طوق النجاة

مجدي الهلالي

الطبعة الأولى 1986 م الطبعة الثامنة 1413 هـ - 1992 م

إهداء

إهداء - إلى كل من سأل عن الطريق فلم يجد مجيباً. - إلى كل من أراد السير إلى الله فلم يجد دليلاً. - إلى كل من أراد عزًّا للمسلمين فلم ير إلا ذلهم. - إلى كل من أراد عزًّا لنفسه فأبت عليه. - إلى الحيارى هنا وهناك نقدم؛ «طوق النجاة» لنسير معاً في الطريق إلى الله. ***

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مقدمة الطبعة الثامنة

مقدمة الطبعة الثامنة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد ... فها هي ذا الأيام تمضي، يزداد حال الأمة الإسلامية سوءًا ويشتد ظلام ليلها، وتتعالى الأصوات من هنا وهناك: هل لهذا الليل من آخر؟! ... هل تأخر الفجر فما ينبغي لأحد أن ينتظره؟! هل من نهاية لهذا الذل والهوان؟! هل ... هل ... هل ... أسئلة كثيرة تختلج في صدور الكثير من أبناء هذه الأمة، وهم يرون مدى ما وصل إليه حال أمتهم من ذل وضياع وهوان. فبعد أن كان أعداؤها يُسرُّون بعدائهم إليها، أصبحوا الآن يجاهرون به، بعد أن نجحت خططهم في إضعافها وتقنيتها وتمزيقها. والآن حان الوقت -كما يقولون- للقضاء عليها والتخلص منها. وما يحدث للمسلمين في هذه الأيام خير شاهد على ذلك. فلقد أصبحت أخبار المذابح التي يتعرض لها المسلمون مادة أساسية في غالبية وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة. وما توقف يوماً سيل دماء المسلمين. واشتد صراخ اليتامى، وبكاء الثكالى، وأنين المعذبين. وازدادت المرارة في الحلق، وما صار للحياة طعم. فهل من نهاية لما نحن فيه؟!

هل كُتب علينا أن نتجرع كؤوس الذل والهوان؟! لقد دعونا الله كثيراً في قيامنا وسجودنا، وفي ليلنا ونهارنا، أن يرفع -سبحانه وتعالى- عنا ما نحن فيه، فما تغير حالنا. هل لأننا لا نستحق تلقي نصر الله؟! فكما نعتقد ونعلم أن الله عز وجل أغير على دينه منا، ويستطيع جل شأنه أن يغيرنا نحن، ويخسف بأعدائه، ويمكن لدينه في أقل من لمح البصر. ولكن لمن سيكون هذا التمكين؟ لقد وعد الله طائفة من عباده المسلمين بنصرهم على أعدائهم، وتمكينهم في الأرض. هذه الطائفة هم عباده الذين نصروه على نفوسهم، ومكنوا لدينه في قلوبهم، أخضعوا مشاعرهم وعواطفهم لربهم، فأحبوا لله وأبغضوا في الله، ووالوا من يوالي الله، وعادوا من يعادي الله، وخافوا من الله، وفرحوا بفضل الله، وتوكلوا على الله، ورضوا بما أعطاهم الله و ... باعوا نفوسهم لربهم، فما أصبح لها في أقوالهم وأفعالهم حظ ولا نصيب. فقبل الله منهم البيع، ونصرهم على عدوه وعدوهم في الدنيا، ووعدهم بالجنة ثمناً لهذا البيع في الآخرة. مصدقاًَ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ... } (¬1). لقد وضع الله عز وجل شرطاً أساسياً لنُصرة عباده كما قال تعالى: {إِنْ ¬

_ (¬1) التوبة: 111.

تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (¬1) وقال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} (¬2). وهذا الشرط هو نُصرة الله على أنفسنا {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (¬3). فإن نصْرنا الله على أنفسنا، نصَرَنا على أعداءنا، وإن نصرناها عليه خذلنا أمامهم، وتركهم يتمكنون من ديارنا وأعراضنا وأموالنا. وما حالنا وما وصلنا إليه إلا ترجمة عملية لخذلان الله لنا، فقد نسيناه ونصرنا أنفسنا عليه، فنسينا وخذلنا أمام أعدائنا. فإن كنا نبغي حقاً النجاة لأنفسنا والعزة لديننا، فلنرفع راية الجهاد ولنعلن الحرب على نفوسنا، ولنجاهدها في جنب الله حتى ننصره عليها، فنصبح مؤهلين لتلقي نصره كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ¬

_ (¬1) محمد: 7. (¬2) الحج: 40. (¬3) الرعد: 11.

آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (¬1). وفي هذا الكتاب حاولت -بفضل الله ومنته- إلقاء الضوء ما أجملته في هذه المقدمة. فتحدثت عن النفس وأنها أعدى أعدائنا، وتحدثت عن ضرورة إصلاحها وكيف يكون. وتحدثت أيضاً عن الدعوة إلى الله وأهمية القيام بها، وفرضيتها في هذا الوقت. وفي النهاية تحدثت عن كيفية الجمع بين إصلاح النفس ودعوة الغير، ولا أستطيع أن أدعي أنى بهذه الصفحات قد بينت معالم الطريق كاملة بل هي بعضها والتي يمكن للمسلم من خلالها أن يخطو خطواته الأولى في طريقه إلى الله، ولقد وفقني الله -بفضله وتأييده- لجمعها فالخير فيها من الله والشر فيها من نفسي وما أبرئها، والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء الصراط،، القاهرة 1413هـ - أغسطس 1992م ¬

_ (¬1) المائدة: 54 - 57.

مقدمة الطبعة الأولى

مقدمة الطبعة الأولى إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا .. من يهده اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا، وَأشْهَدْ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ .. صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد فإنه لا يختلف اثنان على أن الهدف الذي يعيش من أجله كل منا هو رضا الله عز وجل، والنجاة من النار، والفوز بالجنة. ولذلك كان لزاماً على كل عبدٍ مؤمن، طالب دخول الجنة، والنجاة من النار، والقرب من مولاه، أن يطلب ذلك بالأسباب الموصلة إلى رحمة الله وعفوه ومغفرته ... ولكن .. هل يعرف كل منا هذه الأسباب؟؟ أو بعبارة أخرى .. هل يعرف الطريق المؤدي إلى النجاة يوم القيامة؟؟ الكثير منا لا يعرف هذا الطريق بأكمله .. والذي يعرفه سار فيه يضع خطوات ثم توقف ولم يستطع التقدم ..

فمعرفة الطريق وحدها لا تكفي للوصول إلى الهدف .. ولكن السير الدؤوب في هذا الطريق، والانتباه إلى منحنياته ومنزلقاته والإعراض عن المثبطين، وقبل ذلك كله طلب العون والمدد من الله هو الذي يكفل استمرارية السير في هذا الطريق .. وهذا الطريق كالصراط المستقيم .. في بدايته خلق كثير وفي نهايته عند قليل,, وبين البداية والنهاية يتهاوى الكثيرون. ولقد يسر الله بفضله ومنته، وبحوله وقوته أن أجمع في هذه الصفحات معالم كثيرة لهذا الطريق .. أحسب أنها تكفي بإذن الله للبدء في السير -والله أسأل أن يتقبل مني هذا العمل وأن يجعله في موازين حسناتي وحسنات إخواني يوم القيامة. ورجائي من كل قارئ لهذه الصفحات أن لا ينساني من صالح دعواته .. فليدع لي ولإخوانه بالمغفرة والرحمة والنجاة .. فإن الذنب كبير وإن العمل قليل .. ولا حول ولا قوة إلا بالله .. وليكن هذا عهداً بيني وبين من يقرأها .. يا نفس ويحك قد أتاك هداك ... هذا نداء الحق قد ناداك .. كم قد دعيت إلى الرشاد فتعرضي ... وأجبت داعي الغي حين دعاك .. المؤلف ***

الطريق

الطريق الطريق الذي نحسب أنه يؤدي إلى رضا الله ومحبته يتلخص في جملة واحدة تحتاج إلى تفصيل .. وهذه الجملة هي: «أصلح نفسك ... وادع غيرك .. » والذي يطمئننا أن هذا الطريق هو المسلك السليم ما جاء في كتاب الله تعالى من آيات كثيرة هذا ومنها سورة العصر .. {بسم الله الرحمن الرحيم .. {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (¬1). فأقسم سبحانه على خسران نوع الإنسان إلا من كمل نفسه بالإيمان والعمل الصالح، وكمل غيره بوصيته لها بهما، ولهذا قال الشافعي رحمه الله: لو فكر الناس كلهم في سورة العصر لكفتهم. ومنها قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (¬2). ¬

_ (¬1) العصر: 1 - 3. (¬2) فصلت: 33.

ولقد فهم الصحابة هذا الأمر جيداً ... وهذا من أسباب تفوقهم على غيرهم ولهذا قال بعضهم: «مَا سَبَقَكُمْ أَبُو بَكْرٍ بِكَثْرَةِ صَوْمٍ وَلَا صَلَاةٍ .. وَلَكِنْ بِشَيْءٍ وَقَرَ فِي صَدْرِهِ .. » والذي كان في صدر أبي بكر رضي الله عنه المحبة لله والنصيحة لعباده (¬1). ويصف الحسن البصري هذا العبد الذي أصلح نفسه بعمل الصالحات ودعا غيره إلى الله فيقول: هذا حبيب الله، هذا ولي الله، أسلم لله وعمل بطاعة الله، ودعا الخلق إليه (¬2). فإصلاح النفس ودعوة الغير إلى الله هما وسيلتا المسلم في طريقه للوصول إلى رضا الله. ... ¬

_ (¬1) جامع العلوم والحكم. (¬2) رسالة إلى كل مسلم: 19.

1 - أصلح نفسك

1 - أصلح نفسك يقول الله عز وجل: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (¬1). فقد علق الله عز وجل الفلاح على تزكية النفس، والخسران على تركها مهملة .. نظرة إلى الواقع: المتأمل لأحوالنا يجد أننا تركنا نفوسنا مهملة وقلوبنا خربة، عشعش فيها الشيطان وباض وفرّخ ... أصبحنا كالبيت العفن .. خارجه مزركش وداخله نتن .. السجدة أصبحت بغير خشوع، والصلاة صارت بلا روح .. المصاحف تشكو هجرها، والكتب التي نتبارى على شرائها تشكو أكوام التراب التي تعلوها .. السَّحر يئن من قلة القائمين ... ندعو الله فلا نجد استجابة .. ونذكره فلا نلمس لهذا الذكر أثراً .. لا يقيم أكثرنا من الطاعات إلا الصلوات المكتوبة .. ¬

_ (¬1) الليل: 7 - 10.

من منا يحاسب نفسه قبل النوم؟؟ من منا يختم القرآن مرة على الأقل في كل شهر؟؟ من منا يصوم خلاف شهر رمضان؟؟ كالاثنين والخميس؟؟ من منا يقوم الليل؟؟ كم ليلة قمناها بعد رمضان؟؟ من منا يزور القبور للاعتبار؟؟ من منا إذا ذكر الله خالياً فاضت عيناه؟؟ من منا لا يفتر لسانه عن ذكر الله؟؟ من منا إذا أصبح لا ينتظر المساء وإذا أمسى لا يتوقع في الصباح أن يكون مع الأحياء؟؟ من منا لا يفارق ذكر الموت قلبه؟؟ من منا يحب لأخيه ما يحب لنفسه؟؟ من منا غلب حب الله ورسوله حب ما سواهما؟؟ من منا .. من منا .. ؟؟ ليسأل كل منا نفسه هذه الأسئلة وغيرها .. سيفاجأ بإجابات قاسية .. يفاجأ بأنه أصبح كالآلة يؤدي الفروض بغير روح، وهذا أقصى ما يربطه بالإسلام .. قلوبنا منغمسة في حب الدنيا .. في الدراسة .. الوظيفة .. الزواج .. وآخر ما يخطر ببالنا هو التفكير في أمر الآخرة .. وكأن النار قد خلقت لغيرنا، أما نحن فقد ضمنا الجنة وأمنا مكر الله!!! كأن القلوب ليست منا، وكأن هذا الكلام يعني به غيرها وكأن

من صور عذاب أهل النار

آيات ذكر النار في القرآن وما أعده الله لأهلها لا تخصنا!!! لم هذه الغفلة؟؟ ماذا ننتظر؟ ومتى نفيق؟؟ هل نسوّف ونؤجل حتى تفاجأ بملك الموت يقبض أرواحنا ونكون ممن يقولون يوم القيامة {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} (¬1) أو يقولون: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} (¬2). إن الموت أقرب إلى أحدنا من شراك نعله، ومع ذلك ضعف هذا اليقين في قلوبنا، وبات طول الأمل هو المسيطر على حياتنا فانعكس ذلك على تصرفاتنا وأفعالنا .. فملأ الحسد قلوبنا .. وانشغالنا بعيوب الناس وتركنا عيوبنا .. يرى أحدنا القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه .. أكثر ما يجمعنا هو اللهو والضحك، فإذا نادى المنادي أن هلمّوا إلى ربكم وهيا بنا نؤمن ساعة .. نقر ونختلق المعاذير للتهرب من الالتقاء على الطاعة. من صور عذاب أهل النار: ليسأل كل منا نفسه: أيحب أن يكون من أهل النار مع إبليس ¬

_ (¬1) فاطر: 37. (¬2) المؤمنون: 105 - 107.

وجوده؟ ومع فرعون وهامان؟؟ ليتخيل كل منا نفسه وهو يُسحب في النار على وجهه، تخيل الجلد وهو يُشوى، ألم ترى قبل ذلك شاة تُشوى؟! أسمعت أزيز جلدها عندما يلامسه النار سيصدر من الجسد مثل هذا الصوت عندما تلامسه النار، تخيل النار وهي تخيط بصاحبها من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته، طعامه نار وشرابه نار، ولباسه من النار ونومه على النار، يتفجر الصديد من فمه، ويتساقط اللحم من فوق عظامه .. أقصى ما يتمناه أن يموت .. ولن يموت ... الوجه أسود، والجلود ممزقة والعظام مكسرة، والأيدي مغلولة إلى الأعناق .. وهو يبكي ويولول ويصرخ، ويتمنى أن يرجع إلى الدنيا ولو ساعة ليكون أخشى الناس ... تخيل هذا كله يا أخي جيداً .. فهذا وصف مبسط لحال أهل النار -والعياذ بالله-، فمن منا يرضى لنفسه بهذا المصير، فإن كنا لا نريد لأنفسنا أن نكون من أهل النار، فلماذا لا نعمل من أجل البعد عنها؟! عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ....... } [الإنسان: 1] (¬1) حتى ختمها ثم ¬

_ (¬1) رواه الحاكم واللفظ له وقال: صحيح الإسناد ورواه البخاري باختصار والترمذي (إلا أنه قال: ما فيها موضع أربع أصابع).

خوف الصحابة والسلف من الحساب

قال: «إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، أَطَّتِ (¬1) السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ قَدَم إِلَّا مَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الفُرُشِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ (¬2) تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ، واللهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي شَجَرَةً تُعْضَدُ». لولا الذين لهم وِرْدٌ يقومونا ... وآخرون لهم سِرْدٌ يصومونا لدُكدكت أرضكم من تحتكم سَحَراً ... لأنكم قوم سوء لا تخافونا خوف الصحابة والسلف من الحساب: والمتأمل لأحوال الصحابة والسلف يجد أن ذكر الموت والخوف من الحساب كان يُورق مضاجعهم ويسيل مدامعهم ... - فهذا عثمان بن عفان يقول: وددت أني إذا متُّ لا أبعث. - وهذا أبو عبيدة بن الجراح يقول: وددت أني كبش فيذبحني أهلي فيأكلون لحمي ويحسون مرقي .. - وبكى عبد الله بن رواحة فقيل له: ما يبكيك؟! قال: أنبأني الله أني وارد النار ولم ينبئني أني خارج منها. - وبكى النخعي عند موته وقال: انتظر رسول ربي ما أدري أيبشرني بالجنة أم بالنار؟! ¬

_ (¬1) أطت: أن السماء من كثرة ما فيها من الملائكة العابدين أثقلها حتى سُمع لها صوتاً وهو الأطيط. (¬2) الصعدات: الطرقات.

- وكانت امرأة أبي محمد حبيب الفارسي، توقظه بالليل وتقول: قم يا حبيب فإن الطريق بعيد، وزادنا قليل وقوافل الصالحين قد سارت من بين أيدينا ونحن قد بقينا ... - وهذا رجل من أصحاب سفيان الثوري يقول: إذا جلسنا إلى الثوري، فكأن النار قد أحاطت بنا، لما نرى من خوفه وجزعه. - وقال الحجاج لسعيد بن جبير: بلغني أنك لم تضحك قط .. قال: كيف أضحك، وجهنم قد سعّرت، والأغلال قد نصبت والزبانية قد أعدت؟! - وهذا رجل منهم يقول: ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز كأن النار لم تخلق إلا لهما. - ورُئَي الحسن يوماً وهو يبكي فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أخاف أن يطرحني غداً في النار ولا يُبالي. - وهذا حبيب أبي محمد الفارسي يقول لامرأته: إن متُّ اليوم فأرسلي إلى فلان يغسلني، وافعلي كذا وكذا، فقيل لامرأته، أرى رؤيا؟! قالت: هذا يقوله كل يوم (¬1) .. فهذه بعض أحوال الخائفين، صبروا أياماً قليلة، فأعقبتها راحة طويلة ... ¬

_ (¬1) هذه الأخبار وغيرها من كتاب إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغالي، وكتاب صفة الصفوة للإمام ابن الجوزي.

أما والله لو علم الأنام ... لِمَا خلقوا لما غفلوا وناموا لقد خلقوا لما لو أبصرته ... عيون قلوبهم تاهوا وهاموا مماتٌ ثم قبرٌ ثم حشرٌ ... وتوبيخٌ وأهوالٌ عظام ليوم الحشر قد عملت رجالٌ ... فصلُّوا من مخافته وصاموا ونحن إذا نهينا أو أمرنا ... كأهل الكهف أيقاظ نيام ومن تأمل هذه الأمور حق التأمل أوجب له القلق، فإن ابن آدم متعرض لأهوال عظيمة من الموت، والقبر، وأهوال الموقف كالصراط والميزان، وأعظم من ذلك: الموقف بين يدي الله عز وجل ودخول النار والخلود فيها إذا سُلَب إيمانه عند الموت، ولا يأمن المؤمن شيئاً من هذه الأمور .. {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} (¬1). (فيا أيها المطرود بإصراره وطغيانه وغفلته وخسرانه، وتماديه وعصيانه، .. لقد عظمت مصيبتك بغضب الله وهوانه، فأين مُقلتك الباكية؟ وأين دمعتك الجارية؟ وأين زفرتك الرائحة الغادية؟؟ لأي يوم أخّرت توبتك؟ ولأي عام ادخرت عودتك؟؟ إلى العام القادم والحول القابل؟؟ كلا .. كلا .. فما إليك مدة الأعمار، ولا معرفة الأقدار، فكم مَن أعد طيباً لعيده جُعل في تلحيده؟؟ وثياباً لتزيينه صارت لتكفينه؟؟) (¬2). ¬

_ (¬1) الأعراف: 99. (¬2) من كتاب الغنية لعبد القادر الجيلاني.

إلى العمل

أيها العبد الآبق: عد إلى مولاك، مولاك يناديك بالليل والنهار: من أتاني يمشي أتيته هرولة، وأنت عنه معرض، وعلى غيره مقبل، لقد غُبنت أفحش الغبن، وخسرت أكبر الخسران ... انتبه أيها الغافل!! فإنما أنت أيام معدودة، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك، ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل، وأنت تعلم فاعمل، فمازال باب التوبة مفتوحاً (¬1). إلى العمل: فلنبدأ من الآن قبل فوات الأوان، ولنشمر عن سواعدنا لإصلاح أنفسنا، ولنفتش عن عيوبها من كبر وغرور وحسد ورياء وعجب وركون إلى الدنيا وحب الرئاسة والشهرة، والشح والحرص وحب المال و ... ولنشتغل بإزالة هذه العيوب والتخلص منها في ضوء الكتاب والسنة وتجارب المربين وتوجيهاتهم. وقد كتب القدماء كتباً كثيرة في هذا الموضوع، فعلينا القيام بدراسة أحد هذه الكتب ولنزن أنفسنا من خلالها فنحدد الداء لنعرف الدواء فنتعاطاه ... ومن هذه الكتب كتاب «مختصر منهاج القاصدين» لابن قدامة المقدسي. ¬

_ (¬1) من كلام الحسن البصري ... انظر صفة الصفوة.

من معينات الطريق

من معينات الطريق: وقبل هذا كله .. ينبغي على من أراد سلوك هذا الطريق أن يضع نفسه في مناخ صالح يذكِّره بالموت، والآخرة دَوْماً، فليبدأ في تعويد نفسه على الطاعات فيلزمها بقراءة جزء من القرآن يومياً، والتزام الصلاة في المسجد، وخصوصاً صلاة الفجر والعشاء -واللتان تثقلان على المنافقين- وليحافظ على السنن المؤكدة. وليجاهد نفسه على صيام الاثنين والخميس، وليحافظ على السنن العملية مثل ذكر الله عند كل مناسبة: عند اللباس، وعند الطعام، ... إلخ. وليعوّد نفسه على قيام الليل، فهو من أعظم القربات، وأجلّ الأعمال التي تقرب إلى الله وتجلي القلب، فالليل مدرسة تخرج منها الربانيون من هذه الأمة ... وعليه أن يحاسب نفسه قبل النوم فيلومها على التقصير ويعزم في كل يوم على مواصلة السير بجد وعزم وتشمير .. وليحافظ على زيارة القبور، والتفكر في أحوال الموتى، وليكثر من التصدق والإنفاق، وليصحب الصالحين الذين إذا نظر إليهم تذكر الآخرة .. وقبل هذا كله .. عليه أن يتوجه إلى الله عز وجل بالدعاء -دعاء الذليل الفقير إلى مولاه- ويلح في الدعاء والاستغاثة وطلب العون والمدد ...

فهذه الأمور كفيلة بإذن الله أن تجلو القلب من الصدأ الذي يعلوه، فتجعله سريع التأثر بالموعظة، وتجعل الآخرة هي أكبر همه، وعند هذه الحالة يسهل اقتلاع أي مرض قلبي مصابٌ به الإنسان، ويزرع بدلاً منه محبة الله عز وجل التي هي منتهى طلب الطالبين. لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الشراب وتلهيها عن الزاد لها بوجهك نور يستضاء به ... ومن حديثك في أعقابها حاد إذا شكت من كلال السير أوعدها ... روح القدوم فتحيا عند ميعاد ولنتذكر دائماً قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أن قرأ قول الله تبارك وتعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] قال: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّار نَادَى مُنَادٍ، يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ. قَالُوا: مَا هَذَا الوَعْد؟ أَلَمْ يُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا وَيُبَيِّضْ وُجُوهَنَا وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَيُجِرْنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيُرْفَعُ الْحِجَابَ، وَيَنْظُرُونَ إِلَى وَجْهِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَا أَعَطَاهُمُ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ» (¬1). ... ¬

_ (¬1) رواه مسلم.

2 - ادع غيرك

2 - ادع غيرك يقول تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (¬1). فكما أنك مطالب بإصلاح نفسك، فأنت أيضاً مطالب بدعوة غيرك وإنقاذه من برائن الجاهلية التي كنا يوماً ما من ضحاياها. والدعوة في هذه الأوقات أصبحت شيئاً مُلِحاً وضرورياً يستلزم منا كل جهد لا سيما ونحن نرى مدى ما وصلت إليه أمتنا. واقع الأمة الإسلامية: فالمتأمل لحال الأمة الإسلامية اليوم يجدها أشتاتاً متفرقة. ففي عصرنا هذا نُحِّيت الخلافة الإسلامية وقسمت أمة الإسلام إلى أكثر من أربعين دويلة لا يطبق الإسلام الكامل في واحدة منها، تولى الحكم في غالبيتها دعاة على أبواب جهنم، نشروا الفساد وأغرقوا الشعوب في حبّ الشهوات والجنس، وخرّبوا الأخلاق، فأصبح العرى هو الأساس والتديّن هو التطرّف والتخلّف .. حاربوا العقيدة بأدعياء حرية الفكر وحاربوا فنون القوة بفنون اللّذة .. حتى أمسى الذي يحافظ على دينه كالقابض على الجمر ينتظر في كل ليلة من يطرق ¬

_ (¬1) يوسف: 108.

بابه من زوار الفجر ليلقيه في السجن بتهمة العمل للإسلام ... لقد اجتمعت على أمتنا كل أمم الأرض من صليبيين حاقدين، وشيوعيين ملحدين ويهود طامعين، ووثنيين شامتين، وحتى عبّاد البقر .. كل هؤلاء اجتمعوا علينا ليبيدونا .. يقولون لنا: جاء وقت تصفية الحساب، يكفي أن تضع أصابعك عشوائياً على أي مكان من خريطة العالم فسيقع على خط أحمر ينزف بدماء المسلمين. يكفي أن تقرأ الصحف فتكتشف مذبحة جديدة للمسلمين كتلك التي تعرض لها المسلمون في بلغاريا عندما رفضوا تغيير أسمائهم الإسلامية بأخرى نصرانية، فقامت سلطات الإلحاد هناك بقتل المئات، ونسف المساجد بالديناميت واكتساحها بالبلدوزرات والأوناش، بل حُولت بعضها إلى مخازن للخمور!!. بل إنني لا أكون مبالغاً إذا قلت: إنه في الوقت الذي تقرأ فيه هذه السطور يكون مسلم قد قتل، وآخر في السجن يتأوه من صنوف العذاب، وأخت مسلمة تنتهك حرمتها، وطفل مسلم يموت جوعاً ... هذا بخلاف المذابح الموسمية. ففي هذا الصيف مذبحة للمسلمين في الهند، وهذا الخريف في بورما، وهذا الشتاء في الفلبين، وهذا الربيع في اريتريا .. أما كشمير وفلسطين فالعرض مستمر، والمذابح لا تتوقف صيفاً أو شتاء ... كل هذا لا لشيء إلا لأنهم مسلمون ... كل دماء العالم غالية، ومن أجلها صيغت القوانين إلا دم المسلم، فهو في نظرهم أرخص دم، بل على العكس فإنهم يكافئون من يريق هذا الدم.

فرضية التغيير

لقد بادلت إسرائيل ألفاً من الأسرى اللبنانيين المسلمين مقابل ثلاثة فقد من الأسرى اليهود، وكانت الصفقة في نظر اليهود رابحة. لقد انطبق حالنا مع ما قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا .. » (¬1). أصبحنا أضيع من الأيتام على مائدة اللئام .. هُدِّمت مساجدنا. قُتل الراكعون الساجدون .. انتُهكت أعراض المحصنات المؤمنات .. تخيل أن هذه الأخت التي تغتصب هي أمك .. هي أختك .. هي زوجتك .. ماذا سيكون موقفك؟ هل ستقف مكتوف الأيدي أم ستتحرك؟ إذن فاعلم أن أختك أو أمّك أو زوجتك أو ابنتك معرضة لذلك في يومٍ ما، إن بقي الحال على ما هو عليه ولم نعمل على تغييره. فرضية التغيير: لقد أصبح تغير حال المسلمين فرض عين على كل مسلم .. وكل مسلم يلقى الله عز وجل وهو لا يعمل على نصرة دينه وتغيير وضع المسلمين البائس، فهو آثم مهما حاول أن يختلق المعاذير. بالله عليكم .. إن لم يكن التغيير الآن فرض عين .. فمتى يتعين إذاً؟! سيدوّن التاريخ أن هذا الجيل الجبان لم يحافظ على شرف أمته ¬

_ (¬1) الحديث عن ثوبان وأخرجه الترمذي وأبو داود وقال: سنده صحيح.

الأدلة الشرعية على فرضية التغيير

ولا كرامتها!! وسيكون لها الجيل الذي طأطأ رأسه لأخسّ أهل الأرض موقف عسير وحساب رهيب أمام الله عز وجل يوم القيامة إذا لم يعمل على نصرة دينه. فإياك أن تكون مع من سيكتبهم التاريخ من الملعونين أبد الدهر، واحرص أن تكون مع المنصورين الخالدين. الأدلة الشرعية على فرضية التغيير: والأدلة الشرعية على فرضية التغيير كثيرة نذكر منها: 1 - أن الله عز وجل قد وصف هذه الأمة بالخيرية لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر كما قال تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (¬1). فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -كما يذكر العلماء- واجب على كل مسلم، كلٌّ بحسب استطاعته. وأي منكر أكبر من غياب شريعة الله وحكمه في الأرض؟! وأي معروف أكبر من العمل لرفعة الإسلام وهيمنة شريعته على الناس. 2 - ويقرر الفقهاء في حكم الجهاد في الإسلام أنه إن غلب العدو على بلد من بلاد الإسلام، أو ناحية من نواحيها ففرض عين، فتخرج المرأة والعبد بلا إذن الزوج والمولى، وكذا يخرج الولد من غير إذن ¬

_ (¬1) آل عمران: 110.

دفع شبهة

والديه والغريم بغير إذن دائنه (¬1). وكما نرى الآن أن الكثير من بلدان المسلمين قد استولى عليها الكفار، فالمسجد الأقصى -أولى القبلتين وثالث الحرمين- أسير في أيدي أبناء القردة والخنازير، وكشمير مغتصبة في أيدي عباد البقر من الهنود، والفلبين ... وبلاد البلقان .. و ... فهذه وغيرها بلاد اغتصبت من المسلمين ولم يتمكن أهلها من الدفاع عنها فوجب -كما قرر الفقهاء- تحرير هذه البلاد على الأقرب فالأقرب. ونحن جميعاً -وإن اختلفت أماكننا- قريبون من بلاد إسلامية مغتصبة فوجب علينا جميعاً تحريرها وكل ما يؤدي إلى القيام بهذا الواجب فهو واجب كما تقول القاعدة الأصولية: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. دفع شبهة: سيقول الكثير: وكيف أبدأ بالدعوة وإصلاح الغير وأنا مضطرب مع نفسي لم أصلحها .. لابد من تهذيبها أولاً ثم الدعوة ثانياً ... إن هذا القول ظاهره فيه الرحمة وباطنه العذاب وهو مدخل خطير من مداخل الشيطان على الإنسان ليقعده أولاً عن الدعوة بحجة إصلاح النفس لكي يعزله عن إخوانه ثم يُجهز عليه بعد ذلك، فالذم ¬

_ (¬1) راجع رسالة الجهاد للإمام حسن البنا وفيها عرض لحكم الجهاد في مختلف المذاهب الفقهية.

الوارد في الآية: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (¬1) ليس مقصوداً به أمر الناس بالبر وإنما المقصود منه هو نسيان النفس. وهناك نظرة أخرى .. هل يستطيع مسلم مهما حاول مع نفسه وجاهدها أن يرضى عنه نفسه ويقول: إنه الآن قد أصلحها؟! إنه إن فعل ذلك فقد أصبح من الخاسرين {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} (¬2) إن المسلم كلّما ازداد قرباً من الله عز وجل، ازداد شعوره بالتقصير، أي أنه سيظل يسيء الظن بنفسه حتى نهاية عمره. ونظرة ثالثة ... إن تغيير حال المسلمين أصبح الآن فرض عين على كل مسلم، كما أن إصلاح النفس فرض عين أيضاً وسيُسأل يوم القيامة عن الأمرين كلٌّ على حده. بمعنى أنك إذا قمت بالدعوة ونسيت نفسك، ستحاسب على تقصيرك مع نفسك، وإن قمت بإصلاح نفسك وأهملت الدعوة إلى الله فستحاسب عن كل أرض إسلامية اغتصبت، وكل دم مسلم أريق .. و .. إلخ. فأنت لا تستطيع أن تترك صيام رمضان بحجة أنك لم تصلح ¬

_ (¬1) البقرة: 44. (¬2) الأعراف: 99.

صلاتك أو أن خشوعها غير كامل لأن كليهما فرض عين كذلك الدعوة إلى الله وإصلاح النفس. ففي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّه كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: يَا هَذَا اتَّقِ اللَّهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ .. ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ وَهُوَ عَلَى حَالِهِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ {فَاسِقُونَ} ثُمَّ قَالَ: «كَلَّا وَاللَّهِ ... لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيِ الظَّالِمِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا أَوْ لَيضربنَّ الله بِقُلُوبِ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْض، ثُمَّ لَيَلْعَنكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ» (¬1). وعن جابر مرفوعاً: «أَوْحَى اللَّهُ إِلَى مَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَنِ اقْلِبْ ¬

_ (¬1) رواه الترمذي وقال: حديث حسن وأبو داود واللفظ له.

بركة الدعوة إلى الله

مَدِينَةَ كَذَا وَكَذَا عَلَى أَهْلِهَا. قَالَ: إِنَّ فِيهَا عَبْدَكَ لَمْ يَعْصِكَ طَرْفَةَ عَيْنٍ. فَقَالَ: اقْلِبْهَا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ»، وفي رواية أحمد: «بِهِ فَابْدَأْ فَإِنَّ وَجْهَهُ لَمْ يَتَمَعَّرَ فِيَّ سَاعَةً قَطُّ -أي لَمْ يَحْمَرَّ وَجْهَهُ غَضَباً لِي-» (¬1). وقال تعال: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (¬2) أي لا تختص بالمعتدين، بل تتناول من رأى منكراً ولم يغيره. وفي حديث زينب بنت جحش: فقلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ» (¬3). وسئل عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أتوشك القرى أن تخرب وهي عامرة؟ قال: إذا علا فجارها على أبرارها. بركة الدعوة إلى الله: للدعوة إلى الله بركات، تُصيب من يقوم بها، ولا يشعر بهذه البركات إلا كل من سار في طريق الدعوة. يقول ابن القيم: إن بركة الرجل تعليمه للخير حيث حل، ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في الأوسط ورواية الطبراني فيها عبيد بن إسحاق العطار عن عمار بن يوسف وكلاهما ضعيف ولكن ابن المبارك وثق عمار بن سيف وأما عبيد بن إسحاق فقد رضيه أبو حاتم. (¬2) الأنفال: 25. (¬3) متفق عليه.

ونصحه لكل من اجتمع به، قال الله تعالى إخباراً عن المسيح عليه السلام {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} (¬1) أي: معلماً للخير، داعياً إلى الله، مذكراً به، مرغباً في طاعته فهذا من بركة الرجل. ومن خلا هذا قد خلا من البركة، ومحقت بركة لقائه والاجتماع به ... كما أن هدايته للغير وتعليمه ونصحه يفتح به باب الهداية، فإن الجزاء من جنس العمل، فكلما هدى غيره وعلمه هداه الله وعلمه، فيصير هادياً مهدياً كما في دعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه الترمذي وغيره: «اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ، غَيْرَ ضَالِّينَ وَلَا مُضِلِّينَ سِلْمًا لِأَوْلِيَائِكَ، حَرْبًا لِأَعْدَائِكَ، نُحِبُّ بِحُبِّكَ مَنْ أَحَبَّكَ، وَنُعَادِي بِعَدَاوَتِكَ مَنْ خَالَفَكَ» (¬2). فالبئر لن يتجدد ماؤه إلا إذا أخذنا منه فإن تركناه ركد ماؤه وأسن، فمن أراد أن يُجدِّد إيمانه فليدعو وليعلم غيره فهو أول من يستفيد من ذلك. ... ¬

_ (¬1) مريم: 31. (¬2) رسالة إلى كل مسلم: 5 - 11.

3 - طريق التغيير

3 - طريق التغيير ... إن طريق التغيير ليس معقداً كما يتوهم البعض، لكنه يحتاج إلى رجال يبيعون أنفسهم لله عز وجل، يسيرون فيه وهم يحملون أرواحهم على أكفّهم. إن الذي يجعل الطريق شائكاً ومعقداً أمام البعض منا هو ركونهم إلى الدنيا، أما من كانت الآخرة هي أكبر همه، وما الدنيا في نظره إلا قنطرة إليها، كان هذا الطريق سهلاً ميسوراً. وخطوات هذا الطريق يمكن أن تبدأ كالآتي: تصور أن المحيط المطالب بتغييره هو محيط سكنك وعملك .. ابدأ في وضع خطة لتغيير بيتك وجعله بيتاً إسلامياً كاملاً تُطبَّق فيه أحكام الله .. وحذار أن تتصرف مع أهل بيتك تصرفات هوجاء مثل أن تنهى عن منكر بطريقة منفرة فينقلبوا عليك ويضعوا حاجزاً بينهم وبينك .. بل ينبغي عليك أن تعتمد سياسة الصبر الجميل والنفس الطويل، وأن تتقرب إليهم وتدخل إلى قلوبهم بشتى الوسائل من ترغيب وترهيب، ويمكن أن تستعين بالآخرين ممن تثق فيهم، وغالباً ما يكون تأثير الغرباء على أهل البيت أقوى من تأثير الشخص نفسه لأن (زامر الحيّ لا يطرب) كما يقولون .. المهم أن تصطبغ بيوتنا بصبغة الإسلام.

وفي نفس وقت اهتمامات ببيتك .. فكّر في كيفية تغيير المنطقة من حولك .. فتّش في أصدقائك .. تخيّر منهم من عنده عاطفة صادقة تجاه الإسلام .. ابدأ في التودّد إليهم والتقرب منهم ومخالطتهم حتى تلحظ أنهم متلهفون على رؤياك، وأنهم يكنّون لك الحب والاحترام، وهذا لا يكون في يوم وليلة، بل يأتي بعد جهد كبير، وتكلُّف أمور كثيرة ترقق قلوبهم لك، وتضحية بالوقت والجهد والمال في سبيل الله .. وعندما تشعر منهم ذلك الحبّ .. ابدأ في مصارحتهم بالهدف الذي نحيا من أجله والطريق الذي يوصل إليه كما ذكرناه من قبل، وصارحهم بأنه لولا حبك لهم، وخوفك عليهم من الهذاب يوم القيامة ما صارحتهم. غالباً -إذا كنت قد أحسنت الاختيار- سيقتنعون بكلامك عن إصلاح النفس ودعوة الغير. وهكذا .. يبدأ كل منهم في إصلاح نفسه وأهل بيته ثم إصلاح من حوله، وأنت معهم لا تتوقف عن هذا .. حتى يُذعن غالب المنطقة التي تسكن فيها أنت ومن معك للإسلام الكامل الشامل، وتعلن ولاءها له. وهكذا في كل منطقة إذا قام واحد فقط يدعو إلى ما اقتنع به من إصلاح النفس ودعوة الغير. فإذا أصبح الحال في أغلب المناطق مثل المنطقة التي أنت فيها، فإن المجتمع ينعدل انعدالاً تدريجياً ويتحول إلى مجتمع يقيم الإسلام الشامل؛ لأن المجتمع المسلم ما هو إلا أفراد وأسر أصبحوا مسلمين كاملين.

التمكين للمؤمنين سنة كونية

وبعد أن يتجه المجتمع إلى الإسلام .. لابد أن تنبثق منه -بإذن الله- طائفة تتسلم زمام الحكم، ويصبح الحكم إسلامياً خالصاً يطبق على شعب مسلم .. وهكذا في بقية المجتمعات، ثم تتوحد هذه جميعاً لتكون الدولة الإسلامية العالمية، ويختار أحد أفرادها خليفة للمسلمين. التمكين للمؤمنين سنة كونية: وما نقوله هذا ليس أمانيّ ولا أضغاث أحلام .. لأن الله عز وجل سيمكن لدينه في الأرض شئنا أم أبينا .. سيمكن لدينه بنا أو بغيرنا .. فإن أبينا أن نسير في هذا الطريق فسيقبض الله قوماً غيرنا ليسيروا فيه {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (¬1) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (¬2). ¬

_ (¬1) محمد: 38. (¬2) المائدة: 54 - 56.

إنها الجنة تبغى ثمنا

فهلم يا أخي إلى العمل، ولا تنتظر أكثر من ذلك فتفاجأ بالموت ثم سؤال الله لك، وهناك ستندم حيث لا ينفع الندم. واعلم يا أخي أن الله عز وجل قد أعد جزيل المثوبة لمن يسير في هذا الطريق. فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّابِرُ فِيهِنَّ كَالقَابِضُ عَلَى الجَمْرِ، لِلْعَامِلُ فِيهَا أَجْرَ خَمْسِينَ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ: خَمْسِينَ مِنْهُمْ أَوْ خَمْسِينَ مِنَّا؟ قَالَ: خَمْسِينَ مِنْكُمْ» (¬1). وتذكر دائماً أن طريق الجنة محفوف بالمكاره .. لكنها تستحق .. فعن أنس رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فَيُصبَغُ في النار صبغة ثم يقال له: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟ هل مرّ بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط؟ وهل مرّ بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا ربّ ما مرّ بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط» (¬2). إنها الجنة تبغى ثمناً: فطريق الجنة مليء بالأشلاء والدماء .. ولكن هل هناك طريق غيره؟! إنه طريق واحد لا ثاني له .. فيه سار الرسل وأتباعهم من ¬

_ (¬1) رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال: حسن غريب. (¬2) رواه مسلم.

الابتلاء من سنن الدعوات

الدعاة {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (¬1). الابتلاء من سنن الدعوات: فسنة الله في أي دعوة صادقة خالصة أن يتعرض أصحابها للمِحَن والابتلاءات لكي تُنقى من خبثها ولا يبقى فيها إلا الطيب {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (¬2) .. فإن كنت تبغي الجنة حقاً .. وعزمت أن تسلك طريقها .. فعليك أن تضع في قرارة نفسك أنك معرض للابتلاء في كل وقت .. وقد سُئل الشافعي قديماً: يا أبا عبد الله: (أيما أفضل للرجل أن يُمَكن أو يُبتلى؟ فقال: الشافعي لا يُمَكن حتى يُبتلى، فإن الله ابتلى نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فلما صبروا مكنهم) (¬3)، فلابد للميلاد من مخاض، ولابد للمخاض من آلام. الابتلاء بالخير والشر: وليس الابتلاء كما يظن الكثيرون هو السجن والتعذيب فقط .. بل إنه يشمل أنواعاً كثيرة من بينها السجن والتعذيب .. ¬

_ (¬1) العنكبوت: 1 - 3. (¬2) الأنفال: 37. (¬3) الفوائد: 183.

فلنكن على حذر

فهناك الابتلاء بالمنصب والجاه، وهناك الابتلاء بالمال، وهناك الابتلاء بالزوجة والأولاد، وهناك الابتلاء بالفقر وضيق الرزق، وهناك الابتلاء بالأهل والأقارب .. وهناك .. وهناك .. وهناك. كل ذلك يحاول أن يثبّط همتك، ويحذرك من هذا الطريق .. ولا يثبت أمام هذه الابتلاءات إلا من أيده الله بالثبات .. فكم من أناس صبروا على التعذيب وقهرتهم شهوة المال والمنصب .. وكل هذه العقبات التي توضع أمام السائر في طريق الجنة قد وضحها الرسول -صلى الله عليه وسلم- .. فعن سَبْرة بن الفاكه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إِن الشَّيْطَان قعد لِابْنِ آدم بطرِيق الْإِسْلَام فَقَالَ: تُسلم وَتَذَر دِينَكَ وَدِينِ آبَائِك؟ فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ فَغَفَرَ لَهُ .. فَقَعَدَ لَهُ بطرِيق الْهِجْرَة فَقَالَ لَهُ: تُهَاجِرُ وَتَذَر دَارَك وَأَرْضك وَسمَاءَكَ؟ فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ .. فَقَعَدَ لَهُ بطرِيق الْجِهَاد فَقَالَ: تُجَاهِدُ وَهُوَ جُهْدُ النَّفسِ وَالْمَال فَتُقَاتِلُ فَتقْتلُ فَتنْكِحُ الْمَرْأَة وَيقسّم المَالُ؟ فَعَصَاهُ فَجَاهد. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَمَنْ فَعَلَ ذَلِك كَانَ حَقًا عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلهَُ الْجَنَّةَ. وَإِنْ غَرقَ كَانَ حَقًا عَلَى الله أنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّة وَإِنْ وقصته دَابَّته كَانَ حَقًا عَلَى الله أَن يدْخلهُ الْجنَّة» (¬1). فلنكن على حذر ... : وأحذر نفسي وإياك من ترك السير في طريق الدعوة بدعوى أننا ضعفاء ولا نستطيع أن نتحمل الابتلاء .. فهذا من تلبيسات إبليس ليقعدنا عن الجهاد كما أخبر الرسول --صلى الله عليه وسلم-- في الحديث السابق .. فالله سبحانه وتعالى يعلم ضعفنا وقلة حيلتنا، ومع ذلك طالبنا ¬

_ (¬1) رواه البيهقي والنسائي وابن حبان في صحيحه.

بالدعوة إليه والجهاد في سبيله .. وهو سبحانه عندما يبلونا فإنما يريد أن يبين لنا هل نستحق الجنة أم النار {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (¬1) {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (¬2). ويبلونا سبحانه لكي نهرع إليه بالذلة والمسكنة والفقر والاستغاثة ألم تقرأ دعاء النبي --صلى الله عليه وسلم-- وهو عائد من الطائف بعد أن أُوذي واستُهزئ به: «اللَّهُمَّ إِلَيْك أَشْكُو ضعف قوتي وَقلة حيلتي وهواني على النَّاس .. يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمينَ .. أَنْت رب الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنت رَبِّي إِلَى من تَكِلنِي؟ إِلَى بعيد يتجهمني أَو إِلَى عَدُوٌّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي .. إِن لم يكن بك غضب عليَّ فَلَا أُبَالِي، لَكِن عافيتك هِيَ أَوْسَعُ لِي .. أَعُوذُ بِنورِ وَجهِكَ الَّذِي أشرقت لَهُ الظُّلُمَات وَصلح عَلَيْهِ أَمر الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .. أَن يحلّ عليَّ غَضَبكَ أَوْ يَنزِلَ بِي سَخَطك .. لَك الْعُتْبِي حَتَّى ترْضى .. وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بك». فإذا قعدت بنا أنفسنا خوفاً من الابتلاء، فسيأتي يوم نعض فيه أناملنا عندما نرى الركب قد سبقنا ونحن نراوح في أماكننا. ¬

_ (¬1) محمد: 31. (¬2) البقرة: 214.

فإذا سألنا الله عز وجل عن سبب تخلفنا فهل نستطيع الجواب؟! أيهما أشد علينا: الصبر على محن الدنيا أم الصبر على النار؟! فهلمَّ يا أخي إلى العمل .. ولنسارع بعقد البيعة مع الله حتى نفوز بالجنة: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} (¬1) وليكن اعتصامنا بالله هو زادنا على الطريق ولا نستوحش من قلة السائرين .. فحسبنا أن الله معنا. ... ¬

_ (¬1) التوبة: 111.

4 - المعادلة الصعبة

4 - المعادلة الصعبة بعد أن بينا بحول الله وقوته، وفضله ومنته بعض معالم الطريق .. تظهر لنا مشكلة هامة .. ألا وهي: كيف نسير في الاتجاهين معاً -إصلاح النفس ودعوة الغير- عملياً دون إفراط أو تفريط. أو بعبارة أخرى: كيف يتسنى لنا أن نواصل السير في كلا الأمرين دون كلل أو ملل؟ الشيطان مع الواحد: لقد اتضح بالتجربة أن المسلم لا يستطيع أن يستمر في كلا الأمرين بنفس القوة إلا في حالة واحدة وهي: وجود بيئة صالحة ووسط طيب فيه يعتنق هذه الأفكار ويسعى سعياً جاداً إلى إصلاح نفسه ودعوة غيره .. في هذا الوسط يعيش المسلم ويتأثر من خلاله، فيعطي ويأخذ من محاسن الأخلاق والصفات، ووجود هذا الوسط ضروري ولو كان من اثنين فقط لأن «الشَّيْطَان مَعَ الْوَاحِد وَهُوَ من الِاثْنَيْنِ أَبْعَد» (¬1) ... «وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية» (¬2) كما قال ¬

_ (¬1) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه ولكن رواه ابن المبارك عن محمد بن سوقه. (¬2) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «ما= من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا وقد استحوذ عليهم الشيطان ... فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية» رواه أبو داود بإسناد حسن.

ضرورة التآخي في الله

-صلى الله عليه وسلم- .. فكم من شباب فقد نفسه لأنه كان يسير بمفرده ... وتأمل ما قاله الله عز وجل لرسول --صلى الله عليه وسلم-- {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (¬1). ضرورة التآخي في الله: ولابدّ أن يكون الرباط الذي يربط بين هذه الأفراد ولو كانوا اثنين بعد رباط العقيدة هو رباط الأخوة في الله .. تتجسّد معاني المحبة في الله فيما بينهم، ويصعدون في مدارجها حتى يصلوا إلى ما وصل إليه سلفنا الصالح .. كانوا إذا وضع أحدهم اللقمة في فم أخيه يجد طعمها في ريقه، وإذا احتاج مالاً وضع يده في جيب أخيه دون استئذان .. وإذا ابتعد عنه أخوه شعر كأن جزءاً عزيزاً قد فقد منه ... هذه الرابطة إذا وعيت بذرتها حتى نبتت، ثم اشتد عودها حتى أثمرت .. كانت نوراً ووقاء يوم القيامة «إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى. قالوا: يا رسول الله تخبرنا من هم؟ قال: ¬

_ (¬1) الكهف: 28.

هم قوم تحابُّوا بروح الله بينهم على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها .. والله إن وجوههم لنور وإنهم على نور .. ولا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس» (¬1). ويناديهم ربهم بهذا النداء الحبيب يوم القيامة: «أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظلَّ إلا ظلِّي» (¬2). ومهمة هذه البيئة مهما صغرت أن يتعهد أفرادها بعضهم بعضاً فييسرون على أنفسهم تطبيق ما ذكرناه من قبل ... ففي مجال إصلاح النفس تابع الأفراد بعضُهم بعضاً في الطاعات: في حفظ القرآن الكريم وتلاوته، في صيام التطوع، في قيام الليل، في المحافظة على صلاة الجماعة .. في محاسبة النفس .. في القراءة والاطلاع .. في زيارة القبور .. في حضور دروس العلم وهكذا. فإن المرء يسهل عليه أن يخلف الوعد مع نفسه ولكن يصعب عليه أن يخلقه مع غيره .. وأضرب لذلك مثل: قد ينوي المرء منا زيارة القبور للعظة والاعتبار وترقيق القلوب وتذكر أحوال الآخرة .. وعندما يحين وقت الذهاب تجد الواحد منا يؤجل يوماً بعد يوم، وكل تأجيل بعذر تختلقه النفس، فإذا ما ألزمت نفسي مع بعض إخواني على الذهاب في يوم محدد صعُبَ عليَّ ألا أفي بموعدي، ولا ريب في أنها بركة الاجتماع على طاعة الله عز وجل والتي لا تخلو من نفع وفائدة، فإن نسيت أمراً ذكّرني أخي، وإن ذكرته أعانني عليه، فالنفس حقاً تحتاج إلى المتابعة، ولنا في صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة وقدوة، إذ كان عبد الله بن رواحة ومعاذ بن جبل ¬

_ (¬1) رواه أبو داود. (¬2) أخرجه مسلم.

وصايا على الطريق

وغيرهما إذا رأى أخاه وقد فتر العزم قال له في مودة وحب: اجلس بنا نؤمن ساعة (¬1) .. فيتذكرون أحوالهم ويتناصحون ويفترقون على أفضل العزائم ويتحقق فيهم قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: «وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللهِ فَاجْتَمَعَا عَلَى ذَلِك وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ» (¬2). وفي مجال دعوة الغير، فإنهم يتواصون بدعوة من يحيط بهم ويعين بعضهم بعضاً على ذلك بتوفير المناخ الصالح للمدعو، ويسعون في ذلك بالحكمة بعد دراسة الوسط المحيط بهم والتفكير في الأسلوب الأقوم للتأثير فيه .. فمن يصلح لوسط معين قد لا يصلح لغيره ومن يفيد هنا قد لا يفيد هناك .. فلان قد لا يصلح لدعوته إلا زيد والآخر لا يصلح له إلا عمرو وهكذا. فمثلاً قد لا أستطيع دعوة شقيقي، فأستعين بأحد إخواني على دعوته وهكذا ... وثمة أمر آخر لا يقل في أهميته عما سبقه، ألا وهو إحساسي بأني لا أسير وحدي في هذا الطريق بل أجد عليه أعواناً، يخففون ما أجد من عناء ونصب، ويفرحون معي إذا منّ الله علينا وجعلنا سبباً في هداية خلقه إليه ودليلاً يدل الحيارى إلى الطريق الصحيح ... وصايا على الطريق: ولا ينس السائر في هذا الطريق أنه طريق طويل، فعليه أن يسير ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد بإسناد حسن عن أنس بن مالك. (¬2) من حديث: «سَبْعَة يظلهم الله بِظِلِّهِ».

بخطى ثابتة متأنية وأن يتبين موضع قدمه قبل أن يخطو كل خطوة .. عليه أن لا يستعجل الزهرة قبل أوانها أو الثمرة قبل نضجها، بل عليه هو ومن معه أن يعلموا أن الطريق طويل والمفاوز شاقة. فيلتزموا بسياسة النفس الطويل والصبر الجميل، فإن الزمن جزء من العلاج، والعمل لله عز وجل ليس تجارة قصيرة الأجل، إما أن تربح ربحاً سريعاً أو يتركها أصحابها إلى تجارة أكثر رواجاً وأسرع ربحاً. علينا أن نتعسّف الطريق، فرؤية نصر الله وتمكنه لدينه في الأرض وإن كانت اعز أمنية لنا إلا أن ذلك لا ينبغي أن يجزنا إلى التسرع الذي إن لم يُعدْ بالركب القهقهري فإنه قد يوقفه سنوات أو يبطئ من سيره .. حسبنا أن نكون جسراً يعبر عليه من بعدنا، وحسبنا كذلك أننا نكون قد فزنا بموعود الله عز وجل بمشيئته وفضله وإن تأخرت الأخرى .. تأمل معي قول الله عز وجل وهو يصف التجارة الرابحة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصف: 10 - 12] نعم .. هذا هو الربح وتلكم هي الغاية، ثم تأمل وتدبر وصف الله للنصر الذي نحبه .. {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} (¬1) إلا أنه بشرى الله ووعده الذي ¬

_ (¬1) الصف: 13.

لا يتخلف {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (¬1). فهلمّ يا أخي إلى العمل .. ضع يدك في يدي ولنشد عليهما سويًّا ولا تنس أن العمر يا أخي قصير، والأيام معدودة، والموت قريب فحاول اللحاق بالركب فإن من جدّ وجد، وليس من سهر كمن رقد، وهذا الموت منك قيد شبر الشابر وإن سلع المعالي غاليات الثمن (¬2). عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ» (¬3). ... ¬

_ (¬1) الصف: 13. (¬2) من كلام الإمام حسن البنا رحمه الله. (¬3) رواه الترمذي وقال: حديث حسن -وأدلج: إذا سار من أول الليل.

خاتمة ودعاء

خاتمة ودعاء وبعد .... فيا أخي في الله .. ها هي بعض معالم الطريق إلى الله قد اتضحت أمامنا، ولم يبق إلا استنهاض الهمة، وتقوية الإرادة، واستنفاذ الجهد، لتصبح البداية قوية بمشية الله، فكما قالوا من كانت بدايته محرقة كانت نهايته مشرقة. ولنعمل يا أخي على أن نُري الله منا صدق التوجه إليه، وحب العمل من أجله، ولنُقبل عليه متذلّلين خاشعين، علّه -سبحانه وتعالى- يتصدق علينا برحمته وفضله، فقد قال الله عز وجل وقوله الحق {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ .. } (¬1). ولنجتهد على أن يرى -سبحانه وتعالى- منا ذلاًّ وانكساراً وفقراً وحاجة له، فكلما تحققنا بمعاني العبودية لله، أمدنا سبحانه بأوصاف ربوبيته، فلقد نصر الله عباده في بدر وهم أذلة {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} (¬2). ولنكثر من الدعاء فكما قال -صلى الله عليه وسلم- «الدعاء هو العباد» (¬3). ¬

_ (¬1) التوبة: 60. (¬2) آل عمران: 123. (¬3) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

وليكن دعاؤنا المضطر المكروب الذي لا خلاص له بعون مولاه. وهذه بعض الأدعية وفقني الله في جمعها، عساها تحرك -بعون الله- قلوبنا، وتطلق ألسنتنا بالدعاء إلى الله بما هو أهله. ولا تنساني يا أخي في صالح دعائك، فالذنب كبير، والداء مستحكم ولا حول ولا قوة إلا بالله. اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت .. الحنان المنان، بديع السماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام، أنت الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كُفُوًّا أحد. اللهم صلّ على محمد عبدك ونبيك ورسولك عدد ما أحاط به علمك وخط به قلمك، وأحصاه كتابك. - عزَّ جارك، وجل ثناؤك وتقدست أسماؤك وعظمت نعماؤك .. - يا نور السماوات والأرض .. يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام. - يا صريخ المستصرخين ويا غوث المستغيثين، ويا منتهى رغبة الراغبين، والمفرج عن المكروبين، والمروّح عن المغمومين ويا مجيب دعوة المضطرين ويا من تكشف السوء .. ويا أرحم الراحمين ويا إله العالمين .. - يا رجائي عند مصيبتي، ويا عدتي عند شدتي، ويا مؤنسي

عند وحشتي، ويا صاحبي عند وحدتي ... - يا حبيب كل غريب، ويا أنيس كل كئيب .. انقطع الرجاء إلا منك، وأغلقت الأبواب إلا بابك فلا تكلني إلى أحد سواك، وانقلني من ذلّ المعصية إلى عز الطاعة .. - إلهي .. خيرك إليّ نازل، وشرّي إليك صاعد .. أنت مع غنائك تتحبب إليّ بالنعم، وأنا مع فقري وفاقتي أتمقّت إليك بالمعاصي، وأنت في ذلك تسترني وتجبرني وترزقني .. - إلهي .. لا تكلني إلى نفسي طرفة عين فأهلك، ولا إلى أحد من خلقك فأضيع .. أنا عبدك، وابن عبدك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدْلٌ فيَّ قضاؤك. إن تعذب فأهل ذلك أنا، وإن تغفر وترحم فأنت لذلك أهل. - أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت .. إليك أشكو بدناً غُذيّ بنعمك، ثم توثب على معاصيك. - اللهم إنا نسألك بعزك وذلّنا، ثم وقوتك وضعفنا، وغناك عنا وافتقارنا إليك إلا رحمتنا يا أرحم الراحمين ... هذه نواصينا الخاطئة بين يديك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، عبيدك سوانا كثير وليس لنا سيّد سواك .. نسألك مسألة المسكين .. ونبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل وندعوك دعاء الخائف الضرير ..

دعاء من رغم لك أنفه، وخضعت لك رقبته، وذل لك قلبه وفاضت لك عيناه .. فاغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أعلنّا، وما أسررنا وما أنت أعلم به منا .. - إلهي .. ببابك أنخنا، ولمعروفك تعرضنا، وبكرمك تعلقنا، وبتقصيرنا اعترفنا، وأنت أكرم مسئول وأعظم مأمول فارحمنا اللهم رحمة تغنينا بها عن رحمة من سواك .. - اللهم لا تدعنا في غمرة، ولا تأخذنا على غرة، ولا تجعلنا من الغافلين .. - اللهم اجعلنا من عبادك الذين يحبونك وتحبهم، واجعلنا ممن أكرمت فأجزلت ثوابهم، واجعلنا يا رب ممن زحزحت عن النار أجسادهم .. - اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد ونسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك .. - اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك ويا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك، ولا تصرف قلوبنا إلى شيء صرفته عنا، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة .. - اللهم إنا نسألك الشهادة في سبيلك بعد طول عمر وحسن عمل، مقبلين غير مدبرين في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة .. - اللهم أرنا عز الإسلام بأعيننا، ومتعنا بالنصر وارزقنا الشهادة

يا رب العالمين .. - اللهم اكشف ما بأمتنا من سوء .. وأزح عنا وعن المسلمين في كل بقاع الأرض وطأة الطواغيت .. - اللهم إنا نجعلك في نحورهم .. فأنت ملاذنا ونصيرنا وظهيرنا وأنت حسبنا ومولانا ... - اللهم أرنا فيهم وفي أعداء الدين من اليهود والصليبيين والشيوعيين والعلمانيين ومن والاهم يوماً أسوداً .. يوم كيوم عاد .. اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك .. - اللهم إنهم لا يعجزونك اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر واجعلهم في الأرض أحاديث ومزقهم كل ممزق ... - اللهم انصر الإسلام والمسلمين نصراً مؤزراً .. نصراً كيوم بدر بجندك وأوليائك يا رب العالمين ... - اللهم حرر المسجد الأقصى على رايات الإيمان وصيحة التكبير .. وارزقنا فيه صلاة طيبة مباركة .. - اللهم انصر المجاهدين في كل أرض يذكر فيها اسم الله .. اللهم اكشف همّهم وادفع غمهم واجمع شملهم واجبر كسرهم وفك أسرهم وحقق بالصالحات آمالهم، واختم بالطاعات أعمالهم ... - اللهم وأسألك لي ولإخواني ولمن كتب هذا ولمن قرأه فوعاه وعمل به أن تجمعنا تحت ظل عرشك وأن تجعله خالصاً لوجهك .. تثقل به الميزان وتحقق به الإيمان، وتفك به

الرهان، وتخسأ به الشيطان. - اللهم هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التكلان .. ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم .. آمين آمين وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. - والحمد لله رب العالمين ***

§1/1