والمعركة قائمة لم تهدأ، مستعرة لم تخب بين الحق والباطل وبين الإيمان والكفر. وقد تمثل الشرك الأول في الركنين الأساسين لمفهوم العبادة وهما: 1- التقرب والتوجه والتنسك. 2- الطاعة والتشريع والأتباع. وهما ركنان متداخلان. وما صح لدينا من أخبار الأمة الشركية الأولى " قوم نوح " يدل على ذلك: 1- قال الله تعالى عنهم: «وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا» (1) . وهذه الأصنام التي تنسكت الجاهلية الأولى بالتقرب إليها، وهي في الأصل " أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كان يجلسون أنصاباً (تماثيل) ، وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد (أول الأمر) حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عُبدت" (2) . روى مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته:" ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا: كل مال نحلته (3) عبداً حلال. وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً.. " (4) الحديث. فهذا انحرافهم في الطاعة والتشريع، المقارن لشركهم في التقرب والتنسك.

_ (1) [نوح:23] (2) (البخاري) التفسير (8/667) . (مع الفتح) . (3) أي أعطيته ورزقته. (4) الحديث (2865) ، وهو حديث جامع عظيم له بقية ستأتي بإذن الله، ووجه دلالته أنهم ظلوا على التوحيد قروناً - ورد في بعض الروايات أنها عشرة - حتى اجتالتهم الشياطين فأوقعتهم في الشرك، فهذا الجنس البشري عامة، أما الفرد الواحد فإنه يولد على الفطرة لكن أبويه هما اللذان يصرفانه عنها.

ومن ثبات السنن الدالة على وحدة " المعركة " أولاً وآخراً أن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم، والعرب واقعة في الشرك في هذين الركنين عينهما، فقد كانت تعبد الأصنام نفسها التي عبدها قوم نوح، إذ " صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد. أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد. ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع " (1) ، مع ما أضافه عمرو بن لحي الخزاعي (2) والطواغيت بعده من أصنام أخرى كاللات والعزى ومناة وهبل، وتشريعات غيروا بها ملة إبراهيم. فكانت العرب أيضاً واقعة في شرك الطاعة والاتباع، وقد ذكر الله تعالى أمثلة له من " البحيرة والسائبة والوسيلة والحامي " وغيرها مما أفاضت فيه سورة الإنعام مثل: قتل الأولاد واستحلال الميتة وما جعلوا لله - مع شركائهم - من نصيب في الحرث والإنعام، وما جعلوا منها من حجر لا يطعمه إلا من يشاءون - بزعمهم - وما حرموه من ظهورها.. كل ذلك افتراءً على الله وتخرصاً على دينه واتباعاً للشياطين «وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ» (3) . وهو ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق عن أصحاب الشرك الأول. ولمناسبة كون المعركة - من نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم - واحدة، وقضيتها واحدة، جاء التعبير عن الرسالات جميعاً بأنها " كتاب " واحد - في الآيات السابقة - «وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ» (4) ، «وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» (5) . وقوله: «اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ» (6) ، ونحوها.

_ (1) هو أول الحديث السابق في قصة نوح (8/667) . (2) هو أول من أدخل الأصنام إلى بلاد العرب مغيراً بذلك ملة إبراهيم عليه السلام. أنظر خبره في البخاري (6/547) و (8/283) ، ولمزيد المعرفة عن الأصنام انظر: إغاثة اللهفان (2/203- 222) . (3) [الأنعام: 121] (4) [البقرة:213] (5) [الحديد:25] (6) [الشورى: 17]

كما جاء التعبير عن رفض دعوة الرسل وعبادة غير الله - مهما تباعدت الأجيال وتنوعت المعبودات - بأنه عبادة للشيطان «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» (1) . وكذلك جاء وصف أعداء الرسالات من البشر موحداً كذلك وهو " الملأ " المستكبرون أصحاب السلطان والمال وذلك في آي كثير. وموجز دعوة الرسل جميعاً أنها دعوة واحدة إلى منهج " التوحيد " بكل فروعه وأنواعه وموالاة أهله، وما يستلزمه ذلك من نبذ الشرك بكل صورة وألوانه، ومعاداة أهله. وغاية دعوتهم هي مصلحة العالمين أنفسهم، لكي تقوم حياتهم بالقسط في الدنيا وينعموا برضا الله وجنته في الآخرة «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» (2) . ومن هنا ارتبطت دعوتهم بالجهد والعمل، وارتبط كتابهم بالسيف والحديد. إن حقيقة المعركة التي خاضها الأنبياء مع أممهم، والسنة الثابتة في دعوتهم، لا تتجلى إلا لمن عرف حقيقتين مهمتين ينبغي لمن أراد الانضمام لموكبهم الكريم وركبهم الناجي أن يجعل معرفتهما منطلقاً لدعوته وأساساً لمنهجه: 1- طبيعة الدين كما أنزله الله وأراده أن يتحقق في واقع الأرض. 2- طبيعة الجاهلية التي نزل لإبطالها وحربها. والآن وقد دار الزمان دورة ثالثة حتى أوشك أن يعود كهيئته يوم أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم (حيث تردى الإنسان المعاصر إلا قليلاً في عين ما وقع فيه قوم نوح والعرب من شرك في التقرب والنسك، وفي الطاعة والتشريع) أصبح لزاماً على أولي البقية الذين ينهون عن الفساد في الأرض تجلية هذه الحقائق عن الدين، قبل الدخول في أية تفصيلات أو مناقشات مع الفرق المخالفة أو مع المتلوثين بهذا الشرك الجديد، فالتوحيد هو أول واجب على العبد وأول موضوع للدعوة (3) .

_ (1) [يس:60،61] (2) [الأنبياء: 107] (3) هذا هو الحق الذي لا مرية فيه والذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة. أما الرد على مزاعم المتكلمين قديماً من أن أول واجب هو النظر أو القصد إلى النظر أو الشك. ومنهج بعض المعاصرين الذين يقتصرون على الدعوة إلى تشريعات الإسلام الاقتصادية والاجتماعية من غير بيان علاقتها بأصل التوحيد - فهذا ما ندعو الله أن ييسر لنا إخراجه قريباً.

ذلك أن الخلل ليس في العمل والسلوك بل تعداه إلى العقيدة ذاتها، فانحسرت مفهوماتها، وانحصرت مدلولاتها، ونسيت المهمة التي جاء الدين من أجلها وقام عليها، ودرس الإسلام كما يدرس الثوب الخلق حتى لم يبق منه في أكثر البقاع وعند أكثر الناس إلا اسمه، ولم يبق من القرآن إلا رسمه. وليس أمام " الغرباء " الذين يريدون القيام مقام " الأنبياء " بهداية الناس للحق، ويمثلون " الطائفة المنصورة " الناجية التي كتب الله أن تظل على الحق لا يضرها من خالفها - ليس أمامهم من خيار في البدء بتصحيح العقيدة، وتجلية مفهوماتها من خلال هاتين الحقيقتين، ثم البيان العلمي الواضح لأصول الدين وحقائقه. وقد دل استقراء نصوص الكتاب والسنة أن هذا الدين يقوم على أصلين: 1- ألا يعبد إلا الله (بالمعنى الشرعي الكامل للعبادة) . 2- وألا يعبد الله إلا بما شرع (1) . هذا في حقيقته وذاته، أما أسلوبه العلمي ومنهجه الدعوي (وهو الجانب الذي يهمنا الآن) فقد تضمنته آية الحديد السابقة، التي جعلها شيخ الإسلام ابن تيميه محور كتابه القيم "السياسة الشرعية". قال في مقدمته: "الحمد لله الذي أرسل رسله بالبينات والهدى، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب، إن الله قوي عزيز، وختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأيده بالسلطان النصير الجامع معنى العلم والقلم للهداية والحجة، ومعنى القدرة والسيف والنصرة والتعزيز" (2) . وقال في خاتمته: "إن قوام الدين بالكتاب الهادي، والحديد الناصر كما ذكره الله تعالى ـ أي في آية الحديد السابقة - فعلى كل أحد الاجتهاد في اتفاق القرآن والحديد لله تعالى ولطلب ما عنده " (3) .

_ (1) انظر: العبودية، ص 170، المكتب الإسلامي، ومواضع كثيرة من كتب شيخ الإسلام. (2) مجموع الفتاوى (28/24) . (3) المصدر السابق (28/396) . ومثله في بدائع الفوائد (2/15) .

إن اقتران الحديد بالقرآن من أجل إقامة دين الله في الأرض، ليكشف عن سنة ربانية عظمى في عظمة هذا الدين، وطبيعة الجاهلية المقابلة، وهي أن "هذا المنهج الإلهي الذي يمثله الإسلام كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لا يتحقق بالقهر الإلهي على نحو ما يمضي الله ناموسه في دورة الفلك وسير الكواكب وترتب النتائج على أسبابها الطبيعية. إنما يتحقق بأن تحمله مجموعة من البشر، تؤمن بالله إيمانا كاملاً، وتستقيم عليه بقدر طاقتها، وتجعله وظيفة حياتها وغاية آمالها، وتجهد لتحقيقه في قلوب الآخرين وفي حياتهم العملية كذلك، وتجاهد لهذه الغاية بحيث لا تبقى جهداً ولا طاقة. تجاهد الضعف البشري والهوى البشري والجهل البشري في أنفسنا وأنفس الآخرين، وتجاهد الذين يدفعهم الضعف والهوى والجهل للوقوف في وجه هذا المنهج الإلهي إلى الحد والمستوى الذي تطيقه فطرة البشر" (1) . هذه المجموعة تجاهد الناس بالقرآن «وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا» (2) ، وتجاهدهم بالحديد «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ» (3) ، حتى يستقيموا إلى الله ويستقيموا على دين الله، وهذا ما أعلنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: " بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم " (4) . وقوله: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله " (5) .

_ (1) طريق الدعوة في ظلال القرآن، ص 39. (2) [الفرقان:52] (3) [البقرة: 251] (4) رواه الإمام أحمد، المسند (2/92) وشرحه الحافظ ابن رجب شرحاً قيماً، وهو صحيح، وروى البخاري بعضه تعليقاً. أنظر: الفتح (6/98) . (5) رواه البخاري الإيمان (1/75) "الفتح"

مع نصوص كثيرة لا تحصى، وليس هذا خاصاً بمحمد صلى الله عليه وسلم، بل هو سنة جارية في الأنبياء قبله وإن اختلفت صور الجهاد والابتلاء، فما عليهم إلا الصبر والدعوة أما النصر والتمكين فمن عند الله. وقد كان الناس الذين يملكون أثارة من علم يعلمون هذه الحقيقة، قبل أن يقرءوها في كتاب الله تعالى، بل قبل أن ينزل بها. فهذا ورقة ابن نوفل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم بعد سماعه خبر نزول الوحي لأول مرة: " ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك! ‍‍". فيسأله النبي صلى الله عليه وسلم في استغراب: " أو مخرجي هم؟ ‍". فيقول ورقة: " لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي " (1) . وهذا قيصر الروم يقول في حديثه مع أبي سفيان: " سألتك كيف كان قتالكم إياه، فزعمت أن الحرب سجال ودول، فكذلك الرسل تبتلى ثم يكون لهم العاقبة " (2) . وهذا ما صدقه الله بقوله تعالى: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ» (3) . وفي هذا رد - وأيما رد - على الذين يحسبون الإيمان نظرية تعلق بالفكر، يستوجب صاحبها الجنة بلا ابتلاء ولا زلزلة (4) ، وهو ما تأباه سنة الله الثابتة هذه، وتأباه طبيعة الإيمان نفسها، بل طبيعة الجاهلية أيضاً. فلا الإيمان كان نظرية مجردة، ولا الجاهلية كانت كذلك، ولا يكون ذلك أبداً، بل هنالك سنة من سنن الاجتماع البشري، يشهد بها الواقع المحسوس والتاريخ المسطور، وهي أن "هذه الجاهلية التي واجهها كل رسول بالدعوة إلى الإسلام لله وحده، والتي واجهها الداعية العظيم محمد صلى الله عليه وسلم بدعوته، والتي واجهها الدعاة في كل زمان وفي كل مكان. إن الجاهلية لم تكن متمثلة في نظرية مجردة، بل ربما أحياناً لم تكن لها نظرية على الإطلاق إنما كانت متمثلة في تجمع حركي، متمثلة في مجتمع خاضع

_ (1) الفتح (1/23) وسيأتي بتمامه. (2) الفتح (1/20) (3) [البقرة:214] (4) كما هو لازم مذهب المرجئة الغلاة قديما؛ الذين قالوا: إن الإيمان هو مجرد المعرفة أو مجرد التصديق. كما سيأتي تفصيله. وهو مذهب بعض العصريين الذين لا يتعدى الإيمان عندهم النظرية الفلسفية المجردة.

لتصورات وقيم ومفاهيم ومشاعر وعادات، وهو مجتمع عضوي بين أفراده ذلك التفاعل والتكامل والتناسق والولاء والتعاون العضوي، الذي يجعل هذا المجتمع يتحرك بإرادة واعية أو غير واعية للمحافظة على وجوده والدفاع عن كيانه والقضاء على عناصر الخطر التي تهدد ذلك الوجود وهذا الكيان في أي صور التهديد" (1) . وهذه الطبيعة المتأصلة في الجاهلية جاء الحديث عنها في القرآن في مواضع كثيرة وتصويرها في مواقف كثيرة من أمثال: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ» (2) . «قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ» (3) . «وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ» (4) . «وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ» (5) . «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا» (6) . «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ» (7) [الأنعام: 112] .

_ (1) طريق الدعوة في ظلال القرآن (1/137) . (2) [إبراهيم: 13، 14] (3) [الأعراف: 88، 89] (4) [النمل:54، 56] (5) [غافر: 26] (6) [الفرقان: 31] (7) [الأنعام: 112]

«وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ» (1) . «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ» (2) . وإيضاحاً لهذا الإجمال، وتفصيلاً لهذه الحقائق، رأيت عرض ظاهرة العمل وعلاقتها بالإيمان من خلال: 1- تتبع المسيرة التاريخية لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، التي بها تظهر طبيعة هذا الدين في حركته، والصورة المثلى لقيامه وتحققه في واقع الأرض، كما تظهر بها الحقيقة الثابتة في الجاهلية سواء في النفوس أو في الأمم. 2- دراسة النفس الإنسانية ومعرفة طبيعة همها وسعيها ودوافع ذلك وضوابطه، وربط ذلك بواقع الجيل الأول وحقيقة التوحيد الصافية، إذ بها تظهر حقيقة الإيمان التي أنزله الله ليزكيها ويوجهها فجعله ملائماً لها متسقاً مع فطرتها شاملاً لكل حركتها. ثم ننتقل بعد ذلك إلى حقيقة الإيمان العملية والنظرية كما هي في الكتاب والسنة، وعقيدة أهل السنة والجماعة، لنرى مدى التوافق والتطابق والانسجام.

_ (1) [الأنعام: 123] (2) [الأنفال:30]

دعوة النبي صلى الله عليه وسلم: «ارتباط العمل بحقيقة الدين والدعوة»

دعوة النبي صلى الله عليه وسلم: «ارتباط العمل بحقيقة الدين والدعوة» تعد الفترة السابقة لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم (ق6 و7 م) من أحلك القرون في تاريخ الجماعة الإنسانية وأكثرها ضلالاً وضياعاً. ولهذا استحقت المقت من الله تعالى كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب" (1) . فالعالم الأرضي كله يتخبط في ظلمات الأديان المحرفة والوثنيات الكالحة والأنظمة الطاغوتية، وكان هذا العالم ينقسم قسمين كبيرين: 1- القسم البدائي. 2- القسم المتحضر. أما القسم الأول: وهو يشمل الشعوب الهمجية التي تقطن غرب أوروبا ووسط آسيا وشرقها ومعظم إفريقية. فحاله غني عن الشرح والبيان، وهو إلى حياة السوائم أقرب منه إلى حياة البشر في كل مناحي الحياة. والنماذج الباقية منه الآن تعطي صورة مصغرة منه للحال التي كان عليها في ذلك الزمن الغابر. وأما القسم الأخير: فأبرز من يمثله الدولتان العظيمتان "فارس والروم"، وكلاهما كان يخضع لنظام طاغوتي استبدادي، ويدين بدين باطل منحرف. فالفرس يدينون بالمجوسية، والروم يدينون بالديانة التركيبية التي أسسها بولس وأظهرها قسطنطين "المسيحية". والنظام الاجتماعي في الدولتين كلتيهما من أبشع النظم في التاريخ من حيث التمييز العنصري والتفاوت الطبقي.

_ (1) هو جزء من حديث عياض بن حمار الآتي تخريجه قريباً.

وكان أعظم مظاهر الانحطاط في هذه الأمم - بل هو أصل الفساد كله، هو عبودية البشر للبشر، تلك العبودية التي نعاها عليهم منقذ الإنسانية رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في كتابه لقيصر (1) ، وواجه بها ربعة ابن عامر قائد جيوش كسرى (2) ، سواء العبودية لطواغيت الخرافة والتدين، أو طواغيت الحكم والتسلط، وفي واقع دولة أهل الكتاب التي هي خير ما على الأرض حينئذ ما يوضح ذلك. فالطبقات السفلى تعبد العليا والكل يعبد الإمبراطور، والدين يشرعه السدنة والأحبار والرهبان، والقوانين يسنها الأباطرة (3) والنبلاء، والجيوش الجرارة تحمي هذه الأنظمة الجائرة والأوضاع الظالمة أيما حماية، وما من مواطن إلا هو مستعد - طوعاً أو كرهاً - لإراقة دمه في سبيل ما أسموه "شرف الإمبراطور والوطن" كما هو خاضع في عقيدته وتدينه لما يشرعه رجال الدين. أما الشعوب، الخاضعة لحكم هاتين الدولتين - ومنها سكان العراق والشام ومصر فقد كانت ترزح تحت نير الاستبداد الغاشم والجبروت القاهر، وحسبك أنهم كانوا كالعبيد لعبيد الإمبراطورية. أما عقائدهم الدينية فيجب أن تكون تبعاً لما تقرره مجامع روما أو القسطنطينية وإلا فالإبادة والاستئصال وقرارات اللعن والحرمان من الجنة‍. ويقرب من حال هاتين الدولتين الهند، إلا أن دينها أكثر إسفافاً، ونظامها الطبقي أشد بشاعة. وأما عرب الجزيرة فهم خاصة في حياتهم القبلية وعاداتهم الراسخة أقرب إلى حال الشعوب الهمجية المذكورة في القسم الأول، لولا ما خصهم الله به من ميزات إرهاصاً لحمل الرسالة العظمى إلى أمم الأرض قاطبة. والحاصل أن العالم البشري (4) كله كان يعيش واقعاً رهيباً لا يتصور بأي حال من الأحوال إصلاحه من داخله، أي من خلال حضارته وثقافته وحكمته.

_ (1) أنظر نص الكتاب في صحيح البخاري (1/32) . (2) أنظر: البداية والنهاية (392) بل واجهه بها المغيرة بن شعبة كما في الصفحة نفسها. (3) كان مولد الرسول صلى الله عليه وسلم موافقا لعصر الإمبراطور (جستنيان) صاحب القوانين الرومية المشهورة باسمه، وهي الحقبة نفسها التي غيرت العقيدة والشريعة ابتداء بمجمع نيقية (325م) انظر عنها محاضرات في النصرانية (146) فما بعدها، طبعة الرئاسة العامة للافتاء (1404) هـ (4) وكذلك العالم الجني كما صورته سورة الجن.

فالقسم المتحضر - خاصة - لم يكن مفلساً من ذلك، بل كانت له فلسفاته وثقافته وتجاربه، وقد كان من بين أيدي أممه من مأثورات بوذا وبيدبا وأفلاطون وأرسطو وأردشير وبزرجمهر وأضرابهم الشيء الكثير (1) . كما كان عند العرب من رصيد الحكم ومشهور الأمثال والعبر الذخر الوفير. فقد كان لديهم دعاة السلم الصارخون كزهير، وأساطين الحكمة المجربون كأكثم، والوعاظ المنذرون بسوء المصير مثل قس بن ساعدة ... ولكن هذا الواقع الضخم المظلم لم يكن ليتغير بالنظريات ولا بالحكم المجردة، بل إن النظريات الفلسفية خاصة لهى إحدى الدعامات الطاغوتية التي قام عليها هذا الواقع في مجال العقيدة والفكر. أما الحكم الأخلاقية والعبارات التهذيبية مهما نمقها الحكماء وأرسلها الخطباء فهي أشبه بفقاعات في ذلك المحيط الهائج. هذا في العالم الممقوت، وأما بقايا أهل الكتاب المستمسكون بأثارة نبوية فهم من الندرة بمكان، ثم إنهم قابعون في زوايا النسيان والإهمال، ينتظرون رسول آخر الزمان بفارغ الصبر، أو ينتظرون ريب المنون ليخلصهم من هذا الواقع الأليم. وأما الباحثون عن الدين الحق - على ندرتهم - فمنهم من قتله اليأس والكمد، ومنهم من اعتنق بعض تلك الأديان لأنه لم يجد سواها (2) ، ومنهم من كتب له الفوز فأدركه النور وانتشلته الرحمة الربانية وهو غارق في متاهات البحث. والمقصود أن هؤلاء كانوا أعجز وأقل من أن يفكروا في إصلاح شيء من هذه الدنيا المائجة بالضلال والظلام. لقد كان العالم في أشد الحاجة إلى رحمة إلهية تنقذه من براثن الانهيار المحتوم. وجاءت هذه الرحمة في النور المبين الذي نزل على النبي الأمي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين» [الأنبياء:107] . نزل هذا النور ليزيح هذا الواقع الكالح، ويرفع كابوسه عن الثقلين، ويقيم مكانه واقعاً يرضاه الله، وتطمئن له الفطرة، وترتاح إليه العقول، وتتحقق فيه الكرامة

_ (1) هؤلاء من أشهر حكماء الهند وأوربا والفرس على الترتيب. (2) من هؤلاء ورقة بن نوفل، وقد تنصر: البخاري (1/23) ، وعمرو بن زيد بن نفيل وقد بقي على ملة إبراهيم: البخاري (7/142) ، وممن أدركته رحمة الله سلمان الفارسي رضي الله عنه: انظر: الفتح (7/92) .

الإنسانية التي لا تتحقق أبداً إلا بالعبودية الخالصة لرب العالمين والانخلاع الكامل عن عبودية المخلوقين. ومعنى هذا ومقتضاه أن تلك الإمبراطوريات، وتلك المعتقدات، وتلك الأوضاع، والتقاليد، وتلك الأنظمة والقوانين، وتلك الفلسفات والثقافات، سوف تجتث من جذورها وتستأصل من عروقها، سواء في واقع الأرض أو في واقع النفوس، وأن ما زوى الله لحبيبه محمد من الأرض (1) سوف يتطهر من هذه الأرجاس والأديان ويستضيء بنور الهدى والفرقان. ومعنى هذا أن تلك الجيوش الإمبراطورية الجرارة التي عجز بعضها عن سحق بعض، لا بد أن يظهر مقابلها جيش إيماني يسحقها جميعاً. ومن معناه كذلك أن نفوس الملايين من البشر الذين توارثوا تلك الضلالات والخرافات، وأشربوا في قلوبهم آثارها المدمرة، لابد لها من تزكية ربانية تحرق الشبهات، وتحطم الشهوات، وتستأصل الأمراض المتغلغلة، والضغائن المتأصلة، والالتواءات النفسية العميقة. وهذا عمل ضخم هائل، لا يدرك حقيقة ضخامته إلا من أدرك ضخامة هذا الواقع الأرضي الثقيل الطاغي في مقابل رجل واحد، ثم قاس ذلك بمعاناة الأنبياء السابقين صلوات الله وسلامه عليهم مع أممهم. فهذا نوح عليه السلام يدعوا قومه ألف سنه إلا خمسين عاماً بنص القرآن، ثم لا يؤمن معه إلا قليل بنص القرآن أيضاً، وهذا القليل - مع اختلاف الأقوال في تحديده - لم ينقل أنه زاد عن مائة نفس (2) . وكثير من الرسل بعده كانوا كذلك، بل كان منهم من لم يتبعه إلا الرجل والرجلان، ومنهم من لم يتبعه أحد (3) . وهذا وهم إنما بعثوا إلى أقوامهم خاصة، فكيف بمن بعث للثقلين عامة وأمر بمجاهدة الدنيا قاطبة، كما ورد في الحديث الجامع العظيم الذي رواه عياض ابن حمار رضى الله عنه، ومنه: "وأن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل

_ (1) حديث: "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها": مسلم رقم (2889) . (2) انظر: ابن كثير (4/255) . (3) كما في حديث: "عرضت على الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد.." مسلم رقم (374) .

الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظان. وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً، فقلت: رب إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، قال: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك" (1) . إن هذا الحديث يعطي فيما يعطي من دلالات: اعتبار ذلك الواقع الضخم ومراعاته، وكذلك ضخامة التكليف وعبء الحمل، كما يوضح مع ذلك كيف تلتقي السنن الربانية - ومنها سنة اشتراط الجهد البشري وابتلاء بعض الناس ببعض - مع سنة العهد الرباني بنصر أوليائه وإن طال الابتلاء، فهما مقترنتان متضافرتان تعملان عملاً واحداً في النهاية. وهنا نحتاج أن نقف وقفة طويلة لنستجلي الإيمان بالعمل، والعقيدة بالحركة، من خلال مسيرة هذا الدين الواقعية ووجوده المادي في الأرض. إن الإعداد لتلك المهمة الضخمة - المشار إليها - يبدو ظاهراً جلياً في كل مرحلة من مراحل الدعوة، بل في كل خطوة من خطواتها، فالأمر كله جد ونصب، وكله صبر وابتلاء. 1- فمنذ اللحظة الأولى لنزول هذا الدين تأتي الشدة والإجهاد في معاناة تلقي الوحي، وتبدأ المخاوف والنذر الثقيلة لمستقبل من يحمله. فقد روت أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها أن "أول ما بدئ به الرسول من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء. فجاءه الملك، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني، فقال: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ» فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت

_ (1) رواه مسلم رقم (2865) ، وقد سبق أوله، ص 25.

خويلد رضى الله عنها، فقال: "زملوني، زملوني" فزملوه حتى ذهب عنه الروع. فقال لخديجة - وأخبرها الخبر -: "لقد خشيت على نفسي". قالت: خديجة: كلا، والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى - ابن عم خديجة - وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمى. فقالت له خديجة: يا بن عم، اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا بن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو مخرجي هم؟ " قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي" (1) . فمن المعاناة الصعبة في تلقي الوحي إلى السنة الربانية "لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي" (2) ، جاء الإيذان بأمر عظيم منتظر. 2- ثم بعد فترة الوحي هذه التي هي كأنما هي فترة استقرار لروع النبي صلى الله عليه وسلم بعد تلك المفاجأة الكبرى، تأتي خطوة- أو جولة- أخرى تحدث عنها النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: "بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه فرجعت فقلت: زملوني. فأنزل الله تعالى: «يا أيها المدثر (1) قم فأنذر (2) وربك فكبر (3) وثيابك فطهر (4) والرجز فاهجر (5) » الآيات" (3) .

_ (1) الفتح (1/23) . (2) يقول تعالى: «وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً) . (3) الفتح (1/23) .

وهي آيات كلها - كما ترى - أوامر سريعة متلاحقة، تأمر بالمبادرة والمفاصلة والصبر، وتنقل صاحب الشأن من هدأ الروع النفسي إلى ميدان الإنذار الأكبر للعالم أجمع. ومنذ أن نزلت «قم فأنذر» قام صلى الله عليه وسلم قياماً جهادياً متواصلاً دائباً، نازل به قومه والعرب قاطبة، واليهود ثم الإمبراطورية الرومانية ... فكان كما قال صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وكتب الذل والصغار على من خالفني.." (1) 3- بعد ذلك - وما هو منه ببعيد - نزل الأمر بالقيام مرة أخرى ومعه مهام جديدة، فقد نزل مطلع سورة المزمل: «يا أيها المزمل (1) قم الليل إلا قليلا (2) نصفه أو انقص منه قليلا (3) أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا (4) إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً (5) إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلاً (6) إن لك في النهار سبحاً طويلاً (7) واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا (8) رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً (9) واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً (10) وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً (11) إن لدينا أنكالاً وجحيماً ... » الآيات. وهذه السورة تعطي - أبرز ما تعطي - الزاد الأصيل الذي لابد منه لمن يريد حمل هذه الدعوة ومقارعة العالمين بها، ذلك هو زاد الصلة القوية بالله، والتزكية الروحية بالتقرب إليه، ومناجاته في أرجى ساعات المناجاة وأصفاها. وامتثل النبي صلى الله عليه وسلم - كالعادة - وتزود بهذا الزاد الزكي، وشاركه في ذلك صحبه الكرام. فقد روى الإمام أحمد ومسلم - رحمهما الله - من حديث سعد بن هشام - ضمن قصة جديرة بالإطلاع أنه سأل عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها عن قيام النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: "ألست تقرأ يا أيها المزمل؟ قلت: بلى، قالت: فإن الله عز وجل افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً،

_ (1) سبق تخريجه قريباً، ص 31.

وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهراً في السماء حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعاً بعد فريضة" (1) . وفي روايات لغيرهما أنهم قاموا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم أو انتفخت (2) ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استمر على ذلك ـ التزاماً من عند نفسه - فكان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً" (3) . 4- وصدع رسول الله بالدعوة، وسفه أحلام المشركين وعاب آلهتهم، فثارت عليه قريش ثورة رجل واحد، وأثارت معها العرب قاطبة، ولقي صلى الله عليه وسلم من الأذى والبلاء صنوفاً وألواناً. من ذلك ما رواه عروة بن الزبير رضي الله عنه حين قال: "سألت ابن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه على عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل إليه أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله" (4) . 5- ومشهد آخر للأذى التي تتورع عنه النفوس الطاغية الدنيئة يرويه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ وهو "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس؛ إذ قال بعضهم لبعض: أيكم يجيء بسلى جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فجاء به، فنظر حتى إذا سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه على ظهره بين كتفيه - وأنا أنظر لا أغني شيئاً، لو كانت لي منعة! - قال: فجعلوا يضحكون ويحيل - أو يميل -، بعضهم على بعض" (5) 6- هذا عدا الأذى الأكبر من تكذيبه وهو الناصح الأمين، والإعراض عنه وهو النذير المبين بين يدي عذاب شديد، وعدا ما افتراه عليه قومه ونبزوه من ألقاب الزور؛ كقولهم: إنه شاعر أو كاهن أو مجنون، أو يتلقى

_ (1) مسلم رقم (746) ، المسند (6/53- 54) . (2) هذه الروايات جمعها ابن كثير عند تفسير هذه السورة (8/280- 288) . (3) البخاري (8/584) .. (4) البخاري (7/165) ، ونقل الحافظ عن غيره روايات فيها تفصيلات أكثر. (5) الفتح (1/349) .

الوحي عن بعض الأعجمين، أو اكتتبه من أساطير الأولين وأعانه عليه قوم آخرون، وغير ذلك مما حكاه الله عنهم في كتابه العزيز، وهو بلا شك أشد وقعاً على النفوس البريئة من ضرب السيوف ووقع النبال. ولهذا طمأنه ربه وصبره وسلاه فقال: «فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا» (1) ، أي مهلكها بالحزن والأسف. وقال: «أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ» (2) . وقال: «قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» (3) . 7 - وقد حدث النبي صلى الله عليه وسلم عن مشهد من مشاهد الأسى القاتل والأسف البالغ حين يبلغ الحد بالإنسان أن ينسى نفسه في غيبوبة الهم والحزن، قالت عائشة رضي الله عنها، يا رسول الله: "هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: "لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل (4) ، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم عليّ، ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال

_ (1) [الكهف:6] (2) [فاطر:8] (3) [الأنعام:33] (4) هذا الحديث يدل على نزول الملائكة في السحاب، وقد ورد ذلك صريحاً في حديث عائشة رضي الله عنها؛ "أن الملائكة تنزل في العنان - وهو السحاب - فتذكر الأمر قضي في السماء، فتسترق الشياطين السمع، فتسمعه، فتوجه إلى الكهان، فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم": (6/304) . وهذا يبين أن استماع الشياطين لا يستلزم صعودها إلى جرم السماء نفسه. والله أعلم.

النبي صلى الله عليه وسلم بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً" (1) . 8 - وقد عاني أصحابه رضي الله عنهم أشد المعاناة، وما تعذيب آل بلال وآل ياسر إلا نماذج من ذلك، بل إن الأذي يصل إلى أشراف القوم من أمثال الصديق رضي الله عنه. ومع ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم ينفث في أرواحهم الأمل، ويذكرهم بسنة الله في أنبيائه والدعاة إليه على النحو الذي رأيناه مع ملك الجبال. فقد روى البخاري في باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين عن خباب رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة - وقد لقينا من المشركين شدة - فقلت: يا رسول الله، ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمر وجهه (2) فقال: "لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله - زاد بيان - والذئب على غنمه" (3) . 9 - وبلغ الأذى قمته في الحصار المادي والمعنوي الذي ضربته قريش ظلماً وعدواناً على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن عطف عليهم من قرابتهم. قال الزهري: "ثم إن المشركين اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا حتى بلغ المسلمين الجهد، واشتد عليهم البلاء، واجتمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية. فلما رأى أبو طالب عمل القوم جمع بني عبد المطلب وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم ويمنعوه ممن أراد قتله، فاجتمعوا على ذلك مسلمهم وكافرهم، فمنهم من فعله حمية، ومنهم من فعله إيماناً ويقيناً، فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمعوا على ذلك، اجتمع المشركون من قريش، فأجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى

_ (1) العجيب أنه في لحظة إفاقته من هذا الموقف الكريب ترتقي نفسه الكريمة إلى أعلى درجات التسامح والعفو والأمل، فلله من نفس ما أكرمها، ومن خلق ما أعظمه. والحديث في الفتح (6/313) . (2) اختلف الشراح في سبب احمرار وجهه صلى الله عليه وسلم، والظاهر أن سببه التأثر في استعجال الصحابة رضي الله عنهم للنصر المشعر باستيطائهم لوعد الله مع ما أمروا من الصبر واليقين. (3) (7/165) .

يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل، وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهوداً ومواثيق؛ لا يقبلوا من بني هاشم أبداً صلحاً، ولا يأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل. فلبث بنوا هاشم في شعبهم ثلاث سنين، واشتد عليهم البلاء والجهد، وقطعوا عنهم الأسواق، فلا يتركوا طعاماً يقدم مكة ولا بيعاً إلا بادروهم إليه فاشتروه؛ يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم الرسول صلى الله عليه وسلم..". ثم ذكر تخوف أبي طالب من اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم وما دبر لدرء ذلك من الحماية وما أصاب المسلمين من جهد. وقال ابن إسحاق: "ثم عدوا على من أسلم فأوثقوهم وآذوهم، واشتد البلاء عليهم وعظمت الفتنة وزلزلوا زلزالاً شديداً" وذكر ما بلغ بهم من الجهد الشديد "حتى كان يسمع أصوات صبيانهم يتضاغون من وراء الشعب من الجوع". قال السهيلي: "في الصحيح أنهم جهدوا حتى كانوا يأكلون الخبط وورق السمر، حتى إن أحدهم يضع كما تضع الشاه" (1) . 10 - وصل الأمر إلى حد أن المسلمين لا يستطيعون دعوة الناس إلى الله، ولا يستطيع الداخل في الإسلام حديثاً أن يجاهر بذلك، كما يتجلى في قصة إسلام أبي ذر التي رواها عبد الله بن عباس رضى الله عنهما، قال: "لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله ثم ائتني. فانطلق الأخ حتى قدمه، وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبا ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاماً ما هو بالشعر. فقال: ما شفيتني مما أردت. فتزود وحمل شنه له فيها ماء حتى قدم مكة، فأتى المسجد فالتمس النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه بعض الليل، فرآه عليّ فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح!! ، ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد، وظل ذلك اليوم ولا يراه النبي حتى أمسى،

_ (1) أنظر: دلائل النبوة للبيهقي (2/80- 85) ، والسيرة النبوية لابن كثير (2/43- 72) ، والروض الأنف (2/101- 129) ففيها تفصيل قصة الشعب وما تخللها من أحداث، وأصل القصة في الصحيح في قوله صلى الله عليه وسلم: "حيث تقاسموا على الكفر" (7/83) ، (11/282) لكن ليس فيها ذكر الشعب، بل ذكر أن ذلك في الغزو. والله أعلم.

فعاد إلى مضجعه، فمر به علىّ فقال: أما آن للرجل أن يعلم منزله؟ فأفاق فذهب به معه لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء!!. حتى إذا كان يوم الثالث فعاد على علىّ مثل ذلك، فأقام معه ثم قال: ألا تحدثني ما الذي أقدمك؟ قال: إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدنني فعلت! ففعل فأخبره، وقال: فإنه حق، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئاً أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي. ففعل، فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه، فسمع من قوله وأسلم مكانه. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري". قال: والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيكم! ، فخرج حتى أتى المسجد، فنادي بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. ثم قام القوم فضربوه حتى أوجعوه. وأتى العباس فأكب عليه، قال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجارتهم من الشام عليهم؟ فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد لمثلها، فضربوه وثاروا إليه، فأكب العباس عليه" (1) . هكذا كانت المعاناة وكان الجهاد قبل الهجرة بل قبل نزول الفرائض. وهنا لا بد من وقفة سيأتي لها مزيد ببيان: إن بعض السلف يحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة" ونحوه من النصوص والروايات المطلقة على أن ذلك قبل نزول الفرائض (2) ، وذلك ليردوا على المرجئة في قولهم: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان، مستدلين بمثل هذه النصوص. وهذا أحد أوجه الرد عليهم، غير أنه لا يعني أن هؤلاء السلف كانوا يظنون أن الإيمان قبل نزول الفرائض كان مجرداً عن العمل، مقتصراً على تصديق القلوب وقول اللسان، فهذا ما لا يجوز أن يظن بهم وهم أعرف الناس بمعنى لا إله إلا الله وأعلمهم بهذه المعاناة الكبرى والواجبات الثقيلة التي

_ (1) البخاري (7/173) ، ومسلم رقم (2474) ، وهو في مسلم برواية أخرى قبل هذه أتم، وفيه زيادات مفيدة. (2) أنظر: الإيمان لأبي عبيد، ص 54، وأما استدلال المرجئة على أن الصلاة ونحوها ليست من الإيمان بدليل أنه وجد تاماً قبل فرضيتها فشبهة سيأتي تفصيل الرد عليها في موضعها بإذن الله.

تلقاها المؤمنون الأولون - وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم - قبل نزول الفرائض، وهو ما أفاض القرآن المكي في الحديث عنه تثبيتاً وتسلية وتوجيهاً وتذكيراً. إن شهادة أن لا أله إلا الله لم تكن مجرد كلمة تقال باللسان، ولا يمكن أن تكون كذلك في أي مرحلة من مراحل الدعوة، فضلاً عن مرحلة التأسيس التي هي من أشق المراحل وأهمها. وإلا فما معنى تلك المعاناة القاسية وما موجبها؟ وإنما كانت هذه الشهادة نقلة بعيدة ومعلماً فاصلاً بين حياتين لا رابطة بينهما: حياة الكفر وحياة الإيمان، وما يستلزمه ذلك من فرائض وتعبدات، ومشقات أكبر وأعظم من فريضة الصلاة والزكاة ونحوها. 1 - من ذلك: فريضة التلقي الكامل عن الله ورسوله، ونبذ موازين الجاهلية وقيمها وأخلاقها وأعرافها وتشريعاتها. 2 - ومن ذلك: الولاء المطلق لله ورسوله، والعداء الصارم للكفار ولو كانوا آباءً وإخواناً وأزواجاً وعشيرة. 3 - ومن ذلك: فريضة الصبر على الأذى في الله، الذي لا تطيقه إلا نفوس سمت إلى قمة تحمل الفرائض والواجبات، حتى إن الواحد ليكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار. وهذا ونحوه ما كان يعانيه بلال وهو يُسحب في رمضاء مكة وتلقى عليه الأثقال. وما يكابده سعد وهو يرى أمه تتلوى جوعاً، فيقسم لها لو أن لها مائة نفس فتظل تخرج نفسًا نفسًا حتى تهلك لما رجع عن دينه. وما كان آل ياسر يلقونه وهم يتعرضون لأعظم بلاء تشهده أسرة مضطهدة. وهو ما واجه أبو ذر حين صاح أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وغير ذلك كثير وكثير مما كان قبل أن تنزل الفرائض (1) !

_ (1) هذا مع العلم أن أصول الفرائض نفسها كانت مطلوبة؛ فقيام الليل كان فرضاً، وإنفاق شيء من المال كان فرضاً، وهذا قبل أن تفرض الصلاة والزكاة المعروفتان، وكذا أصل اجتناب المحرمات، وأصل الأمر بالمعروف وغيرها. وغرضنا ليس ترجيح هذا الوجه من وجوه الرد على المرجئة، وإنما هو بيان خطأ المرجئة أو غيرهم في فهم كلام من رجحه أو قال به من السلف.

إن في إمكان الإنسان أن يصلي ما شاء الله له، وينفق بما شاء الله له دون أن يناله كبير مشقة، ولكن أي إنسان هذا الذي يستطيع أن يخالف عادة اجتماعية درج عليها المجتمع والأقارب أجيالاً، ويتحدى هؤلاء بمخالفتها؟ أو يستطيع أن يقلع عن عادة نفسية وصلت به إلى حد الإدمان؟ فما بالك إذا كان الأمر ليس مجرد مخالفة عادة أو تقليد، وإنما هو مفاصلة كاملة ومنابذة تامة لكل عبادة جاهلية وقيمة جاهلية وعرف جاهلي وميزان جاهلي. ثم هو مع ذلك زجر قاطع للنفس عن شهواتها وملذاتها، ومراقبة شديدة لها، ولهذا رأينا النماذج الكثيرة في الجيل الأول ممن يشهد أن لا إله إلا الله فيعود من فوره إلى بيته ليحطم الأصنام التي طالما عبدها وليقطع العلائق التي طالما وثقها. إنه حتى على المنطق الجاهلي لا يصح أن نتصور إيماناً بدون تكاليف، وشهادة بلا أثر في واقع الحياة، وإلا أفكان الجاهليون يقتلون مواليهم ويعذبون أبنائهم وإخوانهم ويقطعون أرحامهم لمجرد كلمة تقال باللسان أو نظرية ذهنية في المعرفة؟ 11 - وهكذا كانت كل خطوة من خطوات الدعوة تسير على الشوك والأذى، حتى كانت الخطوة الفاصلة بالهجرة إلى المدينة، فاكتنفها من المصاعب والشدائد ما هو أشهر من أن يذكر، فقد كانت عيون قريش تلاحقه ورصدها يطارده، حتى قلبوا الجبال والمغارات إلى أن وقفوا على الغار نفسه الذي كمن فيه هو وصاحبه، وكانوا من العثور على فريستهم قاب قوسين أو أدنى. قال أبو بكر الصديق رضى الله عنه: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في العار فرأيت آثار المشركين، قلت: يا رسول الله لو أن أحدهم رفع قدمه - وفي رواية أحمد: نظر إلى قدميه - رآنا، قال: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما" (1) . ومع اليقين في وعد الله بالحفظ والتمكين لم ينس النبي صلى الله عليه وسلم السنة الشرعية، فقد كانت هناك خطة محكمة فريدة تتمثل في اختيار الغار وتضليل المشركين بجهته، ثم كان ما تحدثت عنه عائشة رضى الله عنها بقولها: "ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بغار في جبل ثور فمكثا فيه ثلاث ليال. يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن، فيدلج عندهما بسحر، فيصبح

_ (1) الفتح (8/325) ، والمسند (1/4) .

مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمراً يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام. ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولي أبو بكر منحة من غنم، فيريحا عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل - وهو لبن منحتهما ورضيفهما - حتى ينعق بها عامر بن فهيره بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث. واستأجر رسول الله صلى الله عليه سلم رجلاً من بني الديل فأمناه. فدفعا إليه راحلتيهما، وانطلق معهما عامر بن فهيره والدليل فأخذ بهم طريق السواحل" (1) . وبقدر ما كانت الهجرة إلى المدينة ووضع نواة الدولة الإسلامية خلاصاً للدعوة، وخروجاً بها من مأزق الجمود والحصار الذي كان مضروباً عليها بمكة، كانت أيضاً بداية لمصارعة قوى جديدة، والعمل في محيط لا يقل عداء وصعوبة عن مكة، وإن تغير الموقف في الظاهر. فقد كان على الدعوة أن تصارع العرب المشركين قاطبة - وليس قريشاً وحدها -، واليهود - أمكر خلق الله وأحقدهم -، والمنافقين - ذلك العدو الأرقط الجديد - وأن تحسب الحساب لمجابهة الدولتين العظمتين فارس والروم. وهذا يستدعي تكاليف باهظة وتبعات جديدة. هذا كله وهو إلى جانب العبء الأساسي وهو تزكية هذه الجماعة المؤمنة، وإيجاد الترابط الإيماني المنشود بينهما، وإعدادها لحمل الأمانة العظمى. ومنذ أن حمل النبي صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة اللبن لبناء المسجد لم يزل بانياً لصرح ما شهد العالم الأرضي مثله حتى لقي ربه، فقد بنى - بأمر ربه وإذنه - أمة فذة ودولة فريدة تتقاصر دونهما أحلام الحكماء وتخيلات الشعراء. لقد كانت الجماعة الأولى فذة في تركيبها ومنهجها ونموها وحركتها، كل ذلك لأن عين الله تعالى ترعاها ووحيه يربيها ويزكيها. لكن كيف كانت التزكية؟! أهي الأوامر والنواهي وحدها أم التصورات الاعتقادية المجردة؟!. كلا بل كانت حلقات قاسية من المعاناة والتربية بالأحداث والتجارب والفتنة والابتلاء.

_ (1) الفتح0 (7/232) .

* السمة الأولى: هي الواقعية الجديدة في منهج هذا الدين

12 - فبعد سنة ونصف تقريباً من بناء المسجد كانت معركة "بدر"، وهي أعظم وأعمق الأحداث في تلك المرحلة، بل ربما كانت أول مواجهة حربية بين كتيبة الإيمان وجيوش الشرك منذ المعركة التي خاضها طالوت وداود مع جالوت وجنوده (1) ، وهذا يعطيها قيمة كونية كبرى. وليس المجال هنا مجال الحديث عن بدر وفضل من شهدها وقيمتها العظيمة تلك، وإنما المراد أن نقول: "إنه مع كل عظمة هذه الغزوة فإن قيمتها لا تتضح أبعادها الحقيقية إلا حين نعرف طبيعتها، وحين نراها حلقة من حلقات "الجهاد في الإسلام"، وحين ندرك بواعث هذا الجهاد وأهدافه، كذلك نحن لا ندرك طبيعة الجهاد في الإسلام وبواعثه وأهدافه قبل أن نعرف طبيعة هذا الدين ذاته" (2) . إن هذه المعركة هي بداية مرحلة عليا من مراحل الجهاد، وهي مرحلة «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله» (3) . ومن مراحل الجهاد المتدرجة ـ ومن هذه المرحلة خصوصاً - "تتجلى سمات أصيلة وعميقة في هذا المنهج الحركي لهذا الدين" استنبط الأستاذ سيد قطب رحمه الله منها أربعاً: * السمة الأولى: هي الواقعية الجديدة في منهج هذا الدين فهو حركة تواجه واقعاً بشرياً، وتوجهه بوسائل مكافئة لوجوده الواقعي. إنها تواجه جاهلية اعتقادية تصورية تقوم عليها أنظمة واقعية عملية تسندها سلطات ذات قوة مادية. ومن ثم تواجه الحركة الإسلامية هذا الواقع بما يكافئه، تواجهه بالدعوة والبيان لتصحيح المعتقدات والتصورات، وتواجهه بالقوة والجهاد لإزالة الأنظمة والسلطات القائمة عليها، تلك التي تحول بين جمهرة الناس وبين التصحيح بالبيان للمعتقدات والتصورات، وتخضعهم بالقهر والتضليلل وتعبدهم لغير ربهم الجليل".

_ (1) ومن التشابه بين المعركتين أن عدد المؤمنين فيهما بضعة عشر وثلاثمائة كما في صحيح البخاري (7/290) . (2) الظلال، الأنفال، ص 1431، طبعة الشروق. (3) نزلت هذه الآية ضمن آيات الغزوة، ونزل في أول السورة صفات المؤمنين الحقيقيين.

* السمة الثانية: في منهج هذا الدين هي الواقعية الحركية

وإذا كانت هذه الحركة لا تكتفي بالبيان في وجه السلطان المادي، فكيف يتصور بحال من الأحوال أن تكون نظرية حبيسة داخل عقول أصحابها ويكونون مع ذلك مؤمنين بها حقاً؟! * السمة الثانية: في منهج هذا الدين هي الواقعية الحركية. فهو حركة ذات مراحل، كل مرحلة لها وسائل متكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية، وكل مرحلة تسلم المرحلة التي تليها، فهو لا يقابل الواقع بنظريات مجردة، كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة ... ". فهو ليس حركة وعملاً وحسب بل حركة دائبة وعمل متجدد ... "والسمة الثالثة: هي أن هذه الحركة الدائبة والوسائل المتجددة لا تخرج هذا الدين عن قواعده المحددة، ولا عن أهدافه المرسومة. فهو منذ اليوم الأول - سواء وهو يخاطب العشيرة الأقربين، أو يخاطب قريشاً، أو يخاطب العرب أجمعين، أو يخاطب العالمين - إنما يخاطبهم بقاعدة واحدة، ويطلب منهم الانتهاء إلى هدف واحد وهو إخلاص العبودية لله والخروج من العبودية للعباد ... لا مساومة في هذه القاعدة ولا لين، ثم يمضي إلى تحقيق هذا الهدف الواحد في خطة مرسومة ذات مراحل محددة، لكل مرحلة وسائلها المتجددة، على نحو ما أسلفناه في الفترة السابقة" (1) . إن الجهاد من حيث هو قمة العمل في الإسلام "وذروة سنامه" ليكشف لنا بصدق وواقعية عن طبيعة هذا الدين، ومهمته في الأرض، وأهدافه العليا التي أراد الله تحقيقها في عالم الثقلين، ولقد سبق أن ألمحنا بإيجاز عن حالة العالم الإنساني في فجر الرسالة، وأشرنا إلى العبودية التي كانت البشرية تمارسها للطواغيت والأهواء والأحبار والرهبان، وهذا ما

_ (1) الظلال، الأنفال، ص1432- 1433، ويلاحظ أن المؤلف رحمه الله ذكر هذه السمات عقب نقله عن ابن القيم رحمه الله مراحل الجهاد.

يشير لنا إلى مهمة هذا الدين وأهدافه التي كان الجهاد أحد - أو أبرز - وسائل تحقيقها. "عن هذا الدين إعلان (إلهي) عام لتحرير الإنسان في الأرض من العبودية للعباد ومن العبودية لهواه أيضاً - وهي من العبودية للعباد -، وذلك بإعلان ألوهية الله وحده - سبحانه - وربوبيته للعالمين ... إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه لبشر بصورة من الصور. أو بتعبير آخر مرادف: الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور. ذلك أن الحكم الذي مرد الأمر فيه إلى البشر، ومصدر السلطات فيه هم البشر، هو تأليه للبشر يجعل بعضهم لبعض أرباباً من دون الله. إن هذا الإعلان معناه انتزاع سلطان الله المغتصب ورده إلى الله وطرد المغتصبين له، الذين يحكمون الناس بشرائع من عند أنفسهم (أو يرسمون لهم مناهج للتعبد والتقرب غير ما شرعه الله) فيقومون منهم مقام الأرباب ويقوم الناس منهم مقام العبيد. إن معناه تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض، أو بالتعبير القرآني الكريم: «وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ» (1) . «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ» (2) . «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» (3) . وقيام مملكة الله في الأرض وإزالة مملكة البشر وانتزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد ورده إلى الله وحده، وسيادة الشريعة الإلهية وحدها وإلغاء القوانين البشرية. كل ذلك لا يتم بمجرد التبليغ والبيان، لأن

_ (1) [الزخرف:84] (2) [يوسف:40] (3) [آل عمران: 64]

المتسلطين على رقاب العباد، المغتصبين لسلطان الله في الأرض، لا يسلمون في سلطانهم بمجرد التبليغ والبيان، وإلا فما كان أيسر عمل الرسل في إقرار دين الله في الأرض، وهذا عكس ما عرفه تاريخ الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - وتاريخ هذا الدين على مر الأجيال". بل حتى الأفراد أنفسهم وهم الذين عبدوا أنفسهم لغير الله من الأوثان والطواغيت المختلفة ليس لدى أكثرهم استعداد لترك ما ألفته النفس وسار عليه الآباء والأجداد ويعيش عليه المجتمع كله لمجرد التبليغ والبيان، بل إن ما نفوسهم من حواجز الكبر والعناد والتمرد لا يقل عن الحواجز الضخمة التي يضعها البشر المتألهون دون شعوبهم المستعبدة. وإزاء هذه الاعتبارات فإن "هذا الإعلان العام لتحرير (الإنسان) في الأرض من كل سلطان غير سلطان الله وإعلان ألوهية الله وحده وربوبيته للعالمين، لم يكن إعلاناً نظرياً فلسفياً سلبياً. إنما كان إعلاناً حركياً واقعياً وإيجابياً. إعلاناً يراد له التحقيق العملي في صورة نظام يحكم البشر بشريعة الله، ويخرجهم بالفعل من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك (ويظل يحرسهم من الانحراف ويسددهم للاستقامة على العبودية الخالصة لله وحده) ، ومن ثم لم يكن بد من أن يتخذ شكل "الحركة" إلى جانب شكل "البيان"، ذلك ليواجه الواقع البشري بكل جوانبه بوسائل مكافئة لكل جوانبه. والواقع الإنساني - أمس واليوم وغداً - يواجه هذا الدين ـ بوصفه إعلاناً عاماً لتحرير الإنسان في الأرض من كل سلطان غير سلطان الله ـ بعقبات اعتقادية تصورية، وعقبات مادية واقعية، وعقبات سياسية واجتماعية واقتصادية وعنصرية وطبقية، إلى جانب عقبات العقائد المنحرفة والتصورات الباطلة، وتختلط هذه بتلك وتتفاعل معها بصوره معقدة شديدة التعقيد. وإذا كان "البيان" يواجه العقائد والتصورات فإن "الحركة" تواجه العقبات المادية الأخرى، وفي مقدمتها السلطان السياسي القائم على العوامل الاعتقادية التصورية والعنصرية والطبقية والاجتماعية والاقتصادية المعقدة المتشابكة، وهما معاً

- البيان والحركة - يواجهان "الواقع البشري" بجملته بوسائل مكافئة لكل مكوناته، وهما معاً لابد منهما لانطلاق حركة تحرير للإنسان في الأرض، الإنسان كله في الأرض كلها" (1) . * ومن بدر ننتقل إلى أُحد: وفي أُحد تتجلى طبيعة هذا الدين وحقيقة الإيمان الذي جاء به في جانبي العمل الإيماني كليهما: عمل القلب وعمل البدن، فأما عمل الجوارح وجهادها خلال وقائع المعركة، فقد كانت التضحيات الكبرى والنماذج الفذة في المصابرة والمناجزة، كما كانت البطولات الرائعة والجراح العميقة التي تحدثت عنها مصادر السيرة الصحيحة (2) ، والتي ستظل الأجيال وراء الأجيال تستمد منها الوقود لجهاد لا يعرف اليأس، وصبر لا يعرف الوهن. ولكن الجانب الأعظم في دروس هذه الغزوة - لا سيما بالنسبة لموضوعناـ هو جانب عمل القلب، وهو الجانب الذي يكشف عن حقيقة معركة هذا الدين وطبيعة سيره وفق سنة الله الثابتة التي لا يصح إغفالها أو تناسيها في أي عصر ولدى أي دعوة. ٍإن معركة أُحد "لم تكن معركة في الميدان وحده، إنما كانت كذلك معركة في الضمير، كانت معركة ميدانها أوسع الميادين، لأن ميدان القتال فيها لم يكن إلا جانباً واحدا من ميدانها الهائل الذي دارت فيه. ميدان النفس البشرية وتصوراتها ومشاعرها وأطماعها وشهواتها ودوافعها وكوابحها على العموم. وكان القرآن هناك يعالج هذه النفس بألطف وأعمق، وبأفعل وأشمل ما يعالج المحاربون أقرانهم في النزال! وكان النصر أولاً وكانت الهزيمة ثانياً، وكان الانتصار الكبير فيها بعد النصر والهزيمة. انتصار المعرفة الواضحة والرؤية المستنيرة للحقائق التي جلاها القرآن، واستقرار المشاعر على هذه الحقائق، واستقرار اليقين، وتمحيص النفوس، وتمييز

_ (1) الظلال، ص 1434، وقد ذكر الرابعة، ص 1434 وهي: الضبط الاجتماعي للعلاقات بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات.." إلخ. وانظر عما سبق، ص 1509 من الظلال. (2) أنظر البخاري في كتاب المغازي (3/354، 361، 372، 373) .

الصفوف. ووضوح سمات النفاق وسمات الصدق في القول والفعل وفي الشعور والسلوك، ووضوح تكاليف الإيمان وتكاليف الدعوة إليه والكرة به، مقتضيات ذلك كله من الاستعداد بالمعرفة والاستعداد بالتجرد والاستعداد بالتنظيم والتزام الطاعة والاتباع بعد هذا كله، والتوكل على الله وحده في كل خطوة من خطوات الطريق، ورد الأمر إلى الله وحده في النصر والهزيمة وفي الموت والحياة، وفي كل أمر وفي كل اتجاه". ولقد أنزل الله تعالى لبيان ذلك كله وعلاجه وتقريره ستين آية من سورة آل عمران (1) ، آيات مفصلات تبين حقيقة الإيمان ومقتضياته، وارتباط النصر أو الهزيمة بجزئياته التي قد لا يحسب لها كثير من الناس بل من الدعاة حساب. ومن ثم لم يقف سياق هذه الآيات عند حدود المعركة القتالية ودروسها الحية، بل تعرض بوضوح وتفصيل لأعمال إيمانية كثيرة، ذلك أن "القرآن كان يعالج الجماعة المسلمة على أثر معركة لم تكن ـ كما قلناـ معركة في ميدان القتال وحده، إنما كانت معركة في الميدان الأكبر، ميدان النفس البشرية وميدان الحياة الواقعية، ومن ثم عرج على الرِّبا فنهى عنه، وعرج على الإنفاق في السراء والضراء فحض عليه، وعرج على طاعة الله ورسوله فجعلها مناط الرحمة، وعرج على كظم الغيظ والعفو عن الناس، وعلى الإحسان والتطهر من الخطيئة بالاستغفار، والتوبة وعدم الإصرار، فجعلها مناط الرضوان. كما عرج على رحمة الله المتمثلة في رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم ولين قلبه، وعلى مبدأ الشورى وتقريره في أحرج الأوقات، وعلى الأمانة التي تمنع الغلول، وعلى البذل والتحذير من البخل في نهاية ما نزل في التعقيب على هذه الغزوة من آيات ... عرج على هذا كله لأنه مادة إعداد الجماعة المسلمة للمعركة الكبرى في نطاقها الواسع، الذي يتضمن المعركة الحربية في إطاره ولا يقتصر عليها، معركة التعبئة الكاملة للانتصار الكبير، الانتصار على النفس والشهوات والمطامع والأحقاد، والانتصار في تقرير القيم والأوضاع السليمة لحياة الجماعة الشاملة. وعرج على هذا كله ليشير إلى وحدة هذه العقيدة في مواجهة الكينونة البشرية ونشاطها كله، ورده كله إلى محور واحد، محور العبادة لله والعبودية له والتوجه إليه

_ (1) من آية 121 إلى 179، وأنظر: الفتح، المغازي (7/347) .

في حساسية وتقوى، وإلى وحدة منهج الله في الهيمنة على الكينونة البشرية كلها في كل حال من أحوالها، وإلى الترابط بين جميع هذه الأحوال في ظل هذا المنهج، وإلى النتائج النهائية في ظل النشاط الإنساني كله، وتأثر كل حركة من حركات النفس وكل جزئية من جزئيات التنظيم في هذه النتائج النهائية. وإذن فهذه التوجيهات الشاملة ليست بمعزل عن المعركة، فالنفس لا تنتصر في المعركة الحربية إلا حين تنتصر في المعارك الشعورية والأخلاقية والنظامية، والذي تولوا يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا من الذنوب، والذين انتصروا في معارك العقيدة وراء أنبيائهم هم الذين بدأوا المعركة بالاستغفار من الذنوب، والالتجاء إلى الله، والالتصاق بركنه الركين. والتطهر من الذنوب إذن، والالتصاق بالله، والرجوع إلى كنفه من عدة النصر وليست بمعزل عن الميدان، واطراح النظام الربوي إلى النظام التعاوني من عدة النصر ... وكظم الغيظ والعفو عن الناس من عدة النصر، فالسيطرة على النفس قوة من قوى المعركة، والتضامن في المجتمع والتسامح قوة ذات فاعلية كذلك" (1) . إن هذه كلها شُعب من شُعب الإيمان التي يجب على الجماعة المؤمنة أن تستكملها لتكون أهلاً لنصر الله وتأييده، والحديث عن هذه الشعب ضمن الحديث عن المعركة وتقديرها ضمن دروس المعركة وتوجيهاتها يعطي أكبر الدلالة على حقيقة هذا الدين وحقيقة الإيمان، فإن تعليم هذه الأحكام وتقريرها حصل في جو الدماء والمعارك والمجاهدة، فما بالك بالالتزام بها وتنفيذها في واقع النفس والحياة، ولهذا قال جل شأنه: «وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا» (2) . إن الإنسان ليشعر بالهوة الساحقة بين قمة الإيمان هذه التي يبينها القرآن وتدل عليها سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وحياة الجماعة المسلمة الأولى، وبين مستنقع النظريات الكلامية المجردة وهي تتحدث عن الإيمان في تجريد وغموض وأوهام وأخلاط، وإن الأمة التي تدع أخذ عقيدتها من كتاب ربها وسنة نبيها وواقع سيرته كي تأخذها من هذه النظريات السقيمة لهي جديرة بأن تكون على الحال الذي عليه أمة الإسلام اليوم وحسبك به حال.

_ (1) الظلال، ص 457، 459. (2) [العنكبوت: 69]

وأنه إذا كانت المخالفة الجزئية لخطة المعركة - كما وقع من الرماة ـ وتطلع بعض النفوس إلى الغنائم المادية، وتولي بعض الأفراد حين حمى الوطيس - نذائر شؤم وأسباب هزيمة وخسارة، فما بالك بأمة تلقي كتاب ربها وراءها ظهرياً، وتعبد الدرهم والدينار، ولا يخطر على بالها جهاد قط، وتستحل الربا والغلول و ... ، و ... ، وتفعل ما تعرضت له هذه الآيات وما لم تتعرض له، ثم تستبطئ نصر الله الذي وعد به المؤمنين، وتحسب نفسها مؤمنة حق الإيمان لأنها تصدق بقلوبها وتقر بلسانها، فهذا هو الإيمان كما علمته إياها كتب علم الكلام! إنها هوة كبيرة جداً بين هذا الإيمان الحي المتحرك الوثاب الذي يخطئ فيرى عقوبة خطيئته، ويصيب فيرى بركة استقامته، وبين تلك القضايا الذهنية الباهتة الباردة التي يتوهمها الكلاميون، والعواطف الغامضة المشوشة التي يتخرصها الصوفيون (1) . وخير مثال لهذه الهوة هو الهوة بين واقع الجيل الأول وواقع العصور المتأخرة عصور الإرجاء! وبعد أن تمثلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مكسور الثنية مجروح الوجنة متردياً في حفرة يوم أحد، نتمثله الآن في يوم آخر وهو عاصب على بطنه من الجوع يضرب بالفأس ويجرف بالمسحاة ويحمل في المكتل، وينشد مع أصحابه: والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا ويقول: اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة. فيجيبونه: نحن الذين بايعوا محمداً ... ... على الجهاد ما بقينا أبداً (2) وذلك يوم الخندق، وما أدراك ما يوم الخندق؟! هذا اليوم الذي يضيف إلى دروس أحد دروساً جديدة ويرسم معالم إيمانية جديدة أيضاً، ويعطي صفحة آخرى نقرأ فيها كيف أنه "في معترك الحياة ومصطرع

_ (1) هذا بغض النظر عن الدوافع الأصلية للفلسفة والتصوف. (2) انظر: الفتح، المغازي (7/ 392، 399) ، ومسلم، الجهاد، رقم (1803 - 1805) .

خاتمة المطاف

الأحداث كانت الشخصية المسلمة تصاغ، ويوماً بعد يوم وحدثاً بعد حدث كانت هذه الشخصية تنضج وتنموا وتتضح سماتها، وكانت الجماعة المسلمة التي تتكون من تلك الشخصيات تبرز إلى الوجود بمقوماتها وقيمها الخاصة وطابعها المميز بين سائر الجماعات. وكانت الأحداث تنهال على الجماعة الناشئة حتى لتبلغ أحياناً لدرجة الفتنة، وكانت فتنة كفتنة الذهب، تفصل بين الجوهر الأصيل والزبد الزائف، وتكشف عن حقائق النفوس ومعادنها فلا تعود خليطاً مجهول القيم" (1) . وكل ذلك إنما هو مقضيات جديدة للإيمان، وتحقيق واقعي لزيادته التي ظل هذا الجيل يترقى فيها درجة بعد درجة حتى وصل إلى الكمال الذي لم يبلغه جيل مثله قط، فاستحق بذلك القوامة على العالمين، والثناء العظيم من رب العالمين. ولو أن إيمانهم وقف عند عقبة من عقبات الطريق الشاقة، أو تملص من فتنة من فتن التمحيص الحادة، لما تحقق لهم كل ما تحقق، بل ربما خسروا وخسرت الإنسانية كلها. ومع ما في الخندق من زيادات للإيمان جديدة ودروس للبناء جديدة، فإنها كانت امتداداً طبيعياً لسنة الله في سير هذا الدين - كما ألمحنا إليها - وفي تزكية النفس الإنسانية به. ذلك أن الله تعالى لم ينزل القرآن بمواعظه وتزكيته على قوم محبوسين في الأديرة والصوامع، أو قابعين في زوايا الحياة، وإنما اقتضت حكمته أن تكون الموعظة والتزكية من خلال الابتلاءات والامتحانات المتكررة "فقد علم الله أن هذه الخليقة البشرية لا تصاغ صياغة سليمة، ولا تنضج نضجاً صحيحاً، ولا تصح ولا تستقيم على منهج إلا بذاك النوع من التربية التجريبية الواقعية التي تحفر في القلوب، وتنقش في الأعصاب، وتأخذ من النفوس وتعطي في معترك الحياة ومصطرع الأحداث. أما القرآن فينزل ليكشف لهذه النفوس عن حقيقة ما يقع ودلالته، وليوجه تلك القلوب وهي منصهرة بنار الفتنة، ساخنة بحرارة الابتلاء، قابلة للطرق، مطاوعة للصياغة" (2) .

_ (1) الظلال، الأحزاب، ص 2831. (2) الظلال، الأحزاب، ص 2832.

ومن واقع أنفسنا اليوم نستدل على هذه الحقيقة؛ فنحن نقرأ آيات المعركة كما في سورة الأحزاب: «يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيراً (9) إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا (10) هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً» الآيات. نقرأها فنمر عليها مروراً عابراً، وإذا فسرها المفسرون منا فقد لا يزيدون على قولهم: «إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم» : أي من جهتي المدينة، وإذ زاغت الأبصار: أي من الخوف، «وبلغت القلوب الحناجر» : أي ارتفعت من شدة الخوف.. إلخ. أما أن نقف - ولو في الشعور - مثل ذلك الموقف الرهيب، والكرب الشديد، والأهوال المحدقة لنواجه أعداء الله ونعلي كلمته متأسين بذلك الجيل، فهذا ما لا يخطر على قلب كثير من المسلمين اليوم، وعلى رأسهم نحن المنتسبين للعلم الشرعي في كثير من الأحيان، والله المستعان. إن الحديث عن الإجهاد والمشقة والجوع والبرد والخوف الذي لقيه المؤمنون ليطول، وقد أفاضت فيه المصادر الصحيحة (1) ، وهو ذو دلالة عظمى على ما نريد إيضاحه من قضية الإيمان ومقتضياته، ومع هذا لن نفيض فيها، وإنما نقتصر على جانب واحد من جوانب العبر الكبرى: وهو أن هذا الجيل الكريم هو من حيث التكوين النفسي بشر مثلنا ومثل سائر البشر؛ له مشاعره وعواطفه البشرية بما فيها من نقص وجزع وتأثر بالأحداث ... ونحن نخطئ جداً حين نحسبهم غير ذلك فنفقد الأمل في التأسي بهم ... " لقد كانوا ناساً من البشر، وللبشر طاقة لا يكلفهم الله ما فوقها، وعلى الرغم من ثقتهم بنصر الله في النهاية، وبشارة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم؛ تلك البشارة التي تتجاوز الموقف كله إلى فتوح اليمن والشام والمغرب والمشرق (2) ... على الرغم من هذا كله، فإن الهول الذي كان حاضراً يواجههم كان يزلزلهم ويزعجهم ويكرب أنفاسهم.

_ (1) انظر: الفتح (7/392، 204) . (2) انظر أسانيدها في الفتح (7/397) فهي صحيحة بمجموع الطرق.

ومما يصور هذه الحالة أبلغ تصوير خبر حذيفة، والرسول صلى الله عليه وسلم يحس حالة أصحابه ويرى نفوسهم من داخلها فيقول: "من رجل يقوم فينظر ما فعل القوم ثم يرجع - يشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة - أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة؟ ". ومع هذا الشرط بالرجعة، ومع الدعاء المضمون بالرفقة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، فإن أحداً لا يلبي النداء!! فإذا عين حذيفة بالاسم قال: فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني (1) . ألا إن هذا لا يقع إلا في أقصى درجات الزلزلة، ولكن كان إلى جانب الزلزلة وزوغان الأبصار وكرب الأنفاس، كان إلى جانب هذا كله الصلة التي لا تنقطع بالله، والإدراك الذي لا يضل عن سنة الله، والثقة التي لا تتزعزع بثبات هذه السنن وتحقق أواخرها متى تحققت أوائلها. ومن ثم اتخذ المؤمنون من شعورهم بالزلزلة سبباً في انتظار النصر، ذلك أنهم صدقوا قول الله سبحانه من قبل: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ» (2) . وها هم يزلزلون، فنصر الله إذن منهم قريب! ومن ثم قالوا: «هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً» (3) (4) . فقد زادهم إيماناً أن رأوا الأهوال تحدق بهم والأحزاب تتألب عليهم؛ ليقينهم أنه ما لم يكن ذلك الابتلاء والتمحيص فلا نصر، لأنه في الحقيقة لا إيمان يمكن الجزم به، بل هي دعاوى كل يقدر أن يدعيها، فإذا اجتاز المؤمن الابتلاء تحقق الإيمان، وإذا تحقق الإيمان تحقق النصر. هذه سنن ثابتة وحقائق ساطعة. وبعد هذا نطوي وقائع شاقة ومشاهد بليغة لنصل إلى يوم الحديبية وبيعة الرضوان. تلك التي كانت كسابقاتها امتحاناً شديداً للإيمان، ولكنه امتحان من نوع آخر!

_ (1) الحديث رواه مسلم، الجهاد رقم (1788) ، وذكر له الحافظ طرفاً أخرى فيها زيادات (7/400- 401) . (2) [البقرة: 214] (3) [الأحزاب:22] (4) الظلال، تفسير الأحزاب، ص 2843.

إنه امتحان القلوب المؤمنة التي جاشت بالحمية الإيمانية والغيرة لله ورسوله ودينه، واستقر في أعماقها صدق رسول الله في وعده، وصدق وعد الله له، وإن كان هذا الوعد رؤيا في المنام - فرؤيا الأنبياء وحي -، قلوب مفعمة باستعلاء الإيمان وعز الطاعة تأبى أن يستضيمها عدو الله أو تنصاع لضغوطه في أي ميدان. ومع ذلك ترى في يومها ذاك أموراً تبدو مناقضة لهذا كله، فكانت أهوالاً وكروباً لا يسكن أمامها إلا قلب بلغ الغاية القصوى من الانقياد والتسليم لله ورسوله، والتجرد مما يخالف ذلك حتى وإن كان دافعه الغضب لله والحمية لدينه والاعتزاز بالإيمان به (1) . كانت صدمة عنيفة لهذه الجماعة الراشدة الزاحفة أبداً إلى الأمام أن تواجه منعطفاً خطيراً يتشهى فيه الكافرون من الشروط، ويملونها عليها ثم ترى نبيها يقبلها بلا تحفظ. إن اكتمال الإيمان يقتضي مرحلة عليا من التربية، مرحلة تتعدى مراحل الحض والإيقاظ ورفع الهمم والعزائم إلى مرحلة تهذيب الحماس وتسكين الحمية الإيمانية، لتوافق الوحي في كل أمر وتنضبط عليه في كل حركة حتى وإن رأت أن موافقته شاقة، لا على حظ النفس فذاك أمر قد استأصلته التربية الوثابة، ولكن على إيمان القلب الثائر للحق. فلنتصور ما كانت عليه تلك القلوب من حماس وتوقد وغيره واستعلاء بالإيمان، ثم لنتصور معه كيف تطيق رؤية المفاوض الكافر وهو يصر على محو صفة الرسالة من اسم رسولها الكريم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستجاب له؟! وكيف تطيق قبول هذه الشروط المجحفة المتعسفة مثل: أن يرجع هذا العام - وهو على مشارف الحرم - بلا عمرة ويعتمر من قابل، وأن من أتى المدينة مؤمناً مهاجراً يرد إلى مكة - لتعذبه وتضطهده -، ومن ارتد من المهاجرين يعود إلى مكة آمناً؟! وكيف تتحمل رؤية المعذبين في الله (كأبي جندل) يرسفون في الأغلال ويستصرخون حميتها الإيمانية فيردهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معذبيهم التزاماً بشروط الصلح؟!

_ (1) ولم يكن حينئذ قد بلغ هذه الغاية إلا قلب واحد هو قلب الصديق رضي الله عنه.

وكيف تتحمل أن تحلق الرؤوس وتنحر الهدى هنا في هذه البيداء، وهي إنما خرجت من المدينة واثقة مطمئنة إلى رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم بدخول البيت آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين لا يخافون؟! ويأتي ثاني رجل في هذه الأمة الزكية ليخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوقد وتحرق:"ألست رسول الله حقاً؟ قال: "بلى". قال: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: "بلى". قال: فعلام نعطي الدنية (1) في ديننا إذن؟ قال: "إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري". قال: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: "بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟ " قال: لا، قال: "فإنك آتيه ومطوف به" (2) . ثم تكون نهاية هذا الموقف العصيب - بعد هدأه القلوب وسكون العاصفة - أن ينزل الله تعالى على رسوله وهو قافل إلى المدينة: «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (*) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (*) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (*) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا» (3) . فيبشر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قائلاً: "نزلت علي الليلة سورة هي أحب إلى من الدنيا وما فيها" أو قال: "لهي أحب إلى مما طلعت عليه الشمس" (4) . وكيف لا وفيها البشارة له صلى الله عليه وسلم بالفتح والمغفرة التامة والنعمة العظيمة والهداية القويمة، وللمؤمنين بالسكينة وزيادة الإيمان والوعد بالجنة؟! إن نزول السكينة وزيادة الإيمان بها لهو ثواب كريم على الإيمان السابق المتمثل في الثقة في الله والاستسلام لأمره مهما كان هول الموقف. وهكذا يرقى الإيمان ويسمو وترسخ قاعدة عظمى من قواعد فقه التزكية الإيمانية، وهي أن من ثواب الإيمان حصول إيمان أعلى منه، ومن جزاء المعصية

_ (1) الدنية: بمعنى الهوان. (2) أنظر: البخاري الشروط 331. وأصل الكلام لعمر رضي الله عنه يحدث به المسور ومروان في حديث طويل. (3) [الفتح: 1- 4] (4) الرواية الأولى للإمام أحمد المسند (1/31) ، والأخرى في الصحيح (8/582) التفسير.

نقص الإيمان بمعصية أخرى. وهي قاعدة لم تثبت من خلال موعظة في مسجد ولا محاضرة في جامعة وإنما هو موقف مهول كهذا الموقف.. ثم نطوي - كذلك - أحداثاً جساماً ووقائع شاهدات للنتقل إلى غزوة تبوك (1) . إنها لبادرة فجائية كبرى في تاريخ الإنسانية أن يخرج جيش من قبائل العرب ينازل الإمبراطورية الرومانية - أكبر إمبراطوريات الأرض يومئذ عتواً وأكثرها حضارة -، إنه لحدث ما كان العرب من قبل يحلمون به، ولا كان الروم يتوقعونه ولو في الخيال! وإن في هذا وحدة لدلالة كبرى على الطبيعة الجهادية لهذا الدين، والحقيقة الإيمانية التي يبنيها في قلوب أتباعه. ولكن هناك دلالة أكبر من هذا وأعظم؛ ذلك أن هذه البادرة الكبرى ما هي إلا مظهر وثمرة لجهد داخلي عظيم، وخطوة على طريق هائل كبير لم يتوقف دفعة واحدة إلا على "بلاط الشهداء" وأسوار القسطنطينية. فالجماعة المؤمنة وصلت في آفاق التزكية الإيمانية وقمم الجهاد - بكل معانيه - إلى غاية لم تبلغها قبلها جماعة قط، وهذه الغزوة تمحيص نهائي وترقية عليا لها، واستئصال جذري للطفيليات المحسوبة عليها وليست منها (2) . جيش قوامه ثلاثون ألفاً (3) ، لا يتخلف منه عن هذه الغزوة الشاقة المجهدة إلا ثلاثة نفر! . ثم هؤلاء يتعرضون لمحنة رهيبة يصفها الله سبحانه وتعالى بأنها وصلت إلى حد أن: «ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ» (4) . وتقتضي حكمة الله البالغة أن يكون هؤلاء الثلاثة من السابقين الأولين - اثنان منهما شهدا بدراً (5) "مرارة وهلال"، والثالث "كعب" شهد العقبة، ليكون ذلك أبلغ وأشد وقعاً في نفوس قوم ربما كانت أنفسهم قد حدثتهم بالتخلف وهم من مؤخرة القافلة.

_ (1) طوينا الفتح وحنين لضيق المجال ولسبب منهجي مهم؛ وهو أن هاتين الغزوتين أدخلتا في الإسلام جموعاً جديدة، وليستا للتمحيص والتمييز كالحال في أحد والخندق ثم تبوك، ونحن نهتم أساساً بمراحل البناء الإيماني في الجماعة المؤمنة نفسها. (2) مما يدل على ذلك أنه لم يحصل قبلها مثلما حصل فيها من عقوبة للمتخلفين وفضح للمنافقين. (3) هذا هو العدد الأقرب للصحة من جهة الرواية. أنظر: الفتح (8/17) ، ومن جهة النظر أيضاً. (4) [التوبة: 118] (5) كما في حديث كعب نفسه، الفتح (8/114)

أما المتخلفون سواهم فما كانوا "إلا رجلاً مغموصاً عليه النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء" (1) . وتنزل السورة الفاضحة، البحوث، المبعثرة، المقشقشة، المخزية، الحافرة، المنكلة، المنقرة، المدمدمة (2) ، وتتناول - عدا المقاطع الأولى منها - موضوع الغزوة، ويستغرق الحديث عن المنافقين من جميع جوانبه أكثرها، ويؤخر موضوع توبة الله على الثلاثة إلى آخرها في آخر توبة الله على الجماعة المؤمنة كلها. وليس من غرضنا الآن - ولن نستطيع - تقصي دروس الموقف وعبره، ولكننا نكتفي بعبرتين، إحداهما على سبيل الإجمال والأخرى واقعة جزئية. أما الأولى: فهي أن المنافقين لم يكن يخفى عليهم قط أن الإيمان جهاد وأعباء، وواجبات وفرائض على النفس والمال، وعلى القلوب والجوارح، ولهذا لم يدر في خلدهم أن يستخدموا منطق الأمة الإسلامية في عصورها الأخيرة فيقولوا للرسول صلى الله عليه وسلم حين استنفرهم للغزو: لن نجاهد معك ولن يضر هذا في إيماننا، فنحن مصدقون لك بقلوبنا ومقرون برسالتك بألسنتنا، فدعنا نأخذ بأذناب البقر ونغرس الأشجار ونهتم بشؤون أهلينا وأولادنا.. لم يكونوا ليفكروا في هذا، لأن حقيقة الإيمان الحية أمامهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه لم تكن تسمح لهم بذلك، فقول كهذا في مجتمع مؤمن كهذا يعد لغواً وهذياناً. لو قالوا هذا أو قريباً منه لكشفته السورة وأزالت شبهته، لكنه لم يكن يصل في تفكيرهم إلى درجة الشبهة، ولهذا لجأوا إلى أعذار وتعللات عليها مسحة من الشرعية مثل: 1- الاعتذار بأنهم ليسوا محل تكليف، إذ مناط التكليف الاستطاعة وهم غير مستطيعين «لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ» (3) . 2- الاعتذار بشدة الحر الذي جعله الشارع سبباً في الترخيص والتخفيف، كما في الإبراد بصلاة الظهر، «وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ» (4) .

_ (1) كما قال كعب رضي الله عنه في الحديث المشار إليه. (2) هذه أسماء السورة: براءة أو التوبة، وهي كلها مشتقة مما فعلته السورة بالمنافقين من الفضح والبحث والخزي.. إلخ. أنظر: مسلم رقم (2031) ، وفتح القدير، الشوكاني (2/231- 332) . (3) [التوبة:42] (4) [التوبة: 81]

3 - الاعتذار بوقوع مفسدة تضيع معها مصلحة الجهاد، وهي الافتتان ببنات الروم «ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي ... » (1) ، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح!! 4 - الاعتذار بالقياس، حيث طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعذرهم كما يعذر من رفع الله عنه الحرج من الضعفاء والمرضى.. «ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ» (2) . وغير ذلك من الأعذار المفتعلة التي هي شرعية في فقه المنافقين أو أصول فقههم، وهو فقه كثير الحواشي طويل الذيل لا يخلو منه عصر ولا دعوة. أما ذاك القول الذي لم يصل أن يكون عذراً ولا شبهة في أصول فقه المنافقين فقد أصبح حجة وقاعدة في أصول دين الطوائف الإسلامية التي دانت بعلم الكلام واتبعت أساطينه. فقد سود أحبار علم الكلام ورهبانه الصحائف، واستنفدوا المحابر للتدليل على أن الجهاد - بل كل الأعمال صغيرها وجليلها - ليست من الإيمان، بل صرح أئمة فيهم بأن نطق كلمة الشهادة - مجرد نطق - ليس منه (3) . ورحم الله من قال من السلف في الفرق بين منافقي الصدر الأول والقرون المتأخرة: "كانوا يراءون بما يعملون، فأصبحوا يراءون بما لا يعملون". حقاً إن مما سهل للمرجئة نشر عقيدتهم أن حقيقة الإسلام الحية لم تكن قائمة في عصور الانحراف، فكان يسيراً عليهم أن يقنعوا أمة غير عاملة بأن العمل ليس من الإيمان، إذ ليس أشهى إلى الكسول من أن يجد ما يبرر كسله، ولكن المعيار الوحيد هو الجيل الأول، ذلك الجيل الذي كان منافقوه يجاهدون ويحجون وينفقون، فلما غابت صورة هذا المعيار عن عقول المرجئة - بل ربما عن عقول بعض مناظريهم من أهل السنة -، وتحول الأمر إلى جدل نظري بالشبهات والتأويلات، استشرى الخطر وعمت البدعة. وكان على أهل السنة والجماعة - وما يزال - أن يعيدوا الواقع نفسه حياً قائماً ـ ما أمكن -، وأن يستحضروا دائماً صورته وهم يعملون ويناظرون.

_ (1) [التوبة:49] (2) [التوبة:86] (3) سيأتي تفصيل هذا في الباب الثالث.

* وأما الأخرى - أي الواقعة الجزئية -: فهي قصة النفر من المنافقين الذين نزل فيهم قول الله تعالى: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (*) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ» [التوبة: 65، 66] . وقد روى سبب نزولها من طرق كثيرة (1) تثبت بمجموعها صحته. والأشهر أن ما قالوه هو: "ما رأينا مثل قرائنا هناك أرغب بطوناً ولا أكذب ألسناً ولا أجبن عند اللقاء". فهؤلاء قوم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة الشاقة متعرضين للقتل والأسر أنهكتهم وعثاء السفر، فجلسوا في خلوة يتلهون بالسخرية ببعض الصحابة، فأنزل الله تعالى آيات محكمات حكم فيها بكفرهم بعد إيمانهم (2) ، وخروجهم من عداد المؤمنين، وهو ما يترتب عليه خروجهم الأبدي في النار ما لم يتوبوا. وقبل أن تنزل الآيات فزع هؤلاء النفر يهرعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم معتذرين نادمين يقسمون الأيمان أنهم ما أرادو الكفر ولا قصدوه، وأن ما صنعوا لم يكن إلا خوضاً ولعباً ولم يكذبهم الله تعالى في دعوى الخوض واللعب بل أوضح أن نفس خوضهم ولعبهم كفر، فنفس عذرهم إقرار بكفرهم! إنه لا خلاف بين فقهاء الإسلام في أن الهزل بالكفر كفر - وإن اختلفوا في الهزل في سائر الأحكام كالبيع والطلاق والعتاق (3) - وهذه الآية من أقوى الأدلة على ذلك. وقد بقى هذا الإجماع محفوظاً نظرياً في كتب الفقه حتى المتأخر منها، أما في الواقع العملي فإن استمرار الإرجاء، وانحسار مفهوم الإيمان، وغموض مفهوم الكفر، والغفلة عن كثير من ضروبه وأنواعه جعل الأمة الإسلامية تغفل عن تكفير المرتدين قصداً وجهاراً (4) ، فضلاً عن الهازلين الساخرين، إلا من سار منها على منهج أهل السنة والجماعة وهم في العصور المتأخرة قليل.

_ (1) انظر: الطبري (10/171) ، وابن كثير (4/111) ، وفتح القدير (2/378) . (2) كما في الآية: ولكنه إيمان ضعيف متذبذب، ولهذا تاب بعضهم وندم من ساعته، كما ورد في بعض الروايات. (3) انظر: الجامع لأحكام القرآن (8/ 197) عند هذه الآية. (4) وأعني بهم طوائف الحلولية وغلاة الصوفية والفرق الباطنية وعباد الموتى ودعاة الشرك بكل ضروبه، وسائر الزنادقة والمنافقين الذين ظهر لهم في عصرنا أسماء وأشكال جديدة؛ كالاشتراكيين والبعثيين والقوميين والعلمانيين وسائر المنضمين أو المؤمنين بالأحزاب المرتدة والنظريات الكفرية، وكذلك دعاة الإباحية المطلقة المنتسبين إلى النظريات الإجتماعية والأدبية والنفسية والتربوية وأمثالها.

بل إن هؤلاء القليل عندما يدعون إلى تصحيح الإيمان وتجلية معانيه، ويبينون للأمة الكفر وضروبه وخطره نجدها تقف في وجوههم متهمة إياهم بتكفير المسلمين، كما حصل لشيخ الإسلام ابن تيميه، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، والشهيد سيد قطب، رحمهم الله، وأمثالهم، ويعرضون عن تصريح هؤلاء العلماء بأنهم لا يقصدون تكفير الأعيان بل تصحيح حقائق الدين في القلوب والأذهان (1) . ولئن كان علماء عصور الإسلام الوسطى، من المرجئة أو المتأثرين بالإرجاء يحجمون عن تكفير ملاحدة وحدة الوجود، وأمثالهم من الزنادقة أو الساخرين بالدين من الكتاب والشعراء، وينتحلون لهم التأويات والتبريرات (2) ، فقد استغنى علماء الإرجاء في عصرنا الحاضر عن هذه التأويلات، لأن الإسلام في عرفهم وراثة لازمة كما تورث الأسماء وأحرف تكتب في الهوية لا ينسخها عمل ولا قول يرتكبه حاملها، ولهذا تجرأ الملاحدة زعماءً وكتاباً على دين الله سخرية واستهزاء، وأصبح هذا ميداناً للزعماء والمفكرين، وملهاة للشعراء والصحفيين، وجرت ألفاظ الاستهزاء على ألسنة العوام فأصبحت في بعض الأحيان والبلدان كالسلام!! وعم البلاء حتى تعدى مجال الاستهزاء إلى مجال الكفر الجاد الجلي الذي كان أمراً محظوراً ـ ولو عرفاً وعادة ـ فنسى الناس تكفير الباطنية والقرامطة والدروز والنصيرية وأشباههم، بل نسى بعضهم أو شك في كفر اليهود والنصارى (3) وأمثالهم، وغاب عنهم تماماً كفر طواغيت الدجل والخرافة والسحر، بل سموهم أولياء وصالحين!! أما طواغيت الحكم والتشريع فقد نسخوا شريعة الله جهاراً ونهاراً، وحمكوا شرائع الطاغوت في الدماء والأعراض والأموال (4) ، وألزموا الناس في مناهجهم

_ (1) ذلك أن تصحيح العقيدة أصل ضروري وواجب حتمي لا يحل السكوت عنه، أما الحكم على الأعيان فأمر تطبيقي تبعي له شروطه وضوابطه، ويجوز الخلاف فيه ما دام اجتهادياً. (2) كما تمحلوا للحلاج وابن عربي وابن الفارض وأشباههم. (3) وكيف يكفرونهم أو يعادونهم وذلك يخالف ما تنص عليه الدساتير من كون الوحدة الوطنية مبدأ مطلقاً، وأن الاخلال بها خيانة عظيمة!! ووسائل الإعلام تصنع من أبناء هذه الطوائف أبطالاً وتسميهم زعماء الاستقلال ورواد الإصلاح، والمناهج الدراسية كذلك!! (4) وأعظم أعيادهم الوطنية هو ما يحتفلون فيه بذكرى هذه الدساتير، والقوانين، وتأسيس الأحزاب، وقيام الثورات!!

ووسائل تربيتهم بموالاة الكفار وتقديس عظماء الكفر من فلاسفة وقادة وحكام، ونشروا من استحلال المكفرات والموبقات ضروباً وألواناً، وسخروا من الحدود والحجاب وتعدد الزوجات وأحكام الميراث والعبادات والأخلاق..، كل هذا وأكثر الشعب لا يرفع عليهم رأساً ولا يرى به بأساً، والجريء منهم يعتبره خطأ أو معصية (1) ، والمنافقون من أصحاب العمائم يقولون كما قال أحدهم: " لو كان لي من الأمر شيء لجعلتك في منزلة من لا يسأل عما يفعل" (2) . وانضم أغلب الطبقة المثقفة - كما يسمونها - إلى الأحزاب الكفرية والمنظمات الإلحادية والمذاهب الأدبية التي تستر الكفر بالشعر، حتى إن بعض معاقل الإسلام التاريخية أصبح في كل قرية منها ومدرسة فرع للحزب الملحد. وسقط حد الردة إلا من كتب الفقه الموروثة، بل ظهر في صفوف المنتسبين إلى الدعوة الإسلامية اتجاه جديد ينكر حد الردة ضمن ما ينكر من حدود الإسلام وأصوله (3) .

_ (1) وإذا وعظ الواعظ أو خطب الخطيب فذكر بعضاً من هذه الأمور ووصفها بالمعصية والفجور ثار عليه من يثور، واتهموه بنقص الحكمة والتشهير بالناس وتهيج العامة على ولاة الأمور!! (2) وأين استهزاء منافقي تبوك بالقرآن من استهزاء منافقي عصرنا، كصاحب كتاب:"أبو هريرة شبح المضيرة"؛ والمضيرة نوع من الطبيخ، زعم المؤلف أخزاه الله أن أبا هريرة رضي الله عنه كان مغرماً بأكله وأن معاوية رضي الله عنه استغل ذلك، فكان يضعه لأبي هريرة لكي يصنع أبو هريرة أحاديث في فضائل معاوية وينسبها إلى رسول صلى الله عليه وسلم، ومع هذا فقد ظل مؤلفه "أبو رية" معدوداً في علماء العصر وكتابه المعتبرين، وما صنع به علماء الأرجاء في الأزهر وغيره شيئاً ودافعت عنه جريدة الشرق الأوسط وغيرها!!. (3) وهو الاتجاه المسمى "العصرية MODERNISM" وهي زندقة عصرية يروّج لها عصابة من الكتّاب يتسترون بالتجديد، وفتح باب الاجتهاد لمن هب ودب وكتاباتهم صدى لما يدور في الدوائر الغربية المترصدة للإسلام وحركته، وربما يكشف الزمن عن صلات أوضح بينهم وبينها - كلهم أو بعضهم - وأصول فكرهم ملفقة من مذاهب المعتزلة والروافض وبعض آراء الخوارج مع الاعتماد على كتب المستشرقين والمفكرين الأوربيين عامة، وهم في كثير من الجوانب امتداد للحركة "الإصلاحية" التي ظهرت في تركيا والهند ومصر على يد الأفغاني ومدحت باشا وضياء كول آلب وأحمد بهادر خان وأضرابهم. وتتلخص أفكارهم في: 1 - تطويع الإسلام بكل وسائل التحريف والتأويل والسفسطة لكي يساير الحضارة الغربية فكراً وتطبيقاً. 2 - إنكار السنة إنكاراً كلياً أو شبه كلي. 3 - التقريب بين الأديان والمذاهب، بل بين الإسلام وشعارات الماسونية ‍‍ 4 - تبديل العلوم المعيارية "أصول الفقه، وأصول التفسير، وأصول الحديث" تبديلاً تاماً، وفرّعوا على ذلك إنكار الإجماع والاعتماد على الاستصحاب الواسع والمصالح المرسلة الواسعة - كما يسمونها - في استنباط الأحكام واعتبار الحدود تعزيزات وقتية. =

ومر على الأمة الإسلامية أجيال بل قرون لا تكاد تسمع فيها أن حد ردة أقيم على زنديق مجاهر أو ملحد مكابر، في حين أن الآلاف من الأرواح تزهق لأسباب سياسية أو خلافات شخصية! ، أما الأحكام المتعلقة بأهل الذمة من جزية وصغار ونحوها، فقد اتفقت كل الأنظمة في نسخها وإلغائها وإنسائها، وعز الكفار في كل بلد، وضرب الذل والصغار على من يدعوهم إلى معاملتهم بحكم الله عز وجل، وصار أهل الكتاب - بل عباد البقر ـ يخططون لإخراج المسلمين عن دينهم في عقر دار الإسلام!! فيا لها من غربة لا يخفف وطأتها إلا نسمات الفجر الصادق التي بدأت تهب في كل مكان، حاملة البشائر بمستقبل زاهر يعز الله فيه أولياءه ويذل أعداءه، ويعلي كلمة التوحيد والسنة ويقمع رؤوس الشرك والبدعة وما ذلك عليه بعزيز. وبعد الاكتفاء بهاتين الوقفتين مع أحداث غزوة تبوك نكتفي أيضاً بما سبق عرضه من المعالم الكبرى في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، التي كانت تطبيقاً وتحقيقاً للدين كما يريده الله تعالى، وبياناً واقعياً لطبيعة سيره وحكمة إنزاله، وسنة الله في تزكية الناس به ومجاهدتهم عليه. وإننا في كل غزوة وسرية من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه التي بلغت مائة غزوة وسرية، وفي كل موقف من مواقفه في الدعوة والجهاد، وفي كل مقام من مقامات عبوديته وتبتله إلى ربه، لنجد برهاناً ساطعاً ومعلماً شاخصاً على حقيقة دين الله تعالى، وحقيقة الدعوة إليه، وحقيقة النفس التي يجب أن تؤمن به وتستقيم عليه، مع إيضاح لحقيقة الجاهلية التي يجب أن تُحارب وتُدحر لكيلا تقف في طريقه.

_ = 5 - الإصرار على أن الإسلام ليس فيه فقه سياسي محدد وإنما ترك ذلك لرأي الأمة، بل وسعوا هذا فأدخلوا فيه كل أحكام المعاملات فأخضعوها لتطور العصور وجعلوا مصدرها الاستحسان والمصالح الواسعة. 6 - تتبع الآراء الشاذة والأقوال الضعيفة والرخص واتخاذها أصولاً كلية. وهم مع اتفاقهم على هذه الأصول في الجملة تختلف آراؤهم في التطبيقات، وبعضهم قد يحصر بحثه وهمه في بعضها، وهذا الاتجاه على أية حال لا ضابط له ولا منهج، وهدفه هدم القديم أكثر من بناء أي شيء جديد، وإنتاجه الفكري نجده في مجلة المسلم المعاصر، ومجلة العربي، وكتابات حسن الترابي، ومحمد عمارة، ومحمد فتحي عثمان، وعبد الله العلايلي، وفهمي هويدي، وعبد الحميد متولي، وعبد العزيز كامل، وكمال أبو المجد، وحسن حنفي، وماهر حتحوت، ووحيد الدين خان. وإنما رأيت ضرورة التنبيه عنهم لخطورتهم واستتار أمرهم عن كثير من المخلصين.

وقد كان الجيل الأول - أصفى أجيال الإنسانية وأعظمها - يدرك هذه الحقائق إدراك من عاناها وتذوقها وتربى عليها وجاهد لأجلها ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامه يعانيها ويدعوا إليها. وقد ملك هذا الإدراك نفوس ذلك الجيل حتى بلغ بهم حداً رفيعاً من الحساسية ورهافة الشعور تجاهها، فاستصحبوا الشعور بالتقصير وسوء الظن بالنفس واستعظام الهفوة، حتى وصل الحال ببعضهم أحياناً إلى ما يشبه قنوطاً ويأساً، وحتى إنهم ليرون ما ليس بذنب ذنباً، ويخشون أن يكون ما أعطاهم الله من الكرامة عقوبة واستدراجاً، والنماذج الثابتة في هذا كثيرة جداً: "عن أنس رضى الله عنه قال: لما طعن حرام بن ملحان - وكان خاله - يوم بئر معونة قال بالدم هكذا فنضحه على وجهه ورأسه ثم قال: الله أكبر فزت ورب الكعبة" (1) . وعن سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه قال: " إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، ورأيتنا نغزو وما لنا طعام إلا ورق الحبلة وهذا السمر، وإن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ما له خلط " (2) . وعن جابر رضى الله عنه قال: "سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قوت كل رجل منا في كل يوم تمرة، فكان يمصها ثم يصرها في ثوبه، وكنا نختبط بقسينا ونأكل حتى قرحت أشداقنا، فأقسم أخطئها رجل منا يوما فانطلقنا به ننعشه فشهدنا أنه لم يعطها فأعطيها فقام فأخذها" (3) . وعن عتبة بن غزوان رضى الله عنه - في حديث عظيم له ـ: "ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك فاتزرت بنصفها واتزر سعد بنصفها، فما أصبح اليوم منا أحداً إلا أصبح أميراً على مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله صغيراً" (4) .

_ (1) البخاري (7/386) . (2) البخاري (11/282) ، ومعنى يضع: يرعى، أو معناه: ما يخرج منه حال التغوط، هكذا ذكره الحافظ في الفتح (11/290) . (3) مسلم رقم (3011) والقسي جمع قوس، كانوا يخبطون بها الشجر ليأكلوا ورقه، والمراد أن أحد الصحابة أخطأته تمرته ولم يعطها إلا بعد أن أقام البينة أنه لم يأخذها. (4) مسلم رقم (2967) .

وعبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه "أُتِيَ بطعام وكان صائماً فقال: قتل مصعب بن عمير، وهو خير مني، كفن في برده إن غُطِّيَ رأسه بدت رجلاه، وإن غُطِّيَ رجلاه بدا رأسه - وأراه قال: وقتل حمزة، وهو خير مني - ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا قد عجلت لنا. ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام" (1) . وقال خباب بن الأرت رضي الله عنه: "هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله ومنا من مضى - أو ذهب - ولم يأكل من أجره شيئاً، كان منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد لم يترك إلا نمرة كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غُطِّيَ بها رجلاه خرجت رأسه ... قال: ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها" (2) . وعن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري قال: "قال لي عبد الله بن عمر: هل تدري ما قال أبي لأبيك؟ قلت: لا. قال: أبي قال لأبيك: يا أبا موسى هل يسرك إسلامنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهجرتنا معه وجهادنا معه وعملنا كله مع برد (3) لنا، وأن كل عمل عملناه بعده نجونا منه كفافاً رأساً برأس؟ فقال أبي (4) : لا والله، لقد جاهدنا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلينا وصمنا وعملنا خيراً كثيراً،وأسلم على أيدينا بشر كثير، وإنا لنرجو ذلك. فقال أبي: لكني والذي نفس عمر بيده لوددت أن ذلك برد لنا، وأن كل شيء عملناه بعده نجونا منه كفافاً رأساً برأس. فقلتُ: إن أباك والله خير من أبي" (5) . ولما طعن رضى الله عنه جاءه ابن عباس فمس جسده بيده وقال: جلد لا تمسه النار أبداً - يذكره ببشارة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة - وأخذ يطمئنه ويبشره بصحبته للنبي صلى الله عليه وسلم وللصديق، وبرضى المسلمين جميعاً عنه في عدله وسيرته.

_ (1) البخاري (7/353) . (2) البخاري (7/354) ، ومعنى يهدبها: يجنيها ويقطفها. (3) برد: ثبت واستقر. (4) كذا، والصواب: فقال أبوك - كما نبه عليه الحافظ. (5) البخاري (7/254) .

فقال الفاروق: "أما ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه فإنما ذاك منٌّ مِنَ الله تعالى مَنَّ به عليّ، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإنما ذاك مَنٌّ مِنَ الله جل ذكره مَنَّ به عليّ، وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك (أي الرعية أن يكون قصر في أمرها) والله لو أن لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به عذاب الله عز وجل وقبل أن أراه" (1) . وجاءه شاب آخر يبشره بأجر الصحبة والعدل والشهادة فقال عمر: "وددت أن ذلك كفاني لا علىّ ولا لي" (2) . وأبو ذر رضي الله عنه حدث الناس بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولا تلذتم بالنساء على الفرشات ... " الحديث. فقال: "والله لوددت أني شجرة تعضد" (3) . وابن مسعود رضي الله عنه يحدث عنه مسروق قال: "قال رجل عند عبد الله: ما أحب أن أكون من أصحاب اليمين، أكون من المقربين أحب إلىَّ، قال: فقال عبد الله: لكن هناك رجل ود لو أنه إذا مات لم يبعث - يعني نفسه - " (4) . فهذا الوجل وشدة المحاسبة مع تلك التضحيات والفضائل والدرجة العليا التي شهد الله لهم بها في كتابه. وقد استمرت سيرتهم امتداداً لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد ـ بكل ضروبه - ففتحوا الآفاق والبلاد، وفتحوا القلوب والعقول، ونقلوا للناس هدي نبيهم صلى الله عليه وسلم حياً ماثلاً، فما انقضى عصرهم حتى أنفقت كنوز كسرى وقيصر في سبيل الله، ودانت ملوك الأرض وجبابرتها للملة الحنيفية، وأظهر الله دينه على العالمين حتى دخلت فيه أو في حكمه أمم الأرض إلا من اعتصم وراء لجج البحار أو بعدت بهم المهامة والقفار، أو عاشوا مع الوحوش في الأحراش والأدغال، وسيأتي لهذا مزيد بيان بإذن الله.

_ (1) البخاري (7/43، 52) . (2) البخاري (7/60) . (3) المسند: (5/173) . (4) الزهد للإمام أحمد 158 مطبعة أم القرى بمكة، والحلية (1/133) ، وانظر: منهاج السنة (3/121) .

ولقد قصر نابليون حين وصف هذه المدة الهائلة بقوله: "إن المسلمين فتحوا نصف العالم في نصف قرن! "، فما كان القسم الذي لم يفتح نصف العالم قط، وإنما كان حوشي الأرض التي لم تصلها جيوش الإسلام فقد غزتها ثقافته وحضارته. ولكن الأوروبيين منذ عصر الإمبراطورية الرومانية إلى الآن يعتبرون أوربا نصف الدنيا، وكم جمح بهم الغرور فاعتبروها محور العالم، وسائر الأمم حواشي وهوامش. وعلى نهج الصحابة سارت بعدهم أجيال فأكملوا المسيرة، مسيرة الجهاد بكل ضروبه وأنواعه: الجهاد لإدخال الأمم في دين الله وتحريرها من عبودية طواغيت الدجل والاستبداد. والجهاد في طلب العلم وتعليمه ليعبدوا الله على بصيرة ويدعوا الناس إلى حق وحقيقة. والجهاد في مقاومة البدع والمنكرات وصيانة الأمة من تحريف الغالين وتأويل المبطلين. والجهاد في تحمل أذى الدجالين والجبابرة والشياطين من الجن والإنس وجيوشهم من طلاب الشهوات وأتباع كل ناعق. وقدمت هذه الأجيال من التضحيات وتحملت من المشقات ما سطره التاريخ وما لم يسطره، مما لا يستطاع حصره ولا تحصى آثاره. كل ذلك عملوه وجاهدوه لا على أنه مجرد نوافل وتطوعات، ولا على أنه مهام جانبية تقضى في أو قات الفراغ من الشواغل، ولا على أنه وسيلة قطعية توصلهم للدرجات العلى في الجنة، بل كانوا يعملون ذلك كله على أنه هو حقيقة الإسلام، وهو شُعب الإيمان، وهو أسنان ومفتاح الشهادتين، وهو الطريق إلى الجنة إن سلم من الآفات والعوارض، يعملون ذلك وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، والخوف من التقصير، والخوف من أن ترد عليهم أعمالهم، والخوف من أن تجعل لهم حسناتهم في الدنيا، حاضرٌ في قلوبهم ماثل أمام أعينهم، كما تشهد بذلك سيرهم التي جمعها بعض المصنفين، وما لم يجمعوه من أعمال القلوب أكثر وأعظم. وما نقل من أحد منهم قط أنه قال إن إيمانه كإيمان جبريل أو أنه كامل الإيمان، وما كان لمثلهم أن يتفوه بهذا.

خاتمة المطاف: بعد هذا الاستعراض لحقيقة هذا الدين وواقعه العملي وطبيعة سيره ومنهج حركته وتزكيته، رأيت أن أختم الفصل بإيضاح قضايا مهمة سأوردها في شكل أسئلة خطرت لي كثيراً أثناء الكتابة، وما أحسبها إلا ستخطر لكل قاريء كذلك. والمقصود من إيراد هذه الأسئلة والإجابة عليها، هو التعرف على بعض الحكم الربانية في أن تكون حقيقة هذا الدين ومنهجه على ذلك النحو السابق شرحه، إذ ليس من حقنا - نحن العبيد - أن نسأل عن شيء من سنن الله لم كانت هكذا؟ إلا لنعرف ما يستتبعه ذلك من عبوديات اعتباراً وعملاً. ولعل الإجابة على هذه الأسئلة تبدد ما قد يبقى في النفس من آثار الإرجاء الباطن الذي توارثته الأمة وألفته النفوس مع طول الأمد. وتبين ـ كذلك ـ مدى رحمة الله وفضله على المؤمنين المتمسكين بمنهجه، وأنه ـ مع كل ما في التمسك به من ابتلاءات وأعباء ومشقات ـ لم يجعل علينا في الدين من حرج أبداً، بل هذا المنهج نفسه هو منهج السعادة العظمى والفوز العظيم في الدنيا والآخرة، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. وهذه الأسئلة هي: لماذا كل هذه الجهود والتضحيات والمشقات؟ وما القضية الأساسية التي جاهد من أجلها الأنبياء والشهداء والصالحون، وهل هي جديرة بكل هذه الجهود الكبيرة الهائلة لا سيما أن بعض الأنبياء - وهم خير من دعا إلى الله - لم يتبعه أحد، ومنهم من لم يتبعه إلا الرجل والرجلان - كما صح في الحديث (1) ، وأكثرهم ما آمن له إلا قليل بنص القرآن؟ والرسول صلى الله عليه وسلم - وهو أكثر الأنبياء تابعاً - أكانت القضية التي دعا إليها تستدعي أن يهب هو وأصحابه حياتهم كلها في سبيلها، ويكونوا مع ذلك أكثر الناس حرصاً على إيمانهم وحذراً من الذنوب؟ وأيضاً سؤال مهم، وهو: هل هذه الأعباء والمشقات خاصة بمنهج الإيمان، فيكون ذلك داعياً أن يركن الناس إلى الكفر طلباً للراحة والطمأنينة؟

_ (1) سبق تخريجه

وعندما نخاطب المسلمين بأن طبيعة هذا الدين هي هكذا: ألا تكون صعوبة هذا المنهج وارتفاعه وبطء ثمراته وطول طريقه مبرراً لما يتصورونه من إمكان العيش تحت مظلة الجاهلية المعاصرة - مكتفين بأداء الشعائر الفردية ـ هروباً من تلك التضحيات والتكاليف؟ والدعاء خاصة ألا نخشى أن يكون ذلك مبرراً لمحاولة الحصول على الثمرة من طرق أخرى يحسبونها ميسورة سهلة المنال بعيداً عن هذا الطريق المجهد الشاق، وهو ما يحدث فعلاً في أكثر الدعوات المعاصرة؟ إن الإجابة الشافية على هذه الأسئلة بإيضاح الحقائق الكبرى التي يغفل عنها من ينظر لهذا المنهج من أول وهلة، يمكن أن نستنبطها ونقرأها من العرض السابق نفسه ـ أي من واقع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه -، كما أن علماء أهل السنة والجماعة أجابوا عنها بلسان الحال أو بلسان المقال أو تلميحاً (1) ، وقد وجدت أن أفضل من أجاب على هذه الأسئلة من فقهاء الدعوة المعاصرين هو الأستاذ سيد قطب رحمه الله، وهأنذا أنقل من كلامه ما يفيد ذلك - مع بعض زيادات توضيحية (2) -: "إن حقيقة العبادة لو كانت هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقت كل هذا الموكب من الرسائل والرسالات، وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وما استحقت كل هذه العذابات والآلام التي تعرض لها الدعاة والمؤمنون على مدار الزمان. إنما الذي استحق كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من الدينونة للعباد وردهم إلى الدينونة لله وحده في كل أمر وفي كل شأن، وفي منهج حياتهم كله في الدنيا والآخرة سواء. إن توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد القوامة، وتوحيد الحاكمية، وتوحيد مصدر الشريعة، وتوحيد منهج الحياة، وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونة الشاملة. إن هذا التوحيد هو الذي يستحق أن يرسل من أجله كل هؤلاء الرسل، وأن تبذل في سبيله كل هذه الجهود. وأن تتحمل لتحقيقه كل هذه العذابات والآلام على مدار الزمان. لا لأن الله سبحانه في حاجة إليه، فالله سبحانه غني عن

_ (1) من أكثر الناس حديثاً عن هذه القضايا شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله. وستأتي النقول عنهما في الفصل الثاني. (2) بعضها مني - وهو قليل -، وبعضها من كلامه في صفحات أخرى مجاورة.

العالمين، لكن لأن حياة البشر لا تصلح ولا تستقيم ولا ترتفع ولا تصبح حياة لائقة بالإنسان إلا بهذا التوحيد الذي لا حد لتأثيره في الحياة البشرية في كل جوانبها على السواء.. إن هذه الحقيقة ليست أهميتها فقط في تصحيح التصور الإيماني، وإن كان هذا التصحيح في ذاته غاية ضخمة يقوم عليها بناء الحياة كله، بل إن أهميتها كذلك في حسن تذوق الحياة، وبلوغ هذا التذوق أعلى درجات الكمال والتناسق، فقيمة الحياة الإنسانية ذاتها ترتفع حين تصبح كلها عبادة لله، وحين يصبح كل نشاط فيها - صغر أم كبر - جزءاً من هذه العبادة أو كل العبادة متى نظرنا إلى المعنى الكبير الكامن فيه - وهو إفراد الله سبحانه بالألوهية والإقرار الكامل له وحده بالعبودية ... هذا المقام الذي لا يرتفع الإنسان إلى ما هو أعلى منه، ولا يبلغ كماله الإنساني إلا في تحقيقه، وهو المقام الذي بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى مقاماته التي ارتقى إليها، مقام تلقي الوحي من الله ومقام الإسراء أيضاً: «تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا» [الفرقان:1] . «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» [الإسراء:1] . وننتقل إلى قيمة أخرى من قيم توحيد العبادة بمعنى الدينونة لله وحده وآثارها في الحياة الإنسانية، إن الدينونة لله تُحَرِّرُ البشر من الدينونة لغيره، وتخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. وبذلك تحقق للإنسان كرامته الحقيقية، هذه الحرية وتلك، اللتان يستحيل ضمانهما في ظل أي نظام آخر غير النظام الإسلامي يدين فيه الناس بعضهم لبعض بالعبودية في صورة من صورها الكثيرة.. سواء عبودية الاعتقاد، أو عبودية الشعائر، أو عبودية الشرائع.. فكلها عبودية، وبعضها مثل بعض تخضع الرقاب لغير الله بإخضاعها للتلقي في أي شأن من شؤون الحياة لغير الله. والناس لا يملكون أن يعيشوا غير مدينين، لا بد للناس من دينونة. والذين لا يدينون لله وحده يقعون من فورهم في ألوان العبودية لغير الله في كل جانب من جوانب الحياة.. إنهم يقعون فرائس لأهوائهم وشهواتهم بلا حد ولا ضابط،

ومن ثم يفقدون خاصتهم الآدمية ويندرجون في عالم البهيمة: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ» [محمد:12] . ولا يخسر الإنسان شيئاً كأن يخسر آدميته ويندرج في عالم البهيمة، وهذا هو الذي يقع حتماً بمجرد التملص من الدينونة لله وحده، والوقوع في الدينونة للهوى والشهوة. ثم هم يقعون فرائس لألوان من العبودية (يقعون في عبودية الأحبار والرهبان والجن والكهان والدجاجلة والمشعوذين) يقعون في شر ألوان العبودية للحكام والرؤساء الذين يصرفونهم وفق شرائع من عند أنفسهم، لا ضابط لها ولا هدف إلا حماية مصالح المشرعين أنفسهم، سواء تمثل هؤلاء المشرعون في فرد حاكم أو في طبقة حاكمة أو في جنس حاكم. فالنظرة على المستوى الإنساني الشامل تكشف عن هذه الظاهرة في كل حكم بشري لا يستمد من الله وحده ولا يتقيد بشريعة الله لا يتعداها ... ولكن العبودية للعبيد لا تقف عند حدود العبودية للحكام والرؤساء والمشرعين. فهذه هي الصورة الصارخة، ولكنها هي ليست كل شيء، إن العبودية للعباد تتمثل في صورة أخرى خفية، ولكنها قد تكون أقوى وأعمق وأقسى من هذه الصورة (ألا وهي عبودية الأعراف والأوضاع والتقاليد) ، ونضرب مثلاُ لهذا: تلك العبودية لصانعي الموضات والأزياء مثلاً! أي سلطان لهؤلاء على قطيع كبير جداً من البشر؟ كل الذين يسمونهم متحضرين. إن الزي المفروض من آلهة الأزياء في الملابس أو التصاميم أو الموديلات أو العربات أو المباني أو المناظر أو الحفلات؛ أزياء الصباح، أزياء بعد الظهر، أزياء المساء، الأزياء القصيرة، الأزياء الضيقة، أزياء السهرة، الأزياء المضحكة، أزياء المراسم.. إلخ ليمثل عبودية صارمة لا سبيل لجاهلي أو لجاهلية أن يفلت منها، أو يفكر في الخروج عنها. لو دان الناس في هذه الجاهلية الحضارية لله بعض ما يدينون لصانعي الأزياء لكانوا عباداً متبتلين. فماذا تكون العبودية إن لم تكن هي هذه؟! وماذا تكون الحاكمية والربوبية إن لم تكن هي حاكمية وربوبية صانعي الأزياء أيضاً؟!

وإن الإنسان ليبصر أحياناً بالمرأة المسكينة وهي تلبس ما يكشف عن سوءاتها، وهي في الوقت ذاته لا يناسب شكلها ولا تكوينها، وتضع من الأصباغ ما يتركها شائهة أو مثاراً للسخرية. ولكن الألوهية القاهرة لأرباب الأزياء والموضات تقهرها وتذلها لهذه المهانة التي لا تملك لها رداً، ولا تقوى على رفض الدينونة لها، لأن المجتمع من حولها يدين لها. فكيف تكون الدينونة إن لم تكن هي هذه؟! وكيف تكون الحاكمية والربوبية إن لم تكن هي تلك؟! وليس هذا إلا مثلاً واحداً للعبودية المذلة حين لا يدين الناس لله وحده وحين يدينون لغير الله من العبيد. وليست حاكمية الرؤساء والحاكم وحدها هي الصورة الكريهة المذلة لحاكمية البشر للبشر ولعبودية البشر للبشر، وهذا يقودنا إلى قيمة توحيد العبادة والدينونة في صيانة أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم التي تصبح كلها ولا عاصم لها عندما يدين العباد للعباد في صورة من صور الدينونة، سواء في حاكمية التشريع، أو في صورة حاكمية الأعراف والتقاليد، وفي صورة حاكمية الاعتقاد والتصور. هذه هي الحقيقة. إن الدينونة لغير الله في الاعتقاد والتصور معناها الوقوع في براثن الأوهام والأساطير والخرافات التي لا تنتهي، والتي تمثل الجاهليات الوثنية المختلفة صوراً منها، وتمثل أوهام العوام المختلفة صوراً منها، وتقدم فيها النذور والأضاحي من الأموال ـ وأحياناً من الأولاد! - تحت وطأة العقيدة الفاسدة والتصور المنحرف، ويعيش الناس معها في رعب من الأرباب الوهمية المختلفة، ومن السدنة والكهنة المتصلين بهذه الأرباب من السحرة المتصلين بالجن والعفاريت..، ومن المشايخ والقديسين أصحاب الأسرار، ومن.. ومن..، ومن الأوهام التي ما يزال الناس منها في رعب وفي خوف وفي تقرب وفي رجاء حتى تنقطع أعناقهم وتتوزع جهودهم وتتبدد طاقتهم في مثل هذا الهراء. وقد مثلنا لتكاليف الدينونة لغير الله في الأعراف والتقاليد بأرباب الأزياء والمودات، فينبغي أن نعلم كم من الأموال والجهود تضيع إلى جانب الأعراض والأخلاق في سبيل هذه الأرباب! إن البيت ذا الدخل المتوسط ينفق على الدهون والعطور والأصباغ وعلى تصفيف الشعر وكيه وعلى الأقمشة التي تصنع منها الأزياء المتقلبة عاماً بعد عام، وما يتبعها من الأحذية المناسبة والحلي المتناسقة مع الزي والشعر الحذاء ... إلى آخر ما تقضي به تلك الأرباب النكدة.

إن البيت ذا الدخل المتوسط ينفق نصف دخله ونصف جهده لملاحقة أهواء تلك الأرباب المتقلبة، التي لا تثبت على حال. ومن وراءها اليهود أصحاب رؤوس الأموال الموظفة في الصناعات الخاصة بدنيا تلك الأرباب. ولا يملك الرجل والمرأة - وهما في هذا الكد الناصب - أن يتوقفا لحظة عن تلبية ما تقتضيه تلك الدينونة النكدة من تضحيات في الجهد والمال والعرض والخلق على السواء. وأخيراً تجيء تكاليف العبودية لحاكمية التشريع البشرية، وما من أضحية يقدمها عابد الله لله إلا ويقدم الذين يدينون لغير الله أضعافها للأرباب الحاكمة من الأموال والأنفس والأعراض. وتقام أصناف من (الوطن) ومن (القوم) ومن (الجنس) ومن (الطبقة) ومن (الإنتاج) ، ومن غيرها من شتى الأصنام والأرباب ... وتدق عليها الطبول، وتنصب لها الرايات، ويدعى عباد الأصنام إلى بذل النفوس والأموال لها بغير تردد، وإلا فالتردد هو الخيانة وهو العار! وحين يتعارض مع العِرْض متطلبات هذه الأصنام فإن العرض هو الذي يضحي، ويكون هذا هو الشرف الذي يراق على جوانبه الدم - كما تقول الأبواق المنصوبة حول الأصنام ومن وراءها أولئك الأرباب من الحكام! إن كل التضحيات التي يقتضيها الجهاد في سبيل الله ليعبد الله وحده في الأرض، ويتحرر البشر من عبادة الطواغيت والأصنام، ولترتفع الحياة الإنسانية إلى الأفق الكريم الذي أراده الله للإنسان ... إن كل هذه التضحيات التي يقتضيها الجهاد في سبيل الله ليبذل مثلها وأكثر من يدينون لغير الله؛ والذين يخشون العذاب والألم والاستشهاد وخسارة الأنفس والأولاد والأموال إذا هم جاهدوا في سبيل الله - عليهم أن يتأملوا ماذا تكلفهم الدينونة لغير الله في الأنفس والأموال والأولاد - وفوقها الأخلاق والأعراض، إن تكاليف الجهاد في سبيل الله في وجه طواغيت الأرض كلها لم تكلفهم ما تكلفهم الدينونة لغير الله، وفوق ذلك كله الذل والدنس والعار. وأخيرا فإن توحيد العبادة والدينونة لله وحده، ورفض العبودية والدينونة لغيره من خلقه ذو قيمة كبيرة في صيانة الجهد البشري من أن ينفق في تأليه الأربا ب الزائفة كي يوجه بجملته إلى عمارة الأرض وترقيتها وترقية الحياة فيها. وهنا ظاهرة واضحة متكررة؛ وهي أنه كلما قام عبد من عبيد الله ليقيم من نفسه طاغوتا يعبد الناس لشخصه من دون الله، احتاج هذا الطاغوت كي يعبد - أي يطاع ويتبع - إلى أن يسخر كل القوى والطاقات: تسبح بحمده وترتل ذكره وتنفخ في

صورته العبدية الهزيلة لتضخم وتشغل مكان الألوهية العظيمة، وألا تكف لحظة واحدة عن النفخ في تلك الصورة العبدية الهزيلة وإطلاق الترانيم والتراتيل حولها، وحشد الجموع بشتى الوسائل للتسبيح باسمها وإقامة طقوس العبادة لها. وهو جهد ناصب لا يفرغ أبدا؛ لأن الصورة العبدية الهزيلة تنكمش وتهزل وتتضاءل كلما سكن من حولها النفخ والطبل والزمر والبخور والتسابيح والتراتيل، وفي هذا الجهد الناصب تصرف طاقات وأموال وأرواح - أحيانا - وأعراض. ولو أنفق بعضها في عمارة الأرض والإنتاج المثمر لترقية الحياة البشرية وإغنائها لعاد على البشرية بالخير الوفير، ولكن هذه الطاقات والأموال والأرواح أو الأعراض لا تنفق في هذا السبيل المثمر ما دام الناس لا يدينون لله وحده إنما يدينون للطواغيت من دونه. ومن هذه اللمحة يتكشف مدى خسارة البشرية في الطاقات والأموال والعمارة والإنتاج من جراء تنكبها عن الدينونة لله وحده وعبادة غيره من دونه، وذلك فوق خسارتها في الأرواح والأعراض والقيم والأخلاق، فوق الذل والقهر والدنس والعار. وليس هذا في نظام أرضي دون نظام وإن اختلفت الأوضاع واختلفت ألوان التضحيات. * والخلاصة التي ينتهي إليها القول في هذه القضية: أنه يتجلى بوضوح أن قضية الدينونة والاتباع والحاكمية التي يعبر القرآن عنها بالعبادة هي قضية عقيدة وإيمان وإسلام وليست قضية فقه أو سياسة أو نظام؛ إنها قضية عقيدة تقوم أو لا تقوم، وقضية إيمان يوجد أو لا يوجد، وقضية إسلام يتحقق أو لا يتحقق، ثم هي بعد ذلك لا قبله قضية منهج للحياة الواقعية يتمثل في شريعة ونظام وأحكام وفي أوضاع تجمعات تتحقق فيها الشريعة والنظام وتنفذ فيها الأحكام. وكذلك إن قضية العبادة ليست قضية شعائر، وإنما هي قضية دينونة واتباع ونظام وشريعة وفقه وأحكام وأوضاع في واقع الحياة، وإنها من أجل أنها كذلك استحقت كل هذه الرسل ليواجهوا الجاهلية العنيدة" (1)

_ (1) طريق الدعوة في ظلال القرآن 153- 162؛ مقتطفات.

حقيقة النفس الإنسانية

حقيقة النفس الإنسانية تمهيد: إن من ميزات هذا الدين الكبرى أنه نزل بالحق والعدل الذي قامت عليه السماوات والأرض «أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» [الفرقان: 6] ، وكلما ازداد البشر نظرا في الآيات الآفاقية والنفسية والقرآنية أبصروا من شواهد التطابق العجيب والتوافق الدقيق ما ينطق بأن هذا الدين هو الحق، وأن فاطر النظام الكوني ومنزل الوحي الديني واحد لا شريك له. فالنظر السليم لا يرى في خلق الرحمن من تفاوت ولا يرى في وحي الرحمن من اختلاف، لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا. والنفس الإنسانية هي موضوع الوحي " كتابا وسنة " والمخاطب به. فما نزلت الكتب وأرسلت الرسل إلا لهذا الإنسان - الذي لم يكن شيئا مذكورا - بيانا لغاية خلقه وحكمة وجوده وتزكية لنفسه، وهداية إلى طريق الحق والصلاح، وتحذيرا من سبل الضلال والفساد، وتعريفا له بصفات معبوده تعالى - الذي معرفته أشرف أنواع العلوم والمعارف وأعظمها أثرا في صلاح الإنسان - وإخبارا له بمصيره إن أطاع أو عصى. فالدين دين الله والنفس خلق الله، والله تعالى أحكم الحاكمين وهو الغني الحميد، فلهذا لم يشرع لها من الدين إلا ما يتفق وطبعها ويتناسق وحقيقتها ويملأ كل جوانبها ويشبع كل رغباتها، لكن في حدود مقدرة وضوابط مقررة تحفظ لهذا الإنسان سعادته وتكفل صلاحه، ولا يعود ضرر تجاوزها إلا عليه وحده، قال تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ

لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» [الروم: 30] . وقال صلى الله عليه وسلم: " ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه " (1) . ولهذا كانت معرفة النفس الإنسانية كما هي في القرآن والسنة من أجلى الأدلة كشفا عن حقيقة الإيمان الشرعية. ومما يؤكد ذلك أنه يتفق مع "منهج الوحي" في الاستدلال والمناظرة، ذلك المنهج الفطري الذي يخاطب البديهة بوضوح وتيسير بعيدا عن الخوض في القضايا الذهنية المعقدة. فمعرفة الحقيقة النفسية لا تحتاج إلى عناء في الاستدلال والفهم، بل تقوم على بدهيات مسلمة يحسها كل إنسان من نفسه - مؤمنا أو كافرا - ولا ينكرها إلا مكابر مغالط، ومن هنا كثر الاستدلال على التوحيد بما في حقيقة الإنسان من صفات كالعجز والجهل والضعف والافتقار، وهي من أقوى طرق الاستدلال وأجلاها لكل ذي لب. ويتبع ذلك الاستدلال على ضرورة الاستقامة على دين الله واتباع شرعه بما في النفس البشرية من صفات كالظلم والجهل والطمع والشح والهلع والكبر وحب الخصام، والإقرار وقت الشدة بما تنكره حال الرخاء!! وانطلاقا من حقيقة مسلمة في التصور الإسلامي عامة - وهي أن الوحي إنما نزل لتزكية النفس الإنسانية وتقويم عملها؛ ابتداءً من إصلاح الخواطر والإرادات، وانتهاءً بإصلاح الأعمال والحركات، رأيت أن أعرض حقيقة هذه النفس وطبيعة عملها توصلاً بذلك إلى تحويل حقيقة الإيمان الشرعية من مسألة جدلية إلى قضية مسلمة بدهية كتلك؛ أي إنني سأحاول - ما أقدرني الله عليه - إيضاح العلاقة التطابقية بين الحقيقة البدهية للنفس البشرية وبين المفهوم الصحيح للعبادة؛ ليظهر أي التصورين الصادق المصيب؛ التصور السلفي أم التصور الإرجائي؟ إن الناظر لحقيقة النفس الإنسانية وطبيعة عملها في الكتاب والسنة وأقوال العلماء الربانيين المستمدة منهما، يجد أن ذلك يقوم على قضايا بدهية يأخذ بعضها برقاب بعض:

_ (1) رواه الإمام أحمد والشيخان، وهذا لفظ مسلم (2658) (2) هذا هو تفسير الإمام الطبري (30/115) ،وتبعه ابن كثير

* والقضية الأولى: أن " كل إنسان عامل ". يقول تعالى: «يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ» [الانشقاق: 6] . أي: "يا أيها الإنسان إنك عامل إلى ربك عملا فملاقيه به، خيراً كان عملك ذلك أو شراً، يقول: فليكن علمك مما ينجيك من سخطه ويوجب لك رضاه، ولا يكن مما يسخطه عليك فتهلك" (2) . قال قتادة: " إن كدحك يابن آدم لضعيف، فمن استطاع أن يكون كدحه في طاعة الله فليفعل ولا قوة إلا بالله" (1) . ويدل لذلك قوله تعالى: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ» [البلد: 4] . على المعنى الظاهر المختار في تفسيرها (2) ، وعلى هذا جاء الحديث الصحيح: " كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها " (3) ، والحديث الصحيح: " أصدق الأسماء حارث وهمام " (4) . فالغدو وبيع النفس عمل مشترك لكل حي، وإنما الفارق أن المطيع يعتق والعاصي يوبق. وكل إنسان لا يخلو من الحرث والهم، أي العمل والإرادة، فالتسمية بحارث وهمام وصف للطبيعة البشرية على ما هي عليه دون اقتضاء مدح أو ذم للمسمى، ولهذا كانا أصدق الأسماء. وبدهي أن العمل هو أثر النية والإرادة، فكل يعمل وفق ما يعتقد ويرى؛ قال تعالى: «قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا» [الإسراء: 84] . فهذا إخبار بأن كل إنسان يعمل على شاكلته، قال ابن عباس: على ناحيته، وقال مجاهد: على حدته وطبيعته، وقال قتادة: على نيته، وقال ابن زيد: على دينه (5) . ومؤدى هذه الأقوال واحد.

_ (1) رواه الطبري، الموضع نفسه (2) أي المشقة والكدح والعناء، وهو الذي اختاره الإمام أحمد رضي الله عنه وقال: هو أظهر - أي من القول بأن المعنى: " منتصبا ". انظر: بدائع الفوائد (3/113) . (3) رواه مسلم رقم (223) الطهارة. (4) رواه الإمام أحمد (4/345) ، وأبو داود (4950) ، وصححه شيخ الإسلام (كما سيأتي في كلامه) (5) انظر: الطبري (15/154) ، وعنه نقل ابن كثير

والمقصود أن الصلة بين الإيمان وبين العمل كالصلة بين العمل والحياة، فالإنسان بمقتضى كونه حيا حساسا هو كادح مكابد؛ أي عامل دائب العمل، وأساس العمل هو الفكر والإرادة، ومعلوم أن الإنسان لا يخلو قط من الفكر والإرادة، وأنه لا بد لها من متعلق ما وأثر ما في القلب والجوارح، وليست حقيقة العمل إلا هذا. فإن لم يكن للفكر والهم والإرادة أثر يوافقها أو نتيجة تطابقها أو مظهر يصدقها لم تكن فكرة ولا إرادة على الحقيقة، وإنما هي عارض من عوارض الخاطر وعليه لا يصح أن تسمى إيمانا أو اعتقاداً. وعلى قدر صدق الفكرة وقوة الإرادة يكون تحقق العمل في الخارج إن خيرا وإن شرا، فما يظهر على الجوارح هو الجزء الخارجي من الحقيقة الإنسانية المركبة ومن عملي القلب والجوارح تركيبا مزجيا عضويا، كالسفينة التي أسفلها تحت سطح الماء وأعلاها فوقه، وهذا ما يطابق تماماً الحقيقة المركبة للإيمان الشرعي (1) . يصدق هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"" (2) . فهذا مع دلالته على الارتباط العضوي بين الإرادة والعمل - يؤكد مهمة الدين التي هي إصلاح الأصل ليصلح الفرع والأثر. وهذه العبارة النبوية أبلغ من العبارة التي قالها أبو هريرة رضي الله عنه وهي: "القلب ملك والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده! "؛ لأن العلاقة بين القلب والأعضاء أقوى منها بين الملك والجنود، لا سيما والكلام في مورد الحديث عن الإيمان، وأصل محل الإيمان القلب، ويسري في الجوارح بحسب قوته في الأصل كالطاقة في الآلة. والملك قد يفسد وبعض جنده صالح وبالعكس بخلاف القلب؛ فإن الجسد له لا يخرج عن إرادته ولا يتحرك بدونه. فكلام النبي صلى الله عليه وسلم كشف لعين الحقيقة، وكلام الصحابي رضي الله عنه تقريب وتمثيل (3) . هذا وقد أنزل الله تعالى الكتب وأرسل الرسل لتدعو هذا الإنسان الكادح بطبعه العامل - بمقتضى حياته - أن يكون كدحه أي عمل قلبه وجوارحه على ما شرع له الله، أي وفق الغاية التي خلقه لأجلها «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» [الذاريات: 56] .

_ (1) التي سنعقد لها مبحثا خاصا في الباب الأخير (2) متفق عليه من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، انظر: الفتح (1/126) (3) انظر: مجموع الفتاوى (7/187) .

فإن لم يجب داعي الله ويؤمن برسالاته فإن عمله ينصرف قطعا إلى ضد ذلك، أي أنه إن لم يكن عابدا لله فإنه عابد للشيطان لا محالة «ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين. وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم» [يس: 60، 61] . وهذا هو مفترق الطريق بين شطري الجماعة الإنسانية "المؤمنين والكافرين". وذلك أن حكمة الله تعالى في خلق الإنسان اقتضت أن يكون أمام الإنسان طريقان مختلفان؛ طريق الكفر وطريق الإيمان، وأن يسير في أيهما شاء ابتلاء له وامتحانا «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» [الكهف: 29] . وكذا مقتضى ذلك أن جعل للنفس البشرية في حركتها الجبلِّية الدائبة مصدرين متنافرين يمدانها بالطاقة والحركة بين حين وآخر - هما: 1 - ذكر الله بالمعنى الشامل له، ومنه تدبر القرآن والتفكر في المخلوقات والآلاء والعلم النافع، وكل ما من شأنه أن يزكيها ويوقظها ويصلح خلجاتها وخواطرها، وما يقذفه " الملك " فيها من تصديق بالحق وإيعاد بالخير. 2 - وسوسة الشيطان الذي يعبث بها ويغرها ويلهيها ويزين لها ويمكر بها، ويقذف فيها التكذيب بالحق والإيعاد بالشر (1) . فللملك لمة وللشيطان لمة. والنفس كالرحى الدائرة؛ إما أن تستمد وقودها وطحينها من هذا أو من هذا ولا تقف عن العمل قط. وهذه القضية وما يترتب عليها من قضايا تحدث عنها علماء الإسلام الربانيون، متخذينها منطلقا لإيضاح حقائق كبرى في معاملات القلوب مع الله تعالى وأسلوب تزكيتها.

_ (1) حديث ابن مسعود: "إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم - ثم قرأ - النبي صلى الله عليه وسلم «الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء» الآية". رواه الترمذي حديث (2988) التفسير، وابن حبان: 40 من موارد الظمآن بسند ضعيف، وذكر السيوطي في الدر المنثور (1/348) من رواه غيرهما، وذكر ابن كثير عند تفسير الآية سندا آخر ولم يحكم عليه. أما روايته عن ابن مسعود موقوفا عليه فذكر لها الطبري روايات بعضها حسن (3/88- 89) ، وقال شيخ الإسلام: هو محفوظ عنه ربما رفعه بعضهم، الفتاوى (4/31) ، والظاهر أن الحديث حسن لدلالة ظاهر الآية، وهو مما لا مجال للرأي فيه، والله أعلم.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إيضاحا لحديث ابن مسعود: " إن للملك لمة وللشيطان لمة.. ": " هذا الكلام الذي قاله ابن مسعود وهو محفوظ عنه، وربما رفعه بعضهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو كلام جامع لأصول ما يكون من العبد من علم وعمل، ومن شعور وإرادة. وذلك أن العبد له قوة الشعور والإحساس والإدراك وقوة الإرادة والحركة، وإحداهما أصل الثانية مستلزمة لها، والثانية مستلزمة للأولى ومكملة لها، فهو بالأولى يصدق بالحق ويكذب بالباطل، وبالثانية يحب النافع الملائم له ويبغض الضار المنافي له (1) ، والله سبحانه خلق عباده على الفطرة التي فيها معرفة الحق والتصديق به ومعرفة الباطل والتكذيب به، ومعرفة النافع الملائم والمحبة له، ومعرفة الضار المنافي والبغض له بالفطرة. فما كان حقا موجوداً صدقت به الفطرة (يعني من العلوم) ، وما كان حقا نافعا عرفته الفطرة واطمأنت إليه وذلك هو المعروف، وما كان باطلا معدوما كذبت به الفطرة فأبغضته فأنكرته، قال تعالى: «يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر» . والإنسان كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "أصدق الأسماء حارث وهمام" فهو دائما يهم ويعمل، لكنه لا يعمل إلا ما يرجو نفعه أو دفع مضرته، ولكن قد يكون ذلك الرجاء مبنيا على اعتقاد باطل، إما في نفس المقصود فلا يكون نافعا ولا ضارا، وإما في الوسيلة فلا تكون طريقا إليه وهذا جهل. وقد يعلم أن هذا الشيء يضره ويفعله، ويعلم أنه ينفعه ويتركه؛ لأن ذلك العلم عارضه ما في نفسه من طلب لذة أخرى أو دفع ألم آخر جاهلا ظالما حيث قدم هذا على ذاك. وإذا كان الإنسان لا يتحرك إلا راجيا، فالرجاء لا يكون إلا بما يلقى في نفسه من الإيعاد بالخير الذي هو طلب المحبوب أو فوات المكروه. فكل بني آدم له اعتقاد؛ فيه تصديق بشيء وتكذيب بشيء، وله قصد وإرادة لما يرجوه مما هو عنده محبوب ممكن الوصول إليه، أو لوجود المحبوب عنده، أو لدفع المكروه عنه.

_ (1) سيأتي تفصيل ذلك عند الحديث عن "الدوافع".

والله خلق العبد يقصد الخير فيرجوه بعمله، فإذا كذب بالحق فلم يصدق به، ولم يرج الخير فيقصده ويعمل له كان خاسرا بترك تصديق الحق وطلب الخير، فكيف إذا كذب بالحق وكره إرادة الخير؟ فكيف إذا صدق بالباطل وأراد الشر؟ فذكر عبد الله بن مسعود أن لقلب بن آدم لمة من الملك ولمة من الشيطان، فلمة الملك تصديق بالحق وهو ما كان من جنس من غير جنس الاعتقاد الفاسد، ولمة الشيطان هو تكذيب بالحق وإيعاد بالشر، وهو ما كان من جنس إرادة الشر وظن وجوده: إما مع رجائه إن كان مع هوى نفس، وإما مع خوفه إن كان غير محبوب لها - وكل من الرجاء والخوف مستلزم للآخر -. فمبدأ العلم الحق والإرادة الصالحة من لمة الملك، ومبدأ الاعتقاد الباطل والإرادة الفاسدة من لمة الشيطان ... " (1) . وعن هذه أو تلك تصدر الأعمال - خيرها وشرها - التي لا يخلو منها بشر قط. ومن جليل الاستنباط أن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه شيخ الإسلام ابن القيم استخرجا هذه الحقيقة من سورة الفاتحة، وكررا ذلك في كثير من تآليفهما النافعة فكشفا بذلك عن طرف من سر الحكمة الربانية في قراءة هذه السورة في كل ركعة، فكل مسلم لا بد أن يتلوها سبع عشرة مرة في اليوم على الأقل. يقول ابن القيم رحمه الله: "لما كان في القلب قوتان: قوة العلم والتمييز، وقوة الإرادة والحب، كان كماله وصلاحه باستعمال هاتين القوتين فيما ينفعه ويعود عليه بصلاحه وسعادته. فكماله باستعمال قوة العلم في إدراك الحق ومعرفته والتمييز بينه وبين الباطل، وباستعمال قوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل، فمن لم يعرف الحق فهو ضال، ومن عرفه وآثر غيره عليه فهو مغضوب عليه ومن عرفه واتبعه فهو منعم عليه. وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نسأله في صلاتنا أن يهدينا صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. ولهذا كان النصارى أخص بالضلال لأنهم

_ (1) مجموع الفتاوى (4/31- 32) وقد قرر في ص35 "أن المبدأ في شعور النفس وحركتها هم الملائكة أو الشياطين، فالملك يلقي التصديق بالحق والأمر بالخير، والشيطان يلقي التكذيب بالحق والأمر بالشر، والتصديق والتكذيب مقرونان بعمل الإنسان كما أن الأمر والنهي مقرونان بإرادته "، وفي هذا بيان لدور الإنسان في التلقي والامتثال ورد على الجبرية والقدرية.

أمة جهل، واليهود أخص بالغضب لأنهم أمة عناد، وهذه الأمة هم المنعم عليهم، ولهذا قال سفيان بن عيينه: من فسد من عبّادنا ففيه شبه من النصارى، ومن فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود" (1) . ثم ذكر بعض الشواهد النقلية وقال: "وهذا المعنى في القرآن في مواضع كثيرة؛ يخبر سبحانه أن أهل السعادة هم الذين عرفوا الحق واتبعوه، وأن أهل الشقاوة هم الذين جهلوا الحق وضلوا عنه أو علموه وخالفوه واتبعوا غيره " ويختم الموضوع قائلا: "وينبغي أن تعرف أن هاتين القوتين لا تتعطلان في القلب، بل إن استعمل قوته العلمية في معرفة الحق وإدراكه وإلا استعملها في معرفة ما يليق به ويناسبه من الباطل. وإن استعمل قوته الإرادية العملية في العمل به وإلا استعملها في ضده، فالإنسان حارث همام بالطبع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أصدق الأسماء حارث وهمام ". فالحارث: الكاسب العامل، والهمام: المريد، فإن النفس متحركة بالإرادة، وحركتها الإرادية لها من لوازم ذاتها، والإرادة تستلزم مرادا يكون متصورا لها متميزا عندها، فإن لم تتصور الحق وتطلبه وتريده تصورت الباطل وطلبته وأرادته ولا بد.... " (2) . فإذا تبين لنا هذا الجانب عن النفس الإنسانية وأنها في حركة لاهثة مستمرة ما بقيت حية، فمن الضروري معرفة شيء من تفصيل حركتها وعلاقة ذلك بالمظهر الخارجي للحركة " العمل "، وبمصدر الطاقة المستمر " الملك أو الشيطان "، وبالدافع والغرض للحركة " تحصيل النافع الملائم ودفع الضار المنافر ". وكل هذا جاء مفصلا في كلام شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم - رحمهما الله - مستنبطا من نصوص الوحي. ونظل مع ابن القيم في تقرير هذه الحقيقة - ولا نقول النظرية - ثم نعود لشيخه الذي عرضها مراراً من خلال التقرير الأهم، وهو تقرير شمول العبودية وضرورتها لكل حي، والربط بين هاتين الحقيقتين الكبريين:

_ (1) إغاثة اللهفان (1/32) ، وانظر لإيضاح هاتين القوتين " العلمية والعملية ": الفوائد 16 - 17. طبعة زكريا علي يوسف. (2) المصدر السابق (1/33- 34) .

1- حقيقة الحركة الدائمة للنفس الإنسانية. 2- حقيقة شمول العبودية لكل خاطرة وهم وعزم وهمس وفعل من تلك الحركة. يقول ابن القيم: "مبدأ كل علم نظري، وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار؛ فإنها توجب التصورات، والتصورات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع الفعل، وكثرة تكراره تعطي العادة". "واعلم أن الخطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر، فيأخذها الفكر فيؤديها إلى التذكر، فيأخذها التذكر فيؤديها إلى الإرادة؛ فتأخذها الإرادة فتؤديها إلى الجوارح والعمل، فتستحكم فتصير عادة. فردها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها. ومعلوم أنه لم يعط الإنسان إماتة الخواطر ولا القوة على قطعها فإنها تهجم عليه هجوم النفس، إلا أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها ورضاه به ومساكنته له. وعلى رفع أقبحها وكراهته له ونفرته منه، كما قال الصحابة: يا رسول الله، إن أحدنا يجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة (1) أحب إليه من أن يتكلم به؟ فقال: " أو قد وجدتموه؟ " قالوا: نعم. قال: " ذاك صريح الإيمان ". وفي لفظ: " الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة " (2) . "وقد خلق الله النفس شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تسكن ولا بد لها من شيء تطحنه، فإن وضع فيها حب طحنته، وإن وضع فيها تراب أو حصى طحنته؛ فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي يوضع في الرحى، ولا تبقى تلك الرحى معطلة قط بل لابد لها من شيء يوضع فيها، فمن الناس من تطحن رحاه حبا يخرج دقيقا ينفع به نفسه وغيره. وأكثرهم يطحن رملا وحصى وتبناً ونحو ذلك، فإذا جاء وقت العجن والخبز تبين له حقيقة طحينته". واعتمادا على ما تقرر يصف ابن القيم ما ينبغي للمؤمن إزاء هذا فيقول: " فإذا دفعت الخاطر الوارد عليك اندفع عنك ما بعده، وإن قبلته صار فكراً جوالاً ... ".

_ (1) فحمة (2) ثم استطرد في بيان معنى الحديث فقال:" وفيه قولان: 1- أحدهما أن رده وكراهته صريح الإيمان. 2- أن وجوده وإلقاء الشيطان له في النفس صريح الإيمان، فإنه إنما ألقاه في النفس طلبا لمعارضة الإيمان وإزالته به"والحديث رواه مسلم رقم (209)

ومن المعلوم أن إصلاح الخواطر أسهل من إصلاح الأفكار، وإصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإرادات، وإصلاح الإرادات أسهل من تدارك فساد العمل، وتداركه أسهل من قطع العوائد. فأنفع الدواء أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون ما لا يعنيك، فالفكر فيما لا يعني باب كل شر. ومن فكر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه، واشتغل عن أنفع الأشياء له بما لا منفعة له فيه. فالفكر والخواطر والإرادة والهمة أحق شيء بإصلاحه من نفسك، فإن هذه خاصتك وحقيقتك التي تبتعد بها أو تقرب من إلهك ومعبودك الذي لا سعادة لك إلا في قربه ورضاه عنك وكل الشقاء في بعدك عنه وسخطه عليك. ومن كان في خواطره ومجالات فكره دنيئا خسيسا لم يكن في سائر أمره إلا كذلك. وإياك أن تمكن الشيطان من بيت أفكارك وإرادتك، فإنه يفسدها فسادا يصعب تداركه، ويلقي إليك أنواع الوساوس والأفكار المضرة، ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك وأنت الذي أعنته على نفسك بتمكينه من قلبك وخواطرك فملكها عليك. فمثالك معه مثال صاحب رحى يطحن فيها جيد الحبوب، فأتاه شخص معه حمل تراب وبعر وفحم وغثاء ليطحنه في طاحونته، فإن طرده ولم يمكنه من إلقاء ما معه في الطاحون استمر على طحن ما ينفعه، وإن مكنه في إلقاء ذلك في الطاحون أفسد ما فيها من الحب وخرج الطحين كله فاسداً. والذي يلقيه الشيطان في النفس لا يخرج عن الفكر فيما كان ودخل في الوجود لو كان على خلاف ذلك؟! وفيما لم يكن لو كان كيف كان يكون؟! أو فيما يهلك الفكر فيه من أنواع الفواحش والحرام. أو في خيالات وهمية لا حقيقة لها. وإما في باطل أو فيما لا سبيل إلى إدراكه من أنواع ما طوي عنه علمه؛ فيلقيه في تلك الخواطر التي لا يبلغ منها غاية، ولا يقفه منها نهاية فيجعل ذلك مجال فكره ومسرح وهمه.

وجماع إصلاح ذلك أن تشغل فكرك في باب العلوم والتصورات بمعرفة ما يلزمك من التوحيد وحقوقه، وفي الموت وما بعده إلى دخول الجنة والنار، وفي آفات الأعمال وطرق التحرز منها، وفي باب الإرادات والعزوم أن تشغل نفسك بإرادة ما ينفعك وإرادته وطرح ما يضرك إرادته " (1) . وتبيانا لأهمية الإرادة والفكر وكونها مبدأ عمل القلب وعمل الجوارح، ننتقل إلى موضع آخر من كلامه توسع فيه في بيان حقيقة مهمة يمكن أن توجز في أن: " كل إنسان مفكر وكل مفكر عامل " - بيانا لتضاد الأفكار وتعاقبها بما يخرج الإنسان عن أن يكون تمثالا تحفر فيه الكلمة فتبقى ما بقي. ثم يعود السياق فينتظم بقية كلامه هنا، يقول: " أصل الخير والشر من قبل التفكير، فإن الفكر مبدأ الإرادة والطلب في الرغبة (2) والترك والحب والبغض. وأنفع الفكر: الفكر في مصالح المعاد وفي طرق اجتلابها، وفي دفع مفاسد المعاد وفي طرق اجتنابها. فهذه أربعة أفكار هي أجل الأفكار. ويليها أربعة: فكر في مصالح الدنيا وطرق تحصيلها، وفكر في مفاسد الدنيا وطرق الاحتراز منها. فعلى هذه الأقسام الثمانية دارت أفكار العقلاء. ورأس القسم الأول الفكر وآلاء الله ونعمته وأمره ونهيه، وطرق العلم به وبأسمائه وصفاته من كتابه وسنة نبيه وما والاهما. وهذا الفكر يثمر لصاحبه المحبة والمعرفة، فإذا فكر في الآخرة وشرفها ودوامها وفي الدنيا وخستها وفنائها، أثمر ذلك الرغبة في الجد والاجتهاد وبذل الوسع في اغتنام الوقت. وهذه الأفكار تعلي همته وتحييها بعد موتها وسفولها وتجعله في واد والناس في واد.

_ (1) الفوائد، ص 173- 176، ط2 (2) في الأصل: "الزهد"، ولا يستقيم به المعنى، ولعله تصحيف.

وبإزاء هذه الأفكار: الأفكار الرديئة التي تجول في قلوب أكثر هذا الخلق؛ كالفكر فيما لا يكلف فيه ولا أعطي الإحاطة به من فضول العلم الذي لا ينفع، كالفكر في كيفية ذات الرب وصفاته مما لا سبيل للعقول إلى إدراكه. ومنها الفكر في الصناعات (1) الدقيقة التي لا تنفع بل تضر؛ كالفكر في الشطرنج والموسيقى وأنواع الأشكال والتصاوير (2) . ومنها الفكر في العلوم التي لو كانت صحيحة لم يعط الفكر فيها النفس كمالاً ولا شرفاً، كالفكر في دقائق المنطق، والعلم الرياضي والطبيعي، وآكده علوم الفلاسفة التي لو بلغ الإنسان غايتها لم يكمل بذلك ولم يزك نفسه (3) . ومنها الفكر في الشهوات واللذات وطرق تحصيلها، وهذا وإن كان للنفس فيه لذة لا عاقبة له، ومضرته في عاقبة الدنيا قبل الآخرة أضعاف مسرته. ومنها الفكر فيما لم يكن لو كان كيف كان، كالفكر فيما إذا صار ملكاً أو وجد كنزاً أو ملك ضيعة ماذا يصنع وكيف يتصرف؟! ويأخذ ويعطي وينتقم ونحو ذلك من أفكار السفّّل. ومنه الفكر في جزئيات أحوال الناس ومداخلهم ومخارجهم، وتوابع ذلك من فكر النفوس المبطلة الفارغة من الله ورسوله والدار الآخرة. ومنها الفكر في دقائق الحيل التي يتوسط بها إلى أغراضه وهواه مباحة كانت أو محرمة. ومنها الفكر في أنواع الشعر وصروفه وأفانينه في المدح والهجاء والغزل والمراثي ونحوها (4) ، فإنه يشغل الإنسان عن الفكر فيما فيه سعادته وحياته الدائمة.

_ (1) كلمة الصناعة تطلق قديما على الحرفة والمهنة التي تحتاج لحذاقة وفطنة؛ كالكتابة والشعر والرسم وما يسمى في عصرنا الفنون. (2) رحم الله ابن القيم، كم جد في هذه الدنيا بعده من ملهيات فكرية قاتلة يهون إزاءها ما قد ذكر، فلو تأمل عاقل كم تستهلك الأفلام الخليعة والألعاب الرياضية والملاهي المساة "الفنون" من أعمار الناس وأموالهم، وكم تبعدهم عن الله واليوم الآخر؛ لصعق عقله، فالله المستعان. (3) وأعظم منها في حياتنا المعاصرة تلك النظريات الهدامة التي استهلكت الأذهان والأموال وأنشئت لها الكليات والبعثات، مثل أكثر نظريات علم النفس وعلم الاجتماع وعلم السياسة والآداب والفلسفة ودراسة التاريخ الغابر والحضارة المنقرضة بعيدا عن هدى الله. (4) ومنه ما شاع في المتأخرين من التشطير والتخميس والإلغاز، وكذا تكلف المقامات، ثم ما في عصرنا من مسرحيات والقصص والأعمال النقدية والصحفية إلا قليلا منها.

ومنها الفكر في المقدرات الذهنية التي لا وجود لها في الخارج ولا بالناس حاجة إليها البتة، وذلك موجود في كل علم حتى في علم الفقه والأصول والطب (1) . فكل هذه الأفكار مضرتها أرجح من منفعتها، ويكفي في مضرتها شغلها عن الفكر فيما هو أدنى به وأعود عليه بالنفع عاجلا أو آجلا (2) . وبعد هذه اللفتات التزكوية القيمة نعود لاستكمال الحديث عن تلك الحقيقة الكبرى: "وبالجملة فالقلب لا يخلو قط من الفكر، إما في واجب آخرته ومصالحها وإما في مصالح دنياه ومعاشه، وإما في الوساوس والأماني الباطلة والمقدرات المفروضة. وقد تقدم أن النفس مثلها كمثل الرحى تدور بما يلقى فيها، فإن ألقيت فيها حباً دارت به وإن ألقيت فيها زجاجاً وحصى وبعراً دارت به، والله سبحانه هو قيم تلك الرحى ومالكها ومتصرفها، وقد أقام لها ملكاً يلقي فيها ما ينفعها فتدور به، وشيطانا يلقي فيها ما يضرها فتدور به، فالملك يلم بها مرة والشيطان يلم بها مرة. فالحب الذي يلقيه الملك إيعاد بالخير وتصديق بالوعد، والحب الذي يلقيه الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالوعد، والطحين على قدر الحب، وصاحب الحب المضر لا يتمكن من إلقائه إلا إذا وجد الرحى فارغة من الحب النافع " (3) . وعن القضية نفسها ومن الزاوية التي أشرنا إليها يتحدث شيخه شيخ الإسلام فيقول: " كل من استكبر عن عبادة الله لابد أن يعبد غيره ". وهذا أصل عظيم من أصول التصور السلفي يشرحه مرتبطا بحقيقة النفس الإنسانية قائلاً: "فإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة، وقد ثبت في الصحيح (4) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أصدق الأسماء حارث وهمام". فالحارث الكاسب الفاعل، والهمام فعال من الهم، والهم أول الإرادة.

_ (1) وفي عصرنا من ذلك الغثاء أضعاف أضعاف ما كان، ويشبه ذلك إضاعة العمر في تتبع المواضع التي ذكرها الشعراء ومعرفة أنساب الحيوان وغيرها مما أفنى فيه بعض الناس عمره والله سائله عنه يوم القيامة. (2) الفوائد، ص 198- 199. (3) الفوائد، ص 176- 177. (4) هكذا قال هنا، وفي الإيمان ص 40 وغيره: " في الحديث الصحيح " وهو الصواب؛ فإن الحديث ليس في أي من الصحيحين.

فالإنسان له إرادة دائما، وكل إرادة فلابد لها من مراد تنتهي إليه، فلابد لكل عبد من مراد محبوب هو منتهي حبه وإرادته. فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وإرادته، بل استكبر عن ذلك فلابد أن يكون له مراد محبوب يستعبده غير الله. فيكون عبداً لذلك المراد المحبوب؛ إما المال، وإما الجاه، وإما الصور (1) ، وإما ما يتخذه إلهاً من دون الله، كالشمس والقمر والكواكب والأوثان وقبور الأنبياء والصالحين، أو من الملائكة والأنبياء الذين يتخذهم أرباباً أو غير ذلك مما عبد من دون الله" (2) . وكما أن أحداً لا يخلو من كفر أو إيمان، فكذلك الحال في تفصيلات الإيمان وشعبه، فإن الله شرع للنفس من التعبد ما يستغرق كل حركاتها وإراداتها، فما لم تتعبد بشيء منها وقعت لا محالة في ضده من البدعة أو المعصية، وأقل ما تقع فيه ترك الأولى واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير والغفلة عن الذكر. "وهكذا أهل البدع لا تجد أحداً ترك بعض السنة التي يجب التصديق بها والعمل إلا وقع في بدعة، ولا تجد صاحب بدعة إلا ترك شيئا من السنة، كما جاء في الحديث: "ما ابتدع قوم بدعة إلا تركوا من السنة مثلها" (3) . وقد قال تعالى: «فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ» [المائدة: 14] . فلما تركوا حظا مما ذكروا به اعتاضوا بغيره فوقعت بينهم العداوة والبغضاء. وقال تعالى: «فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى» [طه:123، 124] . وقال: «اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ» [الأعراف: 3] . فأمر باتباع ما أنزل ونهى عما يضاد ذلك وهو اتباع أولياء من دونه، فمن لم يتبع أحدها اتبع الآخر، ولهذا قال: «وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ» [النساء: 115] .

_ (1) أي مظاهر الجمال (2) العبودية، ص 111- 112، تحقيق عبد الرحمن الباني. (3) رواه الإمام أحمد.

قال العلماء: من لم يكن متبعا سبيلهم كان متبعا غير سبيلهم، فاستدلوا بذلك على أن اتباع سبيلهم واجب فليس لأحد أن يخرج عما أجمعوا عليه. وكذلك من لم يفعل المأمور فعل المحظور، ومن فعل المحظور لم يفعل جميع الأمور، فلا يمكن الإنسان أن يفعل جميع ما أمر به مع فعله لبعض ما حظر، ولا يمكنه ترك كل ما حظر مع تركه لبعض ما أمر، فإن ترك ما حظر عليه من جملة ما أمر به فهو مأمور ومن المحظور ترك المأمور، فكل ما شغله عن الواجب فهو محرم، وكل ما لا يمكن فعل الواجب إلا به فعليه فعله" (1) . وكالشرح لهذا الكلام يتحدث الإمام ابن القيم بأسلوبه الأدبي فيقول: " قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده، وهذا كما أنه في الذوات والأعيان فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات. فإذا كان القلب ممتلئا بالباطل اعتقادا ومحبة لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع. كما أن اللسان إذا اشتغل بالتكلم بما لا ينفع لم يتمكن صاحبه من النطق بما ينفعه إلا إذا فرغ لسانه من النطق بالباطل. وكذلك الجوارح إذا اشتغلت بغير الطاعة، لم يكن يشغلها بالطاعة إلا إذا فرغها من ضدها. وكذلك القلب المشغول بمحبة غير الله وإرادته والشوق إليه والأنس به، لا يمكن شغله بمحبة الله وإرادته وحبه والشوق إلى لقائه إلا بتفريغه من تعلقه بغيره، ولا حركة اللسان بذكره والجوارح بخدمته إلا إذا فرغها من ذكر غيره وخدمته. فإذا امتلأ القلب بالشغل بالمخلوق والعلوم التي لا تنفع، لم يبق فيها موضع للشغل بالله ومعرفة أسمائه وصفاته وأحكامه. وسر ذلك أن إصغاء القلب كإصغاء الأذن؛ فإذا أصغى إلى غير حديث الله لم يبق فيه إصغاء ولا فهم لحديثه، كما إذا مال إلى غير محبة الله لم يبق فيه ميل إلى محبته. فإذا نطق القلب بغير ذكره لم يبق فيه محل للنطق بذكره كاللسان.

_ (1) الإيمان، ص 161- 165

ولهذا في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً (1) حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعراً"، فبين أن الجوف يمتلئ بالشعر، فكذلك يمتلئ بالشبه والشكوك والخيالات والتقديرات التي لا وجود لها والعلوم التي لا تنفع والمفاكهات والحكايات ونحوها. وإذا امتلأ القلب بذلك جاءته حقائق القرآن والعلم الذي به كماله وسعادته فلم تجد فيه فراغا ولا قبولا فتعدته وجاوزته إلى محل سواه ... " (2) . وليس تعليل هذا مما يشكل، بل هو واضح لمن تأمله، وبه يظهر خطر البدع - التي هي وضع غير إلهي لطريق العبودية - أي صرف للحرث والهم عما شرعه الله إلى ما شرعه غيره. على أن الذي يهمنا هو أن وقوع البدع الذي لم يخل منه دين قط هو في ذاته دليل على عدم انفكاك العبودية عن الإنسان؛ فإنه إن لم يتعبد متبعاً تعبد مبتدعاً. ومما يبين ذلك أن " الشرائع هي غذاء القلوب وقوتها كما قال ابن مسعود رضي الله عنه ويروي مرفوعا: " إن كل آدب يجب أن تؤتى مأدبته، وإن مأدبة الله هي القرآن ". ومن شأن الجسد إذا كان جائعا فأخذ من طعام حاجته استغنى عن طعام آخر حتى لا يأكله - إن أكل منه - إلا بكراهة وتجشم، وربما ضره أكله أو لم ينتفع به، ولم يكن هو المغذي الذي يقيم بدنه. فالعبد إذا أخذ من غير الأعمال المشروعة بعض حاجته، قلت رغبته في المشروع وانتفاعه به بقدر ما اعتاض من غيره. بخلاف من صرف نهمته وهمته إلى المشروع فإنه تعظيم محبته له ومنفعته به ويتم دينه ويكمل إسلامه. ولهذا تجد مَنْ أكثر من سماع القصائد لطلب صلاح قلبه تنقص رغبته في سماع القرآن حتى ربما يكرهه، ومن أكثر السفر إلى زيارة المشاهد ونحوها لا يبقى لحج البيت المحرم في قلبه من المحبة والتعظيم ما يكون في قلب من وسعته السنة، ومن أدمن على أخذ الحكمة والآداب من كلام حكماء فارس والروم لا يبقى لحكمة الإسلام وآدابه في قلبه ذاك الموقع، ومن أدمن على قصص الملوك وسيرهم لا يبقى لقصص الأنبياء وسيرهم في قلبه ذاك الاهتمام. ونظائر هذه كثيرة.

_ (1) مضارع، من يرى يري. (2) الفوائد، ص 29 - 30

ولهذا جاء في الحديث عن النبي: "ما ابتدع قوم بدعة إلا نزع الله عنهم من السنة مثلها" (1) . وهذا أمر يجده في نفسه من نظر في حاله من العلماء والعباد والأمراء والعامة وغيرهم. ولهذا عظمت الشريعة النكير على من أحدث البدع وحذرت منها؛ لأن البدع لو خرج الرجل منها كفافاً - لا عليه ولا له - لكان الأمر خفيفا، بل لابد أن توجب له فساداً في قلبه ودينه من نقص منفعة الشريعة في حقه؛ إذا القلب لا يتسع للعوض والمعوض عنه ... " (2) . وعند مثل هذا الموضوع يلتقي مفهوم العبادة الشامل مع مفهوم زيادة الإيمان ونقصانه، وهنا أصلان من أصول التصور السلفي المنسجم تماماً مع حقيقة النفس الإنسانية كما تقرر. ونستطيع الآن - مع وضوح هذه الحقائق - أن نضيف إلى القضية السابقة - وهي: كل إنسان مفكر، وكل مفكر عامل - عنصرا ثالثا تكتمل به القضية وهو: " وكل عامل عابد ". لنخلص إلى المفهوم السلفي الواضح عن ارتباط الحقيقة البشرية المتمثلة في طبيعة النفس الإنسانية كما خلقها الله، بالحقيقة الشرعية المتمثلة في خضوع الإنسان بكل جوانبه النفسية والعملية لعبودية الله وحده. وكون كل عامل عابداً - أي كل إنسان عابد - مع بداهتها - ليست موضع تسليم من التصور الإرجائي الذي لا يخلو من جهل بالحق أو إعراض عنه بل هي قضية غريبة، وأكثر ما تبدو غرابتها في عصرنا الحاضر - عصر الإلحاد والتمرد على الأديان بالجملة والتفلت من العبوديات كلها - كما يتوهمه أكثر أهله! - فهناك دول كثيرة تنص دساتيرها بصراحة أنها "دول لا دينية"، وبعضها ألغى خانة "الدين" من البطاقة الشخصية لمواطنيها. وأكثر هؤلاء المواطنين - لا سيما في أوربا وأمريكا فضلا عن الدول الشيوعية - لو سألت أيا منهم ماذا تعبد؟ لأجابك بداهة أنه لا يعبد شيئا لأنه إنسان "لا ديني"!

_ (1) رواه الإمام أحمد (2) اقتضاء الصراط المستقيم، ص 217

هذا التيار العالمي الكبير أضاف إلى التصور الإرجائي الشائع أصلا بين المسلمين قوة وتعميما حتى غدا وكأنما هو من المسلمات الواضحة. وهو التصور الذي يفترض أن الناس قسمان: عابد، وغير عابد. والأول: " العابد "، يشمل المنتمين إلى الأديان ولا سيما الإسلام. والآخر: يشمل الدول - أو الأفراد - اللادينية. ثم إن " العابدين " - حسب هذا التصور - ينقسمون قسمين: 1- مؤمن بقلبه عامل بجوارحه. 2- مؤمن بقلبه غير عامل بجوارحه. وهذا التقسيم منطقي مع حقيقة الإيمان - كما يتخيلونها - وهي أنه مادة جامدة معزولة في ضمير صاحبها لا تزيد ولا تنقص ولا تقتضي أثرا ولا تستدعي متعلقا. فهذا الإيمان مفقود عند كثير من الناس وهم الصنف غير العابد، وموجود عند الصنف العابد في الحالتين: حالة العمل وحالة عدمه. واستكمالا للحقيقة الكلية السابقة، وردا على هذا الزعم الخطأ - أعني زعم وجود إنسان غير عابد - نلقي مزيدا من الضوء على حقيقة النفس الإنسانية من جهة "الدوافع" التي تحركها للعمل والتي لا تخلو منها نفس قط، وكيف أن لهذه الحركة بالضرورة غاية تسعى إليها، وأن الطريق إلى هذه الغاية لا يكون إلى على قنطرة أعمال القلوب من الخوف والرجاء والحب والكره ونحوها مما يجعله في محصلته النهائية والحقيقية "عبادة" مهما كابر بعض بني آدم فيها، فهم عابدون حقيقة وجوهراً وإن أنكروا العبودية لفظا ومصطلحا. ثم نبين - بإذن الله - علاقة العمل الخارجي بما في النفس من الدوافع والغايات مما يظهر به استحالة الشطر الثاني من الفرض الذهني الذي تخيله المرجئة؛ وهو وجود مؤمن غير عامل. إن قضية "الدوافع" - ولازمها الفطري وهو "الضوابط" - لتعود إلى خاصية أخرى من خصائص النفس البشرية - عدا ما سبق تقريره من خاصية: "الحركة الدائمة حرثا وهماً" - وهذه الخاصية الأخرى هي: "الافتقار الذاتي إلى تحصيل النافع والملائم ودفع الضار والمنافر".

وبيان ذلك أن كل إنسان - بل كل كائن حي - إنما يصرف عمله وإرادته " حرثه وهمه " من أجل الحصول على ما يراه نافعا لذيذا، والابتعاد عما يراه ضارا مؤلما، وليس في تصرفات العقلاء ما يصح أن يخرج عن هذا، بل ليس في الكائنات ما يقصد إلى خلاف ذلك (1) . فالنبات - مع دنو درجته في سلم الأحياء - يضرب بجذوره في الأرض متجها إلى الجهة التي فيها الماء، ويضرب بفروعه صاعدا إلى الزاوية التي يكون فيها الضوء. والحيوان السارح في الغابة يختار من الغذاء - بهداية الله عز وجل له - ما ينفعه ويلائمه ويتجنب ما يضره وينافره. نعم قد يخطئ فيقتات ما يضر، ولكنه بأكله مضرة نفسه، وإنما آثره للذة وجدها فيه مع جهله بعاقبته. والإنسان الذي اختصه الله تعالى بالتكريم والتفضيل على سائر الأحياء في الأرض تظهر فيه هذه النزعة بما يتناسب مع خصائصه الفذة؛ فهو يبني الحضارات المتعاقبة ويتطور في ألوان الاستمتاع ومظاهر الانتفاع، كل ذلك والدافع لا يفتر والمحرك لا يتوقف والتشوق إلى المزيد لا يضعف. وهو حتى حين يرتكب أكثر الأفعال إيلاما لنفسه - وهو أن يقتلها عامداً - إنما يبتغي بذلك راحتها وخلاصها بزعمه.

_ (1) من العجيب أن مع وضوح هذه الحقيقة وإحساس كل إنسان بها في نفسه، فإن ما يسمى "علم النفس" المعاصر لا يكاذ يتحدث عنها بل إنه ليتحدث عنها حديث المنكر لها. وقد كانت هذه الحقيقة معروفة في الفكر الإغريقي، ثم تبنتها في القرن العشرين المدرسة النفسية المسماة "الغرضية" (Horm School) وقد كان لها رواج خصوصا على يد "مكدوجل 1871- 1938" الذي قال: إن وراء كل سلوك إنساني نزعة أو غريزة فطرية دافعة، ولكن هذه المدرسة انطمرت واندثرت في غمرة رواج المدارس التجريبية التي تفسر السلوك الإنساني تفسيرا حيوانيا بل آليا، ومن أكثرها مناقضة لهذه النظرية المدرسة السلوكية "بافلوف" التي عكست؛ فجعلت الأفعال الخارجية هي مصدر هي مصدر المشاعر الداخلية، وعلى منوالها تسير المدارس التجريبية المعاصرة. وهذا مما يلقي ظلال الشك والريب في هذا العلم والأيدي الهدامة من ورائه انظر: علم النفس المعاصر، حسن المليجي ط2، 1972،بيروت. السلوك الإنساني، إبراهيم الغمري، 1979، مصر، ص47. الإنسان بين المادية والإسلام، محمد قطب، دار الشروق، فصل "التجريبيون".

والحاصل أن "مقصود الحياة (عند الحيوان عامة) هو حصول ما ينفع به الحي ويستلذ به، والحي لابد له من لذة أو ألم، فإذا لم تحصل له اللذة لم يحصل له مقصود الحياة" (1) . فالسعي لتحقيق اللذة والمنفعة هو وقود الكدح الإنساني على الأرض، ولما كان ذلك فطريا في كل نفس، لم يكن من شأن المنهج الرباني الذي نزل متسقاً مع الفطرة أن يقتلعه ويخمده، وإنما شأنه أن يوجهه ويقومه. فالطاقة المحركة لا يعيبها أنها طاقة وإنما العيب أن يساء استعمالها فتتخذ طاقة للشر والخسران. إذا تقرر هذا أمكن الوصول إلى النتيجة من خلال الإجابة عن سؤال لابد منه وهو: هل يستطيع الإنسان - مستقلا منفرداً - معرفة النافع المستلذ وتمييزه عن الضار المكروه في الحال والعاقبة؟ وإذا عرف شيئا من ذلك، فهل يستطيع الحصول عليه ودفع العوارض الحائلة دونه بمجرد تشوفه إليه وإرادته الحصول عليه؟ إن تركيب الإنسان النفسي والعضوي، وواقعه المشهود على مدار التاريخ، وطبيعة الحياة كما خلقها الله تعالى، و "الكبد" الذي خلق الإنسان فيه. و "الكدح" الذي لا ينفك عن بشر لتجيب جميعها بلا. فالإنسان مع حرصه الفطري العنيد ومع السعي الدائم والحركة اللاهثة المستمرة يشتمل في تركيبه الذاتي على موانع كثيرة تحول بينه وبين استقلاله بذلك، ومنها على سبيل التمثيل "الضعف، الجهل، الظلم، العجلة، النسيان"

_ (1) مجموع الفتاوى (14/298) . ولما كان هذا مما فطر الله عليه الإنسان - لحكم عظيمة لا يبلغها الوصف - وجعله وراء كل عمل وإرادة له، فإن التصور السلفي ينظر إلى "اللذة" نظرة خاصة تختلف عن النظرات المنحرفة -قديما وحديثا - تلك النظرات الدائرة بين طرفي"الأبيقورية" المقدسة للذة و "الصوفية" المندسة لها. والتصور السلفي بفطريته ووضوحه يعتبر "اللذة" - من حيث هي - مطلوبة للإنسان بل ولكل حي، فلا تذم من جهة كونها لذة وإنما تذم، ويكون تركها خيرا من نيلها وأنفع إذا تضمنت فوات لذة أعظم منها وأكمل، أو أعقبت ألما حصوله أعظم من ألم فواتها. فها هنا يظهر الفرق بين العاقل الفطن والأحمق الجاهل، فمتى عرف العقل التفاوت بين اللذتين والألمين وأنه لا نسبة لأحدهما إلى الآخر، هان عليه ترك أدنى اللذتينلتحصيل أعلاهما واحتمال أيسر الألمين لدفع أعلاهما". الفوائد 193. وإن شئت التوسع أكثر فانظر الاستقامة لشيخ الإسلام (2/148- 154) . ولهذا كان الإنسان - بما كرمه الله به - هو الوحيد المختص بتقديم الآجل على العاجل والنظر في عاقبة اللذة قبل اقتناصها أخذا من الدرس القاسي الذي تلقاه أبواه في الجنة عندما قادهما الشيطان بدافع تحصيل لذة أعلى وهمية «أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ» [الأعراف:20] إلى المعصية فالمصيبة حيث فقدا اللذة الحاصلة والمتوهمة معا.

«إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا» [الأحزاب: 72] . «وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا» [الأحزاب: 28] . «خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ» [الأنبياء: 37] . «وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ» (1) [طه: 115] . والله تعالى هو وحده الذي يريد الشئ فيكون. «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» [يس: 82] . أما الإنسان فالمسألة بين إرادته الشئ وتحققه له قد تكون من الطول بحيث تستنفذ كل العمر وتستهلك كل الكدح وتبلغ به الغاية من الكبد، بل قد لا يتحقق له مراده أصلاً مهما كدح وكابد. وهذه المسافة هي معترك الخواطر والإرادات والانفعالات كما هي معترك العمل والنصب والجهد. فالبواعث لا تفتر والمطامع لا تقف عند حد، ومع ذلك فالعوارض الباغتة والحوائل المانعة كالسهام المشرعة، حتى إن حصول المراد ليس إلا بداية لمخاوف كثيرة من احتمال فواته أو فوات العمر قبل الاستمتاع به، فالكبد والهم لاستدامته لا يقل عنهما للحصول عليه. وهكذا يكون القلب البشري كجناح الطائر لا يكاد يقف حتى يرف، ويظل - العمر كله - ميدانا لمتعارضات تتعاوده ومتضادات تنتابه من خوف ورجاء، وحب وكره، واستكبار وانكسار، وغفلة وتذكر، وشك ويقين، وفرح وترح. وهذه هي أعمال القلوب التي لا ينفك منها قلب بشري قط.

_ (1) جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد أن النبي عليه الصلاة والسلام علم زيد بن ثابت أن يدعو بدعاء طويل منه"وأشهد أنك إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضيعة وعورة وذنب وخطيئة" المسند (5/191) ويقول ابن القيم شرحا لقول بعضهم: من عرف نفسه عرف ربه: "من عرف نفسه بالجهل والظلم والعيب والنقائص والحاجة والفاقة والذل والمسكنة والعدم، عرف ربه ببعض ما هو أهله، وانصرفت قوة حبه وخشيته ورجائه وإنابته وتوكله إليه وحده، وكان أحب شيء إليه وأخوف شيء عنده وأرجاه له، وهذا هو حقيقة العبودية" الفوائد، ص 123

ومنشأ عدم الانفكاك أن الافتقار الذاتي ملازم للوجود الإنساني شامل للحياة كلها؛ طولا: من لحظة الميلاد - بل من قبله - إلى لحظة الممات، وعرضاً: مهما اتسعت الإرادات والمطامع والأعمال. ولما كانت أعمال القلوب هي الأصل في حركة الإنسان وسعيه، كانت موضع التعبد الأصلي، ومحط نظر المعبود من العباد: " التقوى هاهنا - وأشار إلى صدره ثلاث مرات " (1) . " إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " (2) . فإذا تذكرنا ما سبق تقريره من أن الله عز وجل - بلطفه وحكمته - أنزل الدين متسقا مع حقيقة النفس الإنسانية مساويا لفطرتها السوية علمنا أنه لا شيء من أعمال القلوب يقع خارج مجال التعبد بحال من الأحوال. ومن ثم انقسم الناس من حيث الأصل فريقين: 1- مؤمن يعبد الله وحده. 2- مشرك يعبد غير الله معه أو من دونه. وهذا - كذلك - هو السر في كون الإيمان درجات متفاوتة في قلوب الفريق الأول. وهذا الإجمال يتضح بالفقرة التالية التي نريد بها العبور من الحقيقة النفسية إلى الحقيقة الشرعية. إن ما سبق تقريره بشأن الافتقار الذاتي وتفرع أعمال القلوب عنه، هو وصف للحقيقة الإنسانية من حيث هي - مؤمنة أو كافرة - ولهذا نجده مشتركا بين فريقي البشر يحسه كل إنساني في نفسه سواء أعرب عنه لسانه أم عجز. ولكن نقطة الالتقاء هذه يتفرع عنها طريقان مختلفان تمام الاختلاف - طريق الإيمان وطريق الكفر! وهذا مثله كمثل عربتين تزودتا بوقود واحد وقادهما قائدان متماثلان في الخبرة والدراية. ولكن إحداهما انطلقت ذات اليمين والأخرى ذات الشمال.

_ (1) رواه مسلم، رقم (2564) (2) المصدر نفسه، رواية أخرى

ومن أبرز مظاهر الاختلاف بين المؤمن والكافر بالنظر إلى أن كلا منهما حارث وهمام كادح ومكابد مفتقر إلى غيره: 1 - اختلاف غاية كل منهما ومراده ومحبوبه (1) . 2 - اختلاف الأسباب الوسائط التي يتعلق بها القلب لتحقيق غاياته ومراداته. 3 - الاختلاف في الإقرار بحقيقة الافتقار بين حال وحال. وكل هذا جاء تفصيله في القرآن والسنة على أكمل الوجوه، وقد جمعتها سورة الفاتحة من كل أطرافها واستوعبت كل معانيها. فلنشرح ذلك تفصيلا.

_ (1) تبعا لاختلاف معيار التمييز بين النافع الملائم والضار المنافر؛ فالمؤمن وفقه الله لمعرفة ذلك فعبد الله وحده، والكافر يتخبط في الضلالة وهو يحسب أنه على شيء.

الإرادات والغايات

* فأما اختلاف الإرادات والغايات: فإن مراد المؤمن الأعلى ومحبوبه بالقصد الأول هو الله تعالى، وأما الكافر فمراده وغايته ومحبوبه بالقصد الأول هو ما يتخذه من ند معبود وهوى مألوه. فهذا يريد الله والدار الآخرة همًّا وحرثاً، وذاك يريد حظ النفس ومتاع العاجلة. وهذا كاف في تفسير التناقض الواضح بين واقع كل منهما في هذه الأرض أمما وأفراداً، حتى مع اشتراكهما في بعض مظاهر السعي الصورية. يقول الله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ» [البقرة: 165] ويقول جل ذكره: «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا» [الكهف: 28] ويقول على لسان إمام الموحدين إبراهيم عليه السلام في إنكاره لقومه: «أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ» [الصافات: 86] ويقول: «فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (*) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ» [النجم: 29- 30] ويقول: «مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (*) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا» [الإسراء: 18- 19]

والآيات في ذلك كثيرة معروفة. كما أن من أعظم أخطاء الأمم الشركية أنها جعلت الوسائط والأسباب المخلوقة غايات ومرادات معبودة - وهذا الذي كثر الحديث عنه في القرآن - سواء اعتقدوا أن هذا السبب يوصل إلى الله تعالى تقرباً وتألهاً أو يوصل إلى شيء من الرزق والفضل الذي هو بيد الله وحده (1) . ولهذا قالوا: «مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى» [الزمر: 3] وقالوا: «هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ» [يونس: 18] وأبطل الله عز وجل - في مواضع كثيرة من كتابه - الشرك كله، سواء أكان في الغاية أو الواسطة، فحقيقة الشرك - على اختلاف صوره ومذاهبه - هي الوقوف بالإرادات عند غاية دون الله عز وجل، أو الإنقطاع إلى أسباب من خلق الله عز وجل وصنعه. وبيّن أن ذلك من المشركين تخبط في الوهم وتعلق بالسراب. «مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ» [يوسف: 40] «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ» [العنكبوت: 42] «وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ» [يونس: 66] وهذه قضية من أوضح قضايا التصور السلفي وأجلاها، وأصلها أن الناس لو عقلوا عن الله عز وجل كلامه وقاموا لله مثنى وفرادى، ثم تفكروا، لوجدوا أنه ما من شيء يتوهمونه مراداً وغاية لذاته، أو سبباً في حصول المرادات وتحقق الغايات، إلا هو مستلزم لسبب آخر وراءه، وما تزال الغايات والأسباب تتسلسل حتى تنتهي إلى الغاية التي ليس وراءها مطلب، والمصدر الذي ليس وراءه سبب وهو الله تعالى.

_ (1) توحيدها مجموع كله في قوله تعالى: «إياك نعبد» [الفاتحة: 5] . وتوحيد الأسباب والوسائل مجموع في قوله: «وإياك نستعين» [الفاتحة: 5] (2) وسيأتي إيضاح موضوع " الأسباب والوسائط " مستقلاً

وهذا من كنوز التوحيد ودقائقه التي كان يقين السلف الصالح بها يفوق المزاعم النظرية المثالية عند المتصوفة (1) ويبطل التصورات الوهمية الساذجة التي ابتدعها المرجئة، ولهذا ملكوا نواصي الأمم واستذلوا مناكب الأرض جهاداً في سبيل الله. يقول ابن القيم رحمه الله: " قول الله تعالى: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ» متضمن لكنز من الكنوز، وهو أن كل شيء لا يطلب إلا ممن عنده خزائنه ومفاتيح تلك الخزائن بيده، وأن طلبه من غيره طلب ممن ليس عنده ولا يقدر عليه. وقوله: «وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى» متضمن لكنز عظيم وهو أن كل مراد إن لم يرد لأجله ويتصل به وإلا فهو مضمحل منقطع، فأنه ليس إليه المنتهى، وليس المنتهى إلا إلى الذي انتهت إليه الأمور كلها، فانتهت إلى خلقه ومشيئته وحكمته وعلمه، فهو غاية كل مطلوب، وكل محبوب لا يحب لأجله فمحبته عناء وعذاب، وكل عمل لا يراد لأجله فهو ضائع وباطل، وكل قلب لا يصل إليه فهو شقي محجوب عن سعادته وفلاحه، فاجتمع ما يراد منه كله في قوله «وأن إلى ربك المنتهى» فليس وراء الله سبحانه غاية تطلب وليس دونه غاية إليها المنتهى. وتحت هذا سر عظيم من أسرار التوحيد، وهو أن القلب لا يستقر ولا يطمئن ويسكن إلا بالوصول إليه، وكل ما سواه مما يحب ويراد فمراد لغيره، وليس المراد المحبوب لذاته إلا واحد إليه المنتهى، ويستحيل أن يكون المنتهى إلى اثنين، كما يستحيل أن يكون ابتداء المخلوقات من اثنين، فمن كان انتهاء محبته ورغبته وإراداته

_ (1) المتصوفة في نحو قول أحدهم لما سمع قوله تعلى «منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة» [آل عمران: 152] قال: فأين من يريد الله؟ فكما أن المرجئة توهموا وجود إنسان لا يعبد شيئاً، جاء هؤلاء فتوهموا وجود إنسان يعبد الله مريداً الدار الآخرة وهو لا يريد الله. وأصل خطأ الصوفية ومن سايرهم أنهم ظنوا أن الجنة هي مجرد النعيم الحسي، فمن تعلقت إرادته بها فقد نسي الله بزعمهم، أما أهل السنة والجماعة فيعتقدون أن أعظم نعيم في الجنة هو رؤية الله تعالى، كما صح في الحديث، وأعظم شقاء لأهل النار الحجاب بينهم وبينه تعالى. وحصيلة دعوى عبادته سبحانه لا طمعاً في جنته ولا خوفاً من ناره أنها إنكار للافتقار الذاتي إلى الله، وكفى بذلك بدعة وضلالاً ولهذا قال من قال من السلف: (من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق) انظر الرد على الصوفية في هذا: الاستقامة (2/104- 120) ومدارج السالكين (2/80- 81)

وطاعته إلى غيره بطل عليه ذلك وزال عنه وفارقه أحوج ما يكون إليه، ومن كان انتهاء محبته ورغبته ورهبته وطلبه هو سبحانه ظفر بنعيمه ولذته وبهجته وسعادته أبد الآباد" (1) . "ولا يزال العبد منقطعاً عن الله حتى تتصل إراداته ومحبته بوجهه الأعلى، والمراد بهذا الاتصال أن تفضي المحبة إليه وتتعلق به وحده، فلا يحجبها شيء دونه، وأن تتصل المعرفة بأسمائه وصفاته وأفعاله فلا يطمس نورها ظلمة التعطيل كما لا يطمس نور المحبة ظلمة الشرك، وأن يتصل ذكره به سبحانه، فيزول بين الذاكر والمذكور حجاب الغفلة، والتفاته في حال الذكر إلى غير مذكوره، فحينئذ يتصل الذكر به ويتصل العمل بأوامره ونواهيه، فيفعل الطاعة لأنه أمر بها وأحبها ويترك المناهي لكونه نهى عنها وأبغضها. فهذا معنى اتصال العمل بأمره ونهيه، وحقيقته زوال العلل الباعثة على الفعل والترك من الأغراض والحظوظ العاجلة. ويتصل التوكل والحب بحيث يصير واثقاً به سبحانه مطمئناً إليه راضياً بحسن تدبيره له غير متهم له في حال من الأحوال. ويتصل فقره وفاقته به سبحانه دون من سواه. ويتصل خوفه ورجاؤه وفرحه وسروره وابتهاجه به وحده، فلا يخاف غيره ولا يرجوه ولا يفرح به كل الفرح ولا يسر به غاية السرور، وإن ناله بالمخلوق بعض الفرح والسرور، فليس الفرح التام والسرور الكامل والابتهاج والنعيم وقرة العين وسكون القلب إلا به سبحانه، وما سواه إن أعان على هذا المطلوب فرح به وسر به، وإن حجب عنه فهو بالحزن والوحشة منه واضطراب القلب بحصوله أحق منه بأن يفرح به، فلا فرحة ولا سرور إلا به أو بما أوصل إليه وأعان على مرضاته. وقد أخبر سبحانه أنه لا يحب الفرحين بالدنيا وزينتها، وأمر بالفرح بفضله ورحمته وهو الإسلام والإيمان والقرآن كما فسره الصحابة والتابعون. والمقصود أن من اتصلت له هذه الأمور بالله سبحانه فقد وصل، وإلا فهو مقطوع عن ربه متصل بحظه ونفسه وملبّس عليه في معرفته وإراداته وسلوكه" (2)

_ (1) الفوائد، ص 181- 182 (2) المصدر السابق، ص 182- 183. وأنصح القارئ الكريم بقراءة سير السلف الصالح، ليرى كيف حققوا هذا الغنى عن الناس واستغنوا بالله عنهم وحفظوا أنفسهم من الذل لغيره والافتقار لسواه، ولولا الإطالة لنقلت أمثلة له هنا، ومن أنفع الكتب في ذلك وأيسرها تناولاً (صفة الصفوة) لابن الجوزي.

إن الكافر العصري (الأوربي خاصة) بظلمه وجهله ونسيانه يغفل عن أعظم غاية يفتقر إليها قلبه، وهي الإيمان بالله عز وجل، وينسى أن جوعة الإيمان لا يسد رمقها أي نوع من ملاذ الدنيا ومتاعها الزائل وغاياتها الدنيئة، وهو إذ يحس ذلك من نفسه ويرى أنها غير مستسلمة لله ولا منقادة لأمره، لا يرضى أن ينسب للعبودية بل ينكر أن يكون يعبد شيئاً بإطلاق. وهو بهذا يفتقد الصراحة التي كان كفار الماضي يتمسكون بها مع أنفسهم، فقد كانوا مقرين بالعبودية لمعبوداتهم حتى إنهم ليسمون أنفسهم (عبد اللات وعبد العزى وعبد يغوث) ونحوها مما هو كثير في أسمائهم. وهو ما تزال تعترف به عوام الأمم الوثنية المعاصرة في آسية وإفريقية وغيرها. فمع اشتراك الفريقين في الضلال والعذاب الشديد بالعبودية لغير الله يزيد الكافر العصري عناداً وجحوداً بمكابرته في إنكار ما هو عليه من الرق لغير الله. ولعل مرجع ذلك إلى أن الإنسان المعاصر قد صدق المزاعم الهدامة التي بثها دعاة الضلالة من الخارجين عن الكنيسة النصرانية الوثنية أمثال (جوليان هكسلي) و (سارتر) ونحوهما، تلك المزاعم التي تدعي أن الإنسان اختلق فكرة الألوهية لما كان محتاجاً إليها، أما الآن فقد أصبح هو نفسه الإله، تعالى الله عما يفترون علواً كبيراً. وبغض النظر عن الغرض الهدام وراء هذه الأفكار، فإن مؤدى التبرير العقلي لها هو أن الإنسان الحديث بما حصل عليه من المعرفة - التي لا تتجاوز نسبة ضئيلة من أسرار خلق الله - قد أصبح شيئاً آخر وخلقاً جديداً غير الإنسان القديم الذي كان من خصائصه الحاجة إلى الإيمان. وكأنما يريدون أن يقولوا إن الطبيعة البشرية أو الفطرة الإنسانية لم تعد على الحال الذي كانت عليه في الماضي، بل تحولت إلى شيء آخر وهذا من أعظم أنواع المكابرات، وهذه المزاعم أثر من آثار لوثة (التطور السائب) الذي آمن به الفكر الأوروبي أثناء ثورته الجامحة على طغيان الكنيسة وجمودها.

والتصور السلفي يرد على هذه الفكرة منذ القدم مبيناً أن الافتقار ذاتي في كل إنسان ما ظل يطلق عليه اسم (إنسان) وما ظل حياً حساساً حارثاً هماماً، وأن الاستكبار عن عبادة الله كالإقرار بالعبودية لغير الله سواء بسواء. وهذه حقيقة قائمة لا يضيرها من تملص منها أو كابر فيها، فما مثله إلا كمثل رجل كليل كسيح تظهر عليه كل آثار المرض والفقر والعجز، ومع ذلك يصر بلسانه على أنه أغنى الناس وأصحهم وأقدرهم، ومن أراد الوصول إلى الحقيقة فليضم ما كتبه أدباء أوربا ومفكروها عن شقاء الإنسان الحديث وضياعه وتمزقه وذعره، إلى قول شيخ الاسلام ابن تيمية: "القلب فقير بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة وهي العلة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل وهي العلة الفاعلة (1) . ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن، إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة. وهذا لا يحصل له إلا بإعانة الله له فإنه لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله، فهو دائماً مفتقر إلى حقيقة: «إياك نعبد وإياك نستعين» . فإنه لو أعين على حصول كل ما يحبه ويطلبه ويشتهيه ويريده، ولم يحصل له عبادة الله فلن يحصل إلا على الألم والحسرة والعذاب، ولن يخلص من آلام الدنيا ونكد عيشها إلا بإخلاص الحب لله بحيث يكون الله هو غاية مراده ونهاية مقصوده وهو المحبوب له بالقصد الأول، وكل ما سواه إنما يحبه لأجله لا يحب شيئاً لذاته إلا الله. ومتى لم يحصل له هذا لم يكن قد حقق حقيقة (لا إله إلا الله) ولا حقق التوحيد والعبودية والمحبة لله، وكان فيه من نقص التوحيد والإيمان، بل من الألم والحسرة والعذاب بحسب ذلك.

_ (1) أي أن الافتقار الذي هو سر العبودية وخصيصة البشرية نوعان: 1 - افتقار إلى مراد محبوب مألوه معبود، تصرف له جوعة التأله والتقرب والمحبة المركبة في كل نفس إنسانية 2 - افتقار إلى مستعان مدعو مرجو يلتجئ إليه العبد لجلب النفع ودفع الضرر، تسكن إليه لوعة العجز والضعف والجهل الماثلة في كل نفس

ولو سعى في هذا المطلوب ولم يكن مستعيناً بالله متوكلاً عليه مفتقراً إليه في حصوله لم يحصل له، فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فهو مفتقر إلى الله من حيث هو المطلوب والمحبوب والمراد المعبود، ومن حيث هو المسؤول المستعان به المتوكل عليه. فهو إلهه الذي لا إله له غيره وهو ربه الذي لا رب له سواه. ولا تتم عبوديته لله إلا بهذين، فمتى كان يحب غير الله لذاته أو يلتفت إلى غير الله أنه يعينه، كان عبداً لما أحبه وعبداً لما رجاه بحسب حبه له ورجائه إياه. وإذا لم يحب أحداً لذاته إلا الله، وأي شيء أحبه فإنما أحبه له، ولم يرج قط شيئاً إلا الله، وإذا فعل ما فعل من الأسباب وحصل ما حصل منها كان مشاهداً أن الله هو الذي خلقها وقدرها وسخرها له، وأن كل ما في السماوات والأرض فالله ربه ومليكه وخالقه ومسخره وهو مفتقر إليه، كان قد حصل له من تمام عبوديته بحسب ما قسم له من ذلك. فأكمل الخلق وأفضلهم وأعلاهم وأقربهم إلى الله وأقواهم وأهداهم أتمهم عبودية لله من هذا الوجه. وهذا هو حقيقة دين الإسلام الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه وهو أن يستسلم لله لا لغيره، فالمستسلم له ولغيره مشرك والممتنع عن الاسستلام مستكبر.. " وكل من استكبر عن عبادة الله لا بد أن يعبد غيره فإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة ... " (1) ثم قال بعد هذا الكلام المنقول سابقاً: "بل الاستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكباراً عن عبادة الله كان أعظم إشراكا بالله، لأنه كلما استكبر عن عبادة الله ازداد فقراً وحاجة إلى المراد المحبوب الذي هو المقصود: مقصود القلب بالقصد الأول فيكون مشركاً بما استعبده من ذلك. ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه ولا يستعين إلا به ولا يتوكل إلا عليه، ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه ولا يكره إلا ما يبغضه الرب ويكرهه، ولا يوالي إلا من والاه الله، ولا يعادي إلا من عاداه الله، ولا يحب إلا لله ولا يبغض شيئاً إلا لله، ولا يعطي إلا لله ولا يمنع إلا لله،

_ (1) العبودية، ص 108- 112

فكلما قوي إخلاص دينه لله كملت عبوديته واستغناؤه عن المخلوقات، وبكمال عبوديته لله تكمل تبرئته من الكبر والشرك". (1) وبعد أن تحدث عن الإسلام الاختياري تحدث عن الإسلام الإجباري، حيث تكون حقيقة الافتقار التي لا مراء فيها لأحد: قال تعالى: «أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً» فذكر إسلام الكائنات طوعاً وكرهاً، لأن المخلوقات جميعها متعبدة له التعبد العام، سواء أقر بذلك أو أنكره وهم مدينون له مدبرون فهم مسلمون له طوعاً وكرهاً، ليس لأحد من المخلوقات خروج عما شاءه وقدره وقضاه ولا حول ولا قوة إلا به، وهو رب العالمين ومليكهم يصرفهم كيف يشاء وهو خالقهم كلهم وبارئهم ومصورهم، وكل ما سواه فهو مربوب مصنوع مفطور فقير محتاج مقهور، وهو سبحانه الواحد القهار الخالق البارئ المصور. وهو وإن كان قد خلق ما خلقه بأسباب فهو خالق السبب والمقدر له وهو مفتقر إليه كافتقار هذا، وليس في المخلوقات سبب مستقل بفعل خير ولا دفع ضر، بل كل ما هو سبب فهو محتاج إلى سبب آخر يعاونه وإلى ما يدفع عنه الضد الذي يعارضه ويمانعه. وهو سبحانه وحده الغني عن كل ما سواه، ليس له شريك يعاونه ولا ضد يناوئه ويعارضه" (2) إن كثيراً من المسلمين - ولله الحمد - يدركون حقيقة إسلام الكون القهري لله تعالى، فلا يتطرق إليهم الشك في أن الكفار في أوروبا وأمريكا مربوبون لله تعالى من حيث هو خالقهم ورازقهم ومدبر أمورهم. ولكنهم - مع ذلك - لا يدركون الجانب الآخر من الحقيقة، وهو أن هؤلاء الكفار عبيد أرقاء مغرقون في العبودية والرق لغير الله.

_ (1) المصدر السابق، ص 113- 114 (2) المصدر السابق، ص 117- 118

ولا غرابة في خفاء ذلك على أكثر المسلمين، لأنهم واقعون في شرك الإرادة وهم لا يشعرون. حتى البلاد التي عافاها الله فتخلصت من شرك التقرب والتنسك لغير الله غزاها الشيطان بشرك الإرادة الخفي، وفتنها ما فتح الله عليها من كنوز الأرض، فانكب أهلها على الدنيا انكباب الغافلين وعبدوا الدراهم والدينار - بل التراب والعقار - وتحولت العقيدة الصحيحة إلى نظرية ذهنية موروثة، وحتى شكلها النظري لم يبق منه لدى العامة إلا معان شاحبة (1) إلا من سلم الله وحفظ. ورحم الله الشيخ محمد بن عبد الوهاب فقد عقد باباً خاصاً في كتابه المبارك "كتاب التوحيد" بعنوان: "باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا". أورد فيه قوله تعالى: «مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ» [هود: 15] والحديث الصحيح: "تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط ... " الحديث. ومراده أوسع وأعمق مما ذكره حفيده العلامة سليمان بن عبد الله في قوله: إن المراد بهذا الباب "أن يعمل الإنسان عملاً صالحاً يريد به الدنيا، كالذي يجاهد للقطيفة والخميلة ونحو ذلك" (4) . فهذا وإن كان داخلاً في المراد، لكن تقييده به تضييق لمغزى واسع أحسب أن الشيخ المؤلف أراد إيضاحه، وهو أن أكثر الناس المسلمين وغيرهم جعلوا همهم وحرثهم وكدحهم وتعبهم للدنيا وحدها، فلا تتحرك قلوبهم ولا تنفعل إلا لها وبها،

_ (1) ومن أجلى مظاهر ذلك أن سحر الدنيا أذاب عقيدة الولاء للمؤمنين والبراء من المشركين، فترى الشيخ الكبير الذي أفنى زهرة شبابه في جهاد المشركين وقد أصبح المشرك جليسه وأكيله وشريكه في تجارته وأمين سره ووكيل أعماله.. والمشركة مربية لأولاده وعشيرة لنسائه بل ربما أصبح بيته يجمع أدياناً كثيرة وطرائق قدداً والله المستعان.

حتى إنهم لو دعوا الله وعبدوه فإنما يريدون بذلك زيادة الخير والبركة في الصحة والرزق، وهذا باب أوسع من باب فساد النية مع عمل صالح يفعله العبد المؤمن، فهذا الباب - الأخير - يصيب الصالحين ويعرض للمخلصين. كما أن ظاهر الحديث لا يؤيد كلامه رحمه الله، فالمقصود من الحديث هو عبودية القلب وإرادته غير الله، وليس مجرد فساد النية مع عمل صالح، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم ربط بين العبودية للدنيا وعمل القلب بقوله: "إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط" وهو مطابق لمنطوق ما ذكر الله عن المنافقين في قوله: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ» [التوبة: 58] وهي ضمن سياق كله في النفاق الأكبر. فعبودية القلب للدنيا التي لحظها شيخ الإسلام المؤلف، هي ذلك الداء العضال الذي ابتليت به الأمة الإسلامية، فنزع الله مهابتها من قلوب أعدائها وقذف في قلوبها (الوهن) حب الدنيا وكراهية الموت، فأصبح حرثها وهمها للدنيا وحدها. وهذه بلوى أوسع وأخطر من الجهاد من أجل القطيفة والخميلة الذي قد لا يزيد عن كونه ذنباً عارضاً يتاب منه، وليس المرض العارض كالعاهة المزمنة، والرجل قد يعمل أو يجاهد لأجل القطيفة والخميلة حتى إذا ملكها كانت في يده ولم تكن في قلبه، بخلاف الذي استعبد حبها قلبه وملك عليه لبه، فهذا الحقيق بأن يسميه النبي صلى الله عليه وسلم عبداً لها، وينطبق عليه قوله تعالى: «فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (*) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى» [النجم: 29- 30] وإرادة القلب للدنيا إفساد لعمل القلب من اليقين والتوكل والرضا ونحوها، بخلاف صرف شيء من العمل للدنيا ففيه إفساد لعمل الجارحة من جهاد وصدقة يريد بها نماء ماله ونحوها، ومع تلازمهما (1) فالأول أعظم من الأخير.

_ (1) لأن العمل لا ينفصل عن الإيمان

ومما يوضح ذلك أن الرياء إنما كان شركاً أصغر لطروء الفساد على عمل القلب، بخلاف سائر المعاصي التي يكون الفساد فيها مقتصراً على عمل الجوارح فلم يطلق عليها الشارع لفظ الشرك مثله. وإرادة غير الله بالهم والحرث بحيث تنصرف أعمال القلوب لمراد غيره يستهلكها أو أكثرها أمكن في باب الشرك من مجرد الرياء بطاعة من الطاعات أو طلب الدنيا بها، لكن ها هنا مجال التفاوت، فمن صرف إرادته لغير الله بالكلية كان عبداً خالصاً لغير الله، ومن جرد إرادته لله وحده بلغ الذروة من الإيمان وبين ذلك درجات كثيرة وحالات مختلفة. والحالة التي نريد علاجها هنا هي عبودية القلب لغير الله دون أن يشعر، لأن غفلة الناس عنها وراء وقوعهم في الوهم الأكبر: (وهم أنهم محققون للإيمان مع كونهم غير عابدين لله) والحال أنهم بضد ذلك حتى لو سلموا من الشرك الجليّ - وما أقل السالمين منه -. يقول شيخ الإسلام: "كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله، وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية ازداد كماله وعلت درجته، ومن توهم أن المخلوق يخرج من العبودية بوجه من الوجوه أو أن الخروج عنها أكمل، فهو من أجهل الخلق بل من أضلهم". ثم ذكر النصوص في ذلك، وقال: "إذا تبين ذلك فمعلوم أن الناس يتفاضلون في هذا الباب تفاضلاً عظيماً وهو تفاضلهم في حقيقة الإيمان، وهم ينقسمون فيه إلى عام وخاص، ولهذا كانت إلاهية الرب لهم فيها عموم وخصوص. ولهذا كان الشرك في هذا الأمة أخفى من دبيب النمل. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، إن أعطي رضي وإن منع سخط" (1) فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الدرهم وعبد الدينار وعبد القطيفة وعبد الخميصة وذكر ما فيه دعاء وخبراً، وهو قوله "تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش". والنقش إخراج الشوكة من الرجل، والمنقاش: ما يخرج به الشوكة، وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه ولا خلص من المكروه، وهذه حال من عبد المال.

_ (1) الفتح (6/81) مع اختلاف الألفاظ

وقد وصف ذلك بأنه إذا أعطي رضي وإذا منع سخط كما قال تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ» [التوبة: 58] فرضاهم لغير الله وسخطهم لغير الله. وهكذا حال من كان متعلقاً برئاسة أو بصورة ونحو ذلك من أهواء نفسه، إن حصل له رضي وإن لم يحصل له سخط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك وهو رقيق له، إذ الرق والعبودية في الحقيقة: هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلب واستعبده فهو عبده.. وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه، فإن الأمر الذي ييأس منه لا يطلبه ولا يطمع فيه ولا يبقى فقيراً إليه ولا إلى من يفعله، وأما إذا طمع في أمر من الأمور ورجاه فإن قلبه يتعلق به فيصير فقيراً إلى حصوله، وإلى من يظن أن سبب في حصوله، وهذا في الحال والجاه والصور وغير ذلك. قال الخليل: «فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» [العنكبوت: 17] فالعبد لا بد له من رزق وهو يحتاج إلى ذلك، فإذا طلب رزقه من الله صار عبداً لله فقيراً إليه وإذا طلبه من مخلوق صار عبداً لذلك المخلوق فقيراً إليه. ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الأصل وإنما أبيحت للضرورة، وفي النهي عنها أحاديث كثيرة في الصحاح والسنن والمسانيد". وبعد أن نقل طائفة من الأحاديث في ذلك قال: " والإنسان لا بد له من حصول ما يحتاج إليه من الرزق ونحوه ودفع ما يضره، وكلا الأمرين شرع له أن يكون دعاؤه لله، فلا يسأل رزقه إلا من الله ولا يشتكي إلا إليه - كما قال يعقوب عليه السلام «إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ» ... " "وكلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته لقضاء حاجته ودفع ضرورته قويت عبوديته له وحريته مما سواه، فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له، فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه كما قيل: "استغن عمن شئت تكن نظيره، وافضل على من شئت تكن أميره، واحتج لمن شئت تكن أسيره".

فكذلك طمع العبد في ربه ورجاؤه له يوجب عبوديته له، وإعراض قلبه عن الطلب من الله والرجاء له يوجب انصراف قلبه عن العبودية لله، لا سيما من كان يرجو المخلوق ولا يرجو الخالق بحيث يكون قلبه معتمداً إما على رئاسته وجنوده وأتباعه ومماليكه، وإما على أهله وأصدقائه، وإما على أمواله وذخائره، وإما على ساداته وكبرائه، كمالكه وملكه وشيخه ومخدومه وغيرهم ممن هو قد مات أو يموت، قال تعالى: «وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيراً» [الفرقان: 58] وكل من علق قلبه بالمخلوقين أن ينصروه أو يرزقوه أو أن يهدوه خضع لهم وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميراً لهم مديراً لأمورهم متصرفاً بهم. فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة - ولو كانت مباحة له - يبقى أسيراً لها تحكم فيه وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها لأنه زوجها أو مالكها، ولكنه في الحقيقة هو أسيرها ومملوكها، لا سيما إذا علمت بفقره إليها وعشقه لها وأنه لا يعتاض عنها بغيرها، فإنها حينئذ تتحكم فيه تحكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور الذي لا يستطيع الخلاص منه، بل أعظم، فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استعبد بدنه واسترق وأسر لا يبالي إذ كان قلبه مستريحاً من ذلك مطمئناً بل يمكنه الاحتيال في الخلاص. وأما إذا كان القلب الذي هو ملك الجسم رقيقاً مستعبداً متيّماً لغير الله، فهذا هو الذل والأسر المحض والعبودية الذليلة لما استعبد القلب. وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب، فإن المسلم لو أسره كافر أو استرقه فاجر بغير حق لم يضره ذلك إذا كان قائماً بما يقدر عليه من الواجبات. ومن استعبد بحق إذا أدى حق الله وحق مواليه فله أجران، ولو أكره على التكلم بالكفر فتكلم به وقلبه مطمئن بالإيمان لم يضره ذلك.

وأما من استعبد قلبه فصار عبداً لغير الله فهذا يضره ذلك ولو كان في الظاهر ملك الناس. فالحرية حرية القلب والعبودية عبودية القلب كما أن الغنى غنى النفس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس" وهذا لعمر الله إذا كان قد استعبد قلبه بصورة مباحة، فأما من استعبد قلبه صورة محرمة - امرأة أو صبي - فهذا هو العذاب الذي لا يدانيه عذاب (1) . وهؤلاء عشاق الصور من أعظم الناس عذاباً وأقلهم ثواباً، فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلقاً بها مستعبداً لها اجتمع له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد. وكذلك طالب الرئاسة والعلو في الأرض قلبه رقيق لمن يعينه عليها، ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم فهو في الحقيقة يرجوهم ويخافهم، فيبذل لهم الأموال والولايات ويعفو عما يجترحونه ليطيعوه ويعينوه، فهو في الظاهر رئيس مطاع وفي الحقيقة عبد مطيع لهم (2) . والتحقيق أن كلاهما (3) فيه عبودية للآخر وكلاهما تارك لحقيقة عبادة الله، وإذا كان تعاونهما على العلو في الأرض بغير الحق كانا بمنزلة المتعاونين على الفاحشة أو قطع الطريق، فكل واحد من الشخصين لهواه الذي استعبده واسترقه مستعبد للآخر. وهكذا أيضاً طالب المال، فإن ذلك المال يستعبده ويسترقه. ثم يقول رحمه الله: وهذه الأمور نوعان: 1 - منها ما يحتاج العبد إليه من طعامه وشرابه ومسكنه ومنكحه ونحو ذلك، فهذا يطلبه من الله ويرغب إليه فيه، فيكون المال عنده - يستعمله في حاجته - بمنزلة

_ (1) ولهذا يسطر عباد الصور اعترافهم بأن "الحب عذاب" فوق الجدران وعلى السياراتوجسور الطرق وحتى مقاعد الدراسة!! (2) ومن أعظم الأدلة من الواقع على ذلك ما نراه ونسمعه من المتنافسين على انتخابات الرئاسة في الدول المساة "ديمقراطية" مع الشعب والنقابات والهيئات والطوائف ... طمعا في الحصول على أصوات هؤلاء. فما ظنك بالزعامات " الديكتاتورية " المعرضة للسقوط بين عشية وضحاها؟! (3) كذا، وفي الأصل كلاً منهما.

حماره الذي يركبه ويساطه الذي يجلس عليه، بل بمنزلة الكنيف الذي يقضي فيها حاجته من غير أن يستعبده (1) ، فيكون هلوعاً، إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً. 2 - ومنها ما لا يحتاج العبد إليه، فهذا لا ينبغي له أن يعلق قلبه به إذا علق قلبه به صار مستعبداً له، وربما صار معتمداً على غير الله فلا يبقى معه حقيقة العبادة لله ولا حقيقة التوكل عليه، بل فيه شعبة من العبادة لغير الله وشعبة من التوكل على غير الله وهذا من أحق الناس بقوله صلى الله عليه وسلم "تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة". وهذا هو عبد هذه الأمور فإنه لو طلبها من الله، فإن الله إذا أعطاه إياها رضي وإذا منعه إياها سخط، وإنما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله ويسخطه ما يسخط الله، ويحب ما أحبه الله ورسوله ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، ويوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله تعالى، وهذا هو الذي استكمل الإيمان كما في الحديث: "من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان" وقال: "أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله". (2) وشرح الإمام ابن القيم رحمه الله في مواضع متفرقة كيف أن أعظم أصول المعاصي كلها هو تعلق القلب بغير الله، وأن سبب انحراف الناس عن الإيمان انحرافهم عن صحة المعرفة وصحة الإرادة. ويقول: "إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمل الله سبحانه حوائجه كلها، وحمل عنه كل ما أهمه، وفرغ قلبه لمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته، وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمّله الله همومها وغمومها وأنكادها، ووكله إلى نفسه فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم. فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع غيره. فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بلي بعبودية المخلوق

_ (1) من بلايا زماننا هذا أن الكنيف أصبح من وسائل استعباد القلوب، كيف لا وعباد الدنيا يصنعونه من الذهب الخالص (2) العبودية، ص 80- 103 مقتطفات

ومحبته وخدمته. قال تعالى: «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» (1) ويقول: "الإنابة هي عكوف القلب على الله عز وجل كاعتكاف البدن في المسجد لا يفارقه، وحقيقة ذلك عكوف القلب على محبته وذكره بالإجلال والتعظيم وعكوف الجوارح على طاعته بالإخلاص له والمتابعة لرسوله. ومن لم يعكف قلبه على الله وحده عكف على التماثيل المتنوعة، كما قال إمام الحنفاء «ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون» فاقتسم هو وقومه حقيقة العكوف، فكان حظ قومه العكوف على التماثيل وكان حظه العكوف على الرب الجليل. والتماثيل جمع تمثال وهو الصورة الممثلة، فتعلق القلب بغير الله واشتغاله به والركون إليه عكوف منه على التماثيل التي قامت بقلبه، وهو نظير العكوف على تماثيل الأصنام. ولهذا كان شرك عبّاد الأصنام بالعكوف بقلوبهم وهممهم وإرادتهم على تماثيلهم، فإذا كان في القلب تماثيل قد ملكته واستعبدته بحيث يكون عاكفاً عليها فهو نظير عكوف (عباد) (2) الأصنام عليها، ولهذا سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبداً لها ودعا عليه التعس والنكس فقال: "تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش" (6) . ويقول: "ومن هنا يتبين انحراف أكثر الناس عن الإيمان لانحرافهم عن صحة المعرفة وصحة الإرادة. ولا يتم الإيمان إلا بتلقي المعرفة من مشكاة النبوة وتجريد الإرادة عن شوائب الهوى وإرادة الخلق. فيكون علمه مقتبساً من مشكاة الوحي وإرادته لله والدار الآخرة". (3)

_ (1) ثم قال بعد الآية: " قال سفيان بن عيينة: لا تأتون بمثل مشهور من للعرب إلا جئتكم به من القرآن، فقال له قائل: فأين في القرآن: أعط أخاك تمرة، فإن لم يقبل فأعطه جمرة؟ فقال: في قوله تعالى: ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين. الفوائد 73- 74 (2) زيادة يقتضيها السياق (6) المصدر السابق، ص 76 (3) .المصدر السابق، ص 76

إن صحة الإرادة - حسب المنهج السلفي - هي النقطة التي لا يمكن تجاوزها في السير على طريق الإيمان، بل هي مما يجب استصحابه حتى موافاة اليقين، وبهذا يتم جمع شتات أعمال القلوب والجوارح لتتجه كلها نحو الغاية التي ليس وراءها غاية. وإن من أعظم الأدلة على صحة المنهج السلفي وحده أنك تراه كالنسيج المحكم والحلقة المتماسكة، فكل عنصر من عناصره وقضية من قضاياه تؤدي إلى هذه الحقائق البدهية الواضحة وترتبط بها بأقوى الروابط. فإن تحدثوا عن جانب العقيدة والمعرفة فمحور حديثهم هو ما سبق، وإن تحدثوا عن التزكية والمراقبة آل بهم الحديث إلى هذا الموضوع نفسه.. ولنتخذ على هذا مثالين: المثال الأول: " في التزكية والمراقبة " من جهة اندراج كل عمل الجوارح والحياة بامتدادها الطولي والعرضي في نطاق العبودية الشامل: وذلك أن مما يؤمن به من سار على منهج السلف الصالح أنه "لله على العبد في كل عضو من أعضائه أمر، وله عليه نهي، وله فيه نعمة، وله به منفعة ولذة، فإن قام لله في ذلك العضو بأمره واجتنب فيه نهيه فقد أدّى شكر نعمته عليه فيه وسعى في تكميل انتفاعه ولذته به، وإن عطّل أمر الله ونهيه فيه عطله الله من الانتفاع بذلك العضو، وجعله من أكبر أسباب ألمه ومضرته". هذه واحدة. والأخرى أن لله "عليه في كل وقت من أوقاته عبودية تقدمه إليه وتقربه منه، فإن شغل وقته بعبودية الوقت تقدم إلى ربه، وإن شغله بهوى أو راحة أو بطالة تأخر. فالعبد لا يزال في تقدم أو تأخر ولا وقوف في الطريق البتة، قالى تعالى: «لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر» (2) فإذا عرف العبد أن الحياة ما هي إلا أنفاس تتلاحق ودقائق تتسابق، وأنه لو أحصى حظه منها لوجده ينقص كثيراً عن عمر بعض الطيور والزواحف والأشجار، فضلاً عن أعمار الكواكب والنجوم، فضلاً عن عمر الكون كله فضلاً عن مدى عالمي الغيب والشهادة مجتمعين.

وعلم مع هذا أنه مخلوق لحكمة واضحة وغاية محددة هي عبادة ربه سبحانه وحده لا شريك له، فلا بد أن يحرص أشد الحرص على حفظ الوقت وإشغاله بالعبودية وإعمال البدن في الطاعة، وإلا اعتراه النقص في إيمانه بقدر ما يعتريه من نقص في ذلك. وهذا ليس نقصاً فحسب بل هو تأخر وانقطاع، لأنه "إن لم يكن في تقدم فهو في تأخر ولا بد، فالعبد سائر لا واقف، فإما إلى فوق وإما إلى أسفل وإما إلى أمام وإما إلى وراء، وليس في الطبيعة ولا في الشريعة وقوف البتة، ما هو إلا مراحل تطوى أسرع طي إلى الجنة أو إلى النار، فمسرع ومبطئ ومتقدم ومتأخر وليس في الطريق واقف البتة، وإنما يتخالفون في جهة المسير وفي السرعة والبطء «إنها لإحدى الكبر، نذيراً للبشر، لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر» ، ولم يذكر واقفاً، إذا لا منزل بين الجنة والنار ولا طريق لسالك إلى غير الدارين البتة، فمن لم يتقدم إلى هذه بالأعمال الصالحة فهو متأخر إلى تلك بالأعمال السيئة". (1) وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه الإمام أحمد بسند صحيح: "ما جلس قوم مجلساً فلم يذكروا الله فيه إلا كان عليهم ترة (2) ، وما من رجل مشى طريقاً فلم يذكر الله عز وجل إلا كان عليه ترة، وما من رجل آوى إلى فراشه فلم يذكر الله إلا كان عليه ترة". وهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحققون المثل الأعلى في حفظ الوقت بل في إحيائه (3) وتزكيته - تصحيحاً للإرادة وتوحيداً للهمة - فكان كله طاعة وكله رفعاً للدرجة، دع عنك ما أمضوه من أعمارهم في الدعوة والجهاد والذكر والصيام والتلاوة، ولكن انظر إلى الجانب الآخر الذي أهمل المتأخرون شأنه تبعاً لانحسار مفهوم العبادة عن بعض أعمال القلوب والجوارح - أعني الجانب الذي يدخل في حظ النفس الجبلي - فهذا معاذ رضي الله عنه يقول: "أما أنا فأنام وأقوم، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي". (4)

_ (1) الفوائد، ص 173 - 174. (3) مدارج السالكين (1/267) (2) الترة: النقيصة، والحديث في المسند (2/232) (3) من التوافق العجيب استعمال كثير من الكتاب والصحفيين والمربين لكلمة " قتل الوقت " في كتاباتهم المتكررة عن كيفية قضاء العطل وأوقات الفراغ، فشتان بين من يغتنم اللحظة الواحدة لإحيائها بعبادة الله وبين من يحار كيف يقتل سنة أو صيفاً كاملاً. (4) البخاري، المغازي (8/62)

وهذا أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: "يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف يغبنون به قيام الحمقى وصومهم" (1) قال ابن القيم رحمه الله تعليقاً على هذا: "وهذا من جواهر الكلام وأدله على كمال فقه الصحابة وتقدمهم على من بعدهم في كل خير رضي الله عنهم". فاعلم أن العبد إنما يقطع منازل السير إلى الله بقلبه وهمته لا ببدنه، والتقوى في الحقيقة تقوى القلوب لا تقوى الجوارح (2) ، قال تعالى: «ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب» وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "التقوى هاهنا" وأشار إلى صدره. فالكيّس يقطع من المسافة بصحة العزيمة وعلو الهمة وتجريد القصد وصحة النية مع العمل القليل، أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك مع التعب الكثير والسفر الشاق، فإن العزيمة والمحبة تذهب المشقة وتطيب السير، والتقدم والسبق إلى الله سبحانه إنما هو بالهمم وصدق الرغبة والعزيمة، فيتقدم صاحب الهمة مع سكونه صاحب العمل الكثير بمراحل، فإن ساواه في همته تقدم عليه بعمله. . ." أهـ. وهذا مما يفسر لنا كيف أن الصحابة رضي الله عنهم أعظم الناس إيماناً ويقيناً مع أن فيمن جاء بعدهم من هو أكثر عبادة وسهراً ومرابطة من كثير منهم، بل ربما كان في الصحابة من هو أكثر قياماً وصياماً من الصديق الذي "لو وزن إيمانه بإيمان أهل الأرض لرجح بهم" (3) . وحسب الصحابة من علو الهمة أن الأنصار لما بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة فاشترط واشترطوا، قالوا: فما لنا يا رسول الله قال: "الجنة" قالوا: ذلك لك". (4) فانظر إلى هذه الهمة العالية والقوم في أول الطريق، وقارنها بهمة الأحلاس الجفاة من زعماء القبائل الأخرى الذين اشترطوا أن يكون لهم الأمر من بعده.

_ (1) حلية الأولياء (1/211) (2) لأن تقوى القلب لابد أن تنتج تقوى الجوارح، والتلازم بينهما لا شك فيه، لكن أعمال القلوب هي الأصل كما سيأتي تفصيله. (3) كما أخبر بذلك عمر رضي الله عنه، أنظر: فضائل الصحابة للإمام أحمد، تحقيق وصي الله بن محمد عباس، ص 418- 419 (4) انظر الروايات في ذلك في الفتح (7/220- 223) والسيرة النبوية لابن كثير (2/155- 208) .

المثال الثاني: "في المعرفة والإرادة" من جهة صفاء التوحيد وشفافيته المستوجب تنبه العبد وحذره الدائم، وما أكثر من هلك في أودية الغفلة والاغترار: فإن التوحيد ألطف شيء وأنزهه وأنظفه وأصفاه، فأدنى شيء يخدشه ويدنسه ويؤثر فيه، فهو كأبيض ثوب يكون فيه أدنى أثر، وكالمرآة الصافية جداً أدنى شيء يؤثر فيها، ولهذا تشوشه اللحظة واللفظة والشهوة الخفية، فإن بادر صاحبه وقلع ذلك الأثر بضده وإلا استحكم وصار طبعاً يتعسر عليه قلعه. وهذه الآثار والطبوع التي تحصل فيه، منها ما يكون سريع الحصول سريع الزوال، ومنها ما يكون سريع الحصول بطيء الزوال. ولكن من الناس من يكون توحيده كبيراً عظيماً ينغمر فيه كثير من تلك الآثار ويستحيل فيه، بمنزلة الماء الكثير الذي يخالطه أدنى نجاسة أو وسخ. فيغتر به صاحب التوحيد الذي هو دونه فيخلط توحيده الضعيف بما خلط به صاحب التوحيد العظيم الكثير توحيده فيظهر تأثيره فيه ما لم يظهر في التوحيد الكثير. وأيضاً فإن المحل الصافي جداً يظهر فيه لصاحبه ما يدنسه في المحل الذي لم يبلغ في الصفاء مبلغه، فيتداركه بالإزالة دون هذا فإنه لا يشعر به. وأيضاً فإن قوة الإيمان والتوحيد إذا كانت قوية جداً أحالت المواد الرديئة وقهرتها بخلاف القوة الضعيفة. وأيضاً فإن صاحب المحاسن الكثيرة والغامرة للسيئات ليسامح بما لا يسامح به من أتى مثل تلك السيئات وليس له تلك الحسنات، كما قيل: وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع وأيضاً فإن صدق الطلب وقوة الإرادة وكمال الإنقياد يحيل تلك العوارض والغواشي الغريبة إلى مقتضاه وموجبه، كما أن الكذب وفساد القصد وضعف الإنقياد يحيل الأقوال والأفعال الممدوحة إلى مقتضاه وموجبه " (1)

_ (1) الفوائد، ص 194- 195

ومن الشواهد الدالة على حقيقة ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم - مع كمال تحقيقهم للتوحيد - كانوا يخشون أن يفسده عليهم أدنى عارض ويحترزون من ذلك غاية الاحتراز، سواء أكانت الشائبة من جهة المعرفة والانقياد أو من جهة الإرادة والقصد. ورحم الله من قال: "إن القوم قلت ذنوبهم فعرفوا من أين أتوا" (1) ومن ذلك ما حدث للفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم الحديبية، حيث خفي عليه وجه الحكمة والمصلحة في شروط الصلح، فأظهر امتعاضه من قبولها ورادّ النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك - على ما هو مفصل في السيرة -، فعدّ صنيعه هذا شائبة تشوب صفاء معرفة حق النبوة والانقياد لحكم الله، فما لبث رضي الله عنه أن استدرك واستعظم ما صنع حتى إنه كان يقول: "ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به" (2) فهذا حاله وهو أكمل الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم وصديقها، وهو إنما قال ما قال حمية لدينه وغضباً لله ورسوله واجتهاداً في الاستدلال بالرؤيا النبوية. وكذلك ما حصل للثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك لما اعتراهم بعض خلل في الهمة والإرادة، ولم يستدركوه كما استدركه أبو خيثمة - حين فارق الظل والزوجة وطوى القفار حتى أدرك القوم - فما أن استيقنوا فوات ركب الجهاد حتى استوحشوا واستعظموا ما صنعوا ثم كان من أمرهم وعقوبتهم ما هو معروف، فهذا حالهم مع أن اثنين منهم شهدا بدراً - مرارة وهلال - والثالث كعب شهد العقبة، ولم يقع بتبوك قتال. وبمناسبة الحديث عن الصحابة رضي الله عنهم في موضع الاقتداء والتأسي نقول: لعله ليس من الاستطراد (3) التنبيه إلى أن من أركان الانهيار الذي تردت فيه الأمة الإسلامية فساد الإرادة والمقصد المستوجب فساد المعرفة والسلوك. دع من فسدت معرفته وسلوكه بالابتداع والتلقي عن غير منبع الوحي كسائر فرق الضلال. ولكن انظر إلى الأجيال المتأخرة التي ورثت عن الصحابة وصح تلقيها

_ (1) قالها الإمام الرباني أبو سليمان الداراني تعليقاً على ما جرى لابن سيرين رحمهما الله، انظر ترجمة ابن سيرين في صفة الصفوة (3/246) (2) رواه ابن اسحاق (03/366) وسنده في قصة الحديبية هو سند البخاري، ولكن اختلفا في بعض السياق والذي في البخاري (5/322) : قال الزهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالاً. (3) لا سيما وقد التزمنا أن يكون من أهداف هذا البحث أخذ العبرة والعظة في واقع الدعوة الإسلامية المعاصرة.

منهم، غير أن هذا الداء قد اعتراها ففسدت المعرفة نفسها تبعاً لفساد الإرادة والمقصد، فخرجت من التمسك بالسنة إلى البدعة، ومن إرشاد السائرين إلى قطع الطريق عليهم. وفي عصرنا نماذج حية من هؤلاء، ترى الواحد منهم في الأصل وارثاً لعلم السلف معتقداً لعقيدتهم نظرياً، لكن انصراف همته وإرادته للدنيا أخرجه - في واقع حياته - إلى ضلال في التصورات وانحراف في السلوك، شعر أو لم يشعر، فبينا هو يعجب من حال أهل العقائد البدعية إذا الشيطان ينسج حوله شباك بدع من جنس آخر، فأصبح فتنة لأهل البدع ومنديلاً لذوي السلطان ومرقاة لأصحاب الأهواء والشهوات. وهذه عقبة كبرى وباب خطر قل من يجتازه وينجو من بلاءه، وإنما يبدأ به الشيطان من باب التوسع في المباحات والترفع عن المساكين وإن كانوا من المتقين. ثم يفضي به إلى الإنغماس في الشهوات ومجاراة الكبراء في دنياهم، ثم يجوز به من باب التبرير لما هو فيه إلى الإفتاء بصحته ومشروعيته ومعاداة مخالفه، وعندئذ يتكدر عليه صفاء معرفته وينقلب عليه سلاح علمه فلا يزال يقول على الله بغير علم، ويكتم ظاهر الحجج، ويتعلل بفنون التأويلات، حتى ينسلخ من نور العلم ويصبح مثله - كمثل الذي ضرب الله في سورة الأعراف - كالكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث. وعن هذا يقول الإمام الحافظ ابن القيم: "كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها، فلابد أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه في خبره وإلزامه، لأن أحكام الرب سبحانه كثيراً ما تأتي على خلاف أغراض الناس - ولا سيما أهل الرياسة والذين يتبعون الشبهات، فإنهم لا تتم لهم أغراضهم إلا بمخالفة الحق ودفعه كثيراً. فإذا كان العالم والحاكم محبيّن للرياسة متبعين للشهوات لم يتم لهما ذلك إلا بدفع ما يضاده من الحق، ولا سيما إذا قامت له شبهة، فتتفق الشبهة والشهوة ويثور الهوى فيخفى الصواب وينطمس وجه الحق، وإن كان الحق ظاهراً لا خفاء به ولا شبهة فيه أقدم على مخالفته، وقال: لي مخرج بالتوبة. وفي هؤلاء وأشباههم قال تعالى: «فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا»

وقال تعالى فيهم أيضا: «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ» (1) . فأخبر سبحانه أنهم أخذوا العرض الأدنى مع علمهم بتحريمه عليهم، وقالوا: سيغفر لنا، وإن عرض لهم عرض آخر أخذوه، فهم مصرون على ذلك، وذلك هو الحامل لهم على أن يقولوا على الله غير الحق، فيقولون هذا حكمه وشرعه ودينه وهم يعلمون أن دينه وشرعه وحكمه خلاف ذلك، أو لا يعلمون أن ذلك دينه وشرعه وحكمه، فتارة يقولون على الله ما لا يعلمون، وتارة يقولون عليه ما يعلمون بطلانه. . . وهؤلاء لا بد أن يبتدعوا في الدين مع الفجور في العمل، فيجتمع لهم الأمران، فإن اتباع الهوى يعمي عين القلب فلا يميز بين السنة والبدعة، أو ينكسه فيرى البدعة سنة والسنة بدعة. "فهذه آفة العلماء إذا آثروا الدنيا واتبعوا الرياسات والشهوات، وهذه الآيات فيهم إلى قوله: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ» " (2)

_ (1) الأعراف: 169 (2) الفوائد، ص 100 - 101، وقد استمر في تفسير الآية الأخيرة بكلام لا نظير له في كتب التفسير، فهو جدير بأن يقرأ.

الأسباب والوسائط

وأما اختلاف الأسباب والوسائط فمع ما سبق له من إيضاح، نقول: إنه قد تقرر فيما مضى أن العبد (كل عبد) من حيث هو مفتقر ذاتياً إلى الله تعالى لا يستطيع أن يحقق مراداته ومطالبه التي لا تنتهي إلا بوسائط وأسباب إما حقيقية وإما متوهمة.. والقصد هنا بيان اختلاف شطري الجماعة الإنسانية "المؤمنون والكافرون" بالنسبة لهذا الأمر، وكيف يصرف كل منهما عبادته وخوفه ورجاءه وسائر أعمال قلبه له وفي سبيله. (1) فأما المؤمن فمن بدهيات إيمانه تجريد الاستعانة بالله وحده - كتجريد العبادة له وحده - سواءً الاستعانة به في الهداية والاستقامة وصلاح القلب، أو في إدراك المطالب وقضاء الحوائج التي يفتقر إليها المخلوق في معاشه ومصالحه. فهو يعلم أن الله تعالى هو وحده الذي بيده خزائن كل شيء «وإن من شيء إلا عندنا خزائنه» - كما سبق عنها - وهو يناجي ربه تعالى في حين وآخر: "اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد" (2) وهو يردد هذا الكنز من كنوز الجنة" لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" (3) بل إن كان عاقل في الوجود لو تأمل وتدبر لوجد أنه "ليس في الوجود الممكن سبب واحد مستقل بالتأثير، بل لا يؤثر سبب البتة إلا بانضمام سبب آخر إليه وانتفاء مانع يمنع تأثيره، هذا في الأسباب المشهودة بالعيان وفي الأسباب الغالية والأسباب المعنوية، فكل ما يخاف ويرجى من المخلوقات فأعلى غاياته أن يكون جزء سبب

_ (1) توحيدها مجموع كله في قوله تعالى «وإياك نستعين» (2) أما مجرد اتخاذ الأسباب أو عدمه فليس داخلاً في موضوعنا هنا. (2) هذا من أدعية الرفع من الركوع وعقب الصلاة، رواه الإمام أحمد (4/93) ، والبخاري (2/325) ومسلم رقم (477) (3) رواه الإمام أحمد (2/309) ، والبخاري (11/187) ، ومسلم رقم (2704)

غير مستقل بالتأثير، ولا يستقل بالتأثير وحده دون توقف تأثيره على غيره إلا الله الواحد القهار". فلا ينبغي أن يرجى ولا يخاف غيره، وهذا برهان قطعي على أن تعلق الرجاء والخوف بغيره باطل، فإنه لو فرض أن ذلك سبب مستقل وحده بالتأثير لكانت سببيته من غيره لا منه، فليس له من نفسه قوة يفعل بها، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، فهو الذي بيده الحول والقوة كلها، فالحول والقوة التي يرجى لأجلها المخلوق ويخاف إنما هما لله وبيده في الحقيقة، فكيف يخاف ويرى من لا حول له ولا قوة؟ . بل خوف المخلوق ورجاؤه أحد أسباب الحرمان ونزول المكروه بمن يرجوه ويخافه، فإنه على قدر خوفك من غير الله يسلط عليك، وعلى قدر رجائك لغيره يكون الحرمان، وهذا حال الخلق أجمعه وإن ذهب عن أكثرهم علماً وحالاً. فما شاء الله كان ولا بد، وما لم يشأ لم يكن ولو اتفقت عليه الخليقة " (1) والمتأمل لكتاب الله تعالى ولحال الخليقة يجد أن من أكبر أسباب الشرك ودواعيه توهم المشركين أن غير الله مصدر خير لهم، وأن عبادته سبب لحصول ما ينفعهم ودفع ما يضرهم، وأقل من ذلك من يتخذ من دون الله إلهاً بمعنى أن يجعله قرة عينه وغاية قلبه ومتعلق إرادته. أي إن شرك الدعاء أكثر من شرك المحبة، وذلك لأن حقيقة الافتقار في الأول أظهر وأعم، ولهذا جاء الخطاب به في القرآن أكثر، وأبطل عز وجل أن يكون لغيره نفع أو ضر أو ولاية أو شفاعة أو ملك أو شرك في ملك، أو يكون بيد غيره رحمة أو رزق أو فضل أو شفاء أو موت أو حياة أو نصر أو إغاثة أو كشف كرب. . . إلى آخر ما يفتقر إليه كل مخلوق وتصرف فيه أعمال القلوب، إلا من جعله الله تعالى سبباً لحصول شيء من ذلك. وهذه من أكبر الحقائق التي فصلها القرآن المكي وسد الله بها كل منافذ الشرك وذرائعه ودواعيه.

_ (1) الفوائد، ص44، وانظر تفصيلاً أوسع في جامع العلوم والحكم لابن رجب شرح حديث ابن عباس: "يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك" وهو التاسع عشر من الأبعين النووية ص173- 188

قال تعالى: «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ» [سبأ: 22- 23] وقال تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا» [فاطر: 40] وقال تعالى: «ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ» [فاطر: 13- 14] وقال على لسان خليله ابراهيم: «إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» [العنكبوت: 17]

الإقرار بالافتقار من حال إلى حال

3- الإقرار بالافتقار من حال إلى حال وأما الإقرار بالافتقار فمن أجلى الأدلة على التوحيد وحقيقة الإيمان، والخلاف فيه بين الكافر والمؤمن من أعظم ما يميز كلا منهما عن الآخر، ثم هو مما يميز الذاكرين الصابرين عن الغافلين الهلعين من المؤمنين. فالمؤمن مقر بافتقاره إلى الله في كل لحظة عين، ومن كان شاكرا لأنعمه ذاكرا لآلائه في حال الرخاء والشدة معا، يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها، ولا يمل دعاءه ولو لأدنى حاجاته. وبالجملة هو مشاهد لحقيقة افتقاره إلى مولاه يدعوه صباحاً ومساء بما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة رضي الله عنها: "يا حي يا قيوم برحمتك استغثت، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين" (1) بل إن المؤمن ليستشعر ذلك في أعز ساعات الانتظار والتمكين. وقد قص الله تعالى من حال أنبيائه في القرآن ما فيه بيان وقدوة؛ فهذا يوسف عليه السلام (في اللحظة التي تم فيها كل شيء تحققت رؤياه: «وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» . في هذه اللحظة نزع يوسف عليه السلام نفسه من اللقاء والعناق والفرحة والابتهاج ليتجه إلى ربه في تسبيح الشاكر الذاكر، كل دعوته وهو في أبهة السلطان وفي فرحة تحقيق الأحلام: «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ»

_ (1) صحيح الترغيب والترهيب رقم (654) ، قال: رواه النسائي والبزار بإسناد صحيح والحاكم، وقال: على شرطهما.

وكذلك نبي الله سليمان عليه السلام وقد رأى عرش ملكة سبأ حاضراً بين يديه (من وراء آلاف الأميال) من قبل أن يرتد إليه طرفه: «فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ» (1) وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة فاتحا منصورا؛ فإنه دخلها وهو يقرأ سورة الفتح يرجع (2) ، ونزل بيت أم هانئ فصلى فيه ثماني ركعات (3) ، وظل مكثرا من التسبيح والاستغفار إلى أن توفاه الله تأويلا لقوله تعالى: «إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا» [النصر: 1-3] . ولهذا قال أشياخ بدر لعمر رضي الله عنه: "أمرنا أن نحمد ربنا ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا" (4) ، وهكذا فعل سعد بي أبي وقاص يوم فتح المدائن، وجعلها بعض العلماء سنة فقالوا: يستحب لأمير الجيش إذا فتح بلدا أن يصلي فيه أول ما يدخله ثماني ركعات (5) . فهذا حال المؤمنين في حال النعمة وذروة الطمأنينة. وأما الكافر فإنه مستكبر على ربه متمرد عليه حال الرخاء والنعمة، يكفره ولا يشكره، يستخدم آلاءه في معاصيه، يطغى إذا استغنى ويفسق إذا أترف. حتى إذا ما نزلت به نازلة وأحدقت به كربة وأحاطت به مصيبة سقط من عرش كبريائه الوهمي، وانهار الزيف أمام الواقع، وانكشف الغيم عن الفطرة المكبوتة، فأيقن حينئذ أنه لا يملك حولا ولا طولا، وضلت عنه الأرباب المزعومة التي كان يتعلق بها من قبل، وأخلص لله الدعاء وأظهر له من الافتقار والضراعة مالم يكن ليخطر له ببال حال الأمن والعافية.

_ (1) الظلال، ص 3697 (2) البخاري (8/13) (3) البخاري (8/19) (4) البخاري (8/735) ، وذلك ضمن قصتهم معه بشأن تقديم ابن عباس، ولا خلاف في الحقيقة بين قولهم وقوله في تفسير السورة، فإنهم نظروا إلى ظاهر دلالتها ومنطوقها، وهو نظر إلى مضمونها وفحواها. وهو ما أراده عمر رضي الله عنه بالسؤال. (5) انظر ابن كثير (8/532) .

«وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ» [فصلت:51] «وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» [يونس:12] «فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» [الزمر:49] ومن أشد المواقف التي يظهر فيها ذلك جليا موقف الرعب الحاصل لراكب البحر حين يكون الهلاك قاب قوسين أو أدنى. «هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» [يونس:22،23] «قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ» [الأنعام:63،64] . «أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ» [لقمان:31،32] . وهذا أعظم ما ألزم به القرآن المشركين، فإنه أقبح ما يكون الإنكار بعد الإقرار، وأقبح ما يكون الاستكبار بعد التذلل والتضرع. وبين سبحانه أن كل نعمة هي منه؛ فالافتقار إليه ذاتي وغناه تعالى مطلق.

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» [فاطر:15] . «وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (*) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ» [النحل:53،54] «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ» [فاطر:3] . «أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ» [الملك:21] . «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ» [الملك:30] وحتى هذه الحالة بخصوصها - حالة ركوب البحر - بيّن الله لهم ضلال نظرتهم القاصرة حين يجعلون حاجتهم إليه محصورة في زمن اشتداد العاصفة، وكأنما خلوصهم إلى البر استغناء عنه ومأمنة من عقابه. «وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (*) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (*) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا» [الإسراء:67 - 69] . ومن أعجب ما قصه الله تعالى في ذلك ما وقع لفرعون وملئه؛ فقد سلط الله تعالى عليهم صنوفا من العذاب؛ " الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم "، وكلما اشتد عليهم وطأة عذاب «قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ» [الأعراف:134] ، ولكن ما يكاد العذاب ينكشف حتى يعودوا للكفر والجحود فتأتي الآية الآخرى من العذاب وهكذا حتى لهم تسع آيات انتهت بإغراقهم أبدا!! .

الخاتمة

الخاتمة تقرر مما سبق عن حقيقة النفس الإنسانية أن كل إنسان همام - أي مريد ومفكر - وأن كل همام حارث - أي عامل كادح -، وأن كل عامل له غاية ومراد ينتهي إليها همه وإرادته ويقصدها بكدحه وعمله، فهو عامل لها أي عابد ولا بد! وتقرر قبله ومعه أن الإسلام هو دين الفطرة القويمة أنزله الله متسقا مع حقيقة الإنسان مستوعبا كل نشاطه وحركته - هما وحرثا وفكرا وعملا - ومن ثم جاء منهجا متكاملا لإصلاح النشاط الإنساني كله؛ إصلاح الخواطر والأفكار بالاعتقادات الحقة والإرادات الصحيحة والنية الخالصة، وإصلاح الأعمال بأنواع الطاعات والبر والمعروف. وتكفل ببيان ضد ذلك من الاعتقادات الباطلة والإرادات الفاسدة والأعمال السيئة والتحذير منها. وكما أن الإنسان لا يمكن أن يكون هماما ولا يكون حارثا؛ فإن الإيمان لا يمكن أن يكون اعتقادا ولا يكون عملا. ومن هنا نستطيع أن نتبين أي المذهبين في الإيمان هو الحق؛ مذهب أهل السنة والجماعة أم مذهب المرجئة؟ ومعيار الحكم في هذا يبدأ من أصل الخلاف، وهو اختلاف مصدري التلقي والاستمداد عند الفريقين؛ فمن يستقي من مصدر الوحي المعصوم فضروري أن يكون مذهبه هو الحق المتفق مع حقيقة الإنسان تبعا لما تقرر من اتفاق دين الله ووحيه مع خلقه وفطرته، ومن استقى من مصدر آخر - أياًّ كان - فلا بد أن يقع في التناقض، وأن يصادم حقيقة الإنسان تبعا لمخالفته لصريح القرآن! وبنظرة عامة لما سبق نستطيع أن نستخرج بسهولة هذه النتيجة: أن أهل السنة والجماعة في اعتقادهم الجازم أن الإيمان عمل، والعمل إيمان - على ما سيأتي إيضاحه - إنما يستقون من معين الوحي المعصوم - كتابا وسنة - ما هو منسجم قطعا مع حقيقة النفس الإنسانية.

أما ما تعتقده المرجئة من التفريق بين الإيمان والعمل، وإثبات الإيمان كاملا في القلب مع وقوع عمل الجوارح على خلافه (1) ، فهو فصل اعتباطي للحقيقة النفسية الواحدة، يجعل أحد شقيها ذاهبا ذات اليمين والآخر ذاهبا ذات الشمال في وقت واحد، وهو ما لا يقع أبدا، بل هذا الفصل يشبه من الناحية العضوية فصل القلب عن الجسد وفصل الطاقة عن الحركة. حقيقة الأمر أن المرجئة تعتبر الإيمان قضية ذهنية مجردة - تسمها تصديقا أو معرفة - تعلق هذه القضية بالقلب كمادة جامدة ومعزولة لا تزيد ولا تنقص، توجد كاملة أو تذهب كاملة، ولا تستلزم أي أثر في الوجدان والشعور أو الحركة والكدح، بل هي مثل أي معلومة رياضية أو مقولة فلسفية!! وهي حين تعتقد ذلك يغيب عنها حقيقة بالغة الأهمية، وهي كيف إذن يفسر العمل الإنساني الدائب الذي لا يتوقف إلا لحظة الموت؟ ما مصدره؟ ما طاقته؟ ما دوافعه إن لم يكن الإيمان؟ أياً كان هذا الإيمان!! حقا لقد جهدت كثيرا لكي أعثر على وجهة نظر القوم في هذه القضية الكبرى بلسان مقالهم لا بلسان حالهم، وتساءلت أيستطيع هؤلاء أن يلتزموا القول بأن المؤمن - على زعمهم - مصاب بانفصام الشخصية؛ فهو يعتقد غير ما يعمل، ويعمل غير ما يعتقد (2) ؟! وكيف يجيبون على كثير من الأسئلة البدهية التي يفجؤهم بها مناظرهم قبل الدخول في تفصيلات النقاش العلمي والخوض الجدلي مثل: كيف يمتلئ القلب بالحب وتعمل الجوارح أعمالا كلها عداء وانتقام؟! وكيف يمتلئ القلب بالرحمة وتعمل الجوارح أعمالا كلها غلط وفظاظة؟! وكيف يمتلئ القلب بالتصديق وتعمل الجوارح أعمالا كلها تكذيب وإعراض؟! وكيف يمتلئ القلب بالتقوى وتعمل الجوارح أعمالا كلها فجور وآثام (3) ؟ .

_ (1) وهذا مما أجمعت عليه جميع المرجئة. انظر: الإيمان، ص 347 لشيخ الإسلام، وتفصيل أقوالهم يأتي في موضعه بإذن الله. والمراد هنا جنس العمل لا آحاده. (2) والواقع أنه حتى انفصام الشخصية لا ينطبق في حقيقته على ما تعتقده المرجئة؛ لأن السلوك المتناقض فيه نتيجة شخصيتين قائمتين فعلا في شخص واحد بالتعاقب. (3) إذا كان هذا مذهب المرجئة - أو لازم قول بعضهم وإن لم يلتزمه - وهو عجيب، فيحق لنا أن نعجب أيضا لأقوام ينتسبون إلى العلم ولا يقرون الإرجاء نظريا، ولكنهم يجادلون عن أناس وقفوا أنفسهم على حرب الله ورسوله ومعاداة الدين وأهله، وطمس معالم الحق والهدى ومحاربة أحكام الشريعة وموالاة أعداء الله، وجعلوا ذلك شغلهم الشاغل وعملهم الدائب وهمهم الأكبر لا يشذ عنه إلا أعمال من التلبيس يذرون بها الرماد في العيون، وقد كان أهل الجاهلية الأولى يتنسكون بمثلها أو أكثر منها، وقد قال الله تعالى: «إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما، واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما، ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما» [النساء: 105- 107]

ولما لم أجد لهذا ذكراً عندهم خرجت بنتيجة وضعتها أول الأمر على أنها افتراض ثم صدقها البحث التاريخي المستقصي؛ وهي أن عقيدة المرجئة لم تكن على الإطلاق ثمرة نظر في النصوص الشرعية ولا وليدة اجتهاد عقلي سوي، وإنما هي وليدة مواقف انفعالية جدلية أفرزتها المعارك الكلامية الطاحنة بين الفرق البدعية، تلك الفرق التي كان جهلها بالشرع وإعراضها عنه سببا في تعلقها لدفع خصومها بأوهام ذاتية أو تصورات غريبة منقولة عن مصادر وثنية (1) ، ولهذا جاءت أصولها الاعتقادية - لا سيما المرجئة - مجافية تماما للدين والفطرة والعقل والحقيقة الإنسانية. ولست أدري أي الخيالين كان أسبق إلى عقول المرجئة وهي تؤسس هذه النظرية الهلامية: أهو تخيل أن الإنسان تمثال شاخص لا علم له ولا إرادة ولا إحساس، أم تخيل أن الإيمان قطعة جامدة هامدة لا تنتج إحساسا ولا إرادة ولا عملا؟ فعلى الخيال الأول يريدون إرغام العقول السوية على أن تتصور قلبا بشريا مزروعا في جسد تمثال! وعلى الخيال الآخر يريدون إرغامها على أن تتصور إنسانا حيا يعيش بقلب من الخشب أو الفخار الصامت! والمهم أنه على كلا الحالين لا نجد خارج أذهان المرجئة إنسانا - أي لا نجد إيمانا - هذه صفته. أما الإنسان ذاك الذي خلقه الله تعالى بطبيعته حارثا همّاماً حيا حساسا مريدا عاملا، فإنه لا يمكن - في الحالة السوية - أن يؤمن بشيء ولا يعمله، أو يعمل شيئا وهو لا يؤمن به. فالصلة بين الإيمان - أيا كان - وبين العمل كالصلة بين العمل والحياة. ولا مخرج للمرجئة من هذه الإلزامات جميعها إلا أن تقر بأن ما تتحدث عنه مسمية إياه إيمانا ليس هو الإيمان الشرعي، ولتسميه بعد ذلك ما شاءت!!

_ (1) وأخيرا - بعد استقرار النظرية - يبحثون لها عن مستند من النصوص يتعسفونها تعسفا. بل وصل الأمر بهم إلى أن يضعوا الأحاديث في فضل الإرجاء وأهله وذم المخالفين لهم، ومن أشهر وضاعيهم: الجويباري. انظر: المجروحين (1/142) ، درء تعارض العقل والنقل (7/92) .

حقيقية الإيمان الشرعية

حقيقية الإيمان الشرعية مضى الحديث عن الجيل الأول الذي رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك الجيل الذي كانت حياته الواقعية حقيقة حية للإيمان كما فهموه وتربوا عليه، وهذا ما جعلهم أبعد شيء عن النظريات المجردة في أي مجال، فما بالك ببعدهم عنها في دينهم وإيمانهم الذي يعيشون حقيقته ويتحركون به وله. حتى العلم الشرعي نفسه لم يكونوا يتلقونه معلومات تراكمية كما صنعت الأجيال من بعد، بل كانوا كما قال بعضهم: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن غلمان حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن فازددنا به إيمانا" (1) . هذا الإيمان الذي تلقوه لم يكن - على الإطلاق - درسا يسمى "درس العقيدة" يقال فيه: "إن الإيمان قول وعمل، وإن الطاعات كلها داخلة في الإيمان" - كما يصنع أكثر متأخري أهل السنة الذين أهملوا كثيرا من حقائق الإيمان واحتفظوا برسمه ولفظه - فضلا عن أن يكون درساً كلامياً أو فلسفياً يقال فيه: "الإيمان هو التصديق، والتصديق اعتقاد نسبة الصدق إلى المخبر بدلالة المعجزة، والمعجزة أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي ... إلخ" كما هو الحال في دروس العقيدة في أكثر العالم الإسلامي اليوم وفي القرون الأخيرة الماضية. إن معايشة الجيل الأول للوحي وصاحبه صلى الله عليه وسلم مع ما آتاهم الله من سلامة الفطرة وصحة الفهم وحضور البديهة، جعلتهم أصدق الناس نظرا وأقلهم تكلفا وأحسنهم هديا. فإن سئلوا عن أمر كان جوابهم أوجز بيان وأشفاه وأبينه، إن لم يكن من ذات نور الوحي فهو قبس من مشكاته. وإن في مسألة الإيمان - تلك المسألة التي تشعبت فيها الآراء وتنافرت فيها الفرق وتقاتلت عليها الأمة - لأصدق دليل على هذا.

_ (1) رواه ابن ماجه رقم (61) ، عن جندب بن عبد الله، والحزور الغلام الناضج النمو، ورواه عبد الله بن أحمد، السنة (1/97) بسند صحيح.

فقد ذهبت الفرق الضالة كل مذهب لتأتي بتعريف للإيمان كما تريد، فمنهم من صرف نظره عن نصوص الوحي كلها، ومنهم من أخذ بعضها وغلا فيه وتعسف في تأويل الباقي أو إنكاره، ومنهم من ظل حائرا متناقضا لا يستقر له قرار. أما الجماعة - الذين هم الصحابة والتابعون لهم بإحسان - فما حادوا عن منهجهم المأمون قط، فكانوا إذا سئلوا عن الإيمان أجابوا بالوحي لا بالهوى، جوابا يراعى فيه حال السائل ومقام السؤال كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل. فمرة يجيبون السائل بآية جامعة من كتاب الله تعالى، مثل جواب بعضهم بقوله تعالى: «ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون» الآية (1) . ومرة يجيبون بحديث كما أجاب النبي صلى الله عليه وسلم جبريل أو وفد عبد القيس (2) . ومرة يعرفونه بفهم فهموه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال بعضهم: (الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله) (3) ونحو ذلك. ومن الواضح أنه ليس في شيء من هذا تحديد مجرد للإيمان على المنهج المنطقي المتكلف. وعندما اتسع الخلاف بين الفرق وانتقلت الأمة من البحث في أعمال الإيمان وفرائضه ليحققوه بكماله إلى البحث في ماهيته المجردة وحده المنطقي - ليتجادلوا فيها - ظهرت الحاجة إلى قول فصل وأصل جامع يعرف به الناس هذا المفهوم في كتاب ربهم وسنة نبيهم، فتواردت أذهان علماء الجماعة وتواطأت أقوالهم وتواترت

_ (1) كما ورد عن أبي ذر والحسن بن علي رضي الله عنهما، وفي بعض الطرق رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتفصيل الكلام في أسانيده يطول، لكن انظر: الطبري (2/94) ، المصنف (11/128) ، الدر المنثور (1/169) ، فتح القدير (1/173) ، ابن كثير (1/296) ،فتح الباري (1/50) . (2) حديث وفد عبدقيس متفق عليه. البخاري (1/129) ، مسلم رقم (18،17) . وفيه: "أتدرون ما الإيمان..... شهادة ألا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة.." الحديث (3) علق البخاري الجملة الأخيرة، وذكر الحافظ تخريجه كاملا. الفتح (1/48) ، وهو في السنة لعبد الله ابن أحمد (1/98) .

أخبارهم - الحجازي منهم والعراقي والشامي والخراساني والمصري والمغربي، ومن كان وراء النهر أو بالأندلس - على معنى موجز شاف كاف ليس في التعريفات أوضح ولا أيسر منه؛ مقتبس من الكتاب والسنة، وموافق للعقل والفطرة، ومترجم لواقع الجيل الأول، وهو: "أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص". وأكثرهم لم يزد عن هذه العبارة ولم ينقص، ومنهم من اختلفت عبارته قليلا أو أضاف إليها قيدا إيضاحيا، لكن المعنى الذي أرادوه جميعا واحد؛ فلم يكن اختلافهم في بعض الألفاظ إلا كما يختلف الصادقون عادة في التعبير عن أمر واحد محسوس ظاهر. وهذا وحده دليل كاف لمن كانت له بصيرة على أن هؤلاء هم الجماعة حقا، وأن من عداهم فرق زيغ وضلالة، من اقتفاها فقد اتبع غير سبيل المؤمنين، فولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا. وهذا الإجماع نقله كثير من المؤلفين الثقات؛ وها هي ذي نماذج منهم: 1 - يقول الإمام الحجة أمير المؤمنين في الحديث أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى: "لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم؛ أهل الحجاز ومكة والمدينة والكوفة والبصرة وواسط وبغداد والشام ومصر، لقيتهم كرات قرنا بعد قرن ثم قرن بعد قرن (1) أدركتهم وهم متوافرون أكثر من ست وأربعين سنة، أهل الشام ومصر والجزيرة مرتين، والبصرة أربع مرات في سنين ذوي عدد، وبالحجاز ستة أعوام، ولا أحصي كم دخلت الكوفة وبغداد، مع محدثي أهل خراسان، منهم: المكي بن إبراهيم، ويحيى بن يحيى، وعلي بن الحسن بن شقيق، وقتيبة بن سعيد، وشهاب بن معمر. وبالشام: محمد بن يوسف الفريابي، وأبا مسهر عبد الأعلى بن مسهر، وأبا المغيرة عبد القدوس بن الحجاج، وأبا اليمان الحكم بن نافع. ومن بعدهم عدة كثيرة. وبمصر: يحيى بن كثير، وأبا صالح - كاتب الليث بن سعد - وسعيد بن أبي مريم، وأصبغ بن الفرح، ونعيم بن حماد.

_ (1) المراد بالقرن: الطبقة من العلماء.

وبمكة: عبد الله بن يزيد المقري، والحميدي، وسليمان بن حرب - قاضي مكة - وأحمد بن محمد الأزرقي. وبالمدينة: إسماعيل بن أبي أويس، ومطرف بن عبد الله، وعبد الله بن نافع الزبيري، وأحمد بن أبي بكر أبا مصعب الزهري، وإبراهيم بن حمزة الزبيري، وإبراهيم بن المنذر الحزامي. وبالبصرة: أبا عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني، وأبا الوليد هشام بن عبد الملك، والحجاج بن المنهال، وعلي بن عبد الله بن جعفر المديني. وبالكوفة: أبا نعيم الفضل بن دكين، وعبيد بن موسى، وأحمد بن يونس، وقبيصة بن عقبة، وابن نمير، وعبد الله وعثمان ابني أبي شيبة. وببغداد: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأبا معمر، وأبا خيثمة، وأبا عبيد القاسم بن سلام. ومن أهل الجزيرة: عمرو بن خالد الحراني. وبواسط: عمرو بن عون، وعاصم بن علي بن عاصم. وبمرو: صدقة بن الفضل، وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي. واكتفينا بتسمية هؤلاء كي يكون مختصرا (1) ، وأن لا يطول ذلك، فما رأيت واحدا منهم يختلف في هذه الأشياء: أن الدين قول وعمل، وذلك لقول الله (2) : «وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة» .... " (3) . ثم ذكر عقيدة قيمة جاء فيها - أيضا - مما يتعلق بموضوعنا: "لم يكونوا يكفرون أحدا من أهل القبلة بالذنب لقوله: «إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء» " (4) .

_ (1) يلاحظ أن هؤلاء هم أئمة العلم في عصرهم - كل في بلده -. (2) معلوم أن الإجماع لا بد له من مستند، ومستند الإجماع في هذه المسألة نصوص كثيرة منها هذه الآية. (3) هذا النص المنقول هو أول اعتقاد الإمام البخاري، رواه عنه اللالكائي بسنده. انظر: (1/172) ، وعنه نقل الحافظ في الفتح وصحح سنده إلى البخاري (1/47) . (4) المصدر السابق (1/175) .

2 - وقال الإمامان الجليلان الثقتان أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان، فيما رواه عنهما الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: "سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدان من ذلك؟ فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار - حجازا وعراقا وشاما ويمنا - فكان من مذهبهم: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص". ثم ذكر عقيدة عظيمة أيضا جاء فيها: "وأهل الكبائر في مشيئة الله عز وجل. ولا نكفر أهل القبلة بذنوبهم، ونكل أسرارهم إلى الله عز وجل". "والناس مؤمنون في أحكامهم ومواريثهم ولا ندري ما هم عند الله عز وجل، فمن قال: إنه مؤمن حقا فهو مبتدع، ومن قال: هو مؤمن عند الله فهو من الكاذبين، ومن قال: هو مؤمن بالله حقا فهو مصيب (1) ، والمرجئة المبتدعة ضلال". "وعلامة المرجئة: تسميتهم أهل السنة مخالفة ونقصانية" (2) . 3 - وروى أبو عمرو الطلمنكي بإسناده المعروف عن موسى بن هارون الحمال قال: أملى علينا إسحاق بن راهويه أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، لا شك أن ذلك كما وصفنا. وإنما عقلنا هذا بالروايات الصحيحة والآثار العامة المحكمة، وآحاد (3) أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين وهلم جرا على ذلك. وكذلك بعد التابعين من أهل العلم على شيء واحد لا يختلفون فيه، وكذلك في عهد الأوزاعي بالشام وسفيان الثوري بالعراق ومالك بن أنس بالحجاز، ومعمر باليمن على ما فسرنا وبينا أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص ... (4) .

_ (1) لأن قوله: أنا مؤمن بالله حقا معناه أنه مسلم، والإسلام لا يستثنى فيه إلا إذا أريد به الإيمان الخاص. (2) المخالفة: لعلها من الخلاف، كأنهم خالفوا الحق بزعمهم، والنقصانية: لأنهم يقولون: إن الإيمان ينقص، ونقصه عند المرجئة كفر؛ لأنه شيء واحد لا يزيد ولا ينقص كما سيأتي تفصيله عنهم. وهذه العقيدة من اللالكائي أيضا (1/176- 179) . (3) ليس المراد بالآحاد هنا ما يقابل الإجماع أو التواتر، وإنما مراده أن كل واحد من الصحابة والتابعين كان على ذلك. (4) ثم استطرد فذكر حكم تارك الصلاة وأنه يقتل كفرا.

قال إسحاق: واتبعهم على ما وصفنا من بعدهم من عصرنا هذا أهل العلم إلا من باين الجماعة واتبع الأهواء المختلفة، فأولئك قوم لا يعبأ الله بهم لما باينوا الجماعة" (1) . 4 - و "قال أبو عبيد القاسم بن سلام الإمام، وله كتاب مصنف في الإيمان، قال: هذه تسمية من كان يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص: من أهل مكة: عبيد بن عمير الليثي، عطاء بن أبي رباح، مجاهد بن جبر، ابن أبي مليكة، عمرو بن دينار، ابن أبي نجيح، عبيد الله بن عمر، عبد الله بن عمرو بن عثمان، عبد الملك بن جريج، نافع بن جبير، داود بن عبد الرحمن العطار، عبد الله بن رجاء. ومن أهل المدينة: محمد بن شهاب الزهري، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، أبو حازم الأعرج، سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، يحيى بن سعيد الأنصاري، هشام بن عروة بن الزبير، عبد الله بن عمر العمري، مالك بن أنس، محمد بن أبي ذئب، سليمان بن بلال، عبد العزيز بن عبد الله - يعني الماجشون-، عبد العزيز بن أبي حازم. ومن أهل اليمن: طاوس اليماني، وهب بن منبه، معمر بن راشد، عبد الرزاق بن همام. ومن أهل مصر والشام: مكحول، الأوزاعي، سعيد بن عبد العزيز، الوليد بن مسلم، يونس بن يزيد الأيلي، يزيد بن أبي حبيب، يزيد بن شريح، سعيد بن أبي أيوب، الليث بن سعد، عبد الله بن أبي جعفر، معاوية بن أبي صالح، حيوة بن شريح، عبد الله بن وهب. وممن سكن العواصم وغيرها من الجزيرة: ميمون بن مهران، يحيى بن عبد الكريم، معقل بن عبيد الله، عبيد الله بن عمرو الرقي، عبد الملك (2) بن مالك، المعافى بن عمران، محمد بن سلمة الحراني، أبو إسحاق الفزاري، مخلد بن الحسين، علي بن بكار، يوسف بن أسباط، عطاء بن مسلم، محمد بن كثير، الهيثم بن جميل.

_ (1) عن الإيمان لشيخ الإسلام، ص 292 - 293. (2) أو هو عبد الكريم بن مالك، انظر ص 328.

ومن أهل الكوفة: علقمة، الأسود بن يزيد، أبو وائل، سعيد بن جبير، والربيع بن خثيم، عامر الشعبي، إبراهيم النخعي، الحكم بن عتيبة، طلحة بن مصرف، منصور بن المعتمر، سلمة بن كهيل، مغيرة الضبي، عطاء بن السائب، إسماعيل بن أبي خالد، أبو حيان، يحيى بن سعيد، سليمان بن مهران الأعمش، يزيد بن أبي زياد، سفيان بن سعيد الثوري، سفيان بن عيينة، الفضيل بن عياض، أبو المقدام، ثابت بن العجلان، ابن شبرمة، ابن أبى ليلى، زهير، شريك بن عبد الله، الحسن بن صالح، حفص بن غياث، أبو بكر بن عياش، أبو الأحوص، وكيع بن الجراح، عبد الله بن نمير، أبو أسامة، عبد الله بن إدريس، زيد بن الحباب، الحسين بن علي الجعفي، محمد بن بشر العبدي، يحيى بن آدم، ومحمد ويعلى وعمرو بنو عبيد. ومن أهل البصرة: الحسن بن أبي الحسن، محمد بن سيرين، قتادة بن دعامة، بكر بن عبد الله المزني، أيوب السختياني، يونس بن عبيد، عبد الله بن عون، سليمان التيمي، هشام بن حسان الدستوائي، شعبة بن الحجاج، حماد بن سلمة، حماد بن زيد، أبو الأشهب، يزيد بن إبراهيم، أبو عوانة، وهيب بن خالد، عبد الوارث بن سعيد، معتمر بن سليمان التيمي، يحيى بن سعيد القطان، عبد الرحمن بن مهدي، بشر بن المفضل، يزيد بن زريع، المؤمل بن إسماعيل، خالد بن الحارث، معاذ بن معاذ، أبو عبد الرحمن المقري. ومن أهل واسط: هشيم بن بشير، خالد بن عبد الله، علي بن عاصم، يزيد ابن هارون، صالح بن عمر، عاصم بن علي. ومن أهل المشرق: الضحاك بن مزاحم، أبو جمرة، نصر بن عمران، عبد الله ابن المبارك، النضر بن شميل، جرير بن عبد الحميد الضبي. قال أبو عبيد: هؤلاء جميعا يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص؛ وهو قول أهل السنة المعمول به عندنا " (1) .

_ (1) الإيمان لشيخ الإسلام، ص 293 - 295، وهو ليس في كتاب الإيمان المطبوع لأبي عبيد، فإما أنه طبع على أنه نسخ غير كاملة أو أن عبيد هذا في مصنف غيره. قال شيخ الإسلام تعليقا على هذا النقل: (قلت: ذكر من الكوفيين من قال ذلك أكثر مما ذكر من غيرهم، لأن الإرجاء في أهل الكوفة كان أولا فيهم أكثر، وكان أول من قاله "حماد بن أبي سليمان" فاحتاج علماؤهم أن يظهروا إنكار ذلك فكثر منهم من قال ذلك) وشبه ذلك بكثرة من أنكر على الجهمية من أهل خراسان لأنه ظهر هناك، ص 295.

5 - ويقول الإمام البغوي في شرح السنة: "اتفقت الصحابة والتابعون فمن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان؛ لقوله سبحانه وتعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ» . إلى قوله: «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ» . فجعل الأعمال كلها إيمانا، وكما نطق به حديث أبي هريرة (يعني حديث الإيمان بضع وسبعون شعبة) . ثم قال: وقالوا: إن الإيمان قول وعمل وعقيدة، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية على ما نطق به القرآن في الزيادة، وجاء في الحديث بالنقصان في وصف النساء (يعني ناقصات عقل ودين) ... ثم قال: واتفقوا على تفاضل أهل الإيمان وتباينهم في درجاته" (1) . 6 - ويقول الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر: "أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل، ولا عمل إلا بنية، والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والطاعات كلها عندهم إيمان". ثم ذكر خلاف أبي حنيفة وأصحابه في هذا، وقال: "وأما سائر الفقهاء من أهل الرأي والآثار بالحجاز والعراق والشام ومصر، منهم: مالك بن أنس، والليث بن سعد، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وداود بن علي (الظاهري) ، وأبو جعفر البصري، ومن سلك سبيلهم فقالوا: الإيمان قول وعمل؛ قول باللسان وهو الإقرار، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح مع الإخلاص بالنية الصادقة، قالوا: وكل ما يطاع الله عز وجل به من فريضة ونافلة فهو من الإيمان، والإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وأهل الذنوب عندهم مؤمنون غير مستكملي الإيمان من أجل ذنوبهم. . . " (2) .

_ (1) 1/38 - 40) . (2) التمهيد (9/238 - 243) .

7 - ويذكر الإمام الحافظ ابن كثير: إن الإيمان "إذا استعمل مطلقا فالإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقادا وقولا وعملا، وهكذا ذهب أكثر الأئمة بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيد وغير واحد إجماعا أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص" (1) . 8 - ويقول الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي: "والمشهور عن السلف وأهل الحديث أن الإيمان قول وعمل ونية، وأن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان، وحكى الشافعي على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم، وأنكر السلف على من أخرج الأعمال عن الإيمان إنكارا شديدا. وممن أنكر ذلك على قائله وجعله قولا محدثا: سعيد بن جبير، وميمون بن مهران، وقتادة، وأيوب السختياني، والنخعي، والزهري، وإبراهيم، ويحيى بن أبي كثير، وغيرهم. وقال الثوري: هو رأي محدث أدركنا الناس على غيره. وقال الأوزاعي: وكان من مضى من السلف لا يفرقون بين العمل والإيمان ... " (2) . 9 - وما ذكره الحافظان ابن كثير وابن رجب عن الشافعي رحمه الله أن الإجماع على ذلك نقله شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال: (وقد ذكرنا عن الشافعي رضي الله عنه ما ذكره من الإجماع على ذلك قوله في "الأم": "وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدركناهم يقولون: إن الإيمان قول وعمل ونية، ولا يجزيء واحد من الثلاثة إلا بالآخر") (3) .

_ (1) التفسير (1/62- 63) ، وقد علق المحققون على قوله: "إجماعا" بقولهم: "لعله إجماع الفقهاء والمحدثين، وإلا فإن جمهور علماء الكلام يرون أنه الاعتقاد فقط" وهذا التعليق لا وجه له، لأن علماء السنة ومنهم الأئمة الأربعة مجمعون على ذم الكلام وأهله وتعزير أصحابه، فلا يعتد بخلافهم فيما لم يجمع عليه فضلا عما هو أعظم منه، وإنما تذكر أقوالهم على سبيل الذم والإنكار، وكل الكتب التي كتبت في عقيدة أهل السنة مثل كتاب اللالكائي والآجري وعبد الله بن أحمد وابن بطة ... إلخ، وكذا كتب تراجم الأئمة ومناقبهم تذكر هذا وتنقله عن أئمة الإسلام المجمع على فضلهم وإمامتهم. (2) جامع العلوم والحكم، تحقيق: محمد أبو النور (1/57) . (3) الإيمان، ص 292، ولم أستطع العثور عليه في الأم المطبوع، لكن قرأت لابن القيم أنه في "المبسوط". زاد المعاد (3/607) .

10 - ويقول الإمام محمد بن جرير الطبري شيخ المفسرين: "والصواب لدينا من القول أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وبه الخبر عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه مضى أهل الدين والفضل" (1) . 11 - وقد روى الإمام أحمد في الإيمان، وابنه عبد الله بن أحمد في السنة، عن جماعة كثيرة من أهل العلم الذين ذهبوا لما ذكر وذموا الإرجاء وعابوه، نذكر منهم: "مجاهد، سعيد بن جبير، الحسن البصري، أبو وائل، إبراهيم النخعي، علقمة، عطاء ابن أبي رباح، قتادة، ابن أبي مليكة، هشام بن عروة، عمر بن عبد العزيز، سفيان الثوري، سفيان بن عيينة، وكيع، الفضيل بن عياض، مالك، الشافعي، حماد بن زيد، حماد بن سلمة، الأوزاعي، شريك، أبو بكر بن عياش، أبو البختري، ميسرة، أبو صالح، ضحاك المشرقي، بكير الطائي، يحيى بن سعيد، عبد العزيز بن أبي سلمة، منصور بن المعتمر، عمير بن الحبيب، جرير بن عبد الحميد، عبد الملك بن جرير، يحيى بن سليم، أبو إسحاق الفزاري، عبد الله ابن المبارك، الخليل بن أحمد الفراهيدي، ميمون بن مهران، خالد بن الحارث، محمد بن مسلم الطائفي، معمر بن راشد، القاسم بن مخيمرة، صدقة المروزي، محمد بن عبد الله بن عمرو عثمان بن عفان، سعيد بن عبد العزيز، عبد الكريم الجزري، خصيف بن عبد الرحمن" (2) . 12 - "وروى أبو بكر النقاش بإسناده عن عبد الرزاق قال: لقيت اثنين وسبعين شيخا (وذكر جملة من كبار الأئمة) كلهم يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص" (3) . وبعض هؤلاء الأعلام صرح بأن قول أهل الإرجاء بدعة محدثة، وأنهم يهود أهل القبلة أو صابئة هذه الأمة، وأن من أدركوه من أهل العم - صحابة وتابعين - كانوا على ما عليه أهل السنة، ونحو ذلك من النقول الدالة على الإجماع، تصريحا أو لزوما واقتضاء. ولولا خشية التطويل لنقلنا ذلك تفصيلا (4) .

_ (1) اللالكائي (1/85) ضمن عقيدة الطبري. (2) استخلصت هؤلاء الأعلام من كتاب: الإيمان، من لوحة 94 فصاعدا، ومن كتاب: السنة (1/72- 106) . (3) الإيمان لأبي يعلى، لوحة 73، وهناك أسماء كثيرة جمعها الحليمي. انظر: المنهاج في شعب الإيمان (1/84) . وممن نقل الإجماع: الحافظ ابن عساكر، انظر: تهذيب تاريخ دمشق (3/134) . (4) انظر الأبواب والفصول الخاصة بذم المرجئة في الإيمان للإمام أحمد، والسنة لابنه عبد الله، والشريعة للآجري، والإبانة لابن بطة، ونحوها مما ورد ويرد النقل التفصيلي عنه هنا. وانظر: الفتح (1/47) .

ومعلوم أن أي إجماع لا بد له من مستند نصي، وهذا الإجماع يستند إلى نصوص كثيرة جدا، بل ربما كانت هذه القضية أعظم مسائل الخلاف بين الأمة إجماعا من الصدر الأول، من حيث تواتر النصوص وتواتر نقل الأقوال فيها. ونظرا للاختصار رأيت الاكتفاء بنصين مفصلين من كلام أئمة السنة مذكور فيهما مستند الإجماع: 1 - كلام الإمام هشام بن عمار (مقرئ الشام ومحدثها في عصره) المتوفى 245 هـ (1) : قال رحمه الله: "ومما يبين لأهل العقل أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث: أن الحياء شعبة من شعب الإيمان. وأن حسن العهد من الإيمان. وأن الإيمان عرى، وأوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله. وأن للإيمان أركانا ودعائم وذروة وحقيقة ومحضا وصريحا وصدقا وبرا وحلاوة وزينة ولباسا وشطرا". ثم فصل هذا فقال: "فمن أركانه: التسليم لأمر الله (الشرعي) ، والرضا بقدر الله (الكوني) ، والتفويض إلى الله والتوكل على الله. ومن دعائمه: الصبر واليقين والعدل والجهاد. وصريح الإيمان: أن يصل من قطعه، ويعطي من حرمه، ويعفو عمن ظلمه، ويغفر لمن شتمه، ويحسن إلى من أساء إليه. وذروته: أن يكون الفقر أحب إليه من الغنى، والتواضع أحب إليه من الشرف، وأن يكون ذامه وحامده في الحق عنده سواء. وحقيقته: ما روي من: "ثلاث من كن فيه فقد استوجب حقيقة الإيمان: حب الرجل المرء في الله ... " (الحديث) .

_ (1) وهو شيخ الإسلام البخاري، وقد تتلمذ على يد مالك، وكان معاصرا للإمام أحمد، انظر: سير أعلام النبلاء (11/420 - 435) .

أما استكماله: فما روي: "لا يستكمل عبد الإيمان كله حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وحتى يقدم الصلاة في اليوم الدجن، وحتى يجتنب الكذب في مزاحه". وما روي: "لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتى يخزن لسانه". وأما طعم الإيمان: فأن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ولا يقول: لولا، ولو أن، ويدع المراء وهو محق، ويدع الكذب في المزاح، روي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه. وأما محض الإيمان: فما روي أنهم قالوا: يا رسول الله إن أحدنا ليحدث نفسه بالشيء ما يحب أن يتكلم به، قال: "ذلك محض الإيمان". وأما صدق الإيمان وبره: فما روي عن عبيد بن عمير قال: من صدق الإيمان وبره إسباغ الوضوء في المكاره، ومن صدق الإيمان وبره أن يخلو الرجل بالمرأة الحسناء فيدعها لا يدعها إلا لله. وأما لباسه: فالتقوى، روي ذلك عن وهب بن منبه. وأما حلاوته: فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب العبد لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار". وأما شطر الإيمان: فما روي عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الطهور شطر الإيمان - وفي رواية: إسباغ الوضوء شطر الإيمان -، والحمد لله تملأ الميزان، والتكبير والتسبيح يملأ السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها". وأما نصف الإيمان: فروي عن عبد الله (ابن مسعود) رضي الله عنه: الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله (1) . اهـ

_ (1) هذا النص منقول من كتاب: الحجة في بيان المحجة، لقوام السنة أبي قاسم الأصبهاني، لوحة: 160ب - 161 أ، نسخة مكتبة حكيم أوغلو المنسوخة سنة 559، ولعله منقول في الأصل عن أبي الشيخ الأصبهاني، وأبو الشيخ له كتاب في السنة، انظر: سير أعلام النبلاء (16/278) .

أقول: ما ذكره من الأحاديث والآثار ليس على درجة واحدة من الصحة والقبول، لكن الشاهد من مجموعها - وهو الاستدلال على صحة مفهوم الإيمان عند أهل السنة والجماعة - متحقق، والمطلع على السنة وأقوال الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - يمكن أن يزيد على ما ذكر أشياء كثيرة. وهذه التي ذكرها بعضها أعمال وبعضها أقوال، وبعضها أقوال القلب وأعماله وبعضها أقوال لسان وأعمال جوارح، وبعضها فرائض وواجبات، وبعضها نوافل وكمالات. ومن تدبرها وتدبر أمثالها في النصوص الأخرى، ثم قابل ذلك بقول المرجئة - الذي عليه أكثر كتب العقيدة في العالم الإسلامي اليوم، وهو أن الإيمان هو التصديق القلبي المجرد من سائر أفعال القلوب والجوارح، على الخلاف في النطق بالشهادتين - عرف شذوذ هذا القول وسقوطه، وأنه بدعة لا يجوز اعتقادها. 2 - كلام الفضيل بن عياض مع تعليق الإمام أحمد (1) : قال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب السنة: "وجدت في كتاب أبي: أخبرت أن الفضيل بن عياض قرأ أول الأنفال حتى بلغ: «أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم» قال حين فرغ: إن هذه الآية تخبرك أن الإيمان قول وعمل، وأن المؤمن إذا كان مؤمنا حقا فهو من أهل الجنة. فمن لم يشهد أن المؤمن حقا من أهل الجنة فهو شاك في كتاب الله مكذب، أو جاهل لا يعلم. فمن كان على هذه الصفة فهو مؤمن حقا مستكمل الإيمان، ولا يستكمل الإيمان إلا بالعمل، ولا يستكمل عبد الإيمان ولا يكون مؤمنا حقا حتى يؤثر دينه على شهوته، ولن يهلك عبد حتى يؤثر شهوته على دينه. يا سفيه ما أجهلك لا ترضى أن تقول: أنا مؤمن حتى تقول: أنا مؤمن حقا مستكمل الإيمان، والله لا تكون مؤمنا حقا مستكمل الإيمان حتى تؤدي ما افترض الله

_ (1) من المتعذر تمييز كلام الفضيل من كلام الإمام، ولهذا أوردتهما معا بدون فصل.

عليك، وتجتنب ما حرم الله عليك، وترضى بما قسم الله لك، ثم تخاف مع هذا ألا يقبل الله منك. ووصف فضيل الإيمان بأنه قول وعمل. وقرأ: «وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة» فقد سمى الله دينا قيمة (1) بالقول والعمل. فالقول: الإقرار بالتوحيد والشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالبلاغ. والعمل: أداء الفرائض واجتناب المحارم. وقرأ: «واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا * وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا» وقال: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه» . فالدين: التصديق بالعمل كما وصفه الله، وكما أمر أنبياءه ورسله بإقامته، والتفرق فيه: ترك العمل والتفريق بين القول والعمل. قال الله عز وجل: «فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين» . فالتوبة من الشرك جعلها الله قولا وعملا بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. وقال أصحاب الرأي: ليس الصلاة ولا الزكاة ولا شيء من الفرائض من الإيمان، افتراء على الله وخلافا لكتابه وسنة نبيه، ولو كان القول كما يقولون لم يقاتل أبو بكر أهل الردة. وقال فضيل: يقول أهل البدع: الإيمان الإقرار بلا عمل، والإيمان واحد وإنما يتفاضل الناس بالأعمال ولا يتفاضلون بالإيمان. فمن قال ذلك فقد خالف الأثر ورد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان".

_ (1) كذا بالأصل.

وتفسير من يقول: الإيمان لا يتفاضل، يقول: إن فرائض الله ليست من الإيمان. فميز أهل البدع العمل من الإيمان، وقالوا: إن فرائض الله ليست من الإيمان، ومن قال ذلك فقد أعظم الفرية، أخاف أن يكون جاحدا للفرائض رادا على الله أمره. ويقول أهل السنة: إن الله قرن العمل بالإيمان، وأن فرائض الله من الإيمان، قالوا: «والذين آمنوا وعملوا الصالحات» موصول العمل بالإيمان. ويقول أهل الإرجاء: لا، ولكنه مقطوع غير موصول. وقال أهل السنة: «ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن» فهذا موصول، وأهل الإرجاء يقولون: بل هو مقطوع. وقال أهل السنة: «ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن» فهذا موصول. وكل شيء في القرآن من أشباه هذا فأهل السنة يقولون: هو موصول مجتمع (1) ، وأهل الإرجاء يقولون: بل هو مقطوع متفرق. ولو كان الأمر كما يقولون لكان من عصى وارتكب المعاصي والمحارم لم يكن عليه سبيل، فكان إقراره يكفيه من العمل، فما أسوأ هذا من قول وأقبحه فإنا لله وإنا إليه راجعون. (فيه دليل على أن هذا لازم قولهم لا أنه قولهم، فليبحث عن دليل آخر) . وقال فضيل: أصل الإيمان عندنا وفرعه - بعد الشهادة والتوحيد، والشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالبلاغ، وبعد أداء الفرائض - صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وترك الخيانة، والوفاء بالعهد، وصلة الرحم، والنصيحة لجميع المسلمين، والرحمة للناس عامة. قيل له - يعني فضيلا -: هذا من رأيك تقوله أو سمعته؟ قال: بل سمعناه وتعلمناه، ولو لم آخذه من أهل الفقه والفضل لم أتكلم به. وقال فضيل: يقول أهل الإرجاء: الإيمان قول بلا عمل، ويقول الجهمية: الإيمان المعرفة بلا قول ولا عمل، ويقول أهل السنة: الإيمان المعرفة والقول والعمل، فمن قال: الإيمان قول وعمل، فقد أخذ بالوثيقة، ومن قال: الإيمان قول بلا عمل؛ فقد خاطر، لأنه لا يدري أيقبل إقراره أو يرد عليه بذنوبه. وقال - يعني فضيلا - قد بينت لك، إلا أن تكون أعمى.

_ (1) أي حقيقة مركبة جامعة للأمرين كما سيأتي في مبحث الحقيقة المركبة (الباب الخامس) .

وقال فضيل: لو قال رجل: مؤمن أنت؟ ما كلمته ما عشت! وقال: إذا قلت: آمنت بالله فهو يجزيك من أن تقول: أنا مؤمن، وإذا قلت: أنا مؤمن لا يجزيك من أن تقول: آمنت بالله؛ لأن آمنت بالله أمر، قال الله: «قولوا آمنا بالله» الآية، وقولك: أنا مؤمن تكلف لا يضرك ألا تقوله، ولا بأس إن قلته على وجه الإقرار، وأكرهه على وجه التزكية. وقال فضيل: سمعت سفيان الثوري يقول: من صلى إلى هذه القبلة فهو عندنا مؤمن، والناس عندنا مؤمنون بالإقرار والمواريث والمناكحة والحدود والذبائح والنسك، ولهم ذنوب وخطايا، الله حسيبهم، إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، ولا ندري ما لهم عند الله. قال الفضيل: سمعت المغيرة الضبي يقول: من شك في دينه فهو كافر، وأنا مؤمن إن شاء الله. قال فضيل: الاستثناء ليس بشك. وقال فضيل: المرجئة كلما سمعوا حديثا فيه تخويف قالوا: هذا تهديد، وإن المؤمن يخاف تهديد الله وتحذيره وتخويفه ووعيده، ويرجو وعده، وإن المنافق لا يخاف تهديد الله ولا تحذيره ولا تخويفه ولا وعيده ولا يرجو وعده. وقال فضيل: الأعمال تحبط الأعمال، والأعمال تحول دون الأعمال" (1) .

_ (1) كتاب السنة ص 374 - 377 بتحقيق الأخ الدكتور محمد بن سعيد القحطاني.

المبحث الأول: ما في ظاهر ألفاظ بعض السلف من اختلاف عما نقلنا وجوابه

ويتعلق بهذا مباحث مهمة: المبحث الأول: ما في ظاهر ألفاظ بعض السلف من اختلاف عما نقلنا وجوابه سبقت الإشارة إلى أن بعض السلف عبروا عن المعنى الواحد المجمع عليه بينهم بعبارات مختلفة، ولما كان ظاهر بعض هذه العبارات قد يفهم منه مخالفته للعبارة المختارة المنقولة عن الأكثر وهي: "قول وعمل يزيد وينقص"، فإنه يحسن بنا إيضاح المسألة ورفع هذا الاحتمال، فنقول: قد نقلت كتب السنة - المذكور أكثرها قريباً - مثل كتاب الخلال والسنة لعبد الله بن الإمام أحمد واللالكائي والآجري وابن بطة والطبري - أقوالاً من هذا القبيل عن بعض السلف - كسفيان والأوزاعي ونحوهم، وبعضها عن المتقدمين من الصحابة والتابعين. ومدار هذه الأقوال على وجوه: 1 - من عرف الإيمان ببعض خصاله، كمن قال: الإيمان هو الصبر واليقين. أو الإيمان هو الصبر والشكر ونحوها، ومعلوم أن هؤلاء لم يقصدوا حقيقة التعريف الاصطلاحي، وإنما قصدوا بيان أهمية هذه الخصلة، وقد ورد نحو ذلك في أحاديث مرفوعة يأتي بعضها في مبحث أعمال القلوب. 2 - من زاد في التعريف زيادة قد يحسبها الناظر ركناً أو قيداً لا يتم التعريف إلا به، وأكثر ما ورد من ذلك زيادة بعضهم لفظ (النية) فقالوا: "هو قول وعمل ونية" ومنهم من زاد عليها: "موافقة السنة". ومن الواضح أن هذه الزيادات لم يقصد بها أن الكلمة المتواتر نقلها: "قول وعمل" ناقصة فاستدركوا على قائليها بهذا الزيادة، وإنما قصدوا التنبيه على صحة النية وموافقة السنة، مع دخولها في أعمال القلب والجوارح التي تشملها جميعاً كلمة "قول وعمل" على ما سيأتي تفصيله في المبحث التالي.

وإنما لم يذكرها الأكثرون لأنها شرط لصحة كل عمل شرعي بلا استثناء، فلا حاجة لذكرها في كل تعريف، وأيضاً فإن العبارة هي أشبه بالحد العقلي، والحدود لا تذكر فيها الشروط وإنما تذكر الأركان. ومما يوضح ذلك أن الإمام أحمد رحمه الله قال هو أيضاً: "الإيمان قول وعمل ونية صادقة" لكن لما سأله بعض تلاميذه: هل لا بد من النية؟ وهو سؤال يشعر بأن من لم يذكرها قد أخل بالمراد - قال الإمام: "النية متقدمة" (1) ، أي فمن لم يذكرها فلبداهتها، ومن ذكرها فلأهميتها، ففي كلام الإمام هذا إشارة لسبب ترك أكثر السلف، وهو أيضاً في أكثر كلامه (2) . 3 - من عبّر بألفاظ أخرى قد يفهم منها أنها تخالف تلك الكلمة أو استدراك عليها وأشهر هذه الألفاظ قول من قال منهم: "هو اعتقاد بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان" وهذه العبارة شاعت عند المتأخرين من أهل السنة، والظاهر أنهم اختاروها احترازاً من الفهم الخطأ الذي فهمه المبتدعة - وغيرهم - من قول السلف: "قول وعمل" حيث فهموا أن القول خاص باللسان، والعمل خاص بالجوارح، فكأن السلف غفلوا عن الإيمان القلبي. وهذا من أسوأ الفهم، ولهذا اقتضى الأمر تبيين معنى كلام السلف على النحو الآتي في المبحث الثاني. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " ... ومن هذا الباب أقوال السلف وأئمة السنة في تفسير الإيمان، فتارة يقولون: هو قول وعمل ونية، وتارة يقولون: هو قول وعمل ونية واتباع سنة، وتارة يقولون: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح. قال: وكل هذا صحيح، فإذا قالوا: قول وعمل، فإنه يدخل في القول قول القلب واللسان، وهذا هو المفهوم من لفظ القول والكلام ونحو ذلك إذا أطلق ... " وذكر اختلاف الأقوال في مسمى الكلام، ثم قال: "والمقصود هنا أن من قال من السلف: الإيمان قول وعمل، أراد قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح.

_ (1) الخلال، لوحة 98 ب. (2) مثلما في لوحة 99 وغيرها.

ومن أراد الاعتقاد، رأى أن لفظ القول لا يفهم منه إلا القول الظاهر، أو خاف ذلك فزاد الاعتقاد بالقلب. ومن قال: قول وعمل ونية، قال: القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان وأمّا العمل فقد لا يفهم منه النيّة فزاد ذلك. ومن زاد اتباع السنة، فلأن ذلك كله لا يكون محبوباً لله إلا باتباع السنة. وأولئك لم يريدوا كل قول وعمل، إنما أرادوا ما كان مشروعاً من الأقوال والأعمال، ولكن كان مقصودهم الرد على المرجئة الذين جعلوه قولاً فقط، فقالوا: بل هو قول وعمل. "والذين جعلوه أربعة أقسام فسروا مراده، كما سئل سهل بن عبد الله التستري (1) عن الإيمان ما هو فقال: قول وعمل ونية وسنة، لأن الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كفر، وإذا كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق، وإذا كان قولاً وعملاً ونية بلا سنة فهو بدعة" (2) . من وضع بدل كلمة: "قول" كلمة: "إقرار" أو "تصديق وعمل"، أو نحو ذلك، وهذا أيضاً مما أساء المرجئة فهمه وتأولوه على مذهبهم، مع أن السلف لم يقصدوا المغايرة بين القول والإقرار، أو القول والتصديق، كما أن معنى الإقرار والتصديق عندهم يختلف عما قررته المرجئة وعلى ما يأتي تفصيله في المبحث الثاني، وما أكثر ما ضل المبتدعة بسبب عدم أخذ معاني اصطلاحات السلف من مصادرهم وكلامهم.

_ (1) هذه الأقسام منقولة عمن هو أقدم من سهل وأفضل، كالأوزاعي انظر: الإيمان280، والشافعي الإيمان 197. وإنما ميزة كلام سهل أنه فسر، وسهل من قدماء المتصوفة الذين كانوا في الأسماء والصفات على مذهب السلف. (2) الإيمان 162- 163

المبحث الثاني: معنى قول السلف: الإيمان قول وعمل

المبحث الثاني: معنى قول السلف: الإيمان قول وعمل من الواضح لكل ذي عقل سليم أن معنى قول السلف: "الإيمان قول وعمل" هو أنه التزام وتنفيذ وإقرار واعتقاد وطاعة - بالقلب واللسان والجوارح - ولكن المرجئة باستخدامهم المتكلف لمنطق اليونان والفلسفة الأعجمية العجماء - فهموا أن هذه العبارة حد منطقي غير جامع ولا مانع، إذ لم يفهموا إلا أن القول هو ألفاظ اللسان والعمل حركات الجوارح، فاعترضوا على قول السلف - من هذا الوجه - بأنهم أهملوا إيمان القلب! وتبعهم في هذا بعض المتأخرين ممن تأثر بمنطق هؤلاء ومنهجهم في التفكير. وبعضهم ذهب به الخبث إلى التحايل على العبارة نفسها، فقالوا: صحيح أن الإيمان قول وعمل، ولكن من قال بلسانه: لا إله إلا الله - فقد عمل (1) ، أما عمل الجوارح فليس من الإيمان فأخرجوا عبارة السلف عن معناها البدهي الفطري إلى هذا المعنى السقيم الساقط. ولهذا اقتضى الأمر إيضاح معنى كلام السلف بشيء من التفصيل، فنقول: إن الإيمان عند السلف حقيقة شرعية في غاية الوضوح، فهي ترادف وتساوي كلمة "الدين" حتى إن كثيراً منهم كان نص عبارته: "الدين قول وعمل"، وليس في معنى الدين خفاء يحتاج معه أي مسلم إلى تكلفات منطقية وسفسطة كلامية، بل لم يكن هنالك حاجة إلى تعريفه أو بيان معناه أصلاً، وكيف يعرفون أمراً يعيشونه ويعملونه ويقرؤون حقائقه كل حين. فلما ابتدعت المرجئة قولها: إن الإيمان "قول" فقط - متأثرة بالمنطق الغريب عن الإسلام والفطرة واللغة - أكذبَهم السلف وردوا دعواهم قائلين: بل هو قول وعمل، فمن ها هنا نشأت العبارة. فلا المرجئة الذين ابتدعوا ذلك - أول مرة - أرادوا

_ (1) انظر الخلال لوحة 106، ذكره الإمام أحمد عن شبابة بن سوار، وقال: إنه قول خبيث ما بلغه عن غيره، وانظر ترجمة شبابة في تهذيب الكمال.

ألفاظ اللسان المجردة عن إيمان القلب، ولا السلف الذين ردوا عليهم أرادوا ألفاظ اللسان وحركات الجوارح مجردة عن عمل إيمان القلب أيضا. ولكن المعركة الجدلية المستمرة ودافع الهوى والشبهة وترك منطق الفطرة والبديهة إلى منطق اليونان؛ كل ذلك جعل المرجئة يتحايلون على الألفاظ ويماحكون في المعاني لتصحيح نظريتهم. والحاصل أن أعمال القلوب لم تكن موضع نزاع بين السلف وأصناف المرجئة المتقدمين، إلا فرقة شاذة هي فرقة الجهم بن صفوان ومن وافقه كالصالحي، وهي فرقة كفرها السلف بهذا وبمقالاتها الأخرى في الصفات والقدر، كما سنفصل الحديث عنها ضمن فرق المرجئة. وإنما أصبحت أعمال القلوب محل نزاع كبير بعد أن تبنى الأشاعرة مذهب جهم في الإيمان، وحصروه في عمل قلبي واحد وهو التصديق، ومال إليهم الماتريدية الذين كان أصل مذهبهم على إرجاء المتقدمين (الحنفية) ، فحينئذ بعدت الشقة وعظمت الظاهرة (1) حتى آل الأمر إلى أن تصبح عقيدة الإرجاء الجهمي هي عقيدة عامة الأمة في القرون الأخرى، وهذا ما سيأتي بسط الحديث عنه بإذن الله في الباب الخاص بالظاهرة وانتشارها. وهذا ما استدعى علماء السنة في عصر انتشار الظاهرة إلى إيضاح معنى قول السلف وبسط القول في أعمال القلوب وأهميتها، وهذا ما نفعله هنا نقلاً عنهم وإيضاحاً لكلامهم: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "أجمع السلف أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ومعنى ذلك أنه قول القلب وعمل القلب، ثم قول اللسان وعمل الجوارح. فأما قول القلب فهو التصديق الجازم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويدخل فيه الإيمان بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم الناس في هذا على أقسام: أ - منهم من صدق به جملة ولم يعرف التفصيل. ب - ومنهم من صدق جملةً وتفصيلاً.

_ (1) انظر الإيمان الأوسط 543- 550، والفتاوى (7/582) ، وانظر هنا: مبحث ترك العمل في الطور النهائي للظاهرة.

ج - ثم منهم من يدوم استحضاره وذكره لهذا التصديق (مجملاً أو مفصلاً) ، ومنهم من يغفل عنه ويذهل، ومنهم من استبصر فيه بما قذف الله في قلبه من النور والإيمان، ومنهم من جزم به لدليل قد تعترض فيه شبهة، أو تقليد جازم. قال: وهذا التصديق يتبعه عمل القلب، وهو حب الله ورسوله وتعظيم الله ورسوله وتعزير الله ورسوله وتوقيره، وخشية الله والإنابة إليه والإخلاص له والتوكل عليه، إلى غير ذلك من الأحوال. فهذه الأعمال القلبية كلها من الإيمان، وهي مما يوجبها التصديق والاعتقاد إيجاب العلة المعلول. ويتبع الاعتقاد قول اللسان، ويتبع عمل القلب (عمل) الجوارح من الصلاة والزكاة والصوم والحج ونحو ذلك" (1) وقال بعد أن نقل عبارات السلف المذكورة في الفصل السابق: "وليس بين هذه العبارات اختلاف معنوي، ولكن القول المطلق والعمل المطلق في كلام السلف يتناول قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، فقول اللسان بدون اعتقاد القلب هو قول المنافقين، وهذا لا يسمى قولاً إلا بالتقييد كقوله تعالى: «يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم» . (2) وكذلك عمل الجوارح بدون أعمال القلوب هي من أعمال المنافقين التي لا يتقبلها الله. فقول السلف يتضمن القول والعمل الباطن والظاهر". قال: "وكذلك قول من قال: اعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح، جعل القول والعمل اسماً لما يظهر، فاحتاج أن يضم إلى ذلك اعتقاد القلب. ولا بد أن يدخل في قوله: "اعتقاد القلب" أعمال القلب المقارنة لتصديقه، مثل: حب الله وخشية الله والتوكل على الله ونحو ذلك.

_ (1) مجموع الفتاوى (7/672) (2) لأن الأصل فيمن قال بلسانه شيئاً أنه يكون صادقاً في التعبير عما في قلبه، وفي هذا احتراز من مذهبي الجهمية والكرامية، فالأولى جعلت الإيمان في القلب وإن خالفه اللسان، والأخرى جعلته باللسان وإن خالفه القلب.

فإن دخول أعمال القلب في الإيمان أولى من دخول أعمال الجوارح بإتفاق الطوائف كلها" (1) وقد سبق ضمن كلامه الشبيه بهذا - في الفصل السابق - قوله" إن من قال من السلف: الإيمان قول وعمل، أراد قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح". وقوله: "فإذا قالوا: قول وعمل، فإنه يدخل في القول قول القلب واللسان جميعاً" وعند هذه العبارة علق المحقق بقوله:"وعلى هامش النسخة الهندية: وقول القلب هو إقراره ومعرفته وتصديقه، وعمله هو انقياده لما صدق به" ويقول الإمام ابن القيم: "إن الإيمان قول وعمل، والقول قول القلب واللسان، والعمل عمل القلب والجوارح، وبيان ذلك أن من عرف الله بقبله ولم يقر بلسانه لم يكن مؤمناً كما قال عن قوم فرعون: «وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم» (2) . وكما قال عن قوم عاد وقوم صالح: «وعاداً وثمودا وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين» . وقال موسى لفرعون: «قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر» فهؤلاء حصلوا قول القلب - وهو المعرفة والعلم، ولم يكونوا بذلك مؤمنين، وكذلك من قال بلسانه ما ليس في قلبه لم يكن بذلك مؤمناً، بل كان من المنافقين. وكذلك من عرف بقلبه وأقر بلسانه لم يكن بمجرد ذلك مؤمناً حتى يأتي بعمل القلب من الحب والبغض والموالاة والمعاداة، فيحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ويوالي أولياء الله ويعادي أعداءه، ويستسلم بقلبه لله وحده وينقاد لمتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم وطاعته والتزام

_ (1) الإيمان الأوسط (7/506) (2) في التعبير بالنفس لفتة عجيبة، فإن يقين النفس تصديق ومعرفة، أما يقين القلب فهو اليقين.

شريعته ظاهراً وباطناً. وإذا فعل ذلك لم يكف في كمال إيمانه (1) حتى يفعل ما أمر به، فهذه الأركان الأربعة هي أركان الإيمان التي قام عليها بناؤه" (2) . والحاصل أن السلف وعلماء أهل السنة والجماعة في كل عصر إنما يستخدمون في منهج التفكير المنطق الفطري البدهي الذي ينقسم عمل الإنسان بحسبه قسمين: "ظاهر وباطن". فالباطن: قول القلب وعمله، والظاهر: قول اللسان وعمل الجوارح (3) فعلى هذا قالوا: الإيمان قول وعمل، أي شامل للظاهر والباطن، لا سيما إذا ضممنا إلى ذلك ما هو معروف - بداهة وفطرة - من أن حقيقة الإنسان قسمان: "قلب وأعضاء"، وأعماله قسمان: "أقوال وأفعال"، فيكون أشمل عبارة أن يقال "قول وعمل بالقلب والأعضاء"، وهذا هو مراد السلف قطعاً، وإنما اكتفوا عن آخر القصد إلى المطلوب بإيجاز دون العروج على ما هو معلوم بداهة. وبهذا يظهر أن عبارة "قول وعمل" على إيجازها جامعة مانعة، لا من جهة أنها حد منطقي - أي تعريف للماهية - ولكن من جهة أنها كشف عن الحقيقة وبيان لها. ولذلك فإنني - بعد طول تأمل - أختار هذه العبارة وأفضلها على عبارة: "اعتقاد بالجنان وقول باللسان، وعمل بالأركان" ونحوها، على أن تشرح بما أوضحنا آنفاً. ومن أسباب الاختيار: 1 - أنها المنقولة عن متقدمي السلف، مع إيجازها وشمولها. 2 - أن العبارة الأخرى لا تسلم أيضاً من الفهم الخطأ.

_ (1) أي الكمال الواجب الذي لا تكون حقيقة الإيمان إلا به وبدونه لا تكون للإيمان حقيقة، بدليل أنه جعله ركناً والركن يلزم من عدمه عدم الماهية. (2) عدة الصابرين ص 129 (3) يقول ابن القيم "الإيمان له ظاهر وباطن، وظاهره: قول اللسان وعمل الجوارح، وباطنه: تصديق القلب وانقياده ومحبته، فلا ينفع ظاهر لا باطن له، وإن حقن به الدماء وعصم به المال والذرية، ولا يجزئ باطن عن ظاهر له إلا إذا تعذر بعجز أو إكراه وخوف هلاك، فتخلف العمل ظاهراً مع عدم المانع دليل على فساد الباطن وخلوه من الإيمان، ونقصه دليل نقصه وقوته دليل قوته". الفوائد ص 85

فإن فهم بعض الناس - المرجئة وغيرهم - أن "قول وعمل" تعني قول اللسان وعمل الجوارح دون قول القلب وعمله أمر تنكره البديهة وترده، ولكن العبارة الأخرى توقع في لبس قل من يفطن له ولا يستطيع كل أحد رده، وهو أن هذه الثلاثة - أي الاعتقاد والقول والعمل - منفصلة بعضها عن بعض بمعنى أن الطاعات - التي هي فروع الإيمان وشعبه - على ثلاثة أقسام: قسم قلبي وقسم لساني وقسم عملي (1) ، وعلى هذا قد يفهم أنه يمكن أن يتحقق في الإنسان ركنان من ثلاثة بأن يتحقق لديه الاعتقاد والقول مع عدم العمل بالكلية، وهذا الذي جزم السلف باستحالة وقوعه. وبيان ذلك يتضح من خلال تأمل كلام أحد علماء السنة المحققين - وهو الحافظ ابن حجر رحمه الله، وهو من هو علماً وفهماً وإحاطة بأقوال السلف، فانظر إليه حين يقول - شرحاً لترجمة البخاري (وهو قول وفعل يزيد وينقص) : "فأما القول فالمراد به النطق بالشهادتين، وأما العمل فالمراد به ما هو أعم من عمل القلب والجوارح ليدخل الاعتقادات والعبادات. ومراد من أدخل ذلك في تعريف الإيمان ومن نفاه إنما هو بالنظر إلى ما عند الله تعالى. فالسلف قالوا: هو اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان، وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله، ومن هنا نشأ لهم القول بالزيادة والنقص كما سيأتي. والمرجئة قالوا: هو اعتقاد ونطق فقط. والكرامية قالوا: هو نطق فقط. والمعتزلة قالوا: هو العمل والنطق والاعتقاد. والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطاً في صحته، والسلف جعلوها شرطاً في كماله. وهذا كله كما قلنا بالنظر إلى ما عند الله تعالى، أما بالنظر إلى ما عندنا فالإيمان هو الإقرار فقط، فمن أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا ولم يحكم بكفره إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره كالسجود للصنم.. " الخ فقارئ كلامه يفهم منه التناقض بين تعريفي السلف في موضوع العمل، فإنه في التعريف الأول: "قول وعمل" يعتبر ركناً، في حين أنه حسب التعريف الأخير:

_ (1) أي: وليس هناك تلازم حتمي بينها، وسنوضح إن شاء الله أن الإيمان حقيقته مركبة من هذه جميعاً في مبحث مستقل آخر الرسالة، وهذا الانفصال إنما قال به بعض المرجئة، فزعموا أن الإيمان جزء والفرائض جزء والنوافل جزء - كما نقل ذلك أبو عبيد - انظر الإيمان لابن تيمية ص 196

"اعتقاد وقول وعمل" ليس إلا شرط كمال فقط. ويفهم منه - كذلك - أن الفرق بين المرجئة والسلف أن السلف زادوا على تعريف المرجئة "العمل" وجعلوه شرط كمال، وعليه فمن ترك العمل بالكلية فهو عند المرجئة مؤمن كامل الإيمان، وعند السلف مؤمن تارك لشرط الكمال فحسب. ويمكن أن نفهم منه أيضاً أن تعريف المرجئة والمعتزلة أوجه من تعريف السلف، لأن المرجئة عرفوه بركنين والمعتزلة بثلاثة والسلف عرفوه - حسب فهمه - بركنين وشرط كمال، والتعريفات إنما تذكر الأركان لا الشروط، فضلا عن شروط الكمال. والأهم من هذا ما سبقت الإشارة إليه من توهم انفصال هذه الأجزاء الثلاثة، بحيث يتحقق الركنان: القول والاعتقاد مع انتفاء العمل بالكلية ولا يزيد صاحبه عن كونه ناقص الإيمان، مع أن السلف نصوا على أن تارك العمل بالكلية تارك لركن الإيمان، لأن انتفاء عمل الجوارح بالكلية لا يكون إلا مع انتفاء عمل القلب أيضاً، فلا يصح أن نقول إنه حقق اعتقاد القلب وترك عمل الجوارح. وسيأتي إيضاح لهذا في باب: "الحقيقة المركبة" الآتي آخر الرسالة، والمقصود هنا تفضيل العبارة المذكورة وبيان ما في الأخرى من إيهام لم يقصده قائلوها من السلف قطعاً، ولكن وقوعه لبعض المتأخرين يجعل عبارة الأكثرين هي الأولى بالأخذ والاتباع. معنى الإقرار والتصديق في كلام السلف: ورد عن بعض السلف تفسير الإيمان بالتصديق، أو وصف الإيمان بأنه تصديق وعمل، أو إقرار وتصديق، ونحو ذلك (1) ، ولما كانت المرجئة - وخاصة الأشاعرة - يفسرون الإيمان بأنه التصديق القلبي - على ما سنوضحه في بابه - وهم يعنون به مجرد التصديق الخبري الذهني، الذي هو نسبة الصدق إلى المخبر أو الخبر من غير إذعان ولا قبول، كما تقول لمن أخبرك إن وراء البحر قارة تسمى أمريكا: صدقت، أو من قال: "إن مساحة المربع = طول الضلع x نفسه": صدقت - لما

_ (1) منهم سعيد بن المسيب والإمام أحمد، وقد ورد مرفوعاً في إحدى روايات حديث أبي ذر الذي ذكر فيه آية «ليس البر أن تولوا وجوهكم» الآية، انظر الإيمان ص 279- 281،380

كانوا يرون ذلك ويعتقدونه، سرهم أن وجدوا في ظواهر بعض كلام السلف مثل تلك الألفاظ وأنزلوها على مذهبهم. ومن هنا وجب إيضاح معنى هذين اللفظين في استعمال السلف، فنقول: إن السلف الذين استعملوا هذين اللفظين لم يخرجوا عما ورد به الكتاب والسنة من معنى. 1 - فإن التصديق في الكتاب والسنة - بل وفي لغة العرب - ليس محصوراً في التصديق الخبري، وإنما ورد كذلك في التصديق العملي، أي تصديق الخبر بالامتثال والدعوى بالعمل، فهو بمعنى "التحقيق" ومنه قوله تعالى: «وناديناه أن يا إبراهيم، قد صدقت الرؤيا» [الصافات: 104- 105] أي قد امتثلت الأمر وحقيقته بإضجاعك ولدك وهمك بذبحه باستسلام وانقياد، فكأنه قد ذبحه فعلاً لأن المقصود هو عمل القلب وإسلام الوجه لله وإلا فالله غني عن ذلك، قال تعالى: «لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم» [الحج: 37] وقريب من ذلك قوله تعالى: «فمن أظلم ممن كَذَبَ على الله وكَذَّبَ بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوىً للكافرين، والذي جاء بالصدق وصدّق به أولئك هم المتقون» [الزمر: 32- 33] فإن أحد معانيها - وهو الأظهر - أن الصدق هو شهادة أن لا إله إلا الله - أي الإيمان - فهي التي كذب بها الكفار، ومن جاء بها من المؤمنين مصدقاً بها - أو مصدقاً بمحمد صلى الله عليه وسلم - فهو المتقي (1) . كما فسّر مجاهد الصدق بأنه: القرآن، والذي صدّق به: المؤمنون، قال: "أصحاب القرآن المؤمنون يجيئون يوم القيامة فيقولون: هذا ما أعطيتمونا فعملنا بما أمرتمونا". قال ابن كثير: "وهذا القول عن مجاهد يشمل كل المؤمنين، فإن المؤمن يقول الحق ويعمل به" (2) .

_ (1) انظر: ابن كثير (7/89- 90) وقد نقل تفسير الصدق بالشهادة عن ابن عباس. (2) ثم قال: " والرسول صلى الله عليه وسلم أولى الناس بالدخول في هذه الآية على هذا التفسير " أي: فلا منافاة بينه وبين قول من قال: إن الذي جاء بالصدق هو محمد صلى الله عليه وسلم والذي صدق به هم المؤمنون، لكن القول الأول أشمل وأظهر، راجع المصدر السابق.

ومنه قوله تعالى: «إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ» [الذاريات: 5] أي متحقق لا محالة. ومنه قوله تعالى: «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ» [الأحزاب: 23] أي وفوا به وحققوه عملاً. ومن ذلك آية «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» التي ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم فسّر الإيمان بها كما سبق، حيث قال تعالى في آخرها: «أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا» قال ابن جرير في تفسيرها: يعني تعالى ذكره بقوله «أولئك الذين صدقوا» من آمن بالله واليوم الآخر، ونعتهم النعت الذي نعتهم به في هذه الآية، يقول: فمن فعل هذه الأشياء، فهم الذين صدقوا الله في إيمانهم وحققوا قولهم بأفعالهم. ثم روى عن الربيع بن أنس أنه قال: "أولئك الذين صدقوا فتكلموا بكلام الإيمان، فكانت حقيقته: العمل، صدقوا الله". قال: وكان الحسن يقول: "هذا كلام الإيمان، وحقيقته: العمل، فإن لم يكن مع القول عمل فلا شيء". (1) وقال ابن كثير: "أي هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم، لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال فهؤلاء هم الذين صدقوا" (2) . وأما السنة: فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" (3) ودلالته على المراد ظاهرة. وأما كلام العرب فكثير، ومنه قول كثير عزة - وهو ممن يحتج بكلامه - يمدح أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز: وقلت فصدقت الذي قلت بالذي ... عملت فأضحى راضياً كل مسلم

_ (1) تفسير الطبري (2/101- 102) (2) التفسير (1/299) (3) البخاري (11/503،26)

وبهذا يتضح أن من قال من السلف: إن الإيمان "تصديق وعمل" فإنه يقصد التصديق الخبري المستلزم للإذعان والانقياد، فهي كعبارة: "قول وعمل" سواء. ومثل ذلك قول من قال: "إقرار وعمل". ومن قال منهم: الإيمان هو التصديق، فمراده التصديق العملي المتضمن للتصديق الخبري العلمي، وهو احتراز ممن يكذب بعمله ما يدعيه بلسانه. (1) فمن الخطأ أن يظن ظان أن مرادهم هو مجرد نسبة الصدق إلى المخبر أو ما أشبهه كالمعرفة المجردة أو العلم المجرد. وأما الإقرار فكذلك، حيث ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى: «وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمةٍ ثم جاءكم رسولٌ مصدقٌ لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين» [آل عمران: 81] وقد سبق القول بأن من أسباب ضلال المرجئة - وسائر الفرق - أنهم يرجعون في تفسير الحقائق الشرعية إلى كلام الناس - المحتج بهم وغيرهم - كاستدلالهم على أن الإيمان هو التصديق بأن الناس يقولون: "فلان مؤمن بالبعث أي يصدق" (2) . وكذلك قولهم في الإقرار - حيث حسبوا أن المراد به في كلام المتقدمين - هو المعروف في كتب الفقه في أبواب "الإقرار والخصومات"، والذي يعني الاعتراف أو تصديق دعوى الخصم. ولو أنهم رجعوا إلى الكتاب والسنة لوجدوا الأمر بخلاف ذلك، فإن لفظ الإقرار في هذه الآية يعني إنشاء الالتزام والإذعان، ولهذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية إن الإقرار على وجهين:

_ (1) ولهذا ورد في مواضع من القرآن - كما في التوبة والعنكبوت والأحزاب - تقسيم أهل الإيمان قسمين: منافقين وصادقين (2) وهذا دليل الباقلاني إمام الأشعرية. انظر: الإنصاف ص23. وسيأتي تفصيل كلامهم والرد عليهم

أحدهما: الإخبار: وهو من هذا الوجه كلفظ التصديق والشهادة ونحوها، وهذا معنى الإقرار الذي يذكره الفقهاء في كتاب الإقرار. والثاني: إنشاء الالتزام: كما في قوله تعالى: «ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين» ، وليس هو هنا بمعنى الخبر المجرد فإنه سبحانه قال: «وإذ أخذ الله مثياق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري» فهذا الالتزام للإيمان والنصر للرسول صلى الله عليه وسلم.." (1) . فالإقرار بالمعنى الأول يقابل الإنكار والجحود، وكفر إباء وامتناع ككفر إبليس. وبهذا يظهر ضلال المرجئة في فهم ألفاظ النصوص ومصطلحات السلف، وإلا فلو رجعوا للكتاب والسنة وعرفوا معنى الإقرار والتصديق فيهما ثم فسروا الإيمان بهما على الوجه الصحيح لما كان الخلاف بينهم وبين أهل السنة إلا لفظيا واختلاف الألفاظ وقع بين السلف كما سبق، ولكن ألفاظ المرجئة في الحقيقة إنما هي نتيجة لمنهجهم البدعي في التفكير والاستنباط والاستدلال.

_ (1) الفتاوى (7/530- 531) . ومثله بتوسع: الإيمان (379- 380) . وقد بين في الصارم المسلول حقيقة الإقرار واستلزامه للانقياد، ولعلنا نذكره في مبحث التولي عن الطاعة في الباب الخامس، وليراجع هنا لأهميته من ص518- 522 تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، ط بيروت.

الباب الثاني: نشأة الإرجاء

الباب الثاني: نشأة الإرجاء ويشتمل على: • براءة الصحابة رضي الله عنهم من الإرجاء ذاتا وموضوعا • الإرجاء خارج مذهب الخوارج

الفتنة الأولى

نشأة الإرجاء الفتنة الأولى روى الإمام مسلم في "صحيحه" عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: (كنا عند عمر فقال: أيكم يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة كما قال؟ قال: فقلت:أنا! قال: إنك لجريء، وكيف قال؟ قال: قلت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره، يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". فقال عمر: ليس هذا أريد. إنما أريد التي تموج كموج البحر! قال: فقلت: مالك ولها يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها باباً مغلقاً! قال: أفيكسر الباب أم يفتح؟ قال: لا. بل يكسر! قال: ذلك أحرى ألا يغلق أبداً. قال: فقلنا لحذيفة: هل كان عمر يعلم من الباب؟ قال: نعم، كما يعلم أن دون غد الليلة، إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط. ... قال - أي الراوي عن حذيفة وهو شقيق -: فهبنا أن نسأل حذيفة من الباب، فقلنا لمسروق فسأله، فقال: عمر) (1) . أما كيف كسر الباب فقد استفاض في كتب التواريخ وروي بأسانيد متضافرة أن "الهرمزان" الفارسي المجوسي وجفينة النصراني الصليبي قد تآمرا على حياة

_ (1) كتاب الفتن وأشراط الساعة (2/17) النووي، المطبعة المصرية ومكتبتها.

الفاروق (1) ، ونفذ أبو لؤلؤة - عليه من الله ما يستحق - تلك المؤامرة الدهياء. وانكسر الباب. ولم يقف التآمر الصليبي المجوسي عند هذا الحد، فقد انضم إليهما شر الثلاثة "المكر اليهودي" ممثلاً في عبد الله بن سبأ وخلاياه السرية، فأضرمت نار فتنة هوجاء ذهب ضحيتها الخليفة المظلوم ذو النورين عثمان رضي الله عنه ثم تتابعت الفتن كقطع الليل المظلم وما تزال (2) . كان مقتل ذي النورين فاجعة كبرى، ليس لأن الأمة فقدت خليفتها وأفضلها بعد النبي صلى الله عليه وسلم والصاحبين فحسب، ولكن - أيضاً - لأن هذه الأمة المباركة المصطفاة «خير أمة أخرجت للناس» بدأت تتزحزح عن قمتها الشاهقة التي لم تبلغها قبلها أمة من الأمم. لقد كان ذلك إيذانا بانقضاء عصر ما كان التاريخ ليحلم بمثله ولا في خيال الحكماء، عصر الجماعة الإنسانية الفذة التي تعيش كالملائكة المطمئنين في الأرض. ولا شك أن لله تعالى حكماً بالغة جرت بها مقاديره - له الحمد عليها علمناها أم جهلناها - تحولت هذه الجماعة بمقتضاها من بركان إيماني يعصف بدول الكفر ذات اليمين وذات الشمال إلى أطراف في فتنة داخلية عمياء. ومع أن الاصطفاء الرباني لهذه الأمة تجلى حتى في هذا الموقف الحالك فأثبتت أنها أفضل الأمم خصومة - كما هي أسماها وفاقاً - فقد كانت دسائس الحاقدين ومعاول الهدامين توسع الشقة وتنكأ الجراح وتتلاعب بمشاعر الدهماء مستغلة ما أحدثته الفاجعة من اضطراب وارتباك. وانفض المأتم العظيم عن آراء متضاربة ووجهات متباينة:

_ (1) انظر ترجمة عبيد الله بن عمر ابن الخطاب في "الإصابة" و"الطبقات"، والسند متصل إلى سيد التابعين سعيد ابن المسيب، قال عنه الحافظ:"رواه الكرابيسي في أدب القضاء بإسناد جيد" أي عن سعيد. (2) يجب التنبه هنا إلى عدم المبالغة في تقدير دور المؤامرة الشريرة على الإسلام، وإلقاء كل مصائب الأمة عليها، لكن بخصوص الصحابة رضي الله عنهم فمن تكريم الله لهم أن أصل الفتنة لم يكن منهم ولا بسببهم، وأنهم استطاعوا اجتياز أصعب وأحلك مواقفها دون أن يفقدوا شيئا من الخصائص الباهرة التي اكتسبوها من التربية النبوية، ثم ما كادت الجماعة تعود حتى استأنفوا مسيرتهم الضخمة في نشر الإسلام علما وجهادا، مما فرض على أفاعي المؤامرة الكمون في جحورهم حتى أتيحت لهم فرصة أخرى كان الصحابة رضي الله عنهم أو أغلبهم حينها قد لقوا ربهم، ومع ذلك استمرت مسيرة الإسلام الكبرى. نعم ظلت تتصدع ولكنها لم تسقط إلا بعد قرون، ولأسباب ليست خاصة بالمؤامرة ولا من صنعها وحدها، على أن وعد الله سيتحقق وتعود من جديد ولو بعد حين.

1 - فقد رأت طائفة أن أول واجب على الأمة هو الثأر لخليفتها الشهيد والقصاص من الخونة السفاحين! 2 - ورأى آخرون أن أول ما ينبغي هو اجتماع الكلمة واستتباب الأمور والتجلد حتى تتكشف ذيول المؤامرة ثم يكون استئصال شأفتها وقطع دابر دواعيها. 3 - ورأت طائفة ثالثة أن الخليفة المظلوم لم يتحمل ذلك الحصار الآثم وينه أتباعه المؤمنين عن فكه إلا حرصاً على ألاتراق قطرة دم أو تثور أدنى فتنة بين أمة الإسلام، فالأولى بمن بعده جميعاً ألا يحركوا ساكناً وألا يكونوا طرفاً في أي نزاع - مهما بدت وجاهته - بل إن بعض من يرى هذا الرأي قد خرج من المدينة منذ أن أطلت الفتنة برأسها، وآثروا الابتعاد حتى تسكن العاصفة (1) . وكان في ثغور الجهاد وأطراف البلاد فئات لم تعلم عن سير الأمور شيئاً، فلما صدمتها الفاجعة أذهلها الألم عن التفكير، ووقاها بعد الشقة شر الخوض في الفتنة. 4 - ونبتت فئة أخرى من أحداث الأسنان وضيقي الأفق الذين ترعرعوا في البداوة وولدوا من سلالة الأعراب ونشأوا على الجلافة فقالوا: إن نزول عثمان عن مرتبة الشيخين مبرر كاف لقتله، وإنه ما من إمام إلى قيام الساعة لا يسير سيرتهما إلا استوجب الخلع أو القتل (2) . أما الفئة الآثمة المتآمرة فقد عادت إلى أوكارها واندست في صفوف الأمة تستجمع قوتها وتخطط للمرحلة التالية مدفوعة بيقينها أن أي اجتماع للأمة فإنه سيتقاضى رؤوسها الفاجرة. (3) وأدرك بعض من شارك في الفتنة وخدع بمطلب المتآمرين صدق ما روي في الحديث:" عليكم بالجماعة، فإن ما تكرهونه في الجماعة خير مما تحمدونه في الفرقة" (4) .

_ (1) أصبحت هذه الآراء تمثل الأطراف الرئيسة فيما بعد وهي على الترتيب معاوية ومن معه وعلي ومن معه والممسكون عن الفتنة - رضي الله عن الجميع - وسيأتي تفصيل ذلك عما قليل. (2) وكان هؤلاء هم نواة الخوارج الذين قالوا فيما بعد: " إن جئتمونا بمثل عمر وإلا فلا" كما سيأتي. (3) وقد ظهرت آثار ذلك في احباط محاولة الصلح يوم الجمل، وتأسيس الفكر الشيعي السيء، ثم برزت بوضوح في فتنة كذاب ثقيف المختار ابن أبي عبيد. (4) سنده ضعيف، لكن له شواهد ولا شك أن معناه صحيح. انظر: مجمع الزوائد (5/222) .

فقد كان غاية ما نقموا على أمير المؤمنين عثمان أنه حمى الحمى، وأتم الصلاة في السفر بمكة، وآثر أقرباءه، وتوسع في الإنفاق من بيت المال والفيء (1) . فماذا كانت نتيجة الفتنة ومآل الأمة بعدها في الآجل والعاجل؟ لقد ثلم حمى الإسلام نفسه، وهدمت مساجد وثغور، وتولى الأمور من لا يساوي بالنسبة لأولئك الأقرباء شيئاً، وأصبح بيت المال بيت مال الملوك والسلاطين. وكان ما كان من أمور لا نملك معها إلا أن نقول: قدر الله وما شاء فعل. ولما كان الجانب الذي يهمنا الآن من هذه الفتنة هو ما يتعلق بظهور فكر المرجئة، فسوف نستعرض موقف الفئات التي كان لها أثر في نشأة الإرجاء إما على الحقيقة وإما على الادعاء. إن الإرجاء من حيث هو موقف نفسي يمكن أن يوجد في الفتنة العمياء وما تلاها، كما يمكن أن ينشأ في أي قضية مماثلة، فإن من سنن الاجتماع أن أي نزاع يشجر بين طائفتين قد يفرز فئة ثالثة محايدة - لأي سبب من أسباب الحياد - وهكذا وجد في عصر الفتنة الأولى وما تلاها أناس اتخذوا هذا الموقف "الحياد" في الجملة، ولكن شتان بين قوم وقوم،وإن كان موقفهما في الظاهر سواء. فقد كانت الفئة المحايدة حينئذ تنقسم في حقيقتها أقساماً، بعضها وافق عين الصواب، وبعضها حاد عن الجادة ووضع قدمه على طريق أوله الحياد وآخره الضلال، وذلك بحسب الدوافع الاعتقادية لموقف كل منهم. وأصل هذا التفاوت أن الموقف العام نفسه يعد فريداً في التاريخ، فليس هناك ما يمكن أن يشبهه من الخلافات الدينية أو السياسية في غير هذا الجيل المصطفى المختار. وذلك أن العادة في مثل هذه الخلافات أن الحياد ليس إلا موقفاً سلبياً يمليه توازن المصالح أو التردد والشك، ولكننا هنا أمام صورة فذة يكون فيها الحياد - إن أسميناه كذلك - هو الموقف الإيجابي الذي يحتل مركز "الأفضلية" بحكم النصوص، في حين يتقاسم الطرفان المتنازعان مركزي " الفاضل والمفضول".

_ (1) وهذه الأمور: إما أن الحق فيها معه رضي الله عنه صراحا، وإما أنها مسائل اجتهادية فليس اجتهاد غيره بأولى من اجتهاده - لا سيما وهو خليفة الأمة وطاعته ترفع الخلاف -، وإما أن يكون حاصل منه - غفر الله له - بعض التجاوز في شيء من هذه الأمور الفرعية، فماذا يساوي ذلك إلى جانب سابقته وفضله وعظيم قدره عند الله، وقد ارتكب حاطب ابن أبي بلتعة رضي الله عنه ما هو أكبر من ذلك بكثير، ومع هذا ثبت النص في عذره وعدم مؤاخذته بل ودخوله الجنة رأسا لأنه من أصحاب بدر، وأين حاطب من عثمان؟ انظر: العواصم من القواصم، ومنهاج السنة (3/173- 207)

وإذا كان طرفا النزاع هما أهل الشام وأهل العراق - وكلاً آتاه الله فضلاً - فإن الطائفة "الفضلى" هي تلك المجموعة من كبار الصحابة رضي الله عنهم الذين أمسكوا عن الفتنة ولم يكونوا يرون السيف بين المسلمين أصلاً (1) . وليس إمساكهم مجرد حياد سلبي (وهو ما ينطبق على موقف المرجئة فيما بعد) بل هو موقف إيجابي شرعي يستند على النصوص الثابتة، كما سنفصل بإذن الله. وهذه الحقيقة غابت عن أذهان بعض العلماء - لا سيما من فقهاء العراق (2) ومن تبعهم، وكذا بعض أصحاب الأهواء قديماً - ثم تلاهم من تلاهم من الحاقدين وجهلة الباحثين المحدثين، الذين زادوا بأن نسبوا الصحابة للإرجاء أو نسبوا المرجئة للصحابة. ولكن - للإنصاف - لا بد أن نذكر سبب خطأ أولئك العلماء - وهو سبب كثيراً ما يقع فيه الباحثون ألا وهو "التعميم"، ولو استخدمنا الاصطلاحات المنطقية لقلنا إن هؤلاء جعلوا "المحمول موضوعاً والموضوع محمولاً" فانقلبت القضية وكذبت. فإن قضية: إن "المرجئة ممسكون عن الفتنة" صادقة، فإذا أصبحت القضية "كل الممسكين عن الفتنة مرجئة" صارت كاذبة. ولذلك كان لزاماً علينا أن نفصل أقسام المحايدين لنرى أن هذا الحكم إنما ينصب على بعضهم لا على الجميع: 1 - الفئة الأولى: بعض كبار الصحابة وأجلائهم رضي الله عنهم مثل: سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وأبي هريرة، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، ومحمد بن مسلمة، وغيرهم.

_ (1) إن ترجيحنا لموقف الممسكين عن الفتنة وتفضيلهم لا يعني أن كل فرد منهم هو أفضل من كل فرد في معسكر الطائفتين - لا سيما وعلي أفضل الأمة كلها حينئذ - ولكن موقفهم هو أفضل المواقف، وقد يتخذ المفضول في قضية معينة موقفا أفضل من موقف الفاضل، وليس في الأمة يومها بعد علي أفضل من سعد ابن أبي وقاص وقد كان من الممسكين. انظر المبحث التالي لهذا. (2) يرى هؤلاء الفقهاء أن كون علي ومن معه هم الفئة العادلة يقتضي تخطئة وتأثيم الممسكين عن القتال معه، لأن الله أمر بقتال الباغية وهذا المذهب رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية، انظر: مجموع الفتاوى (4/449) ، ضمن فتواه عن الصحابة في أول الجزء 35 وقد استغلت الشيعة هذا المذهب، ثم غلت فيه حتى كفرت كل من لم يقاتل مع علي، ولكن الشيعة ليسوا ممن يعتد بخلافهم؛ لا في هذه المسألة ولا في غيرها ولله الحمد.

وقد آثرنا - إجلالاً منا لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتساباً في الذب عنهم - أن نفردهم بمبحث مستقل تال. 2 - الفئة الثانية: بعض سكان الأطراف والمرابطين على ثغور الجهاد، وهؤلاء كانوا يجالدون الأعداء ويفتحون الأمصار فما شعروا إلا والنبأ ينزل عليهم بمقتل أمير المؤمنين عثمان كالصاعقة، ثم فوجئوا بما تلاه من أحداث فما استطاعوا أن يستبينوا رأياً فيتبعوه أو يرجحوا طرفاً فيوالوه، فآثروا مسالمة الفريقين المتقاتلين والركون إلى حياد لا حيلة لهم في قبوله. وعن هؤلاء يقول الحافظ ابن عساكر: إنهم هم الشكاك الذين شكوا، وكانوا في المغازي، فلما قدموا المدينة بعد مقتل عثمان - وكان عهدهم بالناس وأمرهم واحد ليس بينهم اختلاف، فقالوا: تركناكم وأمركم واحد ليس بينكم اختلاف، وقدمنا عليكم وأنتم مختلفون. فبعضكم يقول: قتل عثمان مظلوماً وكان أولى بالعدل وأصحابه. وبعضكم يقول: كان علي أولى بالحق وأصحابه. كلهم ثقة وكلهم عندنا مصدق، فنحن لا نتبرأ منهما ولا نلعنهما ولا نشهد عليهما، ونرجئ أمرهما إلى الله حتى يكون هو الذي يحكم بينهما (1) . فهؤلاء إن صح إطلاق الإرجاء على موقفهم فهو إرجاء حيرة لا إرجاء فكرة، وهذه الحيرة خاصة بقضية الحكم على المختلفين بالخطأ أو الصواب، أما موالاتهم والإقرار بفضلهم وسابقتهم فلم يكن موضوع شك عندهم (2) . 3 - الفئة الثالثة: وهي فئة من ذلك الصنف البشري المحدود الإدراك الذي يضيق أفقه أو علمه عن تفهم الخلاف فتثور نفسه ساخطة على طرفيه حانقة عليهما دون تبصر في الدوافع أو تريث في الحكم، فمنهم فرقة أعلنت نقمتها وسخطها على كل الأطراف، وربما كان أصل ضجرها وحنقها أن المختلفين هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلم تكن صحبتهم دافعاً لالتماس العذر بل كانت - حسب فهمهم -

_ (1) تاريخ دمشق، النسخة التيمورية (20/577) ، وقد تعذر علي الاطلاع على هذه النسخة، ولذا نقلت النص عن د. نعمان القاضي، الفرق الإسلامية في الشعر الأموي ص263، كما ساقه أحمد أمين وغيره. (2) وإلى هؤلاء يتوجه كلام النووي في شرح مسلم وليس كما ظن رحمه الله أنه موقف كبار الصحابة، انظر (18/10)

مبرراً للعداء والبراء، إذ قالوا: كيف يختلفون ويتقاتلون وهم أصحاب رسول الله وأعلم الناس بالدين، والأصل أن يكونوا أكثر الأمة تمسكاً ووفاقاً ودعوة وجهاداً؟! إذن لقد انحرفوا عما كانوا عليه زمن النبي صلى الله عليه وسلم بلا شك ولا ريب، ومن ثم فلا حرمة لمن نكص على عقبيه ولا اعتبار لسابقته في الإسلام ما دامت هذه خاتمته!!! هذه الفكرة تبناها الفكر الخارجي الذي بلغ به حنقه على الأطراف جميعها إلى تدبير مؤامرة لاغتيال زعمائها "علي ومعاوية وعمر بن العاص" - رضي الله عن الجميع - على ما هو مشهور في التاريخ. وعلى رأي الملطي (1) رحمه الله - هذه الفئة هي أصل المعتزلة ولا يخفى ما بين المعتزلة والخوارج من تشابه لا سيما في حكم مرتكب الكبيرة. كما أن هذا هو أصل المذهب الذي يرى تخطئة وتفسيق أو تكفير كلا الطائفتين، وهو مذهب كثير من أهل الأهواء من المعتزلة والخوارج وبعض المتكلمين والمتفلسفين. وكان من هذه الفئة فرقة أقل غلواً وشططاً، فقالوا: ما حدث من الصحابة ما حدث وهم على الدرجة العليا من الفضل والعلم - إلا وفي الأمر ما لا نستطيع إدراكه ولا نأمن مغبة الحكم عليه، وإذا كنا عاجزين عن تصور حقيقة القضية ولم يكن بالإمكان ترجيح أحد طرفيها، فلنقف موقفاً وسطاً بين القول بأنهم على الحق - الذي يتنافى مع ما بدر منهم من خلاف واقتتال وبين القول بأنهم على الباطل - وهو ما يتنافى مع فضلهم وسابقتهم. وهذا الموقف - في رأيهم - هو أن نبرئ أنفسنا من الوقوف مع أحد منهم أو عليه، فنكل أمر الجميع إلى الله وهو الذي يتولى حسابهم أما نحن فلا نوالي أحداً منهم ولا نعاديه ولا نشهد له بحق ولا باطل.

_ (1) انظر التنبيه والرد ص 36، مع أنه يرى أن اعتزالهم إنما كان بعد مبايعة الحسن لمعاوية. ونحن نقول: إن بذرة الخوارج وضمنها الإرجاء وجدت منذ الاختلاف على عثمان رضي الله عنه ثم قتله، ولكنها برزت بعد صفين بوضوح كما سيأتي في مبحث: (الفتنة الثانية) .

ولم تستطع هذه الفرقة الأخيرة أن تتجرأ على تكفير الصحابة كحال نظيرتها الأولى، ورأوا أن الذي يتفق مع موقفهم، هو اعتقاد أن ما ارتكبوه - أي الصحابة - هو دون الشرك بالله تعالى، ومن ثم فهم داخلون تحت المشيئة. وهذه هي الطائفة التي يصح أن توصف بأنها أصل الإرجاء، سواء منه ما نشأ في أحضان الخوارج وهو الأعم الأغلب، أو ما كان آراء فردية ومواقف نفسية، مثلما ينسب إلى الحسن بن محمد ونحوه على ما سيأتي تفصيله في المباحث التالية.

براءة الصحابة رضي الله عنهم من الإرجاء ذاتا وموضوعا

براءة الصحابة رضي الله عنهم من الإرجاء ذاتا وموضوعا إن البحث في نشأة الفكر الإرجائي يستلزم منا بالضرورة أن ندحض بالحجج الصريحة ما ذهب إليه بعض الناس، من القول بأن أصل المرجئة هو تلك الطائفة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لم تخض فيما خاض فيه غيرها من الفتن، وفضلت الاعتزال والإمساك عن الدخول في تلك المأساة الكبرى. وهذا الزعم تبناه قديماً بعض رؤوس الضلالة من المتكلمين وأعداء الصحابة، كالرافضة والخوارج، ولكنه ظل قولاً مهلهلاً مندثرا، حتى بعثه المستشرقون وأتباعهم من المستغربين، فدرج على ألسنة المؤرخين والدارسين للفرق وتداولوه حتى أصبح كأنه حقيقة مسلمة، وأرجعوا الفضل في اكتشافها إلى "المنهج العلمي" الذي انتهجه المستشرقون!! والمسألة بالنسبة لنا بدهية معلومة من الدين بالضرورة؛ فالكلام في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم دين، والدين لا يؤخذ عن المسلم الفاسق، ولا اعتبار لرأيه فيه، فضلاً عن المبتدع الضال؛ كالكعبي (1) ، والجاحظ (2) ، فضلاً عن الكافر الحاقد كعامة المستشرقين. والله تعالى قد قال في الفاسقين: «ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً» ، والحكم على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من مجرد الشهادة، لأنه دين واعتقاد، وإذا كان من شريعتنا رد شهادة المسلم الفاسق في دعاوى الحقوق الدنيوية، فما بالك بمن يتجرأ على خيار الأمة وأفضل البشر بعد الأنبياء من الصليبيين واليهود! لقد مقت سلف الأمة عمرو بن عبيد، وضللوه وبدعوه من أجل طعنه في المقتتلين من الصحابة، هذا مع ما هو مشهور عنه من الزهد والتعبد ومجانبة

_ (1) انظر: التوحيد للماتريدي، ص 318، تحقيق: فتح الله خليف.... حيث نسب بعضهم للإرجاء والجبر (2) انظر رسالته في "النابتة"، ضمن رسائله التي نشرها عبد السلام هارون، وقد نشر الرسالة لأول مرة "فان فلوتن" الآتي ذكره، وعليها اعتمد، ثم تبعه المستغربون.

السلاطين، فكيف يلتفت المسلم إلى آراء أهل الكتاب الذين تغلي مراجل قلوبهم بالحقد على الإسلام، وتنفث ألسنتهم السم الزعاف عليه، وما تخفي صدورهم أعظم؟! فماذا نتوقع من "جولد زيهر" اليهودي إلا مثلما ذهب إليه سلفه عبد الله بن سبأ أو أعظم، وماذا نظن بـ "فان فلوتن، وكريمر وويلهاوسن (1) ، ونيكلسون ... " وأضرابهم أن يقولوا، والحرب الصليبية لم تتوقف لحظة واحدة، ولن تتوقف حتى تكون الملحمة مع الروم بأرض الشام بين يدي الساعة كما صح عن الصادق المصدوق؟ وإن من يقبل كلام هؤلاء - بل يجله ويعظمه - يلزمه أن يقبل كلام عبد الله بن سبأ، وحمدان قرمط، وابن الراوندي، وميمون القداح، وابن النغريلة، وإلا فإنه متناقض، أو مخدوع بالمسحة العلمية الحيادية التي يزعمها هؤلاء المستشرقون. وما كان لنا أن نأبه بآراء المستشرقين ونشغل بردها لا في هذه القضية ولا في ما هو دونها، فنحن لا نتوقع منهم إلا هذا ومثله، فقد تبين لي من قراءة كافية في كتبهم أنهم قوم بهت - كما وصف عبد الله بن سلام رضي الله عنه أجدادهم اليهود - وأنهم لو كان الافتراء على الإسلام في السماء لاتخذوا إليه سلما، ولو كان في الأرض لابتغوا إليه نفقاً. ولكن اقتداء كثير من الكتاب المنتسبين إلى الإسلام بهم ومتابعتهم لرأيهم، واستناد هؤلاء وأولئك إلى آراء مخطئة أو أقاويل بدعية جعل تبيان هذه القضية أمراً ضرورياً. فقد نقل عنهم واقتدى بهم علماء شريعة مشهورون، ومتخصصون في العقيدة بارزون، ومؤرخون وأدباء لهم مكانتهم، وذلك مثل الشيخ محمد أبو زهرة، والدكتور على سامي النشار، والدكتور مصطفى حلمي، والدكتور نعمان القاضي ... فضلا عن أحمد أمين وطه حسين وسهير القلماوي وشاكر مصطفى وأمثالهم وأتباعهم (2) . ويعجب الباحث أيما عجب حين يجد علماء وأساتذة ومؤرخين عرباً مسلمين يعتمدون اعتماداً كلياً على الكتيّب - بل المقال - الضحل السقيم الذي كتبه فان فلوتن

_ (1) ويُكتب "فلهوزن" (2) ستأتي النقول عنهم في المبحث الثاني.

بعنوان "السيطرة العربية" أو "الاستعمار العربي"، والذي ترجموه مخففاً باسم "السيادة العربية"!! وإنني لأجزم يقيناً - ولو حلف غيري ما عددته حانثاً - هؤلاء الأساتذة لو قدر لأحدهم أن يناقش ما كتبه فلوتن باعتباره رسالة أو بحثاً لأحد الطلبة الأزهريين، لما منحه أدنى درجة علمية، ولأوسعه نقداً وذماً كما هو الحال في كثير من الرسائل العلمية التي هي أعلى مستوى في ذلك. فهل كون الكاتب مستشرقاً يجعل ما كتبه مقبولاً، بل حجة ينقل عنها الأساتذة المتخصصون؟! والأنكى من ذلك أن يعارض به كلام المؤرخين المسلمين، حتى في مسألة تاريخية بحتة، كتحديد وفاة الحارث بن سريج!! ويبدو لي أن بعض المستشرقين العرب مثل أحمد أمين وزميله طه حسين وعبد الحميد العبادي قد تنبهوا لما قد يثار عن هذه المسألة، فما أن وجدوا نصاً للنووي يشعر بما يريدون حتى ألحقوه في هامش الكتاب (1) ، وكأنما هو أصل مستندهم أو بعضه. وبصرف النظر عن الحقد والتعصب لدى المستشرقين، نقول: إن سبب انحراف منهجهم ومن اتبعهم في هذا الموضوع هو القياس الفاسد؛ فلما كانت الخلافة الإسلامية عندهم لا تختلف عن أية حكومة مذهبية، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مجرد أشخاص لا يختلفون عن سائر الناس في المطامع والكيد السياسي، فإن الخلاف الذي وقع بينهم لا يعدو في أنظار هؤلاء أن يكون "أزمة صراع على السلطة"، من ذلك النوع الذي تشهده الحكومات الأوربية منذ انقراض عصر الملكيات التقليدية! أما التزكية الإيمانية والتربية النبوية فأثرها عند هؤلاء محدود أو معدوم، وإليك رأي مؤلفي فجر الإسلام حين يتساءلون: "إلى أي حد تأثر العرب بالإسلام؟ "، "وهل انمحت تعاليم الجاهلية ونزعات الجاهلية بمجرد دخولهم في الإسلام؟ الحق أن ليس كذلك، وتاريخ الأديان والآراء يأبى ذلك كل الإباء، فالنزاع بين القديم والجديد،

_ (1) فجر الإسلام (1/335) ، والثلاثة مشتركون في السلسلة، كما ذكروه في المقدمة.

والدين الموروث والحديث يستمر طويلاً، ويحل الجديد محل القديم تدريجياً، وقل أن يتلاشى بتاتاً" (1) . ولذلك تم تصنيف الفرق الإسلامية وفقاً لتصنيف الأحزاب السياسية والدينية الأوروبية، وابتدأوا ذلك منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، بل وفي حياته!! فجعلوا في الأمة يميناً ويساراً ووسطاً، وفي كل من اليسار واليمين متطرفون ومعتدلون ... إلخ، وكذلك قسموها إلى ديموقراطيين وثيوقراطيين ودكتاتوريين ... إلخ. ولسنا في مقام تفصيل المهازل الساخرة التي أدى إليها تطبيق هذا القياس الفاسد، والخلافات التي لا يقوم أي منها على أساس موضوعي؛ مثل أن يجعل أحدهم الشيعة من اليسار المتطرف، والآخر يجعلها من اليمين المعتدل، ويجعل الخوارج بالعكس ... وهكذا. ولكن الذي يهمنا هنا هو أن هذا التصنيف أدى إلى اعتبار الطائفة الممسكة عن الفتنة - من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - هي مجرد طائفة سياسية محايدة، ومن ثم جرى طرد القياس على كل طائفة شابهتها في الموقف أو بعضه، ثم إنهم لما رأوا أن لبعض هذه الفرق - التي تنتمي في أصل تصنيفهم إلى الوسط المحايد، كالمعتزلة وثورة الحارث بن سريج - آثاراً إيجابية في عالمي السياسة والفكر، كان لابد لهم من التعسف والتكلف، فقالوا: إن المرجئة تحولت من تيار الوسط إلى تيار اليسار بفعل التناقضات السياسية.. أو ما أشبه هذا من التعليلات! فليس مهمّاً لديهم أن تنقلب حقائق التاريخ، فتصبح المعتزلة مرجئة، وتصبح المرجئة حركة ثورية يسارية، وإنما المهم أن تظل معاييرهم الاعتباطية هي الأصل الذي لا ينقلب ولا ينتقض!! وها هو ذا ما جاء في كتاب "فجر الإسلام" الذي يمثل خلاصة آراء المستشرقين، والذي نقل عنه أكثر من بعده، ومنهم أبو زهرة: "إن الشيعة والخوارج كانا أول أمرهما حزبين سياسيين (2) تكونا حول الخلافة، وإن رأي الخوارج فيها رأي ديمقراطي، ورأي الشيعة رأي ثيوقراطي، أما المرجئة فكانت حزباً سياسياً محايداً.

_ (1) ص 94، وفي ص 98 يطعنون في إسلام كل من أسلم يوم الفتح، وفي إسلام سكان البوادي جملة، فإذا كان الأمر كذلك وكان تأثر الصفوة من أهل المدينة كما ذكروا ص 94، فماذا صنع الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم إذن؟ (2) انظر "مبحث الخوارج الآتي"، ص 239.

ونواة هذه الطائفة كانت بين الصحابة في الصدر الأول، فإننا نرى أن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم امتنعوا أن يدخلوا في النزاع الذي كان في آخر عهد عثمان - مثل أبي بكرة، وعبد الله بن عمر، وعمران بن حصين". ثم ساق حديث أبي بكرة الآتي، وقال: "هذه النزعة إلى عدم الدخول في الحروب بين المسلمين بعضهم وبعض هي الأساس الذي بني عليه مذهب الإرجاء، ولكنه لم يتكون كمذهب - كما رأينا إلا بعد ظهور الخوارج والشيعة. وبعد أن كان مذهباً سياسياً أصبح - بعد - يبحث في أمور لاهوتية، وكانت نتيجة بحثهم تتفق ورأيهم السياسي "!! وفي الحاشية يعلق على ذلك قائلاً: "يقول النووي على مسلم: إن القضايا كانت مشتبهة، حتى أن جماعة من الصحابة تحيروا فيها، فاعتزلوا الطائفتين ولم يقاتلوا، ولم يتيقنوا الصواب" (1) . ونحن قد سبق أن بيّنّا أن الممسكين عن الفتنة أقسام مختلفة، وهنا لا بد من بيان حقيقة موقف الصحابة رضي الله عنهم، وخطأ من نسب إليهم الإرجاء، سواء أكان إرجاء شك وحيرة أم اعتقاد وبدعة، والأمر في حقيقته يرجع إلى مسألة فقهية، وهي حكم قتال الفتنة الذي جرى بين الصحابة، وحكم قتال الفتنة بين المسلمين عامة. ومع إيماننا بأن الأولى هو الكف عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم، فإنه لا حرج في عرض مواقفهم على النصوص الشرعية التي أمر الله تعالى بالرد إليها في كل نزاع، لا سيما وهي - ولله الحمد - تدل على صحة ما يعتقده أهل السنة والجماعة فيهم، وخاصة أهل الحديث، كأحمد وسفيان، بخلاف ما ذهب إليه أهل الرأي وكثير من الفقهاء المتأخرين، مع ما في هذا من مصالح، كأخذ العبرة، ونفي التهمة تفصيلاً بعد نفيها إجمالاً فنقول: إن النووي رحمه الله شافعي المذهب، وكثير من متأخري الشافعية يرون تصويب علي رضي الله عنه وتخطئة من حاربه أو توقف عن الحرب معه، ولكن النووي رجل محدث، وقد رأى من صحة أحاديث النهي عن القتال في الفتنة وكثرتها ما لم يستطع

_ (1) فجر الإسلام، ص 233- 235، وأبو زهرة (1/133) .

معه الجزم بتخطئة من قعد عن نصرة عليّ - أعني الممسكين عن الخوض في الفتنة - فأراد التوفيق والتأويل، فاعتذر عن هؤلاء بأنهم لم يتبين لهم الصواب مع علي أم مقاتليه؟ ووضع في اعتباره أن القول بترك قتال المسلمين مطلقاً يؤدي إلى جرأة المفسدين وتطاول المجرمين - وهي العلة التي يذكرها الفقهاء المتأخرون كثيراً (1) - فجعل الإمساك عن ذلك مخصوصاً بهذه الحالة وحدها. واعتذر عن العمل بالأحاديث بقوله: "تتأول الأحاديث على من لم يظهر له المحق، أو على طائفتين ظالمتين لا تأويل لواحدة منهما" (2) . وهذا الذي ذهب إليه هو وغيره من الفقهاء يتبين صوابه أو خطؤه باستعراض مواقف الممسكين عن الفتنة واحداً واحداً: 1 - فهذا أسامة بن يزيد - على عظيم صلته بعلي رضي الله عنهما - يقول عنه مولاه حرملة: "أرسلني أسامة إلى علي، وقال: إنه سيسألك الآن فيقول: ما خلف صاحبك (3) ؟ فقل له: يقول لك: لو كنت في شدق الأسد لأحببت أن أكون معك فيه، ولكن هذا أمر لم أره" (4) . فأسامة يفرق بين العلاقة الحميمة وبين أمر لم يجد له في الشرع مخرجاً، ولو رآه جائزاً لما تردد عنه. وينقل الحافظ عن ابن بطال: أن أصل موقف أسامة هذا هو ما نذره على نفسه يوم أن قتل الرجل الذي قال لا إله إلا الله - أنه لا يقاتل مسلماً أبداً (5) . 2 - وهذا أبو موسى الأشعري، وصاحبه أبو مسعود الأنصاري، يعيبان على عمار مشاركته في القتال - وقد كان مع علي - قال شقيق بن سلمة: "كنت جالساً مع أبي مسعود وأبي موسى وعمار، فقال أبو مسعود: ما من أصحابك أحد إلا لو شئت لقلت فيه غيرك، وما رأينا منك شيئاً منذ صحبت النبي صلى الله عليه وسلم أعيب عندي من استسراعك في هذا الأمر.

_ (1) انظر: الفتح (13/31) ، فقد نقل عن الطبري وجمهور الفقهاء ما يشبه كلام النووي. (2) شرح النووي على مسلم (18/10) ، ومعلوم أن الاحتمال الأخير لا ينطبق على الصحابة، وأن الذين قالوا: إن الطائفتين فاسقتان كلاهما، هم المبتدعة كعمرو ابن عبيد!! (3) أي ما الذي جعله يتخلف عنا؟ (4) البخاري (13/61) . (5) الفتح (13/68)

قال عمار: يا أبا مسعود ما رأيت منك ولا من صاحبك هذا شيئاً منذ صحبتما النبي صلى الله عليه وسلم أعيب عندي من إبطائكما في هذا الأمر" (1) . قال الحافظ: " كان أبو مسعود على رأي موسى في الكف عن القتال؛ تمسكاً بالأحاديث الواردة في هذا الأمر" (2) ، فليس هناك اشتباه، بل القضية من الوضوح بحيث يعيبان عماراً!! 3 - وأما عبد الله بن عمر، فيتخذ هذا موقفاً مطرداً، فهو لم يشترك في أي قتال بين المسلمين قط، لا زمن علي ولا فيما بعد، لأنه يراه كله قتال فتنة. روى البخاري: "أن رجلاً جاءه، فقال: يا أبا عبد الرحمن، ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه: «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا» إلى آخر الآية، فما يمنعك ألا تقاتل كما ذكر الله في كتابه؟ فقال: يا ابن أخي، أعير بهذه الآية ولا أقاتل، أحب إليّ من أن أعيّر بهذه الآية التي يقول الله تعالى: «ومن يقتل مؤمناً متعمداً» إلى آخرها. قال: فإن الله يقول: «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة» . قال ان عمر: قد فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان الإسلام قليلا، فكان الرجل يفتن في دينه، إما يقتلوه وإما يوثقوه حتى كثر الإسلام، فلم تكن فتنة" (3) . 4 - وأما أبو بكرة رضي الله عنه، فإنه لم يقتصر على كف اليد، بل نهى غيره وأنكر عليه المشاركة في القتال، فقد روى الشيخان عن الحسن البصري أن الأحنف ابن قيس أخبره أنه خرج بسلاحه يريد القتال في الفتنة - وكان ذلك يوم الجمل، وقصده القتال مع علي رضي الله عنه - فلقيه أبو بكرة رضي الله عنه فصده عن ذلك، وقال: يا أحنف ارجع، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" (4) .

_ (1) الفتح (13/54) (2) المصدر السابق (3/59) (3) البخاري (8/309) . (4) وهذا اللفظ لمسلم (13/31) .

وليس هذا صنيع الحائر المتشكك، بل هو موقف الواثق المستيقن، وسيأتي حديثه الآخر قريبا. 5 - وهناك من المعتزلين للفتنة من كان وضوح أمرها لديه بحيث إنه احتاط لنفسه من شرها بمجرد انفجارها، فهذا سلمة بن الأكوع رضي الله عنه لما قتل عثمان رضي الله عنه خرج إلى الربذة، وتزوج هناك امرأة وولدت له أولاداً، فلم يزل بها حتى قبل أن يموت بليال نزل المدينة (1) . فقد تغرب رضي الله عنه حوالي أربعين سنة (منذ مقتل عثمان سنة 35 إلى وفاته سنة 74) ، ثم مات في دار الهجرة كرامة من الله له. 6 - وممن أحجم عن الفتنة، وحدث الناس بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها أبو هريرة رضي الله عنه، فقد حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكرة أنه قال: "ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد منها ملجأ أو معاذاً فليعذ به" (2) . وهذا لفظ البخاري عن أبي هريرة، ولمسلم عن أبي بكرة زيادة أوضح: "ألا فإذا نزلت - أو: وقعت - فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه ... " (3) الحديث. ويتضح من هذه النصوص: أولاً: أن الصحابة الذين اعتزلوا الفتن يعتمدون على أصل شرعي ثابت بنصوص صريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضها أوامر عينية في حق المخاطبين بها - وبعضها لم نذكره -. ثانياً: أن من كمال فقه الصحابة رضي الله عنهم التفريق بين صحة إمامة علي وبين وجوب القتال معه، بل صحة قتاله، إذ لا يلزم من كونه إماماً حقاً أن يكون قتاله لأهل الجمل وصفين حقاً بإطلاق على ما سنبينه.

_ (1) الفتح (13/40) . (2) المصدر السابق (13/30) . (3) رقم (2887) .

على أن هؤلاء ليسوا هم كل من اعتزل الفتنة، بل اعتزلها من هو أجل منهم مثل سعد بن أبي وقاص، فإنه لم يكن على ظهر الأرض يوم صفين أفضل منه سوى علي وسعيد بن زيد، أحد العشرة، وهنالك من هو مثلهم، كزيد بن ثابت، ومحمد بن مسلمة، وعبد الله بن مغفل رضي الله عنهم (1) . ومنهم أبو برزة الأسلمي رضي الله عنه، الذي صدع أيام الفتنة بين ابن الزبير والأمويين والخوارج: "إني احتسبت عند الله أني أصبحت ساخطاً على أحياء قريش" الحديث، وذلك لأنه "كان يرى الانعزال في الفتنة وترك الدخول في كل شيء من قتال المسلمين" (2) . وبالجملة، هذا هو مذهب أهل الحديث عامة، ومن تأمله ظهر له قوة دلائله النصية، وصدق نتائجه الواقعية، فقد صرح به إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل، وبنى عليه موقفه في رفض الخروج على الدولة العباسية (3) . روى عنه الخلال أنه قال: ابن عمر وسعد ومن كف عن تلك الفتنة، أليس هو عند بعض الناس أحمد! هذا عليّ لم يضبط الناس، فكيف اليوم والناس على هذا الحال ... السيف لا يعجبني (4) . وقال أبو بكر المروزي: سمعت أبا عبد الله - وقد ذكر عنده عبد الله بن مغفل - فقال: لم يتلبس بشيء من الفتن! وذكر رجل آخر فقال: رحمة الله مات مستورا قبل أن يبتلى بشيء من الدماء (5) . وممن صح النقل عنه من أهل الحديث سفيان الثوري رحمه الله، وله كلمة عظيمة في هذا، قال: نأخذ بقول عمر رضي الله عنه في الجماعة، وبقول ابنه في الفرقة (6) .

_ (1) جمعت أسماء هؤلاء وغيرهم من تتبعي لأحاديث الفتن، ولو أن أحدا استقصى ذلك لكان عملا مشكورا. (2) البخاري (13/68) ،والكلام للحافظ ص 73 (3) وقد ظهر صدق هذا الموقف حين رجع المتوكل إلى السنة، وانقلبت الدولة على رؤوس المبتدعة تنكيلا، وهذا جزاء الصبر وبركة اتباع النصوص، فللسيف موضعه وللحجة موضعها، والنصوص هي الحكم، ويعطي الله البصيرة من يشاء من عباده، فينزل النصوص على الواقع، ويصيب مناط الحكم. هذا ويلاحظ من كلام الإمام أن المسألة اجتهادية مصلحية؛ لا يترتب على الخلاف فيها تبديع وتضليل، وهكذا كان موقفه من أحمد بن نصر الخزاعي رحمه الله. (4) الخلال، كتاب الإيمان للإمام أحمد، لوحة 12 من المسند الجامع. (5) المرجع السابق نفسه. (6) المصدر السابق، ولعل مراده بقول عمر: الشورى والاختيار، وبقول ابنه: الكف عن القتال، ومبايعة من استقرت له الأمور، ولو كان مفضولا.

وكان - رحمه الله - يصرح قائلاً: لو أدركت علياً ما خرجت معه!! قال يحيى بن آدم: فذكرت قوله للحسن بن صالح فقال: قل له: يحكى هذا عنك؟ فقال سفيان: ناد به عني على المنار (1) . وعلى هذا المذهب كذلك الإمام البخاري صاحب الصحيح، فإن تراجم أبواب كتاب الفتن من صحيحه تنطق بذلك، وعلى منواله كتب مسلم وغيره من المصنفين في هذا الموضوع. وقد رجح هذا المذهب وانتصر له شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتبه، ومختصر أدلته على ذلك: 1 - النصوص الكثيرة التي استند إليها الممسكون عن الفتنة، ومنها ما سبق إيراده. 2 - ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على الحسن، لأن الله أصلح به ما بين المسلمين وحقنت الدماء، في حين أنه لم يثن على قتال أبيه لأهل الشام، بل غاية ما وصف به أنه أدنى منهم إلى الحق، بخلاف قتاله للخوارج، فقد أثنى عليه نصاً، كما أن علياً نفسه فرح واستبشر بقتال الخوارج، وتألم وتكدر بقتال أهل الشام. 3 - أن الممسكين عن الفتنة هم من أكابر الصحابة رضوان الله عليهم وأفاضلهم، وقد ذكرنا بعضهم قريباً. 4 - أن العبرة بالنتائج والعاقبة، ولا شك أن نتيجة الاقتتال كانت مؤلمة جداً في حين كانت السلامة في الإمساك، ولهذا ندم بعض من شارك، كما في البخاري عن شقيق بن سلمة حين سئل هل شهدت صفين؟ قال: نعم، وبئست صفين (2) . بل نقل شيخ الإسلام عن علي نفسه أنه قال، لله در مقام قامه سعد بن مالك وعبد الله بن عمر، إن كان براً إن أجره لعظيم، وإن كان إثماً إن خطأه ليسير (3) . 5 - أنه لا حجة في استدلال المخالفين بقتال الفئة الباغية، وذلك أن الله تعالى إنما أمر بقتال الباغية، وسماها باغية إذا رفضت الصلح ولم يأمر بقتالها ابتداء، وللصلح أبواب كثيرة، ولو بالتنازل عن بعض الحق أو كثير منه.

_ (1) المصدر السابق. (2) 13/282) . (3) مجموع الفتاوى (4/440) .

6 - أنه قد كان في الإمكان اتخاذ وسائل غير السيف لتهدئة الأحوال وجمع الكلمة، ومنها ما أشار به ابن عباس على علي بألا يعزل معاوية عن إمرة الشام، بل يبقيه في منصبه حتى يأخذ البيعة منه ومن أهل الشام، فإذا فعل ذلك وكانت المصلحة عزله يعزل، فإن رفض الطاعة يكون حينئذ باغياً ناكثاً. أما وهم لم يدخلوا في طاعة علي ابتداء، فإن هذا من أقوى استدلالات من يرى صواب موقفهم، لا سيما والثابت أن معاوية رضي الله عنه لم ينازع علياً الخلافة، وإنما اشترط لدخوله في طاعته تسليم قتلة عثمان (1) . * ولذلك تفصيل لا مجال له هنا، وحسبنا الإشارة والتنبيه. يبقى أن نرد قول من قال: إنه يلزم من هذا تشجيع المفسدين وقطاع الطرق، فنقول: إن قتال الفتنة - كما وقع بين الصحابة - شيء، وقتال الطرق والمفسدين شيء آخر، وقد قتل من الخوارج بالنهروان قرابة أربعة آلاف فما تألم لهم أحد، وقتل كعب بن سور يوم الجمل فتألمت لذلك الطائفتان جميعاً، فكيف بطلحة والزبير وعمار؟ فالمفسدون أقرب شيء إلى الخوارج، ولا يتحرج من قتالهم أحد، ولا يترتب عليه تمزيق صف المسلمين، بل فيه حفظ وحدتهم وأمنهم، وكذا دفع الصائل. وأما أن يكون المرء عبد الله المقتول ولا يكون عبد الله القاتل فذلك مشروع في الفتنة بين المسلمين المختلفين اختلافاً اجتهادياً مصلحياً، والله اعلم. والحاصل: أن هذا المذهب أقوى من مذهب من يرى أن الصواب مطلقاً هو القتال مع علي، وبالأولى هو أقوى ممن يرى أن الصواب هو القتال مع من حاربه وبذلك يتضح أنه أقوى المذاهب وأرجحها. على أن الذي يهمنا هنا بخصوصه هو بيان خطأ أو ضلال من نسب هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم إلى الإرجاء، زاعماً أن الأمور اشتبهت عليهم فتبرءوا من الطائفتين كليهما، وأرجئوا الحكم عليهما بالإيمان - بالحق أو الباطل - إلى الله تعالى، فخلطوا بين هذا الموقف، وموقف بعض الخوارج، وموقف الشكاك الذين سبق الحديث عنهما. وما أحسن ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في براءة الصحابة رضي الله عنهم من كل بدعة، قال: "إن الصحابة رضوان الله عليهم خير قرون هذه الأمة التي هي

_ (1) انظر: مجموع الفتاوى (35/55- 56، 77- 78) ، (4/439- 442) ، ومواضع من منهاج السنة.

خير أمة أخرجت للناس، وهم تلقوا الدين عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، ففهموا من مقاصده صلى الله عليه وسلم، وعاينوا من أفعاله، وسمعوا منه شفاهاً ما لم يحصل لمن بعدهم. وهم قد فارقوا جميع أهل الأرض وعادوهم، وهجروا جميع الطوائف وأديانهم، وجاهدوهم بأموالهم وأنفسهم ... ولهذا لم يطمع الشيطان أن ينال منهم من الإضلال والإغواء ممن بعدهم، ولم يكن منهم أحد من أهل البدع المشهورة، كالخوارج والروافض والقدرية والمرجئة والجهمية، بل كل هؤلاء إنما حدثوا فيمن بعدهم" (1) . * نماذج من آراء المستشرقين ومقلديهم في الموضوع: نعرض هنا نماذج من آراء المستشرقين ومن اتبعهم من المحدثين والمعاصرين عن نشأة الإرجاء وفكره، آخذين في الاعتبار ما أشرنا إليه من أن المؤاخذ في الحقيقة هم هؤلاء المقلدون، فإنهم لو استخدموا عقولهم وحاولوا الاستنباط بأنفسهم لكان لهم العذر أو بعض العذر إذا أخطئوا، أما وهم ينقلون ويصرحون بالنقل عن المستشرقين، ويتجاهلون تماماً كلام علماء الإسلام الثقات وأئمة السنة المشهورين - هذا إن لم يطعنوا في آرائهم - فلا بد من بيان فساد منهجهم إحقاقاً للحق وعبرة لمن يدرس الفرق والعقيدة، كي لا يغتر بصنيعهم، ولهذا لم أر مناقشة كلام هؤلاء، مع أن بعضهم أساتذة متخصصون في علم الكلام، بل اقتصرت على عرض كلام المستشرقين لأنه الأصل!! والمستشرقون الذين تعرضوا للموضوع كثير، وسنكتفي بأهمهم وطرف من مقلديهم: 1 - "فان فلوتن". 2 - "يوليوس ويلهاوسن". وهما من أخبث المستشرقين وأكثرهم أثراً في المقلدين، ونحن ننقل من كلامهما ما يغني بنفسه عن التعليق عليه:

_ (1) الجواب الباهر، ص 56- 57، طبعة قصي محب الدين الخطيب.

فأما "فلوتن"، فإن كتيبه السقيم يقوم على فكرة واحدة، هي أن الفتوحات الإسلامية كانت بغرض الاستعمار - على الطريقة الأوروبية - ومن هنا فسر نشأة الفرق بأنها انتقام من الشعوب المستعمرة ضد مستعمريها!! يقول: "لم يكن الغرض من الفتوحات الإسلامية هو إدماج شعب في شعب، أو العمل على نشر دعوة دينية معينة، وإنما هو احتلال بقوة السيف" (1) !! ويقول: "وهكذا يصور لنا الاحتلال العربي بوجه عام شعباً يعيش على حساب شعب آخر" (2) . ثم يقول - بعنوان نشأة الفرق الإسلامية -: "إن هذه الطوائف التي نشأت بين العرب في البلاد التي فتحوها، إنما كانت ترمي بادئ ذي بدء إلى غرض سياسي محض، رغم ظهورها بالمظهر الديني" (3) . وبعد أن ذكر - كعادة المستشرقين - أن الصراع على الخلافة هو الذي فرق المسلمين أحزاباً وشيعاً، أخذ في تفصيل هذه الأحزاب تفصيلاً، فقسمها على أربعة أحزاب: 1 - حزب بني أمية: ومقره بلاد الشام، كان يرى أن أمراء هذا البيت أحق الناس بالخلافة ... 2 - حزب أهل المدينة!! : وهم أنصار النبي الذين كانوا - لارتباطهم باليمانيين العرب - يعتبرون أن وصول بني أمية إلى الحكم إنما هو انتصار لأعدائهم القدامى من مشركي مكة!! 3 - حزب الشيعة: هم أنصار أهل البيت المتحمسون للدفاع عن حقوقهم في الخلافة، ولا سيما حق علي. 4 - حزب الخوارج: وهم الجمهوريون، وهم الذين كانوا يقولون باختيار الخلفاء من بين الأكفاء أياً كانت الطبقة التي ينتمون إليها (4) !!.

_ (1) السيادة العربية، والشيعة، والإسرائيليات، (ثلاثة كتيبات أو مقالات) ، ص 15 ترجمة حسن إبراهيم حسن وزميله. (2) المصدر السابق، ص 18. (3) ص 69 (4) ص 69

وفي حديثه عن المرجئة خاصة يقول - ضمن حديثه عن الثورات التي قامت بها الشعوب المفتوحة على المستعمرين -: "على أن بعضهم - أي الثوار - قد ذهب إلى أبعد من هذا - أي المطالبة بالعدالة الاجتماعية بزعمه - فضمنوا عقيدة التوحيد معنى أخلاقياً ودينياً عميقاً". فما هو هذا المعنى الأخلاقي الذي لا تتضمنه عقيدة التوحيد، حتى أدخله فيها ثوار العجم من المرجئة؟ يشرحه قائلاً: "وقد عزي إلى جهم بن صفوان - أحد رؤوس المرجئة وكاتم السر للحارث بن سريج - هذه الكلمات: إن الإيمان عقد بالقلب وإن أعلن الكفر بلسانه بلا تقية، وعبد الأوثان أو لزم اليهودية أو النصرانية في دار الإسلام، وعبد الصليب وأعلن التثليث في دار الإسلام ومات على ذلك، فهو مؤمن كامل الإيمان عند الله عز وجل، ومن أهل الجنة" (1) . "وكان من الطبيعي أن تدفع مثل هذه العقيدة أصحابها إلى احتقار الفرائض العملية للإسلام، ووضعهم واجبات المرء نحو من يحيط به من الناس فوق آراء الفروض التي جاء بها القرآن"!! - يعني أن العدالة والمساواة بين الناس أهم من الالتزام بأحكام الدين -!! ثم يقول: "ومن هذه الناحية كان الإرجاء في خراسان أشبه شيء بأثر عكسي أخلاقي لذلك الإسلام الشكلي؛ دين الحكومة العربية في ذلك الحين، تلك الحكومة التي أصرت على عدم المساواة بين جميع رعاياها في الدين، باتباعها النظام الجائر لجمع الضرائب وجباية المكوس (2) ". وأما "يوليوس ويلهاوسن" فيبدأ من النقطة نفسها، لكنه أكثر وقاحة (3) حين ينسب ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فيقول - أخزاه الله -: "كان محمد قد بدأ خطواته وهو مقتنع بأن دينه في جوهره نفس الدين اليهودي والنصراني، فكان يتوقع أن يلقاه

_ (1) يلاحظ أن هذا الكلام الذي نسبه ابن حزم لجهم (وللأشعري) هو لازم قوله، وليس من قوله أن اليهود والنصارى يعتبرون مؤمنين من أهل الجنة، ولكنه هوى هذا المستشرق في الانتصار لبني دينه، وأنهم كانوا محرومين من هذه الروح الأخلاقية الجهمية!! (2) ص 66، ويلاحظ أنه لا ينسب الظلم لبعض ولاة بني أمية، بل يجعله هدف الفتوح كلها كما سبق. (3) وأوقح منه من يعتمد على آرائه ممن ينتسب للإسلام، وقد جعلوا لكتابه من الأهمية أنهم ترجموه مرتين إحداهما سورية "يوسف العش"، والأخرى مصرية "أبو ريدة"، حتى يستدرك كل منهما ما قد يكون فات الأخرى من هذا الكلام العلمي الموضوعي!!

اليهود في المدينة وقد فتحوا ذراعهم لاستقباله، غير أنه خاب فأله منهم خيبة مريرة، وبما أنهم لم يعتبروا اليهودية معادية للإسلام، بل عدوها مخالفة له، فإنه هو من جهته جعل الإسلام يخالف اليهودية، بل يخالف النصرانية!! فحدد الصيغ والشعائر التي يتميز بها دينه، بحيث انفكت عن التعبير عن النقاط التي تجمع بين الإسلام وإخوانه من الأديان، بل وسعت شقة الخلاف". وبعد أن ذكر أمثلة لذلك من الشعائر؛ كالجمعة والأذان وصيام عاشوراء ورمضان، قال: "وبينما كان يؤسس الإسلام!! على أسلوب يقضي على الطقوس اليهودية والنصرانية، كان يقربه في الوقت نفسه من العروبة، فهو ما فتئ يعتبر نفسه الرسول المرسل للعرب خاصة!! فبدل القبلة، وأعلن أن مكة هي الحرم المقدس بدلاً من القدس، وشرع الحج إلى الكعبة، بل شرع تقبيل الحجر المقدس، وقبل مركز العبادة الوثنية في الإسلام، وأدخل الأعياد الوثنية الشعبية ... ". إلى أن يقول: "وهكذا فصل الإسلام عن اليهودية، وبدل بحيث يصبح ديناً عربياً قومياً (1) " ويذكر ما لا يطاق ذكره مما أسماه الإرهاب الذي أقامه النبي صلى الله عليه وسلم ضد اليهودية، وأنه تعلل بحجج واهية ليمحو اليهود من الجزيرة، ويورث أملاكهم ومزارعهم إلى المهاجرين - الذين كانوا بزعمه يعتمدون على الغزو - لأنهم حرسه الخاص.. في كلام يكشف عن حقد يهودي أسود. ومن هذا المنطلق يتحدث عن الإرجاء والمرجئة، فيجعلها إنسانية تطالب بالعدالة والمساواة للشعوب التي استعمرها الفاتحون المسلمون. ويذكر أن الإسلام انقسم بسبب هذه المسألة قسمين: محافظ، وهو الذي يحترم الجماعة ويؤيد الوضع القائم، وثائر، ومن الثائر: المرجئة والخوارج والشيعة. ويقول: "والمرجئة هم بالحق أكبر أهمية، وكان لهم بقيادة الحارث بن سريج أثر ضخم في التاريخ" (2) !!

_ (1) الدولة العربية وسقوطها، ص 23- 24 ترجمة يوسف العش، دمشق، 1376 هـ (2) ص 394، وهذه المبالغة يعرف كذبها كل مطلع على التاريخ.

ويقول: "لو كان الحارث في الأزمنة الأولى ثورياً تقياً لعد خارجياً، لكنه لم يلزم نفسه بالشروط القاسية التي يبني عليها الخوارج عقيدتهم، إنما ابتدأ مرجئاً، وكاتبه جهم بن صفوان أشهر عالم من علماء تلك الفرقة، واشترك هو بنفسه في الأحاديث والمناقشات المتصلة بالمذهب. والإرجاء في الواقع سياسة في جمع الشمل، فالمسائل المختلف عليها استبعدت وتركت لحكم الله، لا سيما تلك المسألة الدائمة التي لا تحل، والتي تتصل بمن هو الإمام الحق الوحيد!! ومن ثم طرقت النقاط التي يمكن الوصول إلى اتفاق فيها على اختلاف نزعات المناوئين المتدينين، وكان ذلك احتجاجاً باسم حكم الدين على الطغيان الواقع، وباسم الشرع المقدس على سوء العدالة وعلى القوة" (1) . ويستمر في كلام خلاصته: أن المرجئة حركة ثورية ضد طغيان المستعمرين الفاتحين، ولهذا وسعت مفهوم الإيمان ليقبل جميع الشعوب المضطهدة، لكي تكون يداً واحدة على الشعب الفاتح. وما قرره" فان فلوتن" و "ويلهاوسن" لخصه أحمد أمين وشريكاه، وهذبوه من الكلمات الصريحة، وقدموه على أنه فكرة سليمة محايدة، وقد نقلنا بعض كلامهم. وعن أحمد أمين نقل الشيخ أبو زهرة (2) ، ونعمان القاضي (3) ، وألبير نصري نادر (4) ، وعن أبي زهرة نقل كثير من الباحثين ثقة منهم في الشيخ. بل قل من كتب عن الحارث بن سريج إلا وينقل عن فلوتن، حتى أساتذة التاريخ (5) !!

_ (1) ص 368 (2) انظر: المذاهب الإسلامية (1/133) ، والنقل يكاد يكون حرفيا، لكن بدون إشارة للمصدر. (3) انظر: ص 272 - 282 من كتابه: الفرق الإسلامية في الشعر الأموي، عدا ما صرح فيه بالنقل عن أحمد أمين. (4) الفرق الكلامية، فصل " نشأة المرجئة "، الطبعة الكاثوليكية، بيروت. (5) مثل الدكتور جمال الدين سرور في كتابه: الحياة السياسية في الدولة العربية الإسلامية، انظر: ص 166، وفاروق عمر، وسيأتي كلامه أعلى.

3 - ومنهم المستشرق اليهودي الحاقد "جولد زيهر": الذي يتميز بمهارة فائقة في الدس والتزوير والافتراء، وهو يذهب إلى أن المرجئة من أهل السنة والجماعة، وتبعه على ذلك مقلدون كثير، ورأيه هذا يبدو فيه العمق وبعد الهدف الخبيث أكثر من صاحبيه. وعلى هذا سار "فاروق عمر"؛ الذي ينقل عنه - مقراً مؤيداً -: "لم يكن مذهب أهل السنة والجماعة في بدايته إلا فكرة غامضة مرنة تتسع لكثير من الجماعات، وبعد المحنة التي عركت الأمة الإسلامية أثناء الحرب الأهلية الأولى وما جرى في أعقابها، بانت الخصائص الأولى لمذهب أهل السنة، حيث انقسم المسلمون إلى فئتين تمثل الأولى" دين عثمان"، وتمثل الثانية" دين مروان" ... " (1) . والعجيب أن هذا المؤرخ العربي - مع إقراره بهذه الفكرة وبالقسمة المضحكة التي قسمها "جولد زيهر" - ينقل أيضاً وجهة نظر "فلوتن" في موضع آخر مؤيداً لها، ناسياً اختلاف نظرة كل من المستشرقين ومرماه البعيد، فيقول: "ولعل أبيات ثابت قطنة تشير إلى أن المرجئة ستظهر رأيها بوضوح في أعمال الجور والتعسف والفساد، ويؤكد "فان فلوتن" أن المرجئة كانوا لا يتحرجون عن قتال أية حكومة تقر مثل تلك المظالم" (2) . وعلى هذا الرأي سار المؤرخ البعثي "شاكر مصطفى"، فهو أيضاً يعتبر المرجئة ضمن الاتجاهات التي تشكل ما يسمى: "السنة والجماعة"، ويسميهم المرجئة أهل الاعتزال الأول، ويصف هذه الاتجاهات قائلاً: "والصفة التي تجمع هؤلاء جميعاً بعضهم إلى بعض هي الوقوف بجانب الخلفاء الأمويين سياسياً في الأزمات، أو المهادنة لهم، والاحتفاظ بالرأي الديني في حيز الفكر، وعدم نقله إلى العمل الثوري" (3) . ولا يخفى تناقض هذا مع ما قرره الآخرون من أن المرجئة حركة ثورية لها أثر ضخم في التاريخ.

_ (1) العباسيون الأوائل، ص 60. (2) المصدر السابق، ص 117. (3) دولة بني أمية (2/49) .

وعليه أيضاً سار الدكتور نعمان القاضي، حيث قال: "والمرجئة يشكلون كتلة المسلمين التي رضيت حكم بني أمية، مخالفين في ذلك الشيعة والخوارج، متفقين إلى حد ما مع طائفة المحافظين من أهل السنة، وإن كانوا كما يرى" فون كريمر" قد ألانوا من شدة عقائد هؤلاء السنيين باعتقادهم أنه لا يخلد مسلم في النار" (1) . وتطبيقاً لذلك ذكر الدكتور في الصفحة نفسها اسم سعيد بن جبير رضي الله عنه مع الحارث بن سريج، أي ضمن المرجئة الذين ثاروا على بني أمية، هذا مع غض النظر عن أن الثورة تتنافى مع الرضا الذي ذكر آنفاً فهو تخليط مركب. ومن أهم النتائج المترتبة على هذا: قول هؤلاء بأن المرجئة انتهت بظهور دولة بني العباس، سواء أكان السبب هو أن العباسيين يعتبرونها موالية للأمويين، كما يرى أحمد أمين ونعمان القاضي (2) ، ولذلك دمروها، أم على الرأي الأخبث الذي ذهب إليه شاكر مصطفي وفاروق عمر وهو أن الدولة العباسية تبنت رسمياً مذهب "أهل الحديث" فانمحت هذه الفرقة فيهم، ويستدل أصحاب هذا الرأي بأن كتب الحديث إنما ألفت في العصر العباسي (3) . 4 - ومنهم المستشرق "فون كريمر": وعنه نقل الدكتور القاضي - كما سبق آنفاً - أن المرجئة ألانت من شدة عقيدة أهل السنة والجماعة، باعتقادهم أنه لا يخلد مسلم في النار، ونحن نسأل الدكتور: وما هو مذهب أهل السنة والجماعة في ذلك؟! على أن لكريمر رأياً يدعو للسخرية، نقلته عن الكاتبة البعثية "زاهية قدرورة"، وهو أن الثورات التي قامت في العراق ضد بني أمية - ومنها ثورة المرجئة - لم تكن ثورات دينية، بل لذلك علة أخرى لم يفطن لها من المؤرخين إلا هذا المستشرق العبقري!!

_ (1) الفرق الإسلامية في الشعر الأموي، ص 270. (2) المصدر السابق، ص 304. (3) انظر: العباسيون الأوائل، ص 117.

نقول: "ونحن نؤيد قول "فون كريمر" في أن هذه الثورات كانت ثورات العراقيين ضد السوريين، وذلك للعداء الموروث منذ الجاهلية بين العراق والشام، حيث كانت كل من دولة منهما حليفة لدولة معادية" (1) . 5 - ومنهم المستشرق "نيكلسون": صاحب كتاب "محاضرات في تاريخ العرب"، الذي يعتمد عليه الكثيرون، ونظرته للموضوع مماثلة لـ "فان فلوتن"، حيث يعلل لنشأة المرجئة وثورتها "ثورة الحارث بن سريج" بقاعدة عامة هي: "أن شعوب البلاد المفتوحة لم تدخل في الأخوة الإسلامية إلا نظرياً وظلت مضطهدة محتقرة بالنسبة للسلالة العربية" (2) . 6 - ومنهم المستشرق "بروكلمان": الذي كان أكثر دهاء وخبثاً حين تستر بالعمل العلمي البحت "فهرسة المخطوطات" لينسب الإرجاء إلى عقيدة أهل السنة والجماعة، فهو يقول: "في أوائل الإسلام كان محور الجدل يدور أساساً حول المعصية أتبطل الإيمان أم - كما يقول المرجئة - لا تبطله؟ وفي تاريخ دمشق لابن عساكر.. ذكر عقيدة للمرجئة كان يدرسها محمد بن عقاشة الكرماني.. في البصرة عن سيفان بن عيينة.. عن وكيع بن الجراح.. عن عبد الرازق بن همام.. عن أمية بن عثمان" (3) . لقد خان بروكلمان الأمانة العلمية حين أقحم كلمة المرجئة في نص مأثور من مصدر متداول مشهور، وخرج عن مهمته التي هي الوراقة والفهرسة، لينصب من نفسه حكماً عقائدياً (4) في الخلاف بين فرق لا تنتمي إلى دينه، ولكن الحقيقة أنه متى سنحت فرصة للدس على الإسلام فكل مستشرق - أياً كان فنه - هو أستاذ متخصص!!

_ (1) الشعوبية وأثرها الاجتماعي والسياسي، ص 60، ولعل هذا الرأي يريح في تفسير الخلاف المزمن بين جناحي حزب البعث في القطرين!! (2) نقلته عنه الكاتبة السابقة، ص 62 (3) تاريخ الأدب العربي (4/22) مع حذف مصادر تراجم المذكورين التي ذكر (4) مثل قوله عن عقيدة عبد الله بن أباض إنها وهابية مع قوله: "إنه لم يظهر المذهب الوهابي قبل منتصف القرن السادس الهجري"!! (1/257) ، (مع ملاحظة أن الصحيح وهبية لا وهابية ولعل الخطأ من المترجم) .

على أن المؤلم - كما أشرنا - هو متابعة المقلدين من المنتسبين للإسلام، كما فعل المستشرق التركي"فؤاد سيزكين" الذي تابع بروكلمان على الخطأ نفسه (1) . وبالرجوع لتاريخ دمشق (2) لن يجد القارئ هذه الكلمة، بل لا يحتاج الأمر لمراجعة، فهؤلاء المذكورون من جلة علماء السلف، ولو أن ابن عساكر نفسه نسبهم للإرجاء لكان هذا تهمة له هو. ويقع بروكلمان في خطأ آخر فادح حين يقرر أن الإرجاء إنما نشأ في الشام، في حين بقيت العراق متمسكة بتعاليم القرآن الأصلية، ويرجع ذلك إلى أثر النصارى الذين كان لهم مكانة عظيمة عند حكام بني أمية (3) !! والحقيقة أنه لم ينفرد بذلك بل شاركه آخرون منهم "جولد زيهر"، وتبعهم مقلدون عرب في نسبة الإرجاء إلى بني أمية، وأصل هذا هو كتب الرافضة وبعض المعتزلة، وهو مخالف لما تواتر في أخبار المرجئة وأعلام رجالها من أنهم عراقيون (4) - وسيأتي تفصيل ذلك - حتى لقد صرح بذلك الإمام الأوزاعي رحمه الله قائلا: "وقد كان أهل الشام في غفلة عن هذه البدعة حتى قذفها إليهم بعض أهل العراق ممن دخل في تلك البدعة" (5) . على أنه لا يفوتنا أن نشير إلى أن بعض أتباع الأمويين كان لديهم إرجاء خاص بالملوك والخلفاء، وهو أن الله إذا ولى أحداً خلافة المسلمين كفر سيئاته بحسناته (6) ، والظاهر أن هذا رد فعل لغلو الشيعة ضدهم.

_ (1) انظر: فصل العقائد من تاريخ التراث العربي. (2) انظر: تهذيب تاريخ دمشق (3/134) ترجمة أمية بن عثمان. (3) 1/256) (4) كما سيتبين جليا من الفصول والمباحث التالية. (5) الشريعة للآجري، ص 142، واللالكائي (2/154) ، لكن في رواية الأخير سقطا لو تنبه له المحقق الأخ الدكتور أحمد بن سعد بن حمدان لجزم بما ذكرنا ولم يتردد. (6) انظر: منهاج السنة (3/177) . وهم يرون تبعا لذلك أن طاعة ولي الأمر مطلقة "أي رد فعل للخوارج والمعتزلة" لكن لم أجد أحدا نسب ذلك لأي من خلفاء بني أمية، فضلا عن معاوية رضي الله عنه الذي لا يجوز أن يظن به ذلك، إلا ما قيل من أن عبد الملك بن مروان سأل الزهري: أحق أن الله إذا ولى أحدا كتب حسناته ولم يكتب سيئاته؟ فأنكر الزهري ذلك مستدلا بآيات سورة (ص) : «يا داود إنا جعلناك خليفة ... » وقال: فالنبي الخليفة أفضل من الخليفة غير النبي!!

7 - وهناك مستشرق آخر هو " نلِّينو": التقط نصاً من الملطي في أصل تسمية المعتزلة، فخلط بين فرقة الاعتزال المعروفة، وبين الممسكين عن الفتنة المعتزلين لها من الصحابة وغيرهم، واعتبر كل من وقف على الحياد في الفتن معتزلياً فدخلت المرجئة فيهم بهذا الاعتبار، وقد سبق تفصيل القول في أقسام الممسكين عن الفتنة. وهذا القول تابعه عبد الرحمن بدوي (1) وعلي سامي النشار (2) . والحديث عن المتأثرين بالمستشرقين وإيراد اسم الدكتور النشار يقتضي منا أن نقول فيه خلاصة ما انتهى إليه الاطلاع الكثير على آرائه: وهو أن على كثرة كتاباته وسعتها وجودة عباراته هو أكثر الباحثين المحدثين اضطراباً وتناقصاً وتخليطاً، وليس في إمكان الباحث أن يجد له رأياً مستقراً أو منهجاً مطرداً. وإنما ذكرته لأهمية كتبه عند كثير من الناس، ولأنه أستاذ لكثير من المتخصصين في الدراسات الكلامية في مصر وغيرها، ومن أجلى شنائعه أنه يكفر معاوية رضي الله عنه وأباه، ويعتمد على كتب الرافضة في النقل عن الراشدين وغيرهم، ويجعل أصل مذهب السلف في الصفات هو اليهود والصابئة!! وسيأتي بعض آرائه في مواضعها.

_ (1) مذاهب الإسلاميين (1/37) . (2) انظر تحقيقه لكتاب: فرق وطبقات المعتزلة، ص 5- 7، وهو الجزء الأول من كتابه المنية والأمل.

الفتنة الثانية

الفتنة الثانية (1) ليست الفتنة الثانية إلا امتداداً طبيعياً للفتنة الأولى، وإنما تتميز بأن وجهات النظر المختلفة التي أنتجتها الفتنة الأولى أصبحت منذ هذه الفتنة عقائد متميزة ومناهج متفرقة. ويمكن اعتبار واقعة "صفين" المنطلق التاريخي لهذه الفتنة، بل إن حادثة التحكيم خاصة هي الشرارة التي فجرت بركانها. لقد أنتجت هذه الحادثة وذيولها فرقتين كبيرتين، أو بتعبير أصح منهجين كبيرين يحوي كل منهما فرقاً كثيرة، كانت - وما تزال - لها وجودها الملموس وخطها المتميز وانحرافها البعيد. هذان المنهجان هما "التشيع والخروج" وكلاهما ناشئ عن علة واحدة هي "الغلو"، ولكنه غلو متضاد. ولسنا بالطبع بصدد الحديث عن هذين المنهجين تفصيلاً، ولكن لا بد من الحديث عنهما فيما له أثر في نشأة الإرجاء وتطوره. وذلك أن نمو الأفكار والعقائد أشبه شيء بنمو الكائنات الحية ذات الأطوار المتعددة، بل هي أعقد من ذلك بما يعتريها من التداخل والتركيب والامتزاج، ويقارنها من ردود الفعل والتأثرات النفسية والتقلبات الفكرية، فالتفاعل الفكري أعظم - في كثير من الأحيان - من التفاعل المادي. وإذ كانت الفتنة الأولى هي المستنقع الذي وجدت فيه جرثومة الإرجاء الأولى، فإن الأحداث التالية قد ولدت جراثيم أخرى، ومع الزمن ظهرت كائنات جديدة تنتمي لتلك الأصول ولكنها تختلف عنها كثيرا في الشكل والحقيقة. وخفاء العلاقة بين أصول هذه الكائنات الفكرية وبين مراحلها المكتملة يبين أحد أسباب الخلاف بين المؤرخين والباحثين في تصنيفها ونشوئها وتطورها، وهو ما يستدعي تحقيق الأمر وتمحيصه.

_ (1) أي ما جرى بين علي ومعاوية رضي الله عنهما.

وإن من أعظم المطالب العقدية ومن أهم أصول المنهج التاريخي السليم - معاً - أن نعرف الأسباب الحقيقية لتفرق الأمة الإسلامية وخط السير الواقعي لنمو هذه الفرق وتشعبها وهو ما سوف نحاول إيضاحه بقدر ما يسمح المقام. إن معركة صفين نشبت والأمة على منهج اعتقادي واحد يدين به كلاً المعسكرين المتحاربين وهو منهج أهل السنة والجماعة، أي ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين ثبتوا جميعاً على الهدى وما بدلوا تبديلاً "وإنما كانت النخالة فيمن بعدهم". ولكنها انتهت بظهور معسكر ثالث ذي بدعة اعتقادية ضالة، وهو معسكر المارقة الخوارج، وفي الوقت نفسه كان مثيرو الفتنة الأولى قد أحكموا الخطة لتأسيس دين جديد يكون بمثابة "حصان طروادة" لهدم الإسلام، وهو دين التشيع الذي أسهم ظهور الخوارج في تبرير خروجه وانتشاره، حيث كان غلو إحدى الطائفتين مبرراً لغلو الأخرى في الاتجاه المعاكس. وإذ أصبحت المعسكرات المتحاربة ثلاثة: "أهل العراق- أهل الشام- الخوارج"؛ فقد أصبحت المناهج الاعتقادية ثلاثة: "السنة - وعليها المعسكران المتحاربان - الخروج، التشيع". وهذا التفرق وما صحبه من صراع أدى إلى نمو بذرة الإرجاء، التي تكونت في الفتنة الأولى لتصبح منهجاً رابعاً فيما بعد (1) . وقبل الحديث عن هذين المنهجين "الخروج والتشيع" وأثرهما في نشأة الإرجاء وتطوره لا بد من التنبيه إلى قضيتين كبريين: الأولى: أن بعض كتب الفرق وما اقتفاها من كتب المستشرقين والمحدَثين قد وقعت في خطأ بالغ حين جعلت ما جرى يوم السقيفة هو أصل الانشقاقات والتفرق، وهولت من هذه الواقعة العادية العابرة، واستجازت تبعاً لذلك أن تنسب التشيع والإرجاء والخروج إلى الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين، وهذا عين

_ (1) وفي الوقت الذي ظهر فيه الإرجاء ظهر القول بالقدر، وذلك في أواخر عهد الصحابة، وبهذا ظهرت أصول فرق الضلالة الأربع وهي: "الشيعة، الخوارج، المرجئة، القدرية". انظر: درء التعارض (5/224- 302) ، ومنهاج السنة (3/184) ، ومجموع الفتاوى (13/27) فصاعدا.

الافتراء ومحض الاختلاف، وإن قال به من قد يكون حسن النية - كما سبق بعض الحديث عن هذا -. إن تصوير المسألة على هذا النحو لا يهدر المنزلة السامية للصحابة فحسب، بل ينسف غاية الدين ومهمة الإسلام من أساسها، إذ يتفق مع الرأي الاستشراقي القائل بأن محمدا صلى الله عليه وسلم ما هو إلا زعيم عبقري وحد قبائل العرب المتناحرة، فلما توفي سرعان ما عاد الخلاف القبلي بين أحياء قريش وغيرها متستراً بالصبغة الدينية!! وإذا كان هذا الرسول لم يستطع تزكية نفوس الخاصة من أصحابه ويرفعها عن مستوى الإحن والأحقاد الشخصية والصراع السياسي فما فعل إذن ومن ربى؟!! كما أنه يغفل أصلاً عظيماً من أصول الشريعة وهو الفقه السياسي الإسلامي وأصول الحكم والشورى، التي تتبوأ مركزاً مهماً في الشريعة الكاملة الخالدة. فإذا كانت هذه الشريعة لم تأت من ذلك بما تسير عليه، وتعرفه الصفوة من الصحابة وارثوا منصب القيادة بعد رسول الأمة صلى الله عليه وسلم، فما الذي جاءت به إذن في هذا المجال؟! وإليك - من بين عشرات الأمثلة - هذا المثال مما كتبه أحد أساتذة التاريخ في عصرنا، الذي يشغل أستاذ التاريخ ونائب رئيس جامعة القاهرة (1) : فهذا الأستاذ يتحدث عما جرى يوم السقيفة وكأنه سلسلة ضخمة من الصراع السياسي، على النمط الذي تشهده الحكومات المعاصرة بل هو أعمق وأعظم، لأنه حسب تصوره أنتج فرقاً تمتد على طول التاريخ الإسلامي!! وهو لا يكتفي بأن يعتبر تلك الحادثة "المشكلة الخطيرة الكبرى التي واجهت الأمة الإسلامية الفتية" (2) ، بل يرجع إليها أصل نشأة الفرق حين يقول: "ويبدأ التاريخ السياسي للشيعة بذلك النفر من كبار الصحابة، الذي رأى عند اجتماع سقيفة بني ساعدة وبعدها أن علي بن أبي طالب أحق الناس بالخلافة بعد

_ (1) الدكتور إبراهيم أحمد العدوي في كتابه: تاريخ العالم الإسلامي، طبعة 1984م. (2) ص 177، وانظر: ص 178.

رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقرابته من بيت النبوة، واشتهر من هذا النفر أبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي والعباس وبنوه. وإذ رأوا أن علياً يفضل كلاً من أبي بكر وعمر في تولي منصب الخلافة" (1) . وهذا الكلام يتعارض وبدهيات التاريخ وحقائقه الثابتة سواء في بيعة الصديق (2) أوفي نشأة التشيع، اللهم إلا أن يكون مستقى من مصادر الشيعة وكفى بها كذباً وبهتاً. ومع ذلك فقد ورد في كتب بعض الباحثين!! وعلى رأسهم الأستاذ الكبير المتخصص علي سامي النشار (3) . الثانية: أن انقسام الأمة حينئذ إلى سنة وشيعة وخوارج - كما أسلفنا - لا يعني أبداً تكافؤ هذه المناهج والفرق، سواء من جهة الكم أو الكيف كما يريد المستشرقون وأشياعهم أن يصوروا. فهذه القسمة النظرية شيء والواقع شيء آخر، وذلك أن الخارجين عن السنة والجماعة لم يكونوا إلا شراذم شاذة وأفراداً معدودين، لا سيما في أول الأمر ولم يكن فيهم ذو فضل أو سابقة قط، بل كانوا كلهم من الأعراب وحديثي العهد بالإسلام، أو المنافقين من أبناء الأمم المفتوحة وأشباههم. وعلى امتداد الثلاثة القرون المفضلة لم يكن أصحاب البدع إلا مستنقعات جانبية على ضفتي تيار الإسلام الضخم، ولم يكن فيها أحد من أئمة الإسلام المتبوعين ورجاله المعدودين قط. بل إن البدع مهما نمت أو طفرت تظل كالشجرة الخبيثة، لا تكاد تهب عليها ريح السنة حتى تجتثها إلى قرار سحيق، ومن أعظم الأدلة على ذلك ما جري في فتنة الإمام أحمد وبعدها، من تبديل تام في موقف الدولة والعلماء حتى ذل المبتدعة واندحروا بعد الظهور والتمكين.

_ (1) ص 186 (2) الثابت في الروايات الصحيحة والمعلوم لدى الأمة تواترا أنه لم يكن يوم السقيفة لا شيعة ولا خوارج، بل لم يكن هناك خلاف بالعمق والضخامة التي يصورها هؤلاء، وإنما كان تداولا للرأي ونقاشا بين المهاجرين والأنصار، سرعان ما انتهى في لقاء واحد ووقت وجيز إلى الإجماع الذي لم يشهد تاريخ الحكومات في العالم مثله، تصديقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر) (3) انظر: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام (1/228) .

ومهما يكن من ظهور البدع في بعض العصور، فإن الحقيقة الثابتة هي أن نقاء المنهج السلفي في ذاته لم يتكدر قط، وأن الطائفة المنصورة القائمة عليه لم تزل وستظل إلى أن يأتي أمر الله. والمقصود من هذا هو بيان ضلال المستشرقين ومن اتبعهم أو سبقهم من الحاقدين على الإسلام حين يحسبون أن الإسلام مرت به الحال نفسها التي مرت باليهودية والنصرانية في عصورها الأولى، حيث صدعتها الانشقاقات واستعلت البدع والمحدثات حتى طغت وسادت إلى أن لم يبق للحق الخاص من يمثله إلا أفراد، لا يكاد يحس بهم أحد، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في إخباره أن الله نظر إلى أهل الأرض عربهم وعجمهم، فمقتهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وكما تشهد به التجربة الحية التي خاضها سلمان الفارسي رضي الله عنه بحثا عن الحق (1) . 1 - الخوارج "الظاهرة المضادة": كلمة الخوارج علم مشهور على تلك الفرقة المعروفة التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالمروق من الدين وتميزت عن سائر الفرق بالغلو والإفراط والشطط والتنطع، كما تميزت في منهجها الحركي بالاندفاع والتهور والثورية العمياء، والقابلية السريعة للتمزق والاشتعال. فالجلافة طبعهم، وضيق الأفق سمتهم، ما خيروا بين أمرين إلا اختاروا أعسرهما، وما رأوا طريقين إلا سلكوا أشقهما، وما صادفوا احتمالين إلا انحازوا لأبعدهما. وقد امتلأت صفحات تاريخهم بنماذج غريبة لعقيدتهم ومنهجهم، فهم يقيمون الدنيا ويقعدونها، ويثورون ويحجمون من أجل إثبات قضية، قد لا تكون ذات شأن، لكنهم يرون أن عدم إثباتها كفر وضلال، فإذا ما تحقق لهم ذلك نكصوا ونكسوا على رؤوسهم وقالوا: قد كنا مخطئين - بل كافرين - حين فعلنا ذلك، فيثورون ويشتطون

_ (1) بل نقول: إن هذا الدين هو دين الفطرة السليمة لدى كل مخلوق فكيف بعامة المسلمين؟ أما ما نراه اليوم من كثرة البدع فيهم فإن من أعظم أسبابها الجهل وخفاء الحق وتلبيس علماء السوء، ومع ذلك فما تزال الطائفة المنصورة تجاهد في كل مكان ولن يكون النصر إلا لها بإذن الله.

أشد من الأول من أجل إبطال ما أثبتوه، والتراجع عما قرروه ويرون ضد ذلك كفراً!! وليس هذا فحسب، بل جرى شأنهم أنه خلال هاتين الثورتين الجامحتين ينشق عنهم بعضهم ويشتطون في التهجم على الطائفة الأصل، ويكفرونها بسبب التردد والتقلب، أو بسبب أحد الرأيين - إما السابق - وإما الآخر، ويحدث عندئذ أن ترد عليهم تلك الطائفة بلا تورع ناسبة الكفر إليهم، بسبب مفارقة الجماعة أو بأي سبب تراه. ثم إنه غالباً ما ينشأ من حدة هذا الخلاف فرقة ثالثة تتوسط بين الطائفتين، وتتوقف عن كلا الرأيين، فما تلبث أن تعنف منهما، وتوصم بالكفر، لأن كلاً منهما يوجب عليها أن تكون معه وإلا فهي كافرة.. وهكذا دواليك، سلسلة من تضخيم المواقف أو الاجتهادات والتكفير بها، يصاحبها سلسلة من الانشقاقات الجذرية والمفاصلات الكاملة. فقد ابتدأ أمرهم يوم صفين، حين قالوا لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه عليك أن تقبل تحكيم كتاب الله وإلا فأنت كافر. فلما وافقهم على التحكيم كارهاً مرغماً، قالوا: حكمت الرجال في دين الله، فأنت كافر، لأنه لا حكم إلا لله!! فلما قال لهم: ما حكمت مخلوقاً، إنما حكمت كتاب الله، والكتاب خط مسطور، وإنما ينطق به الرجال، وما فعلت ذلك إلا برأيكم، قالوا: قد كنا لما رضينا بالتحكيم كافرين، والآن نتوب من الكفر، فإن شهدت على نفسك بالكفر وتبت عدنا إلى طاعتك، فقال: أبعد إيماني بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وهجرتي وجهادي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أشهد على نفسي بالكفر؛ قد ضللت إذن وما أنا من المهتدين (1) . وعندما كتبت وثيقة الصلح، وطلب أهل الشام منه أن يمحو كلمة أمير المؤمنين، محاها رضي الله عنه رغبة في الصلح وتصديقاً لما أخبره به النبي صلى الله عليه وسلم من قبل (2) .

_ (1) انظر: الطبري (5/83) ، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، والفتح (12/284) ، ومقالات الإسلاميين، ص 4، تحقيق ريتر. (2) في قصة الحديبية.

فقال الخوارج: قد محوت عن نفسك إمرة المؤمنين فأنت إذن أمير الكافرين! وعندما قيل لهم: عودوا إلى طاعة أمير المؤمنين ولا تشقوا العصا، قالوا: إذا جئتمونا بمثل عمر فعلنا (1) ،ولما لم يأتهم أحد بمثل عمر اختاروا لإمرة المؤمنين عبد الله بن وهب الراسبي!! وهو أعرابي بوال على عقبيه، لا سابقة له ولا صحبة ولا فقه. ولا شهد الله له بخير قط (2) . وتجرأ أشقاهم واغتال أمير المؤمنين، وهو أفضل من على وجه الأرض يومئذ، فما ندم ولا جزع ولما قطع لسانه جزع لفوات ذكر الله عنه كما قال (3) . ومر عليهم عبد الله بن خباب، فقالوا له: أنت ابن خباب صاحب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قالوا: فحدثنا عن أبيك، فحدثهم بحديث: "يكون فتنة فإن استطعت أن تكون عبد الله المقتول فكن". فقدموه فضربوا عنقه، ثم دعوا سريته وهي حبلى فبقروا عما في بطنها، وكانوا قد مروا على ساقية فأخذ واحد منهم تمرة فوضعها في فيه فقالوا له: تمرة معاهد فيم استحللتها؟ فقال لهم عبد الله بن خباب: أنا أعظم حرمة من التمرة، فلم يبالوا بأن يقتلوه كما بالوا بحرمة تمرة النصراني (4) !! ومن النماذج الكثيرة لذلك قصة طويلة، أصلها فتوى فقهية فرعية، لكن تشعب عنها من الآراء والفرق ما يدعو إلى العجب. وذلك أنه "كان رجل من الإباضية (5) يقال له "إبراهيم" أفتى بأن بيع الإماء من مخالفيهم جائز، فبرئ منه رجل يقال له: "ميمون" وممن استحل ذلك. ووقف قوم منهم فلم يقولوا بتحليل ولا بتحريم، وكتبوا يستفتون العلماء منهم في ذلك فأفتوا: أ - بأن بيعهن حلال وهبتهن حلال في دار التقية. ب - ويستتاب أهل الوقف من وقفتهم في ولاية إبراهيم ومن أجاز ذلك. ج - وأن يستتاب ميمون من قوله.

_ (1) انظر: الطبري (5/84) ، والفتح - المصدر السابق -. (2) الفصل، ابن حزم (4/157) . (3) تلبيس إبليس، ص 95. (4) انظر: الفتح (12/297) ، والكامل (7/241) ، مع شرحه رغبة الآمل. (5) فرقة منهم منسوبة إلى عبد الله بن إباض، وهي على غلوها ومروقها تعد من أخف فرقهم، وما يزالون إلى اليوم في عمان وبلاد المغرب وزنجبار.

د - وأن يبرأوا من امرأة كانت معهم وقفت فماتت قبل ورود الفتوى (1) . هـ - وأن يستتاب إبراهيم من عذره لأهل الوقف في جحدهم الولاية عنه، وهو مسلم يظهر إسلامه. و وأن يستتاب أهل الوقف من جحدهم البراءة عن ميمون، وهو كافر يظهر كفره" (2) . قال صاحب المقالات: "فأما الذين وقفوا ولم يتوبوا من الوقف وثبتوا عليه، فسموا (الواقفة) ، وبرئت الخوارج منهم وثبت إبراهيم على رأيه في التحليل لبيع الإماء من المخالفين، وتاب ميمون" (3) . لكن الأمر لم يقف عند هذا، بل تشعب الخلاف وتطور "فافترقت فرقة من الواقفة وهم (الضحاكية) فأجازوا أن يزوجوا المرأة المسلمة عندهم من كفار قومهم في دار التقية، كما يسع الرجل منهم أن يتزوج المرأة الكافرة من قومه في دار التقية، فأما في دار العلانية - وقد جاز حكمهم فيها - فإنهم لا يستحلون ذلك فيها". ومن الضحاكية هذه انشقت أيضاً "فرقة وقفت فلم تبرأ ممن فعله - أي التزوج والتزويج - وقالوا: لا نعطي هذه المرأة المتزوجة من كفار قومنا شيئاً من حقوق المسلمين، ولا نصلي عليها إن ماتت ونقف فيها، ومنهم من برئ منها" (4) . وهكذا "صارت الواقفة من (الضحاكية) فرقتين: فرقة تولوا الناكحة، وفرقة ينسبون إلى عبد الجبار بن سليمان، وهم الذين يتبرأون من المرأة الناكحة من كفار قومهم" (5) . ولم يقف الأمر أيضاً عند هذا، بل حدث داخل فرقة عبد الجبار انشقاق آخر جعلها تتفرق فرقاً، وأشعل قضية مشكلة تفرقت الخوارج فيها، وطال خلافهم وهي قضية (حكم الأطفال) "أطفال المسلمين وأطفال المشركين في الدنيا وفي الآخرة؛ في دار التقية ودار العلانية!! "

_ (1) لأنه لا يمكن استتابتها بعد الوفاة، فعملوا بالأحوط وهو البراءة منها؛ لأنها توقفت في هذه المسألة وذلك يعني تكفيرها. نعوذ بالله من الضلالة. (2) مقالات الإسلاميين، ص 110. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه، ص 111. (5) المصدر نفسه، ص 113.

وذلك أن عبد الجبار خطب إلى أحد أصحابه - ويدعى ثعلبة - ابنته، فسأله ثعلبة أن يمهرها أربعة آلاف درهم، فأرسل - أي عبد الجبار - الخاطب إلى أم الجارية مع امرأة يقال لها أم سعيد، يسأل هل بلغت ابنتهم أم لا؟ وقال: إن كانت بلغت وأقرت بالإسلام لم أبال ما أمهرتها. فلما بلغتها أم سعيد ذلك قالت: ابنتي مسلمة بلغت أم لم تبلغ ولا تحتاج أن تدعى إذا بلغت. فرد مرة أخرى ذلك عليها، ودخل ثعلبة على تلك الحال، فسمع بتنازعهما فنهاهما عنه، ثم دخل عبد الكريم بن عجرد وهما على تلك الحال فأخبره ثعلبة الخبر، فزعم عبد الكريم أنه يجب دعاؤها إذا بلغت، وتجب البراءة منها حتى تدعى إلى الإسلام، فرد عليه ثعلبة ذلك وقال: لا بل نثبت على ولايتها.... فبرئ بعضهم من بعض على ذلك (1) . ومع انشقاق الضحاكية في مسألة المرأة، وما بني عليها من الفتوى انشقت أيضا فرقة تدعى (البيهسية) (2) وقد كان رأيها: أ - أن ميمونا كفر حين حرم بيع المملوكة في دار كفار قومنا، وحين برئ ممن استحل ذلك. ب - وكفر أهل الثبت حين لم يعرفوا كفر ميمون وصواب إبراهيم - وأهل الثبت الواقفة -. ج - وكفر إبراهيم حين لم يتبرأ من أهل الوقف لوقفهم في أمرهم، وجحدهم الولاية عنه، وجحدهم الولاية من ميمون" (3) . هكذا آل أمرهم في هذه المسألة، والمسائل مثلها كثير، وهو ما يعطي الحقيقة الواضحة عن منهج القوم الفكري وجبلتهم النفسية. وهو المطلوب هنا ولنا عودة إلى هذا التشقق ونتائجه.

_ (1) المقالات، ص 113. (2) نسبة إلى أبي بيهس هيصم بن جابر الصنبغي. انظر: رغبة الآمل شرح الكامل (7/241) (3) المقالات، ص 113، ثم ذكر كيف تشققت البيهسية فرقا يتبرأ بعضها من بعض!!

* الخروج بين الحدث التاريخي والظاهرة العقدية: إن القضية المهمة في دراسة مذهب الخوارج وتحليله، هي معرفة الحقيقة في كون الخوارج فرقة تاريخية ظهرت في عصر من العصور، متأثرة بعوامل بيئية وخارجية، أم ظاهرة عقدية وفكرية تتجدد - أو يمكن أن تتجدد - على مر العصور، وهي تحمل دائما سمات معينة وملامح محددة. والبحث في هذه الحقيقة يقودنا إلى أصل نشأة الخوارج؛ لأنه يفسر لنا الواقعة التاريخية الأولى من جهة، ويعين على تحديد السمات والملامح من جهة أخرى. والباحثون العصريون والمحدثون، هم الذين أفاضوا في تحليل قضية الخروج، ولكن بمعايير عصرية وبمنهج مستورد - غالبا - فجاءوا بآراء لا بد من مناقشتها، وأهم هذه الآراء شيوعا - حسبما رأيت - هو الرأي القائل بأن أصل الخروج هو موضوع "الخلافة" وأن التعصب القبلي ومنافسة قريش على هذا المنصب، هو السبب الذي يفسر خروج الخوارج، ومن توابع هذا الرأي القول بأن ظلم بني أمية والعباس وجورهم هو السبب. والحق أن القائلين بهذا الرأي - رغم اعتمادهم على بعض المأثورات التاريخية - متأثرون بواقع العصر وروحه أكثر من تأثرهم بالحقائق التاريخية المجردة. فإن موضوع "الخلافة" لا يبدو للباحث المنصف المتعمق إلا مسألة جزئية أو تطبيقية عند أكثر الفرق، وليس هو أصل نشأة جميع الفرق كما يصور هؤلاء؛ بل إن الشيعة وهي الفرقة التي تجعل الخلافة ركنا من أركان الدين، لم يكن أصل نشأتها هي قضية الخلافة نفسها كما سنرى. وكون التعصب القبلي سبب ذلك مردود بالحقيقة التاريخية، التي تبين أن أغلب الخوارج هم من بني تميم؛ أي من مضر لا من ربيعة ولا من اليمن، وهذا يستلزم أن يكون تعصبهم لقريش لا لمناوئيها؛ فإن قريشا مضرية كما هو متواتر عند أهل النسب، بل ثابت بالأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .

_ (1) من ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "ما زلت أحب بني تميم منذ ثلاث: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيهم، سمعته يقول: هم أشد أمتي على الدجال. قال: وجاءت صدقاتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه صدقات قومنا. وكانت سبية منهم عند عائشة فقال: أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل" البخاري (5/172) .

وأما اعتماد مؤلفي "ضحى الإسلام" ومن تابعهم كالشيخ أبي زهرة، على قول المأمون: "وأما ربيعة فساخطة على الله منذ بعث نبيه من مضر، وما خرج اثنان إلا كان أحدهما شاريا" (1) فليس في محله؛ لأن العبارة إن صحت فهي تتحدث عن خصوص قبيلة ربيعة، لا عن الخوارج عامة، وقد نظرت في أسماء قادة الخوارج وزعمائهم بالنهروان فلم أجد فيها ربيعا (2) . أما قبيلة بني تميم في الجملة فالمشهور عنها الفخر بكون النبوة والخلافة في مضر، وقد كان الفرزدق وجرير، وهما أشهر شعراء ذلك العصر، يفتخران بذلك وكلاهما من تميم - ويعيران الأخطل كل منهما من جهته - بأن قبيلته ربيعة محرومة من هذا الشرف. وفي نونية جرير المشهورة: إن الذي حرم المكارم تغلبا جعل النبوة والخلافة فينا (3) وهذا ما يتفق وعبارة المأمون. ولا يضير هذه الحقيقة أن يكون دافع الردة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم هو التعصب القبلي - أومن دوافعها - وأن يشترك المرتدون والخوارج أحيانا في النسب؛ فإن أي باحث منصف لا يمكن أن يصنف القراء المتعمقين (4) والمرتدين في صنف واحد، بجامع العصبية القبلية ضد قريش. إذ يستحيل تصور اللقاء بين فكر متشدد في الدين متعمق فيه إلى حد اعتبار الخطأ أو المعصية كفرا، وبين دعوة تجاهر بادعاء النبوة وإسقاط بعض الفرائض. والحق أن الذي جعل دافع الفريقين وغرضهما واحدا، مستدلا باشتراكهما في النسب، قد جازف مجازفة يمنعها العدل والإنصاف، حتى لو كان حرقوص بن زهير

_ (1) أي خارجيا وهذه العبارة التي نقلوها أوردها ابن طيفور في تاريخ بغداد المحقق باسم بغداد في تاريخ الخلافة العباسية، ص 146. (2) مع أن فيهم من غير بني تميم من هو خثعمي أو سلمي، انظر الطبري (5/85،76) (3) ديوان جرير، تحقيق كرم البستاني، ص 476، وتغلب المنسوب إليها الأخطل فرع من ربيعة كما هو معلوم. (4) هذا هو أصل تسمية الخوارج قبل صفين، وبقي يطلق عليهم بعدها.

هو حرقوص بن مسيلمة، ولكن أنى لهؤلاء الباحثين أن ينصفوا وهم مقلدون للمستشرقين بلا بصيرة. ومن الآراء العصرية غير ذلك ما ذهب إليه نفر من الماركسيين والبعثيين، والمتأثرين عموما بالنظرة المادية الغربية، أو الناقلين نصا عن المستشرقين، من أن علة ظهور الخوارج هي بيئتهم الصحراوية المجدبة، وواقعهم المادي المسحوق بالمميزات الطبقية التي كان الخلفاء ومن لف لفهم يتنعمون بها. وليس الرد على هذا بأن الخوارج كانوا أزهد الناس في دنيا معروضة عليهم مبذولة لهم فحسب؛ بل إن الحديث الصحيح في نشأة فكرهم ينقضه ويرده. فقد روى الإمام البخاري عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يقسم، جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي فقال: اعدل يا رسول الله. فقال: "ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل؟ قال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنقه، قال: دعه؛ فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاته، وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر في قذذه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم إلى نضيه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث الدم. آيتهم رجل إحدى يديه - أو قال: ثدييه - مثل ثدي المرأة - أو قال -: مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين فرقة من الناس". قال أبو سعيد: أشهد أني سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم وأشهد أن عليا قتلهم وأنا معه، جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي صلى الله عليه وسلم (1) . فهذا ما وقع قبل أن يوجد الظلم وجور الحكام بالفعل، فليس الجور هو أصل النشأة، وإن كان مما يعزز الفكرة ويسوغها، ولكنها المثالية المجنحة التي لا تقيم للمصالح والملابسات أي اعتبار، وإنما تنطلق محلقة في الفضاء، لكن سرعان ما يهوي بها الواقع في قرار سحيق (2) . مثالية تنتقد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ظنها بما حدث زمن عثمان، فما ظنها بما جرى زمن حكام أمية والعباس؟؟!!

_ (1) الفتح (12/290) . (2) وذلك أن هذا الرجل اعتبر إعطاء زعماء الأعراب، ومنع فقراء المهاجرين والأنصار خروجا عن العدل، دون نظر منه للمصالح والاعتبارات التي قسم النبي صلى الله عليه وسلم مراعيا إياها، ومن أدلة هذه المثالية ما تقدم من مطالبتهم بخليفة مثل عمر فلما اختاروا هم إماما لم يكن سوى الأعرابي السالف الذكر!!

صحيح أن رفض انحصار الخلافة في قريش، ورفض جور بني أمية والعباس أصبحا من مميزات الخوارج فكرا وحركة، ولكن هذا ناشئ عن التطور الطبيعي للفكرة والحركة؛ وذلك أن أول أمرهم كان المطالبة بمثل عمر في سيرته وعدله، ولم يكن المطالبة بأن الخليفة منهم، ولكنهم لما رأوا إنكار الأمة عليهم ما فعلوه من اختيار أمير للمؤمنين من أعراب بني تميم، دافعوا عما صنعوا دفاعا قادهم إلى القول بأن الخلافة جائزة لكل مسلم صالح لها قرشيا أو غير قرشي. فالفكرة فلسفة تبريرية لما وقع، وليست أساسا اعتقاديا بني عليه الواقع. والعلة الحقيقية لظهور الخوارج هي علة نفسية جبلية، وهي أن النفوس البشرية لا تنضبط دائما على المنهج العدل الوسط، بل تجنح عنه ذات اليمين أو ذات الشمال؛ إما الإيغال المهلك، وإما التفريط المسرف، وقد وقعت الخوارج في الأول كما وقعت المرجئة في الآخر. وإنما تنضبط النفوس بالتزكية المستمرة والتقويم الدائب كما حصل للجيل الأول (1) ، ولهذا تمثلت فيه حقيقة الأمة الوسط في كل شيء. * وقد تجلت فطرية هذا الدين وكماله وتوازنه في معالجة كلا الانحرافين: فإنه لما كان الغلو بطبيعته لا تطيقه إلا نفوس قلائل تنطلق من تصور فاسد، وكثيرا ما تحظى بالإعجاب والإكبار لما تلزم به أنفسها فيظن الرائي أنها تمثل حقيقة الدين وسموه، جاءت الأحاديث الصحيحة تبين صفات هذه النفوس وشبهات ذلك التصور، فكان التحذير من الخوارج واضحا باعتبارها فرقة مارقة ذات منهج عقدي متميز. ولما كان التفريط بطبعه غالبا على أكثر النفوس؛ جاء التحذير منه متمثلا في الأوامر والنواهي عامة، والتذكير بها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضرورة التناصح بين الأمة، والوعيد للمفرطين. والمقصود بيان خطأ النظرة إلى الخوارج باعتبارها حدثا تاريخيا له تفسيراته المحلية المحدودة، وضرورة النظر إليها على أنها فكرة عقائدية يمكن أن تتكرر في كل زمان ومكان؛ أي أنها "ظاهرة تدين" توجد في كل دين وفي كل عصر، وهذا

_ (1) مثلما ضبط النبي صلى الله عليه وسلم غلو الثلاثة الذين قال أحدهم: أصوم الدهر فلا أفطر، وقال الآخر: لا أتزوج النساء، وقال الثالث: لا آكل اللحم!!

الذي يستشفه المرء من النصوص الواردة فيهم، ومن تبويب كتب السنة والفقه لأحكامهم استقلالا. فالغلو في دائرته الواسعة ظاهرة كبرى في تاريخ الديانات قبلنا، حتى لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين" (1) . وما تأليه المسيح - أو عزير - ورهبانية النصارى إلا مثال لذلك. أما هذه الملة فقد ظهر الخوارج في أولها ووسطها وآخرها، وما يزال خروجهم في المستقبل واردا. ومن هنا كان لا بد من معرفتهم ودراسة فكرهم ومنهجهم؛ ليحذر ويجتنب أولا، ولضمان عدم نشوء رد الفعل المقابل وهو الإرجاء ثانيا. وهذه الحقائق النصية والمصالح الشرعية، تضيع منا إذا استسلمنا لمنهج أكثر الباحثين المعاصرين والمحدثين، في دراسة الفرق الإسلامية ونشأتها. وإذا أحسنا الظن بهؤلاء وغضضنا الطرف عما لديهم من التقليد الأعمى أو التحريف المتعمد، فإننا نقول: إن مصدر الخطأ في منهجهم هو تطبيق واقع العصر الحاضر ومفاهيمه على العصور السابقة مع أن لكل عصر مميزاته الواضحة التي يسمونها "روح العصر"! فلأننا في عصر تغلب عليه الصراعات السياسية والتكتلات الحزبية المجردة، والأغراض النفعية الخالصة؛ قام هؤلاء بتطبيق هذا الواقع على ذلك العصر، الذي كانت العقيدة والمبدأ هي المنطلق والأساس لتصرفات الطوائف والفرق، وإن ما قدمته الفرق المنحرفة من تضحيات ضخمة، وجهود هائلة تتجرد عن أي غرض مصلحي؛ لهو أحد الأدلة على ذلك. ومن هنا اصطبغت الكتابة التاريخية المعاصرة - إلا ما قل - بالمنهج الغربي، الذي هو بطبيعة الحال ابن بيئته التي تتمرغ في أوحال المادة، وتعاني مرارة الصراع النفعي، ولا تؤمن بما يسمى "القيم المجردة"، ثم هي بعد ذلك وقبله غارقة حتى الثمالة في النظرة العصبية الحاقدة على الإسلام.

_ (1) صحيح، رواه الإمام أحمد (1/347،215) ، والنسائي (5/268) .

ويستوي في ذلك من تبنى المنهج الاستشراقي بصراحة؛ مثل أحمد أمين وزميليه (1) ، ومن سلك مسلك اليساريين مثل شاكر مصطفى وزاهية قدورة، ومن نقل بلا روية وتفكر مثل أبي زهرة والنشار. وإذا كان أكثر الكتاب المعاصرين يعتبرون ما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم، خلافا دنيويا سياسيا؛ فلا عجب أن يجعلوا علة ظهور الخوارج والمرجئة دوافع عصبية أو نفعية. وحسبنا أن نورد مصطلحا واحدا من مصطلحات العصر، لنرى كيف كانت نتيجة تطبيقه على تاريخ الفرق ونشأتها؛ ألا وهو مصطلح "السياسة"؛ وذلك لارتباطه الواضح بالعلمانية الفكرية التي يعتقدها هؤلاء. فالناظر في كتابات هؤلاء، لا يكتم عجبه من التضاد المفتعل بين مفهومي الدين والسياسة، ذلك التضاد الذي أربك آرائهم، وذبذب نظراتهم حول نشأة الفرق الإسلامية، حين يتجادلون ويتساءلون: أكان الخوارج حزبا دينيا أو سياسيا، وكذلك المرجئة والشيعة؟ فالذين اعتبروا الخوارج فرقة سياسية؛ جعلوا التعصب القبلي وما أسموه "الديكتاتورية" في الخلافة هو السبب في وجودها والدافع لحركتها، وحاولوا دحض كل ما يخالف ذلك من الآراء. أما الذين عدوها فرقة دينية؛ فقد جعلوا الحماس الديني والزهد المتطرف هو العلة الحقيقية وتنكروا لما عدا ذلك. ونسي هؤلاء وهؤلاء أن السياسة باعتبارها جانبا أساسيا مهما من جوانب الإسلام، لا يمكن فصلها كلية عن أي اتجاه عقائدي داخل الحياة الإسلامية، وغاية ما في الأمر أن بعض الطوائف يبرز لديها هذا الجانب أو ذاك وأكثر ما يظهر ذلك من المسار الحركي والتطبيقي، لا في الأصول النظرية التي الأصل فيها هو العقيدة والمبدأ (2) .

_ (1) طه حسين والعبادي، وانظر عن اعترافه بتبني آراء المستشرقين: ضحى الإسلام، ص 3. وقد تبعه ابنه حسين أحمد أمين في كتابه دليل المسلم الحزين، وهو أحد أصحاب الاتجاه العصري الذي سبق له إشارة. (2) حتى نظرية الإمامة عند الشيعة لا تسوغ اعتبار الشيعة فرقة سياسية بمفهوم هؤلاء، بل هي مما يؤيد قولنا: إن العقيدة هي الأصل؛ ولهذا جعلتها الشيعة أصلا من أصول دينها.

ومع أنه لا مانع من استخدام هذه المصطلحات للتقسيم الفني، أو الوصف التغليبي؛ فإنه يجب أن يحذر من اتخاذ ذلك ذريعة إلى الفصل الاعتباطي بين الدين والسياسة، وأن ينبه إلى خلط التطبيق التعسفي لمعايير العصر ومقاييسه على الإسلام وتاريخه المتميز (1) . وبخصوص موضوع الخوارج يستطيع الإنسان أن ينقض كلا طرفي الرأي بسهولة، بأن يقال: إن المصادر التاريخية مطبقة على أن الخوارج منذ خروجهم يوم صفين، قد اعتقدوا كفر علي رضي الله عنه، لأنه حكم الرجال في دين الله - بزعمهم - ثم تجمعوا وأمروا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي، وسموه "أمير المؤمنين". فعلى الذين يرونها فرقة سياسية مجردة؛ أن يفسروا: كيف قامت هذه الفرقة على مبدأ التكفير بالمعصية؟ وتحت أي فصل من فصول السياسة - كما يفهمونها عصريا - نجعل قضية التكفير بالمعصية؟ وعلى الذين يرونها فرقة دينية أن يفسروا: لماذا اجتمع هؤلاء في "ثورة مسلحة"، وبايعوا رجلا منهم أميرا للمؤمنين، في حين أنها فرقة "دينية" حسب مفهومهم العصري للدين؟ وتحت أي طقس من طقوس الدين - حسب تصورهم - نضع هذا التصرف الذي نشأ مع الحركة منذ ولادتها؟ * الخوارج ونشأة الإرجاء: بعد اتضاح أن الخروج "ظاهرة" وليس "حادثة"، وبمعرفة السبب الحقيقي لها، نستطيع أن نصل إلى معرفة الظاهرة المضادة التي سلكت منهج الغلو في التفريط، مقابل غلو تلك في الإفراط. وعقدة القضية - أن الظاهرة المضادة إنما انبثقت في الأصل من الظاهرة الأولى نفسها، أي أنهما لم يكونا منذ النشأة منهجين متعاديين، اشتط أحدهما ذات

_ (1) ومن أبرز هذه التطبيقات؛ القول بأن الحروب الصليبية ليست حروبا دينية، بل هي حروب اقتصادية، هذا مع إجماع التاريخ الأوروبي على أن العصور الوسطى هي: (عصور الإيمان) ، وإطباقها على أن الكنيسة كانت تسيطر على كل شيء، حتى أن تتويج الأباطرة كانت من اختصاصات البابا، فضلا عن اسم الحروب نفسه؛ ولهذا عجز دعاة هذا الرأي عن الإتيان بؤرخ معاصر لتلك الحروب - مسلما أو صليبيا - لا يعتبرها حروبا دينية!!

اليمين والآخر ذات الشمال، وإنما هما منهج واحد في الأصل: " الخروج"، لكن بعضه أشد غلواً من بعض، وتطور الخلاف بين أصحابه في الجانب التطبيقي، ليصبح موضوعه مرتكب الكبيرة الحقيقي من الأمة، بعد أن كان عثمان وعلياً وسائر الصحابة زمن الفتنة. وبهذا التطور الذي لم يدرك أبعاده أكثر الباحثين، آل الأمر إلى منهجين متضادين على الحقيقة، وتجاوز الخلاف بينهما حدود الوقائع التاريخية حين النشأة، ليصبح خلافاً نظرياً عاماً مؤصلاً. وقد استوقفتني هذه الحقيقة كثيراً - أعني حقيقة أن أصل المرجئة هم الخوارج لا بطريق التضاد في الغلو بل ذاتاً وحقيقة - وليس سبب ذلك عدم ثبوتها، ولكنه عدم وضوح تعليلها الذي تبين بعد بالتتبع الدقيق لفرق الخوارج. ومن هنا ظهرت ضرورة التوسع في دراسة إحدى الظاهرتين، لمعرفة حقيقة الأخرى. وإذا ما أردنا الوصول إلى الحقيقة، فإن علينا أن نعرف تلك الظاهرة البارزة في تاريخ الخوارج، وهي الاختلاف والتشقق إلى أكثر من رأي عادة وفي كل قضية تقريباً، وهو ما أنتج بمجموعه ثلاثة اتجاهات كبرى في مواقف فرق الخوارج، منذ حادثة التحكيم إلى بروز منهج الإرجاء قائماً بنفسه وهي: 1 - الاتجاه الغالي المطرد في غلوه. 2 - الاتجاه المتراجع إلى حد التساهل (نسبياً) 3 - الاتجاه التوسطي، أو المحايد "التوقف والتبين". والقصة التي سبق إيرادها شاهد على هذه الاتجاهات الثلاثة في المواقف، وفي تاريخ الخوارج أمثلة أخرى، يهمنا منها بالأساس قضية حكم مرتكب الكبيرة عندهم، والدار التي يعيش فيها!! لقد اشتطت الخوارج، وغلت في النظرة لمرتكب الكبيرة (1) ، وتشعب بها الخلاف في أحكامه، حتى كثر بعض فرقها بعضاً. لكن ليس هذا فحسب وإنما الرزية كل الرزية أن مرتكب الكبيرة عندهم ليس هو الزاني أو السارق أو الكاذب ونحوهم من عصاة الأمة، وإنما هو علي وعثمان

_ (1) وهي الأصل الذي انبثقت منه القضايا المنهجية الأخرى، وعلى رأسها قضية الدار كما سنرى.

وطلحة والزبير وعائشة وأبو موسى وعمرو بن العاص ومعاوية، وأمثالهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالحكم على هؤلاء بالكفر هو أصل عقيدة الخوارج، وحادثة التحكيم هي التي أثارت ذلك كما سبق. وهذه هي البداية المهمة في تاريخهم، وفي تاريخ نشأة الإرجاء وانبثاقه من أصولهم، كما ألمحنا. فمنذ أن خرجت "المحكمة الأولى" على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وهي تجاهر بتكفيره، وظل الإجماع بينهم منعقداً على ذلك، وانطلاقاً منه تم الاتفاق على اغتيال رؤساء المختلفين في الفتنة، وهو ما فعله ابن ملجم وأخفق فيه صاحباه. لكن هذه البدعة الشنيعة، ترعرعت وتطورت واتخذت فيما بعد مجالاً تطبيقياً وتفصيلياً أوسع من مجرد اعتقاد كفر الصحابة المختلفين، ومن هنا كان طبيعياً أن يظهر الخلاف بينهم تبعاً لمنهجهم السابق إيضاحه. وكان من أعظم أسباب تطور الفكرة واتساع مجالها، نجاحهم في حكم بعض الأقاليم في زمن الخلاف بين ابن الزبير والأمويين، حيث أسسوا لهم "دار إسلام وهجرة" - بزعمهم - ومن هنا ظهرت دواعي الأحكام الفرعية والتطبيقية التي تتخذ عندهم - كما أسلفنا - منزلة الأصول والعقائد. ولهذا فسوف نتتبع تطور العقائد والخلافات، من خلال العرض التاريخي للأحداث المسببة لها، وبذلك نصل إلى معرفة أشمل وأعمق، لا سيما عن الاتجاهات الثلاثة، وخاصة "الاتجاه التوسطي". ويبدأ تاريخ الخلاف بينهم بما أحدثه "نافع بن الأزرق الحنفي"، زعيم الخوارج الأزارقة حول الحكم على "الدار" وعلى معاملات أهلها، وهي القضية التي أصبحت أصلاً من أصول الخوارج المنهجية قديماً وحديثاً، إذ سائر الأحكام عندهم مترتبة عليها. وكان سبب الخلاف الذي أحدثه نافع، أن امرأة من الخوارج عربية تزوجت أحد الخوارج من الموالي، فأنكر أهلها عليها ذلك، فأخبرت زوجها، وخيرته بين اللحاق بمعسكر نافع للدخول في دار الإسلام، أو الاختفاء، أو الطلاق، فخلى سبيلها، وأخذها أهلها فزوجوها ابن عم لها لم يكن على رأيها.

فاختلف الخوارج في حكمها، فعذرها بعضهم بأنها مجبرة وأن الدار بالنسبة لها دار تقية، إذ لا تستطيع إظهار دينها، وترفض الزواج بالمشرك!! ولكن نافعاً وحزبه لم يعذروها هي وزوجها، وقالوا: "كان ينبغي لهما أن يلحقا بنا، لأنا اليوم بمنزلة المهاجرين بالمدينة، ولا يسع أحداً من المسلمين التخلف عنا، كما لم يسع التخلف عنهم، وبرئوا من القائلين بالتقية". ثم تطورت المسألة حتى كفروا كل من لم يهاجر إليهم، وإن كان على رأيهم، ولم يعذروه، وإن كانت إقامته تقية، وقالوا: إن كلم من لم يظهر موافقتهم كافر، لا تحل ذبيحته ولا مناكحته، بل لم يقتصروا على الكبار البالغين وإنما صرحوا بأن حكم الأطفال حكم آبائهم. وقالوا: لا بد من امتحان من قصد دارنا، حتى نعلم صحة إسلامه. وهكذا برزت قضية "الدار"، وأصبح من أصول الأزارقة المميزة لهم "أن كل كبيرة كفر، وأن الدار دار كفر - يعنون دار مخالفيهم - وأن كل مرتكب كبيرة ففي النار خالداً مخلداً"، و"أن من أقام في دار الكفر فكافر لا يسعه الخروج". ولم يقفوا عند هذا، بل طبقوا ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فجعلوا من أصولهم تكفير علي بسبب التحكيم، وتكفير الحكمين أبي موسى وعمرو (1) . وبالأولى يكفرون معاوية وأهل الشام - رضي الله عن الصحابة أجمعين -. وهذه الآراء جعلت "نجدة بن عامر الحنفي" يستقل عن نافع، وينشئ دار إسلام خاصة به وأصحابه، ومال إلى التخفيف من حدة هذا الغلو، فقرر أن الجاهل في غير الأصول معذور، حتى تقوم عليه الحجة، وأن المجتهد المخطئ معذور، وأن من خاف العذاب على المجتهد قبل قيام الحجة عليه فهو كافر!! وأطلق على من لم يهاجر إلى دارهم اسم النفاق - ولم يقل الكفر كنافع - وقال: إن أصحاب الحدود والجنايات - ممن هو على دينهم - لا يستوجب البراءة بل نتولاه، وأن الله يخلده في النار. ومما أحدثه "نجدة" وأصّله مسألة "الإصرار"، فقال: إن المصر على أي ذنب صغيرة أو كبيرة كافر (2) ، وقد تحولت هذه المسألة إلى أصل منهجي من أصول أكثر الخوارج قديماً وحديثاً.

_ (1) انظر عما سبق: مقالات الإسلاميين، ص 86- 87، 89، ورغبة الآمل (7/232) (2) انظر: المقالات، ص89- 91، أي ليس مجرد الفعل كما تقول الأزارقة.

وكالعادة تفجر الخلاف داخل أصحاب نجدة، فانقسموا ثلاث فرق: "النجدية، والعطوية، والفديكية". * والعطوية: منسوبة إلى "عطية بن الأسود الحنفي"، الذي فارق نافعاً ونجدة، منتقلاً إلى سجستان بأرض فارس، وهناك انتشر الخوارج وحكموا فترات متقطعة، وتفرقوا أيضاً فرقاً شتى، حيث خرج من العطوية رجل يدعى "عبد الكريم بن عجرد"، فانبثقت من آرائه خمس عشرة فرقة، يطلق عليها جميعاً اسم "العجاردة". - فمنهم فرقة قالوا: "إنه يجب أن يدعى الطفل إذا بلغ، وتجب البراءة منه قبل ذلك حتى يدعى إلى الإسلام ويصفه هو" وتميزت بذلك. - وفرقة أخرى أعادت النظر في مسألة الدار وأهلها، فقالوا: إن الواجب هو "قتال السلطان خاصة، ومن رضي بحكمه، فأما من أنكره فلا يرون قتله إلا إذا أعان عليهم، أو طعن في دينهم أو صار عوناً للسلطان أو دليلاً له"! - وفرقة ثالثة تفردت بالقول بالتوقف في الأطفال عامة فقالوا: "ليس لأطفال الكافرين ولا لأطفال المؤمنين ولاية ولا عدواة ولا براءة، حتى يبلغوا فيدعوا إلى الإسلام، فيقروا به أو ينكروه". - وفرقة أخرى عممت التوقف فهم "يتوقفون عن جميع من في دار التقية، من منتحلي الإسلام وأهل القبلة، إلا من قد عرفوا منه إيماناً فيتولونه عليه، أو كفراً فيتبرأون منه" (1) . وإذا تركنا سجستان وخوارجها، وعدنا إلى اليمامة والعراق، فسنجد أن رجلين من مخالفي نجدة ونافع أسسا فرقتين كبيرتين من الخوارج، وكل فرقة منهما تشعبت كالعادة إلى فرق أخرى. - هاتان الفرقتان هما: "الصفرية" أتباع زياد بن الأصفر، و "الإباضية" أتباع عبد الله بن إباض. - وفي الوقت نفسه - على ما يبدو - خرجت طائفة لم يسمها الأشعري، لكن قولها مهم وهو أن "ما كان من الأعمال عليه حد واقع، فلا يتعدى بأهله

_ (1) انظر المصدر السابق، ص92- 98

الاسم الذي لزمهم به الحد، وليس يكفر بشيء ليس أهله به كافراً، كالزنا والقذف وهم قذفة زناة (1) . وما كان من الأعمال ليس عليه حد كترك الصلاة والصيام فهو كافر، وأزالوا اسم الإيمان في الوجهين جميعاً" (2) وهذه الفرقة ينطبق عليها اسم الإرجاء، من حيث أنها لا تقول بإسلام ولا كفر، فيما كان دون الشرك والكفر، فهي إحدى فرق ما يسمى "مرجئة الخوارج" والله أعلم. * أما الإباضية: فقد مالت إلى مذهب قريب من هذا التوقف أو الإرجاء، وابتعدت عن غلو نافع أكثر مما ابتعد نجدة، وذلك أن جمهور الإباضية يزعمون أن مخالفيهم من أهل الصلاة كفار وليسوا بمشركين (3) ، حلال مناكحتهم، وموارثتهم حلال، وغنيمة أموالهم من السلاح والكراع عند الحرب، وحرام ما وراء ذلك، وحرام قتلهم وسبيهم في السر إلا من دعا إلى الشرك في دار التقية ودان به. "وزعموا أن الدار - يعنون دار مخالفيهم - دار توحيد، إلا عسكر السلطان فإنه دار كفر..". وقالوا: "إن مرتكبي الكبائر موحدون وليسوا بمؤمنين" (4) . وقالوا: "إن جميع ما افترض الله سبحانه على خلقه إيمان، وإن كل كبيرة فهي كفر نعمة لا كفر شرك، وإن مرتكبي الكبائر في النار خالدون مخلدون فيها" (5) . وأما مسألة "الأطفال" فقد توقفت الإباضية - أو أكثرهم - فيها، وقالوا: يجوز أن يعذبهم الله، ويجوز ألا يعذبهم على تفصيل فيه (6) . وتطورت فكرة التوقف والإرجاء عند الإباضية، بعد حدوث الواقعة التي سبق ذكرها بشأن الإماء والنساء من مخالفيهم، حيث ظهر فيهم فرقة سميت: "الواقفة" - كما سبق -.

_ (1) أي من ارتكب ما يوجب الحد وأقيم عليه، فإنهم يسمونه بما ارتكب فقط، فيقولون: زان وسارق وقاذف، ولا يقولون مؤمن وكافر. (2) المقالات، ص101- 102 (3) مسألة التفريق بين الشرك والكفر اختلفت فيها فرق الخوارج كثيراً، انظر المقالات، ص102ـ103، 118 (4) المقالات، ص104- 105، وفي النص سقط طفيف حاولت اصلاحه بإضافة واو العطف قبل كلمتي " غنيمة " و " حرام ما وراء ذلك ". (5) المصدر السابق ص110.

وهؤلاء الواقفة - إضافة إلى ما نقلناه من افتراق الضحاكية عنهم، ثم انشقاق الضحاكية - لم يتفقوا على رأي محدد بل "اختلفوا في أصحاب الحدود، فمنهم من برئ منهم، ومنهم من تولاهم، ومنهم من توقف". كما اختلفوا "في أهل دار الكفر عندهم، فمنهم من قال: هم عندنا كفار إلا من عرفنا إيمانه بعينه، ومنهم من قال: هم أهل دار خلط فلا نتولى إلى من عرفنا فيه إسلاماً، ونقف فيمن لم نعرف إسلامه". (1) وقد ظهر للواقفة عدو منافس هم فرقة "البيهسية" أصحاب أبي بيهس، الذي كفر الواقفة بسبب المسألة المذكورة كما سبق، وعلل ذلك بالتفريق بين التوقف في الحكم نفسه، والتوقف في حق من ارتكبه قائلاً: "إن الوقف لا يسع (2) على الأبدان، ولكن يسع على الحكم بعينه ما لم يواقعه أحد من المسلمين، فإذا واقعه أحد من المسلمين، لم يسع من حضر ذلك ألا يعرف من أظهر الحق ودان به، ومن أظهر الباطل ودان به. (3) أي أن الإنسان قد يتوقف عن حكم ما لا يدري أهو كفر أم إيمان، فإذا فعله فاعل وحضر ذلك، فلا بد أن يعرف أهو محق أو مبطل في فعله، ويحكم عليه بالكفر أو الإيمان، بحسب الاجتهاد والعذر ونحو ذلك. وعابت البيهسية مخالفيهم في ذلك وأسمتهم "الواقفة" (4) . ثم إنه انشقت عن البيهسية فرقة يقال لها "العوفية" وهي في الحقيقة فرقتان: فرقة تقول: "من رجع من دار هجرتهم، ومن الجهاد إلى حال القعود، نبرأ منهم". وفرقة تقول: " لا نبرأ منهم، لأنهم رجعوا إلى أمر كان حلالاً لهم" (5) . وكلا الفريقين من العوفية يقولون: "إذا كفر الإمام فقد كفرت الرعية، الغائب منهم والشاهد" (6) .

_ (1) المقالات، ص111- 112 (2) أي لا يصح ولا ينبغي. (3) المقالات، ص113 (4) 10) المقالات ص 114. (5) لأن الإباضية يجيزون الإقامة بدار التقية!! (6) 12) المقالات، ص115

وهم بهذا الرأي الأخير يعودون إلى ما قالته المحكمة ونافع من قبل، وإن كان الكفر عندهم يختلف عن الكفر عند أولئك، ولكن غلو هذه الفكرة واضح، حتى في حق من ارتكب الكفر الحقيقي. ولا أدري ما الفرق بين هذه الفرقة وبين الفرقة الأخرى من البيهسية، التي قال عنها أبو الحسن: "وقالت طائفة من البيهسية: إذا كفر الإمام كفرت الرعية، وقالت: الدار دار شرك وأهلها جميعاً مشركون، وتركت الصلاة إلا خلف من تعرف، وذهبت إلى قتل أهل القبلة وأخذ الأموال واستحلت القتل والسبي على كل حال" (1) ، إلا أن يكون ما زاده في هذه لم تذهب إليه تلك، فالله أعلم. ثم ينقل عن فرقة أخرى من البيهسية أنهم قالوا: "من ارتكب كبيرة لم نشهد عيه بالكفر، حتى يرفع إلى الإمام أو الوالي ويحد، فوافقهم على ذلك طائفة من الصفرية إلا أنهم قالوا: نقف فيهم ولا نسميهم مؤمنين ولا كافرين". (2) وإذا انتقلنا للحديث عن الصفرية نجد هذا الاتجاه - أعني التوقف والإرجاء - لدى فرقة أخرى منهم غير هذه، وهي الفرقة المسماة "الحسينية". وهم "يرون الدار دار حرب وأنه لا يجوز الإقدام على من فيها إلا بعد المحنة، ويقولون بالإرجاء في موافقيهم خاصة (3) كما حكي عن نجدة" (4) وما عداه فليس للصفرية قول متميز ذو شأن، إلا إذا صحت نسبة "صالح بن مسرج" إليهم. وصالح هذا كان من زعمائهم، حكم ببعض أحكام في الغنائم وغيرها، فاختلف عليه الخوارج في ذلك، فبرئت منه فرقة فسميت "الراجعة"، وصوب أكثر الخوارج رأي صالح، ووقف "شبيب" في صالح والراجعة وقال: لا ندري ما حكم به صالح حقاً كان أو باطلاً. "ويقال: إن أكثر الراجعة عادوا إلى قول صالح.. فأما بعض الإباضية فيذهب إلى أن الذين برئوا من صالح كفروا، وأن من وقف في كفرهم كفر".

_ (1) المقالات، ص116 (2) المقالات، ص116 (3) أي من ارتكب كبيرة ممن هو على دينهم يرجئون أمره إلى الله. (4) المقالات، ص119

وأما شبيب فقد انتسب إليه فرقة تسمى "الشبيبية"، وذلك أن شبيباً وقف في صالح وفي الراجعة فقالوا: "لا ندري أحق ما حكم به صالح أم جور؟ وحق ما شهدت به الراجعة أم جور؟ فبرئت الخوارج منهم وسموهم مرجئة الخوارج" (1) .

_ (1) المقالات، ص122- 123

* الخلاصة والنتيجة: نخلص من هذا العرض لفرق الخوارج واختلافاتها واتجاهاتها الثلاثة في الخلاف - كما أشرنا - إلى أن الحكم على مرتكب الكبيرة هو أساس أصولهم، ومجمع زمامها، سواء المجمع عليه منها، أو المختلف فيه، وبحسب الحكم عليه يكون الحكم على الدار التي ينتمي إليها. فإذا ما عدنا إلى منبع الفكرة وسببها، وهو حادثة التحكيم، وعرفنا أن مرتكب الكبيرة عندهم إنما هو بالقصد الأول علي وعثمان ومعاوية وعمرو وأبو موسى وطلحة والزبير.. إلخ، وأن كل من ارتكب كبيرة بعدهم، فالحكم عليه في نظر أي فرقة من الخوارج، إنما هو بحسب حكمها على أولئك الأصحاب السابقين. إذا علمنا ذلك، برزت لنا حقيقة مهمة، وهي أن طائفة من الخوارج "تشمل فرقاً أو بعض فرق" تقف من الحكم على الأصحاب المختلفين في الفتنة موقفاً وسطاً، بين قول المحكمة والأزارقة، الذين يكفرونهم رأساً، وبين قول الإباضية ونحوهم، ممن يقول: هم كفار نعمة. وهذا الموقف هو التوقف والإرجاء، أي إرجاء حكمهم في الآخرة إلى الله تعالى، مع إثبات اسم الإيمان لهم في الدنيا، بناء على الأصل الذي اتخذته أكثر فرق التوقف، وهو أن كل معصية دون الكفر لا يطلق على صاحبها اسم الكفر، ولا ينفى عنه اسم الإيمان. فتكون خلاصة عقيدة هذه الطائفة: "أن كل من ارتكب كبيرة، دون الشرك بالله تعالى، فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، أما في الدنيا فنحن نجزم بكفر من أشرك بالله فقط، وما عداه نثبت له اسم الإيمان". وبغض النظر عن مفهومهم لمصطلحي "الكفر والإيمان"، ومدى موافقته لأهل السنة والجماعة من عدمها، المهم هو أنهم لا يحكمون على مرتكب الكبيرة، كالزنا والقذف والسرقة بالكفر والخلود في النار، كعامة الخوارج، بل يرجئون أمره إلى الله تعالى، فإذا ما أرادوا تطبيق هذا الأصل على ما تقرر لديهم، من كون الصحابة المختلفين في الفتنة مرتكبين للكبائر، كانت النتيجة: أن عثمان وعلياً وطلحة

والزبير ومعاوية.. إلخ مؤمنون (1) ، لأنهم لم يشركوا بالله، فلا ننفي عنهم اسم الإيمان، ولكن لا ولاية لهم ولا محبة، نظراً لما ارتكبوه، ومقتضى ذلك - كما رأينا من واقع انشقاقاتهم - أن يقولوا: إن الخوارج مخطئون في تكفيرهم لهم!!. وإذا أضفنا إلى هذا ما لاحظناه من براءة الخوارج من مخالفيهم ومنابذتهم لهم، وتصورنا ما لا بد أن تتعرض له هذه الطائفة من مهاجمتهم وعداوتهم، وما سوف تقابلهم به هي بطبيعة الحال، أدركنا أن من الممكن المعقول أن يتعمق العداء بينهما، ليصبح عداء بين منهجين متفاصلين متضادين، لا سيما إذا وضعنا في الحسبان أن هذه العقيدة تتفق مع "الإرجاء"، الذي هو موقف نفسي يمكن أن يقع عند كل خلاف - كما أسلفنا وذكرنا - وجهة نظر أصحابه في الفتنة الأولى. ويؤكد لنا صحة ما ذهبنا إليه منطوق قصيدة "ثابت قطنة"، المسمى "شاعر المرجئة" وهي ما يوصف بأنه الأثر الإرجائي الوحيد الباقي (2) . وهذا ما يقودنا تلقائياً إلى الحديث عما سمي تاريخياً "المرجئة الأولى"، والاستقلال عن موضوع الخوارج ابتداءاً من هذه النقطة. * المرجئة الأولى: المرجئة الأولى علم على الطائفة التي فصلنا الحديث عن نشأتها في المبحث السابق "أي الاتجاه التوسطي أو التوقفي من الخوارج" ومن وافقها في نظرتها للصحابة خاصة. وهذه التسمية صحيحة وثابتة، وما حفظه التاريخ عن هذه الطائفة - على قلته - يكفي لإعطاء تصور جيد عنها. ولن نتبع منهج المؤرخين والباحثين في استقاء فكرتها من قصيدة ثابت قطنة ونحوها، بل نسلك مسلك المحدثين فنأخذ الحديث عنها من مصادره الصحيحة - إن وجدت - ثم نعرج على ما أثر في كتب التاريخ والفرق والأدب.

_ (1) أي مسلمون. (2) أنظر: الفرق الإسلامية في الشعر الأموي، نعمان القاضي، ص734، وهذا صحيح بالنسبة للإرجاء الخاص بالصحابة.

يقول الإمام الحجة محمد بن جرير الطبري في كتابه "تهذيب الآثار": "فإن قال لنا قائل: ومن هم المرجئة؟ وما صفتهم؟ قيل: إن المرجئة هم قوم موصوفون بإرجاء أمر مختلف فيما ذلك الأمر؟ فأما إرجاؤه فتأخيره، وهو من قول العرب: أرجأ فلان هذا الأمر فهو يرجئه إرجاء، وهو مرجئه، بهمز. وأرجاه فلان يرجيه أرجا، بغير الهمز فهو مرجيه، ومن قول الله تعالى ذكره: «وآخرون مرجون لأمر الله» . يقرأ بالهمزة وغير الهمز بمعنى مؤخرون لأمر الله، وقوله مخبراً عن الملأ من قوم فرعون: «قالوا أرجه وأخاه» . بهمز أرجه وبغير الهمز (1) . فأما الأمر الذي بتأخيره سميت المرجئة مرجئة، فإن ابن عيينة كان يقول فيما حدثني عبد الله بن عمير الرازي قال: سمعت إبراهيم بن موسى - يعني الفراء الرازي - قال: سئل ابن عيينة عن الإرجاء؟ فقال: الإرجاء على وجهين: قوم أرجوا أمر علي وعثمان، فقد مضى أولئك. فأما المرجئة اليوم فهم يقولون: الإيمان قول بلا عمل. فلا تجالسوهم ولا تؤاكلوهم ولا تشاربوهم ولاتصلوا معهم ولا تصلوا عليهم ". (2) ثم قال الطبري - بعد نقل آثار عنهم-: "والصواب من القول في المعنى الذي من أجله سميت مرجئة أن يقال: إن الإرجاء معناه ما بيناه قبل من تأخير الشيء، فمؤخر أمر علي وعثمان رضي الله عنهما وتارك ولايتهما والبراءة منهما مرجئاً أمرهما فهو مرجئ، ومؤخر العمل والطاعة عن الإيمان مرجئهما عنه فهو مرجئ. غير أن الأغلب من استعمال أهل المعرفة بمذاهب المختلفين في الديانات في دهرنا هذا الاسم فيمن كان من قوله: الإيمان قول بلا عمل، وفيمن كان مذهبه أن الشرائع ليست من الإيمان، وأن الإيمان إنما هو التصديق بالقول دون العمل المصدق بوجوبه" (3)

_ (1) هذا هو معنى الإرجاء لغة، والإمام الطبري حجة في اللغة والقراءات، فلم أشأ التطويل بذكر ما أطالت فيه كتب اللغة، وانظر تاج العروس (10/145) (2) 2/181) ، تحقيق الدكتور ناصر بن سعد الرشيد وزميله. (3) 2/185) ولعل في آخر جملة نقصاً، وصحتها: " من المصدق بوجوبه ".

ففي كلام الإمام ابن عيينة وشرح الطبري له، ما يدل على أن المرجئة الأولى هي طائفة من الناس كانت ترجئ أمر عثمان وعلي إلى الله، فلا تتولاهما ولا تتبرأ منهما، فهي مضادة لمن يكفرهما أو يغلو فيهما - أو أحدهما - وكذا لمن يرى تقديمهما وفضلهما ووجوب موالاتهما. والغاية أن الإرجاء عندها ليس في مسألة الكفر والإيمان عامة، وإنما هو في الموقف من الصحابة المختلفين في الفتنة - رضي الله عنهم - خاصة. فهم مناقضون لما عليه عامة الخوارج من تكفيرهما، وما عليه عامة الشيعة من الغلو في علي والحط على عثمان أو تكفيره، وكذلك مخالفون لما عليه الجماعة في أمرهما. ومن هنا كان طبيعياً أن تتعرض هذه الطائفة لنقد وعيب هذه الطوائف جميعاً، وكل طائفة تعيبها وتخالفها من الزاوية التي تراها مخالفة لها فيها، ومن هنا تشعب القول عن المرجئة الأولى واختلف. فالجماعة يعدونهم من الخوارج - وهم كذلك لمن تأمله - كما قد سبق إيضاح ذلك وإثباته من واقع فرق الخوارج. والشيعة تعدهم نواصب، ولهذا أدخلت أهل السنة عامة في مسماهم - كما سنرى - فهم يطلقون على كل من لم يغل في علي مرجئاً، إلا إذا كان يكفره فهو خارجي. والخوارج يعدونهم مرجئة، لأنهم لم يجزموا بكفر علي وعثمان - في أول الأمر - وبالتالي لم يجزموا بتكفير مرتكب الكبيرة عامة بعد تطور النزاع على النحو الذي سبق. وهذا ما يفسر السر في تضارب الأقوال عنهم، واختلافهم حتى أعيى الكثير من المصنفين والباحثين الجمع بينها، في حين أن من اعتمد على المصادر السلفية وحدها لا يجد أي اختلاف، وعلى هذا نسوق الشواهد: فمن المرجئة الأولى "محارب بن دثار" قاضي الكوفة، المتوفى حوالي سنة 116، يقول عنه ابن سعد: "كان من المرجئة الأولى، الذين كانوا يرجون علياً وعثمان، ولا يشهدون بإيمان ولا كفر" (1)

_ (1) الطبقات (6/307) طبعة الشعب، وانظر تهذيب التهذيب (10/49- 50)

وينقل الذهبي النص مع زيادة: "قال ابن سعد: كان من المرجئة الأولى، الذين يرجون علياً وعثمان إلى أمر الله، ولا يشهدون عليهما بإيمان ولا كفر". (1) وإذا كان هذا يعد عند الجماعة بدعة وجرحاً، فإن الشيعة تعده كفراً بالنسبة لعلي، وقد نسب صاحب الأغاني، وصاحب كتاب الزينة - وكلاهما رافضي - هذه الأبيات إلى محارب: يعيب علي أقوام سفاها ... بأن أرجي أبا حسن عليا وإرجائي أبا حسن صواب ... عن العمرين براً أو شقيا فإن قدمت قوماً قال قوم ... أسأت وكنت كذاباً رديا إذا أيقنت أن الله ربي ... وأرسل أحمداً حقاً نبيا وأن الرسل قد بعثوا بحق ... وأن الله كان لهم وليا (3) فليس علي في الإرجاء بأس ... ولا لبس ولست أخاف شيّا

_ (1) سير أعلام النبلاء (5/218) . وانظر تاريخ دمشق لابن عساكر (16/265،267) ، نشر مكتبة الدار بالمدينة النبوية. والمقصود بالإيمان هنا: المرتبة التي هي فوق الإسلام، لا أنه يخرجهما من الإسلام. (3) الأغاني لأبي فرج الأصفهاني (7/275) ، طبعة دار الكتب، تحقيق أحمد زكي صفوت. (4) الزينة، أبو حاتم الرافضي (ضمن كتاب: الغلو والفرق الغالية، ص 265) . (5) أي جهنم. (6) أن يتمنى أن ولدته أمه جروا. (7) الأغاني (7/276)

وعند الأخير زيادة بيتين: وعثمان وماج الناس فيه ... فقالت فرقة قولاً بذيا وقال الآخرون إمام صدق ... وقد قتلوه مظلوماً بريا (4) فرد عليه أحد شعراء الشيعة سائراً على منهجهم في الغلو والفحش: يود محارب لو قد رآها (5) ... وأبصرهم حواليها جثيا وأن لسانه من ناب أفعى ... وما أرجى أبا حسن عليا وأن عجوزه مصعت بكلب ... وكان دماء ساقيها جريا (6) متى ترجي أبا حسن عليا ... فقد أرجيت يا لكع نبيا (7) ولشاعرهم الحميري الملقب بالسيد، قصيدة في المعنى نفسه قال: خليلي لا ترجيا واعلما ... بأن الهدى غير ما تزعمان وأن عمى الشك بعد اليقين ... وضعف البصيرة بعد العيان

ضلال فلا تلججا فيهما ... فبئست لعمركما الخصلتان أيرجى علي إمام الهدى ... وعثمان ما اعتدل المرجيان (1) ويرجى ابن حرب وأشياعه ... وهوج الخوارج بالنهروان (2) ويرجى الألى نصروا نعثلاً ... بأعلى الخريبة والسامران (3) يكون أمامهم في المعاد ... خبيث الهوى مؤمن الشيصبان (4) وهكذا تعرض محارب - ومن كان معه - لهجوم الشيعة في كلا جانبي رأيه وهما: إرجاء علي، إذ كيف يرجى وهو عندهم نبي، كما صرح الأول، أو إمام الهدى الوحيد!! وإرجاء عثمان، إذ كيف يرجى وهو إمام ضلالة - وكذا معاوية - فالواجب تكفيرهما!! وعن الشك الذي يظهر في أبيات محارب، وخوفه من لوم الطوائف المعارضة نقول: إنه لم يسلم من اللوم، بل عرض الحميري ذلك واصفاً له بالضلال، وإن عمى الشك بعد اليقين لضلال حقاً، لكن ليس على ما يرى الحميري.

_ (1) رواية الأغاني: "ما أعند"، وعليها يكون فيه لحن وما أثبتناه من الزينة (2) رواية الزينة: "ابن هند"، والمقصود به معاوية رضي الله عنه. (3) نعثل: لقب تلقب به الشيعة عثمان رضي الله عنه وقبحهم (4) الظاهر أنه - أخزاه الله - يقصد عثمان رضي الله عنه، والأبيات في الأغاني (7/280) ، والزينة، ص 265- 266.

هذا ولا يصح أن يكون إرجاء محارب هو تأخيره علي إلى الدرجة الرابعة في ترتيب خلافة الراشدين، كما ظن ذلك بعضهم، لأن هذا هو مذهب الجماعة وإجماع الأمة، وإنما إرجاؤه ما سبق، أما مصادر الشيعة فهي تعتبره كذلك، لكن لا عبرة بقولها، فهو فرع عن عقيدتها ودينها. هذا وقد ذكر صاحب الأغاني أيضاً أن أحد الشيعة أشرف على الموت، فأظهرت المرجئة الشماتة به، فقال السيد الحميري قصيدة في مدح الشيعة، وهذا مما يدل على تنافس وعداء (1) . ولعل ما يؤيد معرفة سفيان بن عيينة لهذا الطائفة، أن أحد شيوخه عاصم بن كليب الجرمي هو تلميذ لمحارب بن دثار، وقد كان على الإرجاء نفسه، كما وصفه بذلك شريك بن عبد الله، ومما يدل عليه قوله لأحدهم: "إنك خشبي"، والخشبية هم الرافضة أو طائفة منهم، فكأنه يدافع عن نفسه بأنه موقفه خير من الغلو في علي (2) . ونجد إماماً فقيهاً آخر هو "ابراهيم النخعي"، وقد كان معاصراً لمحارب وأعدائه يتكلم عن هذه الطائفة. فقد ذكر ابن سعد بسنده "أن رجلاً كان يأتي إبراهيم النخعي فيتعلم منه، فيسمع قوماً يذكرون أمر علي وعثمان، فقال: أنا أتعلم من هذا الرجل وأرى الناس مختلفين في أمر علي وعثمان؟ فسأل إبراهيم النخعي عن ذلك، فقال: ما أنا بسبئي ولا مرجئي" (3) . أي لست من الشيعة - الذين أسس مذهبهم عبد الله بن سبأ كما هو معلوم - ولا من المرجئة الذين يقابلون غلو الشيعة بالإجحاف وعدم التولي له، يعني فهو من أتباع السلف أهل السنة، وأراد أن يعلم تلميذه أن يجتنب هاتين الفرقتين اللتين كانتا في الكوفة حينئذ. وفي العصر نفسه نجد إماماً آخر مشهوراً هو "الشعبي" - الذي كان أول أمره خشبياً، ثم ترك ذلك وفضح كثيراً من أصول التشيع، لا سيما علاقته باليهود (4) - ينصح تلميذاً له قائلاً: "أحب صالح المؤمنين وصالح بني هاشم ولا تكن شيعياً، وأرج ما لم

_ (1) الأغاني (7/275) (2) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال للمزي، وتهذيب التهذيب (5/55) (3) الطبقات (6/192) (4) انظر ما رواه عنه مالك بن مغول في ذلك: منهاج السنة (1/6- 8)

تعلم ولا تكن مرجياً، واعلم أن الحسنة من الله والسيئة من نفسك ولا تكن قدرياً، وأحبب من رأيته يعمل الخير وإن كان أخرم سندياً" (1) . فهو يحذره من الطوائف الأربع التي كانت معاصرة حينئذ: وهي الشيعة والمرجئة والقدرية والشعوبية، ويبين له أن الإنسان يكل علم ما لم يعلم إلى الله، لكن أمر عثمان وعلي رضي الله عنهما هو من المعلوم الثابت، وهو الشهادة لهما بالإيمان والجنة، وموالاتهما وعدم البراءة منهما، بخلاف ما تقوله المرجئة فيهما، كما سيأتي في أبيات شاعرهم ثابت قطنة. وممن نسب إليه الإرجاء على هذا المعنى من رجال الحديث: "خالد بن سلمة الفأفاء"، وهو يروي عن الشعبي ويروي عن سفيان بن عيينة، قيل عنه: "كان مرجئاً يبغض علياً"، وعبارة الذهبي: "كان مرجئاً ينال من علي رضي الله عنه". (2) ولا شك أن عدم تولي علي هو بغض له. ولنأت الآن إلى قصيدة ثابت قطنة - شاعر المرجئة المشهور - التي وصفت بأنها الأثر الإرجائي الباقي، الذي يصور عقيدة هذه المرجئة وأفكارها (3) ، وهي: يا هند إني أظن العيش قد نفدا ... ولا أرى الأمر إلا مدبراً نكدا إني رهينة يوم لست سابقه ... إلا يكن يومنا هذا فقد أفِدا بايعت ربي بيعاً إن وفيت به ... جاورت قتلى كراماً جاوروا أحدا يا هند فاستمعي لي إن سيرتنا ... أن نعبد الله لا نشرك (4) به أحدا

_ (1) الطبقات (6/173) (2) الميزان (1/631) ، وهو من رجال مسلم، والسير (5/374) (3) الدكتور نعمان القاضي - الفرق الإسلامية في الشعر الأموي، ص 734 (4) في المحققة: " لم نشرك " وهو أبعد عن اللحن، والجزم للضرورة الشعرية

نرجي الأمور إذا كانت مشبهةً. ... ونصدق القول فيمن جار أو عندا المسلمون على الإسلام كلهم ... والكافرون استووا (1) في دينهم قددا ولا أرى أن ذنباً بالغ أحداً ... م (2) الناس شركاً إذا ما وحدوا الصمدا لا نسفك الدم إلا أن يراد بنا ... سفك الدماء طريقاً واحداً جددا من يتق الله في الدنيا فإن له ... ... أجر الحساب إذا وفي الحساب غدا وما قضى الله من أمر فليس له ... رد وما يقضِ من أمر يكن رشدا كل الخوارج مخطٍ في مقالته ... ولو تعبد فيما قال واجتهدا أما علي وعثمان فإنهما ... عبدان لم يشركا بالله مذ عبدا وكان بينهما شغب وقد شهدا ... شق العصا وبعين الله ما شهدا يجزي علي وعثمان بسعيهما ... ... ولست أدري بحقٍ أيّةً (3) وردا

_ (1) في المحققة: " اشتووا "، مع حذف حرف الجر. (2) "من " حذف النون للضرورة، وقال المحققون: " أي بالغ من أحد "، والصحيح " أي بالغ بأحد " (3) أي أي من الدارين وردا، الجنة أم النار؟!

الله يعلم ما يحضران به ... وكل عبد سيلقى الله منفردا (1) هذه القصيدة التي رواها صاحب الأغاني "وجادة" (2) ، ذكر معها سببها قال: "كان ثابت قطنة قد جالس قوماً من الشراة وقوماً من المرجئة، كانوا يجتمعون فيتجادلون بخراسان، فمال إلى قول المرجئة وأحبه، فلما اجتمعوا بعد ذلك أنشدهم قصيدة قالها في الإرجاء" (3) والقصيدة من الناحية الشعرية جيدة وتعبر عن عقيدة صاحبها بوضوح ويمكن تلخيصها في الآتي: 1 - إرجاء الأمور المشتبهة والمختلف فيها إلى الله، وهو تمهيد لما سيقرره عن الخليفتين الراشدين. 2 - إثبات الإسلام لكل من أظهره (أي ما لم يشرك أو يرتد) . 3 - أن الذنوب والمعاصي لا تخرج من الملة، فلا يكفر مسلم موحد إلا إذا قارف ذنباً يبلغ به حد الشرك بالله تعالى (وهذا تمهيد لما سيحكم به على الخليفتين، اللذين هما عاصيان فقط في نظره) . 4 - الأصل الإمساك عن دماء المسلمين، إلا على سبيل الدفاع عن النفس. 5 - أن المتقين ينالون جزاءهم كاملاً يوم القيامة. 6 - الإيمان بالقضاء والقدر وحكمة الله فيه. 7 - تخطئة الخوارج في تكفير المسلمين، (لا سيما عثمان وعلي) ، ولا يشفع لهما تنسكهم واجتهادهم في العبادة، (أي ولو كانوا يظنون أن هذا اجتهاد منهم وعبادة) . 8 - أن عثمان وعلياً لم يثبت عليهما الشرك منذ أسلما فلا نكفرهما، وإنما كان منهما وبينهما فتنة واختلاف، والله أعلم بسرائرهما، وسيجزيهما بسعيهما، وقد مضيا

_ (1) الأغاني (13/50) (بولاق) ، وفي الطبع المحققة (14/270) (دار الكتب) (2) أي نقلها من كتاب لا بإسناد. (3) 14/269)

إلى ربهما، ولا ندري أهما من أهل الجنة أم من أهل النار، فالله يعلم ماذا يأتيان به يوم القيامة حين يحاسب كل إنسان على انفراد. وأما فهم بعض الباحثين المعاصرين من القصيدة أن المرجئة "يرجئون الحكم على مرتكب الكبيرة، أي يؤخرونه ويجعلونه لله، ويرجئون العمل عن الإيمان، إذ إن الإيمان عندهم ألا يشرك الناس بالله الواحد الصمد، وهو في غنى عن العمل، خلافاً للخوارج الذين يرونهما - يعني العمل والإيمان - شيئاً واحداً لا وزن لأحدهما بدون الآخر، وعلى هذا فإن الخوارج مخطئون في هذا التصور، وعثمان وعلي وغيرهما مؤمنون، ولا يستطيعون الحكم على أحدهم بخطأ وكذلك جميع المسلمين لا يصح التعرض لهم بحكم، إذ يكفي أن يكونوا مسلمين، أما عملهم فذلك موكول إلى ربهم ولو لم يصوموا أو يصلوا أو يحجوا فهم مسلمون ولا يصح أن يطردوا من حظيرة الإسلام" (1) . فهو بلا شك مبالغ فيه، أراد صاحبه أن يدخل عقيدة المرجئة بمفهوم الإرجاء العام، ضمن مفهوم هذه الأبيات، التي قصد بها قائلها الإرجاء الخاص بالصحابة "إرجاء المرجئة الأولى" الذي هو في أصله شعبة من الفكر الخارجي كما أوضحنا، لكن المؤلف في كتابه كله لم يستطع الفصل بين المفهومين. وأحسب أن من يقرأ القصيدة دون تصور سابق، لا يفهم منها الاستهانة بالعمل والتفلت من الفرائض، بل العكس هو المنطوق، كيف وقد اعتبر ما وقع من عثمان وعلي من المعاصي - بزعمه - مبرراً لأن يخالف ما هو ثابت مشهور لدى الأمة قاطبة من فضلهما والشهادة لهما بالجنة؟ كما أن سيرة ثابت وحياته التي قضاها على الثغور ومجالدة الأعداء أقرب إلى سير الخوارج منها إلى غيرهم (2) . والواقع أن اللبس حاصل من منطوق الأبيات فهي في الحقيقة متناقضة، وتناقضها هذا يعطينا شاهداً آخر على تطور بدعة الإرجاء - كما سبق أن قررنا في المبحث السابق - وذلك أن الجدل بين غلاة الخوارج ومتساهليهم (واقفتهم) بشأن ما

_ (1) الدكتور نعمان القاضي، ص736 (2) لثابت قطنة سيرة جهادية رائعة، والبيت الثالث يدل على ذلك، وقد قتل فعلاً في معركة مع الترك. انظر الطبري (7/58)

وقع من الصحابة من ذنوب ومعاصي أدى إلى ظهور مرجئة الخوارج، الذين يقولون بإرجاء عثمان وعلي رضي الله عنهما. وانطلاقاً من القاعدة المتفق عليها عند الخوارج عامة وهي أنهما مرتكبي كبيرة، استمر الجدل بشأن مرتكب الكبيرة، مع تناسي الأشخاص تدريجياً، حتى أصبح موضوعه مرتكب الكبيرة عامة، حيث أصر غلاة الخوارج على تكفيره، وأصر هؤلاء على إرجائه، على ما سبق تفصيله. فانتقل الأخيرون - ربما وهم لا يشعرون - إلى نقطة بعيدة جداً عن نقطة البداية، حيث تحولوا من الفكر الخارجي إلى نقيضه وبعضهم عادى الخوارج معاداة شديدة كالحال دائماً في الفئات المنشقة، مع أن فيه بذرة أو شعبة منه. وهذا بدقة هو الحال مع ثابت قطنة فهو يصرح بتخطئة الخوارج، ويقرر أن العاصي الموحد لا يحكم عليه بالكفر، ومع ذلك يصرح بإرجاء علي وعثمان، ويشك في دخولهما الجنة، وهذا عين ما قالته في حقهما مرجئة الخوارج الأولون (1) . وحال ثابت - مع ما سبق قبله - هو الذي يفسر التناقض المستمر بين أصحاب الإرجاء الأول وبين الشيعة، بخلاف الإرجاء بمفهومه العام المتداول، فبعض الشيعة من الغلاة فيه كما سيأتي، إذ ليس ثمة شك في أن ثابتاً في نظر الشيعة خارجي سافر سواء سموه كذلك أم سموه مرجئاً. فهو على أيه حال "ناصبي غال" عندهم، كما أنه خارجي واضح في نظر أهل السنة، إذا نظرنا لموقفه من الخليفتين، مجرداً عما قرره من مبدأ في صاحب الكبيرة عامة (البيتين السادس والسابع) . أما إذا نظرنا نظرة متكاملة - وهو الصواب - فلا شك أنه متناقض، وما كان أصحاب البدع إلا كذلك. وعلى هذا المعنى للإرجاء نستطيع أن نفهم أبيات بشر بن المعتمر - رئيس معتزلة بغداد أيام الرشيد - فقد بلغ الرشيد عنه أنه رافضي، فسجنه فكتب في الحبس قصيدة رجزية طويلة تبلغ كما قيل أربعين ألف بيت، منها قوله:

_ (1) فجمع بين التوسط في حكم مرتكب الكبيرة عامة وبين التشدد والشطط في الحكم على الخليفتين. أو فتوسطه في حكم مرتكب الكبيرة عامة مع اعتماد الخليفتين مرتكبي كبيرة أدى إلى الشطط في حكمه عليهما.

لسنا من الرافضة الغلاة ... ولا من المرجئة الحفاة (1) لا مفرطين بل نرى الصديقا ... مقدماً والمرتضى الفاروقا نبرأ من عمرو ومن معاوية (2) فالمعتزلة - كما هو معلوم - هم أقرب شيء إلى الخوارج في حكم مرتكب الكبيرة، إذ قالوا: إنه لا مؤمن ولا فاسق من حيث إطلاق الاسم، بل هو في منزلة بين المنزلتين، وأما من حيث العاقبة والمآل، فهم يتفقون مع الخوارج على أنه مخلد في النار أبداً كالكفار (3) !! فخلافهم مع المرجئة في هذه المسألة خلاف تضاد، ولا موضع لتهمة المعتزلي بالإرجاء في الإيمان. أما في مسألة الحكم على الصحابة المختلفين في الفتنة، فبعض المعتزلة الكبار كعمرو بن عبيد تبرأ من الطائفتين وقال: إحدى الطائفتين فاسقة لا بعينها (4) ، وهذا قريب من قول الخوارج، بل هو في الأصل قول بعض طوائفهم - كما سبق - لكن بتعديل وتحوير، ومعلوم أنه قول الروافض - أو بعضهم - بالنسبة للشيخين، ولعمرو ومعاوية، وإجمالاً لغير علي وطائفته. ومن هنا جازت التهمة على بشر بأنه رافضي يتبرأ من الصحابة (أو مرجئي يرجئ أمرهم إلى الله معتبراً إياهم أصحاب كبائر، غير مقر بالشهادة لهم بالجنة) ، وحبسه الرشيد، ودافع بشر عن نفسه بأنه ليس من الرافضة الغلاة - والغلاة هنا وصف لا مفهوم له - وأيضاً ليس من المرجئة الحفاة، المتنقصين لحق الصحابة، مقابل غلو أولئك منهم، بل هو وسط بزعمه غير مفرط، وفسر هذا التوسط بأن عقيدته

_ (1) كذا بالمهملة ويصح أن يكون الجفاة، وهو أظهر في المراد. (2) انظر الصفحة التالية. (3) انظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي المعزلي عبد الجبار، ص711، 814 - تحقيق عبد الكريم عثمان (4) انظر منهاج السنة (4/145)

ومن اتبعه تقديم الشيخين والإقرار بفضلهما والبراءة من بني أمية وأهل الشام والمحاربين لعلي وسكت بشر عن رأيه في عثمان وعلي أو لم تبلغنا الأبيات (1) . لكن حصل مراده بنفي تهمة الرفض عنه بما قاله عن الشيخين، وإن كان هذا لا يخرجه عن كونه خارجياً، فالخوارج يقدمون الشيخين ويرضونهما، ثم يبرأون ممن بعدهما. والمقصود أن مفهوم المرجئة في ذلك الزمن، كان يطلق على المرجئة الأولى إيضاً، أي الإرجاء المتعلق بالصحابة. على أن هناك إشكالاً بين ما تقرر هنا عامة وما ذكره القاضي المعتزلي عبد الجبار وهو قوله: "إن طائفة يقولون: إن الله تعالى يجوز أن يعفو عن الفاسق، ويجوز أن يعاقب، ولا يعلم حقيقة ذلك، وهو الذي تقوله المرجئة الأولى" (2) . فهذا إرجاء عام لا إرجاء المرجئة الأولى. لكن الإشكال يزول إذا عرفنا أن ما كان يقوله المرجئة الأولى في خصوص الصحابة، قال به المتأخرون - أو بعضهم - في مرتكب الكبيرة عامة، وجعلوهما سواء - كما سبق - فالقاضي نسب القول للأصل، أو أنه الذي عمم ما خصصته المرجئة الأولى، فوضع الفاسق مطلقاً مكان "علي وعثمان" الوارد حكمهما في قصيدة ثابت وهو عدم القطع لهما بالعفو أو العقوبة. والحاصل أن المرجئة الأولى كانت مقابلة للتشيع من وجه، لا سيما وأهل الشام - كما هو معلوم - لم يكونوا يرون كفر علي، وإنما كانوا - إذا غلوا - يرون البراءة منه وجواز مقاتلته، وهذا في نظر الشيعة يماثل موقف المرجئة منه، ومن هنا أطلقوا عليهم وصف الإرجاء ولا غرابة، فقد أطلقوه على أهل السنة عامة، لمجرد أنهم لا يفضلونه على الشيخين!! ومن الطبيعي أن تثور الخصومة ويقوم الجدل بين الشيعة وبين حزب بني أمية من أهل الشام وغيرهم، وبهذا يفسر ما يوجد في كتب الأدب، من ذكر وقائع بين

_ (1) الأبيات أوردها ابن المرتضى اليماني، وهي في الجزء المحقق باسم (المنية والأمل) ، ص153، تحقيق: محمد جواد مشكور، وانظر: الحيوان للجاحظ (4/455) ، تحقيق: عبد السلام هارون، حيث أورد طرفاً منها في هجاء الخوارج، ولبشر ترجمة في لسان الميزان (2/33) ، وسير أعلام النبلاء (10/203) (2) شرح الأصول الخمسة، ص650

الشيعة والمرجئة، مثل كتاب الأغاني (1) ، وكتاب البيان والتبيين (2) ، لا سيما وصاحباهما رافضي ومعتزلي، والرافضة والمعتزلة اتحدتا منذ القرن الثالث تقريباً (3) . وعلى ذلك نفهم أيضاً ما أورده الجاحظ من شعر لأحد الشيعة: إذا المرجيّ سرك أن تراه يموت بدائه من قبل موته فجدد عنده ذكرى علي وصل على النبي وآل بيته (4) فالمقصود في هذه كلها هو الإرجاء الخاص. وإذا رجعنا إلى المصادر الشيعية فسنجد ذلك وأجلى منه. يقول صاحب كتاب الزينة في شرح معنى الإرجاء والمرجئة: "وأما المرجئة فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المرجئة يهود هذه الأمة" (5) ، وروي عن محمد بن علي عليه السلام أنه قال: "المرجئة بدلوا سنة الله، ظاهرها وباطنها، وهم يهود هذه الأمة، وهم أشد لنا عداوة من اليهود والنصارى". وقد تأول الناس في هذا اللقب تأويلات كثيرة، فكل فريق يتنصل منه ويلزمه غيره، ويتأول فيه تأويلاً ينتفي به عنه (6) .

_ (1) انظر: (4/63) الطبعة غير المحققة. (2) انظر: (2/230) منه، والحكاية وسابقتها ساقطتان أخلاقياً، والشاهد مجرد وقوع خصومة بين الشيعة ومن يسمون مرجئة (3) أدى الانتصار الكبير الذي حققه أهل السنة بقيادة الإمام أحمد، وانقلاب الدولة العباسية إلى التنكيل بالمعتزلة والمبتدعة وظهور حقيقة التشيع وانتساب القرامطة ونحوهم له، إلى تقارب أهل البدع وتمازجهم في مواجهة عودة السنة، والمتعزلة فرقة لها عقل ونظر لكن بلا جمهور، والشيعة لها جمهور ولا عقل لها ولا نظر، فكان أن اندمجت الفرقتان واتفقتا على العدو المشترك (أهل السنة) ، ومن هنا تركت المعتزلة رأي مؤسسيها في علي، كما تركت الشيعة التشبيه الذي كان عقيدة معظم أسلافهم من الفرق، وأصبحت على مذهب المعتزلة في نفي الصفات، وما يزال هذا الاتحاد قائماً إلى اليوم، فالإمامية والزيدية كلاهما يدين بالإعتزال. وإن مما يفسر ذلك الاتحاد أن بعض رؤساء المؤسسين للمذهبين زنادقة، لا يؤمنون بدين وإنما غرضهم هدم الإسلام والثأر منه. (4) البيان والتبيين (5) كل حديث مرفوع ورد فيه اسم المرجئة لا يصح، ومن أهم المصادر في بيان ذلك المجروحين لابن حبان، والعلل المتناهية لابن الجوزي (6) ص262

ثم ذكر قول أهل السنة والجماعة فيهم - نقلاً عن ابن قتيبة - وقول المرجئة الفقهاء وردهما وقال: "والمرجئة هو لقب قد لزم كل من فضّل أبابكر وعمر على علي بن أبي طالب، كما أن التشيع هو لقب لزم كل من فضل علي على أبي بكر وعمر، هذا ما يتعارفه الناس بينهم ظاهراً واتفقت الأمة عليه" (1) واستدل على ذلك بإطلاق الاسم: "قيل: فلان مرجئي قدري، وفلان شيعي قدري.. ولم نر أحداً يقال له: هذا مرجئي شيعي، أو مرجئي رافضي، هذا محال جداً، كما أنه محال أن يقال: هذا ثوب أبيض أسود، وهذا شيء حلو مر، لا تجتمع صفتان متضادتان في شيء واحد، وهذا حكم بيّن عند الإمامية أن المرجئ لا يكون شيعياً، والشيعي لا يكون مرجئاً. فالإرجاء - على ما قلنا - هو نعت قد لزم كل من فضل أبا بكر وعمر على علي، كما أن التشيع قد لزم تفضيل علي على أبي بكر وعمر، وإنما سموا مرجئة، لأنهم أرجأوا علياً، أي أخروه وقدموا أبا بكر عليه، فهذا اللقب لازم لكل من ذهب هذا المذهب، من أي الفرق كان" (2) . ثم ذكر أبيات محارب بن دثار (3) ، زاعماً أن إرجاءه هو تأخير علي وتقديم أبي بكر، ثم قال: "ومن ألقاب فرقهم، أنهم أهل السنة والجماعة، وهم على أصلين، يقال لهما: أصحاب الحديث، وأصحاب الرأي" (4) ثم ذكر من فرقهم - بزعمه - الحشوية والمشبهة والشكاك والمالكية والشافعية والجهمية، في خلط يذكرك بخلط المستشرقين (5) . وما ذكره هذا الشيعي يصحح ما قلناه، من التفريق بين المرجئة الأولى وبين الإرجاء العام، الذي موضوعه الإيمان والكفر، لكنه لما لم يتضح له الفرق بينهما، جاء بهذا الخلط حتى أنه نفى أن يكون للإرجاء علاقة بقضية الإيمان والعمل، وحصره في تأخير علي عن الشيخين فقط، ولكن من عرف ملته لم يفجأه ذلك منه.

_ (1) انظر إلى تناقضه، حيث يدعي اتفاق الأمة عقيب نقله الخلاف، إلا إذا كانت الأمة عنده هم الشيعة وحدهم!! (2) ص264- 265 (3) السابقة ص322- 323 (4) ص266 (5) انظر: ص267- 269

صحيح أنه لا يقال: مرجئي شيعي، أو مرجئي رافضي، ولكن على أي معنى من معاني الإرجاء؟! أما على معنى إرجاء المرجئة الأولى فحق وهذا ما قررناه، وأما على الإرجاء العام فإنه يقال: شيعي مرجئي، ورافضي مرجئي، ولا مانع عقلاً من أن يكون الرجل غالياً في علي، معادياً للشيخين، وهو مع ذلك لا يرى أن العمل من الإيمان أو أن المعاصي تضر صاحبها. وهذا هو حال بعض فرق الشيعة. يقول الملطي في كتابه، الذي هو منقول عن الإمام خشيش بن أصرم في باب ذكر الروافض وأجناسهم ومذهبهم: "ومنهم صنف يقال لهم: المغيرية، زعموا أنه من ظلم نفسه من عترة علي، فلا حساب عليه ولا عذاب ولا وقوف عليه ولا سؤال، وإن ترك الفرائض وركب العظائم وأشرك بالله، وزعموا أن أبا طالب في الجنة.." (1) فهؤلاء لا شك يقال فيهم شيعة مرجئة. والمؤمن عند الشيعة ليس من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وليس دخول الجنة عندهم مبنياً على فعل الواجبات وترك المحرمات، بل الإيمان عندهم من آمن بعلي إماماً معصوماً، تتلقى منه وحده أحكام الدين وتتبع أقواله وأعماله، وتكفير الخطايا عندهم هو اعتقاد أن علياً هو "باب حطة" تأويلاً لقوله تعالى: «وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم» . هذه خلاصة ما في كتبهم، التي لا يتسع المجال للتفصيل فيها، وما تزال هذه عقيدتهم حتى في هذا العصر. يقول أحد المصنفين في الإيمان منهم: ".. إن المؤمن الذي يدخل باب حطة على الكيفية التي أمره الله بها، وإن الذي يمتنع من الدخول، أو يدخل على خلاف ما أمره الله فهو كافر. إذا عرفت هذا فاستمع لما يقوله النبي، استمع أيها المسلم، المصدق بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم لما يقوله لك نبيك، ويرويه عنه الثقات من العلماء.. " (2)

_ (1) ص160 من التنبيه والرد. (2) من كتاب "المؤمنون في القرآن" تأليف قاسم شبر (1/296) الطبعة الأولى: 1388هـ. النجف

ثم ذكر حديثاً موضوعاً لفظه: "علي باب حطة، من دخل منه كان مؤمناً، ومن خرج منه كان كافراً" (1) وقال: "أيها المسلم، قد عرفت معنى باب حطة، وسمعت قول النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد من قوله: أن من اتخذ علياً إماماً بعد النبي، وعمل بأقواله، فهو كالداخل من باب حطة، يعد عند الله وعند الرسول مؤمناً ويغفر الله له ذنوبه، ومن لم يتخذ علياً إماماً، ولم يعمل بأقواله، ولم يتخذ أحكام دينه منه لم يكن من المؤمنين، كما ذكر النبي، فهو عند الله من الكافرين، ولم يغفر له ذنوبه ويعاقبه عليها" (2) ويقول: "إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليأمر أمته أجمع بالرجوع إلى شخص، ويحثهم على أخذ أحكام دينهم منه، ويحكم بإيمان المتمسك، وكفر المبتعد عنه.. لم يحث على هذا إلا بالنسبة إلى شخص يكون مثله، باتصافه بجميع الأخلاق والصفات الحميدة، وجمعه لجميع العلوم" (3) ولست في مجال الحديث عن الشيعة، وحقيقة الإيمان عندها، وإنما المقصود أن إطلاقهم وصف المرجئة على أهل السنة عامة - أو على بعضهم - تبع لهذا المبدأ لديهم، فلا بد من معرفة مصطلح كل فرقة، حتى لا يقع المرء فيما وقع فيه من اطلعت على كلامه من المؤرخين والباحثين المعاصرين. العجب - وكل أمر الشيعة عجب - أن هذا الإرجاء المرفوض في حق علي، الذي يستحق صاحبه عليه الكفر عندهم، هو مشروع محمود في حق الشيخين أبي بكر وعمر، بل هو الدرجة الدنيا من الإيمان عندهم، ويتلوها درجات لا يرتقي إليها إلا من جاز ذلك!! . وما أصدق ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية عنهم: "إن الذي ابتدع الرفض كان يهودياً أظهر الإسلام نفاقاً، ودس إلى الجهال دسائس يقدح بها في أصل الإيمان (4) . ولهذا كان الرفض أعظم أبواب النفاق والزندقة، فإنه يكون الرجل واقفاً، ثم يصير مفضلاً، ثم يصير سباباً، ثم يصير غالياً، ثم يصير جاحداً معطلاً" (5)

_ (1) انظر: ضعيف الجامع الصغير (4/53) (2) المؤمنون في القرآن، ص297 (3) المؤمنون في القرآن، ص298 (4) يعني عبد الله بن سبأ. (5) مجموع الفتاوى (04/428- 429) ، وتتمة كلامه: "ولهذا انضمت إلى الرافضة أئمة الزنادقة من الإسماعيلية والنصيرية، وأنواعهم من القرامطة والباطنية والدروز، وأمثالهم من طوائف الزندقة والنفاق.. "

فهذا السلم الزندقي يبتدئ سالكه بالتوقف في حق الشيخين، فلا يشهد لهما بأنهما أحق من علي بالخلافة، ولا أن علياً أحق منهما، بل يكل أمر الجميع إلى الله، فلا تزال به الرافضة حتى يصبح مفضلاً يفضل علياً عليهما، كما هو مذهب الزيدية - أو كان مذهبهم (1) - ثم يرتقي إلى سبهما وشتمهما متعبداً بذلك، ثم يصير غالياً يكفرهما، ويعتقد أنهما الجبت والطاغوت وصنما قريش، ثم يخرج من الإسلام كلية ويدخل في دين ابن نصير أو قرمط أو العبيديين وأمثالهم، فيعتقد إنكار الشرائع جملة، ويدين بالفلسفة التي وضعتها كل فرقة. هذا وسيأتي الحديث عن الحسن بن محمد بن الحنفية، ما يزيد أمر المرجئة الأولى والعلاقة بينها وبين الشيعة وغيرها إيضاحاً.

_ (1) ثم دخلهم الغلو

الإرجاء خارج مذهب الخوارج

الإرجاء خارج مذهب الخوارج من موقف نفسي إلى عقيدة ومبدأ: سبق الحديث عن الطوائف والآراء التي ظهرت منذ الفتنة الأولى، وقلنا إن منها طائفة "الشكاك" الذين لم يستطيعوا أن يحددوا لأنفسهم موقفاً معيناً من الخلاف، وخاصة من كان على الثغور البعيدة منهم، وغاية ما كانت هذه الطائفة تشعر به هو الألم الفاجع لما حل بالمسلمين، والأسى البالغ لتفرقهم بعد الاجتماع، فكانت تحن إلى عهد الشيخين وأول عهد عثمان، وتكره أن تسمع أو تفكر في شيء مما حدث بعد. ومن الطبيعي أن يوجد في الأمة مثل هذا الاتجاه، ومن الطبيعي أيضاً أن يستمر هذا الألم المكبوت متوارثاً لأجيال عديدة، ولهذا عرض لها ما يعرض لغيرها، من تطور وتداخل بفعل التقلبات السياسية والفكرية والمجادلات والخصومات، ولم يكن هؤلاء خوارج، ولا ممن يحب الخوارج، أو يواليهم، بل نجزم أنهم ممن يكرههم ويعاديهم، ولكن يجمعهم بالخوارج تعظيم الشيخين والسخط من الفتنة في الجملة. غير أن انشقاق المرجئة الأولى عن الخوارج، واكتفائهم بالموقف السلبي من المشتركين في الفتنة دون القطع لهم بجنة ولا نار، قد أوجد بالفعل طائفة أو رأياً قريباً مما عليه هؤلاء، إلا أن هؤلاء لم يصلوا إليه نتيجة بحث عقائدي ولا حوار نظري، كما أنهم لم يدخلوا أنفسهم في مسألة الحكم على الناس أصلاً. وقد كان طرف الرأي المشترك بينهما هو أنه إذا كان الأمر أمر الخلافة وشأنها، فما لنا لا نقول بإمامة الشيخين اللذين أجمعت عليهما الأمة، وندع شأن من بعدهما، فلا نتقاتل ولا نتخالف من أجلهم. وإلى هنا تقف هذه الطائفة في حين يذهب أولئك في الحكم على عثمان إلى ما سبق، أما هم فيظلون على هذا الإرجاء السلبي، الذي هو إرجاء شك وحيرة ونفرة من الخوض في القضية، لا إرجاء عقيدة وفكرة.

وبخلاف أفكار الخوارج التي لم يدونوها بأنفسهم، بل جمع مأثوراتهم مؤرخون متأخرون (1) - فقد قدر لهذا الإرجاء أن يكتب، والكتابة تحول الرأي إلى عقيدة، ولم يكن غريباً أن يكون الذي كتبه رجل من آل البيت، من ذرية علي رضي الله عنه. ذلك أن آل البيت ابتلوا بطائفتين متقابلتين: طائفة تنقص قدرهم وتجحد حقهم ولا تقيم لهم حرمة ولا مكانة، وطائفة أخرى أدهى وأمر وهي التي غلت فيهم وألهتهم، حتى أنها أنشأت حركات ثورية ضالة تنتسب إليهم، وتزعم الدعوة لإمامتهم، والثورة لقيام خلافتهم، كما حصل من ادعاء المختار الكذاب وأمثاله الدعوة لمحمد بن الحنفية (2) . وظل أئمة آل البيت ينكرون تلك الادعاءات الهدامة علناً، ولكن الهدامين يزعمون للرعاع والأتباع أن ذلك منهم على سبيل "التقية"، وكان طبيعياً أن يتردد الناس إلى آل البيت، ويكاتبوهم سراً أو علناً يسألونهم عن حقيقة الأمر، وكان الجواب يؤكد ويكرر، لكن دون جدوى. وفي هذا الجو المشحون بالفتن، لم يكن غريباً أن يميل بعض ذرية علي إلى رد فعل عنيف، يجعلهم يقولون علناً: إن إمامة علي نفسها كانت موضع شك، لأن الأمة لم تجتمع عليه، وهذا دفع بعيد للتهمة، وتخلص من الأزمة التي يعانونها، حيث يخضعون لرقابة شديدة من ولاة بني أمية، في الوقت الذي تدعيهم فيه تلك الفئات الهدامة السري منها والعلني، حتى أن أثر ذلك ظهر في الجانب العلمي البحت، فقد تجنب بعض الرواة الأخذ عنهم، وتجنب بعضهم ذكر أسمائهم في الإسناد. هذا الموقف النفسي الخانق، هو - في نظرنا - الذي دفع بالإمام العالم الفاضل الحسن بن محمد بن الحنفية إلى كتابة الإرجاء على النحو الذي ستذكره الروايات، وسوف نرى أنه لم يضعه ليؤسس به فرقة أو مذهباً، بل سرعان ما عاد عنه، وندم على أنه خرج ذلك الرأي منه.

_ (1) أشهر من جمعهم المدائني والمبرد. (2) انظر ترجمة ابن الحنفية في سير أعلام النبلاء (4/110- 129)

قال الإمام أحمد في كتاب الإيمان: "حدثنا أبو عمر قال: حدثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن زاذان وميسرة قالا: أتينا الحسن بن محمد، فقلنا: ما هذا الكتاب الذي وضعته؟ - وكان هو الذي أخرج كتاب المرجئة - قال زاذان: فقال لي: يا أبا عمر، لوددت أني كنت مت قبل أن أخرج هذا الكتاب، أو قال: قبل أن أضع هذا الكتاب" (1) . وروى الحافظ ابن عساكر والمزي (واللفظ له) بسنديهما عن عثمان بن إبراهيم ابن حاطب (2) قال: "أول من تكلم في الإرجاء الأول (3) الحسن بن محمد، كنت حاضراً يوم تكلم وكنت في حلقة مع عمي، وكان في الحلقة جحدب وقوم معه، فتكلموا في علي وعثمان وطلحة والزبير فأكثروا، والحسن ساكت ثم تكلم فقال: قد سمعت مقالتكم، ولم أر شيئاً أمثل من أن يرجأ علي وعثمان وطلحة والزبير، فلا يتولوا ولا نتبرأ منهم، ثم قام فقمنا. فقال لي عمي: يا بني، ليتخذن هؤلاء هذا الكلام إماماً. قال عثمان: فقال به (4) سبعة رجال رأسهم جحدب من تيم الرباب، ومنهم حرملة التيمي تيم الرباب. قال: فبلغ أباه محمد بن الحنفية ما قال، فضربه بعصا فشجه، وقال: لا تتولى أباك علياً؟! قال: وكتب الرسالة التي نبت فيها الإرجاء بعد ذلك" (5) ويذكر ابن عساكر ما ذكره الإمام أحمد من توبته، وهو ما ذكره محمد بن سعد من قبل، حيث قال في ترجمته: "هو أول من تكلم في الإرجاء". ثم روى "أن زاذان وميسرة دخلا عليه فلاماه على الكتاب.." وذكر مثل رواية الإمام (6) .

_ (1) كتاب الإيمان (ضمن مسند الخلال) لوحة 127 وهو في السنة لابنه عبد الله، ص79 المطبوع. (2) في تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر: ابن حاطب (4/249) وفي تهذيب التهذيب ممن روى عنه: عثمان بن إبراهيم الحاطبي. (3) زيادة مهمة ليست في تهذيب ابن عساكر (4) في المزي: له، والتصحيح من التهذيب (5) تهذيب الكمال (1/279) المصور عن المخطوط. (6) الطبقات (5/241)

على أن الحافظ ابن عساكر ينقل عن الدارقطني ما يؤيد ما ذكرناه عن الحسن، وهو أنه قال: "يا أهل الكوفة، اتقوا الله ولا تقولوا في أبي بكر وعمر ما ليسا له بأهل، إن أبا بكر كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثاني اثنين، وإن عمر أعز الله به الدين" (1) . والكوفة هي موطن التشيع، لا سيما في ذلك الوقت كما هو مشهور! ويعقب الإمام الحافظ ابن حجر على كلام المزي بعد تهذيبه قائلاً: "قلت: المراد بالإرجاء الذي تكلم به الحسن بن محمد فيه، غير الإرجاء الذي يعيبه أهل السنة المتعلق بالإيمان، وذلك أنه وقفت على كتاب الحسن بن محمد المذكور، أخرجه ابن أبي عمر العدني في كتاب له في آخره قال: حدثنا إبراهيم بن عيينة عن عبد الواحد بن أيمن قال: كان الحسن بن محمد يأمرني أن أقرأ هذا الكتاب على الناس: أما بعد: فإنا نوصيكم بتقوى الله - فذكر كلاماً كثيراً في الموعظة والوصية لكتاب الله واتباع ما فيه وذكر اعتقاده ثم قال في آخره -: ونوالي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ونجاهد فيهما، لأنهما لم تقتتل عليهما الأمة، ولم نشك في أمرهما، ونرجئ من بعدهما ممن دخل في الفتنة، فنكل أمرهم إلى الله.. إلى آخر الكلام. فمعنى الذي تكلم فيه الحسن، أنه كان يرى عدم القطع على إحدى الطائفتين المقتتلتين في الفتنة بكونه مخطئاً أو مصيباً، وكان يرى أن يرجئ الأمر فيهما. وأما الإرجاء الذي يتعلق بالإيمان فلم يعرج عليه أحد، فلا يلحقه بذلك عاب والله أعلم" (2) وكلام الحافظ في معنى الإرجاء الذي كتبه الحسن صحيح، وتدل عليه عبارة المزي "أول من تكلم في الإرجاء الأول"، وعلى هذا القيد يحمل ما نقله ابن عساكر عن الإمام أحمد، وما نقله هو عن ابن سعد وعن أيوب، من أنه أول من وضع الإرجاء أو تكلم فيه عدا من نقل عنهم المزي ذلك.

_ (1) تهذيب التهذيب (4/249) (2) تهذيب التهذيب (2/321)

لكن ينبغي أن نستدرك على الحافظ رحمه الله: "فمعنى الذي تكلم فيه الحسن.. إلى قوله " فلا يلحقه بذلك عاب!! ". فالحق أن العاب يلحق الحسن، من جهة أن كلامه أعم مما خصصه به الحافظ، بل الروايات غير رواية العدني مصرحة بقوله في عثمان وعلي "فلا يتولوا ولا نتبرأ منهم". ونفي الولاية عن الخليفتين مما يعاب ويبدع به صاحبه بلا ريب، كيف وقد ضربه أبوه وقال: لا تتولى أباك علياً؟ وندم هو على ذلك، ولا يكون الندم إلى على خطأ أو خطيئة. وقد نص الحافظ ابن كثير على ما يغاير مفهوم الحافظ ابن حجر فقال عن الحسن: "كان يتوقف في عثمان وعلي وطلحة والزبير، فلا يتولاهم ولا يذمهم" (1) . نعم لا يلحقه عاب بعد أن ندم وتاب. أما الذي يلحقه العاب فعلاً فهم بعض المحدثين أو المعاصرين، الذين ضربوا بهذه النصوص العلمية عرض الحائط، واختلقوا أن الحسن - بل أباه محمداً من قبل - كان فيلسوفاً أو متكلماً، تعمد أن يؤسس مذهباً كلامياً يقاوم به الخوارج.. الخ، وعلى رأسهم الدكتور علي سامي النشار. فقد عرض النشار تاريخ الفتنة ونشوء الفرق عرضاً لا يختلف عن عرض أي مؤلف رافضي أو معتزلي، وقد كانت مصادره فعلاً كذلك. ويا ليته اقتصر على هذه المصادر، إذن لكانت كتابته شيعية واضحة، وسلم من التناقض العجيب الذي وقع فيه، حين يخلط كلام هؤلاء بكلام أهل السنة "بالمعنى العام للكلمة"، فيقرر في صفحة أو مبحث ما ينقضه فيما بعده، بل ربما تناقض في الصفحة الواحدة. لقد أساء الدكتور النشار إلى التابعي الجليل محمد بن علي بن أبي طالب (محمد ابن الحنفية) ، حين نسب إليه تأسيس مدرسة أو مذهب انبثق منه الاعتزال والإرجاء، وأنا أعجب من إساءة الدكتور إلى آل البيت رغم ما يظهره من تشيع

_ (1) البداية والنهاية (9/140) .

شديد، فحين يصف أبا سفيان وابنه معاوية وبني أمية كلهم بالزندقة والجاهلية، والحقد الدفين على الإسلام كدين، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) ، ويصف عثمان رضي الله عنه بأنه "شيخ متهاو متهالك، لا يحسن الأمر ولا يقيم العدل، يترك الأمر لبقايا قريش الضالة" (2) .. إلى آخر هذه المفتريات فإن هذا يتمشى مع منهجه التشيعي الترفضي (3) !! أما حين يقرر أن العامل الاقتصادي هو أحد أسباب نشأة الفرق ويقول: "فقد كان الاقتصاد إلى حد كبير، أو بمعنى أدق شعور الطبقات المحرومة في عهد عثمان، داعياً إلى قيام التشيع، والتفاف جماهير كبيرة من الفقراء حول علي بن أبي طالب، وتمثل هذا بصورة صادقة حين سوى علي بين أغنياء الصحابة وفقراء المسلمين، مما دعا الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله إلى الانتفاضة ضد علي، وإثارة الحرب الأليمة ضده" (4) . فلا أدري على أي منهج يسير إلا منهج ماركس ولينين!! ولنتابع كلام الدكتور بخصوص قضية الإرجاء مقتصرين على فقرات منه: قال بعد الحديث عن الفتنة ونشوء الفرق من الشيعة وخوارج ومعتزلين الفتنة: "وفي وسط هؤلاء المعتزلة عن الناس، ظهرت أول مدرسة فكرية في تاريخ الإسلام، وهي مدرسة محمد بن الحنفية الابن الثالث لعلي بن أبي طالب وأكثر أولاده علماً وسمتاً وفضلاً (5) ، وقد عبر عن هذه المدرسة باسم المكتب، ولم ينتبه الباحثون إلى أهمية هذه المدرسة الأولى، بالرغم من أهميتها، وبالرغم من أنها تفوق مدرسة الحسن البصري (6) في آثارها في أفكار المسلمين حينئذ، ولم ينتبه الباحثون أيضاً إلى أن نشأة

_ (1) انظر: نشأة الفكر الفلسفي (1/198،229) (2) المصدر السابق. (3) ويتمشى معها كذلك افتراءه على شيخ الإسلام ابن تيمية في كل مناسبة من كتابه، بل يعمم ذلك على من يسميهم هو أتباع السلف، فيصفهم بأنهم حشوية مجسمة كرامية. (4) نشأة الفكر الفلسفي (1/225- 226) (5) هذه إحدى تخبطاته، فكيف يكون أفضل من الحسن والحسين. (6) حتى الحسن رحمه الله لم يكن له مدرسة فكرية قط بل كان كابن الحنفية متبعاً لما عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والصوفية هم الذين ينسبون للحسن تأسيس الفكر الصوفي آخذاً إياه بزعمهم عن علي وانظر منهاج السنة (4/155) .

الفكر الفلسفي في الإسلام إنما كان في المدينة حيث ازدهرت تلك المدرسة ولم يكن في البصرة" (1) . ولم يشر الدكتور إلى أي مصدر عن هذه المدرسة الموهومة. ثم تحدث عما لمحمد من أثر فكري، حيث تدعيه كل فرقة حتى الكيسانية والقرامطة، وقال: "ويهمنا الآن أنه كان في مكتب محمد بن الحنفية أو في مدرسته في المدينة ابناه أبو هاشم عبد الله بن محمد.. والحسن بن محمد". ثم يذكر أقوالاً شيعية واعتزالية في أن أباهاشم هو مؤسس الاعتزال، ويقول: "فمنشئ الاعتزال طبقاً لهذه الرواية هي المدينة لا البصرة". وينتقل للحديث عن الحسن وهو الذي يهمنا هنا، قال: "أما ثانيهما، فهو الإمام الحسن بن محمد بن الحنفية المتوفى سنة 101 هـ، شخصية من أهم شخصيات الفكر الإسلامي الأول. ويذكر عبد الجبار: لم يكن الحسن بن محمد بن الحنفية مخالفاً لأبيه وأخيه إلا في شيء من الإرجاء أظهره. وقد كتب أول كتاب في العقائد في الإسلام (2) ، وهو كتاب في الإرجاء. وكان أكبر تلامذته غيلان بن مسلم الدمشقي (3) ، فقد حمل عنه الإرجاء في الشام، كما أن الإمام أبا حنيفة النعمان قد تأثر به، وإن لم يكن قابله وتتلمذ عليه، فقد نفذ إرجاء الحسن إليه وردده أبو حنيفة كما هو. وقد كان لكتاب: "في الإرجاء" (4) أثر كبير في العالم الإسلامي.

_ (1) نشأة الفكر الفسلفي، ص229، والثابت تاريخياً أن المدينة أبعد المدن عن البدع ذلك الحين. (2) أول كتاب في العقيدة في الإسلام هو كتاب الله تعالى، وأما ما تزعمه كل فرقة من أن أول من كتب في العقيدة هو مؤسسها فضلالة، والنشار هنا تبع بروكلمان مثلما تبعه سيزكين. (3) انظر كيف يجعل هذا المبتدع الضال تلميذاً لذلك العالم الإمام، ويقرنه بالإمام أبي حنيفة وسيجعله بعد أسطر من رواد الفكر الإسلامي!! (4) هكذا يسميه الدكتور (في الإرجاء) ويضعه بين هلالين مع أن المصادر تقول: وضع كتاباً في الإرجاء لكن قاس ذلك على كتب الفلاسفة اليونانية التي تبدأ عادة بحرف "في"، وكذلك بعض كتب عصر النهضة الأوروبية - كما يسمى!!

تلك هي المدرسة الإسلامية الفكرية الأولى، التي خرج أكبر رواد الفكر الإسلامي الأولين منها" (1) وبعد استطراد لا ضرورة له، كرر فيه القول بوصف خلفاء بني أمية بالجاهلية، والعمل لهدم الإسلام وتحطيمه.. إلخ، عاد إلى موضوع المكتب فقال: "وفي هذا المكتب، وفي المدينة نفسها، تبلورت الفكرة التي عرفت باسم القدرية.. كان معاوية يعلن الجبر في الشام.. ورأى محمد بن الحنفية وابنه أبو هاشم، وهما أصحاب البيت الذي سلب الحق، أن يعلنا في هدوء الفكرة المضادة: إنكار القدر وإنكار إضافته إلى الله" (2) وهو يؤيد هذه التهمة الخطيرة بأن معبداً الجهني الذي يكتبه الدكتور (الجهمي) : "إنما كان تلميذاً وأثراً لمحمد بن الحنفية". (3) ويحاول الدكتور بمصدر وبدون مصدر أن ينسب كل الضلالات والبدع التي نشأت في القرن الأول - عدا الخوارج - إلى محمد بن الحنفية وابنيه، ظاناً أنه بذلك يرفع من قيمة آل البيت، حين يرجع إليهما فضل تأسيس ما أسماه الفكر الفلسفي الإسلامي!! والواقع أن هذا بعينه هو ما تذهب إليه الشيعة، فهم لفرط جهلهم بما يعظم أهل البيت وما يشينهم، ولاعتقادهم تلك الضلالات ينسبونها جميعاً إلى علي من طريق نسبتها إلى ابنه محمد وابنيه، وهذا ما فعله صاحب منهج الكرامة من قبل. وقد رد شيخ الإسلام على هذا الهراء بأنه من الممتنع أن يكون أبو هاشم واضع الاعتزال والحسن واضع الإرجاء، وكلاهما يأخذ ذلك عن أبيه، لأنهما مذهبان متناقضان، كما أن كلاً منهما قد نسب إليه الرجوع عن ذلك (4) .

_ (1) المصدر نفسه، ص 230 (2) المصدر نفسه، ص232، ونسبة الجبر إلى الصحابي كاتب الوحي، أشد من نسبة القدر إلى ابن الحنفية، لكن الدكتور نقل ذلك عن المعتزلة والشيعة. (3) المصدر نفسه والصفحة نفسها. (4) انظر منهاج السنة (4/145)

وأعجب من ذلك أن النشار نفسه قال بعد حوالي عشر صفحات فقط: "نشأت القدرية إذن، واعتنقها كثيرون من المسلمين، خارجة عن مذهب أهل السنة والجماعة منذ القدم، وقاومها أهل السنة والجماعة منذ القدم أيضاً". (1) فهل ابن الحنفية وابناه خارجان أيضاً عن أهل السنة والجماعة أم ماذا!! إن هذه هي نتيجة الاستقاء من مصادر متناقضة دون تمييز. والخوارج هي الفرقة الوحيدة التي سلمت من نسبتها إلى مكتب ابن الحنفية!! ولكن الحديث عنها جر إلى إلصاق الإرجاء الغالي الصريح بهذا المكتب، يقول النشار متابعاً حديثه: "لقد ضج المجتمع الإسلامي بالخوارج وبآرائهم ومع ذلك فقد كانت تلقى صدى في عقول الكثيرين فاستجابوا لها، ولم يعرف الخوارج "التقية" كما عرفها الشيعة فانقضوا على مخالفيهم يفشون فيهم القتل الذريع ووجدت دعوتهم في عدم إيمان المخالف أكبر صدى، ووجد الإمام الحسن بن الحنفية أن الذين قاتلوا جده مستندين إلى أصل ظاهره الصدق وباطنه الإفك "الحكم لله لا لعلي" ينشرون أصلاً آخر خطيراً لقتل المسلمين وهو أن لا عقد بدون عمل، فنفر لمجادلتهم وأعلن أنه لا يضر مع الإيمان معصية، وكان يكتب الكتب للأمصار ويعلنها للناس، وبينما كان منطق الخوارج أن مرتكب الكبيرة كافر يجب قتله كان الحسن يعلن أن االطاعات وترك المعاصي ليست من أصل الإسلام حتى يزول بزوالها" (2) . ونلاحظ أنه مع هذا الظلم الفاحش للحسن، قد نسب إليه في آن واحد مذهب المرجئة الغلاة، والمرجئة الفقهاء "الحنفية" دون أن يفطن، فإن القائلين: إنه لا يضر مع الإيمان معصية هم الغلاة الذين كفرهم السلف، وأما من قال: إن الطاعات ليست من أصل الإسلام لكنها شرائعه، وأن ترك المعاصي مطلوب والعقوبة عليها ثابتة، فهم مرجئة الفقهاء وهم بريئون من الأول. والنشار إنما ذكر ذلك تخلصاً، لينتقل إلى الحديث عن أبي حنيفة، ومن ثم تابع كلامه قائلاً: "وهنا ظهرت أول فرقة من أهل السنة، ويمثلها بعد الحسن بن محمد،

_ (1) نشأة الفكر (1/244) ، وأعجب من ذلك أنه هنا يسمي مؤسسها معبد الجهني، وهو كذلك، ويجعله من أهل البصرة، في حين أنه هناك يسميه معبد الجهمي ويجعله من أهل المدينة، وهما في الحقيقة رجل واحد. (2) المصدر نفسه، ص233

مجموعة من العلماء، على رأسهم أبو حنيفة النعمان، المتوفى 150 هـ، لم يكفروا أصحاب الكبائر ولم يحكموا بتخليدهم في النار.. " (1) وهنا سؤال لا بد منه وهو: كيف تكون هذه هي أول فرقة من أهل السنة لا تكفر صاحب الكبيرة؟ أمعنى هذا أن الصحابة والتابعين كانوا يكفرونه، أم المقصود الأولية المطلقة، فلا يكون الصحابة والتابعين معدودين عنده من أهل السنة؟ . ثم إن هذا ليس هو الإرجاء، ولم يسمه أحد كذلك إلا الخوارج، أما ما شرحه هو في الأسطر السابقة فليس هذا، فذلك إرجاء، وهذا جزء من عقيدة أهل السنة في الإيمان. هذا فوق نسبته مذهب المرجئة الحنفية إلى الحسن وهو منه براء، وقد عاد فأكد ذلك قائلاً: "أما أن أبا حنيفة كان مرجئاً فهذا حق، ولكنه كان مرجئاً - كما سنرى بعد - إرجاء سنة، ولم يخرج بإرجائه عن الجماعة الإسلامية على الإطلاق. . . " (2) ويقول: "وقد نادى أبو حنيفة بهذا المذهب، لكي يحمي المجتمع الإسلامي من عقيدة الخوارج التي كانت تنادي بأن الإيمان عقد وعمل (3) ، فمن لم يعمل لم يكن مؤمناً.. فقام الحسن بن الحنفية بدعوته وتابعه عليها أبو حنيفة". ثم يضيف مؤكداً: "إن مرجئة أهل السنة قد نشأوا على يد رجل من أهل البيت، وهو الحسن بن محمد بن الحنفية، وكان الحسن يرمي إلى حماية المسلمين - شيعة كانوا أو جماعة - من بطش الخوارج، وكانت حركة الأزارقة في أوجها إبان الوقت، ثم نادى بالفكرة نفسها أبو حنيفة ... " (4) ويقول: "وينبغي أن نلاحظ أن مرجئة أهل السنة يختلفون تماماً عن بقية المرجئة، وهؤلاء الآخرون يقولون: إن من شهد شهادة الحق دخل الجنة، وإن عمل

_ (1) المصدر نفسه، ص 233 (2) المصدر نفسه ص 241. (3) هذه هي عقيدة أهل السنة، وقد قرر النشار نفسه ص246 أنها عقيدة الشافعي وأهل السنة!! (4) المصدر السابق، ص242- 243

أي عمل، وكما لا ينفع مع الشرك حسنة، كذلك لا يضر مع التوحيد معصية.. " (1) إلخ. وهذا كما ترى يناقض تماماً ما قرره هو قبل قليل، من أن الحسن "أعلن أنه لا يضر مع الإيمان معصية". فيلزمه أن يجعل الحسن من المرجئة الأخيرين، أي غير مرجئة أهل السنة، أو أن ينفي عنه ما اتهمه به من القول. والحق - كما أوضحنا سابقاً - أن الحسن بريء من هذا وذاك، وأن إرجاءه لا علاقة له بالإيمان أصلاً. وأما أن أولئك النفر الذين سمعوا كلام الحسن وقرأوا كتابه قد اتخذوا ذلك ديناً، كما قال عم الراوي (2) فحق ومتوقع، وهذه هي الطائفة التي يلحقها الذم والعيب، والتي لا شك أن من السهل والطبيعي أن تندمج في فرق المرجئة، أي أن تخضع لسنة التطور نفسها التي عرضناها سابقاً. وهنا يجدر أن نذكر عالماً آخر، ينطبق عليه ما ينطبق على الحسن من الوقوع في هذا الإرجاء، من غير اتباع لرأي الخوارج ولا تعمد تأسيس بدعة، وهو "عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود". والظاهر أن هذا الاعتقاد لم يدم طويلاً، حيث استدعاه أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز وكلمه في ذلك، فاستبان له الخطأ وعاد عن قوله، وقال في ذلك شعراً: لأول ما نفارق غير شك ... نفارق ما يقول المرجئونا وقالوا مؤمن من آل جور ... وليس المؤمنون بجائرينا

_ (1) المصدر السابق، ص244 (2) انظر ص 346

وقالوا مؤمن دمه حلال ... وقد حرمت دماء المؤمنينا (1) ومن أهمية إرجاء عون، أنه سطر لنا في هذه الأبيات شيئاً مما تعتقده المرجئة الأولى، وهي أبيات يصعب فهمها وتفسيرها على من لم يفهم حقيقة هذا الإرجاء من غيرها. والتفسير الذي يتناسب مع عقيدة القوم، أنهم يعتقدون في عثمان وعلي الإيمان ولا يخرجونهما من الملة، لكنهم يطعنون في إمامة علي، ويصفونه بالجور في السيرة، حيث سفك من الدماء - بزعمهم - ما سفك. وكذلك يرون مع إيمان عثمان أنه دمه كان حلالاً، لأنه عدل عن سيرة الشيخين وارتكب ما ارتكب بزعمهم!! هذه هي عقيدتهم التي نقضها عون، والتي ربما لم يتبين له لوازمها البعيدة إلا بعد مقابلته لعمر، وقد ردها بقوله: ... ... وقالوا مؤمن من آل جور ... ... وليس المؤمنون بجائرينا والمقصود هنا علي، أي أن الشهادة له بالإيمان تقتضي منكم ألا تصفوه بالجور، لا سيما والأصل الذي انشقوا عنه "الخوارج" يرى التكفير بالجور كأي معصية، فمن أثبت له الإيمان، لزمه أن ينفي عنه الجور. وأما عثمان، فكيف تثبتون له الإيمان، ثم تقولون: إن دمه حلال، ودماء المؤمنين حرام معصومة؟! هذا ما ظهر لي والله أعلم.

_ (1) انظر: تهذيب الكمال (2/1066) ، وتهذيب التهذيب (8/171- 173) ، وسير أعلام النبلاء (5/103- 105) ، والأغاني (9/139)

بقي أن نشير في ختام هذا الموضوع إلى بعض ما ورد عن الإرجاء مما لا يتضح تفسيره إلا على الإرجاء الأول. ومن ذلك ما رواه عبد الله بن أحمد عن أبيه بسنده إلى الأوزاعي: "كان أبو سعيد الخدري يقول: الشهادة بدعة، والبراءة بدعة، والإرجاء بدعة" (1) . وهو منقطع الإسناد، لكن رواه في موضع تال بسند صحيح متصل إلى جماعة من خيار التابعين، قال: "حدثني أبي حدثنا وكيع عن سفيان عن سلمة بن كهيل قال: اجتمعنا في الجماجم: أبو البختري وميسرة وأبو صالح وضحاك المشرقي وبكير الطائي فأجمعوا على أن الإرجاء بدعة والولاية بدعة والبراءة بدعة والشهادة بدعة" (1) . ورواه أبو عبيد عن بعضهم (2) . وقد فسر الإمام أحمد نفسه ذلك، فيما رواه عنه الخلال في باب ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إسحاق قال: "سألت عبد الله قلت: الشراة (3) يأخذون رجلاً فيقولون له: تبرأ من علي وعثمان وإلا قتلناك، كيف ترى أن يفعل؟ قال أبو عبدلله: إذا عذب وضرب فليصر إلى ما أرادوا، والله يعلم منه خلافه. أخبرنا أحمد بن محمد قال: حدثنا أبو طالب قال: سألت أبا عبد الله عن البراءة بدعة والولاية بدعة والشهادة بدعة؟ قال: البراءة: أن تبرأ من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. والولاية: أن تتولى بعضاً (4) وتترك بعضاً. والشهادة: أن تشهد على أحد أنه في النار" (5)

_ (1) السنة ص 76 (2) السنة، ص80 (2) الإيمان مع الرسائل الأربع، التي حققها الشيخ ناصر الدين الألباني، ص82 (3) أي الخوارج. (4) في الأصل بعض. (5) لوحة 78

فقد فسر الإمام هذه الألفاظ عدا الإرجاء، فلم يسأله عنه أبو طالب، لكن الثلاثة كلها تتعلق بالصحابة، فهو أيضاً كذلك وتفسيره: "أن ترجئ أمر علي وعثمان فلا تتولاهما ولا تتبرأ منهما" على ما سبق. وهذا ما كانت الخوارج - أو بعضها - تقبله ممن تظفر به، بخلاف من أظهر موالاتهما وأقر بفضلهما، فقد يكون مصيره القتل. كما أورد للإمام أحمد عبارة قد يتعسر فهمها وهي قوله في كتاب "السنة" المطبوع مع كتاب "الرد على الزنادقة": "إن الخوارج هم المرجئة" (1) وتفسيرها بإرجاء الصحابة هو ممكن، أما الإرجاء العام المتعلق بالإيمان فلا يمكن - اللهم إلا إذا كانت العبارة ناقصة أو محرفة - وذلك بأن يقال: إن الخوارج يتهمون السنة بأنهم مرجئة لأنهم لا يقطعون على صاحب الكبيرة المعين بأنه خالد مخلد في النار. فرد عليهم الإمام بأنهم هم المرجئة، لأنهم لا يقطعون بدخول عثمان وعلي الجنة من ثبوت الخبر فيهما بدخولها، بل هم إما يكفرونهما - كحال غلاتهم - أو يرجئون أمرهما ولا يقطعون، كحال مرجئتهم. فكانوا بذلك أحق بهذا الاسم من أهل السنة، لأن من يشك في أمر ثابت جلي هو أولى بهذا اللقب المذموم، ممن يتوقف في أمر لا علم له به.

_ (1) ص74، 78، طبعة رئاسة الإفتاء

الباب الثالث: الإرجاء الظاهرة

الباب الثالث: الإرجاء الظاهرة ويشتمل على: • البدايات والأصول • أصول مذاهب المرجئة نظريا • الأثر الكلامي في تطور الظاهرة • الأثر المنطقي • النتيجة: حكم ترك العمل في الطور النهائي للظاهرة

توطئة

الإرجاء الظاهرة توطئة: الحديث عن الإرجاء العام - أي الإرجاء المتعلق بالإيمان - والذي تحول من بدعة نظرية يدين بها أفراد معدودون إلى ظاهرة عامة تسيطر على الفكر الإسلامي - بل والحياة الإسلامية - يقتضي منا أن نستعرض بداياته التاريخية بما يسمح به المقام وهذا الإرجاء - كما هو مشهور معلوم - على نوعين: * الأول: إرجاء الفقهاء والعباد: وهو شبهة نظرية أخطأ فيها بعض العلماء نتيجة ردود فعل خاصة، أو رأى غير محرر، أو فهم قاصر للنصوص، أو متابعة بلا تبصر، مثله فى ذلك مثل زلة العالم، أو خطأ المجتهد فى أي مسألة نظرية. وهذا لا يقلل من خطورة آثاره، ولا يهون من ضرورة مقاومتها، ولهذا أكثر علماء السلف التحذير منه وهجر أصحابه وتبديعهم. * والآخر: إرجاء المتكلمين والمتمنطقين: وهو شبهة فلسفية بحتة ليس لها فى الأصل أى مستند نصي، ولهذا لم يتردد أئمة السلف فى تكفير أصحابه والتشنيع به. لكن التطور الطبيعي، والتداخل والامتزاج الفكرى، وتقهقر الحياة الإسلامية عامة جعل هذا الإرجاء يسيطر فى النهاية؛ مستندا إلى الشبهات النصية التي استند لها النوع الأول وزيادة. وهذا ما يستلزم أن ندرس الظاهرة الفكرية فى عمومها دون التقيد بالترتيب التاريخى على النحو الذى انتهجناه فى الفصول السابقة، على أن الجانب التاريخى لم يهمل بمرة، بل لا بد من عرض البدايات الأولى لكلا النوعين (أى للظاهرة) من

خلاله، وسوف يكون ركن العمل (هو محور الاهتمام وموضوع الدراسة الأساس، تقيدا بما التزمنا به في الأصل) .

البدايات والأصول

البدايات والأصول أولا: المرجئة الفقهاء لا شك أن البذور والبدايات الأولى للإرجاء وجدت بعد صفين، إما من المعادين للخوارج أو من المنشقين عنهم، كالشأن فى ردود الأفعال، ولكن بروز الرأى والمجادلة فيه وبه تأخرت عن ذلك، وكان ظهورها فى وقت الفتنة والاضطراب الكبير الذى عم البلاد، حين كان للأمويين دولة، ولابن الزبير دولة، وللخوارج دولة - كما سبق في حديث أبى برزة الأسلمى -. برز الإرجاء حينئذ نتيجة المجادلات المستمرة بين الفرق - لا سيما بين الخوارج وغيرهم - وكانت الفتنة من أسباب التسرع فى الرد وقدح الرأى؛ إذ لم يكن المجال ميسورا للسؤال والتأكد والأمور هائجة والأحداث متلاحقة. وكان هذا فى أواخر عصر الصحابة؛ وقد كان بعض قدماء المرجئة من صغار التابعين - كما سيأتى فى تراجمهم -. وأوثق نص ورد فيه هذا الاصطلاح هو الجامع الصحيح للإمام البخارى، فقد قال رحمه الله فى كتاب الإيمان منه: " باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر ". وقال إبراهيم التيمى: ما عرضت قولى على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبا. وقال ابن أبى مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول أنه على إيمان جبريل وميكائيل. ويذكر عن الحسن: وما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق. وما يحذر من الإصرار على النفاق والعصيان من غير توبة؛ لقول الله تعالى «ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون» .

حدثنا محمد بن عرعرة؛ حدثنا شعبة عن زبيد؛ قال: سألت أبا وائل عن المرجئة، فقال: حدثنى عبد الله أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " (1) . فالآثار التي ذكرها البخارى فى الترجمة تدل على أنه عقد هذا الباب للرد على المرجئة القائلين: أن الإيمان قول بلا عمل، وأن الناس يتساوون فيه، وهذا هو إرجاء الفقهاء - كما سيأتى بيانه - ثم ذكر الحديث الذى يعطينا أقرب تحديد لنشأة هذه الفرقة فالمسئول عنهم هو أبو وائل، شقيق ابن سلمى التابعى المشهور، من خيار أصحاب عبد الله ابن مسعود رضى الله عنه، وقد توفى قبل نهاية القرن الأول - مع الخلاف فى تحديد تاريخ وفاته -؛ فقد قال محمد بن عثمان بن أبى شيبة: مات فى زمان الحجاج، بعد الجماجم، وقال الخليفة بن خياط: مات بعد الجماجم سنة اثنتين وثمانين، وقال الواقدى: مات فى خلافة عمر بن عبد العزيز، وكذلك روى عن أبى نعيم قال المذى: والمحفوظ الأول (2) . قال الحافظ فى الفتح: " قوله: سألت أبا وائل عن المرجئة أى عن مقالة المرجئة، ولأبى داود الطيالسى، عن شعبة، عن زبيد، قال: لما ظهرت المرجئة أتيت أبا وائل، فذكرت ذلك له. فظهر من هذا أن سؤاله كان معتقدهم، وأن ذلك كان حين ظهورهم، وكانت وفاة أبى وائل سنة تسع وتسعين وقيل سنة اثنتين وثمانين، ففى ذلك دليل على أن بدعة الإرجاء قديمة " (3) . هذا، وفى رواية عبد الله بن أحمد عن أبيه بسنده إلى زبيد قال: " لما تكلمت المرجئة أتيت أبا وائل فسألته ... الحديث، وذكر عن شعبه أنه قال: وحدثنيه الأعمش ومنصور، سمع أبا وائل عن عبد الله ... " (4) . وأبو وائل عَمَّر طويلا، فقد أدرك النبى صلى الله عليه وسلم، ودفع لعامله الصدقة، لكنه لم يظفر بشرف رؤيته. وأما السائل " زبيد "، فهو زبيد بن الحارث اليامى المتوفى سنة 122 هجرى، وهو من صغار التابعين، رأى عددا من الصحابة، ذكر أبو نعيم منهم ابن عمر وأنس (5) .

_ (1) الفتح (1/110) . (2) تهذيب الكمال (1/587) . (3) الفتح (1/112) . (4) السنة، ص77. (5) انظر: سير أعلام النبلاء (15 / 296) ، وطبقات ابن سعد (6/ 216) .

ومن السؤال والجواب نستطيع أن نستنبط حقيقة القضية المسئول عنها ووجه الجواب، إذ لا ريب أن أبا وائل أفاد وشفى، وأن زبيدا فهم واكتفى!! فالقضية التي كانت تشغل أذهان الناس يومئذ - فى موضوع الإيمان - هى حكم مرتكب الكبيرة، وبناء على الأصل الفاسد المشترك بين الخوارج والمرجئة معا - وهو أن الإيمان شئ واحد، لا يزيد ولا ينقص ولا يتفاضل أهله فيه - قال الخوارج: أن مرتكب الكبيرة قد ذهب إيمانه فهو كافر، وقالت المرجئة: بل هو كامل الإيمان مهما فعل!! كما يدل عيه آثر ابن أبى مليكة والحسن، وكلام إبراهيم واستدلال البخاري بها. فلما ذكر زبيد ذلك لشيخه أبى وائل، أجابه بأفضل أنواع الأجوبة وأعلاها؛ وهو أن يجيب المفتى من سأله بنص من النواحي فى محل الإشكال. فالحديث بمنطوقه يدل على التفاوت فى الإيمان، وعلى ما يستحق أن يسمى به مرتكب الكبيرة. فإيمان من قاتل مسلما ليس كإيمان من سبه، ومفهوم منه أن من سلم من هذا وذاك فهو أكثر إيمانا، وقتال المسلم وسبابه معصية تذهب عن صاحبها اسم الإيمان المطلق، فيستحق اسم الفسق إن سبه واسم الكفر إن قاتله (1) ، ولا يسمى مؤمنا بإطلاق إلا من سلم المسلمون من لسانه ويده، وأمنه الناس على أنفسهم وأموالهم، كما دلت النصوص الأخرى. وفى هذا دليل على خطر المعاصى التي تهون المرجئة من شأنها؛ إما نصا وإما لزوما. ومما يوضح هذا الأمر وموقف أبى وائل منه - ما رواه عنه الطبرى بسنده، قال: قوم يسألونى عن السنة فأقرأ عليهم: «لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ... » حتى قوله: «ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة» يعرض المرجئة (2) . وإذا كان هذا النص يعطينا مفهوما عن الفكرة، فإن نصا آخر يقدم تاريخا" أكثر تحديدا"، وهو ما رواه ابن بطة من طريق الإمام احمد عن قتادة أنه قال: " إنما أحدث الإرجاء بعد هزيمة ابن الأشعث " (3) .

_ (1) مع عدم سلب مطلق الإيمان عنه (أى الإسلام) ، وإنما يسلب الإيمان المطلق. (2) 1 تهذيب الآثار (2/ 182) ، وقوله: " يسألونى " كذا بالأصل. (3) الإبانة، لوحة 169 المخطوط.

والحقيقة أن هذا النص يقدم لنا ما هو أعم من ذلك، وهو ردة الفعل النفسية تجاه الهزيمة. فابن الأشعث هو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الكندى، أحد ولاة بنى أمية أيام الحجاج، استعمله الحجاج فى الوقت الذى كانت مظالمه تملأ البلاد، وكانت الخوارج تثير الناس بذلك وتتذرع به لنشر ضلالها، وكان العلماء والصالحون حيارى بين فتنة الخوارج ومظالم الحجاج، حتى أنه لما قام بعضهم يدعو الخوارج إلى السلم والدخول فى الطاعة أنكر عليهم آخرون - على سبيل اليأس - قائلين: " إلى من تدعوهم؟ إلى الحجاج؟! " (1) . في هذا الجو الحالك أعلن ابن الأشعث تمرده على الحجاج، ودعا الناس إلى النهوض معه لإقامة العدل ورفع الظلم وتحكيم الكتاب والسنة، وفعلا " قام معه علماء وصلحاء لله تعالى؛ لما انتهك الحجاج من إماتة وقت الصلاة، ولجوره وجبروته " (2) . ولم يكن معروفا عنه بدعة، وإنما هو ثائر سياسي، فرأى فيه هؤلاء العلماء والقراء منفذا بين نارين، واستعجلوا الأمر، ورفضوا ما أشار به الحسن وغيره من الصبر والدفع بالتي هي أحسن، وتجنب سفك الدماء ما أمكن - كما هو مذهب سائر أهل السنة والجماعة في مثل هذا - ولكن هذا الاندفاع والتحمس سرعان ما تبدد، وأنتج أسوأ النتائج حين ظهر الحجاج على بن الأشعث وقضى عليه، وأخذ في ملاحقة العلماء واحدا واحدا، وكان أشهرهم سعيد بن جبير الذي كان مقتله فاجعة. وهنا برز قرن الإرجاء بين صفوف هؤلاء اليائسين المستسلمين للأمر الواقع، كما تجرأ الذين كانوا مرجئة من قبل فأعلنوا مذهبهم، واستغلوا آثار الهزيمة لنشره، كما نشط الخوارج وخلت لهم الساحة أكثر من ذي قبل وندم بقية القراء الثائرين على ما تركوا من رأي الحسن وأمثاله. وكانت الكوفة مركز إمارة الحجاج ومصب جوره، كما كانت هدف هجمات الخوارج ومطمع قادتهم، ولهذا كان طبيعيا أن تكون أيضا بيئة الإرجاء ومركزه، لا سيما والتشيع سمة عامة لها.

_ (1) انظر: الطبقات (6 / 195) بعث إليهم إبراهيم التيمى، فأنكر عليه إبراهيم النخعى. (2) سير أعلام النبلاء (4 / 183) .

وبلا شك قام أهل السنة والجماعة وأئمة العلم بجهد مشكور لمقاومة هذه الفكرة ومحاصرتها، ولم يقدر لها انتشار عام حقيقي إلا زمن بني العباس، حين تبنت الدولة رسميا مذهب أهل الرأي؛ الذي يدين فقهاؤه بهذه العقيدة كما سنرى (1) ، ومع ذلك صمد لها أهل السنة، ولا سيما الإمام أحمد وتلميذه أبو داود، ثم سار على منهجه علماء النقد والرجال وغيرهم. وإن مما يعطينا تحديدا أدق لتاريخ هذه الفرقة وانتشارها، وفي الوقت نفسه موقف أهل السنة والجماعة منها، أن نستعرض بعض أقوال الأئمة المعاصرين لنشوئها فيها: 1- إبراهيم النخعي: التابعى المشهور، فقيه الكوفة الأكبر فى عصره، ومن تلاميذه كان مرجئة الفقهاء، وقد عاصر تلك الأحداث، وتوفى بعد الحجاج، ببضعة أشهر سنة 96 هجرى باتفاق (2) . ومن أقواله فيهم: " الإرجاء بدعة ". " إياكم وأهل هذا الرأى المحدث " - يعنى الإرجاء -. وكان رجل يجالس إبراهيم يقال له محمد، فبلغ إبراهيم أنه يتكلم فى الإرجاء، فقال له إبراهيم: " لا تجالسنا ". " ودخل عليه قوم من المرجئة فكلموه، فغضب وقال: إن كان هذا كلامكم فلا تدخلوا علي ". وقال: " تركوا هذا الدين أرق من الثوب السابرى ". وقال له بعض تلاميذه: " إنهم يقولون لنا: مؤمنون أنتم؟ وقال: إذا سألوكم فقولوا: «ءامنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم ... » إلى آخر الآية " (3) . وقال: " لفتنتهم عندي أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة ".

_ (1) حتى أصبح يطلق على هذا النوع من الإرجاء " إرجاء الخفية ". (2) انظر: الطبقات (6 / 199) (3) الطبقات (6 / 191)

أو: " لفقوا قولا، فأنا أخاف على الأمة، والشر من أمرهم كثير، فإياك وإياهم " (1) . 2 - سعيد بن جبير: وهو كبير القراء الثائرين على الحجاج، قال: " المرجئة يهود القبلة " (2) . وقال: " المرجئة مثل الصابئين ". ويشرح ذلك فى رواية أخرى، مبينا وقوفهم فى الوسط بين أهل السنة والخوارج - بزعمهم -، قال: " مثلهم كمثل الصابئين، إنهم أتوا اليهود فقالوا: ما دينكم؟ قالوا: اليهودية، قالوا: فمن نبيكم؟ قالوا: موسى، قالوا: فماذا لمن تبعكم؟ قالوا: الجنة. ثم أتوا النصارى، فقالوا: ما دينكم؟ قالوا: النصرانية، قالوا: فما كتابكم؟ قالوا: الإنجيل، قالوا: فمن نبيكم؟ قالوا: عيسى، قالوا: فماذا لمن تبع دينكم؟ قالوا: الجنة. قالوا: فنحن بين ذين " (3) . 3 - الزهري: الإمام المشهور المعاصر لهؤلاء، قال: " ما ابتدعت فى الإسلام بدعة هى أضر على أهله من هذه - يعنى الإرجاء - " (4) . 4 - شهاب بن خراش: " قال هشام: لقيت شهابا وأنا شاب فى سنة أربع وسبعين، فقال لي: إن لم تكن قدريا ولا مرجئا حدثتك، وإلا لم أحدثك، فقلت: ما في من هذين شئ " (5) . 5 - يحيى وقتادة: " قال الأوزاعي: كان يحيى وقتادة يقولان: ليس من أهل الأهواء شئ أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء " (6) .

_ (1) الإبانة الكبرى، ابن بطة، لوحة 169 / 170، والعبارة الأخيرة فى الخلال أيضا، لوحة 94. (2) أى مثلما قال اليهود: «وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة» ، وكونهم «يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا» !! (3) ابن بطة، لوحة 168، 169 (4) ابن بطة، لوحة 168. (5) سير أعلام النبلاء (8 / 285) . (6) ابن بطة، لوحة 168.

وسيأتى بقية من هذا ضمن تراجم المرجئة القدماء، والمراد أن هذه الفرقة ظهرت وترعرعت فى ذلك الزمن، وأن أهل السنة والجماعة لم يألوا جهدا فى مقاومتها، وكان نظرهم بعيدا وصائبا حين توقعوا آثارها المدمرة على الأمة، مع أنه لم يكن لها حينئذ من الواقع ما يستلفت النظر، بل كان القائلون بهذا عبادا وزهادا فى الغالب. وعلى هذا فلا غرابة فى تشديد ورثة هؤلاء من أئمة السنة على المرجئة، مثل وكيع وابن المبارك والسفيانين، وابن مهدى، وابن معين، والإمام أحمد والبخاري وأبي داود، ونحوهم؛ وذلك أن الآثار قد ظهرت، والإرجاء الغالي حينئذ قد برز. والقضية التي لا ينبغى أن تفوتنا هى أن كلمة المرجئة فى اصطلاح هؤلاء العلماء إنما تعنى هذا الإرجاء - أي إرجاء الفقهاء -، وظل هذا قائما حتى بعد ظهور الجهمية - كما سنرى - فكل ذنب أو عيب قيل فى المرجئة فهو منصرف لهم وحدهم حتى منتصف القرن الثانى تقريبا، بل هو الأغلب على القرن الثالث، ولهذا نجد من المصنفين من لم يطلق اسم الإرجاء على سواهم؛ كابن عبد البر في " التمهيد "؛ فإنه لم يذكر المرجئة الجهمية الأشعرية، ولعله تبع أبا عبيد فى ذلك (1) . ومن علماء السنة الكبار من فرق بين مسمى المرجئة ومسمى الجهمية؛ وذلك لأن المرجئة عندهم مبتدعة، والجهمية كفار (2) . يقول الفضيل بن عياض: " أهل الإرجاء يقولون: الإيمان قول بلا عمل، وتقول الجهمية: الإيمان المعرفة بلا قول ولا عمل، ويقول أهل السنة: الإيمان المعرفة والقول والعمل " (3) . ويقول وكيع بن الجراح: " ليس بين كلام الجهمية والمرجئة كبير فرق؛ قالت الجهمية: الإيمان المعرفة بالقلب، وقال المرجئة: الإقرار باللسان " (4) .

_ (1) انظر: التمهيد (9 / 238 - 258) ، وكتاب الإيمان لأبى عبيد - ضمن الرسائل الأربعة التي حققها الشيخ الألبانى، مع ملاحظة أن أبا عبيد ذكر الجهمية، لكن صرح بأن قولهم شاذ لا يعتد به ولا يحتاج لرد وجدل، بل هو منسلخ عن قول أهل الملل الحنيفية، انظر ص79. (2) انظر فصل " الجهم بن صفوان " الآتى. (3) تهذيب الآثار (2 / 182) . (4) أي مع الاعتقاد، المصدر السابق (2 / 182) ، ومثله عنه فى خلق أفعال العباد، وسيأتى فى فصل " الجهم ابن صفوان ".

وكذلك قال الإمام أحمد: قال حمدان بن علي الوراق: " سألت أحمد، وذكر عنده المرجئة، فقلت له: أنهم يقولون: إذا عرف الرجل ربه بقلبه فهو مؤمن، فقال: المرجئة لا تقول هذا، الجهمية تقول بهذا، المرجئة تقول: حتى يتكلم بلسانه وتعمل جوارحه، والجهمية تقول إذا عرف ربه بقلبه وإن لم تعمل جوارحه، وهذا كفر؛ إبليس قد عرف ربه، فقال: رب بما أغويتنى " (1) . * مؤسس هذه الطائفة: اختلف العلماء فى أول من أسس هذا المذهب - أي أفصح عنه وأعلنه ودعا إليه - وإلا فبذوره متقدمة - كما سبق - فقيل هو: 1 - ذر بن عبد الله الهمدانى: وهو تابعى متعبد، توفى قبل نهاية القرن الأول، روى حديثه الجماعة. قال إسحاق ابن إبراهيم: " قلت لأبى عبد الله - يعنى الإمام احمد -: أول من تكلم فى الإيمان من هو؟ قال: يقولون: أول من تكلم فيه ذر " (2) ؛ وهكذا نقل الذهبي فى " الميزان " (3) عن الإمام. ويبدو أن ذرا قد عرضت عليه الشبهة، وكان شاكا فيها، ثم جزم بها وأصر عليها لما لاقت رواجا - وهكذا شأن أصحاب البدع -. قال سلمة بن كهيل: " وصف ذر الإرجاء وهو أول من تكلم فيه، ثم قال أنى أخاف أن يتخذ هذا دينا، فلما أتته الكتب فى الآفاق، قال: فسمعته يقول: وهل أمر غير هذا " (4) . ونقل عنه الأعمش أول مرة قوله: " لقد أشرعت رأيا خفت أن يتخذ دينا " (5) .

_ (1) الخلال، لوحة 96. (2) مسائل الإمام أحمد لإسحاق ابن إبراهيم (2 / 162) ، وهو فى الخلال، لوحة 94. (3) 2 / 32) (4) السنة لعبد الله بن أحمد، ص81، وابن بطة، لوحة 170. (5) السنة لعبد الله بن أحمد، ص83.

وعن الحسن بن عبيد الله قال: " سمعت إبراهيم - النخعي - يقول لذر: ويحك يا ذر، ما هذا الدين الذى جئت به؟ قال ذر: ما هو إلا رأى رأيته! قال: ثم سمعت ذرا يقول: إنه لدين الله الذى بعث به نوح " (1) !! وقد تعرض ذر لنقد العلماء المعاصرين؛ فقد ذمه إبراهيم النخعى بما سبق، وكان يعيبه ولا يرد عليه إذا سلم (2) . وكان سعيد بن جبير شديدا عليه، حتى أن ذرا أتاه يوما فى حاجة فقال: " لا، حتى تخبرنى على أي دين أنت اليوم - أو رأي أنت اليوم -، فإنك لا تزال تلتمس دينا قد أضللته، ألا تستحي من رأى أنت أكبر منه؟ " (3) . وشكاه ذر إلى أبي البختري الطائى؛ إنه لا يرد عليه إذا سلم، فقال سعيد: " إن هذا يحدث - أو يجدد - كل يوم دينا، والله لا كلمته أبدا " (4) . هذا وقد نقل الحافظ أن ذرا شهد مع ابن الأشعث قتاله للحجاج، وذلك سنة ثمانين (5) . 2 - وقيل: إن أول من أحدثه هو قيس الماصر: نقل الحافظ ذلك عن الأوزاعي؛ قال: أول من تكلم فى الإرجاء رجل من أهل الكوفة يقال له: قيس الماصر (6) . ولم أعثر له على ترجمة، إلا أن أبا حاتم الرافضى صاحب كتاب الزينة السابق ذكره، قال ضمن فرق المرجئة الذين هم عنده أهل السنة: " ومنهم الماضرية (7) ، نسبه إلى قيس بن عمرو الماضرى، ويقال لهم مرجئة أهل العراق، وهم أبو حنيفة ونظراؤه ... " (8) .

_ (1) المصدر السابق، ص84. (2) انظر: ابن بطة، لوحه (169) ، والميزان (2/32) . (3) ابن بطة، لوحة (169) . (4) المصدر السابق، والميزان (2/32) ، وتهذيب الكمال (1/396) . (5) تهذيب التهذيب (3/218) . (6) تهذيب التهذيب (7/490) ، ترجمة عمر بن قيس الماصر. (7) هكذا بالضاد المعجمة، وهو خطأ. (8) ص269 "الغلو والفرق الغالية".

3 - وقيل: إن أول من أحدثه حماد ابن أبي سليمان: المتوفى سنة 120 هجري، شيخ أبي حنيفة، وتلميذ إبراهيم النخعى، ثم تبعه أهل الكوفة وغيرهم. وذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية (1) . ولا شك أن حمادا كان مرجئا وأنه كان معاصرا لذر، فقد روى عبد الله بن أحمد أن إبراهيم النخعى - شيخ حماد - قال: لا تدعوا هذا الملعون يدخل علي، بعد ما تكلم في الإرجاء - يعنى حمادا (2) -. ومع ذلك فقد ادعى حماد غير هذا، إلا أن يقال أنه كان مستترا خائفا، ثم أظهر وأعلن. قال أبو هاشم: " أتيت حماد بن أبى سليمان، فقلت: ما هذا الرأي الذى أحدثت لم يكن على عهد إبراهيم النخعي؟ فقال: لو كان حيا لتابعني عليه - يعنى الإرجاء - " (3) . وفي هذا ما يدل على أولية حماد، لكن النص الأتى يدل على أنه اتبع غيره، إلا أن يقال أنه دليل فقط لما قررناه من أن الجذور متقدمة، وهو ما ذكره الذهبي عن معمر، قال: " كنا نأتى أبا إسحاق - يعني السبيعى - فيقول: ما قال لكم أخو المرجئة؟ قال معمر: قلت لحماد: كنت رأسا وكنت إماما في أصحابك، فخالفتهم فصرت تابعا؟ قال: إني أن أكون تابعا في الحق خير من أن أكون رأسا في الباطل. قال الذهبي: قلتُ: يشير معمر إلى أنه تحول مرجئا إرجاء الفقهاء؛ وهو أنهم لا يعدون الصلاة والزكاة من الإيمان، ويقولون: الإيمان: إقرار باللسان ويقين في القلب. والنزاع على هذا لفظي إن شاء الله، وإنما غلو الإرجاء؛ من قال: لا يضر مع التوحيد ترك الفرائض، نسأل الله العافية " (4) .

_ (1) الإيمان، ص281. (2) السنة، ص96. (3) سير أعلام النبلاء (5/235) . (4) المصدر السابق (5/233) ، وقوله: النزاع لفظى، صحيح فى حق من يقول: الإيمان يشمل عمل القلب كله، أما من خصصه بالتصديق - وهو المشهور عنه - وأخرج سائر الأعمال، فلا، وسيأتى تفصيل ذلك، وانظر ص415 وما بعدها.

ويبدو الخلاف بين هذه الأقوال غير مؤثر، فكلهم متعاصرون، وكلهم فى بلد واحد، وقولهم فى الإرجاء واحد. ويستفاد من بعض الآثار أن للفكرة وجودا غير خاف، فهذا سالم بن أبى الجعد التابعى المحدث المتوفى سنة 100 هجرى أو حولها - كان له ستة بنين؛ " فاثنان شيعيان، واثنان مرجئيان، واثنان خارجيان، فكان أبوهم يقول: قد خالف الله بينكم " (1) !! وهذا دليل على نمو البدع حينئذ لاسيما فى الكوفة. وهناك رجل آخر لا شك أنه من أوائل القوم الدعاة؛ وهو سالم الأفطس، وفيه قصة تستحق الإيراد، لا سيما وقد ذكرها مصدران متقدمان بسندين مختلفين هما: " السنة " لعبد الله بن أحمد، و" تهذيب الآثار " للطبري، كلاهما عن معقل بن عبيد الله الجزرى العبسي قال: " قدم علينا سالم الأفطس بالإرجاء (2) ، فعرضه فنفر منه أصحابنا نفارا شديدا، وكان أشدهم ميمون بن مهران وعبد الكريم بن مالك، فأما عبد الكريم فإنه عاهد الله لا يأويه وإياه سقف بيت إلا فى المسجد. قال معقل: فحججت، فدخلت على عطاء بن أبى رباح فى نفر من أصحابي، قال: فإذا هو يقرأ سورة يوسف، قال: فسمعته قرأ هذا الحرف «حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا» مخففة. قال: قلت: إن لنا إليك حاجة فاخل لنا، ففعل، فأخبرته أن قوما قبلنا قد أحدثوا وتكلموا، وقالوا: إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين، قال: فقال: أو ليس يقول الله: «وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة» . فالصلاة والزكاة من الدين. قال: فقلت له: إنهم يقولون: ليس فى الإيمان زيادة. قال: أو ليس قد قال الله فيما أنزله: «فزادهم إيمانا» ، فما هذا الإيمان الذي زادهم؟!

_ (1) سير أعلام النبلاء (5/109) ، الطبقات (6/204) . (2) هذا ما فى السنة واللفظ كله لها، وفى التهذيب: (أول من قدم علينا بالإرجاء سالم الأفطس) .ولعله يقصد أول من قدم به الجزيرة - التي هى موطن معقل وميمون بن مهران - جلبه من الكوفة.

قال: قلت: فإنهم قد انتحلوك، وأبلغنى أن ذرا دخل عليك وأصحابه، فعرضوا عليك قولهم فقبلته وقلت هذا الأمر، فقال: لا والله الذى لا إله إلا هو ما كان هذا - مرتين أو ثلاثة. قال: ثم قدمت المدينة، فجلست إلى نافع، فقلت له: يا أبا عبد الله، إن لي إليك حاجة، قال سر أم علانية؟ فقلت: لا، بل سر، قال: رب سر لا خير فيه! فقلت له: ليس من ذلك، فلما صلينا العصر قام وأخذ بيدي، وخرج من الخوخة ولم ينتظر القاص، فقال ما حاجتك؟ قال: قلت: أخلني من هذا، قال: تنح يا عمرو، قال: فذكرت له بدو قولهم، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أضربهم بالسيف حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقه، وحسابهم على الله ". قال: قلتُ: إنهم يقولون: نحن نقر بأن الصلاة فريضة ولا نصلى، وأن الخمر حرام ونشربها، وأن نكاح الأمهات حرام ونحن نفعل، قال: فنتر يده من يدي وقال: من فعل هذا فهو كافر. قال معقل: ثم لقيت الزهري، فأخبرته بقولهم، فقال سبحان الله!! أو قد أخذ الناس فى هذه الخصومات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الشارب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ". قال: ثم لقيت الحكم بن عتيبة، قال: فقلت: إن ميمونا وعبد الكريم بلغهما أنه دخل عليك ناس من المرجئة، فعرضوا عليك قولهم، فقبلت قوله. قال: فقيل ذلك على ميمون وعبد الكريم؟ قلتُ: لا. قال: دخل علي منهم اثنى عشر رجلا، وأنا مريض، فقالوا: يا أبا محمد، بلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل بأمة سوداء أو حبشية، فقال: يا رسول الله إن علي رقبة مؤمنة، أفترى هذه مؤمنة؟ قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتشهدين أن لا إله إلا الله " قالت: نعم، قال: " وتشهدين أني رسول الله " قالت: نعم، قال: " وتشهدين أن الجنة حق وأن النار حق " قالت: نعم، قال: " أتشهدين أن الله يبعثك

من بعد الموت " قالت: نعم، قال: " فأعتقها فإنها مؤمنة " (1) قال: فخرجوا وهم ينتحلوني. قال: ثم جلست إلى ميمون بن مهران، فقيل له: يا أبا أيوب: لو قرأت لنا سورة نفسرها، قال: فقرأ أو قرأت: «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» ، حتى إذا بلغ: «مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ» ، قال: ذاك جبريل والخيبة لمن يقول إيمانه كإيمان جبريل " (2) . ويروي ابن بطة بسنده عن المبارك ابن حسان قصة أخرى، " قال: قلت لسالم الأفطس: رجل أطاع الله فلم يعصه، ورجل عصى الله فلم يطعه، فصار المطيع إلى الله فأدخله الجنة، وصار العاصي إلى الله فأدخله النار، هل يتفاضلان فى الإيمان؟ قال: لا قال: فذكرت ذلك لعطاء، فقال: سلهم الإيمان طيب أم (3) خبيث؟ فإن الله تعالى قال: «لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ» (4) . فقال النحات (5) : إنما الإيمان منطق وليس معه عمل! ، فذكرت ذلك لعطاء، فقال: سبحان الله! أما تقرؤون الآية التي فى سورة البقرة: «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ» .

_ (1) وسيأتى إيضاح شبهتهم هذه والرد عليها ص716. (2) السنة، ص104 - 105، وتهذيب الآثار (مختصرا) (2/173) ، وما يجدر التنبيه إليه أن شيخ الإمام أحمد فى هذا السند هو خالد ابن حيان، وليس خلف بن حيان - كما فى الإيمان لابن تيمية، ص192، وهذا يزيل الإشكال الذى وقع فيه مخرج أحاديثه الشيخ الألبانى. (3) زيادة ضرورية. (4) وجه الاستدلال: إنه إذا كان الإيمان واحدا لا يتفاضل فيلزم أنه خبيث لدخوله النار والنار لا يدخلها طيب وإنما يدخلها الخبيث وإن قال: إنه حين دخولها ليس معه الإيمان فقد كفره، لأن الإيمان عنده شئ واحد فزواله يكون بالكلية، وهذا عكس مذهبه. (5) لم أجد له ترجمه إلا أن يكون وصفا وليس علما

قال: ثم وصف الله هذا الإسم فألزمه العمل، فقال: «وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ» .... إلى قوله: «صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» . قال: سلهم هل دخل هذا العمل فى هذا الاسم؟ وقال: «وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ» . فألزم الاسم العمل وألزم العمل الاسم " (1) . هذا الجدل المبكر (زمن التابعين) فى موضوع العمل يعطينا فكرة واضحة عن مذهب المرجئة الفقهاء فيه، وحقيقة الخلاف بينهم وبين أهل السنة والجماعة منذ نشأتهم، كما بين لنا منهج السلف العلمي فى مجادلتهم، وهو أن أهم جانب فى القضية شغل أذهان السلف هو موضوع عمل الجوارح؛ أى أداء الفرائض واجتناب المحرمات، وأن حقيقة الإيمان لا تكون إلا به مع عمل القلب، فإذا انتفى أحدهما انتفى الإيمان (2) . * الجهم بن صفوان: أما الجهم بن صفوان فهو رأس الضلالات وَأُسُّ البليات، جعله الله فتنة للناس وسببا للإضلال، كما جعل السامرى في بني إسرائيل. وحسبنا أن نعلم أن هذا الرجل الذي كان من شواذ المبتدعة في مطلع القرن الثاني قد ترك من الأثر فى الفرق الإسلامية الثنتين والسبعين ما لا يعادله أثر أحد غيره (3) . هذا مع أنه ليس بإمام يحتج بقوله، ولا عالم يعتد بخلافه، ولا شهد له أحد بخير!! وقد جمع المصنفون من السلف فى سيرته الشىء الكثير، وكله ذم وتكفير وتشنيع من أئمة الإسلام ورجال النقد، جمع ذلك الإمام أحمد، وابنه عبد

_ (1) لوحة 173. (2) وسيأتى لهذا مزيد إيضاح بإذن الله فى الباب الأخير. (3) حتى إن الشيعة والخوارج والقدرية كلها قد تأثرت به فى قليل أو كثير، ولا سيما فى الصفات، أما المنتسبون للسنة - وأهمهم الأشعرية والماتريدية - وهم على أصوله فى كثير أصول الاعتقاد، ولو لم يكن إلا متابعتهم له فى الإيمان كما سنذكر لكفى.

الله، وأبو عبيد، والبخاري، والدارمي، وابن خزيمة، وابن أبى حاتم، وسائر من ألف فى الفرق أو الصفات أو الإيمان؛ كالبيهقى، والأشعري، والبغدادي، واللالكائي، وكذا المؤرخون وأصحاب التراجم. وهذا ما سنورد بعضه مقتصرين على ما يهمنا هنا؛ وهو مذهبه في الإيمان. والأصل الذي ينبغى معرفته في هذا، هو أن الجهم لم يبتدع مذهبه في الإيمان اعتمادا على شبهة نقلية أو أثارة من علم، وإنما كان رجلا لسنا مجادلا، مجبولا على المحادة والاعتراض والمراء، ومع ذلك لم يقدر له أن يجلس إلى عالم أو يتفقه على إمام، بل شهد عليه بعض من عاصره بجهل بالغ في معرفة الأحكام الشرعية - حتى الجلي منها - وقالوا: إنه لم يحج البيت، ولم يجالس العلماء قط (1) . وإنما جالس جهم أصحاب الأهواء (2) وبعض الملاحدة، من المنتسبين إلى فلسفات الأمم الجاهلية الموتورة، ولما أراد الله فتنته اتصل بطائفة من الزنادقة الهنود، يقال لهم: " السمنية "، وأولئك قوم لهم فلسفة خاصة ومدرسة فكرية مؤصلة، قد أعدوا لكل عقيدة لدى غيرهم شبهة، وأعدوا لكل سؤال جوابه، ولكل مأزق مخرجا. وتجشم جهم وتكلف أن يجادلهم ويخوض معهم، وهو صفر من العلم خلو من الحجة فما رآه بعقله المجرد ورأيه القاصر، وكان مجرد خوضه معهم نذيرا بالشر وشؤم العاقبة. فقد ابتدءوا معه الجدال بالحديث عن مصدر المعرفة الصحيح المتيقن (وهى أكبر قضية فلسفية على الإطلاق، وأصل كل بحث ونظر) وكانت فلسفتهم تقوم على أن المصدر للمعرفة الحواس الخمس، ولما نازلهم جهم وهو جاهل بدينه خال من مصدر اليقين الأصلى - وهو الوحي - حصروه وأفحموه بسؤال هو: صف لنا ربك هذا الذى تعبده يا جهم، وبأي حاسة أدركته من الحواس، أرأيته أم لمسته - أم ... الخ؟!

_ (1) انظر: خلق أفعال العباد للبخارى، ص32، تحقيق د. عبد الرحمن عميرة والفتح (13/345) . (2) وعلى رأسهم شيخه الجعد بن درهم، الذى قتله الوالى الأموى خالد بن عبد الله القسرى، بسبب إنكاره الصفات.

وسقط فى يد هذا الضال المسكين، وطلب منهم مهلة ليفكر في الأمر، ولم يستطع أن يستلهم حجة، ولم يسأل العلماء فيداووه ويلقنوه. وقادته الحيرة إلى الشك فى دينه، فترك الصلاة مدة، ثم استغرق فى التفكير والتأمل، حتى انقدح في ذهنه جواب خرج به عليهم قائلا: " هو هذا الهواء مع كل شئ وفي كل شئ ولا يخلو من شئ " (1) . وهذا الجواب الذي هو أساس نفي الصفات، هو قول طائفة من زنادقة الهند الآخرين (2) . وهذا المنزلق تلاه ما تلاه من هوى ورأي. وكانت حياة جهم فى آخر عصر بنى أمية، حيث ظهرت البدع وتشعبت أصول الفرق، وكان مقتضى خوضه وجداله أن يخوض فى قضية الإيمان ويدلي بدلوه في هذه المسألة التي كانت الفرق حوله تتجادل فيها كثيرا، وكان طبيعيا أن يخرج جهم بقول لم يسبقه إليه أحد، وهو أن الإيمان هو مجرد المعرفة بالقلب، فمن عرف الله بقلبه فهو مؤمن، دونما حاجة إلى قول باللسان ولا عمل بالجوارح. والذي يظهر لمن يطالع سيرة الرجل وواقع عصره، أنه ركب هذا القول من كلام المتفلسفة من الزنادقة، الذين لا يعدو الإيمان عندهم مجرد الإقرار النظري بوجود الله، ومن كلام المرجئة الفقهاء الذين أصروا على نفي دخول الأعمال فى الإيمان. والجديد فى عمل جهم أنه نقل كلام الطائفة الأولى من محيط الفلسفة التي لا صلة لها قط بالإسلام ليدخله في الإسلام متذرعا فى ذلك بلوازم كلام الطائفة الأخرى ومفهومه الذى لم يقصدوه قط، وبذلك أصبح هذا القول الفلسفي

_ (1) انظر عن هذه المناظرة: الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد، ص65، خلق أفعال العباد للبخارى، ص35، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائكى (3/380 - 387) ، الفتح (13/345) ، مقدمة التسعينية لشيخ الإسلام ابن تيمية (أى الجزء الخامس من الفتاوى الكبرى بطبعتيها) . (2) انظر: تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة فى العقل أو مرذوله لأبي الريحان البيرونى، ص20 - 24، ومما يستلفت النظر أن بعض ما نسجه البيرونى لكتب ديانة الهند القديمة فى الصفات والقدر، يماثل تماما ما يدين به ورثه جهم من نفات الصفات كلها أو بعضها وما يقولونه فى الكسب.

الشاذ مقالة من مقالات الإسلاميين، وإن كانت الجهمية فى حكم جملة من علماء السلف ليست من فرق (المسلمين) (1) أهل القبلة. حتى لقد قال الإمام البخاري رحمه الله: " نظرت فى كلام اليهود والنصارى والمجوس، فما رأيت أضل في كفرهم منهم، وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم " (2) . ومن هنا أضرب أبو عبيد والطبري صفحا عن مناقشة مذهب جهم؛ لأنه ليس من مقالات المجتهدين فى النصوص، بل هو من مذاهب أهل الجدل والتفلسف والكلام، ومنسلخ عن أقوال الملل الحنفية جميعها (3) . ولكن أسبابا ومؤثرات - يأتي تفصيل الحديث عنها - أفضت في النهاية إلى أن يكون هذا المذهب أكثر المذاهب فى الإيمان انتشارا، مع ما لحقه من تعديل هو لفظى أكثر من كونه حقيقيا، ومن نفي لبعض لوازمه. فالذى حصل هو أن مذهب المرجئة الفقهاء مهد لرأي جهم، ثم جاء المرجئة المتكلمون كالأشعري والماتريدي، فجعلوه عقيدة أكثر طوائف الأمة - مع ما أشرنا إليه من تعديل -. ولهذا قال وكيع بن الجراح - الإمام الكبير شيخ الإمام أحمد -: " أحدثوا (4) هؤلاء المرجئة الجهمية، والجهمية الكفار، والمريسي جهمي، وعلمتم كيف كفروا، قالوا: يكفيك المعرفة، وهذا كفر، والمرجئة يقولون: الإيمان قول بلا فعل، وهذا بدعة ... " (5) . وهذا من أهم ما يجب معرفته والاعتبار به. أما معرفته فلكي نعلم التطور التاريخي للظاهرة وخط سيرها، وأما الاعتبار به فلأن البدع قد تبدو صغيرة لكنها تؤول إلى أن تصير كبارا، فيجب

_ (1) بل هى من الفرق خارجه عن الثنتين والسبعين، انظر المصادر السابقة وخاصة: خلق أفعال العباد، صلى الله عليه وسلم33 - 40. (2) خلق أفعال العباد ص33 وانظر باب الاحتجاج فى إكفار الجهمية من كتاب الرد على الجهمية للدرامى ص104، تحقيق زهير الشاويش وتعليق الشيخ الألبانى. (3) انظر: تهذيب الآثار (2/199) ، والإيمان لأبى عبيد، ص79، 102، ولهذا فصلنا الحديث عن المنطق والكلام عن الحديث عن إرجاء الحنفية - كما سنرى. (4) هذا على لغة من يجيز ذلك. (5) خلق أفعال العباد ص34.

الحذر من صغيرها وكبيرها، وإلا فإن الأئمة والعباد من المرجئة الفقهاء لم يدر بخلدهم ما صار إليه جهم، ولم يخرجوا الأعمال من الإيمان إلا لفظا فقط، وأما وجوبها والمعاقبة عليها ووجوب ترك المحظورات فأمر لم يخالفوا فيه قط. ولهذا عد بعض العلماء الخلاف كله لفظيا، وليس كذلك بإطلاق. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عنهم: " وهذه الشبهة التي أوقعتهم - يعنى شبهة عدم التعدد والتبعيض في الإيمان - مع علم كثير منهم وعبادته وحسن إسلامه وإيمانه، ولهذا دخل فى إرجاء الفقهاء جماعة هم عند الأمة أهل علم ودين، ولهذا لم يكفر أحد من السلف أحدا من مرجئة الفقهاء، بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال لا من بدع العقائد؛ فإن كثيرا من النزاع فيها لفظي، لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب، فليس لأحد أن يقول بخلاف قول الله ورسوله، لا سيما وقد صار ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الإرجاء وغيرهم وإلى ظهور الفسق، فصار ذلك الخطأ اليسير في اللفظ سببا لخطأ عظيم في العقائد والأعمال، ولهذا عظم القول في ذم الإرجاء " (1) . وقال أيضا: " والمرجئة الذين قالوا: الإيمان تصديق القلب وقول اللسان والأعمال ليست منه، وكان منهم طائفة من فقهاء الكوفة وعبادها، ولم يكن قولهم مثل قول جهم، فعرفوا أن الإنسان لا يكون مؤمنا إن لم يتكلم بالإيمان مع قدرته عليه (2) ، وعرفوا أن إبليس وفرعون كفار مع تصديق قلوبهم (3) . لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضا فإنها لازمة لها، ولكن هؤلاء لهم حجج شرعية بسببها اشتبه الأمر عليهم " (4) .

_ (1) الإيمان، ص377. (2) وهذا الذى نفوه هو مذهب جهم، فهو مذهب أكثر الأشعرية والماتريدية، والذين يشترطون النطق منهم يعدون الحكم بعدم إيمان من لم ينطق مع القدرة قولا مرجوحا فقط، وسيأتى لذلك بحث خاص بعنوان: حكم ترك العمل عند المرجئة فى الطور النهائى للظاهرة، ص491. (3) وهذا من لوازم مذهب جهم التي نفاها متبعوه (الأشعرية والماتريدية) ، قائلين: إن من نص الشارع على كفره علمنا انتفاء التصديق من قلبه، وهذا القول واضح المكابره والمناقضة لصريح القرآن، حتى قال عنه شيخ الإسلام: إنه "سفسطة عند جماهير العقلاء" الإيمان، ص142، انظر ص413، 414. (4) الإيمان، ص183.

وهذا الذي قاله الشيخ قاله من هو أقدم منه؛ كالإمام أبى عبيد القاسم بن سلام، على ما سننقله. هذا، وبيان الفروق بين مذهب جهم ومذهب المرجئة الفقهاء، وبين هذا ومذهب أهل السنة والجماعة، مما يتضمنه الفصل التالى لهذا، غير أننا لن ندع الحديث عن جهم إلا بعد تنبيه مهم؛ وهو: إن مذهب جهم لم يكن له فى حياة صاحبه ولا بعد ذلك بزمن أي أثر بارز في واقع الحياة الإسلامية، إنما ظهرت آثاره وعمت ببروز من تبناه من المتكلمين، وعلى رأسهم بشر المريسى (1) ، وقد عاش متهما محاربا - لكن أقل من حال جهم في هذا - ثم ابن كلاب، وقد كان متهما أيضا - لكن أقل من حال بشر - ثم الأشعري والماتريدي، وهما اللذان نشراه، حتى أصبح ظاهرة عامة فى فكر الأمة وحياتها. وإنما خصصنا هذا بالذكر مع ما سبق من الإشارة إليه لأهميته في معرفة تطور الظاهرة، ولننبه إلى جسامة الخطأ الذي وقع فيه بعض المستشرقين - وتبعهم من تبعهم - في زعم أن ثورة الحارث بن سريج كانت قائمة على عقيدة الإرجاء، وكأن جهما قد ربى تلك الآلاف الثائرة على عقيدته، حتى اندفعوا للخروج على الدولة وإقامة مذهبهم. والواقع يكذب هذا، فإن جهما كان كاتبا لقائد الثورة، وكان إرجاء جهم رأيا خاصا وفكرة شخصية، لا أثر لها فى توجيه الثورة التي لم تكن تمثل أي عقيدة دينية، وإنما كانت حركة تمرد وعصيان على الدولة، ضمت فى صفوفها من كل الطوائف، بل ضمت أهل الذمة ومشركي الترك، وإنما انضم إليهم جهم - على ما يظهر لي - لأنه هو أيضا خارج على الطاعة، ملاحق من الدولة بسبب بدعته في الصفات التي أطاحت برأس شيخه الجعد من قبل، ويدل لذلك الوثائق الرسمية للدولة، ومخاطبة والي مرو له عند قتله. روى اللالكائى بسنده عن أحدهم: " قرأت فى دواوين هشام بن عبد الملك إلى عامله بخراسان نصر بن سيار: أما بعد، فقد نجم قبلك رجل من الدهرية من الزنادقة،

_ (1) انظر، تاريخ بغداد (7/61) ، واللالكائى (3/382) ، وسير أعلام النبلاء (10/199) .

يقال له جهم بن صفوان، فإن أنت ظفرت به فاقتله، وإلا فادسس إليه برجال غيلة ليقتلوه " (1) . ونقل الحافظ عن أبي حاتم أن سلم بن أحوز عامل نصر بن سيار على مرو لما قبض على جهم قال: " يا جهم! إنى لست أقتلك لأنك قاتلتني، أنت عندي أحقر من ذلك، ولكني سمعتك تتكلم بكلام باطل أعطيت لله عهدا أن لا أملك إلا قتلتك. فقتله " (2) . وهذا شبيه بما فعله خالد بن عبد الله القسري مع شيخه الجعد. وأما ما ذكره الطبري من شعر لنصر بن سيار يتهم فيه الحارث وجيشه بالإرجاء، فلا شك أن كون الجهم كاتبا للحارث يعد سببا كافيا لخصمه السياسي أن يطعن في عقيدته، ويشهر به بين المسلمين، كان المبرر أقوى، على أن المنقول من أخبار نصر يدل على فضل وصلاح فيه (3) .

_ (1) ... شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/381) . (2) الفتح (13/346) . (3) ذكر الطبري قصيدة جيدة لنصر بن سيار أولها موعظة بليغة ثم قال: فامنح جهادك من لم يرج آخرة ... وكن عدوا لقوم لا يصلونا واقتل مواليهم منا وناصرهم ... حينا تكفرهم والعنهم حينا والعائبين علينا ديننا وهم ... ... شر العباد إذا خابرتهم دينا والقائلين سبيل الله بغيتنا ... لبعد ما نكبوا عما يقولونا فاقتلهم غضبا لله منتصرا ... منهم به ودع المرتاب مفتونا إرجاؤكم لزكم والشرك فى قرن ... فأنتم أهل إشراك ومرجونا لا يبعد الله فى الأجداث غيركم ... إذ كان دينكم بالشرك مقرونا

أصول مذاهب المرجئة نظريا

أصول مذاهب المرجئة نظريا (1) أولا: منطلق الشبهة وأساسها إن منطلق الشبهات كلها في الإيمان وأساس ضلال الفرق جميعها فيه هو أصل واحد اتفقت عليه الأطراف المتناقضة جميعها، ثم تضاربت عقائدها المؤسسة عليه: وذلك أن الخوارج والمعتزلة والمرجئة - الجهمية منهم والفقهاء والكرامية - اتفقوا على أصل واحد انطلقوا منه: هو أن الإيمان شئ (2) واحد لا يزيد ولا ينقص، وأنه لا يجتمع في القلب الواحد إيمان ونفاق، ولا يكون في أعمال العبد الواحد شعبة من الشرك وشعبة من الإيمان. والعجيب أن هذه الفرق تحسب أن هذا موضع إجماع وتدعي ذلك، وعليه تبني معتقدها، وإنما هو إجماع بينها فقط، وربما كان ذلك لأن أكثر المصنفين في الفرق والمقالات هم من غير أهل السنة، ولا يذكرون مذهب أهل السنة، وإنما يذكرون مذاهب أهل الكلام والجدل.

_ (1) اكتفيت بذكر الأصول والمناهج النظرية للمرجئة دون التفصيل بذكر أسماء الفرق ورجالها ورأى كل فرقة أو رجل لأسباب: 1- أن هذا هو المقصود لذاته، وهو ضوابط علمية منهجية لا غنى عنها لا توجد إلا مفرقة فى بعض المصادر، بخلاف ما ذكرنا فهو ميسور فى كتب الفرق والمقالات. 2 - أن هذا التفصيل قد اعتنى به زميل لى هو الأخ الدكتور هادي طالبي الذى سجل موضوعه لنيل درجة التخصص العليا (الدكتوراه) فى فرق المرجئة. 3- أن الذين تعرضوا لذلك من المؤلفين في الفرق والمقالات، كالأشعري والبغدادى والملطى والشهرستانى والرازي والخوارزمى والإيجى والسكسكى قد ذكروا أسماء مختلفة ومتداخلة ومصحفة، ونسبوا لكل فرقة رأيا يصعب أحيانا التفريق بينه وبين رأى الفرقة الأخرى، أو بينها وبين مذاهب المخالفين للمرجئة، وتمحيص ذلك وتحقيق القول فيه مما يطول، فى حين أنه يجمعها أصل نظرى واحد هو إدخال أعمال القلب ما عدا الجهمية والمريسية والصالحية، ولهذا نجد شيخ الإسلام - على كثرة ما كتب فى الموضوع - يكتفى بذكر هذا الأصل ويحيل التفصيل إلى تلك الكتب كما سنرى - انظر الإيمان: 210، وهو فى الفتاوى (7/222) . 4- أن هذه الفرق اندثرت نظريا وواقعيا ما عدا الجهمية والمرجئة الفقهاء والحنفية - على ما سنفصله - والذى يهمنا فى تتبع الظاهرة هو الوجود الواقعى أو النظرى لا مجرد العرض التاريخى الذى هو وسيلة فقط. (2) وهو ما أطلقوا عليه بعد استخدام المصطلحات الفلسفية والمنطقية "الماهية"، وقالوا: إن للإيمان ماهية معينة لا تقبل التعدد ولا التبغض، وسيأتى بسط هذا فى فصل قريب.

على هذا الأصل بنى الخوارج قولهم: أن مرتكب الكبيرة غير مؤمن، لأن إيمانه زال بارتكاب الكبيرة، ثم اختلف عليهم بعض فرقهم في معنى هذا الكفر وبعض لوازم هذا القول (1) . ووافقهم المعتزلة على هذا، لكن لما رأوا أن التسوية في الحكم بين الكافر والمرتد، وبين الزاني والسارق والشارب يستبعده العقل والشرع، حيث فرق الله بين حكم كل من هذين في الدنيا والآخرة، اكتفوا بإزالة اسم الإيمان عنه ولم يدخلوه في مسمى الكفر، فابتدعوا ما أسموه " المنزلة بين المنزلتين ". أما في المآل والعاقبة - أي أحكام الآخرة - فهم والخوارج سواء، فقد اتفقتا في الحكم وهو التخليد في النار، واختلفتا في الاسم، فالخوارج سموه كافرا، وهؤلاء جعلوه في منزلة بين المنزلتين. وأما المرجئة فإنهم - مع الإيمان بالأصل المذكور - وجدوا النصوص الكثيرة (2) والنظر العقلي يدلان على فساد قول الخوارج ومعهم المعتزلة، ووجدوا كذلك - وهذه شبهة أساس عندهم - أن ارتكاب المحظورات وترك الفرائض هو من جنس الأعمال لا الاعتقادات، فاتفقت سائر فرقهم على إخراج الأعمال من مسمى الإيمان حتى يسلم لهم الأصل المذكور، فيظل تارك الفريضة أو مرتكب المحرم مؤمنا، بل لم يتورع بعضهم عن التصريح بمساواة إيمانه بإيمان الملائكة والنبيين بناء على هذا الأصل. ثم إن المرجئة اختلفت فرقهم، فمنهم من يقول: الإيمان محله القلب، ومنهم من يضيف إليه إقرار اللسان. والذين قالوا محله القلب اختلفوا في التسمية، فقال بعضهم: هو المعرفة، وقال آخرون: هو التصديق. والذين قالوا: أن الإيمان يشمل الاعتقاد والإقرار معا افترقوا، فمنهم من خص الاعتقاد بالتصديق، ومنهم من أدخل سائر أعمال القلب فيه. والذين خصوه بالتصديق أولوا أصل مذهبهم في الإقرار والنطق بأنه علامة على ما في القلب فقط، أو ركن زائد وليس بأصلي ونحو ذلك.

_ (1) كما سبق فى الفصل الخاص بهم. (2) كنصوص دخول الموحدين الجنة مهما عصوا ولو بعد حين، ونصوص إثبات الإسلام لمرتكب الكبيرة.

والكرامية - خاصة - بقوا على الأصل نفسه أنه شئ واحد، لكن جعلوه الإقرار والنطق فقط. وبهذا الإيجاز والإجمال يتبين لنا أنه يمكن هدم مذاهب المخالفين في الإيمان جميعها بهدم هذا الأصل الفاسد الذي هو رأي مجرد عن النصوص، كما يمكن وضع ضابط لمعرفة مذاهب الناس في الإيمان - ولا سيما المرجئة - بحسب محل الإيمان من الأعضاء. ثانيا: هدم هذا الأصل شرعا من أسهل الأمور وأجلاها بيان فساد هذا الأصل، ولهذا سنكتفي بإيراد هذه الأدلة المجملة (1) : 1 - انعقاد الإجماع على ذلك من الصحابة والتابعين وتابعيهم - كما سبق - وهو إجماع مستند إلى النصوص الصريحة من الكتاب والسنة في زيادة الإيمان ونقصه، واجتماع النفاق والإيمان في القلب الواحد واجتماع الشرك والإيمان في عمل الرجل الواحد (2) . 2 - تفاضل المؤمنين في الأعمال الظاهرة تفاضلا لا ينكره إلا مكابر، فمنهم القانت الأواب، والمجاهد الدائب، ومنهم المقتصد، ومنهم الظالم لنفسه المنهمك في فسقه. 3 - تفاوت المؤمنين في الأعمال الباطنة، كالحب والخوف والرجاء والذكر والتفكر في آلاء الله وآياته والخشوع واليقين ... ونحو ذلك مما لا يجحده إلا معاند عامد. 4 - تفاوت الناس في العلم بما يؤمن به - حتى لو سلم جدلا أنه التصديق - فمنهم من يعلم من صفات الله وآياته وأسباب سخطه ومرضاته الشىء الكثير، ويؤمن بذلك ويعتقده مفصلا، ومنهم من لا يعلم منه إلا النزر اليسير المجمل، فلا مراء في أن الأول مصدق بأضعاف ما الآخر مصدق به، فالمعرفة والعلم واليقين كل منها درجات متفاوتة، والإنسان الواحد نفسه يكون إيمانه بشىء أقوى من إيمانه بشىء آخر، ويكون إيمانه بالشىء اليوم أقوى منه غدا أو العكس.

_ (1) أما هدمه من جهة هدم أساسه الذى بنى عليه أثناء تطور الظاهرة وهو المنطق، حيث أثبتوا ما أسموه الماهية فقد عقدنا له فصلا خاصا يأتى عما قليل (2) والمقصود هو النفاق الأصغر والشرك الأصغر.

5 - أن الإيمان يتفاوت بتفاوت سببه ومستنده، فمن آمن بسبب آية خارقة رآها، ليس كمن آمن تبعا لإيمان غيره من الناس أو نحو ذلك من الأسباب العارضة (1) . ثالثا: ضابط معرفة أصول الفرق في الإيمان: يمكن معرفة أصول الفرق المختلفة في الإيمان بتقسيم الأقوال منطقيا حسب الأعضاء الثلاثة: " القلب، اللسان، والجوارح " وقد وضع هذا الضابط - نصا أو تلميحا - بعض المؤلفين من العلماء، عوضا من استعراض الفرق الذي سارت عليه كتب الفرق والمقالات، ومنهم الإمام الطبري (2) وابن حزم (3) وشيخ الإسلام ابن تيمية (4) وابن أبى العز (5) ، وقد رأيت أن أستفيد من مجموع كلامهم، وأوجز كلامهم وأستخرج منه مع الزيادة والإيضاح ضابطا محددا يعين على معرفة الأقوال والتفريق بينها بيسر وسهولة فكان هذا التقسيم: 1- أن الإيمان بالقلب واللسان والجوارح: * أهل السنة * الخوارج * المعتزلة 2- أن الإيمان بالقلب واللسان فقط: * المرجئة الفقهاء * ابن كلاب 3- أن الإيمان باللسان والجوارح فقط: * الغسانية أو فرقة مجهولة (6) 4- أن الإيمان بالقلب فقط: * الجهمية * المريسية * الصالحية * الأشعرية * الماتريدية وسائر فرق المقالات 5- أن الإيمان باللسان فقط: * الكرامية

_ (1) لزيادة البيان فى هذا انظر: الإيمان لشيخ الإسلام (219 - 224) . (2) انظر تهذيب الآثار (2/189- 199) ، وقد ذكر أربعة أصول غير مذهب السلف. (3) انظر: المحلى (13/9) طبعة أبى المكارم 1392هـ. (4) الإيمان ص184، هو هنا تحدث عن المرجئة خاصة. (5) شرح العقيدة الطحاوية ص309، تحقيق: الأرناؤوط. كما فعل قريبا من ذلك الحافظ فى الفتح، (1/46) ، لكن على كلامه ما يستدرك، وقد فعلنا ذلك هنا، وقد استوفى الزبيدى أصول المرجئة وغيرها عدا مذهب السلف فلم يذكره - إتحاف السادة المتقين (2/243) . (6) ذكر الطبري قولها ولم يسمها، ولكنه قريب مما ذكره الأشعري والشهرستاني عن غسان.

وبعض هذه الأقسام تحتاج لتفصيل إيضاحي وهي: أ - الذين قالوا إنه بالقلب واللسان والجوارح طائفتان: 1 - الذين قالوا: الإيمان فعل كل واجب وترك كل محرم، ويذهب الإيمان كله بترك الواجب أو فعل الكبيرة، هم: * - الخوارج: ومرتكب الكبيرة عندهم كافر. * - المعتزلة: ومرتكب الكبيرة عندهم فى منزلة بين المنزلتين. 2 - الذين قالوا: الإيمان قول وعمل (1) ، وكل طاعة هى شعبة من الإيمان أو جزء منه، الإيمان يكمل باستكمال شعبه وينقص بنقصها، ولكن منها ما يذهب الإيمان كله بذهابه ومنها ما ينقص بذهابه. فمن شعب الإيمان أصول لا يتحقق إلا بها، ولا يستحق مدعيه مطلق الاسم بدونها. ومنها واجبات لا يستحق الاسم المطلق بدونها. ومنها كمالات يرتقى صاحبها إلى أعلى درجاته. (وتفصيل هذا كله حسب النصوص) . * وهم أهل السنة والجماعة. ب - الذين قالوا: إنه يكون بالقلب واللسان فقط: طائفتان 1- الذين منهم يدخلون أعمال القلب وهم بعض قدماء المرجئة الفقهاء وبعض محدثى الحنفية المتأخرين. 2- الذين لا يدخلون أعمال القلب، وقد تطور بهم الأمر إلى إخراج قول اللسان أيضا من الإيمان وجعلوه علامة فقط وهم عامة الحنفية (الماتريدية) .

_ (1) على ما سبق فى شرح هذه العبارة.

ج- الذين قالوا: إنه يكون بالقلب فقط: ثلاث طوائف 1 - الذين يدخلون فيه أعمال القلب جميعا، وهم سائر فرق المرجئة كاليونسية والشمرية والتومنية. 2 - الذين يقولون: هو المعرفة فقط: الجهم بن صفوان. 3- الذين يقولون: هو التصديق فقط: الأشعرية والماتريدية. هذه هي الأصول النظرية عامة. أما في واقع الظاهرة فقد تقلصت هذه الفرق إلى أقل من ذلك نظرا للتداخلات والتطورات الفكرية التي كان أهمها وأجلاها: 1 - استخدام قواعد المنطق وإدخاله علما معياريا يحكم في القضايا النظرية الخلافية عامة، ومنها قضية الإيمان. 2 - تحول مباحث العقيدة أو التوحيد والإيمان إلى "علم الكلام" الذى يقوم على أسس فلسفية ويستخدم القواعد المنطقية، وإجمالا هو مباحث نظرية عقلية ليس للنصوص فيها - إن وجدت - إلا مكانة ثانوية، لا سيما فى العصور الأخيرة. وهذا ما سوف نفصل الحديث فيه عما قليل. والمهم هنا أن هذه الأسباب وغيرها من الأسباب التاريخية البحتة أدت إلى انقراض بعض الفرق الإرجائية، وهي: 1 - الكرامية: لم يعد لهم وجود ولا لفكرهم إلا فى كتب المخالفين، مع أنها آخر المذاهب المبتدعة فى الإيمان (1) ظهورا. وانقراضهم قديم نسبيا، يقول الذهبى (فى القرن الثامن) : " وكان الكرامية كثيرين بخراسان ولهم تصانيف، ثم قلوا وتلاشوا، نعوذ بالله من الأهواء" (2) . هذا مع أنه كان لهم وجود ظاهر حتى نهاية القرن السادس ومطلع السابع، فإن المؤرخين للرازى وعلى رأسهم ابن السبكي (3) ذكروا مناظراته

_ (1) قال ذلك شيخ الإسلام، مجموع الفتاوى (13/56) . (2) سير أعلام النبلاء (11/524) ، ترجمة محمد بن كرام "المؤسس". (3) انظر ترجمة الرازى فى طبقاته (8/81) .

لهم، وكتب الرازى تنضح بذلك، والرازى هو الإمام الثانى للأشعرية توفى سنة 606هـ (1) ، وقد كتب أحد الباحثين رسالة علمية فى ذلك (2) . وقبل ذلك أثناء ظهور إمام الأشعرية الأول وناشر المذهب (أبو بكر الباقلاني) ، كان فى مقدمهم ابن الهيصم يكتب ويناظر فى الطرف الآخر. قال شيخ الإسلام: " وقد رأيت لابن الهيصم فيه مصنفا في أنه قول اللسان فقط، ورأيت لابن الباقلانى فيه مصنفا أنه تصديق القلب فقط، وكلاهما فى عصر واحد وكلاهما يرد على المعتزلة والرافضة " (3) . 2 - الجهمية وأصحاب المقالات (كاليونسية والشمرية) : انقرض القائلون بأن الإيمان هو مجرد المعرفة القلبية. ولكن العجيب هو قيام أعظم مذهبين في الإرجاء وهما الأشعرية والماتريدية اللذان يشكلان جملة الظاهرة العامة على أصوله فى أن الإيمان هو ما في القلب فقط، حتى إن الماتريدية أولت ما هو مشهور عن أبي حنيفة أن الإقرار باللسان ركن آخر للإيمان، وجعلوه علامة فقط كما سيأتى عنهم. هذا مع أن الأشعري نفسه صرح بمذهب جهم وجعله الفرقة الأولى من فرق المرجئة، والمنتسبون إليه يقرؤون ذلك إلى اليوم، بل إن كلام إمامهم المتقدم " الباقلاني " في الإيمان يماثل ما ذكره إمامهم المنتسبون إليه " الأشعرى " عن جهم!! وهذا من تناقضهم. وعلى هذا يصح أن نقول إن مذهب الجهمية فى جملته لم ينقرض، وإنما انقرض القسمان الأولان من الأقسام الثلاثة المتفقة على الإيمان يكون بالقلب وحده - أعني سائر الفرق ذات المقالات والجهمية - (راجع الجدول) .

_ (1) انظر: لسان الميزان (4/429) ، وإمامهم المتقدم هو الباقلانى. (2) هو الدكتور فتح الله خليف الذى كتب رسالة ماجستير عنوانها "فخر الدين الرازى وموقفه من الكرامية"، انظر تحقيقه لكتاب التوحيد للماتريدى ص38، وتفصيل مذهب الكرامية هو موضوع رسالة الزميل عبد القادر بن عبد الله الصومالى، وانظر: التجسيم عند المسلمين د. بهير مختار، مع ملاحظة ما فيه من إجمال والتباس. (3) مجموع الفتاوى (13/58) .

أما الفرقة الثالثة فكل ما عملته هو تحوير أو تعديل في كلام جهم، فوضعت التصديق بدلا من المعرفة، وصرحت بنفي أعمال القلب الأخرى مثلما صرح جهم وجعلت الأعمال المكفرة مجرد علامة على الكفر الباطن، وجعلت كل من حكم الشرع بكفره فاقدا للتصديق القلبي، ونحو ذلك من الآراء واللوازم التي لم يخالفوا جهما فى شئ منها، إلا إذا صح أن جهما التزم القول بأن من أعلن التثليث فى دار الإسلام وحمل الصليب بلا تقية أنه يكون مؤمنا إذا كان يعرف الله (1) . على أن ابن حزم نسب هذا الالتزام للأشعرى معه، ولا يصح هذا عن الأشعري. لكن الأشعرية يقولون إنه يمكن أن يكون مؤمنا في الباطن، ولكن إعلانه التثليث وحمله الصليب دليل على كفره، وعلامة عليه، فهو كافر " ظاهرا " مع كونه مؤمنا " باطنا " إذا كان مصدقا!! وعلى أية حال فإن الفرق بين التصديق المجرد من أعمال القلب وبين المعرفة مما يتعذر على العقول إدراكه، كما نص شيخ الإسلام على أن الانقراض قد شمل أيضا آراء بعض قدماء المذهب الأشعري؛ فمؤسسه ابن كلاب كان على عقيدة المرجئة الفقهاء (2) ، وأما أبو عبد الله بن مجاهد تلميذ الأشعري وشيخ الباقلاني، وأبو العباس القلانسي، ونحوهم؛ فكانوا على عقيدة السلف في الإيمان - كما نقله عنهم أبو القاسم الأنصارى شيخ الشهرستاني في شرح كتاب الإرشاد للجويني (3) .. وكل هؤلاء لم يبق لهم في مذهب الأشعرية أثر. 3 - المرجئة الفقهاء: بعد أن استقرت الأمة على التمذهب بالمذاهب الأربعة المشهورة، استقر مذهب المرجئة الفقهاء ضمن مذهب أبي حنيفة رحمه الله، ولهذا أصبح يسمى مذهب الحنفية.

_ (1) ... انظر: الفصل (3/47) ، وأما أبوعبيد فلم يقل إنه مذهب جهم، بل قال إنه لازم له، الإيمان ص80. وانظر: الإيمان لابن تيمية ص1410- 152، ففيه تفصيل لموافقة الأشعرية للجهمية ورد عليهم فى تلك الآراء واللوازم وكذا ص115،184، ومواضع كثيرة، ودرء التعارض: (2/274) . (2) انظر: المصدر السابق ص114، وإتحاف السادة المتقين يشرح الإحياء للزبيدى (2/243) (3) انظر: المصدر السابق ص138،114.

وأبو حنيفة رحمه الله تضاربت الأقوال في حقيقة مذهبه (1) - وموقفه من أعمال القلوب خاصة - أهي داخلة في الإيمان أم لا؟ ولم يثبت لدي فيما بحثت أي نص من كلام الإمام نفسه، إلا أنني لا أستبعد أنه رحمه الله رجع عن قوله ووافق السلف في أن الأعمال من الإيمان، وهذا هو المظنون به (2) . أما المشهور المتداول عنه فهو مذهب المرجئة الفقهاء، أي إن الإيمان يشمل ركنين: تصديق القلب وإقرار اللسان، وأنه لا يزيد ولا ينقص ولا يستثنى فيه، وأن الفاسق يسمى مؤمناً، إذ الإيمان شىء واحد ينتفي كله أو يبقى كله حسب الأصل المذكور سابقاً. وأشهر من يمثل هذا المذهب هم فقهاء الحنفية المتمسكون بعقيدة السلف وعلى رأسهم الإمام أبو جعفر الطحاوي صاحب العقيدة المشهورة، والإمام القاضي ابن أبي العز شارحها، وقليل من المتأخرين. وحقيقة الأمر أن مذهب هؤلاء مضطرب متردد، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " إنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضاً، فإنها لازمة لها " (3) . ... وعبارة الطحاوي رحمه الله تدل على هذا فإنه قال: " والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان، وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق، والإيمان

_ (1) فأما رسالة العالم والمتعلم فإن الكوثري على تعصبه الشديد طعن في سندها (وكذا رسالة الفقه الأكبر) ، وقد أثبت ذلك المحققان في مقدمتها، وأما الأشعري في المقالات فقد قال عن أبي حنيفة ما لا نستطيع إثباته، وهو قوله: " الفرقة التاسعة من المرجئة أبو حنيفة وأصحابه؛ يزعمون أن الإيمان المعرفة بالله والإقرار بالله، والمعرفة بالرسول، والإقرار بما جاء من عند الله في الجملة دون التفسير، وذكر أبو عثمان الآدمي أنه اجتمع أبو حنيفة وعمر بن أبى عثمان الشمرى بمكة، فسأله عمر فقال له: أخبرني عمن زعم أن الله سبحانه حرم أكل الخنزير غير أنه لا يدرى لعل الخنزير الذي حرمه الله ليس هذه العين، فقال: مؤمن!! فقال له عمر: فإنه قد زعم أن الله فرض الحج إلى الكعبة غير أنه لا يدري لعلها كعبة غير هذه بمكان كذا؟ فقال: مؤمن!! قال: فإن قال:أعلم أن الله بعث محمداً غير أنه لا يدرى لعله هو الزنجي؟ قال: هذا مؤمن!! ولم يجعل أبو حنيفة شيئا ًمن الدين مستخرجا ًإيماناً، وزعم أن الإيمان لا يتبعض، ولا يزيد ولا ينقص، ولا يتفاضل الناس فيه "المقالات ص139". ويلاحظ أن الشهرستاني نسب هذا لغسان. وكذبه في نسبته لأبي حنيفة، ولم يتعرض لنقد الاشعري - مع أنه إنما ينقل عنه غالباً. انظر: الملل والنحل (1/141) تحقيق: الكيلاني. (2) روى الإمام ابن عبد البر بسنده أن حماد بن زيد ناظر أبا حنيفة في الإيمان، وذكر له حديث " أي الإسلام أفضل، وفيه ذكر أن الجهاد والهجرة من الإيمان " فسكت أبو حنيفة، فقال بعض أصحابه: ألا تجيبه؟ قال: لا - أو بم - أجيبه وهو يحدثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ التمهيد (9/247) ، ونسبها ابن أبي العز للطحاوى 331. (3) الإيمان ص183.

واحد، وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى ومخالفة الهوى، ملازمة الأولى " (1) فقوله: " والإيمان واحد " شاهد لما قلنا من أن أصل الشبهة ومنطلقها هو هذا. وقوله: "في أصله سواء والتفاضل بينهم بالخشية والتقى" إلخ، مخالف لذلك، فاضطربت عبارته؛ لأن قوله: "وأهله في أصله سواء" يدل عل أن للإيمان أصلاً وفرعاً أو فروعاً - هو أعمال الجوارح وأعمال القلب -. فيقال: إن كان الفرع داخلاً في مسمى الأصل كما هو الشرع واللغة والعرف لم يعد الإيمان واحداً، بل متفاوتاً متفاضلاً - كإثباته التفاضل في الخشية والتقى -. وإن كان غير داخل في مسماه فقوله: "وأهله في أصله سواء" غير دقيق فينبغي أن يقول "وأهله فيه سواء". والذي دفعه رحمه الله إلى الوقوع في هذا هو محاولة الجمع بين مذهبي السلف وأبي حنيفة، لأن الرجل حنفي سلفي، وكذا شارح عقيدته، فإنه حاول ذلك أيضاً وأراده، ولهذا قال في شرح العبارة " ولهذا - والله أعلم - قال الشيخ رحمه الله: وأهله في أصله سواء يشير إلى أن التساوي إنما هو في أصله، ولا يلزم منه التساوي من كل وجه " (2) . فيقال له: ما هذا الأصل من التصديق الذي يكون أهل الإيمان كلهم مشتركين فيه ويكون ما فوقه زيادة عليه؟ ومن الذي وضعه؟ وهذا في الحقيقة يقودنا إلى قضية فلسفية منطقية هي إثبات الماهية المشتركة خارج الذهن (3) . وهو ما لا يقره رحمه الله. وهاهنا قضية مهمة، وهي أن بعض الناس يثبتون أن الخلاف بين مذهب السلف ومذهب أبي حنيفة لفظي بإطلاق، مستدلين بظواهر بعض كلام شيخ الإسلام وبمثل صنيع الطحاوي والشارح، والأخير نص على أن الخلاف صوري، ونحن وإن كان غرضنا هنا ليس التفصيل وإنما هو إثبات الظاهرة، فإننا نبين وجه الحق في ذلك وعلاقته بتطور الظاهرة قائمة أيضاً؛ لأن بعض الناس قد يحسب أن الماتريدية - وهي

_ (1) الفقرات من 62- 64 من متن العقيدة: ص307 من الشرح. (2) شرح العقيدة الطحاوية، ص310. (3) وهو المعقود له فصلاً خاصاً بعنوان الأثر المنطقي وسيأتي ص445.

الطور النهائي للظاهرة بالنسبة للمرجئة الفقهاء - هي على مذهب أبي حنيفة كما تزعم، والخلاف بينها وبين السلف صوري. وسوف نبطل ذلك ببيان حقيقة الخلاف بين أبي حنيفة والسلف، ثم نبين بعد خروج مذهب الماتريدية عن حقيقة مذهب الإمام (1) . بل إن بيان مذهب أبي حنيفة والمرجئة الفقهاء عامة لهو مما يدل على انقراضه إلا من أمثال هذين الإمامين. * فما حقيقة الخلاف بين مذهب السلف ومذهب الحنفية؟ قبل الإجابة المباشرة يجب أن نتذكر ما سبق في فصل " المرجئة الفقهاء " من نقل ذم علماء السلف للمرجئة وأنهم هم هؤلاء، وبيان ظلالهم وبدعتهم، وهو ما تنصح به كتب العقيدة الأثرية عامة، فهل يعقل أن يكون هذا كله والخلاف لفظي فقط؟! والذي تبينته من خلال الدراسة والتتبع أن سبب اللبس الواقع أحياناً هو أن للمسألة جانبين: * الأول: ما يتعلق بحقيقة الإيمان أو ماهيته التصورية إن صح التعبير: والخلاف فيها حقيقي قطعاً، وله ثمراته الواضحة وأحكامه المترتبة مثل: 1 - فالسلف يقولون بزيادته ونقصانه، وهؤلاء يقولون بعدمها. 2 - إطلاقه على الفاسق أو عدمه، فالسلف لا يطلقونه على الفاسق إلا مقيداً، وهؤلاء بعكسهم. 3 - هل يقع تاماً في القلب مع عدم العمل أم لا؟ عند السلف لا يقع تاماً في القلب مع عدم العمل، وعند هؤلاء يقع. 4 - وعند السلف أعمال القلب هي من الإيمان، وعند هؤلاء خشية وتقوى لا تدخل في حقيقته. 5 - وعند السلف الإيمان يتنوع باعتبار المخاطبين به ... فيجب على كل أحد بحسب حاله وعلمه ما لا يجب على الآخر من الإيمان، وعند هؤلاء لا ينوع. 6 - السلف يقولون إنه يستثنى فيه باعتبار، وهؤلاء يقولون لا يجوز ذلك لأنه شك.

_ (1) وهذا الأخير موضعه حكم تارك العمل في الطور النهائي للظاهرة.

7 - إطلاق نصوص الإيمان على العمل أهو حقيقة أم مجاز؟ فالسلف يقولون حقيقة، وهؤلاء يقولون مجاز. 8 - وهؤلاء يقولون: يجوز أن يقول أحد: إن إيماني كإيمان جبريل، والسلف يقولون: لا يجوز بحال. * الثاني: ما يتعلق بالأحكام والمآلات وأهمها: 1 - حكم مرتكب الكبيرة عند الله، وأنه لا يطلق عليه الكفر في الدنيا، ولا يخلد في النار في الآخرة، بل هو تحت المشيئة. 2 - كون الأعمال مطلوبة، لكن أهي أجزاء من الإيمان أم مجرد شرائع له وثمرات؟ فمن نظر إلى هذا فقط قال إن الخلاف صوري أو إن النزاع لفظي. ولكن مما يرد به على أصحاب هذا المذهب في القول نفسه - فضلاً عن القسم الأول -: 1 - أن إخراج الأعمال من مسمى الإيمان بدعة لم يعرفها السلف. 2 - أن ذلك اتخذ ذريعة لإرجاء الجهمية - كما سبق، بل أدى إلى ظهور الفسق - كما ذكر شيخ الإسلام. 3 - أنه تكلف وتعسف في فهم الأدلة ورد ظواهرها الصريحة. 4 - أن كل شبهة لهم في ذلك منقوضة بحجة قوية. على أن القضية المهمة في الموضوع والتي ترتب عليها خلافهم في حكم تارك الصلاة - وقولهم أنه يقتل حداً - هي قضية ترك جنس العمل بالكلية. فقولهم: إنه مؤمن يجعل الخلاف حقيقياً بلا ريب، بل هم يجعلونه كامل الإيمان على أصلهم المذكور. فالخلاف فيها لا يقتصر على التسمية والحكم في الدنيا بل في المآل الأخروي أيضاً، هذا ما أخطأ فيه شارح الطحاوية حين قال: " وقد أجمعوا - أي السلف والحنفية - على أنه صدق بقلبه وأقر بلسانه وامتنع عن العمل بجوارحه أنه عاص لله ورسوله، مستحق للوعيد " (1) . واستدل بهذا على أن الخلاف صوري، والواقع أن مجرد الاتفاق على العقوبة لا يجعل الخلاف كذلك.

_ (1) شرح الطحاوية، ص310.

بل مذهب السلف أن تارك العمل بالكلية كافر؛ إذ انعقد إجماع الصحابة عليهم رضوان الله على تكفير تارك الصلاة، ولم يخالف في ذلك أحد حتى ظهرت المرجئة وتأثر بها بعض أتباع الفقهاء الآخرين، دون علم بأن مصدر الشبهة وأساسها هو الإرجاء " (1) ونعود إلى موضوع انقراض هذا المذهب وتطور الظاهرة، فنقول: إن أحداً في النصف الثاني من القرن الثاني لم يكن يتوقع انقراض هذا المذهب؛ لأنه كان يمثل مذهب الدولة الرسمي - أو شبه الرسمي - ويكاد يسيطر على أصحاب المناصب العلمية والقضائية الرسمية في بغداد والأقاليم. ولكن لم يلبث أن انقرضت صورته وتحول إلى مذهب فلسفي كلامي منذ القرن الرابع، ومن أهم أسباب ذلك: 1 - المقاومة الشديدة التي بذلها أهل السنة في محاربته، وعلى رأسهم الإمام أحمد - الذي كان يدرس كتاب الإيمان وكتاب الأشربة (2) له في الحلقات العامة - وماثله واقتدى به علماء الحديث والرجال (3) فلم يحقق مذهب الحنفية أي انتصار علمي يذكر. وبعد التغير الجذري الذي انتهت إليه فتنة الإمام أحمد، والمكانة العليا التي تبوأها لدى الخلفاء والعلماء والعامة، وبروز المذاهب الأخرى - لا سيما الشافعية - تقلصت مكانة هذا المذهب في الفروع، وكان تقلصها في الأصول أكثر. 2 - انتشار المنطق والفلسفة وعلم الكلام، فقد حاول متكلموا هذا المذهب تعويض الهزيمة التي لحقته في المجال العلمى النصي (الكتاب والسنة) بإضفاء الطابع الفلسفي عليه، مستفيدين من هذا الانتشار الذي لم يقابله أهل السنة بما يستحق - لأسباب يطول ذكرها - فمال إليه الطبقة المثقفة، وتخلى معظم الفقهاء الحنفية (وغيرهم) عن التعرض لأمور العقيدة وأحالوها إلى علماء الكلام، وهنا برز من متكلمي الحنفية رجل كان له أعظم الأثر في

_ (1) انظر: مجموع الفتاوى (7/616) ، وسيأتي لهذا تفصيل وإيضاح في حكم ترك العمل. (2) لأن الحنفية يبيحون النبيذ. (3) لا سيما البخاري وأبو داود

الانتصار لمذهب جهم وتحويل مذهب الحنفية إليه، وهو أبو منصور الماتريدي (1) . وقد اضطر الحنفية في بعض المراحل إلى الالتصاق بالأشعرية الذين كانوا أكثر منهم تعمقاً في الكلام، حتى أصبح كلام الباقلاني والرازي من أهم مصادرهم. وهذا مما جعل الفرقتين تتقاربان كثيراً، حتى إن مسائل الخلاف بينهما حصرت في قضايا معدودة أكثرها فلسفي. * الخلاصة: والخلاصة أن الظاهرة العامة للإرجاء في طورها النهائي أصبحت مكونة من مذهبي الأشعرية والماتريدية، الذين شمل انتشارهما معظم الأقطار الإسلامية، وتبنتهما أكثر المعاهد العلمية الإسلامية شرقاً وغرباً، وهذا من أعظم السمات الفكرية لعصور الانحراف في الفكر الإسلامى والحياة الإسلامية عامة. ونظراً لما التزمناه من الاهتمام بالدرجة الأولى بقضية " العمل " وكيف تدهورت قيمته في الفكر الإسلامي في عصور الانحراف، فإننا سنبحث أعظم الأسباب والمؤثرات التي أدت إلى ذلك؛ لنصل إلى حكم تارك العمل في الطور النهائي للظاهرة، ثم نرد ذلك كله رداً تفصيلياً على ضوء مذهب أهل السنة والجماعة.

_ (1) انظر كتابه، ص 373 - إلى آخر الكتاب.

الأثر الكلامي في تطور الظاهرة

الأثر الكلامي في تطور الظاهرة إن الدارس لتاريخ الفكر الإسلامي عامة يجد أن أكبر غريبة وفدت عليه وامتزجت به وتركت فيه أبلغ الأثر - شكلا ومضمونا - هي ظاهرة الغزو الفلسفي الإغريقي!! حقا إن أكبر حرب نفسية وفكرية أثيرت على الإسلام هي الغزو الفكري الحديث، الذي وفد مع الحملات الصليبية المسماة " الاستعمار ". غير أن هذا الغزو - وإن كان لا مبرر لقبوله على الإطلاق - له تفسير معقول، وهو التفاوت الكبير في مستوى التقدم الحضاري بين الأمتين المتصارعتين. فأمة تعاني من ضعف مزمن في كل مجالات الحياة ليس غريبا أن تخضع لغزو أمة قوية قاهرة حققت - وفق سنة الله الكونية - من الكشوفات والصناعات ما لم يكن الخيال البشري يحلم به من قبل. أما الظاهرة المستعصية على العقل، الغريبة في تاريخ الإنسانية، فهي أن تتقبل أمة حية قوية تملك مصدرا مستقلا للمعرفة والثقافة غزوا فكريا من أمة بائدة. ويكون الأمر أكثر استعصاء وغرابة إذا كانت الأمة المتقبلة للغزو هي أمة الوحي النقي والتوحيد الخالص، اللذين فتحت بهما قلوب الأمم، وحطمت طواغيت العالم، وبلغت من الاستعلاء بالحق ما لم تبلغه أمة قط ومع ذلك تتقبل الغزو من تراث مندثر لأمة مشركة منقرضة!! ولست في معرض الحديث عن أسباب تقبل هذا الغزو المدمر، لكنني لا أرى بدا من التعرض لذكر سببين رئيسين له - إن لم يكونا السببين الرئيسين - وهما:

1 - التخطيط التآمري لأعداء الإسلام: الذي انتهج أمكر الأساليب، ومنها " الغزو من الداخل "، وما ظاهرة الزندقة إلا رأس من رؤوس أفاعي الظلام، التي أكل الحقد قلوبها فقذفته سموما من الآراء والبدع والفلسفات الهدامة. والمتأمل لرؤوس الضلالة يجد طائفة منهم تنتمي للأديان والفلسفات التي سحقها الإسلام وحرر منها العباد مثل: بشر المريسي (يهودى) (1) ، عبد الله بن المقفع (مجوسي) ، إبراهيم النظام (برهمي) (2) ، عبدك الصوفي (ثيوصوفي) (3) ، جابر بن حيان (؟) . وقد عرف الهدامون كيف يدخلون من أوسع الأبواب بالتدسس إلى السلطة الحاكمة والتأثير فيها لكي تتقبل هذه الأفكار، والناس من بعد لهم تبع. وهكذا وقع لخالد بن يزيد الأموي والمأمون العباسي - وإن كان الأول أقل - وغيرهما ممن أغرته هذه الفلسفات، على أن هذا السبب يظل أقل السببين شأنا، فإن الأمة الإسلامية متى كانت مستقيمة على الإيمان لم يضرها كيد كائد ولا عداوة حاقد «وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا» . 2 - المنهج التوفيقي: إن الإيمان بالله ورسوله يحتم على الأمة الإسلامية أن تتمسك بمصدر الحق المعصوم، الذي مَنَّ الله به عليها دون سائر الأمم، وألا تتلقى من غيره فيما كفاها مؤونته، بل تحكمه في كل ما تأخذ وما تذر، وهذا أصل قطعي كلي تضافرت للدلالة عليه الآيات والأحاديث. ومنها: عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب، فقرأه النبي صلى الله عليه وسلم فغضب فقال: " أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن

_ (1) كما نص عليه الدرامى والإمام أحمد وغيرهما. (2) ذكر بعض العلماء أنه كان يخفى برهميته بالاعتزال ليفسد دين الإسلام، وكتبه تدل على ذلك، انظر: سير أعلام النبلاء (10 /452) . (3) والثيوصوفية هى أصل الصوفية ومعناها الحكماء الإلهيون، وقد ذكره الملطي ضمن الزنادقة.

شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو باطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى - صلى الله عليه وسلم - كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني " (1) فهذا الموقف يرسم منهج التعامل مع الوحي المنسوخ، فكيف بالفكر البشري المحض الذي سماه الله تعالى (هوى وظناً وخرصاً وإفكا) وهي كلها أسماء يدخل في مسماها دخولا أوليا ما يسمى " الفلسفة الميتافيزيقية " وما تفرع عنها. وحسبك أن الله تعالى قال: «مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا» [الكهف: 51] . فهذه الآية نسفت كل النظريات والفلسفات المخالفة للوحي - الكوني منها والإنساني - ووسمت أصحابها باسم (المضلين) ، وما كانوا دائما إلا كذلك! وعلى هذا المنهج سار عمر بن الخطاب - نفسه - فإنه " لما فتحت أرض فارس ووجدوا فيها كتبا كثيرة، كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب ليستأذن في شأنها وتنقيلها للمسلمين، فكتب إليه عمر أن اطرحوها في الماء، فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله بأهدى منه، وإن يكن ظلالا فقد كفانا الله! فطرحوها في الماء أو في النار (2) ". وعليه كذلك كان موقف أئمة الإسلام وعلماء الملة، كالأئمة الأربعة ووكيع وابن المبارك والسفيانين والفضيل. وغيرهم ممن سبقهم أو لحقهم (3) . وعلى هذا ثبتت الطائفة المنصورة " أهل السنة والجماعة " في كل العصور، فقد تعرضت كتب الفلسفة والمنطق (4) للحرق والمصادرة في عصور متعاقبة (5) ، ولاحقها علماء الإسلام بالفتاوى المدمرة، حتى إن كتب الفقه سطرت أن الوقف إذا وقف على طلبة العلم لا يدخل فيه أصحاب الكلام (6) .

_ (1) حديث صحيح، رواه أحمد (3/ 387) (2) مقدمة ابن خلدون ص 480. (3) انظر: صون المنطق والكلام للسيوطي، وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر: فصل ذم الجدال والكلام. (4) وتسمى أيضا " علوم الأوائل " أو " علوم اليونان ". (5) كعصور المرابطين والأيوبيين. (6) انظر: شرح الطحاوية. بل نص بعضهم على جواز إزالة النجاسة بكتب الفلسفة والمنطق وإن كنت لا أراه احتراما للحرف العربي.

وقد تجلى هذا الموقف الأصيل أعظم ما تجلى في موقف إمام السنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، الذي حقق أعظم انتصار في التاريخ الفكري في الإسلام (1) وهو سجين أعزل، وما ذلك إلا لأنه يمثل منهج الوحي في مقابل الخرص والهوى والخرافة. ولكن المنهج التوفيقي (2) - وهو منهج ابتليت به الأمة الإسلامية قديما وحديثا - عكر على هذا المنهج الحازم الحاسم مواقفه وأفسد كثيرا - في حين أراد إصلاحا وتوفيقا! هذا المنهج - الذي انتهجه الأشاعرة والماتريدية - يرى إمكان الجمع بين الوحي والفلسفة، بين منهج القرآن ومنهج اليونان (3) ، والخروج بموقف أو رأي وسط بينهما أو مركب منهما!! ويظهر ذلك بوضوح في تعامله مع نصوص الوحي كتابا وسنة؛ فهو يقرر جزما وجوب الأخذ ببعض الآيات والأحاديث على ظاهرها المجمع عليه المعروف عند السلف، في حين يقرر أيضا - على الدرجة نفسها من الجزم والإيجاب - تأويل بعضها الآخر بما لم ينقل عن السلف، بل قام إجماعهم على خلافه، ولا يتحرج أصحابه من ذكر الإجماع ومستنده النصي، ثم التصريح بمخالفته بقول يعلمون أنه منقول عن اليونان!! وهذا المنهج - فوق أنه محكوم عليه شرعاً بالخطل والضلال - هو خطأ بيِّن بالفطرة العلمية المحضة؛ لأنه يقوم على غير معيار موضوعي متميز، وحسبك إقرار أصحابه قاطبة بأن التأويل ظني؛ ولهذا يختلفون فيه اختلافا شديداً حتى لا يكاد يجمعهم أحيانا إلا مخالفة دلالة النص التي يسمونها ظاهراً - وإن كان " نصاً " لا يقبل الاحتمال - وهذا ينطبق على نصوص الإيمان والقدر كنصوص من الصفات سواء.

_ (1) وإن أردت التأكد من أنه لا مبالغة في هذا الوصف، فانظر التقدير البالغ الذي أوقعه الله له في قلوب الأمة خاصتها وعامتها، فبعد أن اشتغلوا بتعذيبه - كما فعل المعتصم - انقلب الحال إلى الإجلال الفائق والحرص البالغ على أن يشرفهم بزيارته، وبعض من لم يدركه منهم أوصى أن يدفن بجوار قبره، أو كان معظما لتلاميذه من بعده. انظر ترجمة الإمام في سير أعلام النبلاء، والبداية والنهاية، ومناقب الإمام أحمد لابن الجوزي. (2) أو التركيبي! وينبغي أن يعلم أنه ليس المقصود من التركيب أو التوفيق الجمع، فإن أصحابه كثيرا ما يردون على النهجين كليهما (منهج أهل السنة ومنهج الفلاسفة) . (3) انظر مثالا حيا كلام الدكتور البوطي في مقدمة كتابه كبرى اليقينيات.

ولهذا شهد الخط البياني لهذا المنهج تذبذباً شديداً، ثم انحيازاً تاماً في النهاية إلى جانب الفلسفة (1) ! كما أن هذا المنهج - بحسب أفراده - يشهد تنقلات وتطورات عجيبة تلفت نظر كل دارس لأعلامه وأئمته، فالواحد منهم يبتدئ معتزلياً، وينتهي سنياً صرفا أو فلسفيا صرفا، يتردد بينهما فيناقض في كتاب ما قاله في الآخر، وخيرهم من يرجع إلى مذهب السلف عند الاحتضار أو قبيله (2) !! ولهذا كانت أصولهم - المتفق عليها بينهم - عرضة لتفسيرات مختلفة (مثل معاني الصفات، والكلام النفسي، والكسب..) ولا شك أن لهذا تفسيره كظاهرة نفسية عامة في الاختلافات العقائدية والسياسية وغيرها، وأياً كان هذا التفسير فإن حلول الوسط في خلاف بين حق محض صراح وباطل محض صراح هي بالبداهة ترجيح للباطل وهضم للحق. بل مجرد الخروج عن مصدر المعرفة المعصوم " الوحي" هو الضلال بعينه أياً كان المصدر الآخر. وعلى أي حال أصبح هذا المنهج واقعة بعد أن كانت الأمة قبله فريقين متنافرين: 1 - أهل السنة والجماعة - ومعهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وصريح العقل، مجمعين على الدعوة إلى المنهج الناصع المستقيم. 2 - رؤوس الضلالة من الجهمية والقدرية والزنادقة والمتفلسفة، وهؤلاء معهم فلسفات وجدليات وتنطعات ترجموها عن أمم الشرك والضلال، وضربوا لأجلها كتاب الله بعضه ببعض حين خلطوها بتحريف للمحكم وفهم سقيم للمتشابه. في غمرة العداء الصارم والمعترك الصاخب ظهر الفكر التوفيقي وبزغ قرنه، فدعا أصحابه إلى التوسط بين هذا وذاك، فاتهموا أهل السنة بأنهم متمسكون

_ (1) مما يوضح أن مؤسسيه الأوائل كابن كلاب والمحاسبي كانوا أقرب إلى منهج الوحي ممن جاء بعدهم كالباقلاني والبغدادي وابن فورك، وهؤلاء كانوا أقرب إليه ممن جاء بعدهم كأبي المعالي الجويني والغزالي، وهؤلاء أقرب من الذين مالوا بعدهم إلى التفلسف ميلا شديدا كالفخر الرازي، ثم هو وأمثاله أفضل ممن سار على منهجه مع انقطاع صلتهم بالوحي تقريبا كالآمدي والأرموي والإيجي (صاحب المواقف) وبين هذه الطبقات أعلام ممن تردد وتذبذب ووافق هؤلاء في شيء وأنكر عليهم شيئا أو أشياء. وانظر مقدمة ابن خلدون ص464 (2) كحال أبي المعالي والغزالي والرازي وغيرهم.

بالظواهر النقلية معادون للدلائل العقلية، واتهموا الآخرين - بحق - بأنهم معادون للنقل مقدسون للعقل، ورأوا - هم - أن الصحيح هو وجوب الأخذ ببعض أصول أهل السنة مع وجوب تأويل بعضها الآخر لمخالفة صريح العقل بزعمهم!! وكذلك وجوب الأخذ ببعض ما يدعو إليه الآخرون من العقليات ورد البعض الآخر!! وهكذا جعلوا - وهم لا يشعرون - فلسفة اليونان، وآراء الصابئين والبراهمة، وخرافات المجوس والنصارى تقف موقف الند المنافس لما أنزل الله من الوحي المحفوظ المعصوم!! وبعثوا تلك الرمم الفكرية البالية لتشاطر هدى الله عقول المسلمين وتقاسمه قلوبهم (1) . وليس هذا فحسب، بل من أخطر نتائج هذا المنهج أنه حطم وحدة التجمع الضخم الذي كان أهل السنة والجماعة يحظون به دون سائر الفرق؛ حيث كانت الفرق الأخرى - كالشيعة والمعتزلة - لا تمثل إلا مستنقعات جانبية على ضفتي تيار السنة الكبير. ولكن هذا المنهج جنى على ذلك جناية كبرى - لا سيما وكثير من رؤوسه ينتسبون للسنة ونصرتها -، فانقسم الرأي وتفسخ الموقف، واستصغرت الأمة خطر ما يدعو إليه هؤلاء، استكبارها له نفسه حين كان دعاته هم أعداء السنة الصرحاء. حتى جماهير الأمة وعامتها اختلط عليهم الأمر وانقسم الولاء، فما كان لهم من قبل أن يقارنوا بين الكتاب والسنة وبين زندقة الفرس والهنود والصابئين، ولا أن يعتقدوا كون ابن أبي دؤاد وبشر وجهم وغيلان والنظام أعلم بدين الله واتبع للحق وأهدى سبيلا من مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة والحسن وسفيان والفضيل. فلما ظهر المتمسحون بالسنة، المعظمون ظاهرا لأولئك السلف، مؤيدين لأولئك المبتدعة في كثير من أصولهم فتر العداء أو اضمحل، وتشتت الولاء وهاج الرأي بين التجمع السني نفسه!!

_ (1) وهذا هو الأصل الذي نشأت منه أكبر مشكلة منهجية يعاني منها هذا المنهج التركيبى، وهي ما أسموه (تعارض العقل وكيفية العمل عند ذلك) ، وهو الذي هدمه شيخ الإسلام بكتابه الفذ: " موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول " ومفتتحا إياه بذكر رؤوس هذا المنهج وقانونهم في التعارض.

وهذا الموقف تجلى بوضوح في المسألة المهمة لنا هنا وهي مسألة الإيمان، وبخاصة " العمل ". فقد ظهر أصحاب المنهج التوفيقي والخلاف في المسألة دائر بين فريقين: 1 - الأول: الأمة كلها - تقريباً - غير أنها كانت على مذهبين: أ - الغالبية العظمى: وهم متمسكون بما أجمعت عليه القرون المفضلة، وصرحت به نصوص الوحي القطعية من أن الإيمان قول وعمل - على ما سبق شرحه -. ب - طائفة معدودة من الفقهاء تتفق مع الأولى في أهمية العمل ووجوبه فضلا عن اتفاقها معها في أن من لم يقر بالإيمان بلسانه أو لم يقم بقلبه شيء من أعماله (كالرضا واليقين والصدق والإخلاص) كافر لا إيمان له، ولكن انقدحت لديهم شبهة في كون الأعمال - أعمال الجوارح - تدخل في مسمى الإيمان، وفهموا خطأ أن القول بزيادته ونقصانه موافق لقول الخوارج، ولهم على ذلك تأويلات وتعللات.. وهؤلاء هم المسمون مرجئة أهل السنة أو مرجئة الفقهاء (1) . 2 - الفريق الآخر: غلاة المرجئة، وهم الجهمية - حينئذ - ومن شابههم، ولهم في الإيمان قول اتفقت الأمة على شذوذه وعدم الاعتداد به، وعدم اعتباره في الخلاف (2) ، بل أخرجهم أئمة الإسلام الكبار من فرق الأمة الثنتين والسبعين الضالة، وعدوهم أكفر من اليهود والنصارى والمجوس لمسائل ذهبوا إليها منها هذه المسألة. فقد كان مذهبهم في الإيمان أنه مجرد المعرفة بالقلب؛ فكل من عرف الله بقلبه فهو عندهم مؤمن تام الإيمان (3) أي وإن لم يعمل. فلما ظهر دعاة المنهج التوفيقي التوسطي وطبقوا منهجهم في التوفيق بين هذه المذاهب، أخذوا من الجهمية أن الإيمان محله القلب وحده وأنه يقع " كاملا " فيه، وأن النطق بالشهادة فضلاً عن سائر الأركان غير داخل فيه وإنما هو شرط ظاهري فقط، أي شرط لإجراء أحكام الإسلام الظاهرة على قائله!!

_ (1) السابق تفصيل مذهبهم (2) كما فعل أبو عبيد والطبري والملطي ونقلوا، وقد سبق تفصيله. (3) ولهذا ألزمهم أهل السنة بالقول بإيمان إبليس وفرعون وأهل الكتاب.. وكل من دلت النصوص على أنه يعرف الله بقلبه!!

وأخذوا من أهل السنة عن أحكام المرتدين وتاركي الدين كله أو بعض أركانه أو بعض واجباته، وتعرض فاعل ذلك للوعيد ونحو ذلك، ... حتى إن الواحد من أصحاب هذا المنهج ربما يكتب بما يوافق الجهمية - باعتباره متكلما -، فإذا كتب باعتباره فقيها ذكر كلام علماء السنة ونقل أقوالهم كأي فقيه منهم!! على أن هذا الحكم لم يخرجوا به نتيجة توسطهم في هذه المسألة بمفردها، بل هو مقرون ومرتبط بتوسطهم في مسألة أكثر شهرة في التاريخ، وهي مسألة خلق القرآن. وبيان ذلك: أن مسألة خلق القرآن كانت أشهر المسائل الخلافية وأعظمها (1) وبها امتحنت الأمة كلها وتعرض علماؤها شرقاً وغرباً للأذى والسجن والقتل، وشغلت أذهان الناس وأوقاتهم وعلومهم وكتبهم، وكان الخلاف فيها حاسماً واضحاً بين فريقين: 1 - علماء الأمة قاطبة؛ وهم مجمعون على ما كانت عليه الأمة قبل هذه البدعة من اعتقاد أن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق. 2 - الفرقة الكلامية الشاذة ومعها السلطة الغاشمة؛ ورأيها أن القرآن مخلوق. ورغماً عما نزل من البلاء والزلزلة والفتنة ثبتت الأمة وانتصرت في النهاية تبعا لثبات الإمام أحمد رضي الله عنه، وانتصر منهج الوحي انتصاراً حاسماً، واندحرت أفاعي الابتداع، وكمنت شياطين المكر بذلة. ولكن المنهج التوفيقي لم يدع فرحة الأمة بالنصر تتم وتماسكها على الحق يكمل، فقد نبغ دعاته - وعلى رأسهم عبد الله بن سعيد بن كلاب (2) - برأي توفيقي مبتدع لم يقل به أحد من الفريقين المتخاصمين وهو أن كلام الله نوعان: أ - نفسي: وهو صفة أزلية قديمة قائمة بالنفس، وهذا غير مخلوق (موافقة لأهل السنة) .

_ (1) وإن لم تكن هي الوحيدة في الفتنة، بل هي مثال بارز للخلاف بين منهجين متناقضين (منهج الوحي ومنهج الهوى) ، وقد جرت المناظرة بين الإمام أحمد وبين رؤوس المبتدعة المؤيدين بالسلطة في مسائل أخرى غيرها، وكان الإمام يرد القضية كلها إلى أصل واحد وهو الإتيان بدليل من الكتاب والسنة وأقوال السلف في حين كان أولئك يمارون بالعقليات ويجادلون بالمتشابهات. (2) المعروف بالقطان

ب- لفظي: وهو الكلام المسطور في المصحف، وهذا مخلوق (1) (موافقة منهم للمبتدعة) . فعاد الاضطراب إلى الأمة وظهر التشويش، وانقسمت وحدة المسلمين التي كانت متماسكة صفاً واحداً مع علماء السنة، وما بعض أهل الكلام والمشتغلين إلى هذا الرأي الجديد، ثم شاع حتى كاد يغلب أكثر معاهد العلم في العصور الأخيرة. وهكذا أصبح القول بالكلام النفسي من أعظم أصول المذهب التوفيقي، تبعا لضخامة المعركة الدائرة حينئذ في هذه المسألة الكبرى، وكان طبيعياً أن يظهر أثره في الأصول الأخرى، ومنها "الإيمان"، فقد دخل أصحابه في مخاضة فلسفية في موضوع الكلام أهو ما يقوله اللسان أم يدور في النفس فقط؟ وما العلاقة بينهما حينئذ؟ والمتكلم أهو من فعل الكلام؟ أم من قام به الكلام؟ .. إلى آخر هذا التفلسف (2) . فلما جاؤوا لمبحث الإيمان وتفسيره أهو الإقرار باللسان أم الإقرار بالقلب وحده أم بهما معا أم بهما مع ضم غيرهما - استصحبوا ذلك الأصل وطبقوه وردوا هذا له - فكان من أوليات ذلك إسقاط كون العمل من الإيمان، وتطبيق مذهبهم في التأويل على ما ورد في ذلك من نصوص!! يقول أبو المعالي الجويني في باب الأسماء والأحكام بعد أن أطال النفس في تقرير صحة مذهبهم في الكلام النفسي: " اعلموا أن غرضنا في هذا الفصل يستدعي تقديم ذكر حقيقة الإيمان، وهذا مما اختلفت فيه مذاهب الإسلاميين: 1 - فذهبت الخوارج إلى أن الإيمان هو الطاعة ومال إلى ذلك كثير من المعتزلة.. 2 - وصار أصحاب الحديث إلى أن الإيمان معرفة بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان. 3 - وذهب بعض القدماء (3) إلى أن الإيمان هو المعرفة في القلب والإقرار بها. 4- وذهبت الكرامية إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان فحسب

_ (1) ثم منهم من قال: إنه حكاية لكلام الله، ومن قال: إنه عبارة عنه، ومنهم من قال: إن المتكلم به وناظمه هو جبريل، ومن قال: هو محمد صلى الله عليه وسلم. انظر مثلا: الإنصاف للبقلاني. (2) انظر: الإرشاد للجويني، (وهو من أقدم كتبهم الشارحة للمسألة ببسط) من ص99 - 137، وهم من أوضح ما كتبوا في هذا الموضوع، أما المتأخرون فكلامهم في المسألة ألغاز ومعميات فلسفية!! (3) هو جهم بن صفوان وكأنه ترك التصريح به لعلمه أنه لا اعتداد بخلافه.

والمرضي عندنا أن حقيقة الإيمان: التصديق بالله تعالى؛ فالمؤمن بالله من صدقه، ثم التصديق على التحقيق كلام النفس (1) ، ولكن لا يثبت إلا مع العلم، فإنا أوضحنا أن كلام النفس يثبت على حسب الاعتقاد " (2) . ثم قال: " وقد يشهد لما ذكرناه إجماع على افتقار الصلوات ونحوها من العبادات إلى تقديم الإيمان، فلو كانت أجزاء من الإيمان لامتنع إطلاق ذلك (3) . فإن استدل من سمى الطاعات إيماناً بقوله تعالى: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ» قالوا: المراد بذلك - أي الإيمان - الصلوات المؤداة إلى بيت المقدس (4) . وربما يستدلون بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وتسعون (5) خصلة، أولها شهادة أن لا إله إلا الله، وآخرها إماطة الأذى عن الطريق) . قلنا: أما الإيمان في الآية التي استروحتم إليها فهو محمول على التصديق، والمراد: وما كان الله ليضيع تصديقكم نبيكم فيما بلغكم من الصلاة إلى القبلتين (6) !! وأما الحديث فهو من الآحاد (7) ، ثم هو مؤول (8) ، والعرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا دل عليه أو كان منه بسبب (9) " (10)

_ (1) انظر مشابهته الواضحة لمذهب جهم مع تعديل الألفاظ، وسيأتي بسط ذلك. (2) الإرشاد ص 396 - 397. (3) السلف يشترطون صحة إيمان القلب لصحة عمل الجارحة، والإيمان حقيقة عندهم مركبة منهما، وما المانع من تقدم بعض أجزاء الشيء على بعض. (4) كلامه يوهم أن المستدلين هم الخوارج - كما في مذهبهم رقم 1 - والواقع أنهم السلف، وقد سبق نقل ذلك. (5) كذا فيه، ومع قلة بضاعة الجويني في الحديث أرى أن الخطأ من المحقق الذي رجح هذه على ما في النسخ الأخرى (انظر هامشه) . (6) وهذا باطل، لأن الصحابة رضي الله عنهم لم يخافوا ضياع تصديقهم فهو ثابت في الحالين، وإنما خافوا ضياع صلاتهم إلى القبلة الأولى. (7) هذا أصل كبير من أصول الضلال ينبني عليه رد أكثر السنة، والجويني هنا وفي سائر كتبه ينقل عن الجهم. والجبائي والفلاسفة وغيرهم، فهل وصله كلامهم تواترا أم أنه لا يشترط التواتر إلا في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام غيره مقبول آحاده ومتواتره؟! (8) هذا أصل آخر كسابقه، وما رأينا الجويني أول كلام أحد من الفلاسفة أو المبتدعة وصرفه عن ظاهرة، فلماذا تأويل النصوص فقط؟! (9) 10) يريد بذلك أنه "مجاز" وهو أصل منهجهم البدعي؛ لأن مرادهم به تحريف النصوص وإبطال ظواهرها. (10) 11) (11) الإرشاد ص 398 - 399

ويقول الكمال بن الهمام - من أئمة الحنفية المتأخرين - في كتابه الذي ألفه على منوال الرسالة القدسية للغزالي: " اختلفوا في التصديق بالقلب الذي هو جزء مفهوم الإيمان أو تمامه (1) أهو من باب العلوم والمعارف أو من باب الكلام النفسي؟ فقيل بالأول، ودفع بالقطع بكفر كثير من أهل الكتاب مع علمهم بحقية رسالته عليه الصلاة والسلام وما جاء به، كما أخبر عنهم تعالى بقوله: «الذين ءاتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون» [البقرة: 146] . وبأن الإيمان مكلف به، والتكليف إنما يتعلق بالأفعال الاختيارية، والعلم مما يثبت بلا اختيار، كمن وقعت مشاهدته على من ادعى النبوة وأظهر المعجزة فلزم نفسه عند ذلك العلم بصدقه. وذهب إمام الحرمين وغيره إلى أنه من قبيل الكلام النفسي. قال صاحب الغنية: اختلف جواب أبي الحسن - أي الأشعري - في معنى التصديق؛ فقال مرة: هو المعرفة بوجوده وإلهيته وقدمه، وقال مرة: التصديق قول في النفس غير أنه يتضمن المعرفة ولا يصح دونها، وارتضاه القاضي - أي الباقلاني -؛ فإن التصديق والتكذيب والصدق والكذب بالأقوال أجدر، ثم يعبر عن تصديق القلب باللسان (2) . انتهى. قال: وظاهر عبارة الشيخ أبي الحسن أنه كلام النفس مشروط بالمعرفة، ويحتمل أنه من المجموع من المعرفة وذلك الكلام النفسي. فلا بد في تحقيق الإيمان من المعرفة - أعني مطابقة دعوى النبي للواقع - ومن آخر هو الاستسلام والانقياد لقبول الأوامر والنواهي المستلزم للإجلال وعدم الاستخفاف (3) ، لما ذكرنا من ثبوت مجرد تلك المعرفة مع قيام الكفر. قال: ثم جعل بعض أهل العلم الاستسلام والانقياد الذي هو معنى الإسلام داخلا في معنى التصديق، وأطلق بعضهم اسم المترادف على الإسلام والإيمان (4) .

_ (1) أي على القولين في ذلك بحسب اعتبار النطق شطرا أو شرطا كما سيأتي. (2) كما قالوا في كلام الله تعالى! فالقرآن عندهم تعبيرا أو حكاية عن القول النفسي. (3) هذا هو المراد بالانقياد عندهم، وليس العمل والامتثال بالجوارح. (4) أى بناء على دخول الإسلام في معنى التصديق، ومن هنا يظهر مخالفته لقول أهل السنة والجماعة، سواء في أصل حقيقة كل من الإسلام والإيمان أو في ترادفهما وتلازمهما.

والأظهر أنهما متلازما المفهوم، فلا يكون إيمان في الخارج شرعا بلا إسلام (1) ولا إسلام بلا إيمان. وأن التصديق قول للنفس غير المعرفة؛ لأن المفهوم منه لغة نسبة الصدق إلى القائل، وهو فعل، والمعرفة من قبيل الكيف المقابل لمقولة الفعل (2) . قال: فلزم خروج كل من الانقياد - الذى هو الإسلام - والمعرفة عن مفهوم التصديق وثبوت اعتبارهما شرعاً في الإيمان؛ إما على أنهما جزءان لمفهومه شرعا أو شرطان لاعتباره شرعاً، وهو الأوجه " (3) وقد علق صاحب الحاشية " قاسم بن قطلوبغا " المتوفى 878 هـ عليه قائلا: " قلت: لم يتكلم المصنف على قول الشيخ أبي الحسن: أن التصديق هو المعرفة بوجوده وإلهيته وقدمه. والظاهر أن الشيخ أبا الحسن أراد المعرفة النفسية المكتسبة بالاختيار؛ لأنها هي التي تكون تصديقا، لا المعرفة التي ذهب إليها جهم وبعض القدرية؛ لأن أبا حنيفة رحمه الله أبطل أن تكون إيماناً - كما نقله عنه الأئمة من أصحابنا - وأنه قد أطبق العلماء على بطلانه ". وذكر أيضا أنه لم يظهر له دخول الاستسلام والانقياد في القول النفسي وقال: " والظاهر من قول أبي الحسن: (التصديق قول في النفس غير أنه يتضمن المعرفة) أنه التركيب الخبري ولا يصح بدونها أي لا يكون تصديق بدون الإذعان والقبول لتلك النسبة. والحاصل أن الشيخ أبا الحسن فسر مرة بما هو من مقول الكيف ومرة بما هو من مقول الفعل. والثاني مرتضى القاضي وصاحب الغنية " (4)

_ (1) يعني في الباطن، فالإسلام عندهم انقياد في الباطن، كما مر وكما سيذكر. (2) وهما من المقولات العشر في المنطق اليوناني. (3) المسايرة ص194 - 196 الحاشية السفلى. (4) المصدر نفسه ص197 -198 ويلاحظ أنه على كلا التفسيرين لم يخرجه عما في القلب، ومن هنا تظهر موافقته لقول جهم في الأصل، والمأخذ كما نص على ذلك شيخ الإسلام في الإيمان ص113 على أن النقل عن الأشعري مضطرب في هذه المسألة خاصة، وإلى ذلك أشار شيخ الإسلام في الإيمان الأوسط لكن لا خلاف في أن قول أكثر الصحابة المتقدمين وكل المتأخرين هو ما نقلناه أعلاه. وانظر رسالة الزميل هادي طالبي: أبو الحسن الأشعري. وعلى أية حال ليس في اشتراطهم الإذعان بالمعنى الذي قرروه ما يبعدهم كثيرا عن قول جهم، بل غايته أنهم يثبتون أن جهما لا يشترط شيئا على مجرد المعرفة الواقعة بلا اختيار ولا كسب من العبد، وهم يشترطونها - على قول -، ولم يظهر حتى الآن ما يدل على أن جهما كان يعتقد إيمان إبليس وأهل الكتاب، بل الظاهر أن هذا لازم مذهبه، وعليه فلا فرق بينه وبينهم إذ هذا لازم لهم أيضا أي مع وقوع المعرفة الاختيارية الكسبية، والله اعلم.

هذا غيض من فيض من كلامهم في حقيقة الإيمان وتفسيرها تفسيرا موافقا لقولهم في الكلام النفسي عامة، ومتمشيا مع المقولات الفلسفية مع الإعراض عن النصوص الواردة فيه، فكان طبيعيا ألا يدخلوا العمل فيه بمرة، وهذا هو المطلوب. وقد سبق قريبا التنبيه إلى معنى الإذعان والانقياد عندهم، فإن بعض الناس قد يفهم أنهم يريدون به العمل والامتثال، ولكن كلامهم واضح في عدم قصد ذلك وأنهم إنما يريدون به الإيمان بوجوب الفرائض لا فعلها. وليس هذا فهمنا فحسب، بل هو ما شرحه به شارح كلام ابن الهمام نفسه حين قال: " الإيمان هو التصديق بالقلب فقط: أي قبول القلب وإذعانه لما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم، بحيث تعلمه العامة من غير افتقار إلى نظر ولا استدلال؛ كالوحدانية والنبوة والجزاء ووجوب الصلاة والزكاة وحرمة الخمر ونحوها " (1) . بل قال المؤلف نفسه: " متعلق الإيمان ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فيجب التصديق بكل ما جاء به من اعتقادي وعملي؛ أعني اعتقاد أحقية العملي ". قال شارحه: " أعني بالتصديق الثاني اعتقاد أنه حق وصدق كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم " (2) !! وكذلك يقول شارح الجوهرة: " والإسلام أشرحن حقيقته (بالعمل) الصالح؛ أعني امتثال المأمورات واجتناب المنهيات؛ والمراد الإذعان لتلك الأحكام وعدم ردها سواء عملها أو لم يعملها "!! وقال " والمراد إذعان المذكورات (الصلاة والصيام ... ) وتسليمها وعدم مقابلتها بالرد والاستكبار " (3) فالإذعان عندهم هو جزء من الفعل النفسي أو الكيف النفسي أو متعلق من متعلقاتها لا غير (4) ، فهو ضد التكذيب، أو ضد جحد الوجوب على أحسن الأحوال،

_ (1) المسايرة ص174 (2) ص 204 - 205 (3) تحفة المريد ص60 (4) انظر مع ما سبق المصدر نفسه ص195، وقد ذكر أن القول بأنه من الكيف النفسي أي مجرد العلم والإدراك بلا عمل اختياري إرادي هو ما يومئ إليه تحقيق سعد الدين التفتازاني.

ومن الواضح أن إذعانا كهذا الذي وصفوه ليس هو الإذعان المطلوب شرعا، وإن كان لا بد منه في الإذعان الشرعي الذي هو الامتثال بفعل المأمور وترك المحظور على ما جاء في النصوص الكثيرة، ومنها ما في حديث جبريل حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم: " فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: نعم، وقال: فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن؟ قال: نعم " (1) وعلى هذا قال الإمام أحمد رحمه الله:: من قال إنه يكون مؤمنا أو مسلما مع عدم العمل فقد عاند الحديث!! وسيأتي في الباب الخامس بإذن الله كشف هذه الشبهات كاملا، وإنما المراد هنا تبيين الأثر الكلامي في هذه العقيدة المخالفة للكتاب والسنة وإجماع السلف (2) .

_ (1) سيأتي بسط ذلك في مبحث الحقيقة المركبة للإيمان. (2) فالعجب ممن ينسب إلى نفسه السنة والحديث ثم يوافقهم، فهما عمل أحد من المكفرات (كالتشريع من دون الله) فإنه لا يكفر عندهم إلا إذا جحد أو استحل مراعاة منهم لهذا الإذعان أو التصديق المزعوم.؟ فهؤلاء - هداهم الله - يكفرون أهل الكلام أو يضللونهم في موضوع الصفات، ويوافقونهم في موضوع الإيمان وإن كان بعضهم لا يقصد ذلك.

الأثر المنطقي

الأثر المنطقي سوف نتناول الحديث عن الأثر المنطقي من خلال هذه الحقائق: 1 - أن المنطق وجد - أول ما وجد - لمواجهة السفسطة؛ تلك اللوثة التي أصابت الفكر اليوناني بعد أن أتخمت الجاهلية اليونانية بضروب من الفلسفات المتناقضة، فجاءت السفسطة لتوجه معولها لهدم المعرفة العقلية من أساسها، وذلك بإنكار حقائق الأشياء وبَدَايِه المعارف، والتصريح بأن كل الأحكام العقلية ناشئة من تصورات ذاتية محضة ليس لها أصل موضوعي، أو هي على الأقل يمكن أن تكون كذلك. 2 - لما كان المنطق هو رد الفعل لهذه اللوثة كان طبيعيا أن يصب اهتمامه على إثبات حقائق الأشياء، فابتدأ بإثبات الحقائق الكلية المجردة توصلاً بها إلى إثبات الأجزاء والأعيان خارج الذهن، كما وضع قوالب عقلية خاصة تستخدم للحكم على الأجزاء، وذلك عن طريق إثبات أحكام كلية، ثم الحكم على الجزء بحكم الكل (1) ومن هنا انحصرت مباحث المنطق في مبحثين: أ - الحدود التي بها تعرف حقائق الأشياء " التصورات ". ب - القياس الذي به يتوصل إلى معرفة حكم الأشياء " التصديقات ". 3- اقتضى الأمر في مبحث الحدود (وهو المبحث الذي يهمنا هنا) تحليل عناصر الأشياء والمسميات لمعرفة صفاتها الذاتية (الداخلة في الماهية) والعرضية (الخارجة عن الماهية) لكي يتم التوصل إلى تحديد الذات وتصورها في ذاتها، أي مجردة عن الأعراض، فوضعت ألفاظ كلية عامة تتألف منها الحدود (2) وهي الكليات الخمس: الجنس، والنوع، والفصل، والخاصة، والعرض العام.

_ (1) وهذا هو قياس الشمول، وأهملوا قياس التمثيل، وهذا من ضلالهم كما سنوضح في القضية الثانية ص464. (2) وهي التي تكون محمولا في القضايا، أي في مبحث التصديقات.

فالجنس: هو جزء الماهية المشترك بينها وبين غيرها (المشترك الذاتي) . والنوع: هو تمام الماهية. والفصل: هو المميز الذاتي. والخاصة: هو المميز العرضي. والعرض العام: هو المشترك العرضي. فحقيقة النوع: هو الشيء المعرف نفسه (الموضوع) كلفظ "الإنسان" في سؤال "ما الإنسان؟ " وجوابه هو "حيوان ناطق " هو ماهية الإنسان وعين حقيقته عندهم وهو مركب من الجنس "حيوان" الفصل "ناطق" (1) فيقولون للسفسطي: إن تصور حقيقة الإنسان يحصل بهذا الحد، ومن ثم تكون القضايا الآتية كلها صحيحة: 1 - كل إنسان حيوان ناطق. 2 - كل حيوان ناطق إنسان. 3 - كل ما ليس إنسانا ليس حيواناً ناطقاً. 4 - كل ما ليس حيوانا ناطقا ليس إنسانا. وقضايا أخرى مبنية كلها على أنه حيثما وجدت الحيوانية والناطقية وجدت ماهية الإنسان وحقيقته، وحيثما فقدت فلا إنسان. فإذا أنكر السفسطي أن يكون زيد من الناس إنسانا، وقال: قد يكون زيد هذا جبلاً أو شجرة أو عدماً، ألزموه بهذه الأحكام الكلية على الإقرار بأن زيدا إنسان!! فهذا مبلغهم من العلم في الرد على أولئك المرضى، والحمد لله على ما من به على أمة الإسلام من نعمة العقل والفطرة السليمة. وبسبب هذا الرد على منكري الحقائق فخر مناطقة اليونان على سائر فلاسفة الدنيا وتبعهم من تبعهم، ولو وقف المناطقة عند هذا لربما هان الأمر، ولكنهم غلوا في تقدير منطقهم حتى أفضى بهم الغلو إلى القول بتحكمات لا صحة لها، يهمنا منها: 1 - قولهم بوجود المعاني الكلية المجردة - أي الماهيات المطلقة من كل قيد ونسبة - في الواقع - أي خارج الذهن.

_ (1) انظر القضية الثالثة - هنا - الآتية.

2 - قولهم بأن التصورات لا تنال إلا بالحدود فقط. ولسنا في مقام نقد أصول المنطق (1) وإنما ينحصر غرضنا في الكلام عن تعريف الإيمان حسب قواعده وما رتب عليه من نتائج، ولهذا سنقتصر على بحث قضايا أساسية تتعلق جميعها بموضوع " النوع " لأنه هو الشيء المعرف كما سبق. وهذه القضايا هي: كون الغرض من التعريف هو تصور الحقيقة والماهية. وجود الأنواع خارج الذهن. تماثل أفراد النوع في الحقيقة والماهية. * القضية الأولى: إنه من المعلوم في كل العلوم والفنون أن أصحابها يبحثون فيها دون العروج على التعريف المنطقي لمفرداتها، بل يكتفون بالاسم المتعارف عليه أو الموضوع في أصل اللغة، وهذا في علوم العصر أجلى وأشهر، حيث عزف الفكر الغربي الحديث عن المنطق التقليدي " الكلاسيكي " جملة، كما أن هذا هو الحال بالطبع قبل أن يوجد أرسطو ومنطقه. ثم إن المقصود من التعريف - عند أصحاب العلوم جميعا ما عدا الفلسفة والمنطق - هو تمييز الشيء عن غيره بحيث لا يشتبه به، وهذا هو المراد من كونه جامعا مانعا، وعلى هذا جرى الفقهاء والأصوليون والنحويون وغيرهم؛ كالكيميائيين والرياضيين ونحوهم، فأي وصف جامع مانع يكفي للتعريف، ولو كان عرضيا في نظر المناطقة (2) .

_ (1) لقد فنده شيخ الإسلام ابن تيميه بالتفصيل الدقيق في كتابه النفيس " الرد على المنطقيين " وذلك قبل أن ينقده " هيجل " بستة قرون، على أن نقد هيجل كان إجماليا ومحدودا في قضايا خاصة، ومع هذا فإن الفكر الأوروبي يدين لهيجل بالفضل في ذلك معتبرا عمله في هدم المنطق الكلاسيكى من أعظم الانقلابات الفكرية في التاريخ. انظر: سلسلة تراث الإنسانية (2/ 715 - 731) ، (5/ 98 - 116) على أن كل رواد العلم التجريبي الغربي أمثال جاليليو وبيكون ضد المنطق الأرسطي الصوري، ولو من طريق غير مباشر (2) ولهذا فإن أصحاب العقول من بني آدم لم يخوضوا قط في معرفة ماهية الإنسان المطلقة إلا هذه الفرقة الشاذة، وذلك لأن أحط بني البشر من سكان الأدغال والأحراش يميزون بين الإنسان وغيره بلا أدنى لبس، أما معرفة كنه الذوات فهذا مما حارت فيه عقول البشر، والعلم التجريبي في عصرنا عاجز حتى الآن عن معرفة حقيقة المادة أما حقيقة الإنسان فعقلاؤهم نفضوا اليد منها أصلا، ولم يبق أحد يتخبط فيها إلا من سلك مسلك الشاذين القدماء.

بل المتكلمون أنفسهم كانوا على هذا الأصل حتى مال بعضهم إلى كلام الفلاسفة المنتسبين للإسلام فأصابتهم لوثتهم (1) . أما الأصوليين فلم يكونوا يدخلون المنطق في مباحثهم أصلا، ولهذا عاب العلماء على أبي حامد الغزالي أنه فعل ذلك في أول المستصفى، وقال: إنه مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط به فلا ثقة بعلومه أصلاً (2) ، ثم تلاه من تلاه. والمقصود أن القدماء من علماء النحو والأصول - وهما من أهم علوم الوسائل - كانوا يعرفون الشيء بما يميزه عن غيره؛ كالتعريف بالمثال؛ فيقول النحويون: الفعل مثل: ضرب، والاسم مثل: زيد، والحرف مثل: في وهكذا. ويقول الأصوليون: الأمر مثل: أقيموا الصلاة، والنهي مثل: لا تقربوا الزنا، والعام مثل: كذا، والخاص مثل: كذا ... وهكذا. فلما فسدت الفطر والعقول على النحو الذي عبر عنه الإمام الشافعي بقوله: " ما جهل الناس واختلفوا إلا لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطا طاليس " (3) ظهر الاضطراب والاختلافات الكثيرة في معاني المفردات الواضحة البدهية، فاختلف النحويون في تعريف " الاسم " إلى أكثر من سبعين قولا (4) ، واضطر كثير من الأصوليين إلى الاعتراف بعسر وضع حد لـ " للعلم " (5) ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍وما ذلك إلا لأنهم حاولوا وضع تعريف للشيء من حيث هو هو، أو من حيث هو في ذاته كما يقولون. وهكذا الحال في علم الكلام، الذي هو علم بدعي من أصله كما نص على ذلك أئمة الإسلام (6) .

_ (1) انظر: الرد على المنطقيين، ص15 - 21 (2) المستصفى (1/10) الطبعة الأميرية، من أنه في الصفحة نفسها نقد الذين يصنعون ذلك، ولم يذكر مثالا ممن سبقه، وانظرا الرد على المنطقيين، وممن عاب ذلك أيضا على الغزالي الأمام أبو عمرو بن الصلاح، انظر: ترجمة الغزالي في السير (19/329) (3) فضل علم السلف على علم الخلف، ابن رجب، تحقيق: يحيى غزاوى، ص99. وأرسطا طاليس هو أرسطو واضع المنطق، ومراد الإمام الشافعي بكلمة " لسان " هو المنطق، ومنطق العرب هو منهجهم الفطري في المعرفة. (4) انظر الرد على المنطقيين، ص8، وقد ذكر ذلك عن ابن الأنباري النحوي. (5) انظر: المستصفى (1/ 24 - 27) ، وفتح الباري (1/ 140 - 141) . (6) انظر: صون المنطق والكلام للسيوطي، وجامع بيان العلم وفضله.

فإن المتكلمين الأوائل عرفوا الإيمان بالتصديق أو المعرفة، وهو شرح لغوي لمعني الكلمة في الشرع - بزعمهم - ولهذا يحتجون عليه باللغة سواء قالوا أن الشارع نقل المعنى أو لم ينقله؛ إذ هم مختلفون في ذلك. فلما تأثر المتكلمون بالمنهج الفلسفي المنطقي، وانتقلوا بالتعريف من الغرض المعهود في كل العلوم إلى الغرض الفلسفي اليوناني، خاضواً خوضاً تجريدياً جدلياً في ماهية الإيمان المجردة ولوازمها الداخلة - الذاتية -، ولوازمها الخارجة - العرضية -، وخرجوا على منهج أسلافهم، فأصبحوا يجعلون تعريف الإيمان بأنه التصديق تعريفا لغويا فقط، ثم يتبعونه بالتعريف الاصطلاحى الذي هو تعريف له من حيث هو هو - كما يقولون - فيأتون بتعريف سائر على قواعد المنطق كقولهم: " الاعتقاد الجازم المطابق للواقع بالدليل " أو " التصديق بما جاء به الرسول وثبت عنه بالضرورة جملة أو تفصيلا ". وهكذا نحوها من العبارات المختلفة. وليس الغرض الآن مناقشة هذه التعريفات، وإنما هو بيان أصل استمدادها الذي يغني تلقائياً عن الحديث عن فسادها، وأهم من ذلك هو ما رتب عليها من نتيجة بالغة الخطورة؛ وهي عدم إدخال العمل في حقيقته - كما سيأتي إيضاحه -. فأصل هذه التعريفات هو التقليد الأعمى للمناطقة اليونان، الذين كان غرضهم من المنطق ومن مبحث الحدود خاصة هو تصور الماهية من حيث هي هي، وإثبات الذوات المجردة، ليتوصلوا بذلك إلى إثبات حقائق الأشياء التي أنكرها خصومهم السفسطيون. والمعركة بين فلاسفة اليونان والسفسطيين معركة جدلية ذهنية لا تتعدى نطاق الخيالات والفروض المجردة، ولا مساس لها بواقع حياة الناس من حيث الصلاح والفساد والخير والشر والهدى والضلال، بل لا أثر لها عند غير المشتغلين بها من أهل ملتهم وبني جنسهم، وهذا وحده كاف لاستغناء أي أمة من الأمم عنها، فما بالك بأمة الوحي المعصوم؟! ويا ليت أن المنتسبين للإسلام إذا نقلوها حصروها - كما هي عند أهلها - في قضايا الذهن المجردة، ولكنهم طعنوا بها في صميم الدين، ليس في التوحيد والصفات فحسب، بل في مبحث الإيمان أيضا!!

وذلك أن البحث في ماهية الإيمان المجردة - بزعمهم - والتفريق بين لوازمها الذاتية والعرضية أدى بهم إلى الحكم بأن العمل ليس داخلا في الماهية ولا من اللوازم العرضية، وإنما هو من قبيل " العرض العام " (1) . ومع يقيني بأن هذا تحكم محض لا تقتضيه قواعد المنطق بالضرورة، فإني لا أشك أن مجرد الخوض المنطقي سيؤدي إلى مثل هذه النتيجة؛ لأن طابعه التجريدي العام يتنافي مع إدخال العمل. ولست تجد منطقيا متمكناً إلا وهو مقر بأن التفريق بين الذاتيات والعرضيات متعذر أو متعسر (2) ، وإن كان أكثر إنصافا فسيعترف بحقيقة أن هذه الأحكام كلها تعود إلى تقديرات وفرضيات ذاتية، ولهذا يجوز - كما هو الواقع - أن تختلف ما بين إنسان وآخر. فإذا وضعنا في الاعتبار المعركة الجدلية الطويلة بين الفرق الإسلامية وحرص النفوس على الانتصار، ولو كان بتصيد الشبهات البعيدة وتعسف الاستدلالات، أدركنا مدى التحكم والاعتباط في استخدام " علم المنطق "، بل ربما كان هذا الدافع النفسي الكامن هو السبب في تقديس المنطق، مع علم القوم بما فيه وإمكان الاستغناء المطلق عنه. ولإيضاح كون تعريف الإيمان بأنه " قول وعمل " من قبيل التعريف بالعرض العام نقول: إن العرض العام عندهم هو " الكلي الخارج عن الماهية "، الذي يقال عليها وعلى غيرها فهو أعم منها، ومن هنا هو الكلي الوحيد من الكليات الخمس الذي لا يصح أن يدخل في التعريفات، وإنما ذكروه معها على سبيل التمييز (3) . فهو لا يصلح جواباً عن الماهية أصلا، كما يمثلون لذلك بلفظ "الماشي" في جواب "ما الإنسان؟ " فلو عرف أحد الإنسان بأنه "الماشي" لكان خطأ؛ لأن المشي خارج عن ماهيته، ويطلق عليه وعلى غيره؛ كالفرس والقطار ونحو ذلك.

_ (1) وذلك لأنهم اعتمدوا في التفريق بين الذاتي والعرضي على المعنى الكلي الذي استخرجوه من أفراد متفاوتة تشترك كلها في الإيمان بزعمهم، وسيأتي إيضاح ذلك في القضية الثالثة. (2) انظر اعترافات ابن سينا والفارابي وغيرهما في: الرد على المنطقيين. (3) انظر المرشد السليم ص59،74،وتسهيل المنطق، ص24.

فهذا وجه نقدهم لتعريف السلف (1) ، ومن الإنصاف أن نقول إن بعضهم ينقدون التعريف على أنه تعريف المعتزلة والخوارج، في حين يتجاسر بعضهم على التهجم على السلف، ولكن الجميع لا يعذرون بجهلهم الفرق بين مذهب السلف ومذهب المعتزلة والخوارج. والباحث يعجب أن يقع ذلك من المتكلمين المحترفين الذين يجمعون شواذ الأقوال ويذكرون ساقط المذاهب، ومع هذا يجعلون مذهب سلف الأمة وأئمتها المقتدى بهم ومذهب الخوارج والمعتزلة سواء، أو يذكرون المذاهب كلها - حتى ما انقرض منها - إلا مذهب السلف، مع إنهم في معرض التقسيم والحصر. وأعجب من ذلك وأسوأ أن يقوم بعضهم بتحريف كلام السلف ليوافق رأيه ومذهبه كما فعل أبو حامد الغزالي (2) وشارح كلامه الزبيدي، فقد قالا شرحا لقول السلف ومن اتبعهم: إن الإيمان يزيد وينقص (3) : " (فيه (4) دليل على أن العمل) بالجوارح (ليس من أجزاء الإيمان) التي تتركب منها ماهيته، (و) لا من (أركان وجوده) بحيث لا يوجد ولا يتحقق إلا به كما هو شأن الركنية، (بل هو مزيد عليه، ويزيد به) إذا وجد معه وينقص إذا انعدم. (والزائد موجود والناقص موجود) وهو العمل، (و) لا يخفى إن (الشىء لا يزيد بذاته، فلا يجوز أن يقال الإنسان يزيد برأسه) ؛ لأنه جزؤه الذي تتم به إنسانيته، (بل يقال: يزيد بلحيته) ، (وسمته) هو السكينة والوقار. ولا يجوز أن يقال: الصلاة تزيد بالركوع والسجود؛ فإنهما من صلب الصلاة كما يعرف من حدها الشرعي - ذات ركوع وسجود - (بل تزيد بالآداب والسنن الواردة في السنة)

_ (1) وقد يكون لهم أوجه أخرى، وإنما المقصود والنتيجة عندهم أن هذا التعريف لا يفيد تصور الماهية، وهذا لا خلاف فيه، ولهذا قررنا أن أصل القضية هو التعريف ليس المقصود منه تصور الماهية أبدا. (3) أصل الخطأ في منهج الغزالي هو أنه دمج بين منهج القرآن ومنهج أرسطو، واعتبر أن المراد بالقسطاس المستقيم في القرآن هو المنطق، وأن الأشكال المنطقية هي " الموازين الخمس " كما سماها وهى أساليب القرآن في الجدال، وقد فصل القول في كتابه الذي سماه القسطاس المستقيم، وهو مطبوع بأول الجزء الأول من مجموعة رسائله المسماة القصور العوالي، جمعها محمد مصطفى أبو العلا. (4) ذكرت كلام الغزالي مع شرح الزبيدى واضعا المتن بين الأقواس خارجها. (5) أي القول بأنه يزيد وينقص.

(فهذا تصريح بأن الإيمان له وجود) في حد ذاته، (ثم بعد الوجود تختلف حاله بالزيادة والنقصان) ، ويفهم منه أن الزيادة والنقصان باعتبار جهات هي غير نفس الذات " (1) أهـ. فالغزالي يثبت أن للإيمان وجودا ذاتيا يتجرد عن وصف الزيادة والنقصان، وهما (الزيادة والنقص) عرضان يطرآن على تلك الذات، وقد استخرج ذلك من عبارة السلف مدعيا في أول كلامه أن هذا هو الفهم الصحيح لها. وسيأتي بحث قضية الوجود الذاتي في الفقرة التالية، غير أنه لا بد هنا من بيان ما في كلامه من نوع المغالطة والحيدة عن موضع النزاع. أما المغالطة ففي استدلاله بكون الشيء يزيد وينقص على أن ما له ماهية واقعية معينة، لم يزدد أو ينقص إلا بعد وجودها، فهذا كما لو قيل لك: كم مال زيد من الناس؟ فقلت: يزيد وينقص. فإن السائل لا يستنتج من الجواب أن لماله مقداراً محدداً؛ يزيد عنه مرة وينقص عنه أخرى مع ثبات هذا المقدار في الوجود والخارج، بل لو حددت المقدار فقلت: يزيد حتى يصل الألف وينقص حتى يصل الصفر، فإن السائل - وغيره - لا يفهم أن لماله حداً مقرراً هو خمسمائة مثلا، وهذه الخمسمائة موجودة على الحقيقة، وإنما هذا من صنيع الذهن وحده، كما أن المتوسط الحسابي في الرياضيات هو عملية عقلية لا وجود لمدلولها في الواقع، حتى لو كان مستخرجا من أرقام واقعية، فكيف بمسألة الإيمان الذي هو أمر معنوي بطبعه؟ والفهم الصحيح لعبارة السلف: أن إيمان كل إنسان قابل للزيادة والنقصان كل وقت، وعليه فالزيادة والنقص هما بالنسبة لمستوى الإيمان وحاله وقت وقوع أي منهما، لا بالنسبة لمستوى ثابت محدد في حق كل أحد في كل وقت. ومما يوضح ذلك: أن السلف لا يعتبرون مجرد نقص الإيمان كفرا، ولو أنهم اعتقدوا أن له حدا معينا ثابتا وقد يزيد عليه أو ينقص عنه لوافقوا أكثر المرجئة القائلين بأن نقصه كفر؛ فإن هذه هي أعظم شبهة يحتج بها أولئك، وهي مبنية على قولهم أن التصديق قدر ثابت، متى نقص صار شكا، ومتى قبل الزيادة صار ناقصا فهو شك أيضا، فمن هنا أنكروا الزيادة والنقصان.

_ (1) إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين (5/256- 257) (2) كما فعل الغزالي هنا، وكما فعل سائرهم في قولهم: إن (نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص، وإنما الزيادة والنقص في الثمرات والكمالات - أي الأعمال) . انظر ما نقله عنهم النووي في شرح مسلم (1/148) ، وابن حجر في الفتح (1/46)

وبهذا يظهر أنه مع اشتراك كل المرجئة في الخطأ - الذي هو تصور حد معين ثابت - يتفرد القائلون بإثبات الزيادة والنقصان بزيادة فيه؛ وهو إنكارهم لأول عبارة السلف (أي قول وعمل) ، وإيمانهم بآخرها (يزيد وينقص) ، مع تأويله بما يوافق مذهبهم (1) . وأما الحيدة عن موضوع النزاع - في كلام أبي حامد - ففي قوله: " لا يزيد بذاته الخ "؛ فإن السلف لم يقولوا إن الشيء يزيد بذاته، وإنما موضع النزاع هو هل الشيء تزيد ذاته وتنقص أم لا؟ فالسلف يدخلون الأعمال في ذات الإيمان وحقيقته، ولا يقولون إنها زائدة على الذات كالمرجئة، وما ذكره من الأمثلة هي عليه لا له؛ فإن السلف لا يقولون إن الإنسان يزيد برأسه، ولا إن الصلاة تزيد بالركوع، وإنما يقولون ما معناه: إن الإنسان في حقيقته المجتمعة قابل للزيادة والنقص، والصلاة في حقيقتها قابلة للزيادة والنقص؛ فإن الإنسان يمكن أن يكون عملاقاً وأن يكون قزماً، ويمكن أن يقتطع منه عضو كبير أو صغير، وكذلك الصلاة يمكن أن تقع تامة وأن تقع ناقصة والنقص يتفاوت من ترك الركن إلى ترك المستحب. وهذا مثل جميع الأعيان والذوات الواقعة في الخارج كالشجرة والكتاب يقبل الزيادة والنقصان إذا تعين خارج الذهن؛ فتقول: هذه الشجرة كبيرة أو صغيرة، وكتاب كذا صغير أو كبير ونحو ذلك، ولا يدل ذلك على وجود ذاتي معين للمسمى نقيس به الزيادة والنقصان. فقول الغزالي والزبيدي: " فهذا تصريح بأن الإيمان له وجود في حد ذاته، ثم بعد الوجود تختلف حاله.. " هو خلط بَيِّن بَيْن ما في الأذهان مجرداً وما في الوجود معينا، فهو كما لو قيل: الإنسان له وجود في حد ذاته، ثم بعد الوجود تختلف حاله بين أن يكون طفلا أو رجلا، أو الشجرة أو الكتاب لكل منهما وجود في ذاته ثم بعد الوجود تختلف حاله في الصغر والكبر ونحو ذلك.

فمن الواضح أن (وجود هذه الحقائق في حد ذاتها) لا يزيد عن كونه تقديراً ذهنيا، وأن ما يوجد في الواقع لا يوجد إلا مقيدا موصوفا، فليس هناك وجود واقعي مطلق من كل قيد ووصف إلا في وهم فلاسفة اليونان ومن اتبعهم كالغزالي وأمثاله كما سيتضح في الفقرة التالية. وعلى ضوء هذه الحقائق نستطيع أن ننظر إلى تعريف السلف للإيمان وإلى ما هو أعظم من ذلك؛ وهو ما عرفه به النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه. فالسلف حين قالوا: إن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، لم يقصدوا الخوض في هذه المتاهات الفلسفية أصلاً، ولم يريدوا بهذه العبارة حقيقة التعريف العامة فضلا عن أن يقصدوا التعريف المنطقي بالذات. أي إنهم لم يقصدوا تمييز الماهية عن غيرها - كالعادة في عامة العلوم - فضلا عن أن يأتوا بحد خاص يصورها من حيث هي هي، كالشأن في المنطق. وإنما غرضهم بيان حقيقته الشرعية ووصفها بما يظهر بطلان دعوى من زعم أنه اعتقاد مجرد لا يدخل العمل فيه، واشتقوا هذا البيان والوصف من فهم متكامل لنصوص الوحي فيه، ومن واقع حي عاشوه وتربوا عليه. وإذ قد بينا الفرق الجوهري بين غرض فلاسفة اليونان - ومن اقتفاهم من المتكلمين - من التعريف، وبين غرض سائر أرباب العلوم والفنون منه - ومنهم قدماء المتكلمين -، فما بالك بالفارق بين غرض هؤلاء جميعاً وبين سلف الأمة الصالح؟ فأما تمييز الإيمان عن غيره، فلعمر الحق ما على وجه الأرض أعرف عند المسلمين من الإيمان - الذي هو دينهم - ولا بعد بيان الله ورسوله له بيان، ولقد كان عوام المسلمين قبل ظهور لوثة الفلسفة وبعدها أرفع عقلا من أن يسألوا عما يميز الإيمان عن غيره، أو يرتابوا في زيادته ونقصانه، وعلى هذا أكثر المسلمين ولله الحمد، لا يشذ عنه إلا من فسدت فطرته بالتفلسف والتمنطق، فما بالك بالصدر الأول وعلماء السلف والأجلاء؟! ولولا هذا ما تواردت أذهانهم واتفقت كلمتهم في وقت واحد دون تشاور أو تواطؤ على عبارة واحدة كما ورى عنهم الإمام البخاري رحمه الله، قال: " كتبت

عن ألف نفر من العلماء وزيادة، ولم أكتب إلا عمن قال: الإيمان قول وعمل، ولم أكتب عمن قال: الإيمان قول " (1) . وأما إن كان المراد من التعريف هو تصوير الماهية وإثبات الكليات المجردة خارج الذهن - على ما يزعمه هؤلاء - فهذا هو المحال بعينه، وقد نزه الله هذه الأمة - إلا من أبى - عن التكلف فيما لا قبل لها به. والمناطقة من أولهم إلى آخرهم قد تكلفوا وضع حد منطقي لماهية الإنسان وحقيقته المجردة، واعتصروا أدمغتهم فلم يستطيعوا أن يأتوا بحد لا اعتراض عليه بينهم، وأشهر حدودهم هو - كما ذكرنا - "حيوان ناطق" وعليه من الاعتراضات ما لا يستطيعون رده (2) . فكيف يكون حالهم في الحقائق الشرعية المعنوية والغيبيات عامة؟! هذا مع أن الله سبحانه وتعالى قد أراحنا وهدانا وبين لنا الإيمان المطلوب منا ولم يكلفنا أن نبحث في ماهية مطلقة له، فكيف يظن هؤلاء أنه تعالى يرضى أن يردوا ما أنزل في كتابه وعلى لسان نبيه من الحق بما يرتبونه على إثبات هذه الماهية المختلفة (3) ؟!! ولو أننا تنزلنا مع المناطقة أكثر من هذا لقلنا: إن المناطقة يقررون أن للسؤال أداتين هما: ما وأي؛ فالأولى للسؤال عن الماهية والحقيقة، والأخرى يسأل بها عن المميز عما يشاركه في الجنس. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أجاب عن هذين السؤالين في الإيمان؛ ففي حديث وفد عبد القيس سألهم صلى الله عليه وسلم بنفسه: " أتدرون ما الإيمان؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: " شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة ... " إلخ الحديث. وفي حديث جبريل عليه السلام أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ما الإيمان - أو: أخبرني عن الإيمان؟ - وهما روايتان صحيحتان والمؤدى واحد؛ وهو تمييز الإيمان الخاص عن الإسلام الخاص فإنه سأله عنهما معاً، وكلاهما يشترك في اسم الدين كما قال في آخر الحديث: "هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم" أو "يعلمكم دينكم". وعليه ترجم البخاري للباب بقوله: (باب سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان ... ثم قال: جاء جبريل عليه السلام يعلمكم دينكم فجعل ذلك كله دينا) .

_ (1) اللالكائي، القسم المخطوط، لوحة 165 ا. (2) منها أنه يصدق على الملك أو الجني كما يصدق على الإنسان، وانظر: الرد على المنطقيين ص57 - 58. (3) أي إنكارهم دخول العمل في الإيمان بناء على أنه ليس من الماهية!!

وقال البخاري عقب انتهاء الحديث: (جعل ذلك كله من الإيمان) (1) . أي الإيمان العام المرادف للدين. والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب من هو خالي الذهن عن حقيقة الإيمان - أو في منزلة خالي الذهن - بالجواب المعروف (2) الذي لا علاقة له قط بالجواب المنطقي - الذي ينتج عنه تصور الماهية، والذي يذكر فيه الجنس والفصل، أو الفصل وحده، أو الخاصة وحدها.. الخ - ومع ذلك حصل به المراد على أتم وجه وأجلى بيان. ولم يكتف بعدوله عن ذلك، بل أعاد اللفظ المسؤول عنه في الجواب؛ فإن جبريل سأله: "ما الإيمان؟ " فأجاب: " أن تؤمن بالله.." وهذا مما لا يقره المناطقة؛ لأنه تعريف للشيء بنفسه يلزم منه الدور!! فها هنا أمر عظيم وموقف خطير، وهو أن أحد التعريفين خطأ شرعاً: إما تعريف النبي صلى الله عليه وسلم، وإما المتكلمين الجاري على قواعد المنطق!! ونحن لا كلام لنا إلا مع من يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا وإليه نوجه السؤال! وأما الكافر برسالته فلا كلام معه؛ لأنه - على الأقل - لا يدعي أن تعريفه المنطقي تعريف شرعي، ولا أحد من المسلمين يتلقى عنه دينه، وهو كافر بما هو أعظم من هذا. ولا مخلص للمتكلمين إلا بالإقرار بخطأ المنهج المنطقي - إن لم يكن في كل شيء ففي الشرعيات على الأقل - اللهم إلا أن يقولوا: أن كلامنا هذا فلسفة محضة لا علاقة لها بالشرع، وعليهم حينئذ أن يجردوا كتب العقيدة من هذا كله، وينفوا عن أنفسهم صفة الاشتغال بعلم التوحيد كما يسمونه. وليت الأمر اقتصر على المتكلمين، ولكنه تجاوزهم إلى شراح السنة الذين تأثر بعضهم بهؤلاء، ونقلوا كلامهم في مباحث الإيمان وعارضوا به إجماع السلف - كما سيأتي مفرقا - ومنه هذه المسألة:

_ (1) فتح الباري (1/114) ، وانظر: مسلم رقم 1 (2) نص شيخ الإسلام ابن تيمية على أن جواب النبي صلى الله عليه وسلم هو كما يجاب المحدود بالحد. الإيمان، ص7، لكنه حد شرعي.

فإن الحافظ ابن حجر والطيبي والكرماني تأثروا بذلك - ربما بدون شعور - حين استشكلوا لماذا لم يجب النبي صلى الله عليه وسلم جبريل بأنه التصديق!! وخرجوا ذلك بأنه سأله عن متعلقات الإيمان لا عن معنى لفظه! أو أن في الجواب تضمينا للمعنى اللغوي! أو أن المراد من المحدود الإيمان الشرعي، ومن الحد الإيمان اللغوي (1) فالمتمنطقون من المتكلمين - وهم أكثر المتأخرين كما سبق - افترضوا النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة أرسطو أو فرفريوس وهو يناظر السفسطيين!! والآخرون - ومن تأثر بهم من الشراح - افترضوه بمنزلة الخليل بن أحمد أو الأصمعي وهو يجيب الناس عن معاني الألفاظ اللغوية! والله تعالى نزه نبيه صلى الله عليه وسلم عن الخوض الفلسفي في المطلقات والماهيات المجردة وسائر مباحثهم، بل نزه أصحابه الذين جاء جبريل يعلمهم دينهم أن يكون فيهم من ينكر حقيقة الإيمان، بل كفار قريش وسائر العرب لم يعرفوا السفسطة، كما لم تعرفها أمة سوية على ظهر الأرض. أما مجرد الشرح اللغوي؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أجل شأنا من أن يكون همه في مثل هذه المقامات العليا من التعليم؛ حيث الأمر يتعلق بأصل الدين وأسمائه، وأصحابه صلى الله عليه وسلم لا يحتاجون أن يتعلموا لغتهم، ولو أرادوا ذلك لأمكنهم من غير طريقه صلى الله عليه وسلم أو معها، كما أن مجيء جبريل عليه السلام أعظم قدرا من أن يكون لمجرد التعريف اللغوي. فظهر من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم في مقام التعليم الشرعي أجاب الجواب الشرعي الكامل الذي لا يجوز العدول عنه سواء ما ورد في هذين الحديثين أو في غيرهما كحديث الشعب، فلا وجه للاستشكال أصلا، وأن قول السلف: " قول وعمل يزيد وينقص " هي أصدق عبارة في الكشف عما تضمنته هذه الأحاديث مع الآيات من معنى، وأن ما أطال فيه المتكلمون من التفلسف وأرغمونا على الإطالة في رده لا يجوز التعريج عليه، وهذا ما نزيده إيضاحا بالفقرات التالية لهذه. * القضية الثانية: وجود الأنواع خارج الذهن: استحوذت السفسطة على تفكير أكثر الشباب الإغريقيين وأصبحت كأنما هي الفكرة المسيطرة على أثينا، وعز على أساطين الفلسفة والجدل وعلى رأسهم

_ (1) انظر: الفتح (1/117)

" أرسطو " أن يتسنم هؤلاء الشباب الأحداث ذروة الفكر ويظهروا بمظهر المنتصر في محاوراتهم ومجادلاتهم، وأن تتهاوى صروح الفلسفة الإغريقية أمام جدلهم القائم على فكرة واحدة هي التشكيك في المعارف البدهية إلى حد إنكار كل الحقائق الموضوعية (1) . وضاق المسلك الجدلي في وجه الفلاسفة الكبار وهم يواجهون هذه الفكرة التي لا تبقي من نظرياتهم ولا تذر، واستجمعوا عقولهم لمحاصرة هذا الوباء وتحطيم غرور هؤلاء الشبان. والواقع أن السفسطة لم تنشأ اختراعا من أصاحبها، وإنما من إفرازات مجتمع وثني حقت عليه الضلالة بانقطاعه عن نور الوحي وتعلقه بأذيال الخراصين، وأصولها مستمدة من الفكر الإغريقي نفسه؛ ذلك الفكر الذي قام على أساس نظرية " الجواهر والأعراض " أو " الذوات والصفات " إذ يجعلون لكل موجود "جوهرا" هو حقيقته وماهيته، و "أعراضاً" وهي صفات طارئة، ويتصورن الذات مجردة من كل صفة (2) !! فما زادت السفسطة شيئا على أن جعلت الموجودات كلها في حكم الأعراض التي لا جوهر لها، ومن ثم أنكرت - أو شككت - أن يكون في إمكان العقل إثبات أى حقيقة جوهرية. وإنما انتشرت هذه الفلسفة الحمقاء وطغت بسبب تهافت الفلسفة المقابلة، وقيامها على التخرصات والأوهام، وتناقضها الشديد. ففي حين ترى الفلسفة العامة أن الحقائق التصورية والتصديقية ثابتة في ذاتها، وأن اختلاف العقول في إدراكها أو تناقضها في الحكم عليها يعود إلى طبيعة التفكير الإنسانى ذاته، ترى السفسطة أن المشكوك فيه - حقيقة وأصلا - هو وجود هذه الحقائق، وأنه ما من شيء نفته الفلسفة إلا والاحتمال قائم بأن يكون إثباته أولى، والعكس بالعكس!

_ (1) انظر عن الصراع بين الطائفتين فصل " السوفسطائيون " من كتاب أحمد أمين وزميله: قصة الفلسفة اليونانية، والفصل الأول من الباب الثاني من كتاب يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية. (2) وعلى هذا الأساس اعتقدوا أن الله تعالى وجود مطلق يتجرد عن كل صفة ثبوتية، ومن هنا اتبعهم منكرو الصفات من الفرق الإسلامية - كل فرقة بقدر؛ فمنهم من أنكر الكل، ومنهم من أنكر البعض.

وكذلك ترى أنه ما من خديعة أثبتت الفلسفة أن الحس والعقل (1) يقعان فيها إلا ويحتمل انطباقها على ما تظنه الفلسفة قطعيات وبدهيات إن لم يكن ذلك يقين! وقد دخلت السفسطة من ثغرة في التفكير البشري عامة وهى النسبية اللازمة له؛ فالعلم البشري - المحدود أبدا - لا يستطيع أن يتصور شيئاً غائباً إلا بالنسبة لشيء آخر مشاهد، بل ربما كانت معارفه كلها معتمدة على هذا وهو لا يشعر، أما إدراك كنه الذوات وحقائقها بإطلاق وتجريد، فإن لم يكن محالاً إلى الأبد فهو في كثير من الأشياء عسير للغاية. ومن هنا رأت السفسطة أن إنكاراً جذرياً لكل الحقائق مهما قيل عن بداهتها كفيل بأن ينسف جميع الأسس الفلسفية التي تقوم - بطبيعة الحال - على الاستدلال على المجهول بالمعلوم، وقياس الغائب على الشاهد، واستنباط النتائج المتنازع فيها من المقدمات المسلمة، وبذلك تتفرد بالانتصار في هذه المعارك الجدلية الضارية. وهنا لم يجد الفلاسفة الكبار بداً من البرهنة على ثبوت الجواهر أو الحقائق المطلقة استنقاداً للمعرفة من الانهيار، وفي دوامة البحث المضني تفتق عقل أفلاطون عن نظرية "المثال" التي تزعم أن لكل شيء في عالم الواقع نظيره المطلق في عالم المثال. وكأن أفلاطون اعتقد أن رفع حقائق الأشياء من عالم الواقع إلى عالم المثال يجعله في منأى عن تشكيكات السفسطيين. وأثبت أفلاطون كليات مطلقة مثل "العقل الكلي"، و "النفس الكلية"، "العلم الكلي، وغير ذلك على أنها ماهيات وجودية في عالم المثال، وما يوجد في الواقع من آحاد العقول والنفوس هو أجزاء منها. وجاء تلميذه أرسطو فأراد أن يضع منهجاً عقلياً للتفكير يجابه السفسطة فاستمد من أستاذه أصل الفكرة حين قرر أن الأفراد والأعيان الموجودة ما هي إلا أجزاء للوجود الكلي المطلق الذي هو ماهية هذه الأفراد وحقيقتها الجوهرية، وفي

_ (1) خداع الحس كرؤية القلم مكسورا إذا وضع نصفه في الماء، وخداع العقل مثل تصوره انه لو سقطت كرتان من الحديد من رأس برج عال فإن أثقلها تصل إلى الأرض قبل الأخف.

نظره أن إنكار السفسطيين لحقائق الذوات المشخصة لا يرقى إلى القدح في وجود الماهيات المطلقة. ومن هنا ظهرت لدى المؤمنين بفلسفته ضرورة التشبث بإثبات هذه الماهيات لتظل المعقل الأخير أمام هجمة التشكيك السفسطية. وعلى هذه القاعدة بنى أرسطو ما يسمى "المنطق" - كما سبقت الإشارة - وفصل الحديث عن الكليات الخمس التي أهمها "النوع" الذي هو تمام الماهية، وهو الكلي المقول على كثيرين متفقين في الحقيقة في جواب "ما هو" مثل: حيوان ناطق، في جواب "ما الإنسان". وإثبات هذه الكليات لم يقتصر على مبحث التصورات، بل تعداه إلى مبحث التصديقات حيث اعتمد المنطق على "قياس الشمول" دون "قياس التمثيل (1) "، بل غالى المناطقة حتى أسقطوا قيمة قياس التمثيل بالمرة، واعتبروا التعريف بالمثال من أنواع التعريف الخطأ (2) . تلك هي أصل قصة وجود الأنواع خارج الذهن عرضناها دون الإطالة بردها ونقضها (3) ، وحسبنا أننا رأينا كيف أن الفلسفة اليونانية المتخبطة قد عالجت جنون السفسطة - التي تنكر الحقائق الحسية - بعوج المنطق الذي لم يجد سبيلا إلى

_ (1) قياس الشمول: إثبات حكم الكل للجزء، وقياس التمثيل إثبات حكم النظير لنظيره، وهو المعروف في أصول الفقه، ومع تلازمهما فالأخير هو الأقرب للعقل والفطرة، بل هو الذي جاء به القرآن (في معناه العام) . انظر: الرد على المنطقيين، ص162،211، ومجموع الفتاوى (13/16/17) (2) وهذا أثر من آثار ردة فعلهم إزاء السفسطة؛ لأنه من قبيل الاستدلال بالذوات على الذوات، والسفسطة تنكر حقائق الذوات كلها، فأنكروا قياس التمثيل والتعريف بالمثال. (3) وحسبنا في الرد عليهم أمور: 1 - أن هذا تخرص وتحكم اختلقته ظنونهم بلا أي دليل من وحي أو عقل. 2 - أن الحدود التي أتوا بها لتصور الماهيات معترض عليها باعتراضات كثيرة، ولو وقفت المعرفة البشرية على ما يسلم لهم منها لكانت في منتهى الضآلة، فلا يثبت للبشر معرفة ولا علم. 3 - أن التفريق بين الذاتيات الداخلة في الماهية والعرضيات اللازمة لها أمر متعذر أو متعسر باعتراف المناطقة (اليونان والمنتسبين للإسلام) ، ولهذا أقر كثير منهم بأن حدودهم إنما هي في الحقيقة رسوم ‍‍‍‍‍‍‍‍‍!! 4 - ‍‍‍‍أن أذهانهم إنما تصورت ماهية مجردة لأي شيء - كالإنسان مثلا - من واقع معرفتها لآحاد الناس في علام الواقع، وهي معرفة سابقة للخوض في الماهية، فبإمكان السفسطي أن يقول إن هذا من الدور الممتنع؛ لأن موضع النزاع هو حقيقة الآحاد، فكيف تركبون منها حقيقة كلية بزعمكم ثم تستدلون بها على وجود الآحاد نفسها!! وللمزيد انظر: الرد على المنطقيين، وخاصة الصفحات: من 14 - 15، 41 - 47، 76- 48، 317،318، والإيمان: ص 109، 387 - 390

إثبات البدهيات إلا باختلاق المعدومات وتكلف المحالات، وأحسن أحواله أن يعرف الجلي بالخفي (1) . وكان الوضع الطبيعى أن تبقى هذه التخبطات العمياء رهينة بيئتها وحبيسة أرضها، فلا تفسد بها عقول بني البشر الآخرين، ولكنها - وهو الأمر المحزن حقا - أفسدت العقول والفطر التي استنارت بنور الوحي ونعمت بالعافية من هذه الأوبئة. والمؤلم جدا أن يتطوع بعض المنتسبين للإسلام بنقل هذه الفلسفة والتعصب لها وتكدير صفو التفكير الإسلامي بها، فلو أنها جاءت نتيجة استعباد يوناني للمسلمين لكان للعذر مقال - مع أن أمة الوحي لا عذر لها في اتباع الضلالات - فكيف إذا أخذتها طائعة مختارة ‍. لقد نُقِلت هذه الفلسفة والمعركة بين المرجئة وأهل السنة على أشدها، فاستنصر بها أولئك المبتدعة في مسألة الإيمان بعد أن كان موضوعها الأصلى هو نفي صفات الله تعالى، ولكن "الجهمية" كانوا يجمعون بين نفي الصفات والإرجاء، ودار الزمان دورته وإذا بعقيدة الجهمية تصبح عقيدة الكثرة الكاثرة من المشتغلين بالعلم الشرعي، وإذا بأكثر متون العقائد انتشارا يبدأ بعبارة (حقائق الأشياء ثابتة والتشكيك فيها سفسطة) (2) ، وكأنها هي عقيدة للأثينيين من اتباع أرسطو، لا لمسلمين أتباع محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم!! جاء هؤلاء المرجئة فأثبتوا تلك الماهيات المطلقة التي اختلقها أفلاطون وأرسطو، وطبقوا كل نتائجها على موضع "الإيمان"، فكانت النتيجة القاصمة وهي أن أعمال الإسلام كله ابتداء من قول لا إله إلا الله وانتهاء بالنوافل، ما هي إلا عرض للإيمان وليس من ماهيته، وأنه من لم يأت بشيء من ذلك قط يدخل الجنة بسلام ولو بعد حين (3) .‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍

_ (1) مثل تعريفات الفقهاء الجارية على المنهج المنطقى؛ كتعريف الصلاة بأنها: أفعال وأقوال مخصوصة مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم، والزكاة بأنها: إخراج جزء من المال مخصوص في زمن مخصوص لطائفة مخصوصة، والصيام بأنه إمساك مخصوص في زمن مخصوص في زمن مخصوص عن أفعال مخصوصة، ونحو ذلك مما ظهرت فيه التجريدية بوضوح، ولو توقفت معرفة هذه المسميات على معرفته لكانت إلى الجهل أقرب. (2) كالعقائد النسفية. (3) تنبيه: ليس كل أحد من المرجئة أثبت وجود الماهية صراحة، ولكن من لم ينص على ذلك بنى كلامه على أساس ثبوتها فالنتيجة واحدة، وقد تركنا النقول خشية الإطالة، وسيأتي بعضها عند الحديث عن عدم اشتراطهم قول كلمة الشهادة.

* القضية الثالثة: تماثل أفراد النوع في الحقيقة والماهية: علمنا مما سبق أن المنطق هو قواعد نظرية من اجتهاد رجل يوناني أراد به غرضاً معيناً - هو الرد على السفسطة - وسواء وفق هذا الرجل في عمله أو لم يوفق فإنه من المبالغة القصوى والتقديس المتناهي أن يقال: إن ما وضع من رأي واجتهاد هو معيار المعرفة الإنسانية الذي تعصم مراعاته الذهن من الخطأ (1) ، والذي لا تستطيع بغيره أن ندافع عن ديننا ونصد هجمات الملحدين والمشككين، ولا فيما هو أعظم من ذلك وهو معرفة الحقائق الشرعية، ولا فيما هو أعظم وهو معرفة صفات الله تعالى ما نثبته منها وما ننفيه ‍‍‍‍. ولقد أصبح من الحقائق المقررة أن العلم البشري - جملة - له حدود لا يستطيع تجاوزها، وأن إخضاع عالم الغيب لما علمه البشر من عالم الشهادة - وهو ضئيل جدا - أمر في غاية الاعتساف والغرور، فما بالك بمن يخضع الوحي المعصوم والعلم الإنسانى بكامله لفكر رجل واحد عاش في أمة جاهلية قديمة كانت البشرية ما تزال تحبو في أدنى درجات العلم (2) ؟ غير أن الذي حصل في تاريخ الإسلام كان بخلاف هذه الحقيقة، وقد اجتمعت له أسباب كثيرة منها المؤامرات والدسائس الحاقدة، ومنها الاجتهادات المخطئة، ومنها المتابعة بلا بصيرة، ومنا الترف الفكرى.. إلخ. وكانت النتيجة أن أخضع الوحي - منة الله الكبرى على العالمين ونعمته العظمى للثقلين - لآراء الخراصين وتوهمات المضلين، فأخضعت الحقائق الشرعية للمقاييس اليونانية، وصدق من يسمون علماء الكلام أن التصورات لا تنال إلا بالحدود على النحو الذي قرره أرسطو وفرفريوس. وطبقوا ذلك على الموضوع الأكبر الذي شغل الأمة منذ ظهور الخوارج وهو موضوع الإيمان (3) ، فوضعوا سؤالا هو: ما الإيمان؟ وأخذوا يبحثون في جوابه على الأسلوب المنطقي الذي يقصد من التعريف " تصور الماهية " - كما سبق في القضية الأولى -.

_ (1) هكذا يعرف المناطقة المنطق. (2) من الثابت أنه لم تظهر قبل الإسلام أية دعوة إنسانية " عالمية " على الإطلاق؛ فإن دعوات الرسل صلوات الله وسلامه عليهم كانت إقليمية، فما بالك بأفكار المضلين من الفلاسفة وكهنة الديانات الوضعية؟ ‍‍‍‍‍‍‍‍ (3) قد كان أكبر مسائل الخلاف حتى ظهر الخلاف في موضوع الصفات.

ومن طبيعة الحد أو التعريف أو القول الشارح - وهي ألفاظ مترادفة - أنه مفهوم كلي يندرج فيه كل ما يصدق عليه اللفظ المعرف، والنوع الذي هو أحد الكليات الخمس عندهم هو تمام الماهية، فمتى كان التعريف بالحد التام - أي المشترك الذاتي - "الجنس" والمميز الذاتي "الفصل" معاً حصل تصور تمام الماهية المعبر عنه بالنوع. والخطأ الأساسي الذي وقع فيه أرسطو ويقع فيه كل المناطقة أنه - مع زعمه أن التصورات لا تنال إلا بالحدود - وضع الحد بناء على تصور سابق، وهذا هو "الدور" الذي يقولون بامتناعه؛ وذلك أن أرسطو نظر إلى آحاد الناس مثل زيد وبكر وعمرو وحلل صفاتهم مميزاً بين الذاتيات الداخلة في الماهية والعرضيات اللازمة والعرضيات غير اللازمة، واستخرج من الذاتيات الداخلة في الماهية - في نظره - ماهية الإنسان وحقيقته التي هي القدر المشترك من هذه الذاتيات وهي كما زعم " الحيوانية والناطقية " معاً (الصفة الأولى جنس والأخرى فصل) كما سبق. ثم أثبت وجود هذه الماهية في الخارج أى في الوجود الحقيقي - كما في القضية السابقة - وهذه الماهية هي عنده وجود مطلق لا يوصف بالزيادة ولا بالنقصان ولا بأي صفة أخرى، بل كل من ينطبق عليه اسم الإنسان من الآحاد فهذه الماهية متحققة فيه على السواء بحيث أنه لو قلنا إن فردا من أفراد النوع أقوى من الماهية أو أضعف لكان هذا إثباتا لنوع آخر (1) . ولهذا اعتبر أرسطو تمام الماهية هو التعريف أو الحد، وجاء المناطقة بعده وعلى رأسهم فرفريوس المتوفى سنة (303 م) فسموا تمام الماهية "النوع" والخلاف لفظي (2) . والمهم لنا هو أنهم عرفوا النوع بأنه (الكلى المقول على كثيرين متفقين في الحقيقة في جواب ما هو) (3) . فالقول باختلاف الحقيقة يتنافى وهذه الماهية (4) ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍.

_ (1) لأن الذاتي لا يقبل الزيادة ولا النقصان بزعمهم، انظر: المثل العقلية الأفلاطونية، تحقيق: عبد الرحمن بدوي، ص 136 - 139. (2) انظر المرشد السليم، ص61، وهامش ص 31. (3) المصدر السابق، ص858، وتسهيل المنطق، ص 30. (4) وهذا حق ولهذا ثبت لدينا بالشرع أن الحقيقة الإيمانية مختلفة بحسب الأفراد لم نثبت لهم ماهية مطلقة.

وهذا الخطأ نفسه بما فيه من "دور" وقع فيه المتكلمون حين أرادوا تعريف الإيمان متبعين المسلك المنطقى - أي تعريفه من حيث هو ذاته كما يقولون، فقد نظروا أولاً إلى ما يطلقون عليه اسم الإيمان من الآحاد على تفاوتهم واستخرجوا القدر المشترك بينهم - الذي اعتبروه الصفة أو الصفات الذاتية الداخلة في الماهية وجعلوا هذا القدر هو حقيقة الإيمان وماهيته المجردة. وبعد أن تصوروا هذه الماهية وعبروا عنها كل بحسب لفظه، أخذوا يحكمون على أي فرد بأنه مؤمن بناء على وجود هذه الماهية لديه أو عدمها، ثم وصفوا هذه الماهية بما وصف به المناطقة النوع، فقرروا أن المؤمنين سواء في إيمانهم، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص لأن نقص الماهية عدم، وقبولها الزيادة دليل على النقص وهو عدم، فكذلك الإيمان شك، وقبول الزيادة يعني أنها ناقص فهو شك. وهذا تفصيل ما أجملناه: 1- الأفراد التي استخرجوا منها القدر المشترك "الماهية": يطلق المرجئة اسم الإيمان على كل من هؤلاء: أ - جبريل ومحمد صلى الله عليه وسلم " بدلالة الإجماع ". ب - من أقر بالإيمان ولم يعمل شيئاً " بدلالة حديث الجارية بزعمهم " (1) . جـ - من صدق بقلبه ولم يقر بلسانه " بدلالة اللغة، ولأن الكلام عندهم هو الكلام النفسي " (2) . وطبيعي أن بين هذه الدرجات في الإيمان درجات كإيمان أواسط الصحابة وإيمان الفاسق من أهل الصلاة، ولكن هذه المراتب الثلاث هي كالأركان نظرياً. 2 - فلما أرادوا استخراج القدر الكلي المشترك ين هذه الدرجات ليتصوروا ماهية الإيمان وحقيقته مع حذف صفاتها العرضية، كان طبيعيا ألا يدخلوا الأعمال في الإيمان لأنها مفقودة بكاملها عند أصحاب الدرجة (جـ)

_ (1) التي قال النبي صلى الله عليه وسلم لمولاها: " أعتقها فإنها مؤمنة " بعد إقرارها، وسيأتي تفصيل الحديث عنه وتخريجه ص 716 وما بعدها. (2) على ما سبق، وسيأتي في الفصل الذي بعد هذا.

واختلفوا في إدخال النطق باللسان الذي هو موجود عند أصحاب الدرجة (ب) لكنه مفقود عند أصحاب الدرجة (جـ) : أهو ذاتي داخل في الماهية أم لازم عرضي (1) . 3 - ومن هنا جاءت حدودهم - أو تعريفاتهم - للإيمان خالية من ذكر عمل الجوارح، بل محصورة في عمل قلبي واحد هو التصديق أو الاعتقاد كقولهم: (الاعتقاد الجازم المطابق للواقع بدليل) ، أو (التصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وكان معلوما بالضرورة) ، أو (اعتقاد صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به) ، وما أشبه ذلك مما تجلى عند ذكر نصوصهم في اشتراط النطق أو عدمه. والمهم أن قاعدة (تساوى أفراد النوع في حقيقته وماهيته) التي استعاروها من المنطق وطبقوها هنا أفسدت عليهم تصورهم، وجعلتهم يعرضون عن كل النصوص الواردة في زيادة الإيمان ونقصانه وتفاضل أهله فيه ودخول الأعمال فيه ويتعسفون في تأويلها حتى تسلم لهم هذه القاعدة. ومن أخطر النتائج التي رتبوها على ذلك قولهم بتساوى إيمان الملائكة والأنبياء كجبريل ومحمد صلى الله عليه وسلم، مع إيمان الفساق المنهمكين في الفسق بل وإيمان من لم يقل لا إله إلا الله بلسانه، وإنما صدق بقلبه بزعمهم. وهذه النتيجة مع منافاتها للبدهيات الثابتة عند عوام المسلمين سطروها وقرروها بإطناب وإسهاب، فلما صدمهم اعتراض المسلمين التمسوا تقييدات واهية تغض من مقام النبوة أكثر مما ترفعه عن مستوى الانهماك في الفسق ‍. ونكتفي من كلامهم بنصين عن رجلين من كبار أئمتهم المتقدمين: أبو بكر بن فورك: أحد كبار الأشاعرة المتوفى سنة 403هـ أو بعدها. وقد شرح كتاب العالم والمتعلم المنسوب للإمام آبى حنيفة، وأطال في تقرير هذه القاعدة حتى استغرقت منه أكثر من عشر لوحات (2) بكلام فلسفي مجرد، نذكر

_ (1) انظر الخلاف بينهم في النطق بالشهادتين: أهو شطر أم شطرين؟ في مبحث حكم ترك العمل ص 491 حتى نهاية الباب. (2) اللوحات من 61- 71 من الشرح (مخطوط) .

منه ما نقله عن المتن المنسوب للإمام وهو: "قال المتعلم: أخبرني من أين ينبغي لنا أن نقول: إيماننا مثل إيمان الملائكة والرسل وقد نعلم أنهم كانوا أطوع لله منا؟ قال العالم: وقد نعلم أنهم كانوا أطوع لله منا، وقد حدثنا أن الإيمان غير العمل، فإيماننا مثل إيمانهم لأنا صدقنا بوحدانية الرب وربوبيته وقدرته بما جاء من عنده بمثل ما أقرت به الملائكة وصدقت به الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم. فمن ها هنا زعمنا أن إيماننا مثل إيمان الملائكة؛ لأنا آمنا بكل شيء آمنت به الملائكة مما عاينته الملائكة من عجائب الله تعالى ولم نعاينه " (1) ثم شرحه مبيناً أن التصديق جنس واحد لا يفضل بعضه بعضاً، وعلل ذلك بقوله: " لأن تصديق القلب هو الإيمان، فإذا اعتقد النبي صدق الله في أخباره، واعتقدنا صدقه في أخباره تعالى، كان جنس اعتقادنا بصدقه جنس اعتقاده بصدقه بلا تفاوت " (2) ثم أسهب في بيان أن فضل الأنبياء في الإيمان على سائر الخلق إنما هو بالنظر للعاقبة والثبات، فإيمان الأنبياء معصوم عن الردة والكفر بخلاف غيرهم فاحتمال طروء ذلك عليهم قائم. وأخيرا أجاب عن إشكال وارد وهو إذا كان إيمان سائر البشر كإيمان الأنبياء، فلماذا فضل الله الأنبياء عليهم في الأجر والثواب؟ ‍ ونقل ما في المتن ثم شرحه وهو: " قال المتعلم: لحسن ما فسرت، ولكن أخبرني: إن كان إيماننا مثل إيمان الرسل، أليس ثواب إيماننا مثل ثواب إيمانهم؟ فلم فضلهم علينا وقد استوينا في الإيمان في الدنيا واستوينا في ثواب الإيمان في الآخرة؟ وإن كان ثواب إيماننا في الدنيا دون ثواب إيمانهم، أليس هذا ظلماً إذا كان إيماننا مثل أيمانهم، ولم يجعل لنا من الثواب ما جعل لهم؟ قال العالم: قد أعظمت المسألة ولكن نثبت في الفتيا؛ ألست تعلم أن إيماننا مثل إيمانهم لأنا آمنا بكل شيء آمنت به الرسل، ولهم بعد علينا الفضل في الثواب على الإيمان وجميع العبادة؛ لأن الله تعالى كما فضلهم بالنبوة على الناس كذلك فضل صلواتهم وبيوتهم ومساكنهم وجميع أمورهم على غيرها من الأشياء.

_ (1) لوحة 61- 62. (2) لوحة62- 63.

ولم يظلمنا ربنا إذ لم يجعل لنا مثل ثوابهم؛ ولكنه كان إنما يكون الظلم إذا أنقصنا حقنا فأسخطنا، فأما إذا زاد أولئك ولم ينقصنا حقنا وأعطانا حتى أرضانا فإن ذلك ليس بظلم " (1) . 2- أبو المعالي الجويني: كبير الاشعرية في عصره وشيخ أبي حامد الغزالي (2) . يقول: " فإن قيل: فما قولكم في زيادة الإيمان ونقصانه؟ قلنا: إذا حملنا على التصديق فلا يفضل تصديق تصديقا كما لا يفضل علم علماً (3) ، ومن حمله على الطاعة سراً وعلنا - وقد مال إليه القلانسي (4) - فلا يبعد على ذلك إطلاق القول بأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهذا مما لا نؤثره ‍. فإن قيل: أصلكم يلزمكم أن يكون إيمان منهمك في فسقه كإيمان النبي صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: النبي عليه الصلاة والسلام يفضل من عداه باستمرار تصديقه وعصمة الله إياه من مخامرة الشكوك واختلاج الريب. والتصديق عرض (5) لا يبقى، وهو متوال للنبي عليه الصلاة والسلام ثابت لغيره في بعض الأوقات، زائل عنه في أوقات الفترات (6) ، فيثبت للنبي صلى الله عليه وسلم أعداد من التصديق لا يثبت لغيره إلا بعضها، فيكون إيمانه بذلك أكثر. فلو وصف الإيمان بالزيادة والنقصان وأريد بذلك ما ذكرناه لكان مستقيما فاعلموه " (7) وهذه النصوص تغني عما عداها، ومجرد الاطلاع عليها كاف في تصور فسادها والحكم بمخالفتها لصحيح المنقول وصريح المعقول!

_ (1) لوحة 69. (2) توفي سنة 487هـ وقد ندم آخر عمره على الاشتغال بعلم الكلام، وألف النظامية التي صرح فيها باعتقاد أهل السنة والجماعة، ولكنه لم يفرق بين تفويض المعنى وتفويض الكيفية في الصفات، فظن أن مذهبهم هو الأول. (3) أي في الماهية المجردة، أما في الآحاد والأعيان فالجويني وغيره معترفون بأن إمام مذهبهم "الشافعي" أعلم منهم وأن الناس أعلم من بعض (4) أبو العباس القلانسي أحد المتكلمين المنتسبين للأشعرى، لكنه موافق لأهل السنة في الإيمان، انظر: الإيمان لأبن تيمية، ص114. (5) وهذا أثر آخر من آثار الفلسفة اليونانية ‍‍ (6) ويمثلون لذلك بأوقات النوم والإغماء والغفلة حيث يزول العرض بزعمهم. (7) الإرشاد، ص 399 - 400.

وعلى مثل هذه الشبه الواهية اعتمد أتباعهم في الحكم على من يدخل العمل في الإيمان بأنه موافق لمذهب الخوارج (1) ، ناسين أن هؤلاء موافقون موافقة تامة لرأي الفلاسفة! هذا، وقد سبقت الإشارة إلى أن المنطق في ذاته لا يقتضي بالضرورة إخراج العمل من الإيمان أو القول بأنه لا يزيد ولا ينقص، ونزيد هذا إيضاحا فنقول: إن المرجئة لو تركوا مبحث التعريف بالمرة، واكتفوا بما يذكره المناطقة في مبحث الأسماء (نسبة الاسم للمعنى) وهو قولهم أن: " الكلي ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: المتواطئ؛ وهو الذي تستوي جميع أفراده في صدق الكلي عليها واشتراكها فيه، مثل إنسان ومثلث وشجرة ‍‍ والقسم الثاني: المشكك، وهو الذي لم تتساو أفراده في صدق الكلي عليها، وذلك بأن يكون المعنى المقصود من الكلي أولى في بعضها من البعض الآخر، أو أقدم منه، أو أشد، أو أقوى، وذلك مثل الضوء فإنه في الشمس أقوى منه في المصباح " (2) أقول: لو فعلوا ذلك واعتبروا الإيمان من القسم الأخير لأراحوا واستراحوا، لكن الذي حصل هو العكس فإنه لما فطن متأخروهم إلى هذا أخذوا يتعسفون في تخريجه كى يوافق المذهب، وخاضوا في "ماهية المشكك" فعاد الأمر إلى قضية الماهية التي لم يستطيعوا التخلي عنها!! يقول صاحب المسامرة بشرح المسايرة: " (والحنفية، ومعهم إمام الحرمين (3) وغيره) وهم بعض الأشعرية، (لا يمنعون الزيادة والنقصان باعتبار جهات هي) أي تلك الجهات، (غير نفس الذات) أي ذات التصديق، (بل بتفاوته) أى بسبب تفاوت الإيمان باعتبار تلك الجهات، (يتفاوت المؤمنون) عند الحنفية ومن وافقهم، لا بسبب تفاوت ذات التصديق.

_ (1) كما ذكر ابن الهمام في المسامرة، حين قال: " إن ضم الطاعة إلى التصديق هو قول الخوارج، ولذا كفروا بالذنب لانتفاء جزء الماهية ". انظر: المسايرة شرح المسامرة، ص14، وتبعه الزبيدى. (2) المرشد السليم، ص 49- 50. (3) هو أبو المعالي الجوينى، وقد سبق كلامه.

(وروي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه قال: إيماني كإيمان جبريل، ولا أقول مثل إيمان جبريل لأن المثلية تقتضى المساواة في كل الصفات، والتشبيه لا يقتضيه) أي لا يقتضي ما ذكر من المساواة في كل الصفات، بل يكفي لإطلاقه المساواة في بعضها!! فلا أحد يسوى بين إيمان آحاد الناس وإيمان الملائكة والأنبياء من كل وجه، (بل يتفاوت) إيمان آحاد الناس وإيمان الملائكة والأنبياء، غير أن ذلك التفاوت (هل هو بزيادة ونقص في نفس الذات) أي ذات التصديق والإذعان القائم بالقلب (1) ، (أو) هو تفاوت لا بزيادة ونقص في نفس الذات بل (بأمور زائدة عليها؟ فمنعوا) يعني الحنفية وموافقيهم (الأول) ؛ وهو التفاوت في نفس الذات " (2) أقول: هنا أحس المؤلف بأن الاعتراض سيرد على كلامه عن مدى ضرورة التفريق، ولم لا يعتبر من قبيل المشكك ويلغي موضوع " النوع "؟ فقال: " فنحن - معشر الحنفية ومن وافقنا - نمنع ثبوت ماهية المشكك ونقول: إن الواقع على أشياء متفاوتة فيه يكون التفاوت عارضاً لها خارجاً عنها، لا ماهية لها ولا جزء ماهية لامتناع اختلاف الماهية واختلاف جزئها!! و (لو سلمنا ثبوت ماهية المشكك) ، فلا يلزم كون التفاوت في أفراده بالشدة؛ فقد يكون بالأولوية وبالتقدم والتأخر!! (و) لو سلمنا (أن ما به التفاوت) في أفراد المشكك (شدة كشدة البياض الكائن في الثلج بالنسبة إلى) البياض (الكائن في العاج) (مأخوذ في ماهية البياض بالنسبة إلى خصوص محل) كالثلج، (لا نسلم أن ماهية اليقين منه) أي من المشكك. (ولو سلمنا أن ماهية اليقين تتفاوت لا تسلم أنه) يتفاوت (بمقومات الماهية) أي أجزائها، (بل بغيرها) من الأمور الخارجة عنها العارضة لها كالإلف للتكرار ونحوه " (3)

_ (1) حتى الإذعان عندهم محله القلب، ولا يعنون به الامتثال والعمل. (2) ما نقلناه من كلام ابن فورك أوضح من هذا التفلسف في الدلالة على مذهبهم. (3) ص 18- 19، ويلاحظ أن الجملة الأخيرة المتعلقة بتفاوت اليقين هي رد على من قال: إن الإيمان هو التصديق فقط، ثم قال مع ذلك: إن اليقين يتفاوت، كالنووي في شرح مسلم (1/146- 148) ، وقد تنبه لذلك المحشي الآخر " قاسم " انظر: ص 219.

ولا نريد الاسترسال في نقل مثل هذا التفلسف ولا الرد عليه تفصيلا من جنس كلامه، وحسبنا أننا عرفنا مأخذ القوم وأصل قولهم!! ثم نكتفي في الرد عليهم بما أجمله شيخ الإسلام في نقض أصولهم وشبهاتهم مما هو في الحقيقة تفصيل وشرح لما ألزم به الإمام أحمد أسلافهم من قبل، إلا أن في كلام شيخ الإسلام زيادة تتعلق بالقواعد المنطقية التي عرضناها هنا. ... يقول شيخ الإسلام في بيان أصول غلط المرجئة عامة: " وهؤلاء غلطوا من وجوه: أحدها: ظنهم أن الإيمان الذي فرضه الله على العباد متماثل في حق العباد، وأن الإيمان الذي يجب على شخص يجب مثله على كل شخص. وليس الأمر كذلك؛ فإن أتباع الأنبياء المتقدمين أوجب الله عليهم من الإيمان ما لم يوجبه على أمة محمد، وأوجب على أمة محمد من الإيمان ما لم يوجبه على غيرهم، والإيمان الذي كان يجب قبل نزول جميع القرآن ليس هو مثل الإيمان الذي يجب بعد نزول القرآن، والإيمان الذي يجب على من عرف ما أخبر الرسول مفصلا ليس مثل الإيمان الذي يجب على من عرف ما أخبر به مجملاً. فإنه لا بد في الإيمان من تصديق الرسول في كل ما أخبر، لكن من صدق الرسول و (1) مات عقب ذلك لم يجب عليه من الإيمان غير ذلك، وأما من بلغه القرآن والأحاديث وما فيها من الأخبار والأوامر المفصلة فيجب عليه من التصديق المفصل بخبر خبر وأمر أمر ما لا يجب على من لم يجب عليه إلا الإيمان المجمل لموته قبل أن يبلغه شيء آخر. وأيضا لو قدر أنه عاش فلا يجب على كل واحد من العامة أن يعرف كل ما أمر به الرسول وكل ما نهى عنه وكل ما أخبر به، بل إنما عليه أن يعرف ما يجب عليه هو وما يحرم عليه، فمن لا مال له لا يجب عليه أن يعرف أمره المفصل في الزكاة، ومن لا استطاعة له على الحج ليس عليه أن يعرف أمره المفصل بالمناسك، ومن لم يتزوج ليس عليه أن يعرف ما وجب للزوجة، فصار يجب من الإيمان تصديقا وعملا على أشخاص ما لا يجب على آخرين " (2) .

_ (1) في الأصل: أو، وهو خطأ. (2) الإيمان، ص184- 185.

ويزيد ذلك إيضاحا - في موضع آخر - ببيان أن معارف القلب تتفاضل، وأعماله أيضا تتفاضل فيقول: " إيمان القلوب يتفاضل من جهة ما وجب على هذا ومن جهة ما وجب على هذا، فلا يستوون في الوجوب، وأمة محمد وإن وجب عليهم الإيمان بعد استقرار الشرع، فوجوب الإيمان بالشيء المعين موقوف على أن يبلغ العبد إن كان خبرا، وعلى أن يحتاج إلى العمل إن كان أمراً، وعلى العلم به إن كان علماً. وإلا فلا يجب على كل مسلم أن يعرف كل خبر وكل أمر في الكتاب والسنة ويعرف معناه ويعلمه؛ فإن هذا لا يقدر عليه أحد. فالوجوب مما يتنوع الناس فيه، ثم قدرهم في أداء الواجب متفاوتة (يعني قدراتهم) . ثم نفس المعرفة تختلف بالإجمال والتفصيل والقوة والضعف ودوام الحضور، ومع الغفلة فليست المفصلة المستحضرة الثابتة التي يثبت الله صاحبها بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة كالمجملة التي غفل عنها، وإذا حصل له ما يريبه فيها ذكرها في قلبه، ثم رغب إلى الله كشف الريب. ثم أحوال القلوب وأعمالها مثل محبة الله ورسوله وخشية الله والتوكل عليه والصبر على حكمه والشكر له والإنابة إليه وإخلاص العمل له مما يتفاضل الناس فيها تفاضلا لا يعرف قدره إلا الله عز وجل، ومن أنكر تفاضلهم في هذا فهو إما جاهل لم يتصوره وإما معاند " (1) . أقول: وفي هذا الكلام الواضح البرهان ما يرد على من زعم من المرجئة أن الإيمان لا يتفاوت مطلقا، أو من زعم أنه يتفاوت بأمور خارجة عن الماهية - كما سبق - فإن هذا ينفي تلك الماهية الموهومة أصلاً، ويبطل قاعدة استواء الأفراد في الماهية بالمرة، ثم إنه يبين فساد أصل عظيم من أصول الإرجاء.. وهو ما يشترطونه عادة عند تعريف الإيمان تعريفا منطقيا كقولهم: "التصديق بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان معلوماً من الدين بالضرورة "، أو " وثبت عنه قطعا "، وما أشبهها (2) .

_ (1) الإيمان، ص 319. (2) انظر مثلا شرح الجوهرة المسمى إتحاف المريد، ص5، والمسايرة شرح المسامرة، ص14، وكبرى اليقينيات، البوطي، ص3 - 35، وتبسيط العقائد الإسلامية، حسن أيوب، ص9.

فإنهم يشترطون فيما يؤمن به الثبوت القطعي أو العلم الضروري لأنهم يريدون تحديد ماهية الإيمان التي إذا نقصت ذهب الإيمان كله، ولا بد من تساوي أفرادها فيها كما سبق (1) . ويعلمون أنهم لو أدخلوا الإيمان بالأعمال كلها في الإيمان للزمهم نفي الإيمان عمن لم يؤمن بالنوافل أو الواجبات التي لا يعرفها كل أحد، فينتقض عليهم التعريف من أساسه، فقيدوا ذلك بما ثبت قطعا لا بما ثبت آحاداً - بزعمهم - أو بما علم بالضرورة لا بما لا يعلم إلا بالتعلم والتنقيب. وهذه القيود لا تعفيهم ولا تغنيهم؛ فإنهم يمثلون لما علم بالضرورة أو ثبت قطعيا بتحريم الخمر، فهل يلتزمون أن كل من لم يؤمن بتحريم الخمر كافر؟ لا أحسبهم يؤمنون بذلك واقعا وإن سطروه نظرياً؛ فإنه من المعقول جدا أن يكون بعض المسلمين في أطراف الأرض - لا سيما العجم - لم يبلغه هذا التحريم قط، وهو ذلك مؤمن بما بلغه من الإيمان المجمل وأداء الفرائض، فهل يكفرون مثل هذا؟!! فإن لم يكفروه - وهو ظني بهم - فيلزمهم بطلان ما استحدثوه من تحديد للإيمان يشترطون تحققه في كل مؤمن، والرجوع عن كل ما تركه المنطق في مباحثهم من آثار وأصول. ولنتابع النقل عن شيخ الإسلام رحمه الله.. قال: " وهؤلاء منتهى نظرهم أن يروا حقيقة مطلقة مجردة تقوم في أنفسهم،، فيقولون: الإيمان من حيث هو هو، والسجود من حيث هو هو، لا يجوز أن يتفاضل ولا يجوز أن يختلف وأمثال ذلك، ولو اهتدوا لعلموا أن الأمور الموجودة في الخارج عن الذهن متميزة بخصائصها، وأن الحقيقة المجردة المطلقة لا تكون إلا في الذهن، وأن الناس إذا تكلموا في التفاضل والاختلاف فإنما تكلموا في تفاضل الأمور الموجودة واختلافها، لا في تفاضل أمر مطلق مجرد في الذهن لا وجود له في الخارج.

_ (1) ولو أنهم جعلوه تعريفا للعقيدة أي أصل فقط لربما سلم لهم، لكنه ينقض مذهبهم؛ لأن الدين أعم من العقيدة وهم يريدون ماهية واحدة.

ومعلوم أن السواد مختلف فبعضه أشد من بعض، وكذلك البياض وغيره من الألوان، وأما إذا قدرنا السواد المجرد المطلق الذي يتصوره الذهن فهذا لا يقبل الاختلاف والتفاضل، ولكن هذا هو في الأذهان لا في الأعيان " (1) ويزيد ذلك إيضاحا في (الإيمان) قائلاً: " وهم لما توهموا أن الإيمان الواجب على جميع الناس نوع واحد، صار بعضهم يظن أن ذلك النوع من حيث لا يقبل التفاضل، فقال لي مرة بعضهم: الإيمان من حيث هو إيمان لا يقبل الزيادة والنقصان، فقلت له: قولك من حيث هو، كما يقال: الإنسان من حيث هو إنسان، والحيوان من حيث هو حيوان، والوجود من حيث هو وجود، والسواد من حيث هو سواد، وأمثال ذلك لا يقبل الزيادة والنقصان، فيثبت لهذه المسميات وجودا مطلقا مجرداً عن جميع القيود والصفات، وهذا حقيقة له في الخارج، وإنما هو شيء يقدره الإنسان في ذهنه، كما يقدر موجودا لا قديما ولا حادثا، ولا قائما بنفسه ولا بغيره، ويقدر إنسانا لا موجوداً ولا معدوماً، ويقول: الماهية من حيث هي هي لا توصف بوجود ولا عدم والماهية من حيث هي هي شيء يقدره الذهن، وذلك موجود في الذهن لا في الخارج. وأما تقدير شيء لا يكون في الذهن ولا في الخارج فممتنع، وهذا التقدير لا يكون إلا في الذهن كأثر تقدير الأمور الممتنعة، مثل تقدير صدور العالم عن صانعين ونحو ذلك، فإن هذه المقدرات في الذهن. فهكذا تقدير إيمان لا يتصف به مؤمن، بل هو مجرد عن كل قيد وتقدير، وتقدير إنسان لا يكون موجوداً ولا معدوماً، بل ما ثم إيمان إلا مع المؤمنين، ولا ثم إنسانية إلا ما اتصف بها الإنسان، فكل إنسان له إنسانية تخصه، وكل مؤمن له إيمان يخصه، فإنسانية زيد تشبه إنسانية عمرو وليست هي هي، وإذا اشتركوا في أمر كلي مطلق يكون في الذهن. وكذلك إذا قيل: إيمان زيد مثل إيمان عمرو، فإيمان كل واحد يخصه، فلو قدر أن الإيمان يتماثل لكان لكل مؤمن إيمان يخصه، وذلك الإيمان مختص معين، ليس هو الإيمان من حيث هو هو بل هو إيمان معين وذلك الإيمان يقبل الزيادة. والذين ينفون التفاضل في هذه الأمور يتصورون في أنفسهم إيمانا مطلقا أو إنسانا مطلقا، أو وجوداً مطلقاً، مجرداً عن جميع الصفات المعينة له، ثم يظنون أن

_ (1) مجموع الفتاوى (7/513) .

هذا هو الإيمان الموجود في الناس، وذلك لا يقبل التفاضل ولا يقبل في نفسه التعدد؛ إذ هو تصور معين قائم في نفس متصوره. ولهذا يظن كثير من هؤلاء أن الأمور المشتركة في شيء واحد هي واحدة بالشخص المعين، حتى انتهى الأمر بطائفة من علمائهم علماً وعبادة إلى أن جعلوا الوجود كذلك، فتصورا أن الموجودات مشتركة في مسمى الوجود وتصوروا هذا في أنفسهم، فظنوه في الخارج كما هو في أنفسهم، ثم ظنوا أنه الله، فجعلوا الرب هو هذا الوجود الذي لا يوجد قط إلا في نفس متصورة، ولا يكون في الخارج. وهكذا كثير من الفلاسفة تصوروا أعداداً مجردة وحقائق مجردة، ويسمونها المثل الأفلاطونية، وزمانا مجرداً عن الحركة والمتحرك، وبعداً مجرداً عن الأجسام وصفاتها، ثم ظنوا وجود ذلك في الخارج. وهؤلاء كلهم اشتبه عليهم ما في الأذهان بما في الأعيان، وهؤلاء قد يجعلون الواحد اثنين، والاثنين واحداً، فتارة يجيئون إلى الأمور المتعددة المتفاضلة في الخارج فيجعلونها واحدة أو متماثلة، وتارة يجيئون إلى ما في الخارج من الحيوان والمكان والزمان فيجعلون الواحد اثنين. والمتفلسفة والجهمية وقعوا في هذا وهذا، فجاءوا إلى صفات الرب التي هي أنه عالم وقادر، فجعلوا هذه الصفة هي عين الأخرى، وجعلوا الصفة هي الموصوف. وهكذا القائلون بأن الإيمان شيء واحد وأنه متماثل في بني آدم، غلطوا في كونه واحداً، وفي كونه متماثلا، كما غلطوا في أمثال ذلك من مسائل التوحيد والصفات والقرآن ونحو ذلك، فكان غلط جهم وأتباعه في الإيمان كغلطهم في صفات الرب الذي يؤمن به المؤمنون، وفي كلامه وصفاته، سبحانه عما يقول الظالمون علواً كبيراً" (1) . وهذا الكلام النفيس على درجة من العلمية لو تأملها الفلاسفة والمناطقة (شرقيين وغربين، قدامى ومحدثين) ، وأصحاب وحدة الوجود، ومنكروا الصفات والمرجئة؛ لكانت كافية في إقامة الحجة على الجميع، فرحمه الله رحمة واسعة.

_ (1) ص38- 390

حكم ترك العمل في الطور النهائى للظاهرة

النتيجة: حكم ترك العمل في الطور النهائى للظاهرة زيادة عما نقلناه عن المرجئة في الفصول السابقة على سبيل التمثيل نذكر هنا نقولا عن أئمتهم ومتكلميهم تدل على ما استقر عليه مذهبهم في عصور متعاقبة من حكم ترك العمل وفصله عن الإيمان. ورغبة في الاختصار اقتصرت على ما يتعلق بدخول شهادة لا إله إلا الله في الإيمان - التي هي رأس كل عمل - فإن تصريحهم بنفي ذلك - أو مجرد اختلافهم في النطق - يغني عن ذكر شذوذهم في نفي العمل، لأن خروج العمل عن الماهية أولى بلا ريب، ولأن من أخرج الركن الأول من أركان الإسلام أو أجاز خروجه فهو لما بعده أضيع. يقول أبو منصور البغدادي (1) : " الطاعات عندنا أقسام: أعلاها يصير بها المطيع عند الله مؤمناً، ويكون عاقبته لأجلها الجنة إن مات عليه، وهي: معرفة أصول الدين فى العدل والتوحيد والوعد والوعيد والنبوات والكرامات، ومعرفة أركان شريعة الإسلام وبهذه المعرفة يخرج عن الكفر. والقسم الثاني: إظهار ما ذكرناه باللسان مرة واحدة، وبه يسلم من الجزية والقتال والسبي والاسترقاق، وبه تحل المناكحة، واستحلال الذبيحة، والموراثة، والدفن في مقابر المسلمين، والصلاة عليه وخلفه. والقسم الثالث: إقامة الفرائض واجتناب الكبائر، وبه يسلم من دخول النار ويصير مقبول الشهادة. والقسم الرابع منها: زيادة النوافل، وبها يكون له الزيادة في الكرامة والولاية ". قال: " والمعاصي أيضا قسمان:

_ (1) أحد أئمة الأشعرية المتقدمين، وهو صاحب " الفرق بين الفرق " و" أصول الدين " توفى 421 هـ.

قسم منها: كفر محض؛ كعقد القلب على ما ضاد القسم الأول من أقسام الطاعات، أو الشك فيها أو بعضها، ومن مات على ذلك كان مخلدا في النار. والقسم الثاني منها: ركوب الكبائر، أو ترك الفرائض من غير عذر، وذلك فسق تسقط به الشهادة، وفيه ما يوجب الحد أو القتل أو التعزير، وهو مع ذلك مؤمن إن صح له القسم الأول من الطاعات " (1) . فالطاعات عنده ثلاث مراتب: 1 - المعرفة 2 - الإقرار 3 - العمل. والمعاصى مرتبتان: 1 - ترك المعرفة. 2 - ترك العمل. ولم يذكر ترك الإقرار لأنه مجرد علامة لإجراء الأحكام الدنيوية كما بين في كلامه، ولذلك كان إظهاره مرة واحدة كافياً. فحقيقة الإيمان عنده هي المعرفة بأصول الدين معرفة قلبية، وحقيقة الكفر هي اعتقاد ضد تلك المعرفة بالقلب أيضا. وأما الإقرار - وهو قول كلمة الشهادة -، والعمل - الذي هو فعل المأمورات وترك المنهيات - فليسا من الإيمان ولا يكون تاركها كافرا، فإن كان تاركا للإقرار كان مؤمنا عند الله فحسب، وإن كان تاركا للعمل كان مؤمنا عند الله وفي أحكام الدنيا أيضا! هذه خلاصة كلامه. وهذا ظاهر الموافقة لمذهب جهم وبشر مع شيء من التفصيل، ولكن ليس هذا هو العجيب فإن اتباعهم لمذهب جهم مشهور معلوم، ولكن العجيب أن مذهبه فيه موافقة لمذهب الخوارج شعر أو لم يشعر، وذلك في قوله أن من اعتقد ما يضاد القسم الأول من أقسام الطاعات عنده - وهو (معرفة أصول الدين في العدل والتوحيد والوعد والوعيد والنبوات والكرامات ومعرفة أركان شريعة الإسلام) - كافر ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍. والذي أوقعه في ذلك هو القسمة العقلية التي لا مستند لها من النصوص، فهل يعتقد البغدادي أن من خالف الأشعرية في شيء من هذه العقائد

_ (1) انظر عن مذهبهم في التكفير: المواقف، ص 392، ص180، تحقيق: كمال الحوت، هذا مع أن أهل السنة

أو جهلها كافر؟ الواقع أن الاختلاف عندهم في تكفير أهل البدع قائم، وهم مضطربون في ذلك بما لا متسع لتفصيله (1) . والأكثر مخالفة لمذهب السلف هو اعتقاد تكفير من جهل شيئا من أركان الشريعة بإطلاق؛ فإن الإنسان قد يجهل حكماً هو عند غيره معلوم قطعي ويكون مع ذلك معذوراً.. على تفصيل ليس هذا موضعه. فالبغدادي - ولا ريب - قد جنح في مسألة المعرفة إلى الغلو لكنه سرعان ما تناقض فجنح في مسألة العمل إلى التفريط. فمع حكمه بأن من فاتته معرفة أحكام الشريعة كافر - بلا تفصيل - تجده يحكم بأن من لم يعمل شيئا منها من غير عذر مؤمن إن كان صحيح المعرفة - كما قال - ومن هنا نفهم أن تلك المعرفة المشروطة إنما هي إدراك مجرد، فلا تستلزم لذاتها امتثالا ولا عملا. والمهم أن هذه " التوفيقية " الواضحة التي انتهجها البغدادي بما فيها من تناقض وتذبذب ظلت هي منهج القوم المتبع ولا تزال، - لا سيما في موضوع ترك العمل - والنصوص الآتية هنا توضح ذلك: 2 - يقول التفتازاني (2) : ضمن كلام معقد طويل عن مسألة " النطق بالشهادة وحكمها ": ... " إن هاهنا مطلبين: الأول: أن الإقرار ليس جزءاً من الإيمان. والثاني: أنه (أي الإيمان) التصديق لا غير. أما الأول فلدلالة النصوص على أن محل الإيمان هو القلب (3) فلا يكون الإقرار الذي هو فعل اللسان داخلاً فيه.

_ (1) والجماعة لا يكفرون أهل البدع من أصحاب الصلاة إذا كانوا متأولين، ومن تجرد كلامه عن التأويل وكان مذهبه على سبيل المحادة والمعاندة للدين يكفر، لكنه قد يعامل معاملة المنافق ظاهراً، ولهم تفصيل يدل على أنهم أصحاب القسطاس المستقيم. (2) هو سعد الدين مسعود بن عمر، من أشهر أئمة الكلام المتأخرين، توفى 739 هـ. (3) انظر: فصل حقيقة عمل القلب الآتي، فهذه الدلالة عليهم لا لهم، فضلا عن النصوص الدالة على أن العمل من الإيمان ‍.

أما الثاني وهو أنه التصديق، لا سائر ما في القلب من المعرفة والقدرة والعفة والشجاعة ... !! فلوجوه: ... الأول: اتفاق الفريقين (1) على أنه ليس سوى التصديق. الثاني: أن الإيمان في اللغة التصديق ولم يعين في الشرع لمعنى آخر (2) . الثالث: أن النقل خلاف الأصل؛ فلا يصار إليه بلا دليل " (3) . والتفتازاني يقول هذا ترجحياً للقول بأن النطق إنما هو شرط لإجراء الأحكام الظاهرة الدنيوية، وليس جزءاً من الإيمان ولا شطراً له - كما كان عليه مذهب الحنفية - ويستدل لذلك بحديث: " يخرج من النار كان في قلبه ذرة من الإيمان "، وهو من النصوص التي أساءوا فهمها، واستدلوا بها في غير موضعها، وأخذوا ببعض مدلولاتها وتركوا البعض الآخر.. على ما سيأتي تفصيله (4) . وهو ينقل عن شرح المواقف " أن السجود للصنم بالاختيار يدل بظاهرة على أنه ليس بمصدق، ونحن نحكم بالظاهر؛ فلذلك حكمنا بعدم إيمانه، حتى لو علم أنه لم يسجد له على سبيل التعظيم واعتقاد الألوهية، بل سجد له وقلبه مطمئن بالإيمان.. لم يحكم بكفره فيما بينه وبين الله تعالى وإن أجرى عليه حكم الكافر في الظاهر " (5) 3 - وقال السنوسي (6) : " وأما الكافر فذكره لهذه الكلمة - أي كلمة الشهادة - واجب شرط في صحة إيمانه القلبي مع القدرة، وإن عجز عنها بعد حصول إيمانه القلبي لمفاجأة الموت ونحو ذلك سقط عنه الوجوب، وكان مؤمنا.

_ (1) يعني الفريقين المختلفين من الأشاعرة والماتريدية في النطق أهو شرط أم شطر؟ كما سيأتي في النقول اللاحقة، وبهذا يظهر ما في عبارته من خلل، فإنهما لو اتفقا ما كان خلاف. (2) هذا الوجه والذي بعده مما يستدل به المرجئة ويرددونه دائما، وهو من أكبر أخطائهم في الاستدلال، وقد أفاض شيخ الإسلام في بيان ذلك، راجع الإيمان، ص 110، 116 (3) شرح النسفية، ص 48. (4) ضمن مناقشة الشبهات النقلية. (5) ص 42، وانظر: المواقف، ص387، وهو مما كرروه في حواشيهم، راجع موضوع علاقة الظاهر بالباطن الآتي لترى سقوط هذه الافتراضات وتهافتها. (6) من مشاهير أئمتهم المتأخرين، توفي سنة 885 هـ.

هذا هو المشهور من مذاهب علماء أهل السنة (1) . وقيل: لا يصح الإيمان بدونها مطلقاً، ولا فرق بين المختار والعاجز، وقيل: يصح الإيمان بدونها مطلقا، وإن كان التارك لها اختياراً عاصياً، كما في حق المؤمن إذا نطق بها ولم ينو الوجوب ‍‍‍. ومنشأ هذه الأقوال الثلاثة: الخلاف في هذه الكلمة؛ هل هي شرط في صحة الإيمان، أو جزء منه، أو ليست بشرط فيه ولا جزء منه. والأول هو المختار ". وهنا قال شارح كلامه " الدسوقي ": " حاصل ما ذكره الشارح أن الأقوال فيه ثلاثة: فقيل: إن النطق بالشهادتين شرط في صحته خارج عن ماهيته. وقيل: إنه شطر أي جزء من حقيقة الإيمان، فالإيمان مجموع التصديق القلبي والنطق بالشهادتين. وقيل: ليس شرطا في صحته ولا جزءاً من مفهومه، بل هو شرط لإجراء الأحكام الدنيوية، وهو المعتمد ‍! وعليه فمن صدق بقلبه ولم ينطق بالشهادتين سواء كان قادراً على النطق أو عاجزاً عنه فهو مؤمن عند الله يدخل الجنة، وإن كانت لا تجري عليه الأحكام الدنيوية من غسل وصلاة عليه ودفن في مقابر المسلمين ولا ترثه ورثته المسلمون، فقول الشارح: هذا هو المشهور - أي وجوب النطق وأنه شرط - غير مسلم، بل هذا ضعيف " ". قوله: وقيل: لا يصح الإيمان بدونها مطلقاً؛ أي سواء كان قادراً على النطق أو كان عاجزاً. وهذا القول منكر ‍‍!! وليس مبنياً على القول بأن النطق شطر من الإيمان؛ لأن من قال بذلك شرط القدرة. وأما العاجز عن النطق لخرس ونحوه فيكفيه في صحة إيمانه عند الله التصديق القلبي " (2) .

_ (1) يعني الأشعرية والماتريدية. (2) حاشية أم البراهين، ص235.

4- ويقول صاحب المسايرة على المسامرة في ذكر الخلاف في الإيمان: وأقوال الناس: 1- " القول بأن مسمى الإيمان هو (1) التصديق فقط هو المختار عند جمهور الأشاعرة، وبه قال الماتريدي ". 2- "أن مسمى الإيمان: تصديق القلب والإقرار باللسان وعمل سائر الجوارح، فماهيته على هذا مركبة من أمور ثلاثة: إقرار باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالأركان، فمن أخل بشيء منها فهو كافر، وهذا قول الخوارج، ولذا كفروا بالذنب لانتفاء جزء الماهية " (2) . 3- " أن الإيمان: التصديق باللسان فقط، أي الإقرار بحقية ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يأتي بكلمتي الشهادة، وهذا هو قول الكرامية، قالوا: فإن طابق تصديق اللسان تصديق القلب فهو مؤمن ناج، وإلا فهو مؤمن مخلد في النار ". 4- " أن الإيمان: تصديق بالقلب واللسان ... ، وهو منقول عن أبي حنيفة ومشهور عن أصحابه وعن بعض المحققين من الأشاعرة ". وذكر أنهم فرقوا بين التصديق والإقرار بأن: " التصديق ركن لا يحتمل السقوط أصلاً، والإقرار قد يحتمله، وذلك في حق العاجز عن النطق والمكره" (3) ثم ذكر لهم دليلين: أ - أن هذا " هو الاحتياط بالنسبة إلى جعله شرطاً خارجاً عن حقيقة الإيمان ". ب - أن النصوص الدالة عليه من نحو قوله عليه الصلاة والسلام: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فمن قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقها وحسابه على الله " أخرجه الشيخان.

_ (1) في الأصل: هذا. (2) هكذا كالعادة في كثير من الأحيان يذكرون مذهب السلف ضمن كلام الخوارج، ولا يفرقون!! (3) تكرر كلامهم - وسيتكرر - عن الأخرس والعاجز عن النطق، ومعلوم أن كلا منهما لا يعجز عن العمل كالصلاة، فهل يعذرونه في تركها أم يقولون يصلي ولا يتشهد؟! هنا يظهر أن مذهبهم يقوم على معارضة الأصل الثابت بالاستثناء العارض، ولو صح هذا لكان القيام في الصلاة ليس ركناً لسقوطه عن العاجز، ولكان الواجب في الصوم هو الإطعام فقط؛ لأن بعض الناس لا يطيقه وما عليه إلا الإطعام ... وهكذا

قال: "ويجاب من طرف جمهور الأشاعرة عن الحديث بأن معناه أن قول لا إله إلا الله شرط لإجراء أحكام الإسلام، حيث رتب فيه على القول الكف عن الدم والمال، لا النجاة في الآخرة الذي هو محل النزاع " (1) . قال:" على أن من محققي الحنفية من وافق الأشاعرة كما نبه عليه المصنف بقوله: " (إلا قول صاحب العمدة) هو كما مر أبو البركات عبد الله بن محمد بن محمود النسفي، (منهم) أى من الحنفية: (الإيمان: التصديق، فمن صدق الرسول) صلى الله عليه وسلم، (فيما جاء به) عن الله فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى، والإقرار شرط إجراء الأحكام، (هو) أي قول صاحب العمدة، (بعينه القول المختار عند الاشاعرة) تبع فيه صاحب العمدة أبا منصور الماتريدي " (2) . أي فالحنفية " المرجئة الفقهاء " فريقان: 1 - فريق وافق الأشاعرة؛ وهم الماتريدي الذي ينتسب إليه من جاء بعده منهم. 2 - فريق ظل عل المذهب القديم - ولو شكلاً - حيث أوله بعضهم بما يوافق مذهب الأشاعرة. ومذهب الفريق الأول هو الذي ساد أخيرا. 5 - ويجمع الشعراني أقوال كثير منهم في موضع واحد: حيث ينقل في كتابه " اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر " أن السبكي أورد سؤالا وهو " أنه هل التلفظ بالإيمان الذي هو الشهادة شرط للإيمان أو شطر منه؟ فيه تردد للعلماء " (3) . قال الشعراني: "قال الجلال المحلي: وكلام الغزالي يقتضي أنه ليس بشرط ولا شطر وإنما هو واجب من واجباته " (4) . " قال الكمال في حاشية جمع الجوامع: وإيضاح ذلك أن يقال في التلفظ هل هو شرط لإجراء أحكام المؤمنين في الدنيا من التوارث والمناكحة

_ (1) أي إن مجرد التصديق بالقلب كاف في النجاة في الآخرة، وإن كانت أحكام الدنيا مرتبة على النطق!! هذا مع أن الحديث حجة على كلا الفريقين، ونص في صحة مذهب السلف. (2) ص 174- 178 (3) هذا كلام السبكي الابن وهو جزء من كلام طويل في الطبقات (1/87- 138) ، لعل شيئا منه يأتي فيما بعد. (4) سيأتي نص كلامه قريبا.

وغيرهما فيكون غير داخل في مسمى الإيمان، أو شطر منه أو جزء من مسماه؟ قال: والذي عليه جمهور المحققين الأول، وعليه فمن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه مع تمكنه من الإقرار كان مؤمناً عند الله تعالى. قال: وهذا أوفق باللغة والعرف!! وذهب شمس الأئمة السرخسي وفخر الإسلام البزدوي من الحنفية، وكثير من الفقهاء إلى الثاني. وألزمهم القائلون بالأول بأن من صدق بقلبه فاخترمته المنية قبل اتساع وقت الإقرار كان كافراً (1) ، وهو خلاف الإجماع على ما نقله الإمام الرازي وغيره " (2) 6 - وقال البيجورى فى شرح الجوهرة شرحا لقوله: وفسر الإيمان بالتصديق ... ... والنطق فيه الخلف بالتحقيق فقيل شرط كالعمل وقيل بل ... ... شطر والإسلام اشرحن بالعمل " قوله: والنطق فيه الخلف: أى والنطق بالشهادتين للمتمكن منه، وخرج بالمتمكن - الذى هو القادر - الأخرس فلا يطالب بالنطق، كمن اخترمته المنية قبل النطق من غير تراخ، فهو مؤمن عند الله، حتى على القول بأن النطق شرط صحة أو شطر، بخلاف من تمكن وفرط. وموضوع هذا الخلاف كافر أصلي يريد الدخول فى الإسلام، وأما أولاد المسلمين فمؤمنون قطعا، وتجرى عليهم الأحكام الدنيوية ولو لم ينطقوا بالشهادتين طول عمرهم ".

_ (1) هذه من الشبه الخيالية التي لو جاز وقوعها وصح حكمها لما كان حكمها نقضاً للقاعدة، بل مجرد استثناء منها، فكيف وهي محض خيال، وسيأتي البيان ضمن رد الشبهات النقلية. (2) ص107 من الجزء الثاني. .

قال: " وقوله شرط: أى خارج عن ماهيته، وهذا القول لمحققي الأشاعرة والماتريدية ولغيرهم. وقد فهم الجمهور أن مرادهم أنه شرط لإجراء أحكام المؤمنين عليهم من التوارث والتناكح والصلاة خلفه وعليه والدفن فى مقابر المسلمين ومطالبته بالصلوات والزكوات وغير ذلك، لأن التصديق القلبى - وإن كان إيمانا - (1) إلا أنه باطن خفى، فلا بد له من علامة ظاهرة تدل عليه لتناط - أي تعلق - به تلك الأحكام، فمن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه لا لعذر منعه ولا لإباء، بل اتفق له ذلك، فهو مؤمن عند الله غير مؤمن فى الأحكام الدنيوية ". "ومحل كونه مؤمنا فى الأحكام الدنيوية ما لم يطلع على كفره بعلامة كالسجود لصنم، وإلا جرت عليه أحكام الكفر ". قال: " وفهم الأقل أن مرادهم أنه شرط لصحة الإيمان، وهذا القول كالشطرية فى الحكم، وإنما الخلاف بينهما فى العبارة، والقول الأول هو الراجح، والنصوص بحسب المتبادر منها مقوية للقول بالشرطية دون الشطرية". قال: " قوله وقيل بل شطر: أى وقال قوم محققون كالإمام أبى حنيفة وجماعة من الأشاعرة: ليس الإقرار بالشهادتين شرطا بل هو شطر، فيكون الإيمان عند هؤلاء اسما لعملي القلب واللسان جميعا، وهما التصديق والإقرار. واعترض على هذا القول بأن الإيمان يوجد فى المعذور كالأخرس، والشىء لا يوجد بدون شطره. وأجيب عن ذلك بأنه ركن يحتمل السقوط كما فيمن ذكر، وأما التصديق فإنه ركن لا يحتمل السقوط. وعلى هذا القول - كالقول بأنه شرط صحة - فمن صدق بقلبه ولم يتفق له الإقرار فى عمره لا مرة ولا أكثر من مرة، مع القدرة على ذلك، لا يكون مؤمنا عندنا ولا عند الله تعالى".

_ (1) الأصل أن يقول: "وإن كان هو الإيمان " وإلا فقد تناقض، لأنه يرجح القول بالشرطية لا الشطرية.

قال: " وكل من القولين المذكورين ضعيف، والمعتمد أنه شرط لإجراء الأحكام الدنيوية فقط، وإلا فهو مؤمن عند الله كما مر " (1) . ويقول ملا على القارئ الحنفي: " الإقرار شرط إجراء الأحكام وهو مختار الأشاعرة ". ثم قال: " وذهب جمهور المحققين إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب، وإنما الإقرار شرط لإجراء الأحكام في الدنيا، لما أن تصديق القلب أمر باطني لا بد له من علامة، فمن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه فهو مؤمن عند الله تعالى، وإن لم يكن مؤمنا فى أحكام الدنيا. ومن أقر بلسانه ولم يصدق بقلبه كالمنافق، فهو بالعكس، وهذا اختيار الشيخ أبى منصور الماتريدى رحمه الله" (2) . 8 - ويقول اللقاني الشارح: " وفسر الإيمان - أى حده - الأشاعرة والماتريدية وغيرهم بالتصديق المعهود شرعا، وهو تصديق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فى كل ما علم مجيئه به من الدين بالضرورة، بحيث يعلمه العامة من غير افتقار إلى نظر واستدلال (3) . فلو لم يصدق بوجوب الصلاة ونحوها عند السؤال عنه يكون كافرا. والمراد من تصديقه صلى الله عليه وسلم قبول ما جاء به مع الرضا، بترك التكبر والعناد وبناء الأعمال عليه، لا مجرد وقوع نسبة الصدق إليه فى القلب من غير إذعان وقبول له، حتى يلزم (4) الحكم بإيمان كثير من الكفار الذين كانوا عالمين بحقيقة نبوته عليه الصلاة والسلام وما جاء به، لأنهم لم يكونوا أذعنوا لذلك ولا قبلوه ولا بنوا الأعمال الصالحة عليه.. ". قال: " ولما اختلف العلماء فى جهة مدخلية النطق بالشهادتين فى حقيقة الإيمان أشار له بقوله: (والنطق) بالشهادتين للمتمكن منه القادر، بأن يقول:

_ (1) ص39- 40. (2) شرح الفقه الأكبر، ص86. (3) وما كان أخفى من ذلك ففى أى شئ يدخل الإنسان إن لم يدخل فى الإيمان؟! (4) 3 كذا، والصواب حتى لا يلزم.

أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ... وقولنا: للمتمكن منه القادر يخرج به الأخرس، فلا يطالب بالنطق، كمن اخترمته المنية قبل النطق به من غير تراخ". " (فيه) أى فى جهة اعتبار مدخليته فى الإيمان، (الخلف) أى الاختلاف متلبسا، (بالتحقيق) أى بالأدلة القائمة على دعوى كل من الفريقين ". " وفصل الخلاف بقوله: (فقيل) أي: فقال محققوا الأشاعرة والماتريدية وغيرهم: النطق من القادر (شرط) فى إجراء أحكام المؤمنين الدنيوية عليه، لأن التصديق القلبى وإن كان إيمانا إلا أنه باطن خفى، فلا بد له من علامة ظاهرة تدل عليه لتناط به تلك الأحكام، هذا فهم الجمهور. وعليه فمن دق بقلبه ولم يقر بلسانه لا لعذر منعه ولا لإباء بل اتفق له ذلك، فهو مؤمن عند الله مؤمن فى أحكام الشرع الدنيوية. ومن أقر بلسانه ولم يصدق بقلبه - كالمنافق - فبالعكس حتى نطلع على باطنه فنحكم بكفره. أما الآبى فكافر فى الدارين، والمعذور مؤمن فيهما. وقيل: "إنه شرط فى صحة الإيمان (1) ، وهو فهم الأقل، والنصوص معاضدة لهذا المذهب، كقوله تعالى: «أولئك كتب فى قلوبهم الإيمان» وقوله عليه الصلاة والسلام: " اللهم ثبت قلبى على دينك ". ثم استمر فى الشرح قائلا: " وقوله: (كالعمل) تشبيه فى مطلق الشرطية، يعني أن المختار عند أهل السنة (2) في الأعمال الصالحة أنها شرط كمال للإيمان، فالتارك لها أو لبعضها من غير استحلال ولا عناد ولا شك في مشروعيتها مؤمن فوت على نفسه الكمال، والآتى بها ممتثلا محصل لأكمل الخصال ". ثم استدل الشارح على ذلك بوجوه فقال: 1 - " لأن الإيمان هو التصديق فقط، ولا دليل على نقله ".

_ (1) أى ليس مجرد إجراء الأحكام الدنيوية. (2) يقصد الأشاعرة والماتريدية.

2 - وللنصوص الدالة على الأوامر والنواهي بعد إثبات الإيمان، كقوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام» ، وعلى أن الإيمان والأعمال يتفارقان، كقوله تعالى: «الذين آمنوا وعملوا الصالحات» ، وعلى أن الإيمان والمعاصي قد يجتمعان، كقوله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ» . 3 - " وللإجماع على أن الإيمان شرط العبادات، والشرط مغاير للمشروط " (1) . ثم شرع فى شرح القول الثانى: " (وقيل) أي وقال قوم محققون كالإمام أبى حنيفة وجماعة من الأشاعرة: ليس الإقرار شرطا خارجا عن حقيقة الإيمان، (بل) هو (شطر) أي: جزء منهما وركن داخل فيها دون سائر الأعمال الصالحة (2) ، فالإيمان عندهم اسم لعملي القلب واللسان جميعا، وهما الإقرار والتصديق الجازم الذي ليس معه احتمال نقيض بالفعل ". " وعلى هذا فمن صدق بقلبه ولم يتفق له الإقرار فى عمره ولا مرة - مع القدرة على ذلك - لا يكون مؤمنا (3) ولا عند الله تعالى، ولا يستحق دخول الجنة ولا النجاة من الخلود فى النار، بخلافه على القول الأول ". قال: " فعلم من النظم قولان: أحدهما: أن الإيمان هو التصديق، والنطق شرط لإجراء الأحكام الدنيوية على صاحبه - أو لصحته. والثاني: أن الإيمان هو التصديق والنطق، فالنطق شطر. وعلى هذين القولين العمل غير النطق شطر كمال. ومقابله يجعل مجموع العمل الصالح والنطق هو الإيمان " (4)

_ (1) مذهب السلف أن العلاقة بين الإيمان والعمل علاقة تركيب كما سيأتى فى فصل "الإيمان حقيقة مركبة" الآتى، وليست علاقة شرطية كما يذكر هؤلاء. (2) لماذا؟ (3) لعل هنا سقطا هو "لا فى أحكام الدنيا". (4) شرح جوهرة التوحيد ص 47- 57، مع تحقيق محيى الدين عبد الحميد والمقصود من قوله: "مقابله" مذهب السلف ومن وافقهم.

وزاد ذلك إيضاحا حين شرح قول الناظم: (والإسلام اشرحن بالعمل) ، فقال: " والإسلام اشرحن حقيقته بالعمل الصالح، أعنى امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، والمراد الإذعان لتلك الإحكام وعدم ردها، سواء عملها أو لم يعملها " (1) !! وشرح قوله فى أركان الإسلام: مثال هذا الحج والصلاة كذا الصيام فادر والزكاة " والمراد أذهان المذكورات وتسليمها، وعدم مقابلتها بالرد والاستكبار" (2) . وبهذا يظهر للقارئ فى كلامه وجوه من التناقض يطول شرحها وتفصيلها. وإن مما يظهر هذا التناقض وينفي احتمال الخطأ في فهم كلامه ما شرحه به المحقق محمد محيى الدين عبد الحميد، وها هي ذى نصوص منه: قال فى بداية كلامه، بعد أن ذكر المذاهب في الإيمان ومنها مذهب السلف: " والذي تطمئن إليه النفس من هذه المذاهب أن الإيمان هو التصديق وحده، كما ذهب إليه محققو الأشاعرة والماتريدية، ويؤيد هذا المذهب وجوه: * أحدها: - وقد أشار إليه الشارع - أن استعمال القرآن الكريم في عدة آيات واستعمال الحديث أيضا، جريا على أن محل الإيمان هو القلب. قال الله تعالى: «أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ» . وقال سبحانه: «وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ» . وقل جل ذكره: «إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ» . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم ثبت قلبي على دينك "، فدلت هذه النصوص ونظائرها على أن الإيمان فعل القلب، وليس فعل القلب إلا التصديق (3) .

_ (1) المصدر نفسه ص 60. (2) المصدر نفسه ص 61. (3) سيأتى الرد الكامل عليهم فى هذه المسألة المهمة فى الفصول الآتية، وخاصة نماذج من أعمال القلوب.

ولا يجوز لقائل أن يقول: أن المراد فى هذه النصوص بالإيمان هو الإيمان اللغوي، ويسلم أن الإيمان اللغوي هو التصديق وحده ومحله القلب، فلا ينافى أن الإيمان الشرعي يشتمل على الإقرار أو غيره على أنه جزء من حقيقته، لأنا نقول: إن الإيمان من الألفاظ التي نقلت في عرف الشرع إلى معنى، فيجب أن يحمل لفظه على هذا المعنى فى خطاب الشرع. الوجه الثاني: أنه سبحانه جعل الإيمان شرطا لصحة الأعمال فى نحو قوله جل ذكره: «ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن» . ونحن نقطع أن الشرط شيء غير المشروط، وهذا يصلح للرد على من جعل الإيمان هو الطاعات وحدها أو مع التصديق والإقرار. الوجه الثالث: أنه سبحانه وتعالى أثبت الإيمان لمن ترك بعض الأعمال، فى نحو قوله سبحانه: «وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا» الآية، ولو كانت الأعمال جزء من حقيقة الإيمان لانتفت الحقيقة بانتفاء جزء منها (1) . الوجه الرابع: أنه سبحانه وتعالى قد عطف الأعمال على الإيمان فى كثير من الآيات، منها قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا» . ولا شك أن الأصل أن يكون المعطوف غير المعطوف عليه، فلا يعطف أحد المتساويين على الآخر، ولا يعطف جزء الشيء على كله؟! " قال: " وقد أورد القائلون بأن الطاعات من الإيمان وجوها استدلوا بها، نرى أن نذكرها لك أيضا ونبين ما في الاستدلال بها من خلل لتكون على بصيرة تامة في هذه المسألة.

_ (1) هناك فرق واضح بين من ترك بعض الإعمال ومن ترك جنس العمل بالكلية، وسيأتى تفصيل الرد كما أن الفرق واضح بين انتقاء الإيمان ونقصه.

قالوا: لو كان الإيمان عبارة عن التصديق الذي هو الإذعان والقبول والاعتراف لما اختلف في بعض المكلفين عنه فى بعضهم الآخر، مع أنا نعتقد أن إيمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس مثله إيمان أحد من العامة، بل ولا من الخاصة. ويجاب على هذا بأحد جوابين: الأول: أن ندعى أنه لا اختلاف بين إيمان أحد وأحد، وليس لنا إلا إيمان أو كفر، فإن بلغ ما عند المكلف إلى حد الجزم الذي لا يعتريه شك ولا تردد فهو مؤمن، وإن نقص عن ذلك فهو كافر. والثاني: أن نسلم الاختلاف بين إيمان بعض المكلفين وبعضهم الآخر، ولكن لا نسلم أن هذا الاختلاف بسبب أن أعمال بعض المكلفين أكثر أو أشد إخلاصا أو نحو ذلك، بل سبب الاختلاف راجع إلى التصديق لا باعتبار ذاته بل باعتبار متعلقة، فقد يعلم بعض المكلفين تفصيل شئ مما يجب الإيمان به أكثر مما يعلمه آخر، أو سبب الاختلاف هو أن بعض المكلفين تعتريه الغفلة أحيانا وبعضهم لا تعتريه الغفلة أصلا، أو غير ذلك من الأسباب " (1) . وقال فى شرح الوجوه التي استدل بها الشارح وهى: أن الإيمان هو التصديق فقط، ولا دليل على نقله. وللنصوص الدالة على الأوامر والنواهى بعد إثبات. قال: 1 - " محصله - أي الوجة الأول - أن الإيمان هو التصديق القلبى، بدليل أن نصوص القرآن والحديث قد جعلت محله القلب، وليس لنا أن ندعى أنه نقل من هذا المعنى إلى مجموع التصديق والعمل كما يقول المحدثون وجمهور المعتزلة، فإنه لا دليل على هذا النقل، وأيضا ليس لنا أن ندعى أن الإيمان فى هذه النصوص لا يراد به الإيمان عند الشرع وإنما يراد به الإيمان اللغوى: لأن لفظ الإيمان قد نقلته الشريعة من مطلق التصديق إلى التصديق بكل ما علم مجىء الرسول صلى الله عليه وسلم به، إذ يجب في نصوص الشريعة أن تحمل الألفاظ على معانيها الشرعية التي

_ (1) إتحاف المريد، ص50

نقلت إليها، ومتى علم كل هذا كان الإيمان الوارد في النصوص دالا على معنى شرعي، وهذا المعنى هو التصديق المخصوص دون شئ زائد عليه ". 2 - " محصل هذا الوجه (1) من الاستدلال على أن العمل ليس جزءا من الإيمان أن الله تعالى جعلهم مؤمنين قبل أن يكتب عليهم الصيام، فلو كان العمل جزءا من حقيقة الإيمان، والصيام بعض العمل، لما كانوا مؤمنين إلا بعد القيام بكل الإعمال التي منها الصوم. وقد قيل من طرف المخالفين: أنه سبحانه وتعالى سماهم مؤمنين بالنظر إلى الأعمال التي شرعت قبل الصوم، وهو كلام غير مقبول، لأن الأعمال المأخوذة فى مفهوم الإيمان عندهم هى كل الأعمال التي شرعها الله تعالى، فإذا خرج واحد منها خرج كلها: إذ لا فرق بين عمل وعمل " (2) . هذا الكلام الذي قرره المعلق هنا والذي سيأتي نقضه جملة - بإذن الله - هو ما ظل يقرره ويدرسه لطلاب كلية أصول الدين بالأزهر سنوات طويلة!! وننتقل من محمد محيى الدين عبد الحميد إلى داعية ومؤلف معاصر، سار على الخط نفسه مع زيادة فى الغموض والاضطراب. يقول بعنوان: " مفهوم الإيمان والإسلام شرعا ": " يهمنا أن ندرك معنى الإيمان والإسلام والارتباط بينهما، فالإيمان هو: التصديق الجازم بكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وثبت ثبوتا قطعيا، وعلم مجيئه من الدين بالضرورة: كالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم لآخر، والقضاء والقدر، خيره وشره. وكالإيمان بفريضة الصلاة والزكاة والصيام والحج، والإيمان بتحريم القتل ظلما للنفس المعصومة، وتحريم الزنا والربا وغيرها. والإيمان بهذا المعنى محله القلب، والإسلام بالمعنى الآتى لازم له. أما الإسلام فمعناه الإذعان والخضوع النفسى والاطمئنان القلبى، والشعور بالرضى بالنسبة لكل ما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم من دين، وعلم مجيئه عنه بالضرورة، أي

_ (1) أى الوجه الثانى. (2) إتحاف المريد ص 55.

بدون احتياج إلى سؤال أو كشف وبحث لشهرته بين المسلمين، ويلاحظ أن الإسلام بالمعنى المذكور هو حالة نفسية وقلبية مثل الإيمان، والفرق بينهما أن الإيمان تصديق جازم بما سبق، وأن الإسلام رضاء فلبى، وعدم اعتراض على أي تشريع شرعه الله تعالى وعلم بالضرورة. وأنت قد تصدق بوجود شئ ولا ترضاه، وكم سمعنا من يقول: أنا أؤمن بأن الإسلام فرض الصلاة والزكاة، لكنى غير مقتنع بهما ولا بالحكم المترتبة عليهما. فهذا الاعتراض يجعله غير مسلم، لأن عنصر الخضوع والإذعان غير متوفر، وهذا يجعلنا نشك فى إيمانه، لأنه لو صدق بالله وبحكمته وعلمه ورحمته لأسلم نفسه ورضى كل ما ارتضاه الله، لذلك قلنا: إن الإيمان الصادق يلزم منه الإسلام بالمعنى السابق ". " ... بقى العمل بالتشريعات الإسلامية، مثل: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وجميع الفرائض، والبعد عما حرم الله ونهى عنه. هل لا بد من تنفيذ الفرائض الإسلامية وترك المحرمات مع الإذعان السابق ليصير المرء مسلما أم يكفى الإذعان فى إطلاق اسم الإسلام على الإنسان؟! هما رأيان للعلماء، فالجمهور على أن تنفيذ أوامر الإسلام والعمل بما جاء به ليس شرطا ولا ركنا في جواز إطلاق اسم الإسلام على الإنسان، وبعض العلماء يرى أن العمل وتنفيذ أوامر الإسلام وأركانه شرط فى صحة الإسلام، أو ركن من أركانه، فمن أسلم وأذعن بقلبه ولم يعمل الأعمال الإسلامية مثل الصلاة وغيرها فليس بمسلم. وعلى الرأي القائل بأن من أذعن بقلبه ولم يعمل أعمال الإسلام فهو مسلم - وهو رأي الجمهور - فإن هذا الإنسان عند القائلين بهذا الرأى يعتبر فاسقا وعاصيا فيطلقون عليه اسم: المسلم الفاسق، والمسلم العاصى، والمسلم المذنب، وتقام عليه حدود الإسلام التي شرعها الإسلام زجرا وتأديبا لمن ترك فرضا أو فعل منكرا، فافهم ذلك جيدا. وهذا المسلم الفاسق أمره إلى الله فى الآخرة: إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه بجريمته، ولكن مآله الجنة، إن كان قد مات على الإيمان والإسلام، وهذا هو رأي أهل السنة، قال تعالى: «إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء» [النساء: 116] .

والإسلام بهذا المعنى محله ظاهر الإنسان وباطنه، لأن الإذعان بالدين والرضى به أمر باطنى، والخضوع لأحكامه أمر ظاهرى، وعلى هذا فالإسلام أعم من الإيمان، والإيمان باطنى فقط، والإسلام ظاهري وباطني. ونحن نحكم على الناس بالإسلام حين يكونون مذعنين ظاهرا لأحكام الله غير رافضين لها، بمعنى أن أعمالهم وأقوالهم وتصرفاتهم لا تدل على رفضها وعدم الإذعان لها، أما بواطنهم فلا يعلمها إلا الله تعالى الذى لا تخفى عليه خافية، ولذلك فضح الله تعالى أناسا أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر فى قوله تعالى: «قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ» [الحجرات:14] ثم قال ملخصا: " وحسبما فهمت من معنى الإيمان والإسلام ندرك أن بين الإيمان والإسلام - حسب الحقيقة الشرعية المنجية - تلازما مقتضاه أن كل مؤمن مسلم، وكل مسلم مؤمن، لأن المصدق التصديق المذكور للرسول صلى الله عليه وسلم لا بد من أن يكون خاضعا لما جاء به عليه السلام، والخاضع هذا الخضوع لا بد من أن يكون مصدقا هذا التصديق " " ولذلك ذكر الإيمان والإسلام فى القران بمعنى واحد فى قوله تعالى: «فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (*) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» [الذارات: 35 - 36] . ثم قال المؤلف بعنوان: حكم النطق بالشهادتين: " الشهادتين هما: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله) والنطق بهما شرط إجراء الأحكام الدنيوية على المسلم: مثل تزويجه المسلمة، والصلاة خلفه، والصلاة عليه إذا مات ودفنه فى مقابر المسلمين، فإذا لم ينطق لعذر كالخرس، أو لم يتمكن من النطق بهما بأن مات عقب إيمانه بقلبه فهو ناج عند الله تعالى.

أما إذا استطاع النطق ووجد وقتا ولم ينطق بالشهادتين، فإن كان عدم النطق عنادا فهو كفر ولا عبرة بالتصديق القلبى، أما إذا كان عدم النطق لخوفه من الهلاك فالإيمان صحيح لقوله تعالى: «إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ» [النحل 106] . أما من لم ينطق بالشهادتين لغير سبب من الأسباب، لكنه مصدق بقلبه ومطمئن إلى دين الله وأحكامه، فالقول الراجح أنه ناج عند الله، وإن كان لا يعامل معاملة المسلمين لعدم العلم بإيمانه وعدم الدليل عليه، وهذا كله فيمن يريد الدخول في الإسلام، أما أولاد المؤمنين فهم مؤمنون، وإن لم يحصل منهم نطق بالشهادتين إلا إذا ظهر منهم ما يتنافى مع الإيمان " (1) . ويقول مؤلف معاصر أخر: " فالإسلام إذن: استسلام بالكيان الظاهرى للإنسان يتوقف عليه جريان أحكام الإسلام فى الدنيا: من إحراز للدم وحل للمناكحة وشرعية التوارث. أما الإيمان: فهو التصديق القلبى بكل ذلك، بحيث لا يبقى أى شك فى النفس يتعلق بشىء مما ذكرناه من حقائق الإسلام، ويتوقف عليه النجاة يوم القيامة بين يدى الله عز وجل. ويتضح من ذلك أن الإنسان لا تجرى عليه أحكام الإسلام فى كل من الدنيا والآخرة معا إلا إذا اتصف بكل من الإسلام والإيمان، وذلك بأن يذعن بقلبه ويعترف بلسانه. ومهما نطق الإنسان بالشهادتين فإن ذلك لا يعنيه فى الحقيقة شيئا ما لم يصدق ويذعن بذلك فى قرارة قلبه، وإنما تجرى أحكام الدنيا على الظاهر فقط لعدم إمكان اطلاعنا على الباطن، وحملا للسان على محمل الصدق فى الكلام. إلا أنه وقع الخلاف بين الأمة إذا كان الرجل مؤمنا بقلبه فقط، هل ينجيه ذلك يوم القيامة أم يكتفى منه بذلك حتى يقر ويعترف بلسانه أيضا. نقل النووي عن جمع من العلماء أن اليقين القلبى وحده لا يكفى للنجاة يوم القيامة إذا كان بالإمكان الإقرار والتلفظ باللسان.

_ (1) تبسيط العقائد الإسلامية، الشيخ حسن أيوب ص 29- 33

ورجح ابن حجر في شرحه على الأربعين النووية ما ذهب إليه جمهور الأشاعرة وبعض محققي الحنفية من أن الإقرار باللسان إنما هو شرط لإجراء أحكام الدنيا فقط، أما يوم القيامة فيكفيه اليقين القلبي " (1) !! وهكذا يتفق قدماء القوم ومعاصروهم على هذا الأصل الخطير الذي سوف نوضح مخالفته التامة للحق في الباب الآتي.

_ (1) محمد سعيد رمضان البوطى، كبرى اليقينيات، ص 195 - 196 والمؤسف للغاية أن بعض علماء الحديث المعاصرين الملتزمين بمنهج السلف الصالح قد تبعوا هؤلاء المرجئة فى القول بأن الأعمال شرط كمال فقط، ونسبوا ذلك إلى أهل السنة والجماعة، كما فعل أولئك الذين ذكرنا بعضهم أعلاه، ولا أدرى كيف يوافقون هؤلاء فى هذه المسألة العظيمة من مسائل العقيدة التي جاء بيانها فى الكتاب والسنة وإجماع السلف - كما تقدم - وتظافرت عبارات السلف على ذم من خالف فيها ووصفه بالبدعة والضلال - كما أسلفنا - وهم من ذلك ينفرون منه أشد النفور، بل ربما حرصوا على مخالفتهم فى أمور أهون من هذه بكثير، بل ليست من مسائل الاعتقاد أصلا، وإذا كان مثل هذا يغتفر للعالم المجتهد الكبير ويضيع فى بحر حسناته وفضائله، فإن لا يغتفر للذين يقلدونه فى ذلك طلبه العلم، هدانى الله وإياهم للصواب. أنظر: رسالة حكم تارك الصلاة المنسوبة للشيخ الألبانى ص 42.

الباب الرابع: علاقة الإيمان بالعمل والظاهر بالباطن

الباب الرابع: علاقة الإيمان بالعمل والظاهر بالباطن ويشتمل على: • العلاقة بين إيمان القلب وإيمان الجوارح • علاقة قول اللسان بقول القلب وعمله • أهمية عمل القلب • إثبات عمل القلب • نماذج من أعمال القلوب • أثر الجوارح في أعمال القلب

العلاقة بين إيمان القلب وإيمان الجوارح

العلاقة بين إيمان القلب وإيمان الجوارح إن العلاقة بين إيمان القلب وإيمان الجوارح لمن أهم قضايا الإيمان، ومن عدم فهمها دخل الضلال على المرجئة بل على أكثر المسلمين، حين ظنوا أنه يمكن أن يكون إنسان كامل الإيمان فى القلب مع عدم عمل الجوارح مطلقا. كما ظنوا أن تماثل الناس فى أعمال الجوارح يقتضى تماثل إيمانهم وأجورهم، ولم يدركوا أنه بحسب علاقة عمل الجارحة بعمل القلب يكون الحكم على العمل والثواب عليه، فقد يتفق العملان فى المظهر والأداء، وبينهما مثل ما بين السماء والأرض فى الدرجة والأجر. وأساس فهم هذه القضية أن نعلم حقيقة الترابط بين أجزاء الإيمان على ضوء مذهب السلف. فقد قررنا أن الإيمان قول وعمل وأن ذلك يشمل القلب والجوارح معا، وتفصيل ذلك يتضح بهذا الشكل المبسط: القول إقرار القلب وتصديقه ... ... ... ... إقرار اللسان وتصديقه || الإيمان المجمل ... ... ... ... شهادة أن لا إله إلا الله العمل انقياد القلب وإذعانه ... ... ... ... انقياد الجوارح وامتثالها || بتحقيق أعمال القلوب ... ... ... ... بفعل الأوامر وترك النواهي

فهذان الركنان - القول والعمل - أو الأربعة الأجزاء - قول القلب وعمله وقول اللسان وعمل الجوارح - يتركب منهما هيئة مجتمعة أو حقيقة جامعة لأمور، هذه الهيئة والحقيقة هي "الإيمان الشرعي" كما أن حقيقة الإنسان مركبة من الجسد والروح أو العقل والوجدان، وكما أن الشجرة تتركب من الجذور الضاربة فى الأرض والساق والأغصان الظاهرة. ومما يوضح ذلك تشبيه تركيب الإيمان بالتركيب الكيميائى: مثلما يتركب الملح مثلا من الكلور والصوديوم أو يتركب جزيء الماء من ذرتى هيدروجين وذرة أكسجين بحيث لو انتفى التركيب لانتفت الحقيقة مطلقا وتحولت الأجزاء إلى أشياء مختلفة تماما (1) . ولكن لا يقف التركيب عند هذا الحد، بل يجب أن نضيف إليه أن هذه الأجزاء أو الهيئة المركبة تتكون تفصيلا من بضع وسبعين شعبة، وكل شعبة منها قابلة للتفاوت بين أعلى درجات الكمال وأدنى درجات النقص أو الاضمحلال والعدم. وبهذا نفهم اندراج كل الأعمال والطاعات فرضا أو نفلا فى مسمى الإيمان المطلق ودخولها فى حقيقته الجامعة، كما يظهر تفاوت الناس فى الإيمان ودرجاته، ومن أظهر الأدلة على هذا التركيب والامتزاج أنه قد وردت النصوص بتسمية الإيمان عملا وتسمية العمل إيمانا: فأما تسمية الأعمال إيمانا فنصوص كثيرة جدا، حتى أن البخارى رحمه الله عقد فى كتاب الإيمان من الصحيح تراجم كثيرة لذلك: مثل (باب الجهاد من الإيمان، باب تطوع قيام رمضان من الإيمان، باب صوم رمضان من الإيمان، باب الصلاة من الإيمان، باب اتباع الجنائز من الإيمان ... ) ونحو ذلك، وأورد فى ذلك الأحاديث الصحيحة التي شاركه فى إخراجها كتب السنة الأخرى. وأما تسميه الإيمان عملا فقد عقد أيضا له (باب من قال أن الإيمان هو العمل، لقوله تعالى: «وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون» .

_ (1) وسنبسط القول في هذا الباب الأخير

وقال عدة من أهل العلم فى قوله تعالى: «فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (*) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ» : عن قول لا إله الله. وقال: «لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ» . ثم روى البخاري بسنده عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل: أي العمل فضل؟ فقال " إيمان بالله ورسوله " قيل: ثم ماذا؟ قال: " الجهاد فى سبيل الله "، قيل: ثم ماذا؟ قال:"حج مبرور" (1) . وهذا الحديث رواه الإمام أحمد عن عبيد الله بين أسلم مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) وعن عبد الله بن حبشى الخثعمى (3) ورواه أو داود الطيالسى عن أبى هريرة (4) أيضا ورواه غيرهم عن أبى ذر (5) . ومن ذلك قوله تعالى: «وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ» [سبأ: 37] . فقوله: بما عملوا يشمل إيمانهم بقلوبهم وأعمالهم الصالحة بجوارحهم المذكورين قبل. وهذا ما فهمه السلف الصالح وأجمعوا على معناه - كما سبق في فصل حقيقة الإيمان الشرعية -، قال الوليد بن مسلم: " سمعت الأوزاعي ومالك بن أنس وسعيد ابن عبد العزيز ينكرون قول من يقول: إن الإيمان قول بلا عمل. ويقولون: لا إيمان إلا بعمل ولا عمل إلا بإيمان " (6) .

_ (1) الفتح 1: 77 (2) المسند 4: 342 (3) 3:412 (4) برقم 2518ص329 (5) انظر.. سلسلة الأحاديث الصحيحة (1490) (6) اللالكائي: 848

وقد سبق إيراد قول الإمام الأوزعي رحمه الله: " كان من مضى من سلفنا لا يفرقون بين الإيمان والعمل، العمل من الإيمان والإيمان من العمل، وإنما الإيمان اسم يجمع كما يجمع هذه الأديان اسمها، ويصدقه العمل "، وقول الشافعي رحمه الله: " وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدركناهم يقولون: الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزئ أحد الثلاثة إلا بالآخر " (1) . ولنوضح ذلك بمثالين: أحدهما من أعمال الجوارح والأخر من أعمال القلوب، يظهر في كل منها حقيقة العلاقة التلازمية وحقيقة التفاوت: 1 - الصلاة: وهي من أعمال الجوارح، وقد ورد تسميتها إيمانا في القران، قال تعالي: «وما كان الله ليضيع إيمانكم» أي صلاتكم إلى بيت المقدس (2) ، وهي بلا ريب أعظم شعب الإيمان العملية الظاهرة بعد الشهادتين، فلو تأملنا لوجدنا أنها تشمل أجزاء الإيمان الأربعة، وهي قول القلب: وهو إقراره وتصديقه بوجوبها، وعمل القلب: وهو الانقياد والإذعان بالإرادة الجازمة وتحريك الجوارح لفعلها والنية حال أدائها، وعمل اللسان: وهو القراءة والأذكار الواردة فيها، وعمل الجوارح: وهو القيام والركوع والسجود وغيرها. 2 - الحياء: وهو عمل قلبي، وقد صح تسميته إيمانا في حديث الشعب وغيره، ومع ذلك فلا يمكن تصور وجوده في القلب إلا بظهور أثره على اللسان والجوارح، وبمقدار حياء الجوارح يقاس حياء القلب. وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة، منها في الأفعال قصة الثلاثة الذين دخلوا علي النبي صلي الله عليه وسلم وهو في الحلقة، فدخل أحدهم فيها وأعرض الثالث، وأما الأوسط فتردد ثم جلس خلفهم، فقال عنه النبي صلي الله عليه وسلم " وأما الآخر فاستحيا، فاستحيا

_ (1) ص188 وانظر جامع العلوم والحكم (1 / 57) والإيمان لابن تيمية ص280 ومبحث الإيمان حقيقة مركبة الآتي. (2) انظر الفتح (1/95) كما ورد تسميتها إيمانا في حديث وفد عبد الفيس السابق وغيره، ومع ذلك أخرج المرجئة الصلاة من الإيمان وأولو الآية بأن المراد ليس صلاتكم بل التصديق بها، انظر المواقف ص 386

الله منه " (1) ، أي إنما منعه من الذهاب حياؤه، فشهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالحياء بناء على فعله، فلو ذهب لقال فيه ما قال فيمن ذهب. وأما الحياء في القول، فمنه قول علي رضي الله عنه: " كنت رجلا مذاء، فاستحييت إن أسال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرت المقداد بن الأسود فسأله ... " (2) ، فما في قلب علي رضي الله عنه من الحياء منعه من السؤال بنفسه، وهذا مما يعلمه كل إنسان في نفسه، أي متي يستحي وممن يستحي بحسب ما في قلبه. ثم يأتي بعد هذا مسألة التفاوت في الصلاة والتفاوت في الحياء، فصلاة يقترن بها الخشوع وحضور القلب وحسن الأداء لا تكون كأخرى منقورة نقر الغراب، وكذلك حياء مقرون به زيادة التقوى وحسن السمت وورع اللسان لا يكون كحياء رجل ليس لديه إلا ما يمسكه عما يفعله أو يقوله من لا حياء له. ومثل هذا التفاوت هو الواقع في الإيمان كله بحسب كمال الشعب جميعها أو كمال بعضها دون بعض أو فقدان بعضها بالكلية. هذا في الأفعال، والحال في التروك كذلك، فلنمثل لها أيضا بمثالين: 1 - ترك الزنا: وهو عمل الجارحة، وهو من الإيمان بدليل نفي الشارع الإيمان عمن فعله، وهو يشمل قول القلب، أي الإقرار بحرمته وتصديق الشارع في ذلك؛ وعمل القلب، وهو الانقياد والإذعان بالكره والنفور والإرادة الجازمة لامساك الجوارح عنه؛ وعمل الجوارح، وهو الكف عن فعله ومقدماته. فمن ارتكب هذه الفاحشة بجوارحه فإن عمل قلبه مفقود بلا شك - خاصة حين الفعل -، لأن الإرادة الجازمة على الترك يستحيل معها وقوع الفعل، فمن هنا نفى الشارع عنه الإيمان تلك اللحظة " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن "، لكن وجود قول القلب عنده منع من الحكم بخروجه من الإيمان كله خلافا للخوارج، فلو أظهر ما يدل على انتفاء إيمان القلب واستحلاله له لكان خارجا من الملة عند أهل السنة والجماعة، أما مجرد الفعل فإنما يدل على انتفاء عمل القلب لا قوله.

_ (1) الفتح (1 / 156) (2) الموضع السابق

2 - ترك الحسد: وهو من أعمال القلب، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجتمع والإيمان في قلب (1) ، فلا يتصور خلو القلب من الحسد مع وجود آثاره ودلائله على الجوارح، كما لا يستطيع أحد أن يدعي أن فلانا حسود مع عجزه عن الإتيان بدليل ظاهر من عمله. وقد أخبرنا الله تعالى عن أخوة يوسف وما صنعوا بأخيهم حسدا له على مكانته من أبيه، ومن المحال أن يصدر منهم هذا مع خلو قلوبهم من الحسد، إذ إن أعمال الجوارح إنما هي تنفيذ وتحقيق لإرادة القلب الجازمة، فوجودها في الحالة السوية - أي حالة عدم الإكراه ونحوه - يقطع بوجود أصلها القلبي. وهذا بخلاف اتهام المنافقين للصحابة رضي الله عنهم، الذي أخبر الله عنه بقوله «فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا» [الفتح: 15] ، لأن المنافقين ادعوا أن مانع المؤمنين من استصحابهم إياهم إلى المغانم هو الحسد، وهي تهمة لم يأتوا عليها بدليل إلا المنع نفسه، والله تعالى أمر المؤمنين أن يقولوا لهم: «لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ» . فهذا سبب المنع، فإذا اتهمهم أولئك بعد هذا بالحسد لم يكن لهذا الاتهام موقع. والمقصود أنه مع عدم حصول أي دليل أو إشارة للحسد في أعمال أي إنسان لا يصح ولا يقبل من أحد أن يدعي أن قلبه مملوء حسدا، وهذا يعرفه الناس جميعا - المرجئة وغيرهم - في سائر أعمال القلوب، لكن المرجئة تناقض هذا فيما هو أعظم وأهم، فتزعم أنه يمكن أن يكون القلب مملوءا بالإيمان ولا يظهر من ذلك على الجوارح شيء ‍‍‍‍! بل تزعم وجوده في القلب مع أن أعمال الجوارح كلها بخلافه، في حين أنها لا تصدق أن إنسانا سليم القلب من الحسد إذا كانت أعماله كلها دالة عليه.

_ (1) رواه النسائي (6 / 12) وهو صحيح.

نعم، أعمال القلوب هي الأصل وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " التقوى هاهنا "، وقال: " إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، إلا وهي القلب ". ونحو ذلك مما سبق أو سيأتى من النصوص. ولهذا تحصل حالة شاذة خفية، وهي أن يضعف إيمان القلب ضعفا لا يبقي معه قدرة على تحريك الجوارح لعمل خير، مثله مثل المريض الفاقد الحركة والإحساس، إلا أن في قلبه نبضا لا يستطيع الأطباء معه الحكم بوفاته مع أنه ميئوس من شفائه، فهو ظاهرا في حكم الميت وباطنا لديه هذا القدر الضئيل من الحياة الذي لا حركة معه، وهذه هي حالة الجهنميين الذين يخرجهم الله من النار مع أنهم لم يعملوا خيرا قط، وسيأتى تفصيل الحديث عن هذه الحالة (1) ، وإنما أشرت إليها هنا ليسلم لنا تصور الأصل، حتى إذا تم إيضاحه عرجنا على الحالات الشاذة. ولقد وصل الشذوذ بالمرجئة الغالية - كالأشاعرة ومن حذا حذوهم - إلى حد القول بأن لا إله إلا الله باللسان ليس شرطا في الإيمان عندهم، بل قالوا: يكفي حصول الإيمان في القلب لنجاة صاحبه عند الله، وأما أحكام الدنيا فإنما جعلت الشهادتان أمارة على ما في القلب لنحكم على قائلها بالإيمان، وهذا هو الغاية من الشهادتين عندهم، وليس لهم على هذا من شبهة إلا شبهة أن الإيمان محله كله القلب، وأن ما يظهر على الجوارح مجرد أمارات وثمرات - على ما سبق تفصيله في بابه - وافترضوا تبعا لذلك من المسائل التي تحيلها العقول الشيء الكثير. فالقوم لما خفيت عليهم حقيقة الإيمان الجامعة وترابط أجزائه المحكم وقعوا في هذه الغلطة الكبرى، التي كان لانتشارها من الآثار المدمرة في الأمة الإسلامية ما تنوء بشرحه المجلدات، وحسبك ما وقعت فيه الأمة من شرك أكبر - قديما وحديثا - وهي تحسب أنها في ذروة الإيمان، لأن القلب مصدق للرسول واللسان ناطق بأن لا إله إلا الله!! ومن هنا كان لزاما علينا إيضاح الدلائل القاطعة لأهل السنة والجماعة على أن للقلب أعمالا سوى التصديق ينخرم الإيمان بانخرامها، وقبل ذلك نبين أهمية قول:

_ (1) في مبحث الشبهات النقلية من الباب الأخير.

لا إله إلا الله، وعلاقة سائر الأقوال المتعبد بها بإيمان القلب، تلك العلاقة التي هي علاقة امتزاج وتركيب، ولهذا لم يوجد في مذهب أهل السنة أبدا استخدام عبارة " مؤمن باطنا، كافر ظاهرا "، ولا إمكان وجود ذلك.

علاقة قول اللسان بقول القلب وعمله

علاقة قول اللسان بقول القلب وعمله سبق تقرير القول أن الإيمان عند المرجئة مثله مثل أية نظرية فلسفية أو مقولة ذهنية متى بلغت إنسانا فصدق بها حصل المطلوب، فإذا زاد على ذلك بأن أخبر بلسانه عما في قلبه فقال: " صدقت أو أقررت "، فقد تم المراد ظاهرا وباطنا. ومن ثم اعتقدوا إن قول: لا إله إلا الله، إنما هو إخبار عما في القلب من تصديق - إذ لا يثبتون من أعمال القلب سوى التصديق - فمتى تلفظ بها عندهم فقد أصبح مؤمنا باطنا وظاهرا، بخلاف ما لو امتنع عن قولها، فإنه عند من يكفره منهم كافر ظاهرا مع جواز كونه مؤمنا باطنا، وكذلك متى ارتكب فعلا مكفرا قالوا: يكفر ظاهرا فقط (1) ، وأما من ورد الوحي بنفي الإيمان عنه لارتكابه فعلا مكفرا " كإبليس "، أو امتناعه عن الشهادتين " كاليهود " فقالوا: هذا ليس في قلبه تصديق أصلا. وفي هذا القول من المغالطات والمكابرة ما لا يخفى، والمراد هنا بيان غلطتهم في اعتبار قول: لا إله إلا الله، إخبار مجرد. وذلك أنه إذا تقرر أن المطلوب من القلب ليس مجرد التصديق بل هو أعمال عظيمة - نذكر طرفا منها عما قليل - فإن قول اللسان لا يبقى خبرا مجردا، بل يصبح إنشاء للالتزام وإعلانا له (2) ، ومن ثم كان لا بد أن يصدق العمل ذلك الالتزام أو يكذبه. وإنما حصل الإخبار المجرد من بعض أحبار اليهود ومن بعض كفار قريش، حيث ثبت إقرارهم برسالة النبي صلى الله عليه وسلم إخبارا عما في نفوسهم من اعتقاد صدقه في كل ما يقول، ولم يثبت لهم ذلك إسلاما قط.

_ (1) والمؤسف أن كثيرا من الدعاة والكتاب المعاصرين على هذا المذهب، حتى بعض من ينسب نفسه لمذهب السلف!! (2) وهو إنشاء متضمن للإخبار، الإيمان الأوسط ص 102

ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد عن صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى النبي (أو إلى هذا النبي) حتى نسأله عن هذه الآية «وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ» ، فقال: لا تقل نبي، فإنه إن سمعك صارت له أربعة أعين! فسألاه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تشركوا بالله ولا تسرقوا ولا تزنوا ... " الحديث. إلى إن قال: فقبلا يديه ورجليه، وقالا: نشهد انك نبي، قال: "فما يمنعكما إن تتبعاني؟ " قالا: إن داود عليه السلام دعا ألا يزال من ذريته نبي، وإنا نخشى إن أسلمنا إن تقتلنا يهود (1) . قال شيخ الإسلام في معرض رده علي المرجئة: " وأيضا فقد جاء نفر من اليهود إلى النبي فقالوا: نشهد انك رسول، ولم يكونوا مسلمين بذلك، لأنهم قالوا ذلك علي سبيل الإخبار عما في أنفسهم، أي نعلم ونجزم انك رسول الله، قال:" فلم لا تتبعوني؟ " قالوا: نخاف من اليهود، فعلم إن مجرد العلم والإخبار - أي عن العلم - ليس بإيمان حتى يتكلم بالإيمان على وجه الإنشاء المتضمن للالتزام والانقياد، مع تضمن ذلك الإخبار عما في أنفسهم " (2) وإنما " اتفق المسلمين على أنه من لم يأت بالشهادتين فهو كافر" (3) وأن " من صدق بقلبه ولم يتكلم بلسانه فإنه لا يعلق به شىء من أحكام الإيمان لا فى الدنيا ولا فى الآخرة، ولا يدخل فى خطاب الله لعباده بقوله «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» لأنه من حيث البديهة والعقل نعلم " أن من آمن بقلبه إيمانا جازما امتنع ألا يتكلم بالشهادتين مع القدرة، فعدم الشهادتين مع القدرة مستلزم انتفاء الإيمان القلبي التام " (4) . ويقول شيخ الإسلام فى بيان هذه العلاقة: " ونظير هذا لو قيل: أن رجلا من أهل السنة قيل له ترض عن أبى بكر وعمر، فامتنع عن ذلك حتى قتل مع محبته لهما واعتقاد فضلهما، ومع عدم الأعذار المانعة من الترضى عنهما فهذا لا يقع قط،

_ (1) المسند (4/239) ، وذكر في الخصائص (1/278) انه أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه والبيهقي وآبو نعيم، ورواه الطبري (15/172) ، وأما استشكال الحافظ ابن كثير لمتنه كما في (5/124) فله جوابه، ولا يقدح في مرادنا هنا منه، وهو اقوي في الدلالة مما رواه مسلم عن ثوبان رقم (315) ، لان ذلك الخبر قال في أوله: " اسمع بإذنى "، فصرح بعدم إيمانه. (2) الإيمان ص 135 (3) الإيمان ص287 (4) الإيمان الأوسط ص 95

وكذلك لو قيل: أن رجلا يشهد أن محمدا رسول الله باطنا وظاهرا، وقد طلب منه ذلك، وليس هناك رهبة ولا رغبة يمتنع لأجلها، فامتنع منها حتى قتل، فهذا يمتنع أن يكون فى الباطن يشهد أن محمدا رسول الله، ولهذا كان القول الظاهر من الإيمان الذى لا نجاة للعبد إلا به عند عامة السلف والخلف من الأولين والآخرين إلا الجهمية - جهما ومن وافقه - (وهم الأشاعرة كما ذكر قبل ذلك فى أول الفصل) . وقال: (فأما الشهادتان إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين، وهو كافر باطنا وظاهرا عند سلف الأمة وأئمتها وجماهير علمائها، وذهبت طائفة من المرجئة - وهم جهمية المرجئة كجهم والصالحي واتباعهما - (وهم من ذكرنا) إلى أنه إذا كان مصدقا بقلبه كان كافرا فى الظاهر دون الباطن، وقد تقدم أن الإيمان الباطن يستلزم الإقرار الظاهر بل وغيره، وأن وجود الإيمان الباطن تصديقا وحبا بدون الإقرار الظاهر ممتنع " (1) فإذا تبين أن قول: لا إله إلا الله إنشاء للالتزام بقول القلب وعمله وتحقيقهما، فلنوضح هذه القضية المهمة قائلين: إن القلب: هو متعلق التوحيد الخبري الاعتقادى وعمل القلب: وهو متعلق التوحيد الطلبي الإرادي. فإن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر يتضمن توحيد الأسماء والصفات، وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فى كل ما أخبر عن ربه من الكتب وما فيها، والملائكة وأعمالهم وصفاتهم، والنبيين ودعوتهم وأخبارهم، وأحوال البرزخ والآخرة، والمقادير وسائر المغيبات. فالإقرار بهذا والتصديق به مجملا أو مفصلا هو قول القلب، وهو التوحيد الخبرى الاعتقادى. وعمل القلب - الذى سيأتى تفصيل طرف منه فى البحث التالى - يتضمن توحيد الله عز وجل بعبادته وحده حبا وخوفا ورجاء ورغبة ورهبة وإنابة وتوكلا

_ (1) الإيمان الأوسط ص 151

وخشوعا واستعانة ودعاء وإجلالا وتعظيما وانقيادا، وتسليما لأمره الكونى وأمره الشرعى، ورضا بحكمه القدرى والشرعى، وسائر أنواع العبادة التي صرفها لغير الله شرك (1) . وهذان هما نوعا التوحيد الذى جاءت به الرسل وأنزل الله به الكتب، وشهادة أن لا إله إلا الله - التي هى رأس الأعمال وأول واجب على العبد - إنما هى إنشاء للالتزام بهذين النوعين ومن ثم سميت كلمة التوحيد، ومن هنا كان أجهل الناس بالتوحيد من ظن أن المطلوب بقول: لا إله إلا الله هو التلفظ بها باللسان فقط. وقد سبق فى فصل " حقيقة النفس الإنسانية " ما يدل على أن كل عمل من أعمال الإنسان الظاهرة - على اللسان أو الجوارح - لا بد أن يكون تعبيرا عما فى القلب وتحقيقا له ومظهرا لإرادته وإلا كان صاحبه منافقا النفاق الشرعى أو العرفى وأخص من ذلك العبادات، فكل عبادة قولية وفعلية لا بد أن يقترن بها من عمل القلب وما يفرق بينها وبين أفعال الجمادات أو الحركات اللاإرادية أو أفعال المنافقين. فما بالك برأس العبادات وأعظمها، بل أعظم شئ فى الوجود، الذى يرجح بالسموات والأرض وعامرهن غير الله تعالى: وهى شهادة أن لا إله إلا الله؟! ولهذا يتفاوت قائلوا هذه الكلمة تفاوتا عظيما بحسب تفاوت ما فى قلوبهم من التوحيد. فلولا تفاوت أقوال القلوب وأعمالها - ولو أن المراد من كلمة الشهادة هو نطقها - لما كان لموحد فضل على موحد ولما كان لصاحب البطاقة - الآتى حديثه - فضل على سواه من قائليها، ولما كان لقائلها باللسان فضل عن قائلها بالقلب واللسان، ولما كان لمن قالها من خيار الصحابة السابقين فضل عن من قالها يتعوذ بها من السيف فى المعركة. وانظر إلى هذا الحوار بين العزيز الحكيم وبين عبده موسى الكليم، حيث (قال موسى: يا رب علمنى شيئا أذكرك وأدعوك به، قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله، قال كل عبادك يقولون هذا!!! - زاد في رواية: إنما أريد أن تخصني به

_ (1) كما يتضمن عمل القلب أعمالا دون ذلك مما افترضها الله وجعلها من واجبات الإيمان، كمحبة المؤمنين والنصح لهم، والتواضع، والشفقة، واجتناب الكبر والحسد، ونحو ذلك.

قال: يا موسى، لو أن السموات السبع - وعامرهن غيرى - والأرضون السبع فى كفة، ولا إله إلا الله فى كفه مالت بهن لا إله إلا الله " (1) فكل المسلمين يقولون (لا إله إلا الله) ، ولكن ما قائل كقائل، لأن ما فى القلوب يتفاوت مثل تفاوت السماوات والأرض، والذرة التي لا تكاد ترى. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: " اعلم أن أشعة (لا إله إلا الله) تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدرة قوة الشعاع وضعفه، فلها نور، وتفاوت أهلها فى ذلك النور قوة وضعفا لا يحصيه إلا الله تعالى، فمن الناس: نور هذه الكلمة فى قلبه كالشمس، ومنهم: من نورها فى قلبه كالكوكب الدرى، ومنهم: من نورها فى قلبه كالمشعل العظيم، وأخر: كالسراج المضىء، وأخر كالسراج الضعيف. ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار، بحسب ما فى قلوبهم من نور هذه الكلمة، علما وعملا، ومعرفة وحالا. وكلما عظم نور هذه الكلمة واشتد أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته، حتى إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف معها شبهة ولا شهوة ولا ذنبا إلا أحرقه، وهذا حال الصادق فى توحيده الذى لم يشرك بالله شيئا فأي ذنب أو شهوة أو شبهة دنت من هذا النور أحرقها، فسماء إيمانه قد حرست بالنجوم من كل سارق لحسناته فلا ينال منها السارق إلا على غرة وغفلة لا بد منها للبشر، فإذا استيقظ وعلم ما سرق منه استنفذه من سارقه، أو حصل أضعافه بكسبه، فهو هكذا أبدا من لصوص الجن والإنس، ليس كمن فتح لهم خزانته وولى الباب ظهره ". " وليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه لا خالق إلا الله، وأن الله رب كل شىء ومليكه - كما كان عباد الأصنام مقرين بذلك وهم مشركون، بل التوحيد يتضمن من محبة الله، والخضوع له، والذل له وكمال الانقياد لطاعته، واخلاص العبادة له، وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال، والمنع، والعطاء، والحب، والبغض - ما يحول بين صاحبه وبين الأسباب الداعية إلى المعاصى والإصرار عليها، ومن عرف هذا عرف قول النبى صلى الله عليه وسلم: " إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله " وما جاء من

_ (1) فى سنده رجل ضعيف عند أبن حبان رقم (2324) ، لكن روى الإمام أحمد بسند صحيح ما يشهد له من حديث نوح عليه السلام وأبنه، المسند (2/169) .

هذا الضرب من الأحاديث التي أشكلت على كثير من الناس، حتى ظنها بعضهم على نار المشركين والكفار، وأول بعضهم الدخول بالخلود وقال: المعنى لا يدخلها خالدا، ونحو ذلك من التأويلات المستكرهة ". " والشارع - صلوات الله وسلامه عليه - لم يجعل ذلك حاصلا بمجرد قول اللسان فقط، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم، وهم تحت الجاحدين لها فى الدرك الأسفل من النار، فلا بد من قول القلب وقول اللسان. وقول القلب: يتضمن معرفتها، والتصديق بها، ومعرفة حقيقة ما تضمنه من النفى والإثبات، ومعرفة حقيقة الإلهية المنفية عن غير الله، المختصة به، التي يستحيل ثبوتها لغيره، وقيام هذا المعنى بالقلب، علما ومعرفة ويقينا وحالا - ما يوجب تحريم قائلها على النار، وكل قول رتب الشارع ما رتب عليه من الثواب، فإنما هو القول التام - كقوله صلى الله عليه وسلم: " من قال فى يوم: سبحان الله وبحمده مائه مرة خطت عنه خطاياه - أو غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر " وليس هذا مرتبا على مجرد اللسان. نعم من قالها بلسانه، غافلا عن معناها، معرضا عن تدبرها، ولم يواطئ قلبه لسانه، ولا عرف قدرها وحقيقتها، راجيا من ذلك ثوابها حطت من خطاياه بحسب ما فى قلبه، فتكون صورة العملين واحدة، وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض، والرجلان يكون مقامهما فى الصف واحدا وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض. وتأمل حديث البطاقة التي توضع فى كفة، ويقابلها تسعة وتسعون سجلا، كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات، فلا يعذب. ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار بذنوبه، ولكن السر الذى ثقل بطاقة ذلك الرجل، وطاشت لأجله السجلات، لما لم يحصل لغيره من أرباب البطاقات انفردت بطاقته بالثقل والرزانة. وإذا أردت زيادة الإيضاح لهذا المعنى فانظر إلى ذكر من قلبه ملآن بمحبتك، وذكر من هو معوض عنك غافل ساه، مشغول بغيرك، قد انجذبت دواعي

قلبه إلى محبه غيرك وإيثاره عليك، وهل يكون ذكرهما واحدا؟ أم هل يكون ولداك اللذان هما بهذه المثابة، أو عبداك، أو زوجتاك، عندك سواء؟ وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية، وحملته - وهو في تلك الحال - على أن جعل ينوء بصدره ويعالج سكرات الموت. فهذا أمر أخر، وإيمان أخر. ولا جرم أن ألحق بالقرية الصالحة وجعل من أهلها. وقريب من هذا: ما قام بقلب البغي التي رأت ذلك الكلب وقد اشتد به العطش يأكل الثرى، فقام بقلبها ذلك الوقت - مع عدم الآلة، وعدم المعين، وعدم من ترائيه بعملها - ما حملها على أن غررت بنفسها في نزول البئر، وملء الماء فى خفها، ولم تعبأ بتعرضها للتلف، وحملها خفها بفيها وهو ملآن، وحتى أمكنها الرقى من البئر، ثم تواضعها لهذا المخلوق الذى جرت عادة الناس بضربه، فأمسكت له الخف بيدها حتى شرب، ومن غير أن ترجو منه جزاء ولا شكورا، فأحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء، فغفر لها. فهكذا الأعمال والعمال عند الله، والغافل في غفلة من هذا الإكسير الكيماوي، الذي إذا وضع منه مثقال ذرة على قناطير من نحاس الأعمال قلبها ذهبا والله المستعان" (1) وقد فصل شيخ الإسلام معنى الإقرار والشهادتين واستلزام ذلك للعمل والانقياد بكلام نفيس سنورده - أو بعضه - في مبحث التولي عن الطاعة - بإذن الله - من الباب الخامس (2) . أهمية عمل القلب القلب هو موضع الإيمان الأصلي، وإيمانه أهم أجزاء الإيمان، ومن هنا كان قوله وعمله هو أصل الإيمان الذي لا يوجد بدونه مهما عملت الجوارح من الإيمان، ولا خلاف بين عقلاء بنى آدم في أن كل حركة بالجارحة لا تكون إلا بإدارة قلبية، وإلا فهي من تصرفات المجانين أو حركات المضطرين فاقدي الإرادة.

_ (1) مدارج السالكين. (2) وذلك في الصارم المسلول ص 518 - 522

فالقلب - كما سبق في فصل حقيقة النفس الإنسانية - ليس ملك الأعضاء فحسب، بل هو أعظم من ذلك، إذ هو مصدر توجيهها ومنبع عملها وأساس خيرها وشرها، فإذا كانت إدارته إيمانية كانت الأفعال العضوية إيمانا، وإذا كانت إدارته إدارة كفر ونفاق أو عصيان كانت تلك مثلها. والنصوص في ذلك كثيرة. منها: 1 - يقول الله تعالى في حق من حققوا الولاء والبراء: «أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ» [المجادلة:22] 2 - ويقول: «وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ» [الحجرات:7] 3 - ويقول فى حق الأعراب: «وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ» [الحجرات:14] 4 - ويقول: «وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ» [آل عمران:154] وغير ذلك كالآيات الدالة على الطبع والختم على قلوب الكافرين أو كونها فى أكنه أو مغلقة - ونحوها. وكل آية ورد فيها قوله: «بِذَاتِ الصُّدُورِ» (1) . ومن السنة يقول النبى صلى الله عليه وسلم: "التقوى هاهنا" وأشار إلى صدره ثلاث مرات (2) . ويقول: " ألا إن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب. ويقول - كما روى الإمام أحمد فى المسند -: " الإسلام علانية، والإيمان فى القلب " وأشار إلى صدره ثلاث مرات قائلا: " التقوى هاهنا، التقوى هاهنا " (3) . ويقول: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " (4) .

_ (1) وهى كثيرة، وتدل على ارتباط أعمال القلب بأعمال الجوارح، لأنها كثيرا ما ترد فى أعمال الجوارح. (2) رواه مسلم رقم 2564 (3) 3/135) وهو حديث حسن (4) المسند عن انس (3/112.257) وهو صحيح.

فهذه النصوص تدل على أن القلب هو الأصل، وأن إيمانه هو جزء الإيمان الأساس الذى يقوم عليه الجزء الظاهر ويتفرع منه، ويرتبط به ارتباط العلة بالمعلول، بل ارتباط أجزاء الحقيقة الواحدة الجامعة، ومن هنا لم يسم المنافق مؤمنا قط وإن كثر عمل جوارحه بالجهاد والصلاة. بل المؤمن المجاهد إذا نوى بجهاده طلب الدنيا أو الرياء حبط عمله وتبدلت المثوبة فى حقه عقوبة وعذابا، وهذا ما يدل على أهمية عمل القلب، وقد سبق تفصيل لذلك فى فصل حقيقة النفس الإنسانية. ومن العجيب أن المرجئة استدلت ببعض الأدلة السابقة على إن الإيمان هو مجرد التصديق القلبى، وأن أعمال الجوارح - بل بقية أعمال القلب - ليست من الإيمان، فهذا هو ذا "الإيجي" في "المواقف" يذكر مذهب أصحابه الأشاعرة: وهو أنه التصديق، ومذهب الماتريدية، وهو أنه التصديق مع الكلمتين، ويذكر "مذهب السلف وأصحاب الأثر: أنه مجموع هذه الثلاثة، فهو تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان ". ثم يقول فى الانتصار لمذهبه: " لنا وجوه (1) : الأول: الآيات الدالة على محلية القلب للإيمان نحو: «أولئك كتب في قلوبهم الإيمان» ، «ولما يدخل الإيمان في قلوبكم» ، «وقلبه مطمئن بالإيمان» . ومنه الآيات الدالة على الختم على القلوب، ويؤيده دعاء النبى صلى الله عليه وسلم: " اللهم ثبت قلبي على دينك" وقوله لأسامة - وقد قتل من قال لا إله إلا الله -: "هلا شققت عن قلبه" (2) . والرد عليهم واضح، فإن النصوص الدالة على الجزء الباطن من الإيمان لا تنفى وجود الجزء الظاهر - لا سيما ولهذا الجزء نصوص مماثلة - وغاية ما فيها بيان أن إيمان القلب هو الأصل والأساس لإيمان الجوارح كما تقدم.

_ (1) انظر إلى تصريحه بمذهب السلف وأصحاب الأثر ثم تصريحه بمخالفه أصحابه، ومع هذا يزعم معاصروهم أنهم أهل السنة والجماعة أو منهم!! (2) ص 385، ثم ذكر وجهين آخرين الرد عليهما واضح، وسيأتى فى بابه.

ثانيا: من جهة ثانية هذه النصوص لا تدل على التصديق بل على أمر زائد عنه، فما كتبه الله في قلوب المعادين لأعدائه وما زينه فى قلوب المؤمنين وما نفى دخوله فى قلوب الأعراب وهكذا، ليس هو التصديق المجرد كما يحسبون وإنما هو أعمال قلبية كالمحبة والرضا واليقين ونحوها. ثالثا: ومن جهة ثالثة يرد عليهم بأن من تأمل هذه النصوص التي أوردها صاحب المواقف يجد أنها تدل على إيمان الجوارح بنوع من أنواع الدلالة، وأن الإيمان المذكور فى بعضها ليس هو الإيمان العام المقابل لكلمة "الكفر" والمرادف لكلمة "الدين"، بل هو الإيمان الخاص المقابل لكلمة "الإسلام" إذا اجتمعا، أي على النحو الذى دل عليه الحديث السابق: "الإسلام علانية والإيمان فى القلب" ولا مجال للبسط أكثر من هذا. ومن أفسد الأصول التي بناها المرجئة على هذا الاعتقاد - أي انحصار الإيمان فى التصديق القلبي وحده - أنهم حصروا الكفر فى التكذيب القلبي أيضا، حتى أنهم لم يعتبروا الأعمال الكفرية الصريحة كالسجود للصنم، وإهانة المصحف، وسب الرسول صلى الله عليه وسلم إلا دلالات على انتقاء التصديق القلبى، وليست مكفرة بذاتها (1) . وكذلك لهذه العقيدة أثار عميقة المدى على الأمة، بل هى فى عصرنا هذا أساس للضلال والتخبط الواقع فى مسألة التكفير، ومنها نشأ التوسع فى استخدام " شرط الاستحلال " حتى اشترطوا فى أعمال الكفر الصريحة، كإهانة المصحف، وسب الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلغاء شريعة الله، فقالوا: لا يكفر فاعلها إلا إذا كان مستحلا بقلبه!! واشترط بعضهم مساءلة المرتد قبل الحكم عليه، فإن أقر أنه يعتقد أن فعله كفر، وإن قال أنه مصدق بقلبه ويعتقد أن الإسلام أفضل مما هو عليه من الردة لم يكفروه (2) !!

_ (1) وهذا من الأصول الثابتة فى مذاهب الأشاعرة قديما وحديثا، انظلا مثلا: المواقف ص 388، وبراءة الأشعريين (1/149) ، ومن أعظم الرد عليهم أن الأشعرى نفسه فى المقالات (1/132،133،141) ذكر هذه الأقوال نفسها عن فرق المرجئة: كالجهمية والصالحية والمريسية وهذا يدل على صحة ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيميه مرارا، وما استنتجناه من بحثنا هذا، وهو أن الأشاعرة على مذهب جهم والصالحى وإن غيروا قليلا. (2) وغرضهم هو التثبيت فى إطلاق الكفر - بزعمهم - وهذا إلى أفعال الحمقى اقرب منه إلى أفعال المثبتين، وإلا فهل يذهب عاقل إلى طاغوت محارب للشريعة أو إلى زعيم حزب شيوعى فيسأله هل يعتقد أن الإسلام أفضل؟؟!!

وهذه جزء من قضايا كبرى لا يسعنا تفصيل الحديث عنها هنا، والغرض هنا التنبيه عن أن أصلها العميق هو عدم إدراك العلاقة بين عمل القلب وعمل الجوارح. إثبات عمل القلب لما كان إيمان القلب من الأهمية بالدرجة التي عرضنا طرفا منها، كان لا بد أن يكون حظ الحديث عنه من الذكر الحكيم الذى أنزله الله لإصلاح حياة العالمين وتزكيتها هو الحظ الأوفر، وهكذا جاء فى القرآن آيات كثيرة تبين أعمال القلب وأهميتها فى الإيمان أصلا أو وجوبا، ولو ذهبنا فى جمعها واستقصائها لطال المقام جدا. وحسبنا أن نورد ما يتجلى به صحة مذهب أهل السنة والجماعة وشذوذ المرجئة المنكرين لدخول أعمال القلب فى الإيمان عدا التصديق القلبي، ويتضح أن مصدر القوم فى التلقي لم يكن الكتاب والسنة، وإلا فكيف يضربون صفحا عن هذه الآيات المحكمات، ويعتمدون أكثر ما يعتمدون على آية واحدة ليست فى مورد الإيمان الشرعي، بل حكاها الله تعالى عن قوم قالوها فى التصديق الخبرى المجرد، وهو قوله تعالى على لسان اخوة يوسف: «وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا» !! وهذه بعض أعمال القلب مقرونة بما تدل عليها من الآيات، منها ما هو فى حق المؤمنين، ومنها ما هو فى حق الكفار دالا على أمور سوى التكذيب الذي لم يقر المرجئة بغيره، ونظرا لكثرتها اكتفيت بما ورد فيها العمل مسندا إلى القلب - أو الصدر - بالمنطوق الصريح. 1 - الوجل: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ» [الأنفال:2] 2 - الإخبات: «وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»

3 - السلامة من الشرك دقيقة وجليله: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (*) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) "الشعراء 89،88" 4 - الإنابة: (خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) «ق:33» . 5 - الطمأنينة: (وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) " البقرة: 260".. (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) الرعد: 28 واشترطها في المكره (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ) " النحل: 106 " فكيف بغيره. 6 - التقوى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) " الحج:32".. (أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى) " الحجرات:3" 7 - الانشراح: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ) " الأنعام:125" (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) "الزمر:22". 8 - السكينة: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) " الفتح:4" 9 - اللين: (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) "الزمر:23" وقد أسنده للقلب والجوارح هنا. 10 - الخشوع: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) " الحديد:16" 11 - الطهارة: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) " الأحزاب:53" وهى في آية الحجاب، فدلت على التلازم بين عمل القلب وعمل الجوارح. 12 - الهداية (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) " التغابن:11" وهى مما يدل على تلازم أعمال القلب.

13 - العقل: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا) " الحج:46" 14 - التدبر: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) " محمد:24" 15 - الفقه: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا) " الأعراف:179" 16 - الإيمان: (مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) " المائدة:41". وفى الإيمان الخاص: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) " الحجرات:14" ولهذا كان فيهم الصنف الذى سماه الله: (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) " التوبة:60 ". 17 - السلامة من الغل للمؤمنين (وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) "الحشر:10" 18 - الرضا والتسليم (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) "النساء: 65". ويلاحظ أن الإسناد فيها للنفس لا للقلب أو الصدر، لحكمة دقيقة هى أن النفس مكمن الهوى والاعتراض. ومما ورد مسندا إلى القلب غير المؤمن: 1 - الإنكار: (فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) "النحل: 22 ". 2 - الكبر: (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ) غافر: 56، (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) غافر: 35.

3 - الإعراض واللهو: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (*) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) " الأنبياء: 2،3 " 4 - الاشمئزاز (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) الزمر:45. 5 - الزيغ: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) " الصف:5".. (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ) آل عمران:7 6 - العمى: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) الحج: 46 7 - القفل، وعدم الفقه، وعدم العقل: وقد تقدم ما يدل عليها. 8 - المرض: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) البقرة:10 9 - القسوة: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) البقرة:74 10 - الغمرة: (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا) المؤمنون: 63 11 - الران: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) " المطففين:14 12 - العداوة للحق وأهله: (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) آل عمران: 118. والآيات في ذلك وعلاقته بأعمال الجوارح كثيرة أيضا. وأكثر مما ذكرنا الآيات الواردة فى أعمال القلوب، ولكن لم يذكر فيها لفظه، كآيات الخوف والرجاء والتوكل والاستعانة والرضا وغيرها. وإنما المقصود إثبات هذا الجزء العظيم من الإيمان الذى أهمله أكثر المسلمين وليس المرجئة خاصة، وقد حصل المقصود إن شاء الله وسنخص بالتفصيل بعض هذه الأعمال في المبحث التالي.

نماذج من أعمال القلوب ونبدأ ذلك ببيان موجز لما تعرض له عمل القلب من إعراض أو إسقاط أو خفاء لدى الأمة الإسلامية فى عصور الانحراف، فنقول: 1 - المتكلمون: وهؤلاء أهملوا أعمال القلوب بالكلية جاعلين الإيمان قضية عقلية بحتة، ولم يثبتوا من أعمال القلب سوى التصديق الخبرى الذى هو فى الحقيقة أشبه بالعمل الذهنى الخالص - وإن نسبوه للقلب. وأصل هذا المذهب هو ذلك المبتدع الضال " الجهم بن صفوان " (1) والمؤسف جدا أن أكثرية متكلمى الأمة - وهم الأشاعرية والماترية - اعتنقوا هذا المذهب مع إطباق أئمة السلف العاصرين لنشأته على تكفير جهم وأصحابة، واعتبار الجهمية فرقة خارجة عن فرق أهل القبلة الثلاث والسبعين (2) . ومن أغرب التناقضات عند هؤلاء أن يكون مت نقله أبو الحسن الأشعرى نفسه فى المقالات عن جهم والصالحى وبشر المريسى اليهودى هو ذات عقيدتهم التي صرح بها الباقلانى والجوينى وسائر أئمتهم إلى الإيجى ومن جاء بعده. وليس هذا موضع المقارنة بين الجهمية والأشاعرية، وحسبنا إن ننقل مذهب جهم كما سطره الأشعرى نفسه، ثم نقارنه بكلام أكبر أئمة الأشاعرة المتقدمين وناشر مذهبهم (3) - القاضى الباقلانى. يقول الأشعري في أول حديثه عن فرق المرجئة واختلافهم: " فالفرقة الأولى منهم يزعمون أن الإيمان هو المعرفة بالله وبرسله وبجميع ما جاء من عند الله فقط، وان ما سوى المعرفة من الإقرار باللسان والخضوع بالقلب

_ (1) وقد أشار الإمام ابن جرير إلى فرقة أخرى تنكر عمل القلب، وبمراجعة فرق المرجئة فى "المقالات" وجدت أنها الغسانية، انظر: ص 284. وانظر تهذيب الآثار (2/199) والمقالات 1/137 (2) انظر كتاب الايمان لأبي عبيد. (3) انظر تبيين كذب المفتري.

والمحبة لله ولرسوله والتعظيم لهما والخوف منهما "كذا" والعمل بالجوارح فليس بإيمان ... قال: وهذا قول يحكى عن الجهم بن صفوان " (1) . ويقول الباقلاني - فى بيان ما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به - " وأن يعلم أن الإيمان بالله عز وجل هو التصديق بالقلب ... والدليل هو الإقرار بالقلب والتصديق قوله عز وجل: (وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين) وقد أتفق أهل اللغة قبل نزول القران وبعث الرسول عليه السلام على أن الإيمان فى اللغة هو التصديق دون سائر أفعال الجوارح والقلوب " (2) . فهذا اتفاق بينهما على أن أعمال القلب والجوارح غير داخله فى الإيمان. صحيح أن الجهمية تقول أن الإيمان المعرفة، والأشاعرية يقولون: الإيمان التصديق، ولكن ما تمحله الأشاعرة وتكلفوه من التفريق بين المعرفة وبين التصديق المجرد أمر لا يقبله العقلاء، ولهذا رد عليه شيخ الإسلام ابن تيميه قائلا: " إن الفرق بين معرفة القلب وبين مجرد تصديق القلب الخالى عن الانقياد - الذى يجعل قول القلب - أمر دقيق، وأكثر العقلاء ينكرونه، وبتقدير صحته لا يجب على كل أحد معرفة القلب وتصديقه، ويقولون، إن ما قاله ابن كلاب والأشعرى من الفرق كلام باطل لا حقيقة له، وكثير من أصحابه اعترف بعدم الفرق ... ." إلى إن يقول: "والمقصود هنا أن الإنسان إذا رجع إلى نفسه عسر عليه التفريق بين علمه بأن الرسول صادق، وبين تصديق قلبه تصديقا مجردا عن انقياد وغيره من أعمال القلب بأنه صادق (3)

_ (1) مقالات الإسلاميين (1 / 130) (2) الأنصاف، ص 22، وعن الرد على الأشاعرة فى هذا، انظر: الإيمان لابن تيميه مواضع كثيرة منها: ص 141- 143، وص 178- 180. (3) الإيمان، ص 281 - 283، وبهذا يظل الفرق الجهمية والأشاعرة هو أن الجهمية يثبتون الإيمان حتى مع إنكار اللسان، والأشاعرة ينفون الإيمان عمن صرح بالكفر بلسانه، لأن هذا عندهم دليل على عدم تصديق القلب، وعلى كل فاللوازم ليست كالأقوال، والرأى فيها محتمل.

وأيضا فلو أضاف المتكلمون إلى التصديق شيئا أخر - من أعمال القلب - لا نخرم أصلهم وفسدت قاعدتهم التي هى أن الإيمان شئ واحد لا يتركب ولا يزيد ولا ينقص، ولهذا ألزمهم الإمام أحمد - رحمه الله - إلزاما لا محيص لهم عنه حين قال - فى رسالته إلى الجوزجانى: " وأما من زعم أن الإيمان: الإقرار، فما يقول في المعرفة هل يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار؟ وهل يحتاج إلى إن يكون مصدقا بما اقر؟ قال محمد بن حاتم: وهل يحتاج إن يكون مصدقا بما عرف؟ - فأن زعم انه يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار فقد زعم أنه يحتاج إن يكون مقراً ومصدقا بما عرف فهو من ثلاثة أشياء، فإن جحد وقال: لا يحتاج إلى المعرفة والتصديق فقد قال "قولا" عظيما، ولا أحسب أحدا يدفع المعرفة. قال المروزي: ولا أحسب أحدا يدفع المعرفة والتصديق (1) . ففى هذه الأسطر الموجزة ألزم الإمام أحمد إلزاما مفحما كل طوائف المرجئة - المتكلمين منهم والفقهاء - الذين يشتركون جميعا فى أصل وأحد هو عدم إدخال أعمال القلب فى الإيمان، واعتباره عملا واحدا فقط، إما الإقرار " الفقهاء " واما التصديق والمعرفة " المتكلمون: الجهمية والأشاعرية والماتريدية " وهو ألزم شئ للمتكلمين الأشاعرية والماتريدية الذين يفرقون بين مذهبهم ومذهب جهم بالتفريق بين المعرفة - التي هى قول جهم - وبين التصديق الذى هو مذهبهم. فهذا التفريق نفسه يوقعهم فى هذا الإلزام ولا مناص، فإما أن يلتزموا القول بأن الإيمان هو التصديق المجرد عن المعرفة، وهو ما لا يتصور أن أحدا يقوله، وأما أن يقولوا إنه المعرفة مع التصديق، فيبطل أصلهم الثابت وهو أنه شئ واحد لا يتركب ولا يتعدد وحينئذ يلزمهم إدخال سائر أعمال القلب كما أدخلوا المعرفة.

_ (1) الخلال لوحة 109

والحاصل أن هؤلاء لو تجردوا من لوثة التقيدات المنطقية والتكلفات النظرية نقلوها عن الفلاسفة ونظروا لآيات الوحى المبين - التي عرضنا بعضها - لأثبتوا أعمال القلب جميعها أجزاء من الإيمان القلبي الذي هو أهم شطري الإيمان. 2 - المتصوفة: كان ضلال المتصوفة فى أعمال القلب من نوع أخر فالقوم مع اهتمامهم الشديد بها (1) وتسميتها أحوالا ومقامات وتفصيل دقائقها - أوقعهم الهوى والابتداع ومتابعة أسلافهم من صوفية الوثنيين الهنود واليونان فى تناقضات وتخبطات أخرجت طائفة منهم عن الدين كله. فمن ذلك ضلالهم فى "الرضا" - الجامع للانقياد والقبول - فقد خرجوا فيه عما كان عليه السلف إلى معنى فلسفى وثنى، هو الرضا المطلق بكل ما فى الوجود لأنه من إرادة الله وقدره، حتى اعتقدوا وجوب الرضا بالكفر والفسوق والعصيان ووقعوا فى الجبر المحض تحت ستار ما أسموه "شهادة الحقيقة الكونية"!! و "الاستبصار بسر الله فى القدر"!! وضلوا فى الرجاء والمحبة: حيث افتعلوا بينهما تناقضا، فاحتقروا الرجاء واعتبروه " أضعف مقامات المريدين " وغلوا فى المحبة حتى أسقطوا ما يقابلها من الخوف، وجعلوا همهم - بزعمهم - عبادة الله لذاته لا طمعا فى جنته ولا خوفا من ناره وجعلوا ذروة المحبة: "الفناء" فى المحبوب، ولهذا قال فيهم السلف: "من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق "، وأفضى بهم هذا إلى احتقار الجنة والنار، واحتقار مقام الأنبياء، بل اعتقاد الحلول والوحدة - عياذا بالله!! ومن الناحية العلمية وضعوا قاعدة: "المحبة نار في القلب تحرق ما سوى المحبوب" واتخذوها ذريعة للتنصل من التعبدات التي تشغلهم عن المحبوب - بزعمهم - كالأشتغال بجهاد أعدائه وتعلم دينه وتعليمه ونشر دعوته بين العالمين.

_ (1) الذي هو رد فعل لعقلانية المتكلمين وغلو المترفين وجفاف الفقه.

وضلوا فى التوكل: فجعلوه سلبية مطلقة، وتواكلا رخيصا، وتسولا للمعطين، وتعمدا لإلحاق الضرر بالنفس، وتركا للأسباب المشروعة، بل تركا لأعظم التعبدات - كالدعاء مثلا - فأسقطوا به وبالمحبة من أعمال القلوب الشيء الكثير، فضلا على أنهم غفلوا عن أعظم درجات التوكل، وهو التوكل على الله فى إقامة دينه، والجهاد فى سبيله، ومقاومة الكفر والفساد - كما هو توكل الأنبياء. وضلوا فى الزهد، فأخرجوه من عمل قلبى إيجابى إلى مظهر سلبى، حتى إنهم حرموا به طلب العلم، لأن ذلك كما قالوا يؤدى إلى تقدير الناس للعالم، وهذا - بزعمهم - ينافى الزهد، وعبدوا الأمة للفقر وبه، وحتى سموا أنفسهم الفقراء، وسموا الله تعالى "الفقر" (1) !! وبالجملة فلا تكاد تجد شرطا من شروط لا إله إلا الله ولا عملا من أعمال القلب - إلا ولهم فيه ضلال وانحراف، مما كان له أثره العميق فى انتشار الظاهرة واقعيا، ولولا أن غرضنا هنا تتبع الظاهرة فى الفكر وأراء الفرق لتوسعنا فى تفصيل ذلك الذى هو أليق بالواقع والحياة. 3 - المرجئة الفقهاء (2) : وهؤلاء يثبتون أعمال القلب فى ذاتها ولا ينكرون أهميتها، لكنهم يجعلونها شيئا أخر سوى الإيمان، كما يخرجون منه أعمال الجوارح، فإذا سئلوا عن علاقتها بالإيمان قالوا هي من لوازمه أو ثمراته. وتأتى خطورة مذهبهم - لاسيما في العصور الأخيرة - من جهة أن الإخلال بشيء من أعمال القلوب - التي يعد الإخلال بها كفرا أو معصية في نظر الشارع - لا يكون - على مذهبهم - إخلالا بالإيمان - الذي هو الإقرار والتصديق - إلا باللازم والتبع، وحسبك بهذا ذريعة إلى التساهل فى ذلك (3) - ولو بمرور الزمن وتطور الظاهرة - ولهذا ألزمهم أهل السنة إلزاما لا محيص لهم عنه كما سبق في كلام الإمام أحمد.

_ (1) لمعرفة ضلالهم فيما سبق، انظر: مدارج السالكين، الفصول المتعلقة بالمقامات المذكورة، والعبودية، وخاصة من ص 59- 72، ومن ص 131- 133. وما سيأتى فى تفصيل بعض هذه الأعمال. (2) أو الحنفية، وسبق تفصيل مذهبهم فى ص371 (3) انظر الإيمان ص 377

وكذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيميه: " والمرجئة الذين قالوا: الإيمان تصديق القلب وقول اللسان والأعمال ليست منه، وكان منهم طائفة من فقهاء الكوفة وعبادها ولم يكن قولهم مثل قول جهم، فعرفوا إن الإنسان لا يكون مؤمنا إن لم يتكلم بالإيمان مع قدرته عليه، وعرفوا أن إبليس وفرعون وغيرهما كفار مع تصديق قلوبهم (أى بخلاف قول الأشاعرة فى هاتين القضيتين) (1) ، لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب فى الإيمان لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها فى الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضا" (2) وهنا ينبغي التنبيه على أمر مهم، وهو أن ما ورد عن كثير من التابعين وتلامذتهم في ذم الإرجاء وأهله، والتحذير من بدعتهم، إنما المقصود به هؤلاء المرجئة الفقهاء، فإن جهما لم يكن قد ظهر بعد، وحتى بعد ظهوره كان بخراسان، ولم يعلم عن عقيدته بعض من ذم الإرجاء من علماء العراق وغيره الذين كانوا لا يعرفون إلا إرجاء فقهاء الكوفة ومن اتبعهم (3) ، وحتى إن بعض علماء المغرب كابن عبد البر لم يذكر إرجاء الجهمية بالمرة (4) . ثم حصل في القرن الرابع فصاعدا ما يشبه الاندماج بينهم وبين الأشاعرة، ولم يبق لهم اليوم من وجود إلا بعض الحنفية ومن هؤلاء من يرى الخلاف بينهم وبين السلف الإسلام لفظيا فقط، اعتمادا على كلام شارح الطحاوية وبعض مواضع من كلام شيخ الإسلام ابن تيميه، وقد تقدم بيان الحق في ذلك. 4 - طائفة رابعة ليست كأحد من هذه الفرق البدعية: ولكن خفى عليها مأخذ السلف، فظهرت بمظهر العجز عن إثبات عقيدتها، ونسبت للتقليد المحض، وأعنى بذلك كثيرا من متأخرى أهل السنة الذين لم يقدموا بعمل كاف لصد تيار الإرجاء العصري، بسبب عدم إدراكهم لبعض أسس العقيدة ومنطلقاتها، ومن ذلك موضوع أعمال القلوب، فقد أعياهم الجواب أمام مطالبة المرجئة بدليل على

_ (1) لأن الأشاعرة ينفون التصديق عمن ورد الشرع بتكفيره. (2) الإيمان ص 183 (3) تقدم تفصيل ذلك فى باب نشأة الإرجاء. (4) آى ضمن كلامه عن الفرق فى الإيمان فى التمهيد، ج9

شروط لا إله الله من انقياد وقبول ويقين وصدق وإخلاص ... الخ، وزعمهم أن هذا من ابتداع ابن تيميه أو محمد بن عبد الوهاب الذى لا اصل له فى كلام السلف (1) . وهذا ما يعيدنا إلى قضية أهمية أعمال القلوب وضرورة بحث الحديث عنها وبيان منزلتها من الإيمان فلقد ترتب على إهمالها وإغفالها من الآثار المدمرة فى حياة الأمة الشىء الكثير، ومن أعظم ذلك انحسار مفهوم العبادة وتضييقه، وانتقاص توحيد الألوهية ووقوع الأمة فى الشرك الأكبر، حتى أصبحت المرجئة فى القرون الأخيرة تجاهر بإنكار دخول هذه الإعمال فى العبادة والتأله فقالوا: إن الرجاء والخوف والمحبة والتعظيم والرضا والتسليم والانقياد والطاعة ونحوها من تعبدات القلب - بل الدعاء والاستغاثة بالمخلوقين - لا علاقة لها بالشرك، ولا يسمى فاعلها لغير الله مشركا ما دام يقول: لا إله إلا الله ويعتقد بقلبه صدق الرسول فيما جاء به!! وإنما الشرك بزعمهم اعتقاد القلب أن هذا المخلوق إله أو رب معبود، والكفر أن يعتقد بقلبه أن ما يفعله من الأعمال كفر، أما إذا عمل أعمال الكفر (2) مع اعتقاده أن ذلك لا يخرجه من الملة فليس بكافر!! وقد اصطدمت هذه الفكرة بالعقيدة السلفية بطبيعة الحال، وجرى بين المنهجين جولات ومعارك - أبرزها المعركة التي دارت أيام شيخ الإسلام ابن تيميه، ثم الجولة التي دارت بظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وما تزال المعركة قائمة على أشدها وما يزال مذهب المرجئة هو الطاغي على اكثر بقاع العالم الإسلامي. وهكذا ظلت هذه القضية هى جوهر كل الدعاوى التي أشهرها المؤلفون الإرجائيون على عقيدة السنة والجماعة باسم الرد على ما أسموه " الوهابية " (3) . كما أنها ظلت كذلك بعد استفحال شرك التشريع، وظهور الدعاة الذين أعلنوا أن تحكيم غير شرع الله كفر أكبر ينافى شهادة أن لا إله إلا الله.

_ (1) معلوم إن أهل السنة استدلوا عليهم بوجود هذه الشروط فى أكثر الأحاديث مثل " من قال: لا غله إلا الله مستيقنا "مخلصا" ... .الخ ولكن التأصيل الكامل لشطر الإيمان القلبى لم يتفطن له فيما أعلم. (2) كالتشريع من دون الله فى عصرنا الحاضر (3) وهى كتب كثيرة جم بعضها مؤلفو " براءة الأشعرين " (2/214) ، وهو من أوسع كتبهم فى الإرجاء والاحتجاج للشرك بتقليص مفهوم العبادة - حتى لقد وصل بهم التمادى إلى إخراج شعائر التقرب والتنسك كالنذر والتوسل والذبح والتعظيم من مسمى العبادة، بل صرحوا بأن السجود للصنم ليس بكفر لذاته، انظر (1/124- 163) ، ومن العجيب إن بعض من ينتسب للسلف يوافقهم فى بعض الأمر.

ومن هنا اقتضى الأمر تفصيل الحديث عن بعض أعمال القلوب، وهو ما سنشرع فيه بإذن الله. 1 - الرضا: كلمة الرضا تجمع بين شرطين من الشروط إلى ذكرها بعض العلماء لشهادة أن لا إله إلا الله وهما " القبول والانقياد " بل الرضا أعلى منهما وأشمل (1) وقد أثرته لذلك ولكونه لفظا شرعيا ورد فى الكتاب والسنة. وحسبك فى تعظيمه قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) فما رضيه الله لنا وهو الغنى الحميد، فنحن أولى أن نرضى به وأحق. فالرضا بالدين هو " أساس الإسلام وقاعدة الإيمان، فيجب على العبد أن يكون راضيا به بلا حرج، ولا منازعة، ولا معارضة، ولا اعتراض، قال الله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) " النساء:65" فأقسم أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله وحتى يرفع الحرج من نفوسهم من حكمه، وحتى يسلموا لحكمه تسليما وهذه حقيقة الرضا بحكمه (2) . وليس هذا الرضا على درجة واحدة، بل هو - كما فى الآية - على ثلاث مراتب " فالتحكيم فى مقام الإسلام، وانتفاء الحرج فى مقام الإيمان، والتسليم فى مقام الإحسان (3) فمن لم يرض بتحكيم ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فى أصول الدين وفروعه الشريعة ويتحاكم إليه، فهو معترض بنوع من أنواع الاعتراض الآتى تفصيلها فلهذا لا يكون مسلما - وإن رغم ذلك، كما قال تعالى فى الآيات التي قبلها: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ

_ (1) الرضا يتضمن الصبر والمحبة تتضمن الرغبة. (2) مدارج السالكين 2 / 192 (3) المصدر نفسه

يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) . وكيف لا وأول كفر وقع في هذا العالم إنما نشأ " من عدم الرضا، فإبليس لم يرض بحكم الله الذي حكم به كونا - من تفضيل آدم وتكريمه، ولا بحكمه الديني - من أمره بالسجود لآدم " (1) ، مع تصديقه بالله واليوم الآخر، وأن الله هو الإله دون ما سواه. ومن رضي بأصل التحكيم لكن لم ينتف الحرج عن نفسه بل ربما زعزعته شبهة أو لحقه شك، فهذا كالأعراب الذين اسلموا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم. ومن انتفى عنه الحرج لكن لم يرق إلى درجة التسليم المطلق للوحي أمرا ونهيا وخبرا، فهو ناقص عن مرتبة الإحسان التي كان عليها الصحابة رضي الله عنهم، والتي كان الصديق في ذروتها حتى في أشق المواقف، كموقف الحديبية (2) . وهذا هو الرضا الذي قال عنه ابن القيم: " إن الرضا من أعمال القلوب نظير الجهاد من أعمال الجوارح، فان كل واحد منهما ذروة سنام الإيمان، قال أبو الدرداء: ذروة سنام الإيمان الصبر للحكم والرضا بالقدر " (3) . والرضا يشمل التوحيد كله، ربوبية وألوهية، طاعة وتقربا، ومن هنا قال النبي صلي الله عليه وسلم: " ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا "، وقال: " من قال حين يسمع النداء: رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا، غفرت له ذنوبه ". " وهذان الحديثان عليهما مدار مقامات الدين وإليهما ينتهي، وقد تضمنا الرضا بربوبيته سبحانه وألوهيته، والرضا برسوله والانقياد له والرضا بدينه والتسليم له. فالرضا بأولوهيته يتضمن الرضا بمحبته وحده، وخوفه ورجائه، والإنابة إليه، والتبتل إليه، وانجذاب قوي الإرادة والحب كلها إليها، وذلك يتضمن عبادته والإخلاص له.

_ (1) المدارج 2 / 214 (2) سبق الحديث عنه من ص 73 فصاعدا. (3) المدارج 2 / 214

والرضا بربوبيته: يتضمن الرضا بتدبيره لعبده، ويتضمن أفراده بالتوكيل عليه والاستعانة به والثقة به والاعتماد عليه، وان يكون راضيا بكل ما يفعل به. فالأول: (أي رضا الألوهية) : يتضمن رضاه بما أمر به. والثاني: يتضمن رضاه بما يقدر عليه. وأما الرضا بنبيه رسولا: فيتضمن كمال الانقياد له والتسليم المطلق إليه - بحيث يكون أولى به من نفسه، فلا يتلقى الهدي إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره، ولا يرضي بحكم غيره البتة، لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله، ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقاماته، ولا في شيء من أحكام ظاهرة وباطنة. لا يرضي في ذلك بحكم غيره، ولا يرضي إلا بحكمه، فان عجز عنه كان تحكيمه غيره من باب غذاء المضطر إذا لم يجد ما يقيته إلا من الميتة والدم، واحسن أحواله إن يكون من باب التراب الذي إنما يتيمم به عند العجز عن استعمال الماء الطهور (1) . وأما الرضا بدينه: فإذا قال أو حكم أو أمر أو نهي رضي كل الرضا، ولم يبق في قلبه حرج من حكمه، وسلم له تسليما - ولو كان مخالفا لمراد نفسه أو هواها أو قول مقلده أو شيخه وطائفته " (2) . ولهذا جاء هذا الرضا بأنواعه مبينا في سورة الأنعام التي هي سورة التوحيد العظمى، فقد اشتملت علي ثلاثة أنواع من الرضا هي جماع التوحيد كله: 1 - الرضا بالله ربا لا شريك له في التقرب والتأله والتعبد: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) " الأنعام: 164 ". 2 - الرضا بالله حكما لا شريك له في التشريع والطاعة: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا) " الأنعام: 114 ".

_ (1) يقصد الشيخ اتباع غيره صلي الله عليه وسلم كتقليد أحد الأئمة لمن هو مضطر لذلك لجهل ونحوه. (2) ثم قال رحمه الله: " وهاهنا يوحشك الناس كلهم إلا الغرباء في العالم فإياك إن تستوحش من الاغتراب والتفرد، فانه والله عين العزة والصحبة مع الله ورسوله، وروح الأنس والرضا به ربا وبمحمد رسولا صلي الله عليه وسلم وبالإسلام دينا " مدارج السالكين (2/172 - 173) .

3 - الرضا بالله وليا لا شريك له في محبته وموالاته: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) " الأنعام: 14 ". وقد شرح ذلك الإمام ابن القيم فقال: " الرضا بالله ربا: إلا يتخذ ربا - غير الله تعالي - يسكن إلى تدبيره وينزل به حوائجه، قال تعالي: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) " الأنعام: 164 " قال ابن عباس رضي الله عنهما: " سيدا والها "، يعني فكيف اطلب ربا غيره وهو رب كل شيء؟ وقال في أول السورة: (قل أغير الله اتخذ وليا فاطر السموات والأرض) " الأنعام: 14 ". يعني معبودا وناصرا ومعينا وملجأ، وهو من الموالاة التي تتضمن الحب والطاعة. وقال في وسطها: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا) " الأنعام: 114 ". أي أفغير الله ابتغي من يحكم بيني وبينكم فنتحاكم إليه فيما اختلفنا فيه؟ وهذا كتابه سيد الحكام، فكيف نتحاكم إلى غير كتابة؟ وقد أنزله مفصلا مبينا كافيا شافيا؟! وأنت إذا تأملت هذه الآيات حق التأمل، رايتها هي نفس الرضا بالله ربا وبالإسلام دينا، وبمحمد صلي الله عليه وسلم رسولا، ورأيت الحديث يترجم عنها، ومشتقا منها، فكثير من الناس يرضي بالله ربا ولا يبغي ربا سواه، لكنه لا يرضي به وحده وليا وناصرا، بل يوالي من دونه أولياء ظنا منه انهم يقربونه إلى الله، وان موالاتهم كموالاة خواص الملك، وهذا عين الشرك، بل التوحيد، إلا يتخذ من دونه أولياء، والقران مملوء من وصف المشركين بأنهم اتخذوا من دونه أولياء. وهذا غير موالاة أنبيائه ورسله وعباده المؤمنين فيه، فان هذا من تمام الإيمان ومن تمام موالاته، فموالاة أوليائه واتخاذ الولي من دونه لون، ومن لم يفهم الفرقان بينهما فليطلب التوحيد من أساسه، فان هذه المسالة اصل التوحيد وأساسه.

وكثير من الناس يبتغي غيره حكما يتحاكم إليه، ويخاصم إليه، ويرضي بحكمه، وهذه المقامات الثلاث هي أركان التوحيد: إلا يتخذ سواه ربا، ولا إلها، ولا غيره حكما. وتفسير الرضا بالله ربا: إن يسخط عبادة ما دونه، هذا هو الرضا بالله إلها، وهو تمام الرضا بالله ربا، فمن اعطى الرضى به ربا حقه سخط عبادة ما دونه قطعا، لأن الرضاء بتجريد ربوبيته يستلزم تجريد عبادته، كما إن العلم بتوحيد الربوبية يستلزم العلم بتوحيد الإلهية فالحاصل: أن يكون الله وحده المحبوب المعظم المطاع، فمن لم يحبه ولم يطعه ولم يعظمه: فهو متكبر عليه، ومتي احب معه سواه، وعظم معه سواه، وأطاع معه سواه: فهو مشرك، ومتي افرده وحده بالحب والتعظيم والطاعة فهو عبد موحد، والله سبحانه وتعالى اعلم" (1) . ومنافي الرضا ومقابله هو الاعتراض والكراهية لما انزل الله - بعضه أو كله، وإذا فسرناه بالقول والانقياد، فضدهما الرد والاعتراض والإباء. وكل هذا مما وقعت فيه الأمة كليا أو جزئيا، فوقع فيها الاعتراض علي توحيد المعرفة والإثبات، والاعتراض علي الأمر الشرعي بالتحليل والتحريم، والاعتراض علي الأمر الكوني، فاعترض كثير منهم علي صفاته، وشريعته، وقضائه وقدره. واصل هذه الاعتراضات التلقي عن غير الله ورسوله، والاستمداد من غير الوحي وتحكيم غيره، فمنهم من حكم العقل - بزعمه - فنقل فلسفات الوثنيين وحثالة فكر التائهين، وهؤلاء هم أصحاب الكلام. ومنهم من حكم الذوق والوجد والكشف، وانتكس بالعقل المسلم إلى حضيض الخرافة والوهم، وهؤلاء هم الصوفية. ومنهم من حكم الأقيسة العقلية، والأعراف السياسية، بحجة تحقيق المصلحة الشرعية، ومراعاة الأصول العقلية (2) - بزعمهم - فاحلوا من الدماء والأموال والفروج

_ (1) المدارج (2 / 181 / 183) (2) وهم فقهاء الرأي وعلماء السلاطين من جهة، وحكام عصور الانحراف من جهة أخري، والحق إن كل ما خالف الشرع فلا مصلحة فيه مطلقا، وكل اصل لم يؤخذ من الشرع فهو فاسد الاعتبار.

وما ورد النص الصريح بتحريمه، وكان ذلك مع وقوعه في دائرة الاجتهاد الخطأ أو التطبيق المتعسف ممهدا لما وقعت فيه الأمة في العصر الحديث من الشرك الأكبر والاعتراض الأطم بتحكيم القوانين الوضعية وإحلالها محل الشريعة، بل الكراهية الصريحة لكثير مما أنزل الله، وبخاصة في الجهاد والحجاب والموالاة والسياسة، ولندع الإمام ابن القيم يفصل لنا الاعتراض التي وصلت إليها الأمة في عصره، وحسبك إن تقول بعدها: " كيف لو رأي زماننا هذا؟! ". يقول رحمه الله: " الاعتراض: ثلاثة أنواع سارية في الناس، والمعصوم من عصمه الله منها. * النوع الأول: الاعتراض علي أسمائه وصفاته بالشبه الباطلة: التي يسميها أربابها قواطع عقلية، وهي في الحقيقة خيالات جهلية، ومحالات ذهنية، اعترضوا بها علي أسمائه وصفاته عز وجل وحكموا بها عليه، ونفوا لأجلها ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسول الله صلي الله عليه وسلم، واثبتوا ما نفاه، ووالوا بها أعداءه، وعادوا بها أولياءه، وحرفوا بها الكلم عن مواضعه، ونسوا بها نصيبا كثيرا مما ذكروا به، وتقطعوا لها أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون. والعاصم من هذا الاعتراض: التسليم المحض للوحي، فإذا سلم القلب له رأى صحة ما جاء به، وانه الحق بصريح العقل والفطرة، فاجتمع له السمع والعقل والفطرة، وهذا اكمل الإيمان. ليس كمن الحرب قائمة بين سمعه وعقله وفطرته. * النوع الثاني: الاعتراض علي شرعه وأمره: وأهل هذا الاعتراض ثلاثة أنواع: أ: المعترضون عليه بآرائهم وأقيستهم المتضمنة تحليل ما حرم الله سبحانه وتعالى، وتحريم ما أباحه، وإسقاط ما أوجبه، وإيجاب ما أسقطه، وإبطال ما صححه، وتصحيح ما أبطله، واعتبار ما ألغاه، وإلغاء ما اعتبره، وتقييد ما أطلقه، وإطلاق ما قيده. وهذه هي الآراء والأقيسة التي اتفق السلف قاطبة على ذمها، وصاحوا على أصحابها من أقطار الأرض، وحذروا منهم ونفروا عنهم.

ب: الاعتراض علي حقائق الإيمان والشرع بالأذواق، والمواجيد، والخيالات، والكشوفات الباطلة الشيطانية، المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله، وإبطال دينه الذي شرعه علي لسان رسوله، والتعوض عن حقائق الإيمان بخدع الشيطان، وحظوظ النفوس الجاهلة. والعجب أن أربابها ينكرون على أهل الحظوظ، وكل ما هم فيه فحظ، ولكن حظهم متضمن مخالفة مراد الله، والإعراض عن دينه، واعتقاد انه قربة إلى الله، فأين هذا من حظوظ أصحاب الشهوات المعترفين بذمها، المستغفرين منها، المقرين بنقصهم وعيبهم، وأنها منافية للدين؟! وهؤلاء في حظوظ اتخذوها دينا، وقدموها علي شرع الله ودينه، واغتالوا بها القلوب واقتطعوها عن طريق الله، فتولد من معقول أولئك، وآراء الآخرين وأقيستهم الباطلة، وأذواق هؤلاء خراب العالم، وفساد الوجود وهدم قواعد الدين، وتفاقم الأمر وكاد، لولا إن الله ضمن انه لا يزال يقوم من يحفظه، ويبين معالمه، ويحميه من كيد من يكيد. ج: الاعتراض علي ذلك بالسياسات الجائرة التي لأرباب الولايات التي قدموها علي حكم الله ورسوله، وحكموا بها بين عباده، وعطلوا لها وبها شرعه وعدله وحدوده. فقال الأولون: إذا تعارض العقل والنقل، قدمنا العقل. وقال الآخرون: إذا تعارض الأثر والقياس، قدمنا القياس. وقال أصحاب الذوق والكشف والوجد: إذا تعارض الذوق والوجد والكشف وظاهر الشرع، قدمنا الذوق والوجد والكشف. وقال أصحاب السياسة: إذا تعارضت السياسة والشرع، قدمنا السياسة. فجعلت كل طائفة قبالة دين الله وشرعه طاغوتا يتحاكمون إليه. فهؤلاء يقولون: لكم النقل ولنا العقل، والآخرون: انتم أصحاب آثار وأخبار ونحن أصحاب أقيسة وآراء وأفكار، وأولئك يقولون: انتم أرباب الظاهر، ونحن أهل الحقائق، والآخرون يقولون: لكم الشرع ولنا السياسة.

* النوع الثالث (1) : الاعتراض علي أفعاله وقضائه وقدره: وهذا اعتراض الجهال، وهو ما بين جلي وخفي، وهو أنواع لا تحصي (2) . ... وهو سار في النفوس سريان الحمى في بدن المحموم، ولو تأمل العبد كلامه وأمنيته وإرادته وأحواله، لرأي ذلك في قلبه عيانا، فكل نفس معترضة على قدر الله وقسمه وأفعاله إلا نفسا قد اطمأنت إليه، وعرفته حق المعرفة التي يمكن وصول البشر إليها فتلك حظها التسليم والانقياد. والرضا كل الرضا " (3) 2 - المحبة: المحبة أساس كل عمل من أعمال الدين والإيمان، كما إن التصديق أساس كل قول من الأقوال (4) ، وذلك إن كل عمل يعمله الإنسان لابد إن يكون عن إرادة قلبية - كما أوضحنا سلفا - وهذه الإرادة أما إن تكون حبا أو كرها، فدافع العمل لا يخرج عن إن يكون رغبة وطواعية أو رهبة وإجبارا. وأعمال الدين قسمان: * أولا: التعبدي المحض كالصلاة والصيام والحج. * والآخر: ما كان تابعا للنية، كالآكل والنوم بنية الاستعانة علي الطاعة، والإنفاق علي الأهل بنية القربة، ونحوه. فالأول لا يصلح إلا بالنية، والآخر لا يكون مأجورا عليه ومتقربا به إلا بها فاتضح إن النية أساس في الأعمال كلها.

_ (1) في الأصل: الرابع وهو خطأ. (2) وذلك مثل اعتراض الكفار علي اختيار الرسول صلي الله عليه وسلم، واعتراض اليهود علي كونه ليس منهم، ويلحق به اعتراض الخوارج علي قسمته، وأشباه ذلك كثير. (3) المدارج 3 / 69 - 71 (4) انظر كلام شيخ الإسلام الآتي في نهاية هذا الموضوع.

وهذه النية هي بمعنى الإرادة والغاية، وهي التي لا تخلو من إن تكون حبا أو كرها، أما النية الخاصة التي يذكرها الفقهاء في الأحكام فشيء آخر (1) . وقد اخبر الله سبحانه وتعالى عن اختلاف حالي المؤمن والمنافق وعاقبتيهما بحسب اختلاف نية كل منهما - مع اتفاق عملهما في الصورة والمظهر، كالإنفاق مثلا، فقال تعالى: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (*) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (*) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (*) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (*) وَلَسَوْفَ يَرْضَى) " الليل " 17 - 21 ". وقال: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) " التوبة: 54 ". فالمؤمن يعمل الطاعة محبا لها راضيا بها - فكان جزاؤه القبول والرضا، والمنافق يعملها كارها كسلان - فكان جزاؤه الرد والإحباط. والمؤمنون أنفسهم تتفاوت درجات إيمانهم بحسب المحبة والرضا، فكم بين إسلام أبى ذر الذي تحمل المشاق حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما اسلم أعلن إسلامه بين ظهراني الكفار مستعذبا ضربهم وأذاهم يوما بعد يوم (2) ، وبين إسلام الأعرابي الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال له " اسلم "، فقال: أجدني كارها، فقال: " اسلم وان كنت كارها" (3) .

_ (1) يقصد الفقهاء بالنية تمييز العبادات بعضها عن بعض، مثل تمييز صلاة الفريضة عن السنة الراتبة، أو صلاة الظهر من صلاة العصر، أو تمييز الغسل الواجب عن غسل التنظيف، والمراد هنا ما هو أعم وهو تمييز المقصود بالعمل أهو الله تعالى وحده أم غيره، وهذا هو أصل استعمال كلمة النية في كلام الشارع، لكن جاء التعبير عنها في القران بالإرادة كقوله تعالي: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) وقوله: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) ، كما عبر عنها بابتغاء وجه الله مثل (وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ) . أما الأحاديث فمصرحة بلفظ النية - كحديث: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوي "، وكقوله: " يهلكون مهلكا واحدا ... ويبعثهم الله علي نياتهم " في حديث الجيش الذي يغزو الكعبة فيخسف به - وحديث: " من كانت نيته الدنيا فرق الله شمله.. ". وهذه هي النية التي جاءت في كلام السلف - كما سبق في بيان أجزاء الإيمان كقولهم: " لا قوة إلا بعمل، ولا عمل إلا بنية، ولا نية إلا بموافقة السنة ". انظر في الفرق بين هذين المعنيين للنية: جامع العلوم والحكم، شرح الحديث الأول. (2) تقدمت قصة إسلامه. (3) المسند (3/19، 181) ، ومعني قوله: اجدني كارها: إن نفسه فيها كره للدين ولم ينشرح صدره للإسلام بعد، فأرشده النبي صلي الله عليه وسلم إلى إرغام النفس وقبول الحق.

بل كم بين إسلام سلمان - الذي قضي السنين الطوال بحثا عن الدين الحق وانتقل من خدمة راهب إلى آخر حتى وقع في الرق، وبلغه خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على النخلة، فكاد يسقط فرحا وشوقا (1) - وبين إسلام المؤلفة قلوبهم من جفاه الأعراب الذين دخلوا في الإسلام بذل ذليل. ومن هنا كانت المحبة أصل أعمال القلوب، وشرطاً من شروط لا اله إلا الله، " فان الإسلام هو الاستسلام بالذل والحب والطاعة لله، فمن لا محبة له لا إسلام له البتة، بل هي حقيقة شهادة إن لا اله إلا الله، فان " الإله " هو الذي يألهه العباد حبا وذلا وخوفا ورجاء وتعظيما وطاعة له، بمعنى "مألوه" وهو الذي تألهه القلوب، أي تحبه وتذل له. وأصل " التأله " التعبد، والتعبد آخر مراتب الحب، يقال: عبده الحب وتيمه إذا ملكه وذلله لمحبوبة. فالمحبة حقيقة العبودية، وهل تمكن الإنابة بدون المحبة والرضا والحمد والشكر والخوف والرجاء؟ وهل الصبر في الحقيقة إلا صبر المحبين؟ (وهل التوكل إلا توكل المحبين) (2) ، فإنه إنما يتوكل علي المحبوب في حصول محابه ومراضية. وكذلك الزهد في الحقيقة هو زهد المحبين فانهم يزهدون فيما سوي محبوبهم لمحبته، وكذلك الحياء في الحقيقة إنما هو حياء المحبين، فانه يتولد من بين الحب والتعظيم، وأما ما لا يكون عن محبة فهو خوف محض " (3) . وهكذا في سائر أعمال القلب التي لا يكون العبد شاهدا أن لا اله إلا الله بدونها. وقد جعل الله تعالى إخلاص المحبة فرقانا بين المؤمنين والكافرين، فمن أشرك مع الله غيره في المحبة وسواه به فهو المشرك المتخذ من دون الله ندا معبودا، فضلا عمن خلا قلبه من محبة الله ورسوله ودينه بالمرة وكره ذلك، فهذا كافر كفر إبليس وفرعون، مهما كان في قلبه من " تصديق " مجرد.

_ (1) انظر قصة إسلام سلمان في الفتح. (2) زيادة يقتضيها السياق. (3) المدارج 3 / 26.

يقول الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) البقرة: 165 فأخبر أن من أحب من دون الله شيئا - كما يحب الله تعالى - فهو ممن اتخذ من دون الله أندادا، فهذا ند في المحبة لا في الخلق والربوبية، فإن أحدا من أهل الأرض لم يثبت هذا الند في الربوبية - بخلاف ند المحبة، فان أكثر أهل الأرض قد اتخذوا من دون الله أندادا في الحب والتعظيم. وهذه هي التسوية المذكورة في قوله تعالى حكاية عنهم وهم في النار يقولون لآلهتهم وأندادهم وهي محضرة معهم في العذاب: (تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) الشعراء: 97 - 98، ومعلوم أنهم لم يسووهم برب العالمين في الخلق والربوبية، وإنما سووهم به في المحبة والتعظيم " والطاعة والتشريع ". وهذا أيضا هو العدل المذكور في قوله تعالى: (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي يعدلون به غيره في العبادة التي هي المحبة والتعظيم.. " (1) . وإذا كان تجريد المحبة وإخلاصها هو متعلق الشطر الأول من شطري الشهادة، وهو " شهادة إن لا اله إلا الله " - فان تجريد المتابعة والتحكيم للرسول صلى الله عليه وسلم هو تحقيق المحبة المتعلق بالشطر الآخر " شهادة إن محمدا رسول الله "، يقول الله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (*) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) (آل عمران: 31 - 32) . فهذه هي آية المحبة وهي آية المحنة، " قال بعض السلف: ادعي قوم محبة الله، فأنزل الله آية المحنة: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (2) . يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: " هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فانه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع

_ (1) المدارج 3 / 21 (2) المصدر نفسه ص 22

الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأعماله - كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال: " من عمل عملا ليس عليه امرنا فهو رد " (قل أطيعوا الله والرسول فان تولوا) أي تخالفوا عن أمره (فان الله لا يحب الكفرين) ، فدل على إن مخالفته في الطريقة كفر، والله لا يحب من اتصف بذلك - وان ادعى وزعم في نفسه انه محب لله (1) ، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون احب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين " (2) . ونواصل مع ابن القيم رحمه الله حيث يقول: " فانتفاء محبتهم لله لازم لانتفاء المتابعة لرسوله، وانتفاء المتابعة ملزوم لانتفاء محبة الله لهم - فيستحيل إذا ثبوت محبتهم لله وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة لرسوله. ودل على إن متابعة الرسول صلي الله عليه وسلم هي حب الله ورسوله، وطاعة أمره، ولا يكفي ذلك في العبودية - حتى يكون الله ورسوله احب إلى العبد مما سواهما، فلا يكون عنده شيء احب إليه من الله ورسوله، ومتى كان عنده شيء احب إليه منهما فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله لصاحبه البتة، ولا يهديه الله - قال الله تعالى: «قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ» (التوبة: 24) . فكل من قدم طاعة أحد من هؤلاء على طاعة الله ورسوله، أو قول أحد منهم على قول الله ورسوله، أو مرضاة أحد منهم على مرضاة الله ورسوله، أو خوف أحد منهم ورجاءه والتوكل عليه على خوف الله ورجائه والتوكل عليه، أو معاملة أحدهم على معاملة الله - فهو ممن ليس الله ورسوله احب إليه مما سواهما، وان قال بلسانه فهو كذب منه، وإخبار بخلاف ما هو عليه. وكذلك من قدم حكم أحد على حكم الله ورسوله، فذلك المقدم عنده احب إليه من الله ورسوله، لكن قد يشتبه الأمر على من يقول قول أحد أو حكمه أو طاعته أو

_ (1) التفسير (2) رواه البخاري ومسلم رقم 44

مرضاته، ظنا منه انه لا يأمر ولا يحكم ولا يقول إلا ما قاله الرسول - فيطيعه، ويحاكم إليه، ويتلقى أقواله كذلك، فهذا معذور إذا لم يقدر على غير ذلك. وأما إذا قدر على الوصول إلى الرسول، وعرف إن غير من اتبعه هو أولى به مطلقا، أو في بعض الأمور، ولم يلتفت إلى الرسول ولا إلى من هو أولى به - فهذا الذي يخاف عليه، وهو داخل تحت الوعيد، فان استحل عقوبة من خالفه وأذله، ولم يوافقه على اتباع شيخه فهو من الظلمة المعتدين، وقد جعل الله لكل شيء قدرا " (1) . ويقول رحمه الله في بيان بعض لوازم محبته صلى الله عليه وسلم وهو الأدب معه: " رأس الأدب معه: كمال التسليم والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون إن يحمله معارضة خيال باطل يسميه معقولا، أو يحمله شبهة أو شكا، أو يقدم عليه آراء الرجال وزبالات أذهانهم. فيوحده بالتحكيم والتسليم، والانقياد والإذعان - كما وحد المرسل سبحانه وتعالى بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل. فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيد المرسل، وتوحيد متابعة الرسول، فلا يحاكم إلى غيره، ولا يرضى بحكم غيره، ولا يرضي بحكم غيره، ولا يقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه، وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه، فان أذنوا له نفذ وقبل خبره، وإلا فان طلب السلامة اعرض عن أمره وخبره، وفوضه إليهم، وإلا حرفه عن مواضعه، وسمي تحريفه: تأويلا وحملا، فقال: نؤوله ونحمله فلئن يلقي العبد ربه بكل ذنب على الإطلاق - ما خلا الشرك بالله - خير له من إن يلقاه بهذه الحال. ولقد خاطبت يوما بعض أكابر هؤلاء، فقلت له: سألتك بالله لو قدر إن الرسول صلى الله عليه وسلم حي بين أظهرنا، وقد واجهنا بكلامه وبخطابه، أكان فرضا علينا إن نتبعه من غير إن نعرضه على رأي غيره وكلامه ومذهبه، أم لا نتبعه حتى نعرض ما سمعناه منه على آراء الناس وعقولهم؟!

_ (1) مدارج السالكين 1 / 99 / 100

فقال: بل كان الفرض المبادرة إلى الامتثال من غير التفات إلى سواه، فقلت: فما الذي نسخ هذا الفرض عنا وبأي شيء نسخ؟! فوضع إصبعه علي فيه، وبقي باهتا متحيرا وما نطق بكلمة. هذا أدب الخواص معه، لا مخالفة أمره والشرك به، ورفع الأصوات، وإزعاج الأعضاء بالصلاة عليه والتسليم (1) ، وعزل كلامه عن اليقين، وان يستفاد منه معرفة الله أو يتلقى منه أحكامه ". ويقول: " ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: إن يكون الله ورسوله احب إليه مما سواهما، وان يحب المرء لا يحبه إلا لله، وان يكره إن يعود إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره إن يلقى في النار " (2) . وليست محبة الله ورسوله دعوى يمكن إن تلوكها ألسنة الزنادقة أو المبتدعين، أو شعارا يرفعه المنافقون، بل هي تحقيق توحيد الله وطاعته باتباع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فمحبته صلى الله عليه وسلم التي لا يكون العبد شاهدا إن محمدا رسول الله إلا بها لا تتحقق إلا باتباعه وتعزيره وتوقيره وتعظيم سنته والتخلي عن التقديم بين يدي أمره ونهيه - كما جاء في حديث: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " (3) . يقول الإمام ابن القيم في بيان هذا الأصل العظيم " اصل العبادة: محبة الله، وفيه، كما يحب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه، فمحبتهم من تمام محبته، وليست محبة معه، كمحبة من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحبه. وإذا كانت المحبة له هي حقيقة عبوديته وسرها، فهي إنما تتحقق باتباع آمره، واجتناب نهيه، فعند اتباع الأمر واجتناب النهى تتبين حقيقة العبودية والمحبة، ولهذا جعل تعالى اتباع رسوله علما عليها، وشاهدا لمن ادعاها، فقال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحبكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) "آل عمران:31".

_ (1) يقصد الإمام بذلك الرد على المتصوفة وما يفعلونه في الموالد وغيرها. (2) رواه البخاري ومسلم رقم 43 (3) انظر الكلام عن سنده في جامع العلوم والحكم.

فجعل اتباع رسوله مشروطا بمحبتهم لله، وشرطا لمحبة الله لهم، ووجود المشروط ممتنع بدون وجود شروطه، وتحققه بتحققه، فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة. بل المعول فى باب معرفة الله: على العقول المتهوكة المتحرية المتناقضة، وفى الأحكام: على تقليد الرجال وآرائها، والقران والسنة إنما نقرؤهما تبركا لا أنا نتلقى منها أصول الدين لا فروعه، ومن طلب ذلك ورامه عاديناه وسعينا فى قطع دابره واستئصال شأفته " (1) . انظر إلى كلام هذا الإمام وهو يتحدث عن واقع عصره حين كان الانحراف فى توحيد الله بالعبادة، وتوحيد الرسول بالمتابعة - مع دعوى المحبة لله ورسوله - محصورا فى الضلالات الكلامية والبدع السلوكية، كقول الأشاعرة: إن الظواهر النقلية لا بد من عرضها على القواطع، لأنها يقين، وظواهر النقل ظنون بزعمهم (2) . وكقول المتصوفة بعرض النصوص الشرعية على الكشف والذوق والحال وكقول المتفقة بعرض الأحاديث الصحيحة على كلام إمام المذهب، ونحو ذلك من الانحرافات المغلفة بالتأويلات الفاسدة. أقول: ذلك الانحراف على خطورته أين منه ما وقع فى العصور الأخيرة، من تحكيم صريح لقوانين الكفار ومناهجهم وطرق حياتهم، وتقديم ذلك على الكتاب والسنة، ومحاربة الداعين إلى التمسك بالدين وتحكيم الشريعة، واستئصال شأفتهم؟! ومع هذا يدعى أصحاب هذا الكفر المبين ورجال دينهم محبة الله ورسوله ويعبرون عن هذا الحب المزعوم بالمظاهر والاحتفالات البدعية، وأعمال " الضرار" الأخرى ويستدرجون بها عقول بعض العلماء الناصحين، فيتورعون عن الحكم عليهم بما حكم الله عليهم به متذرعين بأنهم غير مستحلين!! إن الصورة العصرية المناقضة لشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله أي لتوحيد العبادة وتوحيد المتابعة - تتجرد عن التأويلات والأقيسة، وتتعرى

_ (1) المدارج 2 / 387 - 388 (2) انظر الفصل المتعلق بقانون التعارض من أساس التقديس للرازي.

عن قصد المصلحة والإخلاص، وتتجلى فى صورة افتئات صارخ على مقام الألوهية، وتحكم مقنن في حكم الله ورسوله. هذه الصورة التي من مظاهرها المتكررة الدائمة عرض حكم الله ورسوله وتوقف إقراره على موافقة السلطة التي منحها القانون حق التشريع المطلق. مثال ذلك: تحريم الخمر، وهو حكم قطعى ضرورى فى الشريعة الإسلامية، يتوسل الدعاة والعلماء الطيبون إلى السلطة الحاكمة أن تقره لكى يصبح تشريعا رسميا ملزما، فإن تكرمت السلطة وقبلت الطلب عرضته على المجلس التشريعى الذي أعطى بحكم الدستور حق التشريع المطلق - ليبدي رأيه بالموافقة أو عدمها! ثم في المجلس تدور معركة الأصوات بين المؤيدين والمعارضين الذين يعترضون بكل ثقة وبكل جرأة، لأنهم يمارسون عملهم الطبيعي وسلطتهم المشروعة. وفي أحسن الحالات - بل على احسن الافتراضات - يحصل القرار على الأغلبية، وهنا فقط يصبح حكما ملزما، ويدرج ضمن مواد التشريع الوضعي على انه فقرة من فقراته. ومع ذلك يظل حق السلطة التشريعية الثابت في إلغاء هذه المادة - متى شاءت - محفوظا بحكم الدستور. أي لو فرضنا إن دولة ما طبقت بعض أحكام الشريعة، كجلد شارب الخمر مثلا، فهذا الحكم لم يكتسب صفة القانون والإلزام والتنفيذ لصدوره عن الله عز وجل، بل لصدوره عن السلطة التشريعية الرسمية التي أقرته بعد عرضه عليها!! فالله جل جلاله - عندهم - ليس من حقه التشريع لذاته، ولا هو أهل لان يطاع، وليس لحكمه صفة الإلزام لذاته، وإنما ينتقي ويختار من أحكامه بناء على موافقة مصدر السلطات ومالك حق التشريع، وهم البشر!! ونحن نسأل هؤلاء المدعين للإسلام السؤال نفسه الذي سأله الإمام ابن القيم أسلافهم، فنقول: لو قدر إن الرسول صلى الله عليه وسلم حي بين أظهرنا، وواجهنا بكلامه وبخطابه وتلا علينا حكم الله في أي أمر، أكان فرضا علينا إن نتبعه ونطيعه رأسا - أم نعرض ما يأتينا به على تلك المجالس؟

فسيقولون: بل لابد من الامتثال والطاعة توا، فنقول: أغياب شخص النبي صلى الله عليه وسلم، مع بقاء دينه غضا طريا كما نزل هو السبب إذن في إعراضكم عن شرع الله، وتطاولكم على مقام الألوهية، وجلوسكم على عرش الربوبية؟! ورحم الله الشيخ محمد بن إبراهيم حين قال في بيان النوع الخامس من أنواع الحكم بغير ما انزل الله التي تخرج صاحبها من الملة وتناقض الشهادتين: الخامس: وهو أعظمها واشملها وأظهرها - معاندة للشرع، ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ولرسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية، إعدادا، وإمدادا، وإرصادا وتأصلا، وتفريعا، وتشكيلا، وتنويعا، وحكما، وإلزاما، ومراجع ومستمدات. فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع مستمدات، مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فلهذه المحاكم مراجع هي القانون الملفق من شرائع شتي، وقوانين كثيرة، كالقانون الفرنسي، والقانون الأمريكي، والقانون البريطاني، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين للشريعة وغير ذلك. فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام مهيأة مكملة مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب، يحكم حاكمها بينهم بما يخالف حكم السنة والكتاب من أحكام ذلك القانون، وتلزمهم به وتقرهم عليه وتحتمه عليهم، فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة للشهادة بان محمدا رسول الله بعد هذه المناقضة؟ " (1) . وإذا كانت حقيقة المحبة هي بهذه المنزلة بالنسبة لأصل التوحيد وشهادة إن لا اله إلا الله وان محمدا رسول الله، فإنها أيضا من اعظم أعمال القلوب المتعلقة بتحقيق توحيد الألوهية والعبادة، ومن هنا كان الأنحراف الكبير الذي وقع فيه المتصوفة والكلاميون ونحوهم، ممن غفل عن حقيقة المحبة ومعناها ولوازمها ومقتضياتها، فأنكر شيئا من ذلك، أو صرفه في غير موضعه المشروع. وتفصيل هذه القضايا مما لا يتسع له المجال هنا، ولكن لم أر بدا من التعرض لشيء من ذلك - لا سيما وقد وجدت كلاما عظيما لشيخ الإسلام ابن تيميه في رسالته: " التحفة العراقية في الأعمال القلبية "، هذه مقتطفات منه:

_ (1) تحكيم القوانين ص6

يقول رحمه الله: " محبة الله، بل محبة الله ورسوله من اعظم واجبات الإيمان، واكبر أصوله واجل قواعده، بل هي اصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين، كما إن التصديق به اصل كل قول من أقوال الإيمان والدين، فان كل حركة في الوجود إنما تصدر عن محبة، أما عن محبة محمودة أو عن محبة مذمومة.. فجميع الأعمال الإيمانية الدينية لا تصدر إلا عن المحبة المحمودة، واصل المحبة المحمودة هي محبة الله سبحانه وتعالى، إذ العمل الصادر عن محبة الله، فان الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه - كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: " يقول الله تعالى: أنا اغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فآنا منه برئ، وهو كله للذي أشرك " (1) . وثبت في الصحيح حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار " القارئ المرائي، والمجاهد المرائي، والمتصدق المرائي ". بل إخلاص الدين لله هو الذي لا يقبل الله سواه، وهو الذي بعث به الأولين والآخرين من الرسل، وانزل به جميع الكتب، واتفق عليه أئمة أهل الإيمان، وهذا هو خلاصة الدعوة النبوية وهو قطب القران الذي تدور عليه رحاه ... إلى أن يقول: فإذا كان اصل العمل الديني هو إخلاص الدين لله، وهو إرادة الله وحده، فالشيء المراد لنفسه هو المحبوب لذاته، وهذا كمال المحبة، لكن اكثر ما جاء به المطلوب مسمى باسم العبادة، كقوله: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) ، وقوله: (يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم) ، وأمثال هذا. والعبادة تتضمن كمال الحب ونهايته وكمال الذل ونهايته، فالمحبوب الذي لا يعظم ولا يذل له لا يكون معبودا، والمعظم الذي لا يحب لا يكون معبودا (2) ، ولهذا

_ (1) سيأتي تخريجه في مبحث الإخلاص. (2) وهذا مما يفرق به بين حكم اتباع طواغيت التدين والخرافة، واتباع طواغيت الحكم المرتدين (أي في الحكم الظاهر في الدنيا لا ما عند الله) . =

قال تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ» فبين سبحانه إن المشركين بربهم الذين يتخذون من دون الله أندادا - وان كانوا يحبونهم كما يحبون الله، فالذين آمنوا اشد حبا لله منهم لله ولأوثانهم، لان المؤمنين اعلم بالله، والحب يتبع العلم، ولان المؤمنين جعلوا جميع حبهم لله وحده وأولئك جعلوا بعض حبهم لغيره وأشركوا بينه وبين الأنداد في الحب، ومعلوم أن ذلك أكمل - قال تعالى: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» . واسم المحبة فيه إطلاق وعموم، فان المؤمن يحب الله ويحب رسله وأنبياءه وعباده المؤمنين، وان كان ذلك من محبة الله، وان كانت المحبة التي لله لا يستحقها غيره، ولهذا جاءت محبة الله سبحانه وتعالى مذكورة بما يختص به سبحانه من

_ = فإن اتباع الأحبار والرهبان ونحوهم - كمشايخ الطرق الغلاة وأئمة الفرق الدينية المرتدة يتبعون رؤساءهم تدينا وتعبدا، فيجمعون لهم بين التعظيم والمحبة والذل والطاعة، فلهذا كان عملهم ذلك شركا في الربوبية، وسمي الله تعالي متبوعيهم أربابا فقال: (اتخذوا أحبارهم ورهبنهم أربابا من دون الله) ، ومن هنا استوي حكم الاتباع مع حكم المتبوعين في الكفر والضلال. وهذا بخلاف اتباع طواغيت الحكم والقهر، فان شبهة الإكراه في حقهم واضحة، والله تعالي لم يخبر عن فرعون وامثاله إن قومه اتخذوه ربا وعبدوه كما اخبر عن الأحبار والرهبان، وإنما اخبر انه هو ادعي الربوبية. وأما قوله تعالي: (فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون) ، فمعناه خاضعون خضوعا لا يلزم منه المحبة والتعظيم، بل كانوا يسمونهم سوء العذاب ويذبحون أبناءهم ويستحيون نسائهم. فاتباع طواغيت القهر المرتدين - دعوى الإكراه منهم أو الأعذار به من غيرهم لها وجه، لان تسلطهم وجبروتهم يستدعي إن يقدم الاتباع لهم الطاعة والذل وإظهار الموافقة، مع احتمال إبطان الكره والبغض، ولهذا قد تنتهي العبودية لهم بانتهاء دولتهم، كما حصل في مصر حين حكمها صلاح الدين، فانتقل أهلها من إظهار الرفض والزندقة إلى الإسلام والسنة دون عناء، فتكفير هؤلاء الاتباع مطلقا غلو وإسراف. أما من جمع منهم بين المحبة والذل والتعظيم للطواغيت، فهذا موافق لهم علي ردتهم وحكمه حكمهم بلا خفاء، ولكن معرفة ذلك علي الحقيقة ليست بالأمر اليسير بالنسبة لكل أحد من الاتباع، لاشتباهه واختلاطه بمن يتبعهم هوى وشهوة والمقصود بيان إن ما جاء في كتابات بعض الدعاة المعاصرين في هذه القضية من إطلاق التسوية بين الطائفتين من الاتباع يجب تقييده، وان قياسهم الشعوب الإسلامية علي الاتباع والمستضعفين من الكفار، الذين ذكر الله مناظرتهم لمتبوعيهم في النار، وبراءتهم منهم حين لا تنفع البراءة - قياس فيه غلو وإسراف نعم هؤلاء الاتباع مسؤولون ومؤاخذون كل بحسبه، ولكن التكفير بالجملة والعموم أمر آخر.

العبادة، والإنابة إليه، والتبتل له ونحو ذلك، فكل هذه الأسماء تتضمن محبة الله سبحانه وتعالى. ثم انه كما بين إن محبته اصل الدين، فقد بين إن كمال الدين بكمالها، ونقصه بنقصها، فان النبي صلي الله عليه وسلم قال: " رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله "، فاخبر إن الجهاد ذروة سنام العمل، وهو أعلاه وأشرفه، وقد قال تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ) إلى قوله: (أَجْرٌ عَظِيمٌ) والنصوص في فضائل الجهاد وأهله كثيرة. وقد ثبت أنه أفضل ما تطوع به العبد، والجهاد دليل المحبة الكاملة، قال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ) الآية. وقال تعالى فى صفة المحبين والمحبوبين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ) . فوصف المحبوبين المحبين بإنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، وأنهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، فإن المحبة مستلزمة للجهاد لأن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض محبوبه، ويولى من يواليه، ويعادى من يعاديه، ويرضى لرضاه، ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به، وينهى عما ينهى عنه، فهو موافق له فى ذلك، وهؤلاء هم الذين يرضى الرب لرضاهم، ويغضب لغضبهم، إذ إنما يرضون لرضاه، ويغضبون لما يغضب له " (1) . أقول: شيخ الإسلام هنا يلتفت للرد على مزاعم الصوفية المدعية للحب الكامل والولاية لله - مع تركهم الجهاد والعمل، والله تعالى أخبر أنه - إنما يكره ذلك المنافقون فقال: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) التوبة: 81.

_ (1) انظر التحفة العراقية.

فالكارهون للجهاد لا يمكن أبدا أن يكونوا محبين لله ورسوله ولا أولياء له ولرسوله. ثم يقول الشيخ " ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح فيما يرويه عن ربه " ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشى، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته ولا بد له منه ... ". قال: والمحب التام لا يؤثر فيه لوم اللائم وعذل العاذل، بل ذلك يغريه بملازمة المحبة - كما قد قال الشعراء فى ذلك (1) ، وهؤلاء هم أهل الملام المحمود، وهم الذين لا يخافون من يلومهم على ما يحب الله ويرضاه من جهاد أعدائه، فإن الملام على ذلك كثير، وأما الملام على فعل يكرهه الله أو ترك ما أحبه فهو لوم بحق، وليس من المحمود الصبر على هذا الملام، بل الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل. وبهذا يحصل الفرق بين " الملامية " الذين يفعلون ما يحبه الله ورسوله ولا يخافون لومة لائم فى ذلك، وبين " الملامية " الذين يفعلون ما يبغضه الله ورسوله، ويصبرون على الملام فى ذلك " (2) . أقول: يطول الحديث فى التفصيل فى هذا العمل القلبي العظيم، وبيان درجاته، وأدلة كل درجة، وأثر ذلك في أعمال الإيمان من صلاة وزكاة ونحوها ولكن ضيق المجال والرغبة في الاختصار بتجاوز ما قد سطر ولعل في الحديث عن الأعمال القلبية الأخرى ما يكمل الفائدة مجتمعة، والله المستعان.

_ (1) كقول القائل: أجد الملائمة فى هواك لذيذة ... حبا لذكرك فليلمنى اللوم (2) وهم فرقة من الصوفية، ألف عنهم أبو عبد الرحمن السلمى كتاب: الملامية.

3 - اليقين: لليقين معنيان وإن شئت فقل: هو معنى واحد منظور له من جهتين: 1 - اليقين من حيث هو أصل للإيمان، إذ لا إيمان مع الشك. 2 - اليقين من حيث هو درجة عليا من درجات الإيمان. فبالنظر للمعنى الأول يكون كل مؤمن موقنا وإلا لم يستحق أسم الإيمان، وبالنظر للمعنى الآخر - ليس كل مؤمن موقنا، بل الموقنون طائفة خاصة من المؤمنين. فإما اليقين بالمعنى الأول فهو شرط من شروط شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، أي إن الإيمان المجمل - قول القلب واعتقاده - لا يتحقق إلا به، فمن شك في الله أو في رسوله وما جاء به عن الله، فهو كافر لا شهادة له ولا إيمان. بذلك أخبر الله تعالى الكفار حين قالوا لرسلهم: (آنا كفرنا بما أرسلتم به وآنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب * قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض) " إبراهيم:9- 10". وأخبر أنهم إذا طلب منهم الإيمان بالبعث قالوا: (ما ندرى ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين"الجاثية "32" لكن إذا كان يوم القيامة يقولون: (ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صلحا آنا موقنون) ... " السجدة:12" ولهذا جاء وصف القرآن أكثر من مرة بأنه (لا ريب فيه) . وفى حديث جابر رضى الله عنه يقول: أنا من شهد معاذا حين حضرته الوفاة يقول: اكشفوا عني سجف القبة أحدثكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يمنعني إن أحدثكموه إلا أن تتكلموا، سمعته يقول:" من شهد أن لا أله إلا الله مخلصا من قلبه أو يقينا لم يدخل النار " أو " دخل الجنة " وقال مرة: " دخل الجنة ولم تمسه النار " (1) .

_ (1) المسند (5/236) ، وسنده من أصح الأسانيد واجلها فإن الإمام أحمد رواه عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر - رضى الله عن الجميع.

وروى الإمام مسلم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه - في قصة تبوك - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أشهد أن لا إله إلا الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة " وفى رواية " فيحجب عن الجنة " (1) وعنه في حديث أخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة " (2) . وهذا اليقين - بهذا المعنى - هو حقيقة العلم بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله - ومن ثم ذكر بعض العلماء (العلم) شرطا مستقلا من شروط الشهادتين، مستدلين بقوله تعالى: «فأعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك» (محمد: 19) وقول النبي صلى الله عليه وسلم " من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة " (3) وعقد الإمام البخاري باباً بعنوان:" باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أعلمكم بالله" وأن المعرفة فعل القلب، لقوله تعالى (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) ثم روى حديثا آخره: " إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا " (4) . لكن لم أر أن أفراده هنا - أى العلم - لأن الحديث عن اليقين يشمله ويتضمنه، ولأن الحديث عن ضده، وهو الجهل بالتوحيد - كليا أو جزئيا - يحتاج لتطويل يخرج عن دائرة موضوعنا هنا. وأما اليقين بالمعنى الأخر - أى اليقين الدرجة - فهو لب الإيمان وخلاصته وزبدته، كما قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه " اليقين الإيمان كله " (5) ، وفى المسند " أفضل الأعمال عند الله إيمان لا شك فيه، وغزو لا غلول فيه، وحج مبرور" (6) وهو يقابل الإيمان الكامل المفصل كما أن ذاك يقابل الإيمان المجمل، ولهذا جاء في القرآن

_ (1) رقم 44 (2) رقم 52 (3) مسلم رقم (43) . (4) 1 / 70) مع الفتح (5) المصدر السابق: 48. (6) 2 / 258) ، (2/348) وقد تقدم تخريجه وحكمه.

شرطاً للإمامة في الدين، فقال تعالى: «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ» (السجدة: 24) . ومن ارتباطه بالصبر قوله تعالى: «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ» (الروم: 60) وأخبر الله تعالى عن إمام الموحدين، فقال: «وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» (الأنعام: 75) . فقد كان الإيمان متحققا عنده - كما أخبر الله تعالى عنه في الآية التي قبلها: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ» ، فرقاه الله إلى درجة اليقين، مثلما كان مؤمناً بأن الله يحيى الموتى لكن طلب الرؤية لتحصل الطمأنينة التي هي برد اليقين (1) . وهذا اليقين هو الذي عبر عنه بعض السلف بقوله: " لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا " (2) . وقال الآخر: " رأيت الجنة والنار حقيقة، قيل له: كيف؟ قال: رأيتهما بعيني رسول الله ورؤيتي لهما بعينيه آثر عندي من رؤيتي لهما بعيني، فإن بصري قد يطغى ويزيغ، بخلاف بصره صلى الله عليه وسلم" (3) . واليقين بهذا المعنى نظير الإحسان الوارد في حديث جبريل، لكن الإحسان في عمل الجوارح، واليقين في عمل القلب، والله أعلم. فاليقين في الجملة متعلقة بالاعتقاد، وذلك أن مجمل الإيمان القلبي هو الإيمان بالغيب فإذا رسخ هذا الإيمان وارتقى عن الشكوك حتى يصبح كالمعاينة فهو اليقين.

_ (1) ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم " نحن أولى بالشك من إبراهيم "، أى فهو أولى باليقين فلم يشك قط. (2) هو عامر بن عبد القيس، انظر: المدارج (2 / 400) (3) المصدر نفسه

ولهذا جاء أعظم الغيبيات - بعد الإيمان بالله - وهو الإيمان بالآخرة مقرونا باليقين أكثر مما سواه، فقال تعالى: «وبالآخرة هم يوقنون» في أول البقرة والنمل ولقمان. فإن الإيمان بالآخرة - مع دلالة الفطرة السوية والعقل السليم عليه - ليس في قوة الإيمان الفطري بالله، كما أن تفصيلاته مصدرها الوحي وحده. واليقين نوعان: 1- يقين في خبر الله. 2- يقين في أمر الله الشرعي والكوني. فاليقين بخبر الله هو الإيمان بصدقه وتحققه ووقوعه - إن كان مما له الوقوع - إيمانا لا شك فيه، وهذا هو الإيمان بالغيب يقينا، ومن الأدلة عليه قوله تعالى: «وإذ قال إبراهيم ربي أرنى كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلي ولكن ليطمئن قلبي» .الآية، فطلب الخليل من ربه مثالا للبعث يزيده إيمانه حتى يصبح يقينا خالصا، وقريب منه طلب الحواريين المائدة، فمع إيمانهم بقدرة الله طلبوا ما تطمئن به قلوبهم كذلك. وهذا اليقين قد بلغ ذروته النبي صلى الله عليه وسلم - ليس فيما أخبر الله به من أمور الدين والإيمان فحسب، بل فى كل خبر ووعد، حتى إنه صلى الله عليه وسلم كان موقناً بأن الله سينصره ويظهره على العالمين وهو ما يزال في أقسى مواقف الاضطهاد والتشريد والأذى، ولم يستبطئ النصر كما استبطأه رسل من قبله فقالوا «متى نصر الله» ، ولم يستيئس كما استيأس بعضهم. وأما اليقين بأمر الله، فهو امتثاله برضاه وطمأنينة وتسليم - إن كان شرعيا، والرضا به والتسليم - إن كان كونيا. وذروته ما فعله إمام الموحدين من الامتثال لذبح أبنه الوحيد وما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في مواقف من أعظمها يوم الحديبية حين قال:" إني عبد الله، لن أخالف أمره، ولن يضيعني " أو نحوها (1) .

_ (1) انظر ما تقدم في (الرضا) .

وهذا في حقيقته هو الاستسلام لحكمه استسلاما يرتقى لدرجة الإحسان - كما في قوله تعالى: «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا» . وهو تحقيق دين الإسلام وشهادة أن لا إله إلا الله التي هي العروة الوثقى، كما قال تعالى: «ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى» . (لقمان: 22) . مع قوله: «فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى» (البقرة: 256) . ولهذا جاءت الآيات المحكمات الدالة على أتباع شريعة الله والتحاكم إليها وحدها مذيلة بوصف اليقين لمن أمتثل، فدل على شك من خالف وارتيابه، قال تعالى: «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (*) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (*) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» (المائدة: 48 - 50) . وقال جل ذكره: «ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (*) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (*) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» (الجاثية: 18 - 20) . فكما سبق بيانه من أن تحكيم شرع الله هو الإسلام، فإذا بلغ من العبد إلى حد انتفاء الحرج والمعارضة بالرضا الكامل فهو الإحسان، فكذلك اعتقاد بطلان ما

عداه، وأنه وحده الحق الذي لا أحسن منه ولا أهدى هو درجة الإسلام، فإذا رسخ هذا حتى لا تزعزعه شبهه ولا يعتريه شك فهو اليقين. وقد ضرب الصحابة - رضى الله عنهم - من اليقين في أمر الله أعظم الأمثال، مما لا يتسع المقال للتطويل به، وحسبك أن ينزل الله تحريم الخمر والقوم مدمنون على شربها، مدخرون لها، مغالون في أثمانها، فما يكاد الأمر ينزل حتى تسيل بها أزقة المدينة أنهارا!! وأن ينزل الله الأمر بالحجاب والقوم مختلطون متعارفون، فما يكاد ذلك يبلغهم حتى تغدو نساؤهم كأنهن الغربان. فهاتان عادتان إحداهما نفسية، والأخرى اجتماعية، وهما من أشد العادات وطئا وأشقها تغييرا، تذهبان دفعة واحدة، وتستأصلان من أعماق النفوس فى لحظة واحدة، وما ذلك إلا باليقين الذي ليس وراءه في الأمم يقين. 4 - الصدق والإخلاص: هذان عملان قلبيان من أعظم أعمال القلوب وأهم أصول الإيمان. فأما الصدق فهو الفرقان بين الإيمان والنفاق، وأما الإخلاص فهو الفرقان بين التوحيد والشرك - فى قول القلب واعتقاده، أو فى إرادته ونيته. والأعمال -التي رأسها وأعظمها " شهادة أن لا إله إلا الله " -لا تقبل إلا بتحقيق الصدق والإخلاص. ومن هنا كان شرطين من شروطها، وأكذب الله المنافقين فى دعوى الإيمان وقول الشهادة لانتفاء الصدق فقال: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد أنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد أن المنافقون لكاذبون) (المنافقون: 1) . وقال: «وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ» (العنكبوت: 3)

ثم قال بعد آيات «وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ» (العنكبوت:11) وقال: «لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ» (الأحزاب: 24) . كما أبطل سبحانه زعم أهل الكتاب والمشركين أن دينهم هو الحق بانتفاء الإخلاص فقال: «لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة» . إلى أن يقول: «وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة» (البينة: 1 - 5) . وقال: «اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله هو سبحانه عما يشركون» (التوبة: 31) . وكرر منافاة الشرك للإخلاص في مواضع كثيرة، منها ما في سورة الإخلاص الكبرى (1) . " الزمر ": «تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (*) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى» (الزمر: 1 - 3) . ثم قال: «قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (*) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (*) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (*) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (*) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ» . (الزمر: 11 - 15) .

_ (1) وأما سورة الإخلاص الصغرى (الصمد) فهى في توحيد المعرفة والأثبات.

ثم قال: «قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (*) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (*) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ» . (الزمر: 64 - 66) . فعلى محك الصدق والإخلاص بطلت أكثر دعاوى العابدين، وهلك أكثر الثقلين، فالصدق يخرج كل من أدعى الإيمان - أو شيئا من أعماله - وأظهره وهو يبطن خلافه، والإخلاص يخرج كل من عبد مع الله غيره أو أراد غيره معه في عمل من أعمال العبادة - كما فى الحديث الصحيح: " قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه " (1) . ومن هنا كانت شهادة أن لا إله إلا الله هى كلمة الصدق (2) ، وكلمة الإخلاص (3) وأقترن الصدق والإخلاص وحل كلا منهما محل الأخر فى الأحاديث، كأحاديث الشفاعة التي وردات بها روايات كثيرة، منها: " أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصة من قلبه ونفسه " وفي رواية: " شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصا يصدق قلبه لسانه ولسانه قلبه "، وفي رواية " رب من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمد عبده ورسوله مصدقا لسانه قلبه أدخله الجنة ". وفي رواية: " ثم يشفع الأنبياء في كل من كان يشهد أن لا إله إلا الله مخلصا، فيخرجونهم، ثم يتحنن الله برحمته على من فيها، فما يترك فيها عبدا في قلبه مثقال حبة من الإيمان إلا أخرجه منها " (4)

_ (1) صحيح مسلم، رقم (2985) (2) من ذلك ما روي عن ابن عباس فى تفسير قوله تعالى «والذي جاء بالصدق وصدق به» انظر ابن كثير (7 / 90) . (3) ورد فى ذلك أحاديث حسنة بمجموعها، انظر: المسند (1/ 4، 1 / 63، 5 / 123) . (4) هذه الروايات رواها البخاري والأمام أحمد، أنظر: الفتح (1 / 418) ، والمسند (2/ 373) ، (5 /413) ، (/ 11) على الترتيب.

وكحديث مالك بن الدخشم الذي كان متهما بالنفاق،فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما يخالف ذلك من روايات، منها:"أما أشهد أن لا إله إلا الله بها مخلصا؟ فإن الله حرم على النار من شهد بها ". وفي رواية البخاري: " يبتغي بذلك وجه الله " مكان " مخلصا " وفي رواية:" والذي بعثني بالحق لئن قالها من قلبه لا تأكله النار أبدا "، وهي تقيد الإطلاق الوارد في رواية مسلم: "أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ " (1) . والصدق والإخلاص مع تقاربهما، ومع ترادفهما أحيانا - يعرف التمييز بينهما بضد كلا منهما، فالصدق ضده انتفاء إرادة الله بالعمل أصلا - كمن أمن أو صلى كاذبا، لم يرد الإيمان والصلاة، وإنما فعل ذلك لسبب آخر - كما فعله المنافقون حفظاً لأنفسهم وأموالهم من السيف، وجبنا عن تحمل أعباء المواجهة الصريحة للإيمان. والإخلاص ضده انتفاء إفراد الله بالإرادة والتوجه، كما آمن أو صلى صارفا ذلك لأحد من دون الله، وهذا هو الشرك الذي وقع فيه أكثر العالمين، ومنهم أهل الكتاب والمشركين الذين اتخذوا من دون الله أولياء؛ من الأنبياء أو غيرهم، وعبدوهم زاعمين أنهم يقربونهم إلى الله زلفى. ومما يميز بينهما أن الصدق لا يختص بالاعتقاد، بل يكون في الأعمال أيضا،بخلاف الإخلاص فإنه عمل قلبي محض، لكن تظهر أثاره على الجوارح - كما سبق فيما أوضحنا فى العلاقة بين عمل القلب وعمل الجوارح، وهذا يشبه ما سبق من القول فى اليقين والإحسان، والله أعلم. وعلى قدر تحقيق العبد لشعب الإيمان وأعماله يكون حظه من الصدق - حتى يصل إلى درجة "الصديقين"، يقول الله تعالى: «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي

_ (1) الحديث ورد من طرق كثيرة وهذه الروايات في "المسند": (4 /44) ، و"البخاري": (1/ 519) ، مسلم، رقم (54) .

الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» (البقرة: 77) . «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» (الحجرات: 15) وقال: «وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ» (الحديد: 19) . كما ان الإخلاص بالنسبة للأعمال - كالروح للجسد، فالفرق بين عمل بإخلاص وعمل لا إخلاص، فيه كالفرق بين البشر السوي والتمثال الشاخص. وعلى قدر ما يحقق العبد في الإخلاص لربه يكون ترقية في (المخلصين) ، الذين صرف الله عنهم غواية الشيطان واثني عليهم في كل أمة، وبين نجاتهم حين هلاك أممهم. قال تعالى حكاية عن إبليس: «إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» (ص: 83) ، وقال في سورة الصافات تعقيبا على إهلاك الأمم عامة: «فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (*) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ» (الصافات: 74) ، وعن قوم إلياس خاصة، قال فيها: «فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (*) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ» . وكرر ذلك في مواضع من هذه السورة وغيرها، كقوله عن يوسف لما عصمه من الفاحشة: «كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ» (يوسف: 24) . ولهذا كثر الحديث عن الصدق والإخلاص في كتاب الله، وجاء الحديث عن الصدق في السور التي تعرضت للنفاق وأهله، كسورة براءة والأحزاب والمنافقون والقتال (محمد) والحجرات والحشر.

وجاء الحديث عن الإخلاص في السور التي تحدثت عن الشرك والمشركين، كسورة الأعراف والزمر وغافر والبينة والكافرون، بل في سورة الأنعام - وان لم يذكر فيها صريحا. وارتباط عمل الجوارح بالصدق والإخلاص كارتباطه بالرضا والمحبة واليقين - أمر محسوس ظاهر، يدل علي ارتباط أجزاء الحقيقة الإيمانية الواحدة كما أسلفنا. هذا ما يسر الله به واتسع له المجال من الحديث عن أعمال القلوب، ولقد تركت أعمالا أخرى قد لا تقل أهمية عن هذه، كالتوكل، والصبر، والتوبة، والإنابة، والخوف، والرجاء، على أن ما ذكرنا يتضمنها أو يدل عليها ويشير إليها، بل كثير مما نذكر مما يسميه بعضهم " مقامات " هو كالوسائل لهذه الغايات، والفروع لهذه الأصول، إذ كانت هذه المذكورة جميعها متعلقة بشطر «إياك نعبد» ، وأما التوكل والصبر ونحوها فمتعلقة بشطر «وإياك نستعين» ، ومعلوم أن الاستعانة وسيلة للعبادة وفرع منها. ولا يفوتني أن اختم الحديث عن أعمال القلب بذكر فائدتين من فوائد كثيرة من الله تعالى بها على وأنا أطيل التأمل والتفكير في هذا الجزء العظيم من أجزاء الإيمان: إحداهما: تتعلق بتلك الأعمال عامة. والأخرى: تختص بموضوع المرض الأكبر الذي يعتري القلوب، وهو مرض النفاق. * فالأولى: هي أن من تأمل ما سبق شرحه من أعمال القلوب المعدودة شروطا للشهادتين - اعني الرضا واليقين والمحبة والصدق والإخلاص - كما وردت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وطابق ذلك بأحوال المخلوقين وطرائق العابدين يجد ان كل شرط من هذه الشروط يخرج طائفة من طوائف الضلال بخصوصها عن الصراط المستقيم، وان كان قد يعم سائرها، إذ التلازم بينها لا يخفي، وهذا يشمل أمم الكفر والشرك والطوائف الملحقة بها من هذه الأمة.

* فالرضا: يخرج المستكبرين عن أمر الله وشرعه ودينه، أما بسبب الحسد والمنافسة - كحسد أبى جهل ان تكون النبوة في بني عبد مناف، وكحسد اليهود أن تكون النبوة في ذرية إسماعيل، وما حصل لعبد الله بن أبى سلول حين أضاع قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أحلامه في الملك ونحو ذلك، واصل ذلك كله حسد إبليس لآدم عليه السلام. وأما بسبب التمسك بما كان عليه الآباء والأجداد وما ورثوه من الشان والأمجاد، واستكبار النفوس أن تتركه لأجل إناس من البشر لا سلطان لهم ولا أبهة: (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (*) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ) (الصافات: 35 - 36) وأما الاعتداد بما هم عليه من الحضارة والرقي والعلم - الذي يحملهم على احتقار دين الله واستصغاره: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ» (غافر: 83) . وغير ذلك من الأسباب المانعة من الانقياد والاستسلام والقبول - الذي عبرنا عنه بالرضا - كما عبر الشارع. ومن اعظم مظاهر ذلك في المنتسبين للإسلام اتباع المناهج الفلسفية - والتحاكم إلي القوانين الوضعية، والتماس الهدي والعدل من غير كتاب الله تعالى وسنة رسوله، ونحوها مما يعلن عن عدم الرضا بما أنزل الله والاكتفاء به. * والمحبة: تخرج الكارهين لأمر الله وشرعه ودينه كله أو بعضه، والمشركين في محبته المعظمين لغير الله وغير شرعه - الذين اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله، واتخذوا من غير الإسلام مناهج يعظمونها كتعظيمه - كما كان الفلاسفة كابن سينا وابن رشد يعتقدون انه ما طرق العالم ناموس اعظم من ناموس الإسلام، لكن ما عند الحكماء والفلاسفة القدماء من الناموس فيه خير عظيم وهدي مبين، وان رسول الله صلى الله عليه وسلم من اعظم الحكماء والمصلحين كأرسطو

وأفلاطون - وكما قال طاغوت التتار زمن شيخ الإسلام ابن تيمية: " رجلان عظيمان محمد وجنكيز خان "!! وكما يعتقد كثير من المعاصرين ويرددونه - المنتسبين للإسلام وغيرهم - من إن الإسلام من أعظم العوامل في بناء الحضارة الإنسانية في القرون الوسطى، وما يزال فيه كثير من الإيجابيات التي يمكن أن تسهم في الحضارة المعاصرة، أو أنه ميزة ما يسمونه " العالم الثالث " - الذي يمكن أن يصل بشعوبه إلى ما وصل إليه المعسكران الكبيران، والالتحاق بركب الحضارة والتقدم. والمتحذلقون منهم يقولون: إن ما في الإسلام من نظم ومبادئ تغني المسلمين عن الاقتباس من الشرق أو الغرب، لكن لا يغضون من قيمة ما عند الشرق والغرب من النظم والمبادئ ولا يرونهم في حاجة إلى الإسلام. وأمثال ذلك كثير، وخصوصا على أفواه رجال الضرار ومنابره، ومن المظاهر العادية للتسوية في التعظيم - إن لم يكن تعظيم الكفر اعظم - إن هؤلاء الناس يتحرجون من تسمية الأمم المتحضرة كفارا، بل ربما نفروا ممن يطلق عليهم ذلك - حتى لقد قام بعض كتاب " المدرسة العصرية " بالسخرية العلنية ممن يزعمون أن المسلمين وحدهم سيدخلون الجنة، وان " أديسون " و " باستور " وفلان وفلان من رواد الحضارة والعلم سيدخلون النار (1) !! * واليقين: يخرج الفلاسفة والملاحدة، والمتعمقين في الكلام، وأصحاب النظريات عن الكون ونشأته، والإنسان ومهمته، ومن يلحق بهم من علماء ما يسمي علم الاجتماع أو علم النفس، السائرة على غير هدي الله، فهؤلاء لا يصلون إلى اليقين، ولا يستقر لهم قدم بحال في كل ما يبحثون فيه مما ليس داخلا في نطاق العقل البشري، وحسبك أن الله قال فيهم: «مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا» (الكهف: 51) .

_ (1) مثل أبى رية وفهمي هويدي، انظر: العصريون معتزلة اليوم، يوسف كمال، ص 111، 112 الطبعة الأولى.

ولولا خشية التطويل لذهبنا في سرد اعترافات من اعترافات هؤلاء بالعجز والجهل والشك والحيرة، سواء الكفار منهم أو المشتغلون بذلك من المسلمين كالرازي والجويني والشهرستاني. ويلحق بهؤلاء جهال الأرض، وهم اكثر العالم الذين لا دين لديهم ولا هدى. * والصدق: يخرج الكاذبين في دعوى الإيمان؛ وهم المنافقون، وهم كثير في هذه الأمة، ومرضهم وبيل، ولذا سنخصه بالحديث في الفقرة التالية. * والإخلاص: يخرج المشركين العرب، وأهل الكتاب، وكل من يزعم أن دينه خير الأديان، وهو لا يخلص التوحيد لله تعالى - إلا في حال الشدة والكرب - ويلحق بهم من المنتسبين للإسلام كل من تعلق بالأموات من الأنبياء والصالحين، ودعاهم ورجاهم، ونذر لهم، ومعتقدا أنهم يقربونه إلى الله زلفى - كما كان المشركون يعتقدون في آلهتهم، ومن يعتقد من الشيعة والصوفية أن أئمتهم وأولياءهم يتصرفون في الكون ويعلمون الغيب، ويسبغ عليهم ما هو من خصائص الألوهية. كما يخرج به المشركون في الطاعة والاتباع، الخارجون على مقتضى قوله تعالى: «اتبع ما أوحى إليك من ربك لا اله إلا هو وأعرض عن المشركين» من المتبعين للمناهج البشرية والقوانين الوضعية، فكل هؤلاء لم يخلصوا لله، ولم يحققوا شهادة أن لا اله إلا الله. كما يلحق بهم - من وجه - المشركون في الإرادة كأصحاب الأهواء والحظوظ العاجلة، وهو الشرك الخفي الذي قل من ينجو منه. فلا عجب إذن أن يكثر الحديث في الكتاب والسنة عن هذه الأعمال، منبها أصحاب الصراط المستقيم على أهميتها، ومبينا هلاك من ضل فيها أو اعرض عنا، ولا عجب أن يكون من اعظم عوامل انتشار الأرجاء بل عوامل تقهقر الأمة وانحطاطها وإخفاق الدعوات الإسلامية وفشلها؟ وإهمالها في تحقيق هذه الأعمال وتفريطها فيها. * الفائدة الأخرى: وهي تنبيه ضروري يتعلق بأعظم مرض من أمراض القلوب، وهو النفاق، فكما اخطأ كثير من الناس أيضا - في مفهوم الكفر ومعناه، وحصروه في

صورة واحدة كذلك، هي إنكار وجود الله - أو إنكار أنه الرازق الخالق المدبر ونحو ذلك - أخطاء كثيرة من الناس أيضا - في مفهوم النفاق الأكبر وحصروه في صوره واحدة كذلك، هي أن يظهر الإسلام وهو يبطن اعتقاد كذب الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به، وعدم الإيمان بدين الإسلام كله، وعدم الرضا بشيء منه. وهذه - وان كانت اجلي صورة وأكبرها - ليست الصورة الوحيدة، بل النفاق الأكبر كالكفر الأكبر له صور كثيرة جدا، فكما أن الإنسان قد يكون مؤمنا، ويخرج من الإسلام بكلمة أو فعل، فكذلك قد يكون منافقا النفاق الأكبر بسبب قول أو فعل من أقوال القلب وأعماله، مع اعتقاده بقية الدين وإظهاره للشرائع والشعائر. والله سبحانه وتعالى ذكر في كتابه للمنافقين أحوالا متفاوتة في النفاق الأكبر، فمنها الصورة الكاملة - كحال المذكورين أول البقرة: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (*) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ» الآيات (البقرة: 8، 9) . أو أول المنافقون: «إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ» (المنافقون:1) . ومنها صور دون ذلك، كحال المذكورين في سورة القتال (محمد) : «إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ» (محمد: 25، 26) . أو حال المستهزئين بقراء الصحابة يوم تبوك، الذين أنزل الله فيهم: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (*) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) (التوبة: 65، 66) .

فلا شك أن بين من يبطن الكفر بالله واليوم الآخر جملة واحدة - المتضمن تكذيب الرسول وبطلان القران - وبين من يقول للكفار سنطيعكم في بعض الأمر أو يستهزئ بشيء مما عظمه الله فرقا، وان اتحد الحكم عليهما بالردة والكفر، فان بعض الكفر اغلظ من بعض، كما قال الله تعالى: «إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ» (التوبة: 37) . وقال: «الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا» (التوبة: 97) . فجعل بعض الكفر والنفاق اشد من بعض. والمقصود أن نعلم أن الرجل قد يكون في باطنه مؤمنا بالدين في الأصل والجملة، ولكنه يكره شيئا مما انزل الله، أو لا يقر به في قلبه ولا يعتقد الالتزام به، فيكون حكمه حكم الكافر بالدين كله، وذلك كمن يكره بقلبه تحريم الربا، ويري ذلك مخالفا للمصلحة وغير مستقيم مع العقل إذا كان الطرفان متراضيين عليه، ونحو ذلك. ومن يكره ما انزل الله بشان الحجاب وستر النساء عن الاختلاط بالرجال، ويراه نوعا من الظلم والامتهان للمرأة، أو يراه عائقا عن التنمية مخالفا لمصلحة المجتمع. أو من يعتقد أن أحكام الجهاد ومقاتلة الكفار وسبي نسائهم وغنم أموالهم لا يليق بكرامة الإنسان وحريته، ولا يتناسب مع المساواة الإنسانية. ومن يكره أن يقول أو يعتقد أن هؤلاء الكفار العصريين، أو أصحاب الحضارات المنقرضة - ومنهم الحكماء والأدباء والمخترعون - يحاسبهم الله يوم القيامة ويعذبهم بالنار، ولا يقبل منهم أي عمل أو إحسان. ومن يعتقد أن من حق اتباع أي دين أن يدعوا إلى دينهم، وان ينشروه في كل مكان بتفاهم مع دعاة الإسلام، ووئام بين جميع الأديان. ومن يكره ما انزل الله بشان معاملة الكفار وأحكام العلاقة بهم، ويعتقد أن الأوفق والأصلح هو مداهنتهم ومجاملتهم - بمقتضى الاتفاقات الدبلوماسية، والأعراف الدولية التي ارتضاها العالم المتحضر والأمم المتحدة.

ومن يكره ما شرعه الله من أحكام أهل الذمة، ويرى أنه أن الأوان لإلغاء الجزية وتحقيق الأخوة الوطنية. ومن يكره ما جاء في القران والسنة من أخبار الأمم الكافرة، وذمها وهلاكها بسبب معاصيها، أو يري أن تاريخ الحضارات يجب أن يدرس وفق المنهج الذي يسير عليه المنهج الغربي تحليلا واستنتاجا. وصور كثيرة مشابهة كلها تفصح عما في قلب صاحبها من نفاق اكبر، وان كان لا يكره بقية الأحكام ومظهرا لشعائر الإسلام.

أثر عمل الجوارح في أعمال القلب أن الحديث عن عمل القلب وأهميته وتفصيل ذلك وبيان ارتباط أجزاء الإيمان بعضها ببعض من خلال ارتباط أعمال الجوارح به، وكونها فرعا له، وصورة لما فيه، ومقتضى لازما له - لا يعني أن أعمال الجوارح من الطاعات أو المعاصي لا تؤثر هي الأخرى على عمل القلب. وحذرا من أن تشعر المباحث السابقة بذلك - رأيت أن اذكر ما يدل على اثر عمل الجارحة في عمل القلب، فبه تكتمل صورة التأثير المتبادلة، مما يدل دلالة أوضح على أن كلا منهما جزء من الحقيقة الواحدة الجامعة. ولنبدأ ببيان اثر المعاصي على القلب، ثم نعقب ببيان اثر الطاعة عليه. فأما آثار المعاصي في القلب فهي كثيرة جدا، وقد فصل الإمام الرباني ابن القيم كثيرا منها في كتاب: " الجواب الكافي "، وهاأنذا اقتبس بعضها موجزا وموضحا (1) : 1- حرمان العلم النافع: فان هذا العلم نور يقذفه الله في القلب والمعصية تطفئه، ولهذا كان السلف يرشدون تلاميذهم إلى ترك المعاصي، لكي يورثهم الله حقيقة العلم. 2- الوحشة بين العبد وربه: وهي وحشة لو اجتمعت لصاحبها ملذات الدنيا كلها لم تذهبها، ومن علاماتها وفروعها الوحشة بينه وبين أهل التقوى والإيمان. 3- الظلمة التي يجدها العاصي في قلبه: فان الطاعة نور والمعصية ظلمة، وكلما قويت الظلمة ازدادت حيرته حتى يقع في البدع والضلالات. قال ابن عباس: إن للحسنة ضياء في الوجه، ونورا في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سوادا في الوجه، وظلمة في القبر والقلب، ووهناً في البدن، ونقصا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق.

_ (1) في ص 34 - 83.

4- وهن القلب: فلا تزال المعاصي توهنه حتى تزيل حياته بالكلية وهذا الوهن يظهر أثره على البدن، فتأمل قوة أبدان فارس والروم كيف خانتهم عند أحوج ما كانوا إليها، وقهرهم أهل الإيمان بقوة أبدانهم وقلوبهم. 5- تقصير العمر ومحق بركته: بمقدار ما تمرض القلب وتذهب حياته، فان حقيقة الحياة هي حياة القلب، وعمر الإنسان هو مدة حياته، فكلما كثرت الطاعة زادت حياته، فزاد عمره الحقيقي، وكلما كثرت المعاصي أضاعت حياته وعمره. 6- أن العبد كلما عصى خفت عليه المعصية حتى يعتادها، ويموت إنكار قلبه لها، فيفقد عمل القلب بالكلية، حتى يصبح من المجاهرين بها المفاخرين بارتكابها، واقل ذلك أن يستصغرها في قلبه، ويهون عليه إتيانها حتى لا يبالي بذلك، وهو باب الخطر. روى البخاري في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أن المؤمن يرى ذنوبه كأنها في اصل جبل يخاف أن يقع عليه، وان الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على انفه فقال به هكذا فطار. 7- الذل: فالمعصية تورث الذل ولا بد، فالعز كل العز في طاعة الله تعالى، قال تعالى: «مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا» (فاطر: 10) . أي فليطلبها بطاعة الله فانه لا يجدها إلا في طاعته. وكان من دعاء بعض السلف: اللهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك. وقال الحسن البصري: انهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين، فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه. وقال عبد الله بن المبارك: رأيت الذنوب تميت القلوب ... وقد يورث الذل إدمانها وترك الذنوب حياة القلوب ... وخير لنفسك عصيانها

وهل أفسد الدين إلا الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها 8- الصدى والران والطبع والقفل والختم: وذلك أن القلب يصدا من المعصية، فإذا زادت غلب عليه الصدأ حتى يصير راناً - كما قال تعالى: «كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» ، ثم يغلب حتى يصير طبعاً وقفلاً وختماً، فيصير القلب في غشاوة وغلاف، فإذا حصل له بعد الهدى والبصيرة انتكس فصار أعلاه أسفله - فحينئذ يتولاه عدوه ويسوقه حيث أراد، وبمثل هذا اتخذ الشيطان من البشر دعاة وجنوداً. 9- إطفاء الغيرة من القلب: وهي الغيرة على محارم الله أن تنتهك، وعلى حدوده أن تقتحم، وعلى دينه أن يضعف أو يضيع، وعلى إخوانه المسلمين أن يهانوا أو يبادوا - بل على أهله ونفسه أن يقعوا في المعصية والهلاك، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أغير الناس - كما ثبت في الصحيح:" أتعجبون من غيرة سعد، لانا أغير منه، والله أغير مني" (1) فالمعاصي تضعف هذه الغيرة حتى تذهبها وتزيلها، ولهذا تجد المدمنين على المعاصي لا يبالون بالإسلام وأهله من كوارث ومحن، ولا يهمهم ذلك في شيء، وإنما همهم اتباع الشهوات وإضاعة الأوقات، ويرى الواحد منهم المنكر أمامه فلا تهتز له شعرة، بل يفقدون الغيرة الخاصة، وهي الغيرة على العرض، حتى تصير الديانة طبعاً وسجية. 10- إذهاب الحياء الذي هو مادة الحياة للقلب: وهو اصل كل خير، وذهابه ذهاب كل خير بأجمعه.. والذنوب تضعف الحياء من العبد حتى ربما انسلخ منه بالكلية، فلا يستحيي لا من الله ولا من العباد، والتلازم بين ارتكاب المحرمات وقلة الحياء لا يخفى على أحد.

_ (1) 9 / 280) .

11- إذهاب تعظيم الله ووقاره من القلب: فكما أن تعظيم الله وتوقيره يحجز عن المعصية فان ارتكاب المعصية يضعف التعظيم والتوقير- حتى يستخف العبد بربه، ويستهين بأمره، ولا يقدره حق قدره. 12- مرض القلب وإعاقته عن الترقي في مراتب الكمال ودرجاته: وقد سبق بيان تفاضل الناس في أعمال القلوب - فالذنوب تخرج صاحبها من دائرة اليقين وتنزله من درجة الإحسان، بل تخرجه من دائرة الإيمان، كما في الحديث الصحيح: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن "، فلا يبقى إلا اسم الإسلام، وربما أخرجته منه، فان المعاصي بريد الكفر. 13- إضعاف همة القلب وإرادته: وتثبيطه عن الطاعة وتكسيله عنها، حتى يؤول به الأمر من الاستثقال إلى الكراهية والنفور، فلا ينشرح صدره لطاعة ولا يتحرج ويضيق من معصية، ويصير جسوراً ومقداما على الخطايا جبانا رعديداً على الحسنات. 14- الخسف بالقلب كما يخسف بالمكان وما فيه: فيخسف به بسبب ارتكاب الرذائل - إلى اسفل سافلين وصاحبه لا يشعر، وعلامة ذلك الخسف أن يكون القلب جوالا حول السفليات والقاذورات، متعلقا بالمحقرات والأمور التافهات، عكس القلب الذي تزكى بالطاعات فصار جوالا في معالي الأمور ومكارم الأخلاق، كما قال بعض السلف: " إن هذه القلوب جوالة، فمنها ما يجول حول العرش ومنها ما يجول حول الحش ". 15- مسخ القلب: فان المعاصي والقبائح ما تزال تتكاثر عليه حتى تمسخه كما تمسخ الصورة، فيصير القلب على قلب الحيوان الذي شابهه في أخلاقه وأعماله وطبيعته، فمن القلوب ما يمسخ على قلب خنزير - كقلب الديوث - ومنها ما يمسخ على قلب كلب أو حمار أو حية أو عقرب ... بحسب عمله، وقد شبه الله تعالى أهل الجهل والغي بالحمر تارة وبالكلب تارة وبالأنعام تارة، وربما وصل الأمر إلى المسخ التام، وهو مسخ الصورة مع القلب، كما حصل لبني إسرائيل حين جعل الله منهم القردة والخنازير.

16- نكد القلب وقلقه وضنكه: وهذا ملازم للمعصية ملازمة الظل لأصله، كما قال تعالى: «ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى» ، فالمعرض عن ذكر الله متعرض لذلك، لكن قد يتوارى داؤه بسكرات الشهوات والعشق وحب الدنيا والرياسة، إن لم ينضم إلى ذلك الخمر - كالمشاهد في عصرنا الحاضر من إدمان المسكرات والمخدرات، تخلصا من ضيق الحياة ونكد العيش. فهذه بعض آثار معاصي الجوارح على القلب وعمله، فهي تذهب رضاه ويقينه وصدقه وإخلاصه وتوكله ومحبته، بل تذهب قوته وحياته وصحته وراحته، وتجمع له بين ذهاب حقائق الإيمان وبين عقوبات آجلة وعاجلة، كما رأينا في هذه الآثار. وأما أثر أعمال الطاعات بالجوارح في أعمال القلب، فهو ما ينوء بالمجلدات الكبار، وذلك أن هذه هي مادة حياته وقوته وعزيمته، والجوارح هي منافذه وثغوره، وهل في الإمكان استيعاب ما تورثه الصلاة من رضا وطمأنينة وخشوع وإنابة، أو ما يورثه الصوم من يقين وتوكل وإخلاص، أو ما يورثه الجهاد من محبة واستسلام وثبات ... وهكذا سائر الطاعات، ولذا رأيت أن اختار طاعة واحدة قد لا يحسب لها حساب إلا عند الخاصة من الناس، وهي " غض النظر عن المحرمات ". وللإمام ابن القيم -أيضا - تفصيل لهذا في الكتاب نفسه، انقل منه ما يتعلق بالقلب خاصة، مع اختصار وإيضاح: 1- أنه يمنع من وصول اثر السهم والمسموم الذي لعل فيه هلاكه إلى قلبه لأن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس. 2- أنه يورث القلب أنساً بالله وقرباً منه، فان إطلاق البصر يصرف القلب ويشتته ويبعده عن الله، ويوقع الوحشة بين العبد وربه. 3- أنه يكسب القلب نوراً - كما أن إطلاقه يكسبه ظلمة، ولهذا ذكر سبحانه آية النور عقيب الأمر بغض البصر، فقال: «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ» ، ثم قال أثر ذلك: «اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ» أي مثل نوره في قلب عبده المؤمن الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه.

وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل جانب، كما انه إذا اظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان، فما شئت من بدعة وضلالة، واتباع هوى، واجتناب هدى، وإعراض عن أسباب السعادة، واشتغال بأسباب الشقاوة، فان ذلك إنما يكشفه له النور الذي في القلب، فإذا فقد ذلك النور بقي صاحبه كالأعمى الذي يجوس في حنادس الظلام. 4- انه يقوي القلب ويفرحه، كما أن إطلاق البصر يضعفه ويحزنه - لكن قد لا يحس بذلك إلا ذو البصيرة. 5- انه يورث الفراسة الصادقة التي يميز بها بين المحق والمبطل، والصادق والكاذب، فان الله سبحانه يجزي العبد على عمله بما هو جنس عمله، ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيراً منه، فإذا غض بصره عن محارم الله عوضه الله بان يطلق نور بصيرته عوضا عن حبسه بصره لله، ويفتح له باب العلم والإيمان والمعرفة والفراسة الصادقة المصيبة، التي إنما تنال ببصيرة القلب. وضد هذا ما وصف الله به اللوطية من العمه، الذي هو ضد البصيرة، فقال تعالى: «لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ» ، فوصفهم بالسكرة التي هي فساد العقل، والعمه الذي هو فساد البصيرة، ثم عقب الله تعالى على قصتهم بقوله: «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ» ، وفي ذلك إشارة لما تقدم. 6- انه يورث القلب ثباتاً وشجاعة وقوة، يجمع الله له بين سلطان البصيرة والحجة وسلطان القدرة والقوة، وضد هذا تجده في المتبع هواه، من ذل النفس ووضاعتها ومهانتها وخستها وحقارتها، كما تقدم في كلام الحسن البصري. 7- أنه يسد على الشيطان مدخله إلى القلب، فانه يدخل مع النظرة وينفذ معها إلى القلب أسرع من نفوذ الهواء في المكان الخالي، فيمثل له صورة المنظور إليه ويزينها، ويجعلها صنماً يعكف عليه القلب، ثم يعده ويمنيه، ويوقد على القلب نار الشهوة، ويلقي عليه حطب المعاصي التي لم يكن يتوصل إليها بدون تلك الصورة، فيصير القلب في اللهب، فمن ذلك الأنفاس التي يجد فيها وهج النار، وتلك الزفرات والحرقات، فإن القلب قد أحاطت به النيران من كل جانب، فهو في وسطها كالشاة في وسط التنور، ولهذا كانت عقوبة أصحاب

الشهوات بالصور المحرمة أن جعل لهم في البرزخ تنور من نار، وأودعت أرواحهم فيه إلى حشر أجسادهم، كما أراها الله نبيه صلى الله عليه وسلم في المنام في الحديث المتفق على صحته. 8- انه يفرغ القلب للفكر في مصالحه والأشغال بها، وإطلاق البصر يشتت عليه ذلك ويحول بينه وبينها، فتنفرط عليه أموره، ويقع في اتباع هواه، وفي الغفلة عن ذكر ربه، قال تعالى: «ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا» ، وإطلاق النظر يوجب هذه الأمور الثلاثة بحسبه. 9- أن بين العين والقلب منفذاً أو طريقاً يوجب اشتغال أحدهما عن الآخر، وأن يصلح بصلاحه ويفسد بفساده، فإذا فسد القلب فسد النظر، وإذا فسد النظر فسد القلب. وكذلك في جانب الصلاح فإذا خربت العين وفسدت خرب القلب وفسد وصار كالمزبلة التي هي محل النجاسات والقاذورات والأوساخ، فلا يصلح لسكنى معرفة الله، ومحبته، والإنابة إليه، والأنس به، والسرور بقربه، وإنما يسكن فيه أضداد ذلك. فهذه إشارة إلى بعض فوائد غض البصر تطلعك على ما وراءها (1) .

_ (1) من ص 125 - 127.

الباب الخامس: الإيمان حقيقة مركبة وترك جنس العمل كفر

الباب الخامس: الإيمان حقيقة مركبة وترك جنس العمل كفر ويشتمل علي: • بيان أن الإيمان حقيقة مركبة • الشبهات النقلية والاجتهادية

توطئة

الإيمان حقيقة مركبة وترك جنس العمل كفر توطئة: قبل الشروع في عرض حقيقة الإيمان المركبة، ننبه إلى أن لازم ذلك وهو انتفاء الإيمان عن تارك جنس العمل المعين ليس هو المقصود منه بالذات، فهذه المسألة على أهميتها ليست من صلب موضوعنا، وإنما يهمنا بيان الحقيقة المركبة للإيمان، ولوازمها، ومعرفتها كما هي في مذهب أهل السنة والجماعة، أي أن يعلم الحق في ذلك ويعتقد، مثل سائر الأمور الاعتقادية العلمية التي يجب معرفة الحق فيها واعتقاده، بغض النظر عما ينبني على ذلك من أحكام وآثار تتعلق بأعيان العباد، وعما يشذ عن ذلك من خصوصيات أو حالات عارضة، إذ كثير من هذه الأمور هي مجال للاجتهاد ومحل للنظر، ونحن غرضنا إثبات الحكم الشرعي لا تحقيق مناطه (1) . * نقول ذلك إحتزازاً من أمرين: الحكم على المعين الذي لابد فيه من تحقق شروط وانتفاء موانع - كما هو من أصول مذهب أهل السنة والجماعة - الذين هم أعدل الناس وأرحم الناس - واستيفاء ذلك خارج عن موضوعنا هنا، لكن غير مؤثر في معرفة الحكم النظري المجرد. فالواقع أن إجراء الأحكام الظاهرة من أهم أسباب توقف بعض المنتسبين للعلم والدعوة قديما - كما بين شيخ الإسلام، وحديثا كما نرى عند القول بكفر تارك العمل كله، مع ثبوت الإجماع على كفر تارك الصلاة عن الصحابة رضوان الله عليهم، وسبب ذلك ظنهم أن هذا القول واعتقاده يوجب إجراء أحكام الردة. على كل من علموه أو ظنوه كذلك، والحال أن في الأمر تفصيلا هذا موجزه:

_ (1) وذلك مثل إثبات أن حكم شارب الخمر هو الجلد ثمانين جلدة، وتحقيق المناط هو نظر المجتهد في المسالة ليري هل الشروط متحققة والموانع منتفية، فيحكم فيها بذلك الحكم أم لا.

تارك جنس العمل قبل أن يستتاب وتقام عليه الحجة هو في حقيقة الأمر موضع دعوة، وموضوع بحث ونظر، ولا إشكال في إجراء أحكام الإسلام الظاهرة عليه، ولمن عرف حقيقة حاله أن يدع الصلاة عليه، وأن يمنعه حقوق المسلم المعروفة، لكن ليس عليه إعلام كل أحد بذلك وإلزامه به إلا لمصلحة شرعية، مع الالتزام بالمنهج الصحيح في الدعوة والهجر وقواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحقيق أعلى المصلحتين ودفع أكبر المفسدتين، وفي معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لرؤوس النفاق أعظم القدوة وخير الأسوة. فإذا أقيمت عليه الحجة، وعرضت عليه التوبة، فلا يخلو أمره حينئذ من حالين: * الأول: أن يلتزم بأداء ما فرض الله عليه من العمل - ولا سيما الصلاة - ويعمل حالاً ما يتعين عليه عمله منها في الحال. فهذا يحكم له بالإسلام ظاهراً، ونكل أمره إلى الله، فان كان صادقاً في الباطن، وإلا فليس بأعظم من رؤوس المنافقين الذين كانت تجري عليهم أحكام الإسلام الظاهرة مع كونهم كفاراً، في الدرك الأسفل من النار، فهو ممن يصلي أحيانا ويدع أحيانا - كما هو حال كثير من المنتسبين للإسلام - فهؤلاء تجري عليهم الأحكام الظاهرة، حتى تقوم البينة على المعين منهم انه مصر على الترك، وسيأتي إيضاح ذلك إن شاء الله. * الثاني: أن يأبى التزام ذلك، ويعرض على السيف حتى يقتل وهو مصر، يرضى أن تزهق روحه ولا يؤدي من فرائض الله شيئاً، فهذا كافر ظاهراً وباطناً على القول الصحيح الذي ليس في مذهب أهل السنة والجماعة غيره، وإن كان في المنتسبين إليهم من دخلت عليه شبهة المرجئة في ذلك، فقال هو عاص ويقتل حداً (1) .

_ (1) فقول المرجئة: إن الرجل إذا كان مقرا بالفرائض عالماً بوجوبها معتقداً صدق الرسول صلي الله عليه وسلم في ذلك، ولكنه يأبى فعلها ويصر علي ذلك حتى تقدم عنقه للسيف وتضرب، فهذا يجوز أن يكون مؤمناً في الباطن، سواء قيل بكفره في الظاهر أم لا - هو فرض محال وخبط خيال.بل لو قال ذلك لحكمنا انه كاذب، رافض لدين الله، مستهزئ، متكبر عليه، وهو أشد كفراً وجحوداً ممن لم يقر بوجوبها ممن ام يفر بوجوبها أصلاًً. وكيف يصح أن يقال أن هذا تارك للفرائض بسبب التهاون والكسل، وأي كسل أو تهاون يبقي مع عرض الرقبة علي السيف؟ انظر: مجموع الفتاوى (7/192- 210،7 /610- 621) وسنفصل هذا لاحقا.

2- الحالات العارضة أو الخاصة التي لا تناقض الأصول الكلية والقواعد القطعية في الشرع ولا تعارضها، بل غايتها - أن تعلق الحكم وتخصصه بوجه من وجوه التخصيص، وذلك خلاف ما فعلته المرجئة، حين عارضت ذلك بمثل قولهم: إن الأخرس لا يجب عليه الإقرار باللسان، فلا يكون القول ركناً في الإيمان ولا جزءاً من ماهيته (1) . وان الذي أسلم ثم مات عقب ذلك قبل أن يعمل يسمي مؤمناً (2) ، ومثله من مات من المسلمين قبل نزول بعض الفرائض، وان الله يخرج من النار أقواماً لم يعملوا خيراً قط (3) ، ونحو ذلك. وخلاف ما قاله الخوارج والمعتزلة حين ردوا النصوص الصحيحة في مثل هذه الأمور لمعارضتها الأصول عندهم. فإذا وضعنا هذا في الاعتبار وتذكرنا ما سبق إيراده من أصول المرجئة وأهمها أن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص ولا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتفاضل أهله فيه وأنهم تبعا لهذا الأصل أخرجوا أعمال الجوارح وأعمال القلوب منه. بقي إن نعرف أهم شبهاتهم في حكم تارك العمل، ونرد عليها بالتفصيل، مع بيان حكمه عند أهل السنة والجماعة وأدلتهم بالتفصيل أيضاً. وقد رأيت أن أجمل هذه الشبهات بالذكر، ثم أرد عليها مبثوثة ضمن بيان الحق من معتقد أهل السنة والجماعة في ذلك، فيكون همنا ومرادنا الأساس في هذا الباب هو إيراد الحق وتفصيله، ثم مناقشة الشبهات وإبطالها، وذلك لان الشبهات والأجوبة متداخلة (4) والتيسير والإيضاح مطلوب حسب الإمكان، والله المستعان. فنقول: إن أهم هذه الشبهات هي:

_ (1) لان الركن - علي قولهم - لا يحتمل السقوط بحال، وهذا القول فاسد، فان القيام في الصلاة ركن، والعاجز عنه يصلي قاعدا إجماعا، دون أن يؤثر ذلك علي كون القيام في ذاته ركناَ أو جزءاً من ماهية الصلاة، وإما من قال: إن النطق ركن لكن يحتمل السقوط للأخرس ونحوه، فجوابه أن يقال إن العمل ركن، وقد يحتمل السقوط في الحالات العارضة التي استدللتم بها علي انه ليس بركن وليس من الإيمان، مثل حالة إندراس الإسلام واضمحلال الدين في آخر الزمان. (2) وهذا حق، لكنه لا يناقض الأصل، فمن لم يتمكن من العمل لا يجب عليه العمل، لكن هذا لا يؤثر علي أن العمل في ذاته ركناً، ولو أنه عزم علي ألا يعمل لكان مؤخذاً وان لم يتمكن من إدراك وقت وجوب العمل، وكذلك من مات قبل أن يفرض عليه شيء لا يؤاخذ بعدم عمله، وكمال الإيمان في حقه غير كماله في حق من أدرك الفرائض، وقد تقدم بيان أن الإيمان الذي فرض الله علي عباده غير متماثل، بل يجب علي إنسان مالا يجب علي الآخر، انظر: الإيمان، ص 184- 185. (3) ولكون هذه الشبهة نقلية أفردناها بمبحث مستقل آت. (4) ولهذا قد يكون في التكرار والإحالات ما يتعب القارئ، فنرجو المعذرة لان طبيعة الموضوع هكذا.

1- اعتقادهم أن الكفر هو التكذيب المجرد، إذ هو ضد الإيمان الذي هو عندهم التصديق المجرد - كما رأيت من كلامهم - مع إن الكفر في الشرع منه كفر تكذيب، وكفر استهزاء، وكفر إباء وامتناع وإعراض، وكفر شك، ويتفرع عن هذا كلامهم في " الاستحلال " - كما سنبين إن شاء الله. 2- عدم فهمهم لعلاقة الظاهر بالباطن وارتباطه به، ومن هنا كانت ضرورة بيان حقيقة الإيمان المركبة - كما سنبين تفصيلا بإذن الله. 3- أنهم جعلوا كفر القلب شرطاً في كفر الجوارح - على مفهومهم للكفر - والحال أن الكفر يكون باللسان وبالجوارح وبالقلب، أي يدخل في الأعمال كما يدخل في الاعتقادات، وذلك كالسجود للصنم وإهانة المصحف عمدا ونحوها. 4- خطؤهم في فهم معنى الجحود الوارد في الشرع، أو إطلاقه على غير ما وضع له شرعاً واستعمله فيه السلف، أو حصره في معني واحد من معانيه. فالجحود في اللغة وعرف السلف يطلق على الامتناع عن أداء الحق الواجب، وأوضح مثال: تسمية المرتدين جاحدين للزكاة، ومعلوم انهم لم ينكروا أن الله فرض الزكاة، ويقولون إنها ليست من الدين، ولو قالوا ذلك لسموا جاحدين للدين والقرآن، ولما اختلف الصحابة في شأنهم قط، ولما احتيج في الاستدلال على كفرهم إلى قياس ولا غيره، إنما جحدوا الالتزام بها، أي أصروا على ألا يدفعونها - مع الإقرار بأنها من الدين - ولهذا عرضت الشبهة لعمر وغيره في قتالهم، حتى استدل الصديق بما هو مجمع عليه بينهم من تكفير تارك الصلاة (لا جاحد وجوب الصلاة) . فمناط الاختلاف في أمرهم أولا، ثم مناط الاتفاق على قتالهم وتسميتهم مرتدين أخيرا كان المنع والإباء، وقد بلغ الأمر بالصحابة من زوال الشبهة إلى إن قالوا:"لو أطاعنا أبو بكر كفرنا" (1) ، كما أن أصل الخلاف بين السلف والمرجئة القدماء إنما كان في ترك الطاعات لا في إنكار وجوبها، ولكن مع تطور الظاهرة وتداخل الشبهة ودخول شبهة الإرجاء على بعض الأئمة من الفقهاء أو أتباعهم حصل ما حصل مما سيأتي بيانه وتفصيل الأجوبة عليه بإذن الله. ومثل " الترك " غيره من الألفاظ - كما سيأتي بيانه. 5 - شبهات نقلية أفردنا لها مبحثاً خاصاً كما سترى.

_ (1) المصنف لابن أبى شيبة (12/265) .

الإيمان حقيقة مركبة

الإيمان حقيقة مركبة سبق إيضاح أن حقيقة الإيمان هي أنه: " قول وعمل "، وأن ذلك مجمع عليه بين السلف، متواترة على تأييده النصوص، متضافرة عليه الأدلة، لم يخالف فيه إلا مبتدع متنكب طريق الحق، معرض عن دلالات نصوص الوحي وشواهد العقل والفطرة إلى ما نضحت به أذهان الفلاسفة والمناطقة، وتعمقت فيه أوهام المتكلمين والمجادلين. كما سبقت الإشارة - أولا الإشارات - إلى إن هذين الركنين -أو الشطرين - " القول والعمل " تتكون منهما حقيقة واحدة جامعة لأمور متعددة، مثلما تتركب حقيقة الإنسان من الجسد والروح، بحيث يكون فقدان إحداهما بالكلية نفياً للحقيقة ذاتها. ومن هنا كان القول والعمل بالمعنى الذي سبق شرحه في موضعه شطرين متمازجين متساويين في ضرورة الوجود وقوة الاشتراط، فكما أنه لا يصح وجود عمل لا قول معه قط، لا يصح كذلك وجود قول لا عمل معه قط. وهذا ما تضمنته الفصول التي عقدت لبيان علاقة عمل القلب بقول اللسان، وعلاقة عمل الجوارح بأعمال القلب، واثر كل منهما في الآخر، وهو ما نريد إيضاحه هنا منفردا، فنقول: إن أصل الخلاف بين أهل السنة والمرجئة في موضوع العمل هو أن المرجئة لا يقرون بهذه التركيبية، بل يعتقدون أن الإيمان شيء واحد؛ هو تصديق القلب دون سائر أعمال القلب والجوارح - كما سبق مراراً - وهم يوافقون على أن من أتى بجميع أعمال الجوارح الواجبة والمستحبة ظاهراً، لكن قلبه مع ذلك خال من الإيمان إنه لا يكون مؤمنا - وذلك باستثناء الخلاف اللفظي الذي شذت به الكرامية، حيث يطلق عليه اسم الإيمان - مع إقرارها أنه كافر مخلد فى النار، فخالفوا فى الاسم لا فى الحكم - ولكنهم يخالفون فى عكس هذه القضية وهي أن أحداً لم يعمل

عملاً من الأعمال الواجبة والظاهرة قط، حتى أنه لم ينطق بكلمة الشهادة (1) ؛ وهو مع ذلك مؤمن كامل الإيمان (2) . وهي القضية التي ينفى أهل السنة وجودها في الواقع أصلا - كما سنرى -، والفرق بينهما وبين القضية الأولى والتي يقر بها المرجئة من حيث الوجود والعدم يرجع إلى الفرق بين مفهوم الإيمان المفترض وجوده عند الطائفتين، فلما كان الإيمان عند المرجئة هو التصديق على النحو الذي فسروه به - لم يصعب عليهم تصور وجوده مع فقد كل الأعمال الواجبة، لكنه لما كان عند أهل السنة له معنى أخر مركب، لم تصوروا أن يوجد باطن الإيمان ولا يوجد شيء من ظاهره؛ لأن ذلك من قبيل افتراض وجود الأصل اللازم والعلة التامة، مع انتفاء المجزوم والمعلوم، فهو نفى لتلك العلامة التركيبية المزجية. وهذا ما قرره السلف كثيراً؛ كقول أبى ثور في إلزام المرجئة: " أرأيتم أن رجلاً قال: أعمل ما أمر الله به ولا أقر به، أيكون مؤمنا؟ فإن قالوا: لا، قيل لهم: فإن قال: أقر بجميع ما أمر الله به ولا أعلم منه شيئا أيكون مؤمناً؟ فإن قالوا: نعم، قيل لهم: ما الفرق وقد زعمتم أن الله عز وجل أراد الأمرين جميعاً، فإن جاز أن يكون بأحدهما مؤمناً إذا ترك الآخر جاز أن يكون الآخر مؤمناً - إذا عمل ولم يقر - لا فرق بين ذلك (3) . وسيأتى ما يؤيده من نصوص وآثار، والمقصود هو بيان أصل النزاع في المسألة، ويمكن تحرير ذلك باستخدام السبر والتقسيم فيقال: إن تعلق العمل بالإيمان منحصر في أربع حالات لا خامس لها (4) : أن يجتمعا معاً - أى إيمان القلب وعمل الجوارح. أن ينتفيا معا. أن توجد أعمال الجوارح مع انتفاء إيمان القلب. أن يوجد إيمان القلب مع انتفاء عمل الجوارح. فأما القضية الأولى فمتفق عليها " مؤمن ".

_ (1) كما سبق من أن مذهب الأكثرية - هو الذي أصبح ظاهرة فكرية عامة - وهو أن النطق علامة لإجراء الأحكام الدنيوية فقط. (2) وناج عند الله في الأخرة، وإن كنا لا نجرى عليه أحام الإيمان الدنيوية لعدم العلامة - كما يقولون ... (3) أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، اللالكائي (3 / 851) (4) وهي قسمة نظرية فقط، وإلا فعلى الحقيقة لا وجود للقسم الرابع.

فأما القضية الثانية فمتفق عليها " كافر ". أما القضية الثالثة فمتفق عليها "منافق" وأما القضية الرابعة فمختلف فيها. فالمرجئة يلحقون حكمها بحكم الأولى،بل يقولون: إن إيمان من تنطبق عليه القضية الأولى كإيمان من تنطبق عليه القضية الرابعة سواء بسواء؛إذ الأعمال عندهم خارجة عن الإيمان، والإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص ولا يتفاضل الناس فيه -كما سبق بيانه، فهو لدى الاثنين سواء،بل قالوا ما هو أسوء من ذلك؛وهو إن ارتكاب جميع المحرمات وترك جميع الطاعات لا يذهب شيئاً من الإيمان؛إذ لو ذهب منه شيء لم يبق منه شيء (1) . وهذا القدر المشترك بينهم كاف في الرد عليهم جميعا رداً واحداً -أي من يعتبر النطق ومن لا يعتبره-. وأما أهل السنة والجماعة فينفون وجود الحالة الرابعة في الواقع أصلاً؛بناء على مفهومهم الخاص للإيمان. فتبين إن فساد تصور المرجئة للإيمان أدى إلى تصور هذه الحالة،وعليه: فبيان خطا قولهم هذا يستلزم فساد تصورهم للإيمان بلا ريب،وإن الإيمان الذي يتكلمون عنه ويصفونه ليس الإيمان الشرعي بحال. كما إنه يدل على تناقض من وافقهم من الفقهاء المنتسبين إلى السنة والأئمة في بعض الأحكام الظاهرة -كالقول بأن تارك الصلاة المصر على تركها حتى ضربت عنقه بالسيف إنما قتل حدا؛إذ إن مذهب المرجئة في حكم تارك الصلاة يتفق ومفهوم الإيمان عندهم،لكن من يعتقد قد أن الإيمان قول وعمل -ويكون ذلك مذهب إمامه -كيف يوافقهم على إن تارك جميع العمل لا يكفر،إلا إذا انتفى منهم تصديق القلب أي كان مستحلاً أو غير مقر بالوجوب ويوافقهم على أن شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم ومهين المصحف عمداً وقاتل النبي كافر ظاهراً،ويجوز أن يكون مؤمناً في الباطن؟! (2) وأهل السنة حين يقرون أن ترك العمل ترك لركن الإيمان الذي لا يكون إلا به، لا يعتمدون على تفلسف أو نظريات ذهنية، وإنما ينطلقون من منطلق واقعي

_ (1) وهذا ما اتفقت عليه فرقهم،كلها كما سبق بيانه في فصل" أصول مذاهب المرجئة" السابق. (2) انظر عن هذه الأخيرة: الإيمان، صلى الله عليه وسلم 384 - 386، ولهذا تجد كلام أحدهم باعتباره فقيها - كما إذا كتب فى الردة من المصنفات الفقهية - يغاير كلامه إذا كتب باعتباره متكلما!!

وعلمي في غاية الوضوح؛ وهو أن هذه الحالة الرابعة لا وجود لها في مواقع الجيل الأول، ولا في تصوره، وكذا لا وجود لها في الواقع النفسي المحسوس، - كما لا يمكن أن تتفق مع حقيقة الإيمان الشرعية التي تشهد النصوص بأنها مركبة من القول والعمل معاً، كما لا تتفق مع النصوص الأخرى الكثيرة في حكم التولي عن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وترك الامتثال لأوامره، والتخاذل عن القيام بفرائضه. وهو كذلك مناقض لما ورد عن السلف الأخيار، والأئمة الأعلام في هذا الأمر. ومع تقدم إيضاح بعض الاستدلالات نزيد هنا بإيضاح البعض الآخر - مع التذكير بما سبق، فنقول: أولا: ترك العمل في ضوء واقع الجيل الأول، وحقيقة النفس الإنسانية: إنه مع غض النظر مطلقا عن جدل الفرق في النصوص، وتعارضها - في نظرهم - وخلافات الفقهاء المتأخرين في فهمها، يظل المعيار الحقيقي للحكم على أي حالة هو معيار الصدر الأول، وواقع السلف الصالح قبل اختلاف الأمة، بل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا المعيار - على وضوحه - هو أيسر المعايير وأصدقها، والفطرة الإيمانية تعرفه أكثر مما يعرف الذهن الجدل الكلامي والخلافات المتشعبة. وذلك أن ينظر المؤمن إلى الحالة المراد معرفة حكمها، متصوراً أنها وقعت في الصدر الأول، ويفكر ويتدبر ماذا يمكن أن يحكم به عليها ذلك الجيل القدوة، أو ماذا يمكن أن يكون وضعها لو وجدت فيه وعاشت معه؟ وسيجد الجواب بإذن الله أيسر وأقرب مما يجده في عويص الخلافات ودقائق الترجيحات التي لا يستطيع أن يخوض غمارها كل أحد. فما حكم ترك العمل في ضوء ذلك؟ أي ما حكم رجل عاش في ذلك الجيل الحي العامل المجاهد منتسبا إليه بالاسم، مقراً بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم باللسان ولكنه مع ذلك لا يؤدي فريضة من فرائض الله، ولا يجتنب معصية من معاصيه، ولا يحكم بما أنزل الله، ولا يتبع ما أنزل الله يأتي ويدع من أعمال، فلا يصلى، ولا يصوم، ولا يزكي، ولا يحج، ولا يوالي

المؤمنين ولا يجاهد معهم، ولا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، ولا يشارك بأي مشاركة إيمانية في ذلك المجتمع الأول، إلا أنه رأى الرسول صلى الله عليه وسلم وآيات صدق نبوته الباهرة، فأقر في قلبه، وزاد على ذلك بالتلفظ بالشهادتين بلسانه؟ (1) الحق أنه لا يصح أن يسأل عن موقع هذا الرجل في صفوف المؤمنين، بل الصحيح أن يسأل أيمكن أن يوجد في صفوف المنافقين؟! فالمنافقون - كما أشرنا - سلفاً، وكما هو صريح القرآن - كانوا يجاهدون وينفقون ويصلون، ويشهدون مواقف الرعب والهول التي تكتنف الجماعة المسلمة الناشئة، فهل عاش أو يتصور أن يعيش بينهم هذا الذي لا صلاة له، ولا جهاد، ولا نفقة، ولا مشاركة للمؤمنين في عمل قط، ولو في الظاهر؟ بل نقول: أنه وجدت حالة أفضل من حالة هذا الرجل بكثير: وهي حكاية رجل دافع عن الدعوة وحمى صاحبها صلى الله عليه وسلم، وشاركه في مواقف الصبر والاضطهاد، معترفا في قرارة نفسه بصدق نبوته وصحة ما جاء به في شعره، ومع ذلك مات كافرا، وهو من أهل النار بنص الخبر الصحيح.. أعني أبا طالب عمه صلى الله عليه وسلم. فإن قالت المرجئة: إنما كفر أبو طالب لامتناعه عن قول الشهادة عند الموت، وقوله: هو على ملة عبد المطلب. قلنا: ما تزال الحجة قائمة عليكم، وذلك أنه لو كان مؤمناً من قبل، ناجيا عند الله في الآخرة - كما يقولون في حكم من لم ينطق الشهادة - لما احتاج النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليه ذلك قائلا: " يا عم، قل: لا إله إلا الله. كلمة أشهد لك بها عند الله " (2) . فلما عرض عليه ذلك وألح عليه علمنا أنه لم يكن قبل ذلك مؤمناً ولا موعوداً بالنجاة قط، ولو كان كذلك لكان امتناعه عن الشهادة معصية فقط - كما قد صرح بعضكم (3) في حق الممتنع عنها!! فإذا كان هذا حاله، فكيف من لم يعمل شيئاً قط إلا التصديق القلبي بصدق الرسول، أو أضاف إلي ذلك كلمة الشهادة مجردة من أعمال القلب والجوارح؟!

_ (1) انظر كلام شيخ الإسلام في هذا (7 / 287) ، وسنذكر إن شاء الله في أخر الكلام عن الاستحلال وترك الإقرار. (2) انظر صحيح مسلم،كتاب الإيمان رقم (39 - 42) . (3) ومنهم أبو حامد الغزالى في الأحياء وشارحه الزبيدي الماتريدي، انظر: إتحاف السادة المتقين (5 / 255) .

وإن في أقسام الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ما قررناه بجلاء؛ وذلك أنهم لم يكونوا سوى ثلاثة أقسام: 1- عامل بجوارحه مؤمن بقلبه وهم المؤمنون. 2- عامل بجوارحه كافر بقلبه وهم المنافقون 3- كافر بجوارحه وبقلبه وهم الكافرون. روى الإمام أبو بكر بن أبي شيبة في كتاب الإيمان بسند صحيح إلى أبي قلابة التابعي أنه قال: حدثني الرسول الذي سأل عبد الله بن مسعود (1) ، فقال: " أنشدك بالله أتعلم أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أصناف: مؤمن السريرة مؤمن العلانية. وكافر السريرة كافر العلانية. ومؤمن العلانية كافر السريرة. فقال عبد الله: اللهم نعم " (2) . فلم يكن في واقع الجيل الأول ولا في تصوره وجود لمؤمن السريرة كافر العلانية، أي التارك للإيمان بجوارحه المؤمن بقلبه، كما تزعم المرجئة (3) . وانطلاقا من هذا يقول الخطابي: " قد يكون المرء مستسلما في الظاهر غير منقاد في الباطن، ولا يكون صادق الباطن غير منقاد الظاهر " (4) . ولهذا ينقد شيخ الإسلام ابن تيمية بقوة العبارة التي يستخدمها بعض الفقهاء في حق من صدرت منهم أعمال كفرية صريحة، وهي قولهم: " كافر ظاهرا مؤمنا باطنا "، مبينا أنها لوثة من لوثات الإرجاء (5) .

_ (1) هو رسول معاذ إلى ابن مسعود - رضى الله عنهما -كما بينته رواية أبي عبيد، ص69، ضمن الرسائل الأربع بتحقيق الشيخ الألباني. (2) ص23 من الرسائل الأربع، وقد ضعفه الشيخ الألباني بجهالة رسول معاذ، غير أن القدر الذي استشهدنا به منه يعتضد بالأثر الذي أخرجه ابن أبي شيبة من عمر قبله، صلى الله عليه وسلم 19، وصحته واقعياً لا شك فيها. (3) أي في الحالات السوية بطبيعة الحال، وأما في حالة الأكراد مثلا فهي عارضة، ولا تدخل في مجال البحث هنا، بل هي من الأدلة على مذهب السلف؛ لأنها استثناء من الأصل. (4) نقلها البغوي في شرح السنة (1/ 11) هكذا، وهو الصحيح، وأما ما نقله عن النووى في شرح مسلم (1 / 145) وآخرها: وقد يكون صادقاً في الباطن غير منقاد في الظاهر، فهو خطأ؛ إذ تكون العبارة حينئذ متناقضة مع ما قبلها وما بعدها، لكن قد يكون الخطأ من الناسخ أو الطابع. (5) انظر الإيمان، صلى الله عليه وسلم 386، وقد أفاض في ذلك الصارم المسلول، وكذلك في الإيمان الأوسط؛ الجزء السابع من مجموع الفتاوى.

وأما حقيقة النفس الإنسانية، فغني عن البيان والإعادة أن نقول ان الإنسان لا يمكن أن ينفصل عمله عن همه وإرادته بحال؛ إذ الأعمال ما هى إلا الأثر الظاهر للهم والإرادة، ولا يتصور منافاتها لذلك مطلقا. غير أن من المهم هنا أن نعرج على الحالة المعاكسة - أي حالة المنافق الذي يستسلم ظاهراً وهو غير منقاد باطناً -؛ لنبين أن ذلك لا يتعارض مع هذه الحقيقة؛ وذلك أن أعمال المنافق هي بلا ريب أثر ما في قلبه؛ فقد يقال: لم لم يتلازم الظاهر والباطن في حقه، إذ نراه على ظاهر يخالف باطنه؟ والجواب: إن القاعدة صحيحة، وأن التلازم ثابت؛ فإن الالتواء أو التذبذب الخارجي هو أثر الالتواء والتذبذب الباطني المطابق له، والمنافق في الواقع ونفس الأمر ليس منقاداً لا ظاهراً ولا باطناً، فهذا هو حكمه عند الله الذي يعلم الأمور على حقائقها. ومخالفة ظاهره لباطنه إنما هي في علمنا البشرى القاصر، حيث يمكن أن يحجبنا بتصنعه وتكلفة أعمال الإيمان الظاهرة عما في قلبه من الكفر، ومع ذلك فليس الأمر على إطلاقه، فبصيرة المؤمنين لها أثر في معرفة المنافق، ولحن القول لا ينفك ينبئ عن المنافقين بين الحين والحين، كما أن اعوجاج المظهر من لوازمهم المعلمة عن حقيقة المخبر، ولولا وجود ضعاف الإيمان من غير المنافقين لكان أمرهم أجلى حداً، فأعمال المنافقين لا تشتبه وأعمال السابقين، وإنما تشتبه بأعمال هؤلاء. ثانيا: بعض النصوص الشرعية في حكم ترك العمل: وردت آيات وأحاديث كثيرة في أن العمل لا ينفك عن الإيمان الباطن، وأن العمل الصالح هو مناط النجاة فى الدنيا والآخرة، فهو الذي ينجي في الدنيا من سيف أهل الإيمان، وينجي يوم القيامة من عذاب النيران، ولم يعلق ذلك بأحد ركني الإيمان دون الآخر، إلا أن المنافق ينجو من السيف مادام نفاقه سراً، فإذا أظهره فهو الزنديق الذي تكلم العلماء في أحكامه بما لا يسعه المقام، وهذا دليل على التلازم والتركيب.

وأنا أذكر بعض ما أستدل به السلف في ذلك - فهم أعلم الناس بدلالات النصوص - فمن ذلك قوله تعالى: 1- «وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة» (البينة: 5) وبهذه الآية استدل عليهم التابعي المشهور عطاء بن أبي رباح، وتبعه الشافعي والحميدي والإمام أحمد. ففي قصة سالم الأفطس المرجئ، التي نقلناها سابقاً (1) يقول الراوي: فدخلت على عطاء بن أبي رباح في نفر من أصحابي، قلت: إن لنا حاجة فأدخلنا، ففعل، فأخبرته أن قوماً قبلنا قد أحدثوا، وتكلموا وقالوا: إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين (2) . فقال: أو ليس الله يقول: «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» (البينة: 5) فالصلاة والزكاة من الدين. وتبعه الشافعي فقال للحميدي: ما يحتج عليهم - يعني أهل الأرجاء - بآية أحج من قوله: «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ ... » (3) الآية. وتبعه الحميدي والإمام أحمد فقد روى الخلال عن عبد الله بن حنبل عن ابن اسحاق بن حنبل قال: قال الحميدي: " وأخبرت أن أقواماً يقولون: إن من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج، ولم يفعل من ذلك شيئا حتى يموت، ويظل مسنداً ظهره مستدبر القبلة حتى يموت، فهو مؤمن - ما لم يكن جاحداً - إذا علم أن ترك ذلك فيه إيمانه، إذا كان مقراً بالفرض واستقبال القبلة. فقلت: هذا الكفر بالله الصراح، وخلاف كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل المسلمين، قال عز وجل: «حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» .

_ (1) في مبحث مؤسس الطائفة أول الباب الثالث. (2) أي من الإيمان، والمراد أنهم يقولون: أن الأقرار بالصلاة والزكاة هو وحده الإيمان دون العمل، كما جاء في آخر القصة حين قال الراوي لنافع: أنهم يقولون: نحن نقر بان الصلاة فرض ولا نصلي، وبأن الخمر حرام ونشربها، وأن نكاح الأمهات حرام ونحن ننكح، قال: فنتر يده من يدي، وقال: من فعل هذا فهو كافر. (3) رواه بسند ابن ابي حاتم الشافعي، ونقلها شيخ الإسلام في الإيمان، صلى الله عليه وسلم 196.

قال حنبل: قال أبو عبد الله (يعني الإمام) : من قال هذا فقد كفر بالله، ورد على الله أمره، وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم ما جاء به. فانظر إلى هذا الحزم والوضوح مع تصريحهم بأنه مقر غير جاحد، ومع أن الكلام ليس فيمن عُرض على السيف فأصر على الترك!! وقال الإمام الآجري رحمه الله: " فالأعمال بالجوارح تصديق عن الإيمان بالقلب واللسان، فمن لم يصدق الإيمان بعمله؛ مثل الطهارة والصلاة والزكاة والحج والجهاد وأشباه لهذه، ورضى لنفسه بالمعرفة والقول دون العمل - لم يكن مؤمناً، ولم تنفعه المعرفة والقول، وكان تركه للعمل تكذيبا منه لإيمانه، فاعلم ذلك. هذا مذهب علماء المسلمين قديماً وحديثاً، فمن قال غير ذلك فهو مرجئ خبيث، أحذره على دينك، والدليل على هذا قو الله عز وجل: «وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيمون الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة» (1) . 2- ومما استدل به السلف عليهم قوله تعالى: «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» (البقرة: 177) . كما سبق في الاستدلال بها، وقد جعلها البخاري عنوانا لباب أمور الإيمان وقوله تعالى: «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» وذكر الآية (2)

_ (1) اخلاق العلماء، صلى الله عليه وسلم 28. (2) وانظر: عن استدلال السلف بما نقله السيوطي عنها من أثار فى الدر المنثور، والفتح (1 / 50) .

3- ومما استدلوا به آيات سورة التوبة، ومعلوم أنها من أخر ما أنزل، وهي قوله تعالى: «فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ» (التوبة: 5) . ثم قال بعدها: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (*) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) (التوبة: 11 - 12) فجعل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع الإيمان بالله وترك الشرك - شرطاً في تخليه السبيل، وعصمة الدم، واستحقاق الأخوة من المؤمنين، وجعل نقض ذلك موجباً للقتال على الكفر. ولهذا قال أنس رضى الله عنه - وهو ممن أدرك ظهور المرجئة -: " هو دين الله الذي جاء به الرسل وبلغوه عن ربهم، قبل هرج الأحاديث واختلاف الأهواء؛ وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما أنزل الله، قال الله: «فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ» (1) . إلى أن قال: توبتهم خلع الأوثان وعبادة ربهم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم قال في آية أخرى: «فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ» . قال الحافظ ابن كثير في تفسيرها: " ولهذا اعتمد الصديق رضى الله عنه في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة وأمثالها؛ حيث حرمت قتالهم بشرط هذه الأفعال، وهي الدخول في الإسلام والقيام بأداء واجباته، ونبه بأعلاها على أدناها، فإن أشرف الأركان بعد الشهادة الصلاة التي هي حق لله عز وجل، وبعدها أداء الزكاة التي هي نفع متعد إلى الفقراء أو المحاويج، وهي أشرف الأفعال المتعلقة بالمخلوقين، ولهذا كثيراً ما يقرن الله بين الصلاة والزكاة.

_ (1) رواه الطبري (10 / 78) ، وذكر ابن كثير أنه رواه ابن مردويه ومحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة - التفسير (4 / 54) ، وذكر عند الآية الأخرى (4 / 58) أن البزار رواه أيضا.

وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة ... " الحديث. وقال أبو إسحاق: عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: أمرتم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ومن لم يزك فلا صلاة له. وقال عبد الرحمن بن يزيد بن أسلم: أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة، وقال: يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه " (1) إلى آخر ما ذكر رحمه الله من أحاديث وآثار؛ هي مستند الإجماع الذي انعقد بين الصحابة بعد المناظرة الوجيزة بين الفاروق والصديق، ثم ظل من أعظم آحاد الإجماع ثبوتاً، حتى لقد قال الصحابة: " لو أطاعنا أبو بكر كفرنا "، بعد أن تبين لهم الأمر وزالت الشبهة. لقد كان الصحابة رضى الله عنهم أجل وأفقه من أن يقولوا: نسألهم، فإن كانوا مقرين بوجوبها مع الامتناع عن أدائها بالكلية فهم مسلمون، وإن كانوا جاحدين لوجوبها فهم مرتدون، ولكل حالة أحكامها!! فقد انعقد إجماعهم على أن الامتناع عن أدائها بالكلية - وهو الواقع من المرتدين - وليس عن دفعها للإمام - هو ردة صريحة، تضمن إسقاط حق الله في المال، والتفريق بين الصلاة والزكاة - وهم لم يخالف أحد منهم قط في تكفير تارك الصلاة (2) -، ولذا ألزمهم الصديق رضى الله عنه وعنهم، حتى انعقد إجماعهم على هذه، كما انعقد على تلك، وبناء على ذلك سموا الممتنعين عن أداء الزكاة مرتدين في كل النصوص الواردة عنهم، وقاتلوهم قتال سائر المرتدين - أى كمن أدعى نبوة مسيلمة وسجاح والأسود، دون تفريق بينهم في شيء من أحكام القتال، وشهد لهذا فقهاء السلف، كمال قال الحافظ أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله:

_ (1) التفسير (4/ 54) ، وانظر: الطبري - الموضوع السابق. (2) ومن الأدلة على إجماعهم على تكفير تارك الصلاة: حديث الصديق والصحابة هذا، وقد ثبت نقل ذلك عن طائفة منهم ومن التابعين - كما هو مفصل في مظانه، ومن ذلك ما حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 227) واظر أيضا: 230، 235، عن جابر رضى الله عنه، وكذلك جاء النقل عن أبى هريرة رضى الله عنه، رواه الحاكم وقال: صحيح على شرطهما، وقال الذهبي: (إسناده صالح) ، كما نقل الشيخ الألباني ولم يعلق عليه، الإيمان لأبن أبي شيبة 46، ولم يقل أن تاركها غير كافر إلا من تأثر بالإرجاء - شعر أو لم يشعر - كما سترى.

" والمصدق لهذا: جهاد أبي بكر الصديق - رحمه الله تعالى - بالمهاجرين والأنصار على منع الزكاة، كجهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الشرك سواء، لا فرق بينهما في سفك الدماء وسبي النساء واغتنام المال، فإنما كانوا مانعين لها غير جاحدين بها " (1) . قال شيخ الإسلام رحمه الله: " والصحابة لم يقولوا: أأنت مقر لوجوبها أو جاحداً لها؟ هذا لم يعهد عن الخلفاء والصحابة، بل لقد قال الصديق لعمر رضى الله عنه: والله لو منعوني عقالاً أو عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. فجعل المبيح للقتال مجرد المنع لا جحد الوجوب، وقد روي أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب لكن بخلوا بها، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم جميعاً سيرة واحدة، وهي قتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم والشهادة على قتلاهم بالنار، وسموهم جميعاً أهل الردة " (2) وهذه المعاملة في القتال هي أشد أنواع معاملة المنتسبين للإسلام ممن يجب قتاله أو يجوز؛ لأنه قتال ردة، وكل قتال دونه فهو دون ذلك من المعاملة، حتى إن الخوارج الذين تواترت النصوص في قتالهم بأعينهم وصفاتهم الجلية - كان حكم الصحابة فيهم ومعاملتهم لهم ألا يتبع من أدبر منهم، ولا يجهز على جريح، ولا تسبي نسائهم، أو تخمس أموالهم. قال شيخ الإسلام: " وأما قتال مانعي الزكاة - إذا كانوا مانعين عن أدائها بالكلية أو عن الإقرار بها - فهو أعظم من قتال الخوارج " (3) ومن الأدلة على فساد مذهب المرجئة في أن تارك العمل لا يكفر: أن من دخلت عليه شبهة الإرجاء من الفقهاء وشراح كتب السنة - لما لم يجعلوا قتال الصديق والصحابة لهم قتال ردة وكفر، جعلوه من باب قتال البغاة، ومنهم من يسمي

_ (1) لإيمان لأبي عبيد، صلى الله عليه وسلم 57 / من مجموع الرسائل الأربع التي حققها الشيخ الألباني. تنبيه: انظر دلالة الآيات الصريحة على أن إيتاء الزكاة شرط في عصمة الدم وثبوت الأخوة في الدين وكيف فهما الصحابة والسلف وفسروها، بل وعملوا بها مجمعين على ما أقسم عليه صديقهم " والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة " وقالوا " لو أطعنا أبو بكر كفرنا " وقاتلوهم هذه المقاتلة التي فسرها السلف كما ترى، ثم انظر معه ما جاء فى تقديم رسالة حكم تارك الصلاة، صلى الله عليه وسلم 15 " وإن قيل: ليس أخا في الدين!! قلنا: هذا باطل من القول بيقين ليس عليه أى دليل " (2) الدرر السنية (8 / 35) (3) منهاج السنة (4 / 501)

قتال أهل القبلة بكل أنواعه قتال بغاة (1) ، فكأن الصديق إنما قاتلهم لامتناعهم عن دفع الزكاة إليه، وهو إمام المسلمين وبيده بيت المال، والرد على هؤلاء واضح من وجوه: أنه لم يثبت أن امتناعهم مخصوص بأدائها إلى الإمام، بل الثابت بالنصوص الصحيحة امتناعهم عند أدائها مطلقا، أما ما ذكر من امتناع بعضهم هذا الامتناع المخصوص، فغايته إن ثبت أن تكون فئة منهم كذلك وليس عامتهم، والحكم إنما هو للأغلب والأعم. أن وصفهم بالردة والكفر بإطلاق - كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة - يدل على الامتناع المطلق لا على ما ذكروا. أن هذه المعاملة الشديدة لهم ومساوتهم بأصحاب مسيلمة والأسود ونحوهما لا تناسب إلا الامتناع المطلق. أن هؤلاء الفقهاء والشراح لا يلتزمون الحكم على من لم يدفع الزكاة للإمام بالكفر والردة ووجوب قتاله ومساواته بمدعي النبوة إلى أخر ما فعل الصحابة، بل غاية حكمه عن بعضهم جواز مقاتلته قتال بغي لا قتال ردة، فهم إما أن يقروا بأن المناط مختلف - وهو الصحيح - وإما أن يلتزموا مخالفة إجماع الصحابة، وهو تناقض!!

_ (1) قتال أهل القبلة المشروع أنواع، يجمعها كلها قوله صلى الله عليه وسلم: " التارك لدينه المفارق للجماعة " لأن استقراء النصوص يدل على أن الجماعة لها معنيان: أ- المعنى العام؛ وهو الدين والسنة فمن خرج عنه خرج إلى الكفر والبدعة. ب- والمعنى الخاص؛ هو مجتمع المسلمين الذي يرأسه إمام شرعى، فمن خرج عنه فهو باغ أو محارب. وتفصيل هذه الأنواع كما يلى: قتال الردة: وهو قتال الطائفة الممتنعة عن الألتزام بشعيرة من شعائر الإسلام أو حكم من أحكام الشريعة الثابتة،مثل مانعى الزكاة،وكالتتار الذين أصدر فيه شيخ الإسلام فتواه المشهورة التي جمع الله بها الأمة، أما تارك الصلاة فردا أو جماعة، فليس من أهل القبلة أصلا، وقتالهم أولى وأوجب، وكونه قتال ردة لا يجوز الخلاف عليه. قتال الخوارج وهو كما ذكرنا أعلاه، وهو في الحقيقة أصل في قتال اهل البدع كافة. وهذان النوعان خارجان عن الجماعة بمفهومهما العام والخاص. قتال البغاة: وهم الخارجون عن الجماعة بمفهومها الخاص - بتأويل واجتهاد، وهو أصحاب شبة لا أصحاب بدعة. قتال المحاربين: وهم من جنس البغاة، إلا أنهم أصحاب شهوة لا شبه فهم ليسوا خارجين على الجماعة بإطلاق، بل على أمن الجماعة، مثل قطاع الطريق وعصابات الفساد. أما النوع الآخر الذي لا شرعية له: قتال الفتنة: وهو الذي ثبتت السنة في النهي فن الدخول فيه وهو كل قتال بين المسلمين على الملك أو الدنيا أو العصبية أو نحوها. ومن هنا كان قوله صلى الله عليه وسلم " لا يحل دم امرئ ... ... " إلخ من جوامع الكلم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فإن الصديق إنما قاتلهم على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لا على طاعته، فإن الزكاة فرض عليهم، فقاتلهم على الإقرار بها وعلى أدائها (1) ، بخلاف من قاتل ليطاع هو، ولهذا قال: الإمام أحمد وأبو حنيفة وغيرهما: من قال: أنا أؤدي الزكاة ولا أعطيها للإمام، لم يكن للإمام أن يقاتله، وهذا فيه نزاع بين الفقهاء؛ فمن يجوز القتال على ترك طاعة ولي الأمر جوز قتال هؤلاء، وهو قول طائفة من الفقهاء ويحكى هذا عن الشافعي رحمه الله، ومن لم يجوز القتال إلا على ترك طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا على ترك طاعة شخص معين؛ لم يجوز قتال هؤلاء. وفي الجملة، فالذين قاتلهم الصديق رضى الله عنه كانوا ممتنعين عن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والإقرار بما جاء به، فلهذا كانوا مرتدين، بخلاف من أقر بذلك ولكن امتنع عن طاعة شخص معين (2) . أقول: فإذا انعقد الإجماع على عدم التفريق بين الصلاة والزكاة، وهما عملان ظاهران يمكن إنفكاك أحدهما عن الأخر من وجوه عدة، وقال الصديق: " والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة " وأقره عليه الصحابة كلهم قولا وعملا - فما بالك بمن يفرق بين ركني الإيمان الظاهر والباطن، وجزئي الحقيقة الواحدة المركبة؛ فيفرق بين الإيمان القلبى والعمل الظاهر؟! وسيأتي في شرح حديث جبريل عليه السلام ما يتعلق ببقية الأركان، ويزيد الأمر وضوحا.

_ (1) لاحظ قوله رحمه الله: " فقاتلهم على الإقرار بها وعلى أدائها " مع قوله السابق: " إذا كانوا ممتنعين عن أدائها بالكلية أو عن الإقرار بها "؛ فقد أراد بيان اتحاد الحكم فى الحالتين (حالة الامتناع عن الإقرار، وحالة الامتناع عن الأداء بالكلية) ، فلو فرض وجود من أنكر وجوبها - وهو المتفق على تكفيره بين أهل السنة والمرجئة، فإنه لا ينافي مساواة حكم من أقر بوجوبها وامتنع عن أدائها بحكمه فى كل شيء فهذا الذي فعله الصديق ويذهب إليه أهل السنة، بخلاف المرجئة. فالكفر عند المرجئة لا يكون إلا بالتكذيب والجحود، ولكنه عند أهل السنة يكون بذلك ويكون بغيره؛ مثل الإباء والاستكبار، وحكمهما واحد. تنبيه: ليس كل من قال: أن تاركي الزكاة أو بعضهم لم يكفروا زمن الصديق يقول إن من امتنع عن أدائها اليوم لا يكفر، ومن ذلك ما نقله ابن القيم في بدائع الفوائد من خط القاضي (أبي يعلى) حيث جعلهم متأولين، ولم يحكم بكفرهم؛ لأن أحكام الإسلام لم تكن قد انتشرت، قال: " ول منعها مانع في وقتنا حكم بكفره " (3 / 104) ، أى لأن أحكام الإسلام قد ظهرت فلا قبول لتأويل كتأويلهم! (2) منهاج السنة (4 / 500 - 501)

وبهذا يتبين لطالب الحق أن ترك الأركان الأربعة وسائر عمل الجوارح كفر ظاهراً وباطناً؛ لأنه ترك لجنس العمل الذي هو ركن الحقيقة المركبة للإيمان، التي لا وجود لها إلا به، هذا مما لا يجوز الخلاف فيه، ومن خالف فيه فقد دخلت عليه شبهة المرجئة شعر أو لم يشعر. وتتميز الأركان الأربعة عن سائر الواجبات، بأن من لم يلتزم فعلها بقلبه ولمن يعزم على ذلك لا يكون مؤمنا أبداً - أى فى الباطن (1) -؛ لأنه تارك لعمل القلب الذي هو ركن الإيمان، وعنه ينشأ العمل الظاهر، وأما من يضعفه عزمه وينخرم التزامه، فهو على حرف الكفر وحافة النفاق. وما ورد عن فقهاء الأمة من اختلاف بشأن تارك الصلاة - أو غيرها من الأركان - لا يؤثر على ما سبق، وذلك لأمور: * الأول: أن ترك جنس العمل شيء وترك بعض آحاده شيء آخر، ولا سيما عند من لا يرى كفر تارك الصلاة؛ إذ هى عنده من جملة الواجبات، فيصح لديه أن يأتي العبد ببعض الواجبات وتنفعه عند الله - مع تركه للصلاة، فلا يلزم من قولهم: أن تاركها لا يكفر أنه عمل له صالحا له، وهذا هو ما يهمنا هنا، وإن كان ثبوت كفره واستلزمه لإحباط سائر عمله هو الحق - كما سنبين. * الثاني: أنه من خالف في تكفير تارك أحد المباني الأربعة - ولا سيما الصلاة - لا ينبغي الاعتداد بخلافه بعد ثبوت الإجماع من الصحابة رضى الله عنهم في تكفير تارك الصلاة والزكاة، وما أشرنا إليه بالنسبة للصيام والحج - فمع كثرة المخالفين من المتأخرين لم يستطع أحد منهم الإتيان بنقل ثابت صريح عن صحابي أو تابعي يخالف ذلك؛ وذلك أن أول من قال به هم المرجئة، ثم تبعهم من تبعهم، ومتى عرف المرء ذلك تبين له أن هذا القول خارج عن أقوال أهل الاجتهاد إلى أهل البدع، وإن لم يكن كل من قال به من أهل البدع، وإيضاح ذلك في الفقرة التالية.

_ (1) انظر: كلام سفيان بن عيينه الآتي فى أخر هذا المبحث، حيث نص على أن المرجئة جعلوا من شهد أن لا إله إلا الله، - مصرا بقلبه على ترك الفضائل - بمنزلة ركوب المحارم، قال: وليسا سواء؛ لأن ركوب المحارم من غير استحلال معصية، وترك الفرائض متعمدا من غير جهل ولا عذر كفر. إلخ كلامه.

* الثالث: إن ما تنقله كتب الفقهاء المتأخرين عن بعض الأئمة من خلاف في هذا، لا يخلو من أحوال: إما أن النقل عنه غير ثابت، وإن ثبت فهو إحدى الروايات عنه (1) ، والموافقة للإجماع هى الأولى بالأخذ. وإما أن يكون كلامه في مسألة فرعية، كمن ترك فريضة واحدة وليس في التارك المطلق، وسنوضح أهمية التفريق بينهم فى البند الرابع. وأما أن يكون كلامه ليس صريحا فى الترك، بل في التساهل والتضييع وترك المحافظة، كما سنبين أيضاً. وإما أن يكون كلامه في حالات مخصوصة، كقول حذيفة رضى الله عنه: " تنجيهم من النار " - أى عند دروس الإسلام واضمحلاله (2) ، فجعله الناقل قولا عاما مطلقا. وإما أن يكون المخالف لم يبلغه الإجماع، أو قال بخلافه قبل أن يبلغه، أو لم يره إجماعاً ونظر إلى النصوص المطلقة؛ كحديث: " من قال لا إله إلا الله دخل الجنة " ونحو ذلك، وهذا لا يؤثر في ثبوت الإجماع وقوته. وإما أن يكون المنسوب للإمام المتبوع - هو قول مجتهدي المذهب كلهم أو بعضهم لا قول الإمام نفسه، ولاسيما إذا اعتقد التابع أن القول بالتكفير هو مذهب الخوارج والمعتزلة، فينفي عن إمامه القول به، وهذا ما وقع فيه كثير من فقهاء المذاهب، بل وقع فيه من يحارب المذهبية كالشيخ الألباني (3) . وإما أن يكون الناظر في قول الإمام من الأتباع لم يره التزام لازم القول، فظن أن ذلك رجوع عنه أو تناقض ينبغي تبرئته منه، وربما استدل بعضهم بترك لازم اللازم - وذلك مثل استدلال بعضهم بكون الصحابة وسائر المسلمين بعدهم لم يخصصوا مقبرة لتاركي الصلاة، وفاته أن تخصيص مقبرة لازم لإجراء الحكم الظاهر في الدنيا، وإجراء الحكم لازم للقول بالتكفير.

_ (1) ويشهد لهذا وما بعده من الفقرات اشتهار القول بعدم تكفير تارك الصلاة عن الشافعي، وإطباق متأخري الشافعية على ذلك، مع أن الإمام الطحاوي نسب إليه القول بتكفيره في مشكل الأثار (4 / 22_ 320) ، وهو ابن أخت المزني صاحب الشافعي، وقد كان شافعيا ثم تحول حنفيا، وهذه يؤكده النقل السابق عن الشافعي فى الاستدلال بأية البينة على المرجئة. (2) سيأتي إيضاح ذلك في الكلام عن حديث الجهميين. (3) انظر رسالته: حكم تارك الصلاة، صلى الله عليه وسلم 42 - 43 وسيأتي الحديث عن هذه الرسالة عند الكلام عن حديث الجهميين آخر الكتاب.

ولا يشترط التزام اللازم فضلا عن لازمه؛ فإن العالم قد يقول بالتكفير لكن لا يجرى الحكم الظاهر حتى لو كان قاضيا أو إماما لمانع من الموانع، وقد يجرى الحكم الظاهر ولا يرى لازمه؛ كتخصيص مقبرة، فما أبعده من استدلال!! * الرابع: أن الخلاف في ذلك ليس على إطلاقه وإجماله كما تنقل كتب الخلاف ونحوها، بل تحرير القول وتفصيله في مناط النزاع يظهر حقائق لا يجوز إغفالها، ومن ذلك: أن المخالف ربما كان كلامه فى الحكم الظاهر وكلام غيره فى الحكم الباطن، وأكثر كلام السلف إنما هو في الحكم الباطن، بعكس كلام الفقهاء المتأخرين - كما سنبين، ولهذا كان الإجماع على تكفير تارك الصلاة أشهر وأظهر والتمثيل بذلك في كتب العقيدة أكثر، لأن المسألة إذا كانت حكمية - فالصلاة هي الركن الوحيد الذي يمكن الحكم على تاركه بيقين؛ بما تختص به من الظهور والتكرار، وعموم جوابها في سائر الأحوال والأوقات. ولهذا يقولون: " تارك الصلاة " ولا يقولون " تارك الزكاة " غالباً بل " الممتنع عن أدائها " لأنه لا يمكن معرفة ذلك إلا بالامتناع، والصيام أخفى من الزكاة، والحج إنما يجب في العمرة مرة. أن لفظ " الترك " وشبهه هو من الألفاظ التي وقع فيها الإجمال والالتباس. وكثير من الخلاف سببه الألفاظ وإطلاق الأحكام، كما بين شيخ الإسلام وغيره وتبعاً للإمام أحمد، ومتى وجد التفصيل والتقيد ارتفع الخلاف، ومن ذلك أن كتب العقيدة التي صنفها أهل السنة تعني بالتارك تارك الالتزام بالأمر - أي تارك عمل القلب التارك تبعا لذلك عمل الجارحة (1) ، لأنها كلها تقرر أن الإيمان قول وعمل بالقلب والجوارح - كما أسلفنا، وعليه فالتارك عندهم هو من يستحق الاسم بإطلاق، ولذلك لم تختلف هذه الكتب في حكم تارك الصلاة مثل كتب الفروع ولأن مقصود مصنفيها بيان الحقائق الشرعية ذاتها، وبيان ما يضادها من البدع، ودفع اللبس بينهما.

_ (1) ولهذا قالوا مرة: إذا قال: لا أصلى، فهو كافر، ومرة قالوا: إذا عزم على تركها، ومرة قالوا: متعمدا ومرة قالوا: إذا قاتل عليها. وذلك لأن هذه الأحوال جميعا تدل على شيء واحد؛ وهو عدم الالتزام.

أما كتب الفروع فلكونها تبحث في أحكام أعيان المكلفين وتفصيل أحوالهم،ومقصودها غالبا إجراء الحكم الظاهر - كان التارك عند مصنفيها اسما عاما يتناول آحادا كثيرة، فيتكلمون عن التارك الجاحد للوجوب، والتارك المتكاسل والترك لفريضة واحدة، فيشمل كلامهم من جهة الباطن تارك عمل القلب، وضعيفه، والمتردد بين ضعف الإيمان والنفاق المحض (1) . والآيات الواردة في ترك الصلاة إنما هي في الكفار، كقوله تعالى: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ» وقوله: «فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (*) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى» وقوله: «مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (*) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (*) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ» . وفي هذا دليل على أن من تركها كافر لا حظ له في الإسلام وإن ادعاه، وأيضا أن التارك هو من لا يصلى بإطلاق؛ لأن الكافر كذلك، بقوله، فقوله صلى الله عليه وسلم: " من تركها فقد كفر " وغيره من الأحاديث؛ يفسر هذا. فمن ترك الصلاة بالكلية فهو من جنس هؤلاء الكفار، ومن تركها في أكثر أحيانه فهو إليهم أقرب، وحاله بهم أشبه، ومن كان يصلى أحيانا ويدع أحيانا فهو متردد متذبذب بين الكفر والإيمان، والعبرة بالخاتمة. وقد يلتبس على بعضهم ما جاء في ذلك من ألفاظ النصوص، مثل: (الإضاعة) و (ترك المحافظة) بالترك الكلى، فالإضاعة كما في قوله تعالى: «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ» ، ولذلك نص ابن مسعود وغيره على أن الإضاعة هى التأخير، ولو تركوها لكانوا كفارا (2) .

_ (1) والمؤسف مع أن هذا الشيخ الألباني حفظه الله أخذ بكلام أهل الإرجاء المحض من غير تفصيل؛ حيث جعل التارك الكلى مؤمنا من أهل الشفاعة، وركب رسالته كلها على هذا!! (2) انظر: الطبرى، وابن كثير، والدر المنثور، وأضواء البيان عن هذه الآية، وأما لفظ التفريط الوارد في مسائل الإمام أحمد فليس هو في الترك، وإنما هو فيمن حسب غير العذر عذراً - كحال كثير من الناس الذين إذا مرضوا تركوا الصلاة، فإذا شفوا سألوا ماذا نفعل؟ أما من تركها غير ملتزم بها فلا يقول أحمد رحمه الله ولا غيره ممن يرة التكفير به أنه يقضيها؛ لأنه كفر، وتوبة الكافر التزامه بالشرائع التي كفر بها بترك الالتزام بها، سواء أكانت الصلاة أم الزكاة أو غيرها، ولو أن الشيخ الألباني حفظه الله تأمل هذا لما ورد فى رسالته، صلى الله عليه وسلم 57، أو لأورده على سبيل الاحتمال لا الجزم.

وترك المحافظة - كما فى حديث عبادة بن الصامت " من لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة " (1) ، وهو غير الترك الكلى الذي هو الكفر. ومن ذلك لفظ (الجحد) ، فهي لا تعني أحيانا عند السلف إلا الترك - كما تقدم -، فيخطئ بعض المتأخرين فيجعلها مقابل التارك ويفترض الخلاف، والواقع أن لا خلاف، وكل تفريق لم يرد في النصوص لا يصح اعتباره، والنصوص المطلقة لا جوز حملها على أحد المعنيين دون الآخر، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: " وأما الذين لم يكفروا بترك الصلاة ونحوها، فليس لهم حجة وإلا وهي متناولة للجاحد كتناولها للتارك، فما كان جوابهم عند الجاحد كان جواباً عند التارك، مع أن النصوص علقت الكفر بالتولي " (2) يعني الآيات، والأحاديث أكثرها جاء بلفظ الترك، ولفظ الجحد لم يأت غالبا إلا في كلام السلف، ويقصدون به الترك والتولي لا عدم الإقرار بالوجوب. وكذلك الكسل والتهاون والسهو عنها لا يعني الترك المطلق، ولهذا تعجب لمن يقول: " إذا تركها كسلا وتهاونا حتى يقتل " ونحوه، إذ يستحيل عقلا وواقعا أن يفضل السيف على الصلاة لمجرد الكسل ونحوه، فأي كسل يبقى والسيف على رأسه؟! فإن هذا تارك للإقرار والالتزام بها، وليس متكاسلا عن الأداء، والمتكاسل هو المتخاذل المهمل في العمل، الذي متى توافر الداعي للأداء عمل، وإذا ضعف الداعي فتر وأنقطع - كما قال تعالى: «وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى» وقال: «ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى» ، وهذا من

_ (1) انظر كلام شيخ الإسلام عن الحديث (7 / 578) ، (7 / 641) من مجموع الفتاوى، وكذلك في ج 22، وقد نقله الشيخ الألباني في رسالته حكم تارك الصلاة، صلى الله عليه وسلم 44 - 46، ولكن صاحب التقديم استدل بالحديث على أن تارك الصلاة لا يكفر، بل هو تحت المشيئة، قارن بين صلى الله عليه وسلم 12 منها مع ما سنفصله عند الكىم عن حديث الجهميين. (2) 7 / 613) من مجموع الفتاوى.

ضعف الهمة في العمل، فإذا أشتد به ضعفها ترك العمل نفسه أو أخره عن وقته ونقرها نقر الغراب، والمقصود أن هذا شيء وترك الالتزام بالأداء شيء أخر. ومن ذلك لفظة (الامتناع) ، فإنها تطلق على من يتعذر أو يتخلف أو يتلكأ، بخلاف ما يقوله العلماء في الطائفة الممتنعة، وهي التي تجتمع على ترك واجب أو فعل محرم، فهذا الاجتماع والمقاتلة دليل على عدم الالتزام بالأمر، ومن هنا كان قتالها قتال ردة كما سبق. * الخامس: أن حقيقة الخلاف بين من يرى قتل تارك الصلاة كفرا وبين من يرى قتله حدا؛ لأن القول بأنه يحبس ويضرب مهما أصر على الترك قول شاذ، وصلته بالإرجاء جلية؛ سواء من جهة القائلين به أو من جهة مضمونة. وعليه إذا تأمل الفقيه وجد أن كل ما أستدل به من يرى قتله حداً يصلح دليلاً لمن يرى قتله كفرا ولا عكس، فاجتمع للقائل بقتله كفراً أدلته وأدلة غيره، وإن شئت فقل: إن الأدلة في قتله والأدلة في تكفيره تجتمع بلا تعارض، فثبت أن قتله كفراً هو وحده الصحيح (1) ، لا سيما مع ما سبق من بيان استحالة أن يرضى مؤمن بأن يقتل ولا يصلي، فهذا لا يفعله إلا كافر معاند. وعلى هذا يقاس غيرها من الأركان. ومثل ما جاء من الوعيد في ترك المحافظة على الصلوات - كحديث عبادة - أو إضاعتها أو السهو عنها - ما جاء من الوعيد في ترك الزكاة؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: " ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه، تنطحه بقرنها وتطؤه بأظلافها، كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها، حتى يقضى بين الناس " (2) وقد جاء في بعض الروايات: " حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار "، فقد يستدل على تارك الزكاة بإطلاق داخل تحت المشيئة، فلا يكون كافرا، أو على التفريق بين تارك الصلاة والزكاة (3) ، وليس الأمر كذلك لوجوه:

_ (1) ومما يبين ذلك - من جهة الأصول والاستنباط - أن تارك الصلاة إذا تاب وصلى لا يقتل الجميع، فهذا دليل على أنه لو قتل لقتل كفرا؛ لأن الحدود لا تسقط بالتوبة، أما المرتد أو المنافق فيقبل توبته ولا يعاقب. (2) رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب فيمن لا يؤدي الزكاة. (3) كما فعل الإمام محمد بن نصر المروزي في كتابه " تعظيم قدر الصلاة "

أولا: أنه لا يدل على ترك الزكاة أو ترك حق المال بالكلية، ولابد من جمع الأحاديث والروايات فى هذه المسألة، وبمجموعها يتضح أن المقصود منه ليس تارك الالتزام، بل المفرط المتهاون أو المضيع - كما في الصلاة. ثانيا: أن هذه الرواية أشبه بالمختصر، ولفظ الرواية التامة: " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها ... ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها، ومن حقها حلبها يوم ورودها ... ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها ... " وقال في الخيل:" ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها "، وفي هذه الرواية التامة قال:" حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار" وفي الرواية الأخرى قال في الإبل والبقر والغنم: " لا يفعل فيها حقها "، ثم قال: " ولا صاحب كنز لا يفعل فيه حقه " ولم يذكر: " حتى يقضى " إلى أخره. في رواية أخرى في الصحيح: " من أتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاع أقرع ... " إلخ، وليس فيها " حتى يقضى " إلخ، فهذا لا يعنى أنه لا يدخل النار ولا يخلد فيها، بل هي على إطلاقها، فدل مجموع هذا على أن الوعيد وارد في ترك حق الله عامة لا في الزكاة المفروضة خاصة، وقوله:" ومن حقها حلبها يوم ورودها " وقوله في الخيل ما سبق - صريح في ذلك والمسلمون جميعا متفقون على أن في المال حقا سوى الزكاة لا يجوز تركه، كنفقة. من تجب عليه نفقته، وإطعام الملهوف، وعابر السبيل، والضيف إذا تعين ذلك عليه، هذا هو المراد. ويبين ذلك أن الوعيد ورد في حق المكتنز المدخر، الذي يؤدي فعله إلى حبس المال وتعطيل منافعه - وإن لم يكن مما تجب فيه الزكاة، كقوله صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي اكتنز ديناراً أو دينارين: " كية أو كيتان " وكقوله للمرأة ذات المسكتين: " أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار " وما أشبهه، ومعلوم أن هذا دون النصاب المقدر للزكاة، فلابد أن تكون العلة أمرا أخر سوى ترك الزكاة المفروضة. وبهذا تجتمع الأحاديث التي كثر فيها الاختلاف منذ عهد الصحابة رضى الله عنهم، ويوضح ذلك حال النبي صلى الله عليه وسلم، وكثير من أصحابه، فإنه لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكنز المال وينتظر حتى يحول الحول فيؤدي القدر المعلوم من النصاب المعلوم؛ بل ثبت عنه أنه قال: " ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا إلا أنفقته كله " فكان هو وكثير من

أصحابه ينفقون بالليل والنهار سرا وعلانية في نوائب الحق، ويسارعون فيما لا يتعين عليهم، ويتنافسون فيه مثلما كانوا يبادرون إلى صلاة التطوع ويحرصون عليها سواء. فمن تأمل حالهم ومجموع النصوص في الباب - لم يرد منها حديثا أو يصعب عليه توجيهه وفهمه، وأما من التزم طريقة أكثر الفقهاء المتأخرين، فلابد أن يرد البعض، أو يخطئ في توجيهه، أو يتعسف في تخريجه، كقولهم أن هذا مخالف للأصول، وأنه منسوخ نزل قبل تحديد الأنصبة، ونحو ذلك مما هو إلى الظن أقرب، والله أعلم. ولنعد إلى أصل موضوعنا عن الحقيقة المركبة، فنقول: في كتاب الإيمان الأوسط (1) ، والذي هو في الحقيقة شرح مستفيض لحديث جبريل عليه السلام فصل شيخ الإسلام القول في هذا، وأظهر - بما لا يدع ريبة ولا شكا - حقيقة الإيمان المركبة، وكفر من ترك العمل الظاهر، بل كفر من ترك الالتزام بأحد الأركان الأربعة؛ الصلاة والزكاة والصوم والحج، وعزم على ألا يفعلها (2) ؛ فإنه رحمه الله قال: " وأما الفرائض الأربع (يعني ما عدا الشهادتين) فإذا جحد وجوب شيء منها بعد بلوغ الحجة فهو كافر، وكذلك من جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المتواترة وتحريمها. . . ". ثم قال: " وهذه المسألة لها طرفان: أحدهما: في إثبات الكفر الظاهر. والثاني: في إثبات الكفر الباطن. فأما الطرف الثاني فهو مبني على مسألة كون الإيمان قولاً وعملاً كما تقدم، ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمنا إيمانا ثابتا في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة

_ (1) هو مجموع الفتاوى (7 / 461 - 641) (2) انظر من صلى الله عليه وسلم 610 حتى621 مع ما ذكر صلى الله عليه وسلم 210، 218 - 219 وسنأتي على معظمه في ثنايا الفصول الآتية.

والزكاة والصيام والحج، ويعيش وهو لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم رمضان، ولا يؤدي لله زكاة، ولا يحج إلي بيته، فهذا ممتنع، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة، لا مع إيمان صحيح (1) ثم ذكر الأدلة من الكتاب والسنة على الامتناع عن الطاعة إنما هو من صفات الكفار لا المسلمين، وألزم المفرقين بين جاحد الوجوب والتارك بإلزام قوي وحجة برهانية؛ فقال: " وأما الذين لم يكفروا بترك الصلاة ونحوها، فليست لهم حجة إلا وهى متناولة للجاحد كتناولها للتارك، فما كان جوابهم على الجاحد كان جوابا لهم عن التارك " (2) . وذلك أن النصوص لم تفرق، والصحابة رضى الله عنهم لم يفرقوا - كما فصلنا ذلك من قبل، وسنزيده وضوحا إن شاء الله في الصفحات التالية. والمقصود هنا أن شيخ الإسلام رحمه الله نصر القول بكفره باطنا، وفند شبهات القائلين بخلافه في بقية كلامه. وأوضح أن من عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب " (3) . وأن من إجراء الأحكام الظاهرة عليه أمر آخر - كما هو الشأن في المنافقين، وكذلك في المتأولين الذين يعتقدون عقيدة هي كفر، ولكن إجراء الحكم الظاهر عليهم له شروط (إقامة الحجة والاستتابة) ، وقال: " وبهذا تزول الشبهة في هذا الباب، فإن كثير من الناس، بل أكثرهم في كثير من الأمصار لا يكونون محافظين على الصلوات الخمس، وهم تاركيها بالجملة بل يصلون أحيانا ويدعون أحياناً، فهؤلاء فيهم إيمان ونفاق، وتجرى عليهم أحكام الإسلام الظاهر في المواريث ونحوها من الأحكام إذا جرت على المنافق المحض كابن أبي وأمثاله من المنافقين، فلأن تجرى على هؤلاء أولى وأحرى (4) . وختم كلامه بقوله: " وبالجملة فاصل هذه المسائل أن تعلم أن الكفر نوعان: كفر ظاهر وكفر نفاق، فإذا تكلم في أحكام الآخرة كان حكم المنافق حكم الكفار، وأما في أحكام الدنيا فقد تجرى على المنافق أحكام المسلمين.

_ (1) 7 / 610 - 611) (2) ص 613 - 614. (3) ص 616 (4) ص617

وقد تبين أن الدين لابد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمنا بالله ورسوله بقلبه ولسانه ولم يؤدي واجبا ظاهرا، ولا صلاة ولا زكاة ولا صياماً، ولا غير ذلك من الواجبات. . . " (1) . كما فصل القول فى أن عمل القلب هو إرادة جازمة، والإرادة الجازمة يستحيل تخلف الفعل عنها (2) . فثابت أن تارك عمل القلب بالنسبة للأركان الأربعة أو أحدها، هو تارك الالتزام بها والعقد الجازم على فعلها كافر على الحقيقة؛ لأنه إما أنه ليس لديه عمل القلب (الذي هو الإرادة الجازمة المستلزمة للفعل) ، ولا قوله (الذي هو الإقرار بالوجوب) ، فهذا لا شك في كفره. وإما أن يكون لديه قول القلب، ولكنه إذ لم يستلزم فعل القلب لا يكفي في ثبوت الإيمان، فهو معرفة مجردة أو علم مجرد - كما تقدم إيضاحه، وهو من جنس إقرار أهل الكتاب بأن محمد صلى الله عليه وسلم رسول واجب الاتباع ولكن لم يتبعوه، بل إقرار إبليس بأن الله أمره بالسجود ولكن لم يطعه. وهكذا فإطلاق القول بتكفير تارك الصلاة أو الزكاة أو الصوم أو الحج صحيح موافق لقاعدة أهل السنة في الإيمان كل الموافقة، وهو ليس من جنس تسمية بعض العصاة كفاراً وتسمية بعض المعاصي كفراً والقول بأن المسألة خلافية هكذا بإطلاق غير صحيح، إلا أن يراد عموم الأمة لا خصوص السلف ومن أتبعهم، وسيأتي في شرح حديث جبريل عليه السلام وشرح حديث وفد عبد القيس - ما يزيد ذلك إيضاحا. ثالثا: ما ورد من الآيات في حكم التولى عن الطاعة: ولا شك أن تارك جنس العمل متول عن الطاعة معرض عن الأمتثال؛فالآيات الدالة على أن تارك الركن تارك للإيمان هي دليل على تركب حقيقة الإيمان من هذين الركنين معاً، ومنها: 1- قوله تعالى: «قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ» (آل عمران: 32) 2- قوله تعالى: «وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ» (النور: 47) .

_ (1) ص 620 - 621. (2) ص 616.

3- قوله تعالى في حق الكافر: «فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (*) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى» (القيامة:31، 32) . 4- قوله تعالى: «لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (*) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى» (الليل: 15، 16) . 5- قوله تعالى على لسان موسى وهارون: (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (طه: 48) . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " فعلم أن التولى ليس هو التكذيب، بل هو التولى عن الطاعة؛ فإن الناس عليهم أن يصدقوا الرسول فيما أخبر ويطيعوه فيما أمر، وضد التصديق التكذيب، وضد الطاعة التولى، ولهذا قال (فلا صدق ولا صلى * ولكن كذب وتولى) وقد قال تعالى «ويقولون أمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين» (النور: 47) . فنفى الإيمان عمن تولى عن العمل وإن كان قد أتى بالقول " إلى أن يقول: " ففي القرآن والسنة من نفي الإيمان عمن لم يأت بالعمل مواضع، كما نفى فيها الإيمان عن المنافق، وأما العالم بقلبه مع المعاداة أو المخالفة الظاهرة، فهذا لم يسم قط مؤمنا، وعند الجهمية إذا كان العلم في قلبه مؤمن كامل الإيمان، إيمانه كإيمان النبيين، ولو قال أو عمل ما عسى أن يقول ويعمل، ولا يتصور عندهم أن ينتفي الإيمان إلا إذا زال ذلك العلم من قلبه " (1) ويستمر رحمه الله في مناقشة الأشعرية في ذلك، ناقلا عن كبار أئمتهم، ناقدا مذهبهم في صفحات طويلة. رابعا: الآيات في اقتران العمل بالإيمان: وهذا ما استدل به السلف قديما، وإن كان للمرجئة عليه اعتراض سنورده إن شاء الله ونرده، وممن استدل بذلك الإمام أبو بكر محمد بن الحسين الآجري الشافعي، قال: " اعلموا - رحمنا الله تعالى وإياكم - يا أهل القرآن ويا أهل العلم، يا أهل السنن والآثار، ويا معشر من فقههم الله عز وجل في

_ (1) الإيمان ص137، وهو في مجموع الفتاوى (7 / 142) وقبل ذلك ص59 - ذكر أن هذا التولى من المعصية المكفرة مثل معصية جنس الرسل، وذكر نحو كلامه هنا.

الدين بعلم الحلال والحرام، إنكم إن تدبرتم القرآن كما أمركم الله عز وجل، علمتم أن الله عز وجل أوجب على المؤمنين بعد إيمانهم به وبرسوله: العمل. وأنه عز وجل لم يثن على المؤمنين بأنه قد رضى عنهم وقد رضوا عنه، والعمل الصالح وأثابهم على ذلك الدخول الى الجنة والنجاة من النار إلا الإيمان به والعمل الصالح، وقرن مع الإيمان على ذلك الدخول إلى الجنة والنجاة من النار بالإيمان الذى قد وفقهم إليه، فصار الإيمان، لم يدخلهم الجنة بالإيمان وحده حتى ضم اليه العمل الصالح مصدقا بقلبه وناطقا بلسانه وعاملا بجوارحه. لا يخفى أن تدبر القرآن وتصفحه وجده كما ذكرت. واعلموا - رحمنا الله تعالى وإياكم - أني قد تصفحت القرآن، فوجدت فيه ما ذكرته في تسعة وخمسين موضعا من كتاب الله عز وجل، وأن الله تبارك وتعالى لم يدخل المؤمنين الجنة بالإيمان وحده، بل أدخلهم الجنة برحمته وإياهم، وبما وفقهم له من الإيمان بالعمل والعمل الصالح. وهذا رد على من قال: "الإيمان المعرفة" ورد على من قال:"المعرفة والقول وإن لم يعمل" نعوذ بالله من قائل هذا ". ثم شرع رحمه الله في سرد هذه المواضع في قوله تعالى في سورة البقرة: «وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ» إلى قوله: «وَالْعَصْرِ (*) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (*) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ» (1) . أقول: إنه رحمه الله لم يستكمل كل الآيات في اقتران العمل بالإيمان، بل اقتصر على ما كان فيه تقديم ذكر الإيمان على العمل، أما ما تقدم فيه العمل على الإيمان فلم يذكره، ومعلوم أن ذكر النوعين أدل على التلازم. ومن ذلك قوله تعالى في سورة طه: «ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى» وقد ذكرها، فإذا ضممنا إليها آية أخرى في السورة

_ (1) وذلك في فصل خاص من كتاب الشريعة.

نفسها لم يذكرها، وهي: «وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا» كان أدل في أنه لا عمل بلا إيمان ولا إيمان بلا عمل. وإنما كثر تقديم الإيمان؛ لأن المراد به قول القلب وعمله، وهو الأصل، فالباطن أصل للظاهر كما سبق لكن ورود بعض مواضع يتقدم فيها ذكر العمل عليه، يدل على التلازم، وعلى أهمية المقدم من أعمال الإيمان في ذلك السياق. ومن ذلك قوله تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ) " الإسراء:19" وقد استدل بهاء عطاء فى مناظرته لسالم الأفطس المرجئ التي سبق إيرادها نقلا عن ابن بطة - قال: فألزم الاسم العمل والعمل الاسم " وفى هذا تنبيه على مواضع أخرى تماثلها، مع قصد أهمية المقدم، كما سبق، ومنها: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» (آل عمران:110) . فلا يقال: إن الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، ليسا من الإيمان، أو يصحان بدونه، لأنه عطف الإيمان عليها، والعطف يقتضى المغايرة (1) بل المقصود التنبيه على أهمية هذه الميزة الإسلامية، بإفرادها عن سائر أعمال الإيمان، وتقدمها عليه، وإلا فمعلوم قطعا أن الإيمان لا يتقدم عليه شىء، إذ لا يقبل شىء بدونه. وقد ورد تقديم التوبة والتقوى والشكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة على الإيمان فى آيات أخرى. أما التوبة، ففي أربعة مواضع، منها: «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى» (طه:82) . مع ورود التوبة بمعنى الإيمان نفسه فى الآية السابقة «فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ»

_ (1) كما يقول المرجئة فى مسألة العطف التي سنذكرها - إن شاء الله - ضمن الشبهات النقلية.

وأما الشكر، ففي قوله تعالى: «مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ» ... (النساء: 147) وأما التقوى، ففى قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ» (الحديد: 28) وأما الصلاة والزكاة، ففى قوله تعالى: «لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ» ... (المائدة:12) وورد عكس ذلك، وهو ذكر الإيمان ثم العطف عليه بذكر شىء من أعماله، تنبيها على أهميته أيضا، مثل قوله تعالى: «إن الذين أمنوا والذين هاجروا وجهدوا فى سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور رحيم» والمهاجرون هم من المؤمنين، وكل المؤمنين يرجون رحمة الله، ومواضع هذا كثيرة. وبالجملة فالإيمان فى هذه النصوص، أما أنه الإيمان كله باطنه وظاهره، لكن يعطف عليه بعضه، ويقدم عليه بعضه، وهذا واضح الدلالة. وأما أن يكون المقصود باطن الإيمان - أى الإيمان المذكور فى حديث جبريل. ويكون عطف الأعمال عليه، أو عطفه على أعمال هى أجزاء ظاهرة من الإيمان، ولا تصح بدون الإيمان الباطن ودلالة لا خفاء فيها أيضا وأقل المواضع دلالة على التركيب، هى التي يذكر فيه الإيمان مطلقا ومع ذلك لا يقتصر على لفظ الإيمان، بل له ألفاظ أخرى، كلفظ " البر " المذكور فى اية البقرة السابقة (ليس البر أن تولوا وجوهكم..) ولفظ " الدين " ولفظ " التقوى " ولفظ " العبادة " ولفظ " الهدى " ولفظ " الطاعة " ولفظ " المعروف " ولفظ " الخير " ونحوها من الألفاظ العامة التي تدخل فيها شعب الإيمان جميعا (1) .

_ (1) وقد أفاض شيخ الإسلام فى ذكر هذه الألفاظ، وبيان دلالتها حال الإفراد وحال الأقتران، وكذلك ما يقابلها كالكفر والمعصية، والفسوق، والظلم، والضلال، ... ... الخ واستغرق ذلك ما يقارب الثلث الأول من كتاب الإيمان.

ونختم هذا المبحث بذكر موضع مهم من المواضع التي قرن فيها العمل بالإيمان، للدلالة على التركيب والتلازم، وهو قوله تعالى: «وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا» (النساء:124) ووجه الأهمية أن الله تعالى ذكر ذلك ضمن الرد على دعوى الإيمان بالتسمى والقول، دون إصلاح العمل، ورد على من يزعم هذه الدعوى سواء أكان كتابيا أم حنفيا، فقال قبلها: «لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا» (النساء:123) وقال بعدها: «وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا» (النساء:125) فبين ان الإيمان ليس بالتحلى ولا بالتمنى، بل ما وقر فى القلب وصدقه العمل، وأنه لا أحد أحسن دينا ممن أسلم: أى انقاد وأطاع بلا حرج ولا منازعة وهذه هى ملة إبراهيم، التي لا يقبل الله دينا غيرها مهما كثرت الأمانى والدعاوى. خامسا: الأحاديث فى ذلك: وردت أحاديث صحيحة كثيرة تدل على حقيقة الإيمان المركبة وقد سبق أن أوردنا منها ما يدل على أن العمل إيمان، والإيمان عمل وهذه أهمها. 1 - حديث جبريل عليه السلام المشهور: وهو حديث صحيح رواه الشيخان وغيرهما عن ابن عمر عن أبيه، وعن أبى هريرة، والأولى أتم، وهذه رواية مسلم: قال عبد الله بن عمر - بعد مقدمة عن القدرية التي هى سبب الحديث -: " حدثنى أبى عمر بن الخطاب، قال: بينما نحن عند الرسول صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه أحد منا، حتى جلس إلى النبى صلى الله عليه وسلم فأسند ركبته إلى ركبتيه، ووضع فخذيه.

وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:الإسلام ان تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرنى عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال: فأخبرنى عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فاخبرنى عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. قال: أخبرنى عن أمارتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون فى البنيان. قال: ثم أنطلق فلبثت مليا، ثم قال لى يا عمر: أتدرى من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل اتاكم يعلمكم دينكم (1) وعند ابن منده من رواية على شرط مسلم (2) ، أنه سأله بعد ذكر أركان الإسلام: "فإن فعلت هذا فأنا مسلم" قال: نعم

_ (1) مسلم رقم 1، وأما البخارى فرواه عن أبى هريرة (1/1114) (2) كما نص الحافظ فى الفتح (1/119)

وبعد ذكر أركان الإيمان: فإن فعلت هذا فأنا مؤمن؟ قال: نعم (1) وفى طريق أخر عنده: " لقد حدثنى عمر أن رجلا فى أخر عمر الرسول صلى الله عليه وسلم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث " (2) قال الحافظ: " أخر عمره، يحتمل أن يكون بعد حجة الوداع، فإنها أخر سفراته، ثم بعد قدومه بقليل دون ثلاثة أشهر مات، وكأنه " يعنى جبريل عليه السلام " إنما جاء بعد إنزال جميع الأحكام، لتقرير أمور الدين التي بلغها متفرقة فى مجلس واحد لتنضبط " (3) وقال شيخ الإسلام ابن تيميه: " أن جبريل لما سأل النبى صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان، كان فى أخر الأمر بعد فرض الحج والحج إنما فرض سنه تسع أو عشر ... " (4) فهذا نص الحديث وزمانه الذى بمعرفته نعرف أمورا تأتى فى الشرح. 2 - والحديث الثانى: هو حديث شعب الإيمان: عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الإيمان بضع وسبعون أو: بضع وستون شعبة - فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق (5) وفى رواية: " والحياء شعبة من الإيمان " 3 - والحديث الثالث: عن ابن عباس رضى الله عنهما، أن وفد عبد القيس أتوا النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: " من الوفد؟ أو من القوم؟ قالوا: ربيعة. فقال: مرحبا بالقوم - أو: بالوفد - غير خزايا ولا ندامى. قالوا: إنا نأتيك من شقة بعيدة، وبيننا وبينك هذا الحى من كفار مضر، ولا نستطيع أن نأتيك إلا فى شهر حرام، فمرنا بأمر نخبر به من وراءنا ندخل به الجنة. فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع: أمرهم بالإيمان بالله وحده؟ قال: أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.

_ (1) الإيمان لابن منده (1/146) ، ومعها روايات أخرى لفظها: " فإذا فعلت ذلك فقد أسلمت " وهى موافقة لرواية النسائى، أنظر: جامع الأصول (8/101) . (2) المصدر السابق (1/114) (3) الفتح (1/119) (4) الإيمان، ص 228. (5) مسلم رقم (57) ، والبخارى (1/51) ، وهذا لفظ مسلم.

قال: شهادة أن لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة وصوم رمضان، وتعطوا الخمس من المغنم. ونهاهم عن الدباء والحنتم والمزفت. قال شعبة: ربما قال: النقير، وربما قال: المقير (1) قال: احفظوا واخبروه من وراءكم (2) وهذه الأحاديث من اعظم الأحاديث فى الإيمان، وقد اكتفيت بها، لأنها تشير إلى ما سواها وأهمها وأشرفها وأخرها هو حديث جبريل (3) وتقدم القوم فى وقته. أما حديث الشعب، فيحتمل أنه بعد نزول الفرائض واكتمال الشعب، ويحتمل أن يكون الله تعالى أطلعه على عددها، قبل أن ينزلها عليه كلها، والأول أقرب والله أعلم (4) وأما حديث وفد عبد القيس فمتقدم، ولذلك لم يذكر فيه الحج وما ذكر فيه من كون مضر ما تزال على الكفر، يدل على ذلك. ولكن أهميته ظاهرة فى أنه فسر الإيمان بالأركان الأربعة، فدل على أن الإيمان إذا انفرد عن الإسلام يشمل باطن الدين وظاهره أى مجموع ما ذكر فى حديث جبريل من أركان الإسلام وأركان الإيمان. وكذلك حديث الشعب، فإن أركان الإسلام الخمسة داخله فى الشعب، بدليل أنه جعل كلمة الشهادة أفضل الشعب وأعلاها. فالإيمان بهذا المفهوم العام - لا بمفهومه الخاص، الذى هو مرتبه من مراتب الدين، كما فى حديث جبريل - مرادف لكلمة الدين كما بينها أخر حديث جبريل. وهذا الإيمان يشمل الظاهر والباطن معا، كما دلت هذه الأحاديث الثلاثة، فمضمونها يدل على أن الإيمان حقيقة مركبة من الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة معا، لا يصح تصور أحدهما بدون الآخر في تحقيق الإيمان.

_ (1) هذه أسماء أنيه يوضع فيه النبيذ. (2) البخارى واللفظ له (1/185) ومسلم رقم (23- 28) . (3) ولهذا أبتدأ شيخ الإسلام ابن تيميه كتابه بشرحه، أظنه تبع الإمام مسلما فى ذلك، حيث ابتدأ به كتاب الإيمان الذى هو أول كتابه. (4) لاسيما وان إسلام الراوى - أبى هريرة - متأخر.

ومن ترك العمل الظاهر فقد ترك ركن الإيمان ومن زعم أن الإيمان يتحقق لأحد بدون العمل الظاهر، وأنه ينجو بمجرد ما يسمونه التصديق القلبى، فضلاله بين. وعلى هذا نص علماء الإسلام وشراح السنة لاسيما فى شرحهم لحديث جبريل، والذى سنورد طرفا من كلامهم فيه ودلاله ذلك على التركيب. " قال إسماعيل بن سعيد: وسألت أحمد عمن - فى الذى قال جبريل للنبى محمد صلى الله عليه وسلم إذ سأله عن الإسلام: فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ فقال: نعم - فقال قائل: وإن لم يفعل الذي قال جبريل للنبى صلى الله عليه وسلم، فهو مسلم أيضا؟ فقال أي الإمام -: هذا معاند للحديث " (1) والإمام أحمد هو - فى أكثر الروايات عنه (2) وأوفقها لأصوله - ممن يرى أن تارك أحد الأركان الأربعة عدا الشهادتين متعمدا كافر. فتكفيره لمن يأت بشيء من العمل الظاهر متيقن، وكذا تارك الأربعة جميعا ووجه استدلاله بهذه الرواية، أن حديث جبريل اشتمل على أركان العمل الظاهر " الإسلام " وأركان الاعتقاد الباطن " الإيمان "، وهو لتأخره قاض على كل ما سبق من أحاديث فيها إطلاق دخول الجنة بمجرد الشهادة، أو نقص فى عدد الأركان ونحو ذلك. وقد صرح فيه بأنه إذا فعل الأركان الظاهرة فهو مسلم، وإذا فعل الأركان الباطنة فهو مؤمن، ومن هذين يتركب الدين وتتكون حقيقته. ومعلوم أنه لو ترك أركان الإيمان كان كافرا اتفاقا، فكذا إذا ترك أركان الإسلام لا يكون مسلما، فمن قال: إنه مسلم مع ترك الأركان الأربعة، التي هى رأس العمل الظاهر، فقد عاند الحديث فى قوله: "فإن فعلت هذا فأنا مسلم؟ قال: نعم". وهذه الأعمال الظاهرة التي سماها إسلاما في حديث جبريل، سماها إيمانا في حديث الشعب، وحديث وفد عبد القيس، فدل هذا على ما هو معلوم بالضرورة، من أن ذكره فى حديث جبريل من الأعمال الظاهرة، ليس المقصود به عمله بلا إيمان باطن، وإلا فهذا حال المنافق، وكذا ما ذكره من الأعمال الباطنة، التي سماها إيمانا،

_ (1) عن الإيمان لشيخ الإسلام، ص 354، وأنظر: الخلال لوحة 100. (2) انظر المصدر السابق نفسه.

ليس المقصود منه أن لا عمل ظاهرا معها، بل هى درجة ومرتبة من الدين فوق مرتبة الإسلام، كما بين ذلك شراح الحديث قاطبة. (1) يقول الإمام الخطابي في قول النبي صلى الله عليه وسلم " الإيمان بضع وسبعون شعبة " في هذا الحديث بيان أن الإيمان الشرعي اسم لمعنى ذي شعب وأجزاء، له أدنى وأعلى، والاسم يتعلق ببعضها كما يتعلق بكلها، والحقيقة تقتضي جميع شعبه، وتستوفى جمله أجزائه، كالصلاة الشرعية، لها شعب وأجزاء، والاسم يتعلق ببعضها، والحقيقة تقتضي جميع أجزائها وتستوفيها (2) . وقال الإمام البغوي في شرح حديث جبريل: " جعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الإسلام اسما لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسما لما بطن من الاعتقاد، وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، والتصديق بالقلب ليس من الإسلام بل ذلك تفصيل لجملة، هي كلها شئ واحد، وجماعها الدين، ولذلك قال "ذلك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم"، والتصديق والعمل يتناولها اسم الإيمان والإسلام جميعا، ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى (إن الدين عند الله الإسلام) ، و (ورضيت لكم الإسلام دينا) ، و (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) ، فأخبر أن الدين الذي رضيه ويقبله من عباده هو الإسلام، ولن يكون الدين في محل القبول والرضا إلا بانضمام التصديق إلى العمل) (3) . ويقول أبو طالب المكي في كلام نفيس له - على طوله - وننقل بعضه: (مثل الإسلام من الإيمان، كمثل الشهادتين، إحداهما من الأخرى في المعنى والحكم، فشهادة الرسول غير شهادة الوحدانية، وهما شيئان في الأعيان، وأحدهما مرتبط بالآخر، فهما كشيء واحد لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له، إذ لا

_ (1) هاهنا تنبيه لابد منه، وهو أننا لم نقصد إيضاح مفهوم كل من لفظى الإسلام والإيمان، والعلاقة بينهما عند الاقتران، أو الانفراد حتى لا يشغلنا عن الأمر الأهم، وهو تركب الدين والإيمان منهما معا لاسيما فى حديث جبريل. انظر: الفتح (1/114- 115) ، وكتاب الصلاة للمروزى، وقوت القلوب لأبى طالب المكى، وقد أطال النقل عنهما شيخ الإسلام فى الإيمان. (2) النووى على مسلم (1/145) . (3) شرح السنة (1/10) .

يخلو المسلم من إيمان به يصح إسلامه، ولا يخلو المؤمن من إسلام به يحقق إيمانه، من حيث اشتراط الله للأعمال الصالحة الإيمان، واشتراط الإيمان للأعمال الصالحة، فقال في تحقيق ذلك: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ) (الأنبياء: 94) (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى) (طه: 75) . فمن كان ظاهره أعمال الإسلام، ولا يرجع إلى عقود الإيمان بالغيب، فهو منافق نفاقا ينقل عن الملة، ومن عنده الإيمان بالغيب ولا يعمل بأحكام الإيمان وشرائع الإسلام، فهو كافر كفرا لا يثبت معه توحيد ... ) . قال: (ومثل الإيمان في الأعمال كمثل القلب في الجسد، لا ينفك أحدهما، شيئان منفردان وهما في الحكم والمعنى منفصلان (1) . ومثلهما أيضا مثل حبة لها ظاهر وباطن، وهى واحدة، ولا يقال حبتان لتفاوت صفتهما، فكذلك أعمال الإسلام من الإسلام (2) هو ظاهر الإيمان وهو من أعمال الجوارح، والإيمان باطن الإسلام، وهو من أعمال القلوب. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (الإسلام علانية، والإيمان في القلب) (3) . وفى لفظ (الإيمان سر) ، فالإسلام أعمال الإيمان، والإيمان عقود الإسلام.فلا إيمان إلا بعمل، ولا عمل إلا بعقد. ومثل ذلك العمل الظاهر والباطن، أحدهما مرتبط بصاحبه من أعمال القلوب وعمل الجوارح، ومثله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات " أي لا عمل إلا بعقد وقصد، لأن (إنما) تحقيق للشيء ونفى لما سواه، فأثبت بذلك عمل الجوارح من المعاملات وعمل القلوب من النيات. فمثل العمل من الإيمان كمثل الشفتين من اللسان، لا يصح الكلام إلا بهما لأن الشفتين تجمع الحروف، واللسان يظهر الكلام، وفى سقوط أحدهما بطلان الكلام،

_ (1) كذا والصواب متفقان. (2) كذا والصواب فالإسلام. (3) سبق تخريجه، وإنه حسن إن شاء الله، ويدل لصحة معناه حديث جبريل نفسه، وحديث (إن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله.. ... ) فصلاح القلب بالإيمان صلى الله عليه وصلاح الجسد بالإسلام الذى هو من الإيمان العام.

وكذلك في سقوط العمل ذهاب الإيمان، ولذلك حين عدد الله نعمه على الإنسان بالكلام، ذكر الشفتين مع اللسان في قول (ألم نجعل له عينين، ولسانا وشفتين) بمعنى ألم نجعله ناظرا متكلما، فعبر عن الكلام باللسان والشفتين، لأنهما مكان له، وذكر الشفتين، لأن الكلام الذي جرت به النعمة لا يتم إلا بهما. ومثل الإيمان والإسلام أيضا، كفسطاط قائم على الأرض، له ظاهر وأطناب، وله عمود في باطنه، فالفسطاط الإسلام له أركان من أعمال العلانية والجوارح، وهى الأطناب التي تمسك أرجاء الفسطاط، والعمود الذي في وسط الفسطاط مثله كالإيمان، لا قوام للفسطاط إلا به، فقد احتاج الفسطاط إليها، إذ لا قوام له ولا قوة إلا بها، كذلك الإسلام في أعمال الجوارح، لا قوم لها إلا بالإيمان، والإيمان من أعمال القلوب، ولا نفع له إلا بالإسلام وهو صالح الأعمال. وقال "وعلى مثل هذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام من صنف واحد (1) ، فقال في حديث ابن عمر: "بنى الإسلام على خمس (2) "، وقال في حديث ابن عباس عن وفد عبد القيس: إنهم سألوا عن الإيمان، فذكر هذه الأوصاف، فدل بذلك على أنه لا إيمان باطن إلا بإسلام ظاهر، ولا إسلام ظاهر علانية إلا بإيمان سر، وأن الإيمان والعمل قرينان، لا ينفع أحدهما بدون صاحبه) . قال: فأما تفرقة النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل بين الإيمان والإسلام، فإن ذلك تفصيل أعمال القلوب وعقودها على ما توجب هذه المعاني التي وصفناها أن تكون عقودا، من (3) تفصيل أعمال الجوارح، مما يوجب الأفعال الظاهرة التي وصفها علانية، لا أن ذلك يفرق بين الإسلام والإيمان في المعنى باختلاف وتضاد، إذ ليس فيه دليل أنهما مختلفان في الحكم. قال: (ويجتمعان في عبد واحد مسلم مؤمن (4) فيكون ما ذكره من عقود القلب وصف قلبه، وما ذكره من العلانية وصف جسمه) .

_ (1) أي أخبر عنهما بأمر واحد وحكم واحد. (2) هو حديث مشهور متفق عليه: البخاري (1/49) ، ومسلم رقم (19) ، وسيأتي ضمن كلام شيخ الإسلام شرح له. (3) حرف الجر هذا متعلق بتفصيل، بمعنى تفريق هذه عن هذه، والعبارة فيها ضعف تأليف. (4) الذي يجتمع والإسلام بإطلاق هو الإيمان العام، الذي بمعنى الدين، لا إيمان الدرجة أو المرتبة المذكور في حديث جبريل.

قال: (وأيضا فإن الأمة مجمعة أن العبد لو آمن بجميع ما ذكره من عقود القلب في حديث جبريل من وصف الإيمان، ولم يعمل بما ذكره من وصف الإسلام، أنه لا يسمى مؤمنا، وأنه إن عمل بجميع ما وصف به الإسلام، ثم لم يعتقد ما وصفه من الإيمان، أنه لا يكون مسلما وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمة لا تجتمع على ضلالة) (1) . ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح حديث جبريل أيضا - بعد أن ذكر اشتماله على مراتب الدين الثلاث: (والنبي صلى الله عليه وسلم فسر الإسلام والإيمان بما أجاب به، كما يجيب عن المحدود بالحد إذا قيل: ما كذا؟ قال: كذا وكذا، كما في الحديث الصحيح لما قيل: ما الغيبة؟ قال: (ذكرك أخاك بما يكره) وفى الحديث الآخر: "الكبر: بطر الحق وغمط الناس ... ". ثم بين أن أجوبته صلى الله عليه وسلم كلها حق وإن تنوعت، وقال ولكن المقصود أن قوله " بني الإسلام على خمس " كقوله "الإسلام هو الخمس (2) ، كما ذكر في حديث جبريل، فإن الأمر مركب من أجزاء تكون الهيئة الاجتماعية فيه مبنية على تلك الأجزاء، مركبة منها، فالإسلام مبني على هذه الأركان. وسنبين إن شاء الله اختصاص هذه الخمس بكونها هي الإسلام، وعليها بني الإسلام، ولم خصت بذلك دون غيرها من الواجبات (3) . وقد فسر الإيمان في حديث وفد عبد القيس بما فسر به الإسلام هنا ولكنه لم يذكر فيه الحج) (4) . وإذا تلمسنا الحكمة من مجيء جبريل عليه السلام وتعليمه للمسلمين مراتب دينهم في مجلس واحد في آخر عمره صلى الله عليه وسلم، فإننا نجد أن هذا التعليم لم يكن إعلاما بأمر مبتدأ جديد ولا بسبب خفاء معنى الإسلام والإيمان عندهم، بل ليتبينوا حقيقة

_ (1) نقلا عن الإيمان لشيخ الإسلام، ص316 - 319 وبعضه في الإحياء، وصحح الزبيدي كثيرا من أخطاء الغزالي فيه، وكأنه يكتبه من حفظه أو يرويه بالمعنى.، تنبيه: المقصود بالإجماع هنا إجماع أهل السنة من لدن الصحابة إلى عصره، انظر: ص319 تعليق شيخ الإسلام. (2) يعنى في حديث ابن عمر المتفق عليه. (3) وقد بين ذلك في ص297، وهى ص314 من ج 7 من مجموع الفتاوى. (4) الإيمان.

المراتب الكاملة بعد نزول الأحكام واكتمال الدين، ومن ثم بنى السلف على ذلك نفى الإسلام والإيمان عمن لم يأت بهذه الأركان أو بعضها. وهذا ما فصله رحمه الله قائلا (وإنما سأل جبريل صلى الله عليه وسلم عن ذلك وهم يسمعون وقال: "هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم" ليبين لهم كمال هذه الأسماء وحقائقها التي ينبغي أن تقصد لئلا يقتصروا على أدنى مسمياتها. وهذا كما في الحديث الصحيح أنه قال: "ليس المسكين هذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس إلحافا" فهم كانوا يعرفون المسكين وأنه المحتاج وكان ذلك مشهورا عندهم فيمن يظهر حاجته بالسؤال، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي يظهر حاجته بالسؤال والناس يعطونه تزول مسكنته بعطاء الناس له والسؤال له بمنزلة كفايته - لم يبق مسكينا، وإنما المسكين المحتاج الذي لا يسأل ولا يعرف فيعطى، فهذا هو الذي يجب أن يقدم في العطاء فإنه مسكين قطعا، وذاك مسكنته تندفع بعطاء من يسأله. وكذلك قوله الإسلام هو الخمس يريد أن هذه كلها واجب داخل في الإسلام، فليس للإنسان أن يكتفي بالإقرار بالشهادتين، وكذلك الإيمان يجب أن يكون على هذا الوجه المفصل لا يكتفي فيه بالإيمان المجمل (1) ، ولهذا وصف الإسلام بهذا. وقد اتفق المسلمون على أنه من لم يأت بالشهادتين فهو كافر وأما الأعمال الأربعة فاختلفوا في تكفير تاركها، ونحن إذا قلنا: أهل السنة متفقون على أنه لا يكفر بالذنب - فإنما نريد به المعاصي كالزنا والشرب، وأما هذه المباني ففي تكفير تاركها نزاع مشهور. ثم ذكر الروايات عن أحمد في ذلك وقال (قال الحكم بن عتيبة: من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر، ومن ترك الزكاة متعمدا فقد كفر، ومن ترك الحج متعمدا فقد كفر، ومن ترك صوم رمضان متعمدا فقد كفر.

_ (1) هو مفصل نسبيا وإلا فحديث جبريل هو في حقيقته مجمل، والمفصل: الإيمان بتفصيل صفات الله تعالى، ومعرفة الأنبياء والإيمان بهم تفصيلا، وكذلك الكتب والرسل، واليوم الآخر، والقدر، ولكن الشيخ يقصد بالمجمل مجرد الإيمان بالله أو بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فى رسالته واتباعه جملة.

وقال سعيد بن جبير: من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر بالله، ومن ترك الزكاة متعمدا فقد كفر بالله، ومن ترك صوم رمضان متعمدا فقد كفر بالله، لا ترفع الصلاة إلا بالزكاة. وقال عبد الله بن مسعود: من أقام الصلاة ولم يأت بالزكاة فلا صلاة له، رواها أسد بن موسى (1) . وقال عبد الله بن عمرو: من شرب الخمر ممسيا أصبح مشركا، ومن شربها مصبحا أمسى مشركا، فقيل لإبراهيم النخعي، كيف ذلك؟ قال: لأنه يترك الصلاة. قال أبو عبد الله الأخنس في كتابه: من شرب المسكر فقد تعرض لترك الصلاة، ومن ترك الصلاة فقد خرج من الإيمان (2) . وبهذا يتبين من الأحاديث وما شرحها به الأئمة أن الإيمان الذي هو قول وعمل هيئة جامعة لأمور، أو حقيقة مركبة من أمور هي الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة معا، ولكل منهما أركان ترجع إلى أصل واحد. فالأعمال الباطنة هي " الإيمان " - الذي يشمل قول القلب وعمله - وقد سميت أصول الأجزاء الباطنة من الدين أركانا، وهذه الأركان ترجع إلى أصل واحد هو الإيمان بالله، فما جاء في القرآن والسنة من ذكر الإيمان بالله فهو هذا الأصل الذي يشمل الأركان الأخرى كالإيمان بالملائكة والكتب والرسل، والأركان تتفرع عنها سائر تفصيلات الاعتقاد (3) . والأعمال الظاهرة هي الإسلام الذي يشمل قول اللسان وعمل الجوارح، وأصول الأجزاء الظاهرة من الإيمان هي أركان الإسلام الخمسة، وهذه الأركان ترجع في الأصل إلى ركن واحد هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والباقي حقوق لها وفروع منها. فكل ما ورد من نصوص في أحكام المسلمين أو أصحاب التوحيد أو أهل القبلة، وما أطلق من تعليق النجاة في الدنيا والآخرة على الإقرار بالشهادتين - فالمقصود به هو هذا، أي من شهد بها قائما بحقوقها فهو المسلم الموحد الذي يعد من أهل

_ (1) هو أسد السنة، ثقة، أول من صنف المسند كما قيل، عاش بين عامى 132 - 212. انظر: سير أعلام النبلاء (10/162) . (2) الإيمان: 286 - 288. وهو فى (7/ 302، 303) من مجموع الفتاوى. (3) وهذا حال اقترانه بالإسلام فإذا انفرد عنه شمله وتضمنه.

القبلة وتجرى عليه أحكامهم وحقوقهم في الدنيا والآخرة، فحديث جبريل قاض على ما سبقه بما فيه من زيادة أركان أو تفصيل إجمال. ومن تبين نصوص الشرع وواقع النفوس تبين له (أن كل قول وعمل لابد له من ظاهر وباطن، فظاهر القول لفظ اللسان، وباطنه ما يقوم من حقائق الإيمان بالجنان، وظاهر العمل حركات الأبدان، وباطنه ما يقوم بالقلب من حقائقه ومقاصد الإنسان (1) . وقد سبق تفصيل ذلك في حقيقة النفس الإنسانية، ومنه نعلم أن "الظاهر لابد له من باطن يحققه ويصدقه ويوافقه، فمن قام بظاهر الدين من غير تصديق بالباطن فهو منافق، ومن ادعى باطنا يخالف ظاهرا فهو كافر منافق، بل باطن الدين يحقق ظاهره ويصدقه ويوافقه، وظاهره يوافق باطنه ويصدقه ويحققه، فكما أن الإنسان لابد له من روح وبدن وهما متفقان فلابد لدين الإنسان من ظاهر وباطن يتفقان، فالباطن للباطن من الإنسان، والظاهر للظاهر منه" (2) . فشهادة أن لا إله إلا الله كلمة ظاهرة باللسان وباطنها الإيمان بالله والإيمان بالله اعتقادا باطن بالقلب، وظاهره شهادة أن إله إلا الله، فلا انفكاك لأحدهما عن الآخر في تحقيق الإيمان أبدا، ثم عنهما تتفرع الأركان ومنها تتشعب الشعب كما سبق. فأبعد الناس عن معرفة دين الإسلام وحقائقه من قال: إن الإيمان يتم والنجاة تحصل بدون شهادة أن لا إله إلا الله، فضلا عن ترك سائر الأركان، وإن هذه الشهادة ما هي إلا علامة على الإيمان، وإن تركها مجرد علامة ظاهرة على عدم الإيمان من جهة إجراء الأحكام الدنيوية، وإلا فقد يكون الإيمان حاصلا في القلب في الواقع ونفس الأمر. فجعلوا أعظم أركان الإسلام - التي هي الجزء الظاهر من الإيمان بالله - بمنزلة شهادة الشهود أو القرائن الظاهرة التي قد يكون الواقع مخالفا لها، حتى إنهم قالوا: إن من سب الله أو قتل الرسول يجوز أن يكون مؤمنا في الباطن ولا يكون

_ (1) مجموع الفتاوى (13/262) . (2) المصدر السابق (13/268) ، ويلاحظ أنه يرد على الصوفية الذين يظهرون أعمال الكفر كترك الفرائض وإطلاق الشطحات الكفرية ويقولون: إن باطنهم معمور بالإيمان.

كافرا قط إلا إذا انتفى العلم الباطني من قلبه. فإذا قيل لهم: قد جاء الكتاب والسنة بتكفير من كان لديه علم وتصديق باطن بدون انقياد بالقلب وإقرار باللسان، قالوا: من ورد فيه النص علمنا انتفاء الإيمان عنه بالنص لا بالنظر والفهم، وما سوى ذلك لا نجزم بكفره وإن أقمنا عليه أحكامه الظاهرة. وهذا الخطأ العظيم كان سببا لما أحدثه المرجئة المعاصرون من أصول أكثر ضلالا وخطأ في بعض الوجوه من متقدميهم، ولا سيما في مسألة التكفير التي ضل فيها أكثر الدعاة بين طرفي الإفراط والتفريط، وكان خوارج عصرنا رد فعل لمرجئتهم، فقد تولد التكفير الغالي في أحضان المرجئة الغالية، عكس ما حصل في القرن الأول من تولد الإرجاء في أحضان الخروج. ولو أن علاقة الظاهر بالباطن وحقيقة كل منهما بالآخر كانت واضحة لدى هؤلاء، لسلموا من هذا التخبط الشديد. فكما أن المرجئة القدامى تصوروا وجود الإيمان في قلب من عاش دهره كله لم يسجد لله سجدة، ولا صام له يوما، ولا أدى من زكاة ماله درهما، ولا عقد النية على حج بيته، بل ربما كان معلنا بسب الله ورسوله مهينا للمصحف عمدا، حتى لو قتلناه على شئ من ذلك قالوا، إن كان مقرا في نفسه فإنه يموت مسلما عاصيا وإذا امتنع عن التوبة يقتل حدا لا كفرا!! كما تصوروا ذلك جاء المرجئة المعاصرون فقالوا: إن من كان لا يحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يقيم من شريعة الله إلا جزءا قد يقل أو يكثر، لا يقيمه لأنه من أمر الله وامتثالا له وإيمانا بدينه، بل لأنه موافق للهوى والمصلحة الذاتية، ومقر ممن يملك حق الإقرار والتشريع سواء كان شخص الزعيم أو الحزب أو المجلس التشريعي، فإنه لا يكفر إلا إذا علمنا أنه في قلبه يفضل شرائع البشر على شريعة أحكم الحاكمين، وما لم نطلع على ذلك فكل أعماله هي على سبيل المعصية، حتى وهو يصدر القوانين تلو القوانين ويترصد للمطالبين بتطبيق الشريعة ويلاحقهم بصنوف الأذى، ويظهر الموالاة الصريحة للكفار، ويلغي ما شرعه الله من الفروق الجلية بين المؤمنين والكفار من الرعية، ويرخص بإقامة أحزاب لا دينية - كل ذلك معاص لا تخرجه من الإسلام ما لم نطلع على ما في قلبه فنعلم أنه يفضل شرعا غير

شرع الله وحكمه على شرع الله وحكمه، أو يصرح بلسانه أنه يقصد الكفر ويعتقده، وأنه مستحل للحكم بغير ما أنزل الله!! فمرجئة عصرنا أكثر غلوا من جهة أنهم لم يحكموا له بشيء من أحكام الكفر لا ظاهرا ولا باطنا، وأولئك لم يخالفوا في إجراء الأحكام الظاهرة عليه، لكن جوزوا إيمانه باطنا فقالوا: لو قتلناه لأنه سب الله ورسوله فهذا السب دليل على كفره، وهو يوجب علينا تكفيره وقتله في أحكام الدنيا لكن إن كان في قلبه مقرا بصدق الرسول فهو مؤمن ناج عند الله، أما هؤلاء فيحكمون بإيمان من ذكرنا مثاله ظاهرا وباطنا ولا يرونه مستوجبا لحد فضلا عن تكفيره، بل يصرحون له بالموالاة والتأييد!! وهذا من أعظم المصائب التي ابتليت بها الدعوة الإسلامية في عصرنا، ومن أشدها مدعاة لإيضاح عقيدة أهل السنة والجماعة وبيانها للعامة والشباب (1) لاسيما معرفة حقيقة الإيمان المركبة من الاعتقاد والامتثال، وتطبيق لوازم ذلك ومقتضياته على الواقع، وهي الحقيقة التي نرجو أن نكون قد أوضحنا الأدلة عليها فيما سبق. وقد أوجزها العلامة ابن القيم في كلمات ميسرة فقال: "الإيمان حقيقة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم علما، والتصديق به عقدا، والإقرار به نطقا، والانقياد له محبة وخضوعا، والعمل به باطنا وظاهرا وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان، وكماله في الحب لله والعطاء لله والمنع لله (2) . وإذ قد بينا حقيقة الإيمان المركبة من جهة دلالة النصوص، فقد بقى أن نكمل ذلك فنبين صحة ذلك وصوابه من جهة البراهين النظرية الواضحة مناقشين لشبه المخالفين فيها، وهذا على قسمين: الأول: بيان فساد مذهب المعتزلة والخوارج والمرجئة بالتفريق بين الحقيقة الواحدة المشتركة التي أدعوها، وبين الحقيقة المركبة التي أوضحناها، وحكم المعصية عند كل بحسب. الثاني: بيان مأخذ السلف البرهاني في قولهم بأن تارك العمل مطلقا لا إيمان له.

_ (1) على أن مما يبشر بالخير أن عقيدة أهل السنة فى الإيمان بدأت تنتشر لدى الشباب والأتباع، ونسأل الله أن يهدى القادة والزعماء. (2) الفوائد، ص107.

وبيان الأول أن نقول: إن حقيقة الإيمان المركبة بالتقريب والتمثيل النظري كبناء أساسه شهادة أن لا إله إلا الله، ثم له أركان هي المباني الأربعة ثم تتفرع منه أجزاء أقلها إماطة الأذى عن الطريق، هذا من جهة الشمول. وهو من جهة قوة التراكيب مثل الملح المركب من الكلور والصوديوم بحيث لو انتفى أحدهما انتفت حقيقته. وأفضل من ذلك أن نشبهه بالشجرة التي لها جذور وجذع وأغصان وورق أخذا من قوله تعالى (ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء) (إبراهيم: 24) . وهو من جهة عدد أجزائه بضع وسبعون كما في الحديث، هذا عند أهل السنة والجماعة. وأما المعتزلة والخوارج من جهة والمرجئة من جهة أخرى، فقد اتفق جميعهم على أن الإيمان حقيقة واحدة مشتركة بين جميع المؤمنين في جميع الأعصار والأحوال، أي هو ماهية معينة إما أن توجد وإما أن تفقد فلا أبعاض له بحيث يذهب بعضه ويبقى بعضه، وهذا ما سبق إيضاحه فيما مضى من مباحث. وعلى هذا قالوا: إن الإيمان لا يكون حقيقة مركبة من أمور أو هيئة جامعة لأمور، لأن زوال جزء من أجزاء الحقيقة المركبة أو الهيئة الجامعة يلزم منه زوال الاسم وانتفاء الماهية، وضربوا لذلك مثالا بالعدد عشرة فقالوا: إن العشرة تتركب من آحاد يكون مجموعها عشرة فإذا نقص منها واحدا انتفى اسم العشرة، وهاهنا تظهر ثمرة الخلاف - أي في صاحب الكبيرة وتارك الواجب أو النفل - بين هاتين وبين أهل السنة. فقالت الخوارج والمعتزلة: يلزمكم على هذا أن تنفوا الإيمان عمن ترك واجبا بل نفلا لأن الإيمان عندكم يشمل هذا كله ويلزمكم أن تحكموا بكفره (كما تقول الخوارج) ، أو تجعلوه في منزلة بين المنزلتين (كما تقول المعتزلة) . وقالت المرجئة: بل العكس هو الصواب، فلما كنتم لا تنفون الإيمان عن صاحب الكبيرة لزمكم ألا تقولوا إن الإيمان حقيقة مركبة، لأن الحقيقة المركبة يلزم

من زوال بعض أجزائها زوال الاسم، ونحن وأنتم متفقون على إثبات اسم الإيمان لصاحب الكبيرة، فلا يكون العمل من الإيمان إذن ولا وجود للحقيقة المركبة، بل الإيمان هو القدر المشترك، أي التصديق القلبي فقط. والجواب عن ذلك: أن قولنا: إن الإيمان حقيقة مركبة من القول والعمل الظاهر والباطن يتفق - ولله الحمد - مع النصوص، ومع الأمثلة العقلية كذلك في حكم العاصي وسائر الأحكام، وهذه الشبهة نقلبها عليكم، فنقول للمعتزلة والخوارج: أنتم جعلتم مرتكب الكبيرة خارجا عن اسم الإيمان مطلقا، فعلى مثالكم يكون من أنقص من العشرة واحدا مثل من لم يأت بشيء منها مطلقا فجعلتم التسعة والصفر سواء، وهذا ما تأباه البدائه والعقول. ونحن نقول: إن الإيمان أبعاض فمن أتى بتسعة أو ثمانية أو أقل فهو ناقص الإيمان ولا نزيل عنه اسم الإيمان مطلقا بسبب ذلك، ولكننا نزيل عنه - كما ورد في النصوص - اسم الإيمان المطلق أي غير المقيد بقيد، فنقول: هو مؤمن ناقص الإيمان كما نقول في هذا المثال: هو لديه عشرة إلا واحدا، وهذا الاستثناء صحيح لغة وشرعا، قال الله تعالى (ألف سنة إلا خمسين عاما") (العنكبوت: 14) أي تسعمائة وخمسون. ونقول للمرجئة: أنتم قد جعلتم من جاء بواحد كمن جاء بالعشرة، حيث قلتم: إن العاصي كامل الإيمان، على أن التشبيه بالعشرة ليس من كل وجه إذ يفرقه أمران: أ- أن الرقم عشرة مجردا تتساوى فيه أفراد العشرة، أما الإيمان فالأول من أفراده وهو شهادة أن لا إله إلا الله، يختلف جدا عن الأخير منها وهو إماطة الأذى عن الطريق، فبزوال الأول يزول اسم الإيمان ولا يزول بالأخير، فتبين أن المثال تقريبي فقط. ب- أن المركبات تختلف، فمنها ما يكون التركيب شرطا في إطلاق الاسم كالملح وكالإيمان بالنسبة لتركبه من القول والعمل معا، ومنها ما لا يكون شرطا وهو أكثر المركبات والهيئات المجتمعة سواء الشرعي منها واللغوي، فالأول كالطاعة والعبادة والخير والصدقة والإحسان والقرآن والحديث ونحو ذلك، فإن

هذه الأسماء تطلق على القليل، وعند وجود البعض وزوال البعض، فالقرآن كله قرآن والسورة منه قرآن، وكذلك مجموع الطاعات إيمان وكل طاعة منه إيمان، ولا يلزم من انتفاء بعض الأجزاء زوال الاسم. واللغوي: مثل البحر والكلام والتراب والجبل والقرية ونحو هذا، فإن الاسم يطلق على البحر كله وعلى الطرف منه والجزء من مائه، ولا يلزم من ذهاب بعضه ألا يطلق الاسم على الباقي. فالإيمان بالنسبة لتركبه من مجموع الطاعات هو كهذا والمثال الأوضح - كما سبق - هو مثال الشجرة: فعلى مذهب المعتزلة والخوارج يكون قطع غصن من الشجرة إزالة لها ولاسمها بالكلية، وهذا واضح البطلان بالعقل والبديهة. وعلى مذهب المرجئة يكون استئصال الجزء الظاهر من الشجرة كله حتى لا يرى منه شئ لا يذهب اسم الشجرة وحقيقتها، لاحتمال أن يكون الجذر موجودا، والاسم عندهم إنما يطلق على الجذر وحده - أعني قولهم: إن اسم الإيمان إنما يطلق على التصديق القلبي وحده. وأما أهل السنة والجماعة فهداهم الله للحق في المنقول والمعقول معا، فإن الشجرة يبقى اسمها شجرة لكن يختلف الإطلاق، فالشجرة يعتريها النقص والقطع، فإذا أريد الشجرة الكاملة الممدوحة - قيل: هذه ليست كذلك بل هي ناقصة مع عدم زوال اسم الشجرة عنها، وإن أريد مطلق شجرة فهي شجرة فعلا، ونعني بذلك أن الإيمان المطلق لا يقال للعاصي - وأما مطلق الإيمان - فيقال له ولا ينفى عنه (1) . وقول المرجئة: إن من أتى بالمكفرات الظاهرة يمكن أن يكون مؤمنا في الباطن، هو كما لو رأى إنسان صخرة ثابتة في الأرض فقيل له: يمكن ان يكون أصلها الذي في الأرض جذر شجرة، وهذا ما لا يصدقه عاقل قط!! وبهذا يظهر فساد شبهة المرجئة وأنهم يعارضون النقل الصحيح والعقل الصريح بما لا حجة فيه، حتى إن إمام الأشعرية في عصره وأحد كبارهم بإطلاق "الفخر الرازي" صعب عليه التوفيق بين ما نقله واعتقده إمامه الشافعي من إجماع السلف على أن الإيمان قول وعمل، وبين شبهتهم هذه عن الحقيقة المركبة، فقال وهو

_ (1) انظر عن الحقيقة المركبة مجموع الفتاوى (7/ 511- 520) وأكثر.

يتحدث في مناقب الإمام الشافعي " قد نقلنا عن الشافعي رضى الله أن الإيمان قول واعتقاد وعمل، وقال المتكلمون: الإيمان ليس إلا التصديق بالقلب واحتجوا عليه بوجوه". وذكر كلامهم المعروف بالاستدلال باللغة وشبهة العطف ثم قال: "واعلم أن قول الشافعي رضى الله عنه لا يمكن جعله من المعايب، فإن الذي ذهب إليه مذهب قوى في الاستدلال والاحتجاج، إلا أن الذي اختاره علماء الأصول من أصحابنا هو هذا القول الثاني. واعلم أن القوم قد يقررون العيب من وجه آخر فيقولون: قد تقرر في بداية العقول أن مسمى الشيء إذا كان مجموع أشياء فعند فوات تلك الأشياء لابد أن يفوت المسمى، فلو كان العمل جزء مسمى الإيمان لكان عند فوات العمل وجب ألا يبقى الإيمان، لكن الشافعي رضى الله عنه يقول: العمل داخل في مسمى الإيمان، ثم يقول: الإيمان باق مع فوات العمل، فكان هذا مناقضة.. " إلى أن يقول: " وللشافعي أن يجيب فيقول: أصلا الإيمان هو الإقرار والاعتقاد، فأما الأعمال فإنها من ثمرات الإيمان وتوابعه، وتوابع الشيء قد يطلق عليها اسم الأصل على سبيل المجاز، وإن كان يبقى الاسم مع فوات تلك التوابع، كما أن أغصان الشجرة قد يقال: إنها من الشجرة، مع أن اسم الشجرة باق بعد فناء الأغصان فكذلك هاهنا. واعلم أن على هذا التقدير يكون اسم الإيمان حقيقة في الإقرار والاعتقاد، ويكون إطلاق اسم الإيمان على الأعمال ليس إلا على سبيل المجاز ولكن فيه ترك لذلك المذهب " (1) . فانظر كيف استشكل القضية، ثم أورد الشبهة، ثم أجاب بما يراه الصواب، ثم أقر بأن الجواب يلزم منه ترك مذهب إمامه الذي هو مذهب السلف قاطبة، ولو أنه تأمل مثاله الذي ذكره "الشجرة"، لذهب عنه الاضطراب.

_ (1) "مناقب الشافعى" الفخر الرازى، ص52 طبعة 1279 هـ. وأشار إليها فى مجموع الفتاوى (7/511) لأن الخطيب المذكور فيها هو الرازى، كان أبوه خطيب الرى، وكان يقال له: ابن الخطيب، وأشار إليها فى الإيمان، ص386: كما أن الرازى ذكرها فى أصول الدين، ص127.

فإن قوله: "إن أغصان الشجرة قد يقال إنها من الشجرة" ظاهر الخطأ من جهة الاحتمال، إذ لا احتمال فيه، بل هي منها على الحقيقة في اللغة والعقل وكلام الشارع كما في الآية السابقة. ويقال له: كيف يصح أن يكون إطلاق الشجرة على الجذع هو الحقيقة، وإطلاقه على الأغصان مجازا، والاسم يطلق على الكل بلا تفريق؟! فهذا التكلف سببه انقداح الشبهة وعزل الأدلة اليقينية من النقل والعقل، وبذلك يظهر صدق مذهب أهل السنة وصحته، وسقوط شبهات المخالفين في مفهوم الحقيقة المركبة. وبعدها نبين الأمر الثاني وهو: والثاني: مأخذ السلف في نفي الإيمان عن تارك جنس العمل من جهة النظر والواقع: ذكرنا فيما مضى نقولا كثيرة عن السلف في أن ترك العمل مناف للإيمان ونكمل هنا بذكر نقلين مهمين عن إمامين عظيمين من أئمة أهل السنة والجماعة: هما الإمام أحمد، وشيخه سفيان بن عيينة، رضى الله عنهما: 1- أما سفيان بن عيينة فقد روى عن الإمام عبد الله ابن الإمام أحمد قال: حدثنا سويد بن سعيد الهروي (1) قال: سألنا سفيان بن عيينة عن الإرجاء فقال: يقولون: الإيمان قول وعمل، والمرجئة أوجبوا الجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله مصرا" بقلبه على ترك الفرائض (2) ، (وجعلوه) (3) ذنبا بمنزلة ركوب المحارم وليسا سواء، لأن ركوب المحارم عن غير استحلال معصية، وترك الفرائض متعمدا من غير جهل ولا عذر هو كفر. وبيان ذلك في أمر آدم وإبليس وعلماء اليهود.

_ (1) هو تلميذ لسفيان روى مسلم عنه عن سفيان. (2) هذا هو المناط الحقيقى لتكفيره لنفس الأمر الشرعى وجحود وجوبه عليه، وهذا الإصرار يعرف يقينا إذا عرضناه على السيف فأبى أن يؤديها، كما سيوضح ذلك شيخ الإسلام عما قليل، وقد أوضحنا ذلك من قبل. (3) زيادة يقتضيها الكلام.

أما آدم فنهاه عن أكل الشجرة وحرمها عليه، فأكل منها متعمدا ليكون ملكا أو يكون من (1) الخالدين، فسمي عاصيا من غير كفر. وأما إبليس فإنه فرض عليه سجدة واحدة فجحدها (2) متعمدا، فسمي كافرا". وأما علماء اليهود فعرفوا نعت النبي صلى الله عليه وسلم وأنه نبي رسول، كما يعرفون أبناءهم، وأقروا باللسان (3) ولم يتبعوا شرائعه، فسماهم كفارا. فركوب المحارم مثل ذنب آدم وغيره من الأنبياء، وتركها (4) على معرفة من غير جحود فهو مثل كفر علماء اليهود (5) . فهذا الكلام الموجز الواضح هو تفصيل لأنواع من الكفر وبيان لمناط تكفير تارك الفرائض. 2- وأما الإمام أحمد فقد روى عنه الخلال رسالته إلى أبي عبد الرحيم الجوزجاني جوابا" لسؤاله عن المرجئة، وفى آخرها يرد عليهم قائلا: إن من يقول: إن الإيمان هو مجرد الإقرار "يلزمه أن يقول هو مؤمن بإقراره، وإن أقر بالزكاة في الجملة ولم يجد (أو يحد) في كل مائتين خمسة - أنه مؤمن. ويلزمه أن يقول: إذا أقر ثم شد الزنار في وسطه، وصلى للصليب، وأتى الكنائس والبيع، وعمل عمل أهل الكتاب كله، إلا أنه في ذلك يقر بالله، فيلزمه أن يكون عنده مؤمنا، وهذه الأشياء من أشنع ما يلزمهم" (6) .

_ (1) هذا التعليل مهم ومراده أن آدم لم يعترض على أمر الله ويرفض الالتزام به، ولكنه انساق وراء الشهوة التي أغراه إبليس بها ونسى ما عهد به ربه إليه، وهذا حال عصاه المؤمنين. (2) هذا مما يبين معنى الجحود فى كلام السلف، فليس المراد به إنكار نفس الأمر وإنكار أن الله شرعه وأوجبه - وهو المعنى الذى حصره فيه متأخرو الفقهاء، فإن إبليس لم يفعل ذلك قط، وقل من يفعله من الملحدين والمرتدين، أى من يقول: إن الله لم يوجب الزكاة أو الصلاة مثلا، وإنما المراد به عدم الانقياد والاستسلام لأمر الله بالاعتراض على أمره وإباء امتثاله والاستكبار عليه، وهذا ما وقع من إبليس بنص القرآن. أما جحود الوجوب أو التحريم فهو ما أشار إليه سفيان بقوله (من غير استحلال) فهما كفران: كفر الاستحلال، وكفر الإباء والاعتراض، وقد يجتمعان وتلازمان، لكن من جهة الاستعمال يطلق الاستحلال غالبا على استباحة المحرمات، والإباء والاستكبار على ترك الواجبات. (3) كما سبق فى قصة الحبرين التي أوردناها فى موضوع علاقة قول لا إله إلا الله بعمل القلب وغيره. (4) فى الأصل: وتركهم. (5) كفر إبليس هو كفر إباء واستكبار كما أسلفنا من جنس من يقول: لن أصلى ولن أزكى، وكفر اليهود كفر حسد وبغى كما فى مواضع من القرآن، فهو من جنس من يقول: إن كان فلان هو الذى يبلغنى أمر الله فلن أطيعه، فإبليس اعترض على الشارع فى نفس أمره، واليهود اعترضوا عليه فى اختيار من يبلغ الأمر، كما قال الحبران - فى القصة المتقدمة: لو كنت من نسل داود لاتبعناك. (6) الخلال، لوحة 109.

فهذا إلزام قوي يعرف به حكم تارك الالتزام بالطاعات، وهو إبطال لمذهب من يقول: إن انتفاء الإيمان الظاهر لا يكون معه عدم الإيمان إلا بانتفاء الإيمان الباطن، فجعلوا ترك جزء الحقيقة الباطن شرطا في انتفاء الحقيقة بترك الجزء الظاهر، مع أن التركيب ينتفي - وتنتفي الحقيقة بانتفائه - إذا ذهب أحد الركنين سواء أكان هذا أم ذاك. وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية المأخذ الواقعي والنظري لأئمة السلف في تكفير تارك الالتزام المصر بقلبه على ألا يعمل الفرائض، وإن كان مقرا" بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم في قرارة نفسه أو مدعيا الإقرار بها بلسانه، وأن من خالف ذلك من الفقهاء فقد دخلت عليه شبهة الإرجاء شعر أم لم يشعر، فقال - مكررا ذلك بمعناه في مواضع أخرى كثيرة. "إنه لا يتصور في العادة أن رجلا يكون مؤمنا بقلبه مقرا" بأن الله أوجب عليه الصلاة، ملتزما لشريعة النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به، يأمره ولي الأمر بالصلاة فيمتنع حتى يقتل، ويكون مع ذلك مؤمنا في الباطل قط، لا يكون إلا كافرا، ولو قال: أنا مقر بوجوبها غير أني لا أفعلها، كان هذا القول مع هذه الحال كذبا منه كما لو أخذ يلقي المصحف في الحش ويقول: أشهد أن ما فيه كلام الله، أو جعل يقتل نبيا من الأنبياء ويقول: أشهد أنه رسول الله، أو نحو ذلك من الأفعال التي تنافي إيمان القلب (1) فإذا قال: أنا مؤمن بقلبي مع هذه الحال كان كاذبا فيما أظهره من القول. فهذا الموضع ينبغي تدبره فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب، وعلم أن من قال من الفقهاء: إنه إذا أقر بالوجوب وامتنع عن الفعل لا يقتل أو يقتل مع إسلامه (2) ، فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية ... " (3) . وقال في أول كلامه: من الممتنع أن يكون الرجل مؤمنا إيمانا ثابتا في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج، ويعيش وهو لا يسجد لله سجدة ولا يصوم من رمضان ولا يؤدى زكاة ولا يحج إلى بيته، فهو ممتنع ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة" (4) .

_ (1) كمن ينحى شريعة الله ويلزم الناس بغيرها ويقول: أنا مؤمن بأنها أفضل الشرائع وأعدلها. (2) أى حدا" لا كفرا". (3) مجموع الفتاوى (7/616) . (4) مجموع الفتاوى (7/611) .

واحترز في آخر كلامه ممن قد يعمل أعمال الإيمان لكن بغير قصد التعبد والإيمان فقال: "قد تبين أن الدين لابد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمنا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم بقلبه ولسانه ولم يؤد واجبا ظاهرا ولا صلاة ولا زكاة ولا صياما ولا غير ذلك من الواجبات، (إلا أن يؤديها) (1) لا لأجل أن الله أوجبها مثل أن يؤدى الأمانة، أو يصدق الحديث، أو يعدل في قسمه وحكمه، من غير إيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم لم يخرج بذلك من الكفر، فإن المشركين وأهل الكتاب يرون وجوب هذه الأمور، فلا يكون الرجل مؤمنا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها أمة محمد صلى الله عليه وسلم ... " (2) . وقد فصل هذا القول في الإيمان كما فصله ابن القيم "في الصلاة" ونحن ننقل كلامه في الإيمان الذي قاله تعقيبا على ما قاله علماء السلف كعطاء ونافع والحميدي والشافعي وأحمد من تكفير تارك جنس العمل - قال "وإنما قال الأئمة بكفر هذا، لأن هذا فرض ما لا يقع، فيمتنع أن يكون الرجل لا يفعل شيئا مم أمر به من الصلاة والزكاة والصيام والحج ويفعل ما يقدر عليه من المحرمات، مثل الصلاة بلا وضوء وإلى غير القبلة ونكاح الأمهات وهو مع ذلك مؤمن في الباطن، بل لا يفعل ذلك إلا لعدم الإيمان الذي في قلبه ... " (3) . ولهذا فرض متأخرو الفقهاء مسألة يمتنع وقوعها، وهو أن الرجل إذا كان مقرا بوجوب الصلاة فدعي إليها وامتنع واستتيب ثلاثا مع تهديده بالقتل، فلم يصل حتى قتل - هل يموت كافرا" أو فاسقا"؟ على قولين. وهذا الفرض باطل فإنه يمتنع في الفطرة أن يكون الرجل يعتقد أن الله فرضها عليه وأنه يعاقبه على تركها، ويصبر على القتل ولا يسجد لله سجدة من غير عذر له في ذلك، هذا لا يفعله بشر قط، بل ولا يضرب أحد ممن يقر بوجوب الصلاة إلا صلى، لا ينتهي الأمر به إلى القتل، وسبب ذلك أن القتل ضرر عظيم لا يصبر عليه الإنسان إلا لأمر عظيم، مثل لزومه لدين يعتقد أنه إن فارقه هلك فيصبر عليه

_ (1) زيادة يقتضيها الكلام. (2) المصدر السابق نفسه، ص621. (3) هنا عرج على مذهب الحنفية وتوسعهم فى التكفير بالألفاظ مع قولهم: إن العمل لا يدخل فى الإيمان.

حتى يقتل، وسواء كان الدين حقا أو باطلا، أما مع اعتقاده أن الفعل يجب عليه باطنا وظاهرا، فلا يكون فعل الصلاة أصعب عليه من احتمال القتل قط. ونظير هذا: لو قيل: إن رجلا من أهل السنة قيل له: ترض عن أبي بكر وعمر فامتنع عن ذلك حتى قتل مع محبته لهما واعتقده فضلهما، ومع عدم الأعذار المانعة من الترضي عنهما، فهذا لا يقع قط. وكذلك لو قيل: إن رجلا يشهد أن محمدا رسول الله باطنا وظاهرا،وقد طلب منه ذلك، وليس هناك رهبة ولا رغبة يمتنع لأجلها، فامتنع منها حتى قتل؛ فهذا يمتنع أن يكون في الباطن يشهد أن محمدا رسول الله. ولهذا كان القول الظاهر من الإيمان الذي لا نجاة للعبد إلا به عند عامة السلف والخلف الأولين والآخرين، إلا الجهمية - جهما ومن وافقه -، فإنه إذا قدر أنه معذور لكونه أخرس، أو لكونه خائفا من قوم إن أظهر الإسلام آذوه، ونحو ذلك، فهذا يمكن ألا يتكلم مع إيمان في قلبه كالمكره على كلمة الكفر، قال الله تعالى: (إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا" فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم) (النحل: 106) . وهذه الآية مما يدل على فساد قول جهم فإنه (1) جعل من تكلم بالكفر من أهل وعيد الكفار، إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان " (2) . ولما رأى المرجئة أن النصوص الشرعية، والآثار السلفية الواردة في تفكير من ترك العمل، أو عمل الكفر غير متسقة فيما ذهبوا إليه من الحكم بإيمان تارك العمل، ونفي وقوع الكفر بالعمل الظاهر مطلقا"، وليس لديهم حيلة أو جواب عنها قالوا: إنها واردة فيمن يستحل ذلك، أو كان جاحدا" للوجوب، وهذا تأويل منقوض بفهم السلف الصالح للنصوص كما سبق عن الإمام أحمد والأوزاعي - رحمهم الله تعالى - وغيرهم، وحصر الكفر في الاستحلال فهم ناقص، ومجانب للصواب، ومخالف لأصول أهل السنة والجماعة من عدة أمور:

_ (1) أى الله تعالى. (2) الإيمان، ص206- 208. وهو فى مجموع الفتاوى (7/218- 220) .

أولا: أن الكفر يكون: أ- بالاعتقاد في القلب كمن اعتقد أن لله ندا" أو شريكا" أو مثيلا" أو إنه لا يعلم كل شئ أو لا يقدر على كل شئ، أو أن الساعة غير آتية وأن الله لا يبعث من في القبور، أو اعتقاد أن القرآن اشتمل على باطل أو أن شيئا" مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم غير حق أو أن شريعة الإسلام لا تصلح لهذا العصر، أو أن الأولياء يتصرفون في الكون أو يستجيبون لمن دعاهم واستغاث بهم. ومن ذلك النفاق الأكبر بكل ألوانه وصوره، وهو باب واسع. ب- ويكون بالقول باللسان كمن سب الله ورسوله ومدح الأصنام وهجا الأنبياء واستهزأ بالدين ودعا إلى الكفر والردة وسخر من بعض أحكام الشرع وصنف في ذلك أو قاله بأي وسيلة. ج- ويكون بالعمل الظاهر كمن يقاتل الأنبياء ويعذب أتباعهم ويهدم المساجد ويحرق المصاحف ويذبح لغير الله ويسجد للأصنام ويتعلم السحر أو يعلمه ويقاتل المؤمنين مع الكافرين أو ينصرهم بالمال والسلاح على المؤمنين، ويكرم المرتدين ويعظمهم ويهين المؤمنين ويحتقرهم ويتحاكم إلى الطاغوت ويذهب إلى الكاهن ويصدقه ونحو ذلك (1) ، وعلى هذا تدل نصوص قطعية من الكتاب والسنة وعليه إجماع المسلمين قبل ظهور البدع وتبعهم كبار فقهاء الملة في أبواب حكم المرتدين من كتبهم (2) - مما يطول نقله إلا من دخلت عليه شبهة الإرجاء أو تناقض فاتبع كلام إمامه في تصانيفه الفقهية وتبع المتكلمين في تصانيفه أو آرائه العقدية. فحصر الكفر في قول القلب وحده ضلال عظيم وخطأ بين إن لم يكن كفرا" صريحا" كما هو حال من صرح به أو التزم لوازمه، ولهذا ونحوه كفر بعض السلف الجهمية ولم يعدوهم من فرق أهل القبلة، ونص شيخ الإسلام على أن من

_ (1) وهذا قسم آخر غير ما يسميه بعض الفقهاء الكفر العملى ويقصدون به الأصغر فقط، فيجب التنبه لهذا لأن الخلط بينهما قد يؤدى إلى الظن بأن كفر العمل كله لا يخرج من الملة وهذا هو حقيقة مذهب المرجئة كما رأيت، ومن ذلك ما وقع للشيخ الألبانى كما فى رسالة "حكم تارك الصلاة"، ص42- 44. (2) انظر تعليق الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب على قول صاحب الإقناع "المرتد الذى يكفر بعد إسلامه نطقا أو شكا أو اعتقادا" أو فعلا"" فى الدرر السنية (8/88) .

جوز أن يكون من تكلم بالتكذيب والجحد وسائر أنواع الكفر من غير إكراه - مؤمنا في الباطن "فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه" (1) . ثانيا: أن الاستحلال كفر برأسه: سواء فعل صاحبه ما أحل من المحرمات أو لم يفعل، ولهذا قال شيخ الإسلام في من سب الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن اعتقاد حل السب كفر سواء اقترن به السب أو لم يقترن" (2) . ولذلك فمن شرع الزنا أو الربا أو شرب الخمر وأصدر لها المراسيم والقوانين التي ترخص بها وتحدد لها الأنظمة في عملها وتعيين المحاكم التي تختص بفض النزاع فيها ورتب حراستها وألزم بمقتضى ذلك فقد كفر، وإن لم يزن مرة واحدة أو يشرب من الخمر قطرة أو يأكل من الربا درهما". ثالثا:أن الكفر أعظم المعاصي بإطلاق: والاستحلال ينقل المعصية التي دون الكفر إلى مرتبة الكفر بإجماع أهل السنة والمرجئة سواء، فإذا ثبت فإلى أي مرتبة ينقل الاستحلال الكفر وليس وراءه مرتبة أخرى بل هو بذاته كفر فدل ذلك على أن موضوعه المعاصي التي هي دون الكفر لا الكفر. فإن اقترن بالكفر كان زيادة فيه كمن يكفر بالعبث ثم يكفر بالله. رابعا: أنه لا يجوز أن يقال: لابد أن يكون المستحيل مكذبا" بالدين حتى يكفر كما لا يجوز أن يقال في المكذب بالدين: أن يكون مستحلا للتكذيب فكذلك المعاند المستكبر والشاك وغيره فتبين أنه لا يصح جعل أحد أنواع الكفر شرطا" في الأنواع الأخرى أو قيدا" فيها (3) . خامسا: أن الاستحلال نفسه يكون بالاعتقاد والقول والعمل: فالاعتقاد واضح، والقول كمن يقول إن الزنا أو الربا أو شرب الخمر حلال، ومن ذلك قصة قدامة بن مظعون ومن معه

_ (1) الصارم المسلول: ص525، وكذلك من جوز أن يكون من عمل الكفر الصريح - كما فى الأمثلة السابقة - مؤمنا فى الباطن. فانظر أى خطر يحيق بمن يقولون: نسألهم قبل أن نكفرهم: أهم مقرون أم جاحدون مستحلون؟! (2) الصارم المسلول: ص526، ضمن كلام نفيس أوصى بقراءته كله. (3) فمن جعل نوعا" من أنواع الكفر شرطا" فى النوع الآخر عامدا" فهو كمن جعل ناقضا" من نواقض الصلاة أو الوضوء لا يبلطهما إلا بشرط وقوع ناقض آخر كمن يشترط لبطلان صلاة من صلى إلى غير القبلة أن يكون تاركا" للنية وإلا فصلاته صحيحة أو من نام حتى أصبح فوضوئه صحيح إلا إذا حدث.

في شرب الخمر (1) ، والعمل كقصة الرجل الذى تزوج امرأة أبيه فأمر النبى صلى الله عليه وسلم بقتله وتخميس ماله، ولم يأمر بسؤاله أأنت مستحل أو مقر؟ . قال ابن القيم - رحمه الله -: "روى الإمام أحمد والنسائى وغيرهما عن البراء رضى الله عنه قال: لقيت خالى أبا بردة ومعه الراية فقال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن أقتله وآخذ ماله. وذكر ابن أبى خيثمة فى تاريخه من حديث معاوية بن قرة عن أبيه عن جده رضى الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى رجل عرس بامرأة أبيه فضرب عنقه وخمس ماله. قال يحيى بن معين: هذا حديث صحيح. وفى سنن ابن ماجه من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من وقع على ذات محرم فاقتلوه. وذكر الجوزجانى: أنه رفع إلى الحجاج رجل اغتصب أخته على نفسها فقال: احبسوه وسلوا من هاهنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوا عبد الله بن مطرف رضى الله عنه فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من تخطى حرم المؤمنين فخطو وسطه بالسيف. وقد نص أحمد فى رواية إسماعيل بن سعيد فى رجل تزوج امرأة أبيه أو بذات محرم فقال: يقتل ويدخل ماله فى بيت المال. وهذا القول هو الصحيح وهو مقتضى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم " (2) . هـ. وقال ابن كثير فى تفسير الآية (ولا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم..) : "فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه فيقتل ويصير ماله فيئا لبيت المال، كما رواها الإمام أحمد وأهل السنن من طريق البراء بن عازب ... " وذكر الحديث!! (3) . وهذا لا علة له إلا الاستحلال بالفعل. سادسا: أن حصر الكفر فى الاستحلال يقتضى أن لا يكفر أحد، يقول أنا غير مستحل وأنا أعتقد أن هذا حرام مهما عمل من المكفرات حتى من سب الله ورسوله

_ (1) انظر مجموع الفتاوى (7/610) . (2) زاد المعاد (3/202) ، ط مصر، وانظر تهذيب الآثار للطبرى (2/144) . (3) تفسير ابن كثير (2/215) ، ط الشعب.

وأهان المصحف ونجس المسجد ونصر الكفار على المؤمنين وشرع الكفر بكل أنواعه، ما دام لم يصرح بالاستحلال أو صرح باعتقاد أن ذلك حرام فى الشرع. بل على هذا لا يكاد يكفر من الناس إلا القليل فإن أبا طالب مات على دينه وهو يعتقد أنه باطل وأن دين محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق، وهرقل أقام على دينه مع اعتقاده أن ذلك حرام عليه ولكن شهوة الملك غلبت داعى الحق، وكذلك أحبار أهل الكتاب الذين اعتقدوا بقلوبهم وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم ولكن لم يتبعوه بل كثير من كفار قريش لم يكونوا يعتقدون صحة عبادة الأصنام وأنها خير من التوحيد وأن الله لم يحرم عبادتها!! وهكذا فأكثر كفر الخلق هو من جهة الإباء والاستكبار وترك الانقياد والاتباع لا من جهة اعتقاد أن الكفر حلال، فإن أكثر المتدينين في العالم يرتكبون المحرمات في دينهم ولا يقولون نعتقد أنها حلال فكيف إذا ارتكبوا الكفر؟ ولا سيما أهل الإسلام الذين يعلمون لأن الخروج من الإسلام أكبر الذنوب بإطلاق فيندر أن تجد مسلما لا يعتقد أن الكفر حرام وأن عاقبته النار. ولنضرب لذلك مثالا لكفر العمل وآخر لكفر القول: أ- مثال كفر العمل: السحر: فإن الله تعالى قد بين حال أهله فقال: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ماله فى الآخرة من خلاق) (البقرة: 102) . فإن الله تعالى حكم عليهم بالكفر وبين أن كفرهم هو تعليم السحر وبين أنهم يعلمون أن ذلك كفر ويقولون للمتعلم إنما نحن فتنة فلا تكفر ويعتقدون أن عاقبة عملهم هذا هى الخسارة الكبرى فى الآخرة فلم يجعل علمهم بأنه كفر وتحذيرهم المتعلم منه واعتقادهم سوء عاقبته مانعا من تكفيرهم.

فهؤلاء لم يكفروا لأنهم كذبوا بالله ورسوله واليوم الآخر ولا لأنهم كذبوا الرسل فى قولهم إن الله حرم السحر، ولا لأنهم اعتقدوا حل السحر أو فضلوه على كتاب الله ولكنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كما فى الآية التي قبلها أى تركوا العمل به واختاروا ما يعلمون ويعتقدون قطعا أنه مفضول بل كفر وخيم العاقبة على ما يعلمون قطعا أنه فاضل بل حق محض، وبهذا حكم الله عليهم بالكفر ونفى عنهم الإيمان والتقوى. قال شيخ الإسلام: فهؤلاء الذين اتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون أنه لا خلاق لهم فى الآخرة ومع هذا فيكفرون (1) . فلو قدرنا أن من يحكمون بالقوانين الوضعية لم يزيدوا على هؤلاء شيئا بل غاية فعلهم أنهم تركوا العمل بكتاب الله واتبعوا ما تقرره شياطين التشريع فى الشرق والغرب وحذروا الناس من التحاكم إلى هذه القوانين وبينوا لهم أنها كفر واعتقدوا أن مصيرهم إلى النار إن فعلوا ذلك لكنهم ظلوا يشرعونها ويحكمون بها؟ فهل يكون حكمهم شيئا سوى الكفر!! فكيف وهؤلاء كما يعلم الناس بالتواتر لا يحذرون من قوانينهم بل ولا يقولون إن أصحابها من أهل النار ولا أن الشريعة أفضل منها - مجرد قول مع أنه غير نافع - بل يفخرون بإصدارها ويجعلون ذلك عيدا أو شبه عيد ويحاربون من دعاهم إلى تحكيم الشرع أيما محاربة ويقولون بأنفسهم أو بأبواقهم إن الشريعة قاصرة عن ملائمة الحياة وأن أحكامها لا تصلح لهذا العصر ويقولون إن تحكيم هذه القوانين يحقق المصلحة الوطنية والخير والتقدم وحسن العاقبة.. الخ ما يتردد على ألسنة الزعماء وأعضاء المجالس التشريعية والصحفيين وسائر وسائل الإعلام!! فكيف يقال مع هذا إن هؤلاء لا يكفرون إلا إذا كذبوا أو جحدوا الوجوب أو استحلوا، أو فضلوا أو ساووا.. ونحو ذلك من العبارات التي تدل على شئ واحد وهو أن يضموا إلى هذا النوع من الكفر نوعا آخر منه.

_ (1) مجموع الفتاوى (7/559) .

ورحم الله الشيخ محمد بن إبراهيم حيث فصل هذه الأنواع وجعل كلا منها كفرا بذاته، كما هو فى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومذهب السلف الصالح أجمعين، ثم أفرد القسم غير المكفر عنها جميعا". وقال أجزل الله مثوبته: (لو قال من حكم القانون: أنا أعتقد أنه باطل، فهذا لا أثر له بل هو عزل للشرع كما لو قال أحد: أنا أعبد الأوثان وأعتقد أنها باطل (1) . ب- ومثال كفر القول: النطق بالكفر من غير إكراه، ودليل ذلك قوله تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ) (النحل: 106، 107) . وذلك من جهتين: إحداهما: أن الله تعالى بين سبب استحقاقهم الوعيد بقوله (ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة) الآية، فهم لم يستحبوا الكفر على الإيمان ولم يكذبوا الرسل فى ذلك، ولم يعتقدوا أن الكفر حلال لكنهم تكلموا بذلك مستحبين الحياة الدنيا على الآخرة. والأخرى: أنه استثنى المكره دالا على أن من تكلم بالكفر من غير إكراه فإن صدره منشرح به، بدون اشتراط أو تقييد. يقول شيخ الإسلام بعد ذكر الآيات: "فقد ذكر الله تعالى من كفر بالله من بعد إيمانه وذكر وعيده فى الآخرة، ثم قال (ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة) وبين تعالى أن الوعيد استحقوه بهذا، ومعلوم أن باب التصديق والتكذيب والعلم والجهل ليس هو من باب الحب والبغض، وهؤلاء (يعنى المرجئة) يقولون إنما استحقوا الوعيد لزوال التصديق والإيمان من قلوبهم ... والله سبحانه وتعالى جعل استحباب الدنيا على الآخرة هو الموجب للخسران، واستحباب الدنيا على الآخرة قد يكون مع العلم والتصديق بأن الكفر يضر في الآخرة وبأنه ما له في الآخرة من خلاق وأيضا فإنه سبحانه استثنى المكره

_ (1) مجموع فتاواه (6/189) ، وانظر كلام العلامة الشيخ سليمان بن سحمان فى معنى الطاغوت، الدرر السنية (8/271) ، فيما بعدها.

من الكفار ولو كان الكفر لا يكون إلا بتكذيب القلب وجهله لم يستثن منهم المكره لأن الإكراه على ذلك ممتنع فعلم أن التكلم بالكفر كفر إلا في حال الإكراه. وختم بقوله: "فمن تكلم بدون الإكراه لم يتكلم إلا وصدره منشرح به" (1) . وقال فى الصارم المسلول عن الآية نفسها: "ومعلوم أنه لم يرد بالكفر هنا اعتقاد القلب فقط لأن ذلك لا يكره الرجل عليه وهو قد استثنى من أكره ولم يرد من قال واعتقد لأنه استثنى المكره وهو لا يكره على العقد والقول وإنما يكره على القول فقط فعلم أنه أراد من تكلم بكلمة الكفر فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم وأنه كافر بذلك إلا من أكره وهو مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا من المكرهين فإنه كافر أيضا، فصار من تكلم بالكفر كافرا إلا من أكره فقال بلسانه كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان. وقال فى المستهزئين (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) (التوبة: 66) ، فبين أنهم كفار بالقول مع أنهم لم يعتقدوا صحته" (2) . سابعا: أن حصر الكفر في "الاستحلال" قد لا يلزم حتى على مذهبهم وذلك لأن كلمة "الاستحلال" لا تدل على اعتقاد حل محرم، إلا بحسب الاصطلاح أما فى اللغة بل وفى كلام الشرع فإن المستحل هو المستمرئ للحرام الذى لا يعبؤ بالتحريم ولا يبالى به كما قال صلى الله عليه وسلم: "يستحلون الحر والحرير" فإذا احتاج المصطلح إلى قيد ليدل على المراد فكذلك يحتاج إلى النصوص الأخرى فهذا اللفظ الذى لا يدل على الكفر بذاته كيف يجعلونه هو وحده مناط الكفر المناقض للإيمان دون ما سواه ويعدلون عما ورد صريحا فى الشك والنفاق والاستكبار والإعراض والتولى ونحوها مما في الكتاب والسنة.

_ (1) مجموع الفتاوى (7/560،561) . (2) الصارم المسلوم، ص524، وانظر أيضا (7/220) .

إذا تبين هذا بقى أن نعلم أن المرجئة - ومن اتبعهم وهو لا يشعر - لما أن حكموا بإيمان تارك العمل ونفوا وقوع الكفر بالعمل الظاهر مطلقا لم يبق لهم غالبا من جواب أو حيلة يدفعون بها احتجاج أهل السنة عليهم بالنصوص الواردة فى تكفير من ترك العمل أو عمل الكفر إلا القول بأن هذه فى المستحل أو الجاحد للوجوب. فجعلوا جنس ترك العمل وارتكاب المكفرات من جنس ترك سائر الفرائض وارتكاب سائر المحرمات وجعلوا الفاعل داخلا تحت المشيئة موعودا بالشفاعة، واستدلوا بما ورد من النصوص عاما مطلقا مثل: "من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة" وحديث الشفاعة (الجهنميين) الآتي بيانه، وضموا إلى ذلك الاستدلال بقول أهل السنة: "ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله" على إطلاقها فاستنتجوا من ذلك كله أن من كفر أحدا - بترك ما تركه كفر أو فعل ما فعله كفر وهو غير مستحل لذلك - خرج عن قاعدة أهل السنة هذه ووقع فى مذهب الخوارج أو بعضه!! وهذا خطأ بين لا يخفى على من اطلع على ما سبق ونزيد هنا فيما يتعلق بهذه العبارة فنقول: 1- الاستحلال عند أهل السنة والجماعة إنما متعلقة الذنوب التي دون الشرك أو الكفر كما سبق، ولذلك يذكرون هذه العبارة فى باب الرد على الخوارج والمعتزلة الذين يكفرون بالكبائر العملية التي هى من جنس المعاصى كالزنا وشرب الخمر كما هو معلوم - ولو كان جنس ارتكاب المكفر من جنس فعل المعصية وكان لابد لكل من ورد فيه إنه كافر أن يقيد بالمستحيل أو الجاحد مطلقا كما يقولون لجاز أن نقول: "الزانى كافر" و"شارب الخمر كافر" بإطلاق، فإذا اعترضوا علينا قلنا إنما نعنى به المستحل أو الجاحد، كما تقولون تارك الصلاة كافر، والحاكم بغير ما أنزل الله كافر، وتعنون المستحل أو الجاحد. والحق أن الإطلاق فى الكل باطل كما وأن التقييد فى الكل باطل، وأن الحق فى اتباع النصوص كما فى الفقرة (4) الآتية: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:"ونحن إذا قلنا أهل السنة متفقون على أنه لا يكفر بالذنوب فإنما نريد به المعاصي كالزنا والشرب وأما هذه المباني

(يعنى الأركان) ففي تكفير تاركها نزاع مشهور" (1) ، وقد سبق إيراد كلام الإمام سفيان بن عيينة فى هذا التفريق. 2- أن العبارة نفسها لا تدل على مرادهم بإطلاق فإن فيها التقيد بكلمة "أهل القبلة" ومعلوم أن من ترك الصلاة التي هى رأس العمل الظاهر بل من كفر بأى مكفر كان لا يسمى عندهم من أهل القبلة. 3- أن العبارة فيها إطلاق تنبه أهل السنة له وإن اشتبه الأمر على بعضهم ولهذا تكلموا فى تقييدها بما يدفع اللبس ويزيل الإشكال مثل أن تصبح "ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بكل ذنب ما لم يستحله" وفى نظرى أن قولنا: ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بعمل دون الكفر ما لم يستحله" أوضح فى المراد - وإن كانت تلك أجود فى العبارة - كما أن هذه تزيل الإشكال الناشئ من كون الذنوب الاعتقادية قد تدخل فى الصيغة الأولى وهى لا يقال: يكفر صاحبها بالاستحلال بل يقال: يكفر بالرد والإنكار، فتأمل (2) . 4- أن أهل السنة والجماعة متبعون لنصوص الشرع فى كل شئ فما جعله الشرع كفرا بإطلاق فهو عندهم كفر بإطلاق - كمن ترك الصلاة أو تعاطى السحر أو حكم بشرع غير ما أنزل الله - وسموا فاعله كافرا بإطلاق وما جعله من جنس المعصية لكن سماه كفراً سموه كفرا كذلك ولم يكفروا فاعله بل جعلوه مرتكبا لعمل من أعمال الكفر وشعبه من شعبه، كقتال المسلم الوارد فى الحديث: " ... وقالته كفر" وحديث: "لا ترجعوا بعدى كفارا" يضرب بعضكم رقاب بعضا" وما جاء فى حديث: "ثنتان فى أمتى هما كفر: الطعن فى النسب، والنياحة على الميت"، وبين هذا وما قبله فوارق من القرائن اللفظية والمعنوية يعلمها علماؤهم (3) .

_ (1) مجموع الفتاوى (7/302) ، وهذا النزاع حسمه فى الإيمان الأوسط كما سبق النقل عنه. (2) وقد فصلنا ذلك فى شرح هذه العبارة ضمن شرحنا لشرح العقيدة الطحاوية نسأل الله أن ييسر إخراجه، انظر شرح الطحاوية، ص434. (3) من ذلك أن الأول جاء فى الكفر بصيغة المعرف بالألف واللام مثل "بين العبد وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة" أو بصيغة الفعل الماضى مثل "فمن تركها فقد كفر"، أما هذا فجاء نكرة مطلقة كما فى الحديث الأول أو مقيدة بما لا يجعلها من جنس الكفر المطلق كما فى الحديث الثانى، وإلا فلو سكت لعلمنا أنه يحذر من الردة عن الإسلام، ونحو ذلك مما يطول تفصيله ويزول الإشكال إذا جمعت النصوص كلها فى الموضوع وقد فصلنا ذلك بحمد الله فى شرح الطحاوية.

ومن نفى عنه الإيمان بفعل - ما هو من جنس المعصية ينفون عنه الإيمان لكن لا يخرجونه من الإسلام وهذا هو معنى قولهم:"نثبت له مطلق الإيمان لا الإيمان المطلق"، وذلك كما ورد فى حديث " لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن ... " الخ ومن ارتكب ذنبا لم يجعله الشرع كفرا بإطلاق فهو مرتكب لكبيرة الذي وقع الخلاف فيه قديما بينهم وبين الخوارج وحكمه عندهم - في الآخرة - أنه إن لم يقم به مانع من موانع إنفاذ الوعيد كالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية (1) ونحوها فهو تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، ولهذا فهم يجزمون بأن بعض أهل الكبائر سيدخلون النار وأن بعضهم لن يدخلها - كما هو مقتضى الجمع بين الأدلة فى هذا المسألة. كل ذلك باتباع مطرد للنصوص وجمع متسق بينها وفق منهج منضبط لا خلل فيه ولا اضطراب. فلو قال قائل من أهل السنة: "ولا نكفر أحداً بذنب ما لم يستحله" وجب حمله على هذه الأصول وفهمه وفق ذلك المنهج. أما الخوارج والمعتزلة فيجزمون بأنه لن يدخل أحد من مرتكبي الكبائر الجنة وينكرون حديث الشفاعة وشبهه. أما المرجئة فيجوزون أنه لا يدخل أحد منهم النار، ولما كان الخوارج والمعتزلة ينبزون أهل السنة والجماعة بالإرجاء وكان المرجئة ينبزونهم بالخروج بينوا الفوارق بينهم وبين كل من الطائفتين ومن ذلك أنهم يكفرون من ارتكب ما هو من جنس المكفرات ولو كانت أعمالا أو تركا للعمل فليسوا إذن مرجئة. ولا يكفرون من ارتكب ما هو من جنس المعاصي ما لم يستحل ذلك فليسوا إذن خوارج. فمن هنا جاءت هذه العبارة، فتوسيع مفهومها أو وضعها في غير موضعها غير مقبول.

_ (1) انظر هذه الموانع فى مجموع الفتاوى (7/487) ، ورسالة الأخ عيسى السعدى "موانع إنفاذ الوعيد".

على أن لهذه العبارة قرينة وضميمة ما كنت لأوردها هنا لولا أن محدث العصر الشيخ الألباني - حفظة الله - استشهد بكلام لقائلها (1) متضمنا الخطأ نفسه في فهم العبارة السابقة، وأقره عليه بل أثنى على كلامه، وإلا فموضعها مبحث الشبهات النقلية لأن بعضهم جعلها حديثا " (2) . وهذه العبارة هي: "لا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه". قال الإمام الطحاوى - رحمه الله - في استدلاله على أن تارك الصلاة لا يكفر: " والدليل على ذلك أنا نأمره أن يصلى ولا نأمر كافرا أن يصلى، ولو كان بما كان منه كافرا لأمرناه بالإسلام فإذا أسلم أمرناه بالصلاة. وفى تركنا لذلك وأمرنا إياه بالصلاة ما قد دل على أنه من أهل الصلاة، ومن ذلك أمر النبى صلى الله عليه وسلم الذي أفطر في رمضان متعمدا بالكفارة التي أمره بها وفيها الصيام ولا يكون الصيام إلا من المسلمين. ولما كان الرجل يكون مسلما إذا أقر بالإسلام قبل أن يأتى بما يوجبه الإسلام من الصلوات الخمس ومن صيام رمضان، كان ذلك ويكون كافرا بجحوده لذلك ولا يكون كافرا إلا من حيث كان مسلما، وإسلامه كان بإقراره بالإسلام فكذلك ردته لا تكون إلا بجحود الإسلام (3) !! وهذا الكلام يستحق ما قاله شيخ الإسلام فى كلام القاضى أبى يعلى المشابه له "زلة منكرة وهفوة عظيمة" (4) . وإنما قاله تبعا لمذهب المرجئة الحنفية الذين يقولون إن الإيمان هو التصديق والإقرار والكفر هو ضد ذلك وهو التكذيب والجحود أى جحود الإقرار كما سبق تفصيل مذهبهم (5) .

_ (1) وهو الإمام أبو جعفر الطحاوى، انظر شرح العقيدة الطحاوية، ص458، والطحاوى - رحمه الله - حنفى وقد ظهر أثر ذلك فى تلبسه بالإرجاء فى عقيدته مثل قوله:"وأهله فى أصله سواء" وقد سبق الحديث عنها، ومثل هذه العبارة. (2) انظر الإحياء وشرحه للزبيدى (5/244) والغزالى نقلها عن صاحب قوت القلوب، واللفظ عنده هو "لا يكفر أحد إلا بجحود ما أقر به". (3) مشكل الآثار (4/228) ، وص48 من رسالة الشيخ. (4) الصارم المسلول، ص515. (5) والشيخ حفظه الله من أشد الناس نفورا وتنفيرا من تقليد الحنفية فى الفروع فكيف وهذه من الأصول؟

ولو وقفنا على ما فى هذا الكلام تفصيلا لطال المقام لكننا نكتفى ببيان الخطأ الأكبر فيه وهو أنه لا يخرج أحد من الإسلام إلا بترك الإقرار لأنه يدخل في الإسلام بالإقرار فكيف يخرج منه بغير ما دخل به فيه؟! ومعنى ذلك أن من لم يجحد الشهادتين لا يكفر مطلقا لا باعتقاد ولا بعمل بل هو من أهل ذلك الركن الذى جحد أو ترك ألا تراه يقول فى تارك الصلاة: "وفى تركنا لذلك وأمرنا إياه بالصلاة ما قد دل على أنه من أهل الصلاة"!! ولازم ذلك وطرده أن يقال: من كفر بالقرآن مع إقراره بالشهادتين فإن دعوتنا إياه للإيمان بالقرآن وتركنا دعوته للشهادتين دليل على أنه من أهل القرآن!! وقل مثل ذلك فيمن كفر بالملائكة أو الجنة أو النار.. وغيرها من أمور الاعتقاد. وفى العمل: يلزم منه أن الصحابة قد أخطئوا أو ضلوا حين سموا تاركي الزكاة كفارا ومرتدين وقاتلوهم على ذلك لأنهم حسب كلامه مسلمون من أهل الزكاة!! وهكذا. وهذا لا يشك فى خطئه بل بطلانه لمن قراءه فضلا عمن تأمله وذلك أن القول بأن من تكلم بالشهادتين لا يكفر إلا بترك الإقرار بهما هو نوع من الإرجاء الغالي المذموم جدا عند السلف والذى لا يفوقه غلوا إلا إرجاء الجهمية أى اشتراط ترك الإقرار القلبى الذى هو التصديق عندهم، وكلاهما معلوم الفساد والبطلان بالاضطرار من الدين، وقد ذكر شيخ الإسلام: إن كل من تأمل كلام هؤلاء المرجئة يعلم بالاضطرار "أنه لو قدر أن قوما" قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: نحن نؤمن بما جئتنا به بقلوبنا من غير شك (أى لم يجحدوا الوجوب) ونقر بألسنتنا بالشهادتين (أى لم يجحدوا الإقرار) إلا أنا لا أطيعك فى شئ مما أمرت به ونهيت عنه فلا نصلى ولا نصوم ولا نحج ونصدق الحديث ولا نؤدى الأمانة ولا نفى بالعهد ولا نصل الرحم ولا نفعل شيئا" من الخير الذى أمرت به (أى نترك جنس العمل) ، ونشرب الخمر وننكح ذوات المحارم بالزنا الظاهر ونقتل من قدرنا عليه من أصحابك وأمتك ونأخذ أموالهم بل نقتلك أيضا ونقاتل مع أعدائك (أى يفعلون جنس المحرم مطلقا) هل كان يتوهم عاقل أن النبى صلى الله عليه وسلم يقول لهم "أنتم مؤمنون كاملو الإيمان وأنتم من أهل شفاعتى يوم القيامة ويرجى لكم أن لا يدخل أحد منكم النار؟

بل كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم: أنتم أكفر الناس بما جئت به ويضرب رقابهم إن لم يتوبوا من ذلك" (1) . فالعجب أن يقول الشيخ الألبانى بعد أن نقل كلام الطحاوى هذا: "قلت وهذا فقه جيد وكلام متين لا مرد له" (2)

_ (1) مجموع الفتاوى (7/287) . (2) حكم تارك الصلاة، ص48، ثم قال الشيخ: "وهو يلتقى تماما مع ما تقدم من كلام الإمام أحمد - رحمه الله - الدال على أنه لا يكفر لمجرد الترك بل بامتناعه عن الصلاة بعد دعائه إليها". ونقول - إنه بقطع النظر عن أن الثابت عن الإمام أحمد هو تكفير التارك وقد نقلناه فى أول هذا الباب: فإن هذا لا يلتقى معه لأن الطحاوى لا يكفر بالامتناع من الصلاة بل بالامتناع من الإقرار، لاحظ قوله: "ولا يكون كافرا" إلا من حيث كان مسلما وإسلامه كان بإقراره بالإسلام فلذلك ردته لا تكون إلا بجحوده الإسلام"، تجد ذلك جليا، وإذ قد خفى على الشيخ حفظه الله فلا عجب أن يخفى عليه أن استدلاله بحديث الكفارة فى الصيام لا وجه له بل هو خارج عن الموضوع لأن موضوع البحث هو ترك الفريضة من صلاة أو صيام وهذا شئ وارتكاب ما يبطلها شئ آخر فهو كما لو أن إنسانا" أحدث أو تلكم فى الصلاة فتأمل. تنبيه: ‍من كفر بترك شئ من الأعمال التي تركها كفر أو جحد شيئا" من الاعتقادات التي يكفر جاحدها فإنه يدعى إلى ذلك العمل أو الاعتقاد ويستتاب من تركه أو جحده ولا نحكم بإسلامه إلا إذا فعل ذلك، فإذا كفر بترك الصلاة فإن إسلامه يكون بأدائها، وإذا كفر بجحد البعث أو الجنة أو النار فإن إسلامه يكون بالإسلام بها، وهكذا. كما فعل الصحابة رضى الله عنهم مع تاركى الزكاة وكما نص كل الفقهاء فى مسألة الممتنع عن شئ من الشراع لظاهرة فإنهم أوجبوا قتاله حتى يلتزم بما امتنع عنه، لا بالشهادتين إذ هو مقر بها من قبل، "قلت: منها قوله صلى الله عليه وسلم فى حديث أنس الطويل فى الشفاعة أيضا" فيقال: "يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل واشفع فأقول: يا رب ائذن لى فيمن قال لا إله إلا الله، فيقول: وعزتى وجلالى وكبريائى وعظمتى لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله" وشرح ذلك فى نهاية المبحث ص23- 34. ولخطورة هذا الأمر وأهميته ولما للشيخ حفظه الله من قبول واتباع عند عامة المعاصرين من أهل السنة ولمواضع أخرى مشابهة فى الرسالة - رأيت أن أقترح على فضيلته ما كتبته فى آخر مبحث حديث الجهميين الآتى وأرجو أن يتقبله بصدر رحب.

الشبهات النقلية والاجتهادية

الشبهات النقلية والاجتهادية يستدل المرجئة - قدماؤهم ومعاصروهم - على أن العمل ليس من الإيمان، وأن تركه بالكلية لا ينفى الإيمان بالكلية، بشبهات نقلية وآراء اجتهادية استنباطية، سبق إيراد بعضها ضمن ما نقلنا من كلامهم. وبالرغم من الرد العام المؤصل على مذهبهم، من خلال بيان علاقة العمل بالإيمان فإن مناقشة هذه الشبهات تفصيلا ضرورية لأسباب منها: 1- بيان أن مذهب السلف محكم لا مطعن فيه ولا ثغرة لناقد، فهو يجمع الأدلة كلها ولا يعارض نصا صحيحاً قط. 2- بيان أن مذهب المرجئة من جهة كونه توفيقياً - كما سبق - يجتزئ من نصوص الإيمان ما يراه موفقاً لأصوله، التي يكون أكثرها مقرراً من غير اعتماد على النصوص فى الأصل، ويلبس بذلك على المناظر مدعياً أنه مذهب أهل الحق والسنة. فإذا ما ناقشنا هذه الأدلة، وأخرجنا منها الباطل المكذوب، ورددنا الصحيح إلى موضعه، من بناء مذهب السلف المحكم المتسق، زالت كل شبهة، وقامت الحجة بإذن الله تعالى. وأصل الشبهات النقلية عند المرجئة، هو وقوع الجهل والخطأ فى الاستدلال بالنصوص، من جهتين: أولا: من جهة الثبوت: افترى وضاعوا المرجئة أحاديث وضعوها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، تؤيد مذهبهم، وقد كشف ذلك علماء الحديث والرجال المتخصصون، وبالجملة فكل حديث ينفى ما سبق نقل الإجماع عليه، من أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص فهو موضوع ولا حاجة للبحث فى سنده (1) . وهذه أمثلة يقاس عليها ما وراءها:

_ (1) ومن أراد التفصيل فليراجع كتب الموضوعات "كتاب الإيمان" من كل منها.

1- الحديث المروى عن أبى سعيد الخدرى قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من زعم أن الإيمان يزيد وينقص فزيادته نفاق ونقصانه كفر، فإن تابوا وإلا فاضربوا أعناقهم بالسيف، أولئك أعداء الرحمن، فارقوا دين الله، وانتحلوا الكفر، وخاضوا فى الله، طهر الله الأرض منهم، ألا ولا صلاة لهم، ألا ولا صوم لهم، ألا ولا زكاة لهم، ألا ولا حج لهم، ألا ولا بر لهم، هم براء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله براء منهم". فهذا الحديث وضعه أحد المرجئة من أصحاب الرأي، يدعى "محمد بن القاسم الطاياكاني"، قال عنه ابن حبان: "يأتى من الأخبار ما تشهد الأمة على بطلانها وعدم الصحة فى ثبوتها" وأورد هذا الحديث مثالا لذلك (1) . 2- الحديث المروى عن أبى هريرة رضى الله عنه " أن وفد ثقيف جاءوا النبى صلى الله عليه وسلم فسألوه عن الإيمان هل يزيد وينقص؟ فقال لا، زيادته كفر ونقصانه شرك" (2) . فهذا الحديث وضعه "الحكم بن عبد الله أبو مطيع البلخي" قال عنه ابن حبان: وكان من رؤساء المرجئة ممن يبغض السنن ومنتحليها وهو من كبار أصحاب الرأى أيضاً، والعجيب أن أحد أصحاب الرأى سرقه من أبى مطيع وادعاه لنفسه وهو المدعو: "عثمان بن عبد الله المغربى الأموى". فقد روى عن حماد بن سلمه عن أبى المهزم عن أبى هريرة قال: قدم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: "يا رسول الله جئناك نسألك عن الإيمان، أيزيد أو ينقص؟ قال: الإيمان مثبت فى القلوب كالجبال الرواسى، وزيادته ونقصانه كفر". قال ابن حبان: (وهذا شئ وضعه أبو مطيع البلخى على حماد بن سلمة، فسرقه هذا الشيخ وحدث عنه" (3) . ومما يدل على أمانة شارح الطحاوية، العلامة على بن على بن محمد بن أبى العز رحمه الله، وتجرده عن الهوى والتعصب، أنه مع كونه حنفيا قد بين بطلان هذا الحديث نقلا عن شيخه المحدث الحافظ ابن كثير، وبين فيه علة

_ (1) كتاب المجروحين، ابن حبان (2/311) . (2) المصدر السابق (1/250) . (3) كتاب المجروحين (2/103) .

أخرى غير أبى المطيع، وهو أبو المهزم الذى قال عنه شعبة: "لو أعطوه فلسين - لحدثهم - سبعين حديثاً " (1) . 3- الحديث المروى عن ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان قول، والعمل شرائعه، لا يزيد ولا ينقص". فهذا الكلام وضعه أحمد بن عبد الله المعروف بالجويبارى، قال عنه ابن حبان: "دجال من الدجاجلة، كذاب ... "، وقال: "شهرته عند أصحاب الحديث قاطبة بالوضع على الثقات ما لم يحدثوا" (2) . وقال الذهبى: "يضرب المثل بكذبه". وقال: "قال ابن عدى: كان يضع الحديث لابن كرام على ما يريد، فكان ابن كرام يخرجها فى كتبه عنه" (3) . وبهذا يتبين اشتراك المنتسبين إلى المرجئة الفقهاء، والمنتسبين إلى الكرامية فى هذه الصفة الشنيعة (4) . ثانياً: من جهة الفهم والاستنباط: بغض النظر عن سوء القصد، واتباع الهوى، اللذين لا يخلو منهما مبتدع، نقول: إن الخطأ يمكن أن يقع فى فهم نصوص الإيمان من المرجئ وغير المرجئ، وذلك لسبب واقع فى مدلولات النصوص نفسها وفى مواردها. وإيضاح ذلك أن الإيمان من حيث هو لفظ شرعى، ورد استعماله فى نصوص الشارع كثيرا جدا لا غرابة فى ذلك. ومع هذه الكثرة تأتى النصوص فى الإيمان مرة مطلقة، ومرة مقيدة، وتطلق مرة على الإيمان الباطن، ومرة على الإيمان الظاهر، ومرة عليهما معا. وتأتي في بيان الأحكام الدنيوية المترتبة على الإيمان من الحقوق والحدود دةن تعرض لحقيقته وعاقبته عند الله تعالى.

_ (1) انظر: شرح العقيدة الطحاوية، ص321 - 322، تحقيق شعيب الأرناؤوط. (2) 1/142) . (3) الميزان (1/106- 107) ، وانظر عن الجويبارى: درء تعارض العقل والنقل (7/92) . (4) ومن الإنصاف أن نقول: إن بعض الوضاعين المنتسبين للسنة قد وضعوا أحاديث فى ذم المرجئة، أو رفعوا إلى النبى صلى الله عليه وسلم بعض ما قاله علماء السلف عنهم، ولكن علماء الحديث بينوا ذلك، كما بينوا الآخر، سواء بسواء فجزاهم الله خيرا" على إنصافهم، وقيامهم بالقسط.

وتأتى أحيانا فى خطاب الوعيد والذم للدلالة على وجوب ترك المذموم، دون أن يكون المراد منها الأحكام التطبيقية ... وهكذا مما هو ظاهر لمن جمع النصوص فى الإيمان من مصادرها الصحيحة. فالإيمان له مبدأ وكمال وله ظاهر وباطن، وله أحكام دنيوية تترتب عليه، وله أحكام أخرى أخروية وكثيرا ما خلط الناس بين هذه الأمور، فجعلوا النصوص الدالة على أصل الإيمان ومبدئه (كالآيات والأحاديث الدالة على أن القلب محل الإيمان، نحو حديث "التقوى هاهنا" فى موضع الإيمان الكامل المطلق، فقالوا: إن عمل الجوارح ليس من الإيمان، كله في القلب فقط. أو جعلوا النصوص الدالة على بعض أحكام الإيمان الدنيوية فى موضع الإيمان من حيث حقيقته الشرعية، (كالنصوص الواردة فى كف اليد عمن أقر بالإسلام، أو أظهر بعض شعائره، وعصمة ماله ودمه بذلك أو الحكم له بالإسلام المقتضى ترتب حكم شرعى عليه، كحديث الجارية التي قال النبى صلى الله عليه وسلم لمولاها: أعتقها فإنها مؤمنة) . أو جعلوا النصوص الواردة فى خطاب الذم والوعيد (كالأحاديث الواردة فى نفى الإيمان عن الزانى والسارق، ومن لا يأمن جاره بوائقه، ومن لا يحب لأخيه مثلما يحب لنفسه وأمثالها) فى خطاب الأحكام التنفيذية كما فعلت الخوارج. أو يقعون فى عكس ذلك، فيجعلون النصوص الواردة فى الأحكام فى موضع الذم والوعيد، كالنصوص الثابتة الصريحة في تكفير تارك الصلاة التي انعقد عليها إجماع الصحابة، لكن المرجئة جعلوها من قبيل الوعيد والتغليظ، فقالوا: إن التارك المصر الذي يعرض على السيف ويستتاب ثلاثة أيام، ثم يقتل ممتنعا عن أدائها - إنه مسلم يقتل حدا (1) . وهكذا مما سبق إيراد كثير منه، فى نصوص المرجئة المنقولة سابقا. فهذا الأصل العظيم، من فطن له واطلع على مذهب السلف، علم يقينا أنه المذهب الحق الذى لا تناقض فيه، ولا تعارض بين نص وآخر، وعلم كثيرا من أسباب وقوع الخلاف بين الناس فى الإيمان، وأنه لا مخلص له ولا لهم من الخطأ والتناقض، إلا باقتفاء أثر السلف الصالح في كل ذلك.

_ (1) ووافقهم على ذلك بعض الفقهاء، دون تفطن لأصل المسألة عند المرجئة.

وهذه أمثلة من النصوص أو الاستنباطات، التي استدل بها المرجئة على أن ترك العمل مطلقا لا ينافى الإيمان، وجواب أهل السنة والجماعة عنها: 1- حديث جارية معاوية بن الحكم السلمى رضى الله عنه، الذى فيه: "كانت لى جارية ترعى غنما قبل أحد والجوانية، فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بنى آدم آسف كما يأسفون، لكنى صككتها صكة (1) . فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك على. قلت: يا رسول الله، أفلا أعتقها؟ قال: ائتنى بها، فأتيته بها، فقال لها: أين الله؟ قالت: فى السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة؟ (2) . ووجه الاستدلال أن النبى صلى الله عليه وسلم شهد لها بالإيمان دون أن يشترط العمل، فالإيمان يثبت بمجرد الإقرار، فهو قول فقط وليس قولا وعملا. والجواب عن ذلك: أن مورد الحديث وموضعه، هو بيان الحكم الدنيوى المترتب على الإيمان وليس بيان حقيقة الإيمان الشرعية، المبينة فى نحو قول الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (3) (الحجرات: 15) . وفرق كبير بين أن يقول النبى صلى الله عليه وسلم عن أحد إنه مؤمن، بمعنى أنه داخل فى أحكام المؤمنين الظاهرة، من المناكحة، والتوارث وحل الذبيحة، والصلاة على

_ (1) أى لطمها على وجهها. (2) صحيح مسلم رقم (537) ، والمسند (5/447) ، والنسائى (2/14) ، وأبو داود رقم (930) ، طبعة الدعاس. (3) وقد جاءت الآية تكملة لإنكار الله تعالى على الأعراب فى دعوى أنهم مؤمنون وقوله (لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) لأنهم أرادوا حقيقة الإيمان فنفاها الله عنهم، وأثبت لهم الإسلام الذى يعنى مطلق الإيمان، لا الإيمان المطلق الحقيقى، والذى تترتب عليه الأحكام الظاهرة، وهو الوجه الصحيح فى الآية.

الجنازة، والأجزاء فى العتق، ونحو ذلك وبين أن يقول عن أحد إنه مؤمن، فى موضع الشهادة له بتحقيق الإيمان، واستكمال صفات المؤمنين، ولهذا أراد النبى صلى الله عليه وسلم سعد بن أبى وقاص حين قال له: "يا رسول الله، مالك عن فلان؟ (1) فوالله إنى لأراه مؤمنا، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: أو مسلما"، ثلاث مرات" (2) . ومن المعلوم أن هذه الجارية ليست معدودة فى السابقين ولا من أفاضل الصحابة المشهود لهم بالإيمان، بل غاية ما دل عليه الحديث أنها مسلمة لا أكثر وهو الحكم الظاهر الذي يستحقه كل من أظهر الإيمان. وقد دلت على هذا المعنى الروايات والأحاديث الأخرى فى هذه الجارية، أو جارية مثلها، فقد جاء الحديث عن أبى هريرة، والشريد بن سويد الثقفي، ورجل من الأنصار مبهم (3) ، وفى كل منها يسأله السائل قائلا إن علي - أو على أمى - عتق رقبة مؤمنة، ويستفتى النبى صلى الله عليه وسلم أهذه الجارية مؤمنة فيعتقها، أم أنها لا تجزئ؟ فيستجوبها النبي صلى الله عليه وسلم ثم يقول: "أعتقها فإنها مؤمنة، أو أعتقها فقط، أى أنها تجزئ فى العتق. ولهذا قال الإمام أحمد رضى الله عنه فى جواب هذا الحديث: ليس كل أحد يقول فيه: فإنها مؤمنة، يقولون: أعتقها. قال: ومالك سمع من هذا الشيخ هلال بن على الدين لا يقول: فإنها مؤمنة، وقد قال بعضهم: فإنها مؤمنة، فهى حين تقر بذلك فحكمها حكم المؤمنة، هذا معناه (4) . وقد علق الشيخ المحدث الألباني على كلام الإمام أحمد هذا، بأن الزيادة صحيحة فلا وجه للتردد فيها (5) ، وهذا صحيح، لكن مراد الإمام أحمد ليس تضعيف الرواية، وإنما هو إثبات خطأ المرجئة في الاستدلال بالحديث من جهتين: أ- أن بعض الروايات ليس فيها القول بأنها مؤمنة، وهى رواية مالك - وهو من هو فى الحفظ والإتقان - وقد حصل بها الجواب كاملا، فالسائل سأل أتجزئ

_ (1) ... أى لماذا لم تعطه كما أعطيت غيره؟ (2) البخارى كتاب الإيمان (1/79) . (3) حديث أبى هريرة فى المسند (2/291) ، وحديث الشريد فى المسند (4/388، 389) ، والنسائى (6/252) وأخرجهما أبو داود فى موضع واحد مع حديث معاوية بن الحكم (3/587- 589) ، وحديث الرجل المبهم فى المسند (3/451) ، وسيأتى نصه. (4) الخلال، لوحة 97. (5) انظر تعليقه على كتاب "الإيمان" لابن تيمية، ص 243.

هذه الجارية فى العتق - المشروط فيه أن تكون الرقبة مؤمنة - فأجابه النبى صلى الله عليه وسلم بعد استجوابها بقوله: أعتقها، أي هي مجزئة، فالموضوع لا علاقة له ببيان حقيقة الإيمان الشرعى أصلا. ب- أن بعض الروايات ورد فيها القول بأنها مؤمنة: ومعنى ذلك أنها لما كانت مقرة بما سألها عنه فهى تأخذ حكم المؤمنين وهو العتق، لأن شرط الحكم يتحقق فيها وهو هذا الإيمان الذى يكفي لإجراء الأحكام الظاهرة على من جاء به، دون أن يعنى ذلك أنه محقق للإيمان الشرعى ظاهرا وباطنا. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا لا حجة فيه، لأن الإيمان الظاهر الذى تجرى عليه الأحكام فى الدنيا، لا يستلزم الإيمان فى الباطن الذى يكون صاحبه من أهل السعادة فى الآخرة، فإن المنافقين الذين قالوا: آمنا بالله وباليوم الآخر، وما هم بمؤمنين، هم فى الظاهر مؤمنون، يصلون مع الناس ويصومون ويحجون ويغزون، والمسلمون يناكحونهم ويوارثونهم، كما كان المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " (1) . وقال:"والله تعالى لما أمر فى الكفارة بعتق رقبة مؤمنة، لم يكن على الناس ألا يعتقوا إلا من يعلمون أن الإيمان فى قلبه، فإن هذا كما لو قيل لهم: اقتلوا إلا من علمتم أن الإيمان فى قلبه، وهم لم يؤمروا أن ينقبوا عن قلوب الناس ولا يشقوا بطونهم، فإذا رأوا رجلا يظهر الإيمان جاز لهم عتقه. وصاحب الجارية لما سأل النبى صلى الله عليه وسلم هل هى مؤمنة؟ إنما أراد الإيمان الظاهر، الذى يفرق بين المسلم والكافر. وكذلك من عليه نذر، لم يلزمه أن يعتق (2) إلا من علم أن الإيمان فى قلبه، فإنه لا يعلم ذلك مطلقا، بل ولا أحد من الخلق يعلم ذلك مطلقا، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق والله يقول له: (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين) (التوبة: 101) .

_ (1) "الإيمان" ص197 - 198. (2) كذا، ولعله: ألا يعتق.

فأولئك إنما كان النبى صلى الله عليه وسلم يحكم فيهم كحكمه فى سائر المؤمنين، ولو حضرت جنازة أحدهم صلى عليها، ولم يكن منهيا" عن الصلاة إلا على من علم نفاقه، وإلا لزم أن ينقب عن قلوب الناس ويعلم سرائرهم، وهذا لا يقدر عليه بشر" (1) . ثم قال: "والمقصود أن النبى صلى الله عليه وسلم إنما أخبر عن تلك الأمة بالإيمان الظاهر، الذى علقت به الأحكام الظاهرة، وإلا فقد ثبت عنه أن سعدا لما شهد لرجل أنه مؤمن قال: "أو مسلم؟ "، وكان يظهر من الإيمان ما تظهره الأمة وزيادة. فيجب أن يفرق بين أحكام المؤمنين الظاهرة، التي يحكم فيها الناس (2) فى الدنيا، وبين حكمهم فى الآخرة بالثواب والعقاب، فالمؤمن المستحق للجنة لابد أن يكون مؤمنا فى الباطن باتفاق جميع أهل القبلة، حتى الكرامية الذين يسمون المنافق مؤمنا ... ولهذا أكثر ما اشترط الفقهاء فى الرقبة التي تجزئ فى الكفارة العمل الظاهر، فتنازعوا هل يجزئ الصغير؟ على قولين معروفين للسلف، هما روايتان عن أحمد: لا يجزى عتقه، لأن الإيمان قول وعمل والصغير لم يؤمن بنفسه، إنما إيمانه تبع لأبويه فى أحكام الدنيا، ولم يشترط أحد أن يعلم أنه مؤمن فى الباطن. وقيل: بل يجزئ عتقه، لأن العتق من الأحكام الظاهرة وهو تبع لأبويه، فكما أنه يرث منهما، ويصلى عليه، ولا يصلى إلا على مؤمن، فإنه يعتق" (3) هذا وقد ذكر الخلال عن الإمام أحمد رواية أخرى فى الجواب عن هذا الحديث هى أنه "قال يوما، وذكر عنده هذا الحديث - يعنى حديث الجارية التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يحتجون به يعني المرجئة - وهو حجة عليهم يقولون: الإيمان قول، والنبى صلى الله عليه وسلم لم يرض منها حتى قال: "تؤمنين بكذا، تؤمنين بكذا" (4) . ولعل هذا الجواب ذكره الإمام عند ذكر الحديث الذى رواه فى المسند عن رجل من الأنصار أنه جاء بأمة سوداء، وقال: "يا رسول الله، إن عليَّ رقبة مؤمنة، فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها؟

_ (1) "الإيمان" ص201- 202. (2) كذا، وصواب العبارة: التي يحكم بها الناس. (3) "الإيمان"، 203 - 204، ومما يدل لذلك أن أبا داود أورد الأحاديث الثلاثة فى كتاب الأيمان والنذور، لا فى كتاب الإيمان من سنته، لأن هذا هو موضعها. (4) لوحة 97.

فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت نعم: قال: أتشهدين أنى رسول الله؟ قالت: نعم، قال: أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟ قالت: نعم، قال أعتقها" (1) . ومعنى قول الإمام: إنه حجة عليهم، أن المرجئة كما هو معلوم تقول إن الإيمان شئ واحد، لا يزيد ولا ينقص، وفى الحديث سألها النبى صلى الله عليه وسلم عن أمور متعددة، فدل على أن الإقرار نفسه يتنوع ويتعدد، فهو متبعض، وكذلك الإيمان كله. وعلى كلام المرجئة، كان يكفى النبى صلى الله عليه وسلم أن يسألها: هل أنت مؤمنة؟ فإذا قالت: نعم، قال: أعتقها، أو نحو ذلك من الأمثلة التي تدل على حصول مجرد الإقرار الذى هو شطر الإيمان عند بعض المرجئة، وشرط عند آخرين، ومجرد علامة عند أكثر المتأخرين - كما سبق تفصيله. لكن لما كان الإيمان له أصل وكمال، وظهر منها ما يدل على أن عندها أصل الإيمان، الذى يكفى مثله للدخول فى الإسلام، ويتحقق به الحكم المسؤول عنه، حكم لها به صلى الله عليه وسلم. فإذا كان هذا القدر من الإيمان يتنوع ويتعدد، فكيف باستكمال حقيقة الإيمان، الذى لم يقع عنه هنا سؤال ولا له جواب فى الحديث، ومعرفته تقتضى أن تمتحن فى جميع شعب الإيمان الواجبة، وأن يكون معلوما أن باطنها فى ذلك كظاهرها، وهذا هو المحال، كما سبق فى كلام شيخ الإسلام. فظهر بذلك أن استدلال المرجئة به على أن حقيقة الإيمان هى مجرد التصديق والإقرار باطل، وأن الحديث حجة عليهم لا لهم. وهذا الحديث وسائر الأحاديث المماثلة دليل على استجواب مجهول الحال، ليعلم أهو داخل فى أحكام الإسلام ويشمله اسم الإيمان أم هو كافر (2) . ومعلوم لدى الفقهاء جميعا - السنى منهم والمرجئ - أن من أتى بمبدأ الإسلام، وهو الإقرار بالشهادتين، فقد أعلن دخوله فى الإسلام والتزامه بأحكامه، وهذا القدر الذى جاء به إنما هو ببعض الواجب عليه، ولهذا لابد له من الإتيان بالإيمان الواجب، أى عمل سائر شعب الإيمان الواجبة وأهمها الأركان الأربعة، ويجبر على ذلك عند الجميع، حتى إنه لو امتنع عن الصلاة مثلا، وأصر فإنه يقتل،

_ (1) المسند (3/451) . (2) انظر كلام الخطابى فى ذلك على سنن أبى داود، المختصر مع تهذيب ابن القيم الحديث رقم (893) .

إما كفرا على مذهب السلف، وإما حدا على مذهب المرجئة، ومن وافقهم من المتأخرين. والسؤال: لو قدرنا أن تلك الجارية لم تلتزم بلوازم ذلك الإقرار، وأصرت على ترك الصلاة - مثلا - فهل كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعها على ذلك الإقرار الأول ويسميها مؤمنة؟ إن هذا هو موضع النزاع فى قضية إثبات الإيمان لتارك العمل، وليس هو الكلام فى الحكم بإسلام من ظهر منه ما يدل على إسلامه. نعم، هذا الحديث ونحوه، يصلح حجة على الخوارج القدماء والمعاصرين، الذين يشترطون للحكم لأحد بالإسلام شروطا خاصة، هى فى حقيقتها شروط لقبول توبة المرتد وإسلامه، لا للحكم بإسلام الكافر الأصلى، فضلا عن الحكم لمن يظهر الإسلام فى دار الإسلام، ولم يظهر منه ناقض لإسلامه، وذلك مبنى على نظرتهم فى أن الأصل فى الناس ابتداء هو الكفر، إلا من علموا هم إسلامه بيقين!! بقى أن يقال: إنه إن كان فى الحديث شبهة للمرجئة الفقهاء، فلا شبهة قط للمرجئة الغلاة من الجهمية والأشعرية والماتريدية، الذين يقولون: إن الإيمان هو مجرد تصديق القلب، وإن المصدق بقلبه ناج عند الله!! بل هو حجة عليهم، فإن مجرد ذلك لا يترتب عليه أى حكم من أحكام الإيمان، لا فى الدنيا ولا فى الآخرة، ولو أن الكرامية استدلت به على مذهبها فى أن الإيمان هو النطق، لكان أقرب منهم، فكيف ونحن متفقون على بطلان مذهب الكرامية فظهر أن مذهبهم أشد بطلانا منه، (لا سيما وأن التصديق فى لغة العرب، إنما يطلق على من قال بلسانه: صدقت، أما مجرد انعقاد القلب على صحة أمر ما دون إظهار ذلك باللسان، فلا يسمى فى لغة العرب تصديقا" (1) .

_ (1) هناك جواب ثالث للإمام أحمد ذكره الخلال لوحة 97، وهو أنه يمكن أن يكون هذا قبل أن تنزل الفرائض، ولا أحسب هذا يصح عن الإمام، فإن الحديث فى المدينة قطعا"، والعتق نفسه هو من الأحكام، فكيف يقال إنه قبل نزولها؟!!

2- حديث الجهنميين (أو حديث الشفاعة) : وهو الحديث الوارد فى شفاعة النبى صلى الله عليه وسلم لأمته، وتحنن الله تعالى عليهم بإخراج من كان فى قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان، وأصرح لفظ استدلت به المرجئة فى إحدى روايات أبى سعيد الخدرى وهى " ... فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما (1) فيلقيهم فى نهر من أفواه الجنة، يقال له: نهر الحياة، فيخرجون كما تخرج الحبة فى حميل السيل ... " (2) . قال: فيخرجون كاللؤلؤ فى رقابهم الخواتم يعرفهم أهل الجنة، هؤلاء عتقاء الله (3) ، الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه" (4) . وهذه إحدى روايات مسلم للحديث، ولم ترد هذه اللفظة عند البخارى على كثرة رواياته له عن أبى سعيد وأنس وأبى هريرة، إلا أن الجملة الأخيرة وهى قول أهل الجنة: "أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ... " الخ، وردت فى إحدى رواياته عن عطاء بن يسار عن أبى سعيد أيضا" (5) . أما الإمام أحمد فقد رواه مختصرا ومطولا عن أبى هريرة وأنس وأبى سعيد وجابر وحذيفة (6) ، ولم ترد هذه اللفظة عنده إلا فى رواية عطاء بن يسار عن أبى سعيد أيضا. ووجه الاستدلال منه: أنه أخرج من النار قوما جاءوا بتصديق مجرد، لا عمل معه، فدل ذلك على أن العمل ليس ركنا فى الإيمان كما يقول أهل السنة والجماعة، إذ الركن لا يحتمل السقوط إلا بإنتفاء الحقيقة، وهؤلاء حقيقة الإيمان ثابتة لهم، بل قال قائل منهم: إن قلبه طافح بالإيمان (7) .

_ (1) أى فحما". (2) حميل السيل: ما يحتمله السيل من الغثاء والطين. (3) أى يقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الله ... كما بينتها روايات البخارى (13/422) . (4) مسلم رقم (302) . (5) البخارى (13/422) . (6) انظر المسند (2/276،534) عن أبى هريرة وأبى سعيد، و (3/56) عن أبى سعيد مختصرا"، (3/144) عن أنس، (3/325) عن جابر، (5/391،402) عن حذيفة مختصرا"، ورواية عطاء المذكور أخيرا" (3/94) . (7) وهو أبو حامد الغزالى وتبعه الزبيدى، شرح الإحياء (5/243) ، وقد قالها فيمن لم ينطق باللسان، أما من نطق وصدق، فقد جعل تكفيره هو مذهب المعتزلة.

والجواب على هذا الاستدلال يمكن من أوجه كثيرة نوجزها بالآتي: أ- إن هذا الحديث من الأدلة على المرجئة فى زيادة الإيمان ونقصانه، وهم يؤولونه ولا يأخذون به فى ذلك فمن التحكم أن يردوا أول الحديث ويستدلوا بآخره، مع أن هذا الذى فى آخره ليس إلا فى رواية واحدة من رواياته. فالمرجئة - كما سبق بيانه - تقول إن الإيمان شئ واحد لا يزيد ولا ينقص، وإن الإنسان يكون كامل الإيمان وإن لم يعمل خيرا" قط، والحديث يرد عليهم فى ذلك أصرح رد: قال الإمام البخارى رحمه الله: "باب تفاضل أهل الإيمان فى الأعمال (1) ". وذكر سنده إلى أبى سعيد رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان فى قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيخرجون منها قد اسودوا، فيلقون فى نهر الحيا - أو: الحياة - شك مالك - فينبتون كما تنبت الحبة فى جانب السيل" (2) . وقال أيضا": "باب زيادة الإيمان ونقصانه ... الخ ". عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفى قلبه وزن شعيرة من خير، يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفى قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفى قلبه وزن ذرة من خير". ثم ذكر أن فى رواية أخرى: "من إيمان "بدل "من خير" (3) . وبهذا أيضا" استدل الإمام أبو بكر بن خزيمة على من يزعمون (أن الناس إنما يتفاضلون فى إيمان الجوارح، الذى هو كسب الأبدان، فإنهم زعموا أنهم متساوون فى إيمان القلب، الذى هو التصديق وإيمان اللسان الذى هو الإقرار) (4) . ب- إن أكثر روايات هذا الحديث ليس فيها هذه الزيادة، بل هى مصرحة بأن الجهميين هم من أهل الصلاة ومن العاملين، فإذا ضممنا هذه الروايات إلى

_ (1) لاحظ هذه الكلمة فلها دلالتها عند البخارى المعروف بدقته فى تراجمه. (2) 1/72) . (3) انظر: (1/103) . (4) التوحيد، ص294.

النصوص الصريحة فى تكفير تارك الصلاة، لم تنهض تلك الزيادة على معارضتها، فوجب أن تفهم كما تفهم الألفاظ المعارضة للأدلة الصحيحة الصريحة، مما هو معلوم في أبواب التعارض والترجيح والجمع. أولا: من جهة الترجيح: أن يقال: إن الروايات التي لم تذكر فيها هذه الزيادة، أرجح من تلك، من حيث كثرتها وموافقتها للأصول القطعية في أنه لن يدخل الجنة إلا مؤمن، وأن الإيمان قول وعمل. فمثلا" رواية أبى هريرة عند البخاري هذا نصها: "حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد، وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار، أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا"، ممن أراد الله أن يرحمه ممن يشهد أن لا إله إلا الله، فيعرفونهم بأثر السجود، تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود، حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود فيخرجون من النار قد امتحشوا (1) ، فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون تحته كما تنبت الحبة فى حميل السيل" (2) فهذه رواية متفق عليها بين الشيخين، وفى رواية البخارى فى الأذان، يشترك سعيد بن المسيب سيد التابعين فى روايتها مع عطاء بن يزيد، ومن الاتفاق الحسن أن التابعى الراوى عن أبى هريرة، وهو عطاء بن يزيد، قال بعد تمام الحديث: "وأبو سعيد الخدرى جالس مع أبى هريرة لا يغير عليه شيئا من حديثه - ورواية مسلم لا يرد عليه من حديثه شيئا - حتى انتهى إلى قوله (آخر الحديث) : هذا لك (3) ومثله معه، قال أبو سعيد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هذا لك وعشرة أمثاله. قال أبو هريرة: حفظت مثله معه ". وفي رواية مسلم والبخاري في التوحيد حتى إذا حدث أبو هريرة أن الله قال لذلك الرجل ومثله معه قال أبو سعيد وعشرة أمثاله معه يا أبا هريرة، قال ابو هريرة ما حفظت إلا قوله لك ذلك ومثله معه.. قال أبو سعيد أشهد أني حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله ذلك لك وعشرة أمثاله.

_ (1) أى صاروا فحما، كما بينته الروايات الأخرى. (2) البخارى (11/445) (كتاب الرقاق) ، (13/420) (التوحيد) ، وكتاب الأذان، ومسلم رقم (299) . (3) الخطاب للرجل الذى هو آخر رجال الجنة دخولا" للجنة.

فهذا ما يرجح هذه الرواية، لاتفاق كلا الصحابيين عليها، وتصريح التابعى بأن أبا سعيد لم يغير، أو لم يرد على أبى هريرة إلا ما ذكر، فلديه زيادة علم ترجح روايته على رواية عطاء بن يسار بن أبى سعيد منفردا، لا سيما وقد شاركه فيها سعيد بن المسيب، كما فى رواية البخارى فى كتاب الأذان. ومما يقويه أن رواية عطاء بن يسار نفسه عند البخارى، لم يرد فيها قوله "لم يعملوا خيرا قط وهذا لفظها: " ... فما أنتم بأشد لى مناشدة فى الحق قد تبين لكم، من المؤمن يومئذ للجبار (1) ، إذا رأوا أنهم قد نجوا، فى إخوانهم يقولون: ربنا إخواننا الذين كانوا يصلون معنا ويصومون معنا، ويعملون معنا، فيقول الله تعالى: "اذهبوا فمن وجدتم فى قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه ويحرم الله صورهم على النار فيأتونهم وبعضهم قد غاب فى النار إلى قدمه، والى أنصاف ساقيه فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون فيقول: اذهبوا فمن وجدتم فى قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا ". "قال أبو سعيد: فإن لم تصدقونى فاقرؤوا: "إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها"، فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون، فيقول الجبار: بقيت شفاعتى، فيقبض قبضة من النار فيخرج أقواما قد امتحشوا، فيلقون فى نهر بأفواه الجنة، يقال له: ماء الحياة، فينبتون فى حافتيه كما تنبت الحبة فى حميل السيل..". ثم يذكر ما سبق من قول أهل الحنة: "هؤلاء عتقاء الرحمن، أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه " (2) . فلم يرد فيه ما يدل على عدم العمل إلا قول أهل الجنة، وهم إنما يقولون حسب ظاهر ما يعملون كما جاء فيه: "فيخرجون من عرفوا". فإن كانت المعرفة بحسب علمهم بهم فى الدنيا، فلا يخفى أن من الناس من لا يعرف المؤمنين أن فيه خيرا وإن كانت بحسب أثر السجود - كما فى الرواية الأخرى - فلا يبعد أن يكون فى بعض المصلين من إساءة الصلاة، والإهمال الشديد فى أدائها، ما لا يحصل له معه علامة ظاهرة للمؤمنين. والله أعلم.

_ (1) أى من مناشدة المؤمنين يومئذ للجبار سبحانه وتعالى يناشدونه إخراج إخوانهم العصاة من النار، (2) البخارى (13/421- 422) .

أما سائر روايات الحديث عن الصحابة الآخرين، وعن أبى سعيد فى غير تلك الرواية، فلا ذكر فيها لنفى العمل، بل هى كما رأينا مصرحة بأنهم من أهل الصلاة. وعليه فإن لم نقل: إن تلك الرواية غير محفوظة، نقول: لابد من توجيهها وتخريجها بما يتفق والأصول والنصوص الأخرى. ومن ذلك: ما قاله الإمام أبو بكر بن خزيمة رحمه الله: قال: "هذه اللفظة: "لم يعملوا خيرا قط، من الجنس الذي تقول العرب بنفى الاسم عن الشيء لنقصه عن الكمال والتمام، فمعنى هذه اللفظة على هذا الأصل لم يعملوا خيرا قط على التمام والكمال، لا على ما أوجب عليه وأمر به". قال: "وقد بينت هذا المعنى فى مواضع من كتبى" (1) . أقول: وهذا التوجيه يشهد له حديث المسيء صلاته، حين قال له النبى صلى الله عليه وسلم، "ارجع فصل فإنك لم تصل" (2) ، فنفى صلاته مع وقوعها، والمراد نفى صحة أدائها وبه استدل أبو عبيد رحمه الله فى مثل هذا (3) . وكذلك حديث قاتل المائة نفس الذى جاء فيه: "أنه لم يعمل خيرا قط (4) ، لأنه توجه تلقاء الأرض الصالحة، فمات قبل أن يصلها، فرأت ملائكة العذاب أنه لم يعمل خيرا قط بعد، إذ لم يزد على أن شرع فى سبيل التوبة، ولهذا حكم الله تعالى بينها وبين ملائكة الرحمة، بقياس الأرض وإلحاقه بأقرب الدارين، ثم قبض هذه وباعد تلك، رحمة منه وإلا كان يهلك. وفى حديث الرجل الذي أوصى أهله أن يحرقوه بعد وفاته خوفا من الله: "قال رجل لم يعمل خيرا قط: إذا مات فحرقوه ... " ... ولمسلم: "قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله: إذا مات فأحرقوه ... " (5) . وقد فسرتها الرواية التي بعدها: " أسرف رجل على نفسه أو أسرف عبد على نفسه ".

_ (1) التوحيد، ص309. (2) البخارى (2/277) . (3) انظر: الإيمان، ص41 فصاعدا". (4) مسلم رقم 2766. (5) البخارى (13/466) ، ومسلم رقم 2756.

ومما يؤيد ذلك أنه قد ورد فى بعض روايات حديث الجهنميين هذا، أن هذا الرجل منهم، حيث ذكرت أنه آخر أهل النار خروجا منها" (1) . ثانيا: من جهة الجمع: وقبل بيان ذلك نقول: إن الجمع مقتضاه صحة الاستدلال، فهل هذا الحديث يصلح لما استدلت به المرجئة بإطلاق، أي دعوى أن الإيمان تصديق مجرد؟ الجواب: أما المرجئة الغلاة، أي القائلون بأن الإيمان محله كله القلب وهو التصديق القلبي دون سائر أعمال القلب والجوارح كما هو مذهب الأشعرية والماتريدية والظاهرة عموما، والقائلين إن من صدق بقلبه نجا عند الله، وإن لم يشهد بلسانه كما نقلنا عن بعضهم فلا حجة لهم فيه بحال، إذ روايات الحديث فضلا عن الأصل القطعى الثابت دالة على أن الجهنميين هم من أهل شهادة أن لا إله إلا الله، فالإجماع قائم على أنه لا يدخل الجنة كافر قط ولا شفاعة له بحال وعلى أن من امتنع عن شهادة أن لا إله إلا الله ليس بمؤمن لا فى أحكام الدنيا ولا فى أحكام الآخرة كما قد سبق نقله. فمن الخطأ البين استدلال أبى حامد الغزالى بقوله فى الحديث: "من كان فى قلبه مثقال ذرة " على أن من قدر على الشهادة فأخرها فمات، فيحتمل أن يكون امتناعه عن النطق بمنزله امتناعه عن الصلاة، فيكون غير مخلد فى النار (2) . فإن مثل هذا الاحتمال لا يعارض فى الإجماع، وقياسه على الممتنع عن الصلاة فاسد من وجوه كثيرة، منها: أن الشهادة أعظم من الصلاة، إذ لا تصح الصلاة ولا غيرها بدونها، ومنها أن الإجماع على تكفير الممتنع عن الصلاة ثابت عن الصحابة. وقد أوردنا رواية أنس التي فيها: "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وفى قلبه وزن شعيرة من خير ... الحديث" فقول لا إله إلا الله - قيد لابد منه -، ولا يصح أن يقال: أن عموم (من لم يعملوا خيرا قط) يشمل هذا.

_ (1) انظر: الفتح (11/313) ، ونسبها لأبى عوانة، وأما حكم الحافظ عليها بالشذوذ فلعله لما بينه ص314 ولا مجال لتفصيل ذلك. (2) نقله عنه فى الفتح (11/430) .

وأما قول بعضهم: "إن المراد بالقول هنا القول النفسي" (1) ، فمن التأويل الفاسد، إذ لا يصح حمل القول على القول النفسى، إلا إذا قيد بذلك، أما إذا أطلق فهو ممتنع عند جميع العقلاء. إذا تبين هذا لم يبق فى هذه الرواية حجة، إلا للمرجئة الفقهاء القائلين: إن الإيمان ركنان- القول والإقرار فقط، ولبعض العلماء الذين يرون أن تارك الصلاة لا يخلد فى النار، فهو إذن ليس بكافر الكفر المخرج من الملة. وعليه ينحصر النزاع فى المسألة مع هؤلاء ويتحرر موضع الخلاف، بأنه رجل شهد شهادة الحق، ولم يعمل خيرا قط، فهل يكون من المؤمنين ويدخل الجنة؟ إن أصول أهل السنة والجماعة تنفى هذا (وإن تردد فيه بعض علمائهم المتأخرين) (2) فإن لم نرد تلك الرواية بإطلاق ونستدل بالإجماع الثابت على تكفير تارك الصلاة، فالجمع بين هذه الرواية وتلك الأصول ممكن، بأن يقال: إن هذه الروايات تدل على حالة غيبية مخصوصة، لا تعارض الأصل الثابت، بل غاية ما في الدليل الصحيح المعارض لأصل كلي، أن يكون مخصصا لعمومة. وهذه الرواية نفسها تدل على ذلك، ألا تراه يقول في لفظ مسلم: "يقولون: ربنا كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويعملون معنا" فيأذن الله لهم أن يخرجوهم حتى إذا انتهوا، وقالوا له تعالى: "ربنا لم نذر فيها خيرا" أي صاحب خير، يأتي علام الغيوب سبحانه فيخرج أقواما من أهل الإيمان لم يكن أحد يعلم عنهم إيمانا" ولا يحكم لهم به، أو لم تكن فيهم علامة السجود التي يعرفهم بها إخوانهم أهل الجنة المؤمنون. ويقول تعالى كما في رواية جابر في المسند: "أنا الآن أخرج بعلمي ورحمتي، قال: فيخرج أضعاف ما أخرجه (3) . فإذا كانت هذه حالة غيبية مخصوصة لا ندركها لا في الدنيا ولا في الآخرة، فنحن نكلها إلى علام الغيوب، ولا نعارض بها ما ندركه ونعلمه من الأدلة البينة على

_ (1) انظر: الفتح (1/104) . (2) كالشوكانى وشيخنا العلامة محمد الأمين الشنقيطى، انظر: نيل الأوطار (1/364- 377) وأضواء البيان (4/322- 348) . وذلك فى حكم تارك الصلاة، لا فى ترك مطلق العمل، وقد سبق بيان عدم تلازمهما عند من لا يرى تكفيره. (3) (3/325) .

قتل الممتنع عن الصلاة كفرا وإجراء أحكام المرتد عليه، فإن هذا مما قام دليله وأمرنا بتنفيذه، ولم نؤمر بشق قلوب الناس ومعرفة ما إذا كان يحتمل أن يكون من الجهنميين أم لا؟ ولو أننا تركنا إقامة الأحكام الظاهرة واعتقاد مدلول الأدلة القطعية، لأجل احتمالات أو حالات خاصة، لما ثبت لنا أصل ولا أقمنا من شرعنا شيئا". وهذه الحالة المخصوصة التي دلت عليها هذه الرواية، لا يصعب علينا تكييفها وتعليلها دون إخلال بالقاعدة والأصل في تركب الإيمان من القول والعمل معا"، وذلك بأن نقول: إن هذا الإيمان المركب أصله في القلب وجزؤه الظاهر على الجوارح، وبحسب قوة الباطن تكون قوة الظاهر، فقد يقع أن يضعف ذلك الأصل حتى ينزل عن أدنى مثقال ذرة، وهو الحد الأدنى للإيمان الذي نصت عليه الأحاديث، أعني الإيمان الذي يعلمه أهل الجنة ويعرفونه. لكن ذلك لا يقتضي نفي ما هو أقل منه بأضعاف كثيرة مما يعلمه الله، وهذا الإيمان الذي يكون على تلك الدرجة من الضعف، لا يحرك صاحبه على عمل خير قط (1) ، وهذا لا يعارض الأصل الكلي الذي سبق تقريره وهو أن إيمان القلب مستلزم لإيمان الجوارح، ويتركب منهما معا حقيقة الإيمان الشرعية، لأن هذه حالة عارضة خفية تشبه حسب المثال السابق - الذي شبهنا فيه تركيب حقيقة الإيمان من القول والعمل، بتركيب الإنسان من الجسد والروح - حالة صاحب الغيبوبة العميقة الذي هو ميت حكما"، وإن كان فيه ذلك القدر الضئيل جدا" من الحياة، الذي لا يشعر به الناس. فلا أحد يقول بإخضاع أحكام الأحياء الأصحاء لحكم مثل هذه الحالة الشاذة، أو يعارض بها السنن الثابتة المعلومة في الحياة والأحياء. ونخلص من هذا إلى أنه مع حفظ عموم دلالة الأصول الكلية، توجد حالات خاصة يكون فيها تارك جنس العمل أو تارك الصلاة غير مخلد في النار، وقد لا يدخلها أصلا. وإذا نظرنا إلى أحوال المنتسبين للإسلام لوجدنا أمثلة لمن يمكن أن تنطبق عليهم هذه الحالات الخاصة مثل:

_ (1) إلا أنه يشهد أن لا إله إلا الله كم سبق بينا سابقا".

أ- سكان الأطراف البعيدة والجزر النائية، ممن لم يصلهم من الإسلام إلا اسمه، وينتشر فيهم الشرك والجهل بالدين، فهم غافلون عنه أو معرضون عمن تعلمه، ولا يعرفون من أحكامه شيئا، فهؤلاء لا شك أن فيهم المعذور، وفيهم المؤاخذ. والمؤاخذون درجات، فقد يخرج بعضهم عن حكم الإسلام بمرة، وقد يكون ممن لا يخلد في النار ... وهكذا مما لا يعلم حقيقته إلا علام الغيوب. ب- بعض شرار الناس آخر الزمان، حين يفشوا الجهل، ويندرس الدين، وعلى هذا جاء حديث حذيفة مرفوعا يدرس الإسلام - كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يدرى ما صيام ولا صدقة ولا نسك، ويسري على كتاب الله في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، ويبقى طوائف من الناس: الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله، فنحن نقولها". قال صلة بن زفر لحذيفة: فم تغني عنهم لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صيام ولا صدقة ولا نسك؟ فأعرض عنه حذيفة، فرددها عليه ثلاثا، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: يا صلة تنجيهم من النار (1) .

_ (1) رواه الحاكم (4/473) وقال: صحيح على شرط مسلم. وسكت عنه الذهبى، وصححه. زاد العلامة الألبانى فى سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 87 (1/127) لكنه زاد فيه: "ولا صلاة" فى قوله: "وهم لا يدرون ما صيام ولا صدقة ولا نسك" وهى ليست فى المستدرك، وأما استدلال الشيخ به على عدم تكفير تارك الصلاة فيرده ما أوضحنا أعلاه. تنبيه:وردت زيادة "ولا صلاة" عند ابن ماجه فى أول الحديث، لكن ليس عنده سؤال صلة الذى هو موضع الشاهد. أما رسالة "حكم تارك الصلاة" المنسوبة للشيخ الألبانى - حفظه الله - فيتبين من أول هذه الرسالة أن الشيخ لم يقصد التأليف المستقل فى المسألة، ولم يستقص القول فيها من جميع أطرافه فهى فى الأصل تعليق على حديث استعجله فى إخراجه بعض إخوانه، ولذلك فإننى اقترح على فضيلته - أمد الله فى عمره - أن يعيد النظر فى المسألة، وأن يكتب فيها بإسهاب وتفصيل، مع مراعاة بعض الأصول اللازمة للكتابة فى مثل هذه المسألة الخطيرة ومنها: أولا: الرجوع لكتب العقيدة السلفية والشيخ من أعلم الناس بها مطبوعة أو مخطوطة وأخذ عقيدة أهل السنة والجماعة منها لا من مجرد كتب الخلاف والفقه وشروح كتب السنة فهذه ليست مصادر أصلية للعقيدة لا فى موضوع الصفات ولا الإيمان ولا غيرها، فإن رجع الباحث إلى هذه فمع الحذر والتوقى مما تسرب إليها من كلام أهل الكلام المذموم التي لم يرد بها نص من كتاب ولا سنة ولا قول أحد من السلف مثل "الأعمال شرط كمال" وعبارة "وإن تركها كسلا يقتل حدا" وعبارة "لا يكفر إلا بجحود ما أقر به" وعبارة "يكفر ظاهرا لا باطنا" الخ. ثانيا: الرجوع لكتب الفرق أو أقوال الفرق كما كتب فيها أهل السنة والجماعة ليعرف الفرق جليا بين مذهبهم ومذهب الخوارج والمعتزلة فى باب الإيمان والأسماء والأحكام، ليغرف حقيقة الإرجاء فلا يقع فى بعض أصوله وهو لا يشعر وليتأكد أن الكفر يكون بالعمل كما يكون بالاعتقاد ويكون بالإباء وترك الانقياد كما يكون بترك الإقرار. =

....................................................................................................................

_ = بل من تدبر كتاب الله فى هذه المسألة كفاه، فقد ورد فيه التكفير بالإباء وترك الانقياد وهو كفر إبليس وفرعون وأكثر الأمم وورد فيه التكفير بالاعتقاد وهو كفر المنافقين وورد فيه التكفير بالعمل مع إقرار مرتكبه أنه كفر كتكفير معلمى السحر ومتعاطيه، والتكفير بالأقوال كتكفير المستهزئين بالقراء من المنافقين، وتكفير من قال الكفر من غير إكراه، وتكفير من غيروا حكم الله إلى الجلد والتحميم مع إقرارهم حكم الله، وتكفير من أرادوا التحاكم إلى الطاغوت مع إقرارهم أن حكم الرسول صلى الله عليه وسلم افضل لكنه لا يأخذ الرشوة، كما جاء فيه التكفير بالشك والتكفير بالإعراض والتولى. ثالثا: جمع النصوص المتعلقة بالموضوع وإرجاع المتشابه منها (كحديث الشفاعة) إلى المحكم والظني الدلالة إلى القطعي والاستنارة بأقوال السلف فى ذلك لا أن يعمد الباحث إلى نص واحد يحتمل أكثر من وجه فيجعله عماد بحثه ويبني عليه رأيه ويؤول كل ما خالفه. رابعا: فنبذ طريقة الخلف فى تأويل النصوص الصريحة عن ظاهرها والاعتراض عليها بلوازم متوهمة أو باطلة وإن أشكل ذلك فليراجع جواب علماء السنة عن هذه اللوازم، فإن تأويل ما جاء من النصوص فى هذه المسألة وهو من جنس التأويلات المعطلة والمفوضة كما أن تأويل إجماع الصحابة (على حكم تارك الصلاة) وقد صححه الشيخ فى أكثر من كتاب وتسويغ مخالفته يفتح بابا لنسخ كل أصول العقيدة المتلقاة عنهم المستندة إلى إجماعهم. خامسا: الموازنة بين ما ذكره فضيلته من الاحتراز من التكفير وبين ضرورة تحذير الأمة من الوقوع فى المكفرات فلأن يخطئ أحد فيتجنب ما هو معصية ظنا منه أنه كفر خير من أن يخطئ فيرتكب الكفر ظنا منه أنه مجرد معصية. سادسا: فهم العلاقة التلازمية بين الظاهر والباطن، والعلاقة التركيبية بين القول والعمل من حيث هي وبيانها للقارئ مع تبيين أنه لا يلزم من إجراء أحكام الإسلام ظاهرا ثبوت الإيمان باطنا. سابعا: التفريق بين "السلفية" و"الظاهرية" فى الفهم والاستنباط والاستدلال، وإثبات أن السلفية تجمع بين الضبط والدقة والإحكام من جهة وبين الرحابة والسعة والتنوع فى الرأي من جهة أخرى، وإثبات أن الاعتبار فيها بالحق لا بالرجال. وهنا أتحدث بنعمة الله وأقول: إننى قد جمعت بفضل الله فى مسألة الإيمان وترك العمل ما لا يحصى من النصوص والآثار السلفية فما وجدت قط أي تعارض بينها، وإنما يقع التعارض فى نظر الباحث وبفعله كما لو وضع نصوص الحكم الظاهر فى الحكم الباطن أو العكس (انظر ما سبق فى حديث الجارية) أو عارض الأحكام العامة القطعية بما ورد فى حالات مخصوصة (كما تقدم فى حديث حذيفة وحديث الجهميين) ونحو ذلك. ثامنا: التزام قاعدة مطردة فى تقوية الحديث بشواهده أو تضعيفه مهما تعددت طرقه، فمثلا إذا كانت رواية: "فمن تركها خرج من الملة" لا تتقوى برواية "فمن تركها فقد كفر" بل نضعف الأولى ونؤول الأخرى فما هو التحكم إذن؟ ولا سيما إذا اقترن بذلك تلفيق المتون وفق رأي الباحث مثل إدخال لفظة (فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه) دون لفظة "فيقول أهل النار: ما أغنى عنكم أنكم كنتم تعبدون الله عز وجل ولا تشركون به شيئا" ص 33 التي هي نص موافق لكل النصوص القطعية فى أنه لا يخرج من النار إلا من عبد الله ولم يشرك به شيئا" وتارك الصلاة" ما عبد الله بل هو مشرك بنص الحديث "بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة" وهذا يدعو إلى إعادة النظر فى قضية التلفيق والتركيب من أصلها، فأحيانا يكون نص الحديث متفقا عليه فيدخل الباحث فيه لفظا من خارج الصحيحين بغير دلالته مع أن بعض العلماء ينازع فى ثبوته. تاسعا: الاحتراز من ذم التقليد بإطلاق لأسباب منها أن ذلك يشمل أيضا من يشتغل بعلم الرجال فى هذا العصر، إذ لا مصدر لهم سوى محض التقليد وهو حجة لمن يرى أن الاستقلال بالتصحيح والتضعيف غير ممكن فى الأعصار المتأخرة ... وهنا ننبه إلى أنه لا ينبغي الظن بأن المخالف إنما خالف لكونه حنبليا مثلا. عاشرا: تحرير المصطلحات السلفية بل والألفاظ الشرعية من قيود واستعمالات أهل الكلام وأشباههم من ذلك ألفاظ (الإقرار، التصديق، الجحود، الاستحلال، كفر العمل) ونحوها مما له معنى عند السلف وآخر عند المتكلمين ومن اتبعهم. دراسة مدى حاجة الناس إلى بعض أنواع من العلم قد يكون تأخيرها أفضل أتقديم غيرها أوجب كإظهار أن تارك الصلاة لا يكفر فى زمن تكاسل الناس فيه عن الطاعة وفرحوا بزلة العالم وشذوذ المفتى ومثل ذلك مسالة (كفر دون كفر) ونحوها مما يدخل فى فقه الدعوة ومراعاة فائدة العلم وأثره وهو باب واسع، وقد راعاه الشيخ فى قوله: إن الحكم قد خرج من أيدى العلماء.. الخ ص62 وهذا أولى والله أعلم. =

....................................................................................................................

_ = التثبت فى نسبة الأقوال إلى الأئمة بالرجوع إلى المصادر الأصلية مثل أخذ كلام الإمام أحمد من كتاب الإيمان له ونحوه لا من كتب المذاهب والخلاف. حادى عشر: مراعاة بعض الأمور فى الأسلوب وهى أقل شأنا مما سبق لكن لا ينبغى إغفالها مثل: أ- التقليل ما أمكن من عبارة القطع والجزم والتوكيد فهذا مما ينبغى لصاحب الرأي الراجح فكيف بالمرجوح بل الخطأ، ويؤسفنى أن أقول: إن الرسالة وهى تتكون بعد حذف المقدمة من عشرين صفحة قد وردت فيها هذه العبارات فى ثمانية عشر موضعا ب- تجنب وصف المخالفين ببعض العبارات مثل: الجهل، التعصب، التقليد، الجمود، لا سيما وأن المخالفين فى هذه المسألة إن لم نقل إنهم الصحابة والتابعون فهم من اتبعهم وسار على طرقهم ولعمر الحق ما على متبعهم من حرج. ج- الاحتراز من العبارات المشعرة بتميز الباحث وسبقه إلى ما لم يصل إليه غيره أو أن ما انتهى إليه لا يوجد عند غيره فربما سبقه غيره إلى ما قال صوابا وربما كان التفرد دليلا على الشذوذ. د- التجرد للحق ومحبة ظهوره على يد من كان وإن خالف رأى الباحث فلا يفرح بكتاب جمعه باحث معاصر يوافقه فى الرأى بل يفرح بمن يدله على حقيقة عقيدة السلف وأقوالهم فى هذا، وخاصة إذا كان مثل الشيخ الذى رفعه الله باتباع السلف ونصرة مذهبهم لا بانتصار المعاصرين. وأخيرا أنصح شيخنا الفاضل أن يشرف على كتبه بنفسه ما استطاع أو يكل تهيئه نشرها إلى أكثر من واحد ثم يراجعها قبل النشر فقد يحصل نتيجة ترك ذلك ما لا يرضاه الشيخ، ومن ذلك هذه الرسالة وأنا هنا لن أورد أمثلة لكل ما سبق بل يكفى الإجمال إلا أن يشاء الشيخ التفصيل فأرسله له وأنا واثق من تقبله وسعه صدره بإذن الله - لكننى سأذكر مثالا" لهذه الأخيرة لأن تلاميذ الشيخ قد كثروا فى هذه الأيام وأفهامهم تتفاوت وهو شيخنا جميعا وأولانا به من فهم كلامه وأفاد من علمه وأحب الحق أكثر من حبه له. فالشيخ حفظه الله يقرر فى هذه الرسالة أن تارك الصلاة المصر على تركها حتى يقتل هو الذى يحكم بكفره وعليه تحمل أدلة المكفرين وأن ما عداه هو من أهل الوعيد ويرى أن ذلك تجتمع به أدلة العلماء المختلفين فى هذه المسألة ويلتقون على كلمة سواء، ويعلل ذلك بأن اختياره القتل على فعل الصلاة دليل على أنه كافر كفرا اعتقاديا لا عمليا، والكفر الاعتقادى هو المخرج من الملة عنده لا العملى، هذه خلاصة كلامه. فالشيخ وإن وافق المرجئة فى حصر الكفر فى الاعتقاد قد خالفهم فى زعمهم أن المصر على ترك الصلاة حتى يقتل يجوز أن يكون مؤمنا" فى الباطن وتجرى عليه أحكام الإسلام الظاهرة فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويقبر فى مقابر المسلمين ويرث ويورث ... ذلك الزعم الذى أنكره شيخ الإسلام وجعله من المحال ووافقه الشيخ، فإن إصراره هذا دليل حال يغنى عن المقال بأنه غير معتقد لوجوبها ولا مقر بفرضيتها وعليه فلا يجوز الاختلاف فى تكفيره ولا يجوز إجراء شئ من أحكام الإسلام عليه. وإليك نصوص من كلام الشيخ فى الرسالة: قال ص43: "قلت: وعلى مثل هذا المصر على الترك والامتناع عن الصلاة مع تهديد الحاكم له بالقتل يجب أن تحمل كل أدلة الفريق المكفر للتارك للصلاة". وقال: "قلت: فهذا نص من الإمام أحمد بأنه لم يكفر بمجرد تركه للصلاة وإنما بامتناعه عن الصلاة مع علمه بأنه يقتل إن لم يصل، فالسبب هو إيثاره القتل على الصلاة، فهو الذى دل على أن كفره كفر اعتقادى" ص47. وقال: "فإن تكفير المسلم الموحد بعمل يصدر منه غير جائز حتى يتبين منه أنه جاحد ولو لبعض ما شرع الله كالذى يدعى إلى الصلاة وإلا قتل" ص61. ... ... وقال: "فإن قتل التارك للصلاة بعد دعوته إليها إنما كان لحكمة ظاهرة ولعله يتوب إذا كان مؤمنا" بها فإذا آثر القتل عليها دل ذلك على أن تركه كان جحد فيموت والحالة هذه كافرا" كما تقدم عن ابن تيمية فامتناعه فى هذه الحالة هو الدليل على خروجه من الملة" ص63. هذا ما قرره الشيخ ولازمه بلا ريب أنه لا تجرى عليه من أحكام الإسلام فلا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن ى مقابر المسلمين ولا يرث ولا يورث! غير أن تلميذ الشيخ المقدم للرسالة خالف ذلك - معتمدا" على كلام السخاوى - وجعل قارئ الرسالة يحار بين رأى التلميذ فى المقدمة تبعا للسخاوى وبين رأى الشيخ فى الرسالة تبعا" لشيخ الإسلام، وهما نقيضان لا يجتمعان فإن الذى جعله شيخ الإسلام فرض محال وخبط خيال هو هذا الذى قرره السخاوى وأمثاله بعينه. =

فهؤلاء الذين يكونون حينئذ - نسأل الله العافية - نقول كما قال حذيفة: إن لا إله إلا الله تنجيهم من النار، إذ لا يعلمون غيرها في ذلك الزمان الذي هو أسوأ زمان. لكن ليس في مقدور أحد أن يجزم بأنهم لن يدخلوا النار بمرة، أو أنهم من الجهنميين الذين لا يعرفهم المؤمنون، وإنما يعلمهم الله ويرحمهم فينجيهم من النار بعد دخولها، أو هم بين ذلك إذ المرجع في هذا التوقيف وإن كان غالب الظن أنهم - أو جلهم - إلى الجهنميين أقرب، من جهة أن أهل ذلك الزمان هم من شرار الخلق، ومن

_ = وقراء الشيخ الألبانى كلهم لا يختلفون أن الشيخ لا يحتاج إلى من يقدم له لا سيما وقد جرت العادة على تقديم الأعلى للأدنى ثم إن الرسالة صغيرة وموضوعها مطروق ولكن عندما قرأنا قول الشيخ: "فدفعت صورة منه إلى صاحبنا وتلميذنا ... ليقوم بتهيئته للنشر وإعداده للطبع مع كتابة مقدمة علمين له تقرب فوائده للقراء "الأفاضل" عذرنا الأخ المقدم وقرأنا بحثا" عن التقريب لكننا وجدنا المخالفة. دع الملاحظات الأخرى فليس هذا موضعها.! وهذه المخالفة جاءت فى اللب والجوهر حيث كانت فى أهم أمرين فى الرسالة وهما: 1- مناط الحكم بالتكفير. 2- حكم من أصر على الترك حتى يقتل. فأما مناط الحكم فإن الشيخ جعله اختيار القتل على الصلاة ولم يشترط جحد الوجوب اكتفاء منه بهذا الدليل القاطع (كما رأيت فى كلامه) . أما التلميذ المقدم فإنه جعل مناط الحكم هو أن يكون "جحدا" لوجوبها مع كونه ممن نشأ بين المسلمين" ص17. وعلى هذه فى نظره تحمل كل الأدلة الواردة فى تكفير تارك الصلاة، بل "تؤول!! " فناقض ما حملها الشيخ عليه كما ترى. وأما الحكم على هذا المصر فإن الشيخ جعله الكفر المخرج من الملة، أما التلميذ فقد جعله "الإسلام!! " وإليك ما جاء فى مقدمته: وأما من تركها بلا عذر بل تكاسلا" فالصحيح أيضا" بعد إخراج الصلاة الواحدة عن وقتها ... يستتاب كما يستتاب المرتد ثم يقتل إن لم يتب ويغسل ويصلى عليه ويدفن فى مقابر المسلمين مع إجراء سائر أحكام الإسلام عليه ويؤول إطلاق الكفر لكونه شارك فى بعض أحكامه ... " ص18 ... وبهذا أثار لدى القراء أسئلة كثيرة، منها: 1- ما الغرض من التقديم وفيه هذه المخالفة الواضحة؟ 2- أى كسل يبقى والسيف على الرأس؟ 3- هل ترى أن هذا مقر بالوجوب أو جاحد له؟ 4- كيف يستتاب استتابه المرتد ويقتل قتلة المسلمين؟ 5- بماذا تحكم على كلام الشيخ فى الرسالة إذا ما ذكرت هو "الصحيح المنصوص عليه قطع به الجمهور"؟! 6- هل تقرأ فى التأويل فى نصوص الصفات والقدر؟ ولماذا؟

جهة أنهم ليسوا من أهل الصلاة، فلا علامة لسجودهم، ومن هنا لا يعرفهم المؤمنون في النار، ومن جهة أنهم عتقاء الله يدخلهم الجنة بغير عمل ولا خير.. والله أعلم. وهذا الحديث بقدر ما يدل على نجاة مخصوصة، هو يدل على الأصل والقاعدة، ألا ترى أن التابعي عجب وألح في سؤال الصحابي، وما ذاك إلا لما علمه التابعون، من إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على أن تارك العمل ليس بمؤمن ولا ينجو في الدنيا من سيف المؤمنين، ولا في الآخرة من عذاب رب العالمين، والله أعلم. 3- العطف: في اكثر كتبهم يستدل المرجئة على أن العمل ليس من الإيمان، بأنه قد جاء في القرآن في مواضع كثيرة عطف على الإيمان قالوا: والمعطوف غير المعطوف عليه، فهذا التغاير والتفريق دليل على ذلك. وجوابه عند أهل السنة والجماعة بإيجاز هو: أن الإيمان يأتى في نصوص الشارع مطلقا"، ويأتي مقرونا بالأعمال، فإذا جاء مطلقا" فإن الأعمال تدخل فيه، لأنه حينئذ بمعنى الدين يشمل القول والعمل. وإذا جاء مقرونا" بالأعمال فله عندهم جوابان: 1- أن هذا من قبيل عطف الخاص على العام، مثل قوله تعالى: (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال) (البقرة: 98) . وقوله: (وإذا أخذنا من النبين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم) (الأحزاب: 7) . وقوله: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) (البقرة: 238) . فإن جبريل وميكال من الملائكة، ومحمد صلى الله عليه وسلم وسائر أولى العزم من الرسل، والصلاة الوسطى من الصلوات.

وأمثال هذا كثير في لغة العرب، فيعطف الخاص على العام للاهتمام به، وتنبيه المخاطب إلى شرفه أو عدم إغفاله. 2- إن أعمال الجوارح في الأصل ليست من الإيمان، بل الإيمان أصله ما في القلب، والأعمال هي من لوازمه التي تنفك عنه بحال، لكن جاء الشرع فأدخلها فيه، وأصبح اسم الإيمان شاملا" لها على الحقيقة شرعا" فكثر في كلامه عطفها عليه توكيدا" لذلك لكيلا يظن ظان أن الإيمان المطلوب هو ما في القلب فقط، بل يعلم أن لازمه - العمل - ضروري كضرورته، فها هو ذا قد أدخل في اسمه وحقيقته في مواضع الانفراد وقرن بحكمه في مواضع العطف. وبمراجعة ما سبق قوله عن الحقيقة المركبة يتضح هذا جليا" بإذن الله، فإن الشيء المركب من جزأين لا يمتنع عطف أحدهما على الآخر، وإن كان أحدهما إذا أطلق يشملهما اسمه معا" لا سيما وأن المعطوف عليه هو الأصل الذي أطلق شمل العمل، والمعطوف فرع ولازم له. فيأتي العطف لبيان وجوب وجودها مجتمعة، إذ انتفاء أحد جزئيها انتفاء لذات الحقيقة كما سبق إيضاحه. ومن هنا يظهر سر تكرار ذلك العطف في القرآن والله أعلم، فإنه مطابق لإجماع السلف أن الإيمان قول وعمل - أي اعتقاد وانقياد - كما سبق وهو المطابق للأحاديث التي سبق إيرادها في مبحث الحقيقة المركبة، ولا سيما حديث جبريل الذي فسر النبي صلى الله عليه وسلم فيه الإسلام، وفسر الإيمان بالجزء الباطن. ومعلوم قطعا أن أحدهما لا يغنى عن الآخر منفردا"، بل منهما معا" تتكون حقيقة واحدة هي الدين كما جاء في آخره: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم". وإن كان - الإيمان - أعلى درجة ومرتبة من الإسلام، باعتبار أنه الأصل، كما أن الإحسان أعلى منه، لكن اسمه المطلق يشملهما، والإسلام الذي هو أدنى منه لا يصح إلا به أو بجزء منه. ... تم بعون الله تعالى ...

§1/1