طريقك إلى تقوية إيمانك

أسماء بنت راشد الرويشد

تمهيد

تمهيد: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحابته وسلم تسليماً كثيراً وبعد: فإن من أهم المهمات وأوجب الواجبات تحقيق الإيمان وتكميله؛ إذ أن كل خير في الدنيا والآخرة متوقف على وجوده وصحته وكماله. قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}. من هنا شمر المشمرون وتنافس المتنافسون في تحقيق الإيمان وتكميله وتقويته، ومن أولئك سلف الأمة وصدرها الذين كانوا يتعاهدون إيمانهم ويتفقدون أعمالهم ويتواصون بينهم.

فقد كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول لأصحابه: "هلموا نزداد إيماناً" وكان معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه - يقول: "هلموا بنا نؤمن ساعة". وكان عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه - يقول في دعائه: "اللهم زدني إيماناً ويقيناً وفقهاً" فالإيمان يقوى ويضعف ويزيد وينقص ويبلى كما يبلى الثوب فيحتاج إلى تجديد، لذا كان السلف يتعاهدونه بالرعاية والمراقبة .. قال أبو الدرداء ـ رضي الله عنه -: "من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه، ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد إيمانه أم ينقص". لذلك كان لابد من الحديث عن الإيمان وأهمية تفقده وتكميله إذ هو المنة العظمى كما قال تعالى {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}. وبتكميل الإيمان تحصل سعادة الدنيا والآخرة، قال تعالى {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ

حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (97) سورة النحل. والإيمان شرط لقبول العمل قال الله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} (94) سورة الأنبياء. وعلى قدر تحصيل الإيمان وتحقيقه يحصل الثبات للإنسان أمام مغريات الفتن وتيارات المحن. قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} (27) سورة إبراهيم. وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ* فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌٍ} (173) سورة آل عمران.

ما هو الإيمان وما حقيقته؟

ما هو الإيمان وما حقيقته؟ الإيمان هو الإقرار والاعتراف المستلزم للقبول للأخبار والإذعان للأحكام. فلا يكفي في تحقيق الإيمان المعرفة وحدها أو التصديق القلبي فقط، فلو أن رجلاً أقر بالله تعالى وبصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يقبل ويستسلم لما بلغه من أحكام الإسلام فإنه كافر وليس بمؤمن. لأجل ذلك قال الله تعالى عن الكفار من أهل الكتاب {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} (20) سورة الأنعام. وعلى ذلك فالإيمان إقرار بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فأعمال الجوارح تبع لأعمال القلب. والإيمان يزيد حيث إقرار القلب وطمأنينته وسكونه. والإنسان يجد ذلك من نفسه، فتارة تدمع العين من تلاوة آية واحدة وتارة لا تدمع ولو طالت القراءة. وكذلك عندما يحضر مجلس

ذكر فيه موعظة فإنه يزداد إيمانه ويشعر بإقبال على الخير، وعندما توجد الغفلة يخف ذلك اليقين في قلبه والإقبال. وقد جاء في القرآن ما يثبت أن الإيمان يزيد وينقص قال تعالى {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} (31) سورة المدثر. وقال تعالى {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (124) سورة التوبة. قال الشافعي رحمه الله: "كان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدركناهم يقولون: الإيمان قول وعمل ونية ولا يجزئ واحد من الثلاث إلا بالآخر" .. نقل ذلك عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى. بينما هناك من يخطئ خطأ فاحشاً فيعتقد أن الإيمان وهو التصديق القلبي المجرد من قول اللسان وعمل الأركان، وذلك هو

في الأصل فكر الإرجاء الذي ما زال يفتك بالأمة والذي يقوم على مبدأ أن الإيمان الذي في القلب لا تؤثر فيه المعاصي ولا تنقص منه وأن العمل الصالح ليس شرطاً في صحة الإيمان، ومن صوره الواقعية في العصر الحاضر تبرير العاصي لمعصيته ودفع اللوم عنه بقوله: الإيمان في القلب والمهم هو عقيدة القلب وإيمانه. والبعض يقول: دينك في قلبك، فيفضلون بين الإيمان الذي في القلب بزعمهم وبين العمل الظاهر وأنه لا ارتباط بينهما في الزيادة والنقص أو الوجود والعدم. وفي ذلك إلغاء لمظهر الدين والشرع وإسراع في إزاحة الدين عن الواقع والحياة وغسل كل أثر طيب من آثار الإيمان ونفحاته، كما أن الانتماء إلى الفكر الإرجائي يشجع على الاسترسال في المعاصي والجرأة على المحرمات بحجة أنها لا تضر الإيمان الذي في القلب.

سؤال مهم جدا

قال الزهري: "ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على أهلها من الإرجاء". وقال شريك القاضي عن المرجئة "هم أخبث قوم، حسبك بالرافضة خبثا ولكن المرجئة يكذبون على الله". وهنا سؤال مهم جداً: ما هو الإيمان الذي يعصم صاحبه من عذاب الله تعالى؟ الجواب: ذلك هو الإيمان الواجب الذي يمنع صاحبه من التقصير في الواجبات والوقوع في المحرمات على وجه الإصرار والاستهانة. لذلك جاءت النصوص بنفي الإيمان عن أهل الكبائر ويراد بها انتقاء الإيمان الواجب ولا يراد به انتفاء الإيمان كله كما في رواية مسلم "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن .. ". وحديث "لا إيمان لمن لا أمانة له". ولعظم مكانة المؤمن عند ربه فلقد خصه الله جل وعلا بفضائل كبيرة في الدنيا ولأجر الآخرة أكبر وأعظم.

1 - معية الله تعالى للمؤمن {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (128) سورة النحل. فهو معهم بالرعاية والكفاية والنصر والتأييد والهداية والتوفيق والتسديد وغير ذلك. 2 - الدفاع عن المؤمن .. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} (38) سورة الحج. فيحفظهم من شر الأشرار وكيد الفجار بتأييده ونصره {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (47) سورة الروم. 3 - تسديد المؤمن وتوفيقه للهداية: قال تعالى: {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ} أي يخرجهم من الضلالة إلى الهداية ومن الجهالة إلى الرشد. 4 - وأما منزلة المؤمن في الآخرة: فهو رضوان الله وجناته ورؤية وجهه الكريم والأنس باستماع كلامه. وحسبنا أن نورد ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في بيان منزلة المؤمن في الآخرة: "إن أهل

الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم. قالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين". قال تعالى: {وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (72) سورة التوبة. وقد قسم ابن القيم القلوب إلى ثلاث أقسام على حسب ما يقوم بها من إيمان فقال رحمه الله تعالى:

القلوب ثلاثة

القلوب ثلاثة: قلب خال من الإيمان وجميع الخير، فذلك قلب مظلم قد استراح الشيطان من إلقاء الوساوس فيه، لأنه قد أتخذه بيتا ووطنا، وتحكم فيه بما يريد، وتمكن منه غاية التمكين. القلب الثاني: قلب قد استنار بنور الإيمان، وأوقد فيه مصباحه، لكن عليه ظلمة الشهوات وعواطف الأهوية فللشيطان هناك إقبال وإدبار ومجالات ومطامع، فالحرب دول وسجال، وتختلف أحوال هذا الصنف بالقلة والكثرة، فمنهم من أوقات غلبته لعدوه أكثر، ومنهم من أوقات غلبة عدوه له أكثر، ومنهم من هو تارة وتارة. القلب الثالث: قلب محشو بالإيمان قد استنار بنور الإيمان وانقشعت عنه حجب الشهوات، وأقلعت عنه تلك الظلمات، فلنوره في قلبه إشراق ولذلك الإشراق إيقاد لو دنا منه الوسواس احترق به، فهو

مظاهر ضعف الإيمان

كالسماء التي حرست بالنجوم، فلو دنا منها الشيطان يتخطاها رجم فاحترق. مظاهر ضعف الإيمان إن لضعف الإيمان في القلب علامات ظاهرة في أقوال العبد وأفعاله وسائر حاله، والشاهد على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب". وصلاح القلب وفساده يكون بقوة الإيمان وضعفه. وإليكم بعضا من تلك العلامات والمظاهر، وقد خصت بالذكر لخطورتها وكثرة شيوعها وإن كانت أكثر من أن تحصر فمنها: 1 - اقتراف الذنوب مع استصغارها والإصرار عليها: إن الاستهانة بالذنوب والتساهل مع النفس في مواقعتها علامة على ضعف الإيمان في القلب وقسوته.

فإصرار العاصي على الذنب ولو كان صغيرا علامة استهانته بالله الذي عصاه وضعف خوفه منه. بينما المؤمن قد يفرط منه معصية وقد تكون كبيرة من غير إصرار ولا يكون ذلك مؤشرا لضعف إيمانه؛ لأن إيمانه يدفعه لأن يتوب وينيب إلى الله تعالى. والنبي صلى الله عليه وسلم قد ربط بين المعصية وبين ضعف الإيمان بقوله "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن". لذا ينبغي على المؤمن أن يحتاط بالإيمان حتى من الشبهات ليكون في مأمن من الوقوع في المحرمات التي حذرنا من الوقوع فيها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه". وفي رواية البخاري

2 - التقاعس عن الطاعات والتثبيط دونها

"ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم، أوشك أن يواقع ما استبان". ومن الذنوب التي قد يستصغرها بعض الناس: إطلاق البصر في الحرام كمشاهدة الأفلام والمسلسلات وغيرها والكذب والغيبة والنميمة وعدم المبالاة في طرق الكسب والتجارة. وكذلك ذنوب الخلوات إذا غاب عن الرقيب البشري، إما في خيانة الأمانة أو ترك واجب، لكون الناس لا يرونه، أو ممارسة المحرمات الخفية التي يستحي من أن يراه الناس عليها، كإقامة العلاقات المحرمة، ونزع المرأة حجابها حين سفرها؛ لكونها ابتعدت عن مجتمعها وبلادها. فالله مسؤول أن يغيث قلوبنا بالإيمان وأن يعيذنا من المعاصي والفتن ما ظهر منها وما بطن. 2 - التقاعس عن الطاعات والتثبيط دونها: الميل إلى الراحة والملذات من علامات ضعف الإيمان، كما أنها من علامات المنافقين، كما قال عز وجل {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ

خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً}. وقد حذر من ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال: حذار حذار من أمرين لهما عواقب سوء: 1 - رد الحق لمخالفة الهوى، فإنك تعاقب بتقليب القلب ورد ما يرد عليك من الحق رأساً. 2 - التهاون بالأمر إذا حضر وقته، فإنك تعاقب بالتثبيط والإقعاد والكسل، فمن سلم من هاتين الآفتين فلتهنه السلامة. ومن صور ذلك تأخير الصلوات وخاصة صلاة الفجر والعصر وهجر كتاب الله والبخل بالمال عن الإنفاق في سبيل الله.

3 - التنافس على الدنيا

3 - التنافس على الدنيا: فمظهر التنافس على الدنيا والاشتغال بها والانخداع بزهرتها من علامات جهل العبد بحقيقتها وضعف إيمانه بالله والدار الآخرة، فمتى عظمت رغبة العبد في الدنيا وتعلق قلبه بها ضعفت رغبة العمل للآخرة ثم نقص الإيمان بحسب ذلك، قال ابن القيم "وعلى قدر رغبة العبد في الدنيا ورضاه بها يكون تثاقله عن طاعة الله وطلب الآخرة". أما أهل الإيمان فقد هانت عليهم الدنيا حتى أصبحت أهون من التراب الذي يمشون عليه كما قال الحسن البصري: "والله لقد أدركت أقواما كانت الدنيا أهون عليهم من التراب الذي تمشون عليه ما يبالون أشرقت الدنيا أم غربت، ذهبت إلى ذا أو ذهب إلى ذا" ومن الصور الانشغال بالدنيا الانشغال بجمع المال والانشغال بالمظاهر والمساكن وغير ذلك من أمور الدنيا انشغالا مفرطا يشغل عن أمور الدين ويوقع في المحرمات، ومن مظاهر

4 - الغفلة عن ذكر الله عز وجل

ذلك أيضا التشاحن على حطامها والتباغض لأجلها، يقول الحسن البصري "إذا نافسك أحد في الدين فنافسه وإذا نافسك أحد في الدنيا فألقها في نحره". قال تعالى {وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ}. 4 - الغفلة عن ذكر الله عز وجل: كما جاء في وصف ضعاف الإيمان ومرضى القلوب، وهم المنافقون، في قلة ذكرهم لله وطول غفلتهم {يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً}. قال عمر بن حبيب الحطمي: "الإيمان يزيد وينقص فقيل له: وما زيادته ونقصانه؟ فقال: إذا ذكرنا الله وحمدناه وسبحناه فتلك زيادته وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه". ومن صور ذلك هجر القرآن وترك أذكار أدبار الصلوات وإهمالها وقلة الصبر عليها، كذلك إهمال أذكار الصباح والمساء

5 - إهمال محاسبة النفس

وغيرها من مواطن ومناسبات الذكر وقلة الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم والغفلة عن الاستغفار والانقطاع عن مجالس العلم والدروس وغير ذلك كثير. 5 - إهمال محاسبة النفس: عدم مؤاخذتها في تقصيرها فضعيف الإيمان يواقع الذنب تلو الذنب بلا ندم ولا شعور بقبح فعله، وما ذلك إلا بإهماله لمحاسبة نفسه وتركها على جنوحها من غير تقويم وتأديب. لأجل ذلك أمر الله عباده المؤمنين بمحاسبة أنفسهم؛ لأن الإيمان الصحيح يقتضي أن يكون الإنسان محاسباً واقفا عليها بالمراقبة فناداهم بوصف الإيمان في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}. فالمؤمن قوي الإيمان لا يزال محاسبا نفسه على تقصيرها وتفريطها.

6 - عدم أو ضعف التأثر بالآيات والمواعظ

كما يصف الحسن البصري نفس المؤمن، فلا ترى المؤمن إلا وهو يلوم نفسه: ماذا أردت بفعل كذا؟ ماذا أردت بكلمة كذا؟ 6 - عدم أو ضعف التأثر بالآيات والمواعظ: وذلك من جراء قسوة القلب والكثافة التي تتابعت من توالي الذنوب والمعاصي كما قال تعالى {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. ولا سيما معاصي السمع والبصر واللسان، فإنها سبب سريع مباشر لقسوة القلب وضعف الإيمان ومن ثم تظهر شكوى عدم الخشوع في العبادة وضعف التأثر عند تلاوة آيات القرآن، وكذلك ضعف أثر المواعظ والذكر في القلب لأجل ذلك قال الله تعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى}. قال ابن الجوزي: استعن على صلاح قلبك بحفظ جوارحك.

7 - ظهور الأخلاق السيئة

ومن علامات ضعف الإيمان أن تمر الموعظة والنصيحة والمشهد المؤثر على قلب ضعيف الإيمان كما تمر قطرة الماء على الصفا بلا أثر وتأثر، ومن علامات ذلك جمود العين وعدم التأثر بآيات القرآن عند قراءتها وسماعها قال الله تعالى {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}. قال عثمان بن عفان رضي الله عنه "لو طابت قلوبنا لما ملت كتاب الله". 7 - ظهور الأخلاق السيئة: يظهر ضعف الإيمان من خلال الأخلاق السيئة كالكبر والحسد والعجب والأثرة حب الذات، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".

ومن ذلك عدم رعاية الأمانة الخيانة، لا إيمان لمن لا أمانة له. وكذلك ذهاب الحياء: "والحياء شعبة من الإيمان". وسوء الجوار "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت". كثرة الثرثرة والهذر "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" الوقوع في الغيبة "يا معشر من أمن بالله بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم

8 - الاستئناس بمجالس المعصية ومعاشرة أهلها

فإنه من يتبع عورة أخيه يتبع الله عورته حتى يفضحه في بيته". 8 - الاستئناس بمجالس المعصية ومعاشرة أهلها: قال قتادة: إنا والله ما رأينا الرجل يصاحب من الناس إلا مثله وشكله فصاحبوا الصالحين من عباد الله، والله لعلكم أن تكونوا معهم أو مثلهم. فخلطة أهل الغفلة وأهل الزيغ من أكبر أسباب مرض القلب وهبوط الإيمان ومظاهر نقصانه، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: مثل القلب مثل الطائر كلما علا بعد عن الآفات وكلما نزل احتوشته الآفات. قال صلى الله عليه وسلم "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل".

مظاهر قوة الإيمان

فأضر الناس على إيمان الشخص قرناء السوء، لأن الطباع مجبولة على التأثر والاقتداء بمن يصاحب فمجالسة الحريص على الدنيا وكثير الحديث عنها والاهتمام بها تحرك في النفس الحرص على الدنيا، ومجالسة المبتدعة وأهل الأهواء تردي إلى مهاوي البدع وهكذا. قال سفيان الثوري: ليس شيء أبلغ في فساد رجل وصلاحه من صاحب. مظاهر قوة الإيمان: فإنه كما تقرر سابقاً أن الإيمان يزيد ويقوى ولا شك أن ذلك يكون له علامات وظواهر جلية في أقوال صاحبه وأفعاله وسائر أحواله فالمؤمن الذي رسخ الإيمان في قلبه لا بد أن تتأثر بذلك جوارحه ويسري فيها مسرى الدم في العروق وتظهر آثار هذا الإيمان في أقواله وأفعاله وفي سلوكه وتصرفاته حتى في خواطره وأمنياته، ومن ذلك:

1 - سرعة الانقياد للشرع

1 - سرعة الانقياد للشرع: فأعظم آثار الإيمان في قلب المؤمن التزامه بشرع الله ومحافظته عليه وأن يكون واقفاً عند حدوده ونواهيه كما قال تعالى في وصف المؤمنين: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 51، 52]. بل قد نفى الإيمان عن أولئك الذين يتململون من أحكام الشريعة حتى ولو في بواطنهم فقال جل وعلا: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. وقد ضرب المؤمنون حقاً وهم الصحابة رضوان الله عنهم أروع الأمثلة في التزامهم أمر الله عز وجل ورسوله حتى قال قائلهم (لو أمرنا الله بقتل أنفسنا لفعلنا والحمد لله الذي عافانا) وحسبنا أن

2 - اجتناب لوثات الشرك

نذكر موقف نساء الأنصار حين نزلت آيات الحجاب وكيف كان سرعة انقيادهن واستجابتهنّ بلا تردد. وفي هذا تحدث عائشة رضي الله عنها: (إن لنساء قريش فضلاً وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار. وأشد تصديقاً لكتاب الله ولا إيماناً بالتنزيل لما نزلت سورة النور: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهم ما أنزل الله إليهم منها، يتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابته، فما فيهنّ امرأة إلا قامت إلى مرطها فاعتجرت به تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتاب فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن على رؤوسهنّ الغربان). 2 - اجتناب لوثات الشرك: إن من آمن أن الله عز وجل هو الخالق الرازق القوي القادر الذي بيده الأمر، علم يقيناً أن الخلق كلهم فقراء إليه وضعفاء من دونه لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ولهذا فإنه إذا سأل، سأل الله وإذا استعاذ استعاذ

بالله وإذا توجه ولجأ لجأ إلى الله وحده وإذا توكل، توكل على الله، علم يقيناً وآمن حقاً أن الله تعالى كاف عبده المؤمن فتوكل عليه واطمأن به كما قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}. حفظ قول ربه تصديقاً وإيماناً {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فسارع إلى ربه في ملماته وحوائجه. وإذا حلف، حلف بالله لأنه يعلم أن: (من حلف بغير الله فقد أشرك). لا يتطير ولا يتشاءم توكلاً على الله وحسن ظنه به ورضاءً بأمره (الطيرة شرك) والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}.

3 - مدافعة الوساوس الشيطانية

فحري بالمؤمن أن يطهر نفسه من الشرك المخرج من الملة وأن يتعاهد قلبه وعمله بالمحاسبة حتى يطمئن إلى السلامة من الشرك بأنواعه. وبالجملة فعمل المؤمن الحق ظاهراً وباطناً قائم على التوحيد سالماً من لوثات الشرك وأدرانه. 3 - مدافعة الوساوس الشيطانية: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق السماء؟ من خلق الأرض؟ فيقول: الله، فيقول: من خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل: آمنت بالله ورسوله". فالمؤمن إذا خطر بقلبه خواطر ووساوس شيطانية من الشك في الدين أو العبادة فعليه أن يدفعها مباشرة ولا يسترسل معها ولا يستسلم لها، بل يلجأ إلى الله تعالى في دفعها عنه حتى تزول عنه ويندحر الشيطان.

4 - الحب في الله واستشعار الأخوة للمؤمنين

4 - الحب في الله واستشعار الأخوة للمؤمنين: من أجلِّ آثار قوة الإيمان وصحته حب المؤمن لإخوانه في الدين ولا سيما أهل الطاعة والخير، فيحب لهم ما يحبه لنفسه "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". فهو يسعى في حاجاتهم ويشعر بمصابهم ويحزن لآلامهم حتى يكون وإياهم كالجسد الواحد "مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا". فهو ينزل إخوانه المؤمنين منزلة نفسه وأهل بيته، فما يحبه لنفسه وأهل بيته من حصول الخير ودفع الشر يحبه لهم،

5 - بغض أعداء الله ومجانبتهم

وما يكرهه لنفسه وأهل بيته من حصول الشر وفوات الخير يكرهه لهم كذلك، وهذه حقيقة الإيمان وعلامة كماله وعليها تقاس درجة الإيمان. وكم سطر المؤمنون الصادقون صوراً رائعة تتجسد من خلالها معاني الأخوة الإيمانية والحب في الله من سلف هذه الأمة إلى خلفها الصالح حتى عصرنا هذا. 5 - بغض أعداء الله ومجانبتهم: من أعظم مقتضيات الإيمان وآثاره التي يجب أن تظهر جلية في المؤمن ولاؤه لله عز وجل ورسوله وللمؤمنين {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ}. فالولاء لله هو: محبة الله ونصرة دينه ومحبة أهل طاعته ونصرتهم. والبراء هو: بغض أعداء الله ومجاهدتهم. كما قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ

6 - الخلق الحسن

أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ... } قيل إنها نزلت في أبي عبيدة عامر بن الجراح حين قتل أباه المشرك يوم بدر ولهذا قال عمر: لو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته. وقوله تعالى {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} أي من اتصف بأنه لا يواد من حاد الله ورسوله فهذا من كتب في قلبه الإيمان وزينه في بصيرته. 6 - الخلق الحسن: كما أن الإيمان قوة عاصمة عن الأخلاق الدنيئة، كذلك هو قوة دافعة إلى المكرمات والأخلاق الحسنة، وقد وضح النبي صلى الله عليه وسلم أن الإيمان القوي يولد الخلق الكريم حتما، وأن انهيار الأخلاق مرده إلى ضعف الإيمان كما مر معنا، وبحسب ضعف الإيمان يتفاقم الشر ويزداد الانهيار الأخلاقي. ومن ثم فإن الله تعالى إذا أراد أن يدعو عباده إلى الخير أو ينهاهم عن الشر كان يناديهم بوصف الإيمان الذي يقتضي

7 - الصمود في مواجهة الفتن

الاستجابة والسمع والطاعة لما يأمر به وينهى عنه، كقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ}. 7 - الصمود في مواجهة الفتن: قال الله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}. فالله جل وعلا يختبر صدق إيمان عباده ويظهر حقائق معادن قلوبهم في مواقف الاختبار بالفتن من خير وشر ونعمة ومصيبة كما قال تعالى {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}. فالمؤمن متسلح بسلاح الإيمان في سرائه وضرائه وشدته ورخائه، شامخا بدينه لا يتنازل عنه ولو قليلا، في مواقف الشهوات والمجاملات ثابت على أرض الإيمان لا تهزه أعاصير الأهواء والأمزجة ولا تغير موقفه فتنة الناس ومجاراتهم، غير آبه

بردود أفعالهم وأقوالهم، مستصحبا تقوى الله ومخافته حيثما كان في كل المواقف والأحوال. وهنا تظهر حكمة الله تعالى في توالي الفتن وكثرتها في آخر الزمان، وذلك لكثرة مدعي الإيمان المنطوين تحت لواء الإسلام وهم كغثاء السيل في الكثرة ولكنهم قلة في نصرة دينه وإعلاء كلمته والجهاد في مرضاته، فيأبى الله إلا أن يظهر الحقائق ويبتلي السرائر ويميز الخبيث من الطيب، كما قال تعالى: {مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}. أي على ما أنتم عليه في حال الرخاء وجريان الأمر على العادة وادعاء دعوى الإيمان، إذ لابد من الاختبار والابتلاء لتظهر النتيجة ويتميز الصادق من الكاذب والخبيث من الطيب {ليَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ}.

ونحن في هذا الزمان الذي يُحارب فيه الإسلام وأهله، وقد تكالبت عليهم الأمم المعادية كما تتكالب الأكلة على قصعتها، وما ذلك إلا من ضعف ضرب في قلوب كثير من المسلمين، إلا من تميَّز بصدق إيمانه وعزته بدينه ونصرته لعقيدته، في مواقف اتسمت بالصبر على التمسك بالدين والثبات عليه، مع كثرة المغريات والشهوات والشعارات المضللة، ومن صور ذلك ما نراه اليوم من تمسك بعض المسلمات بعفتهن وحجابهن وحفظهن لبيوتهن عزيزات مصونات في مقابل دعوات التحرر والتحضر والاختلاط بدعوى المشاركة في العطاء وإزالة التميز ضد المرأة، وغير ذلك من الدعوات الخطيرة المعاصرة التي اغتر بها الكثير من ضعاف الإيمان رجالا ونساء، فانساقوا وراءها مؤيدين ومطالبين ومطبقين.

أسباب زيادة الإيمان وتقويته

أسباب زيادة الإيمان وتقويته أولا: تعلم العلم النافع: وهو العلم المستمد من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من مسائل العقائد والحلال والحرام والفضائل والمعارف المتنوعة، فمن وفق لهذا العلم، فقد وفق لأعظم أسباب زيادة الإيمان، ومن تأمل نصوص الكتاب والسنة علم ذلك. قال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (54 سورة الحج). وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (11 سورة المجادلة). وفي الصحيحين من حديث معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من يرد الله به خيرا يفقه في الدين".

وفي المسند وغيره من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سلك طريقا يطلب فيه علما، سلك الله به طريقا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر". وفي الترمذي وغيره من حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، إن الله عز وجل وملائكته وأهل السموات والأرض، حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير". فهذه بعض ما ذكر من الآثار الحميدة والخصال الكريمة للعلم وأهله في الدنيا والآخرة.

قال الآجري في مقدمة كتابه أخلاق العلماء، إن الله عز وجل وتقدست أسماؤه اختص من خلقه من أحب فهداهم للإيمان، ثم اختص من سائر المؤمنين من أحب فتفضل عليهم فعلمهم الكتاب والحكمة، وفهمهم في الدين وعلمهم التأويل وفضلهم على سائر المؤمنين". وينبغي التنبيه إلى أن العلم ليس مقصودا لذاته بل هو وسيلة لأعظم الغايات وهو التعبد لله بالعمل قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ} (2 سورة الزمر). وكل ما ورد في فضل العلم إنما هو ثابت له من وجه ما هو مكلف به من العمل. وقد جاءت النصوص بالوعيد لمن لم يعمل بعلمه وأن المتعلم يُسأل عن علمه ماذا عمل به، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (3 سورة الصف).

قال الحسن البصري: العلم علمان: علم في القلب، وعلم على اللسان، فعلم القلب هو العلم النافع، وعلم اللسان هو حجة الله على عباده. بل إن الأعمال إنما تتفاوت في زيادتها ونقصها وحسنها وفضلها بل وقبولها وردها بحسب ما يقوم به صاحبها من العلم بها. كما قال ابن القيم رحمه الله: "والأعمال إنما تتفاوت في القبول والرد بحسب موافقتها للعلم ومخالفتها له فالعمل الموافق للعلم هو المقبول، والمخالف له هو المردود، فالعلم هو الميزان وهو المحك". والمؤمن لا بد له من علم بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم يكون يقينا له لا ريب عنده فيه ويكون سلاحا له ضد غارات الشبهات وتيارات الشهوات، لا سيما في هذه الأزمان التي كثرت فيها الفتن وتلاعبت بالناس الأهواء والآراء المجردة من الدليل، فلا نجاة للمؤمن بإيمانه ما لم يكن معه علم يدافع به عن إيمانه ويقويه.

1 - قراءة القرآن الكريم وتدبره

وعلى هذه فزيادة الإيمان الحاصلة من جهة العلم تكون من وجوه متعددة: 1 - من جهة خروج صاحبه في طلبه. 2 - جلوسه عليه في حلقة العلم والذكر ومذاكرة مسائله. 3 - زيادة معرفته بالله وشرعه. 4 - تطبيقه لما تعلمه. 5 - من حيث تعليمه الجاهل ما تعلمه. 6 - الصبر على تحصيله والدعوة إليه. فهذه جوانب متعددة يزداد بها الإيمان بسبب العلم وتحصيله. أما أبواب العلم الشرعي التي يحصل بها زيادة الإيمان فكثيرة جدا منها: 1 - قراءة القرآن الكريم وتدبره: لا شك أن أعظم أبواب العلم دراسة كتاب الله وتناوله بالفهم والتدبر، وبه يزداد الإيمان ويثبت ويقوى.

قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (52 سورة الأعراف). وقد أخبر سبحانه أنه إنما أنزله ليدبر العباد آياته فقال: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (29 سورة ص). وقال تعالى مؤكدا أن القرآن يزيد المؤمنين إيمانا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (2 سورة الأنفال). قال ابن القيم رحمه الله: فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها، فإذا قرأه بتفكر حتى مر بآية وهو محتاج إليها في شفاء قلبه كررها ولو مئة مرة، ولو ليلة، فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب، وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن.

وقال محمد رشيد رضا "واعلم أن قوة الدين وكمال الإيمان واليقين لا يحصلان إلا بكثرة قراءة القرآن واستماعه مع التدبر، بنية الاهتداء به والعمل بأمره ونهيه". وكما بينا في شأن العلم سابقا فإن زيادة الإيمان التي تكون بقراءة القرآن لا تكون إلا لمن اعتنى بفهمه وتطبيقه والعمل به، وإلا فكم من قارئ للقرآن والقرآن حجيجه وخصيمه يوم القيامة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "والقرآن حجة لك أو عليك". وقال قتادة: "لم يجالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان". وكثير من الناس من اشتغل بحفظ القرآن وحسن ترتيله مع إهمال جانب العمل به والتخلق بأخلاقه فيصف الحسن البصري هذا النوع من الناس فيقول:

"أما والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: لقد قرأت القرآن كله فما أسقطت منه حرفا، وقد والله أسقطه كله، ما يُرى له القرآن في خُلق ولا عمل، حتى إن أحدهم ليقول إني لأقرأ السورة في نفس، والله ما هؤلاء بالقراء ولا العلماء ولا الحكماء ولا الورعة، متى كانت القراء مثل هذا لا أكثر الله في الناس مثل هؤلاء". وليس هذا اعتراض على الاعتناء بتجويد القرآن وحفظه وحسن أدائه وإنما هو اعتراض على التكلف في ذلك دون الاهتمام بإقامة الأوامر والأحكام التي نزل بها القرآن. فلابد للعبد عند قراءة القرآن أن يجمع قلبه وهمته على فهمه والعمل به وأن يستشعر أن هذا القرآن إنما هو خطاب من الله تعالى له، كما قال الحسن البصري: "إن من كانوا قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل ويتفقدونها بالنهار".

2 - العلم بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى

وهنا يعطينا ابن القيم قاعدة جليلة في كيفية الاستفادة والانتفاع من قراءة القرآن فيقول: "إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه وألق سمعك واحضر حضور من يخاطبه من تكلم به سبحانه منه إليه فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله". وإذا ظفر العبد بالعلم والعمل معا زاد إيمانه وثبت ثبوت الجبال الراسيات- نسأل الله من فضله. 2 - العلم بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى: فإن معرفة أسماء الله وصفاته الواردة في الكتاب والسنة والتي تدل على كمال الله المطلق من كافة الوجوه، من أعظم الأسباب التي تحصل بها قوة الإيمان وكمال اليقين. وتعلم أسماء الله وصفاته والاشتغال بمعرفتها من أعظم أبواب العلم التي تحصل بها زيادة الإيمان، فشرف العلم بحسب شرف معلومه وشدة الحاجة إليه. إذ لا سبيل إلى معرفة الرب سبحانه إلا بمعرفة أسمائه ونعوته التي تعرف بها سبحانه إلى عباده من الكتاب والسنة الصحيحة، أما ما سوى هذين المصدرين

فلا يجوز الأخذ منه، لأن أسماءه سبحانه وصفاته كلها توقيفية لا تثبت لله إلا بدليل من القرآن أو السنة الصحيحة. وبحسب معرفة العبد بربه تكون محبته له وخضوعه وطاعته، وبالتالي إيمانه ويقينه. فأسماء الرب عز وجل ونعوته تثمر في القلب العبودية والخضوع، إذ لكل صفة عبودية خاصة يشهدها القلب ثم يظهر مقتضاها على الجوارح. وبيان ذلك أن العبد إذا علم بتفرد الرب تعالى بالضر والنفع والعطاء والمنع والخلق والرزق والإحياء والإماتة؛ فإن ذلك يثمر له عبودية التوكل عليه باطنا، ولوازم التوكل وثمراته ظاهراً. وإذا علم بأن الله سميع بصير عليم لا يخفى عليه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فإن هذا يثمر له حفظ اللسان

والجوارح وخطرات القلب عن كل ما لا يرضي الله، وأن يجعل تعلقات هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه. وإذا علم بأن الله غني كريم بر رحيم واسع الإحسان، فإن هذا يوجب له قوة الرجاء، وهذا يثمر أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه. وإذا علم بكمال الله وجماله أوجب له هذا محبة خاصة وشوقا عظيما إلى لقاء الله، وهذا يثمر أنواعاً كثيرة من العبادة. فلا بد للعبد أن يعرف أن له ربا قد اجتمعت له صفات الكمال ونعوت الجلال، منزه عن المثال، بريء من النقائص والعيوب، له كل اسم حسن وكل وصف كمال، فعَّال لما يريد، فوق كل شيء، ومع كل شيء، وقادر على كل شيء، ومقيم لكل شيء، آمر ناه، متكلم بكلماته الدينية والكونية، أكبر من كل شيء، وأجمل من كل شيء، أرحم الراحمين، وأقدر القادرين، وأحكم الحاكمين، فالقرآن أنزل لتعريف عباده به، وبصراطه الموصل إليه، وبحال السالكين بعد الوصول إليه.

وكما قال ابن القيم رحمه الله تعالى: من أعز أنواع المعرفة: معرفة الرب سبحانه بالجمال، وأتمهم معرفة من عرفه بكماله وجلاله وجماله سبحانه، ليس كمثله شيء في سائر صفاته، ويكفي في جماله أنه لو كشف الحجاب عن وجهه لأحرقت سبحاته ما انتهى إليه بصره من خلقه، ويكفي في جماله أن كل جمال ظاهر وباطن في الدنيا والآخرة من آثار صنعه فما الظن بمن صدر عنه هذا الجمال، ويكفي في جماله أن لنور وجهه أشرقت الظلمات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الطائف "أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة". وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه "ليس عند ربكم ليل ولا نهار نور السموات والأرض من نور وجهه فهو سبحانه نور السموات والأرض، ويوم القيامة إذا جاء لفصل القضاء تشرق الأرض بنوره".

ثم قال رحمه الله "وجماله سبحانه على أربع مراتب: جمال الذات، وجمال الصفات، وجمال الأفعال، وجمال الأسماء، فأسماؤه كلها حسنى وصفاته كلها صفات كمال، وأفعاله كلها حكمة ومصلحة وعدل ورحمة، وأما جمال الذات، وما هو عليه محجوب بستر الرداء والإزار، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري". قال ابن عباس: "حجب الذات بالصفات وحجب الصفات بالأفعال فما ظنك حجب بأوصاف الكمال وستر بنعوت العظمة والجلال. فإن العبد يترقى من معرفة الأفعال إلى معرفة الصفات، ومن معرفة الصفات إلى معرفة الذات، فإذا شاهد شيئا من حسن

جمال الأفعال استدل به على جمال الصفات، ثم استدل بجمال الصفات على جمال الذات" انتهى كلامه بتصرف. فلا شك بعد ذلك في أن العبد كلما تعرف إلى ربه زاد حبه وإيثاره لمرضاته، وبالتالي زاد إيمانه ويقينه، كما أن معرفة الله تقوي في العبد جانب الخوف والمراقبة كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "أي إنما يخشى الله حق خشيته العلماء العارفون به، لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى، كلما كانت المعرفة به أتم والعلم به أكمل، كانت الخشية له أعظم وأكثر". فمن كانت معرفته بالله كذلك، كان من أقوى الناس إيمانا وأحسنهم إجلالاً ومراقبة لله عز وجل، وأكثرهم طاعة وتقربا إليه وبعداً عن معاصيه ومساخطه. قال بشر رحمه الله تعالى: "لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى ما عصوه عز وجل".

3 - دراسة سنة النبي صلى الله عليه وسلم والتأمل في سيرته

3 - دراسة سنة النبي صلى الله عليه وسلم والتأمل في سيرته: من أسباب زيادة الإيمان النظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، والتأمل فيما ذُكر من أفعاله ونعوته الطيبة وشمائله الحميدة؛ إذ هو المبعوث بالدين القويم رحمة للعالمين وإماماً للمتقين وقدوة للمؤمنين .. ومن درس السيرة وتأمل في نعوت وصفات النبي صلى الله عليه وسلم التي جاء ذكرها في الكتاب والسنة وكتب السير، فقد استكثر لنفسه من الخير وانتفع به غاية الانتفاع؛ إذ أن هذا من أعظم ما يقوي محبته صلى الله عليه وسلم في قلب المسلم. وزيادة المحبة له صلى الله عليه وسلم تورث المتابعة والعمل الصالح اللذين يزيدان في إيمان العبد، فكان هذا من أعظم أبواب وسبل الهداية. وقد ذكر ابن القيم رحمه الله، أن للهداية أسباباً متعددة، وطرقاً متنوعة، وهذا من لطف الله بعباده، لتفاوت عقولهم ومداركهم وميولهم وطباعهم، وذكر من هذه الأسباب تأمل حال وأوصاف النبي صلى الله عليه وسلم وأن هذا سبب لهداية بعض الناس، فقال رحمه الله "ومنهم من يهتدي بمعرفته بحاله صلى الله عليه وسلم وما فُطر عليه من

كمال الأخلاق والأوصاف والأفعال، وأن عادة الله أن لا يخزي من قامت به تلك الأوصاف والأفعال، لعلمه بالله ومعرفته به، وأنه لا يخزي من كان بهذه المثابة، كما قالت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها له صلى الله عليه وسلم: "أبشر لن يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق". قال الشيخ السعدي- رحمه الله-: "فمعرفته صلى الله عليه وسلم توجب للعبد المبادرة للإيمان ممن لم يؤمن، وزيادة الإيمان ممن آمن به". إلى أن قال: "ولهذا كان الرجل المنصف الذي ليس له إرادة إلا اتباع الحق، مجرد ما يراه ويسمع كلامه يبادر إلى الإيمان به صلى الله عليه وسلم ولا يرتاب في رسالته، بل كثير منهم مجرد أن يرى وجهه الكريم يعرف أنه ليس بوجه كذاب". ويكفي أن الرب عز وجل أقسم على كمال هذا الرسول وعظمة أخلاقه وأنه أكمل مخلوق بقوله: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا

4 - قراءة سيرة سلف هذه الأمة

يَسْطُرُونَ* مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ* وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ* وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} سورة القلم (1 - 4). وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وأجمل الناس، وأشجع الناس". وحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً، وإنه كان يقول: خياركم أحسنكم أخلاقاً" وغيرها مما يطول ذكره ويعظم في النفس أثره. 4 - قراءة سيرة سلف هذه الأمة: فإن سلف هذه الأمة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وتابعيهم بإحسان أهل الصدر الأول من الإسلام هم خير القرون، أهل المشاهد والمواقف العظام، وهم حملة هذا الدين ونقلته لمن جاء بعدهم من العالمين، أقوى الناس إيماناً وأرسخهم علماً، يخص منهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين خصهم الله برؤيته وأكرمهم بسماع صوته فأخذوا

الدين منه غضاً طرياً، فاستحكمت به قلوبهم، واطمأنت به نفوسهم وثبتوا عليه ثبوت الجبال. ويكفي في بيان فضلهم أن الله خاطبهم بقوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} والمعنى: أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم". من تأمل حال أولئك الأخيار وقرأ سيرهم وعرف محاسنهم، وما كانوا عليه من خلق عظيم، وتعاهد للإيمان، وإقبال على الطاعة، وتنافس في فعل الخير، وشدة تعبدهم لله، وإعراضهم عن الدنيا الفانية، وإقبالهم على الآخرة الباقية، فإن المتأمل سيقف من خلال ذلك على قصور نفسه وضعف همته وعلى قلة زاده وسيكون ذلك شاحذاً لهمته مقوياً لعزيمته داعياً إلى صدق التأسي بهم. ولو لم يحصل من ذلك كله إلا حصول

ثانيا: التأمل في آيات الله الكونية

محبتهم في القلب ورغبة التحلي بصفاتهم لكفى لأنه كما جاء في الحديث: "المرء يحشر مع من أحب". وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ومن كان بهم أشبه كان ذلك فيه أكمل" و"من تشبه بقوم فهو منهم". وموضع التأمل والبحث في سير وأخبار هؤلاء الأخيار يكون في: كتب التاريخ والسير، والزهد، والرقائق، والورع وغيرها. ثانياً: التأمل في آيات الله الكونية: فالتأمل في آيات الله الكونية ومخلوقاته العظيمة من سماء وأرض، وليل ونهار، وجبال وأشجار وبحار وأنهار، وغير ذلك مما لا يحصى، مما خلق الباري عز وجل وأودع في هذا الكون الفسيح، فإن من تأملها وأمعن النظر وأجال الفكر فيها، يعود عليه ذلك بالنفع وتقوية الإيمان وتثبيته؛ لأن التفكر الذي حقيقته النظر

والاعتبار يكون به الإدراك الواعي لوحدانية الله وعظيم ملكه وكمال قدرته، يفجر فيقلب العبد ينابيع الإيمان وتعظيم الله وإجلاله، وينبهه إلى كثرة نعمه وآلائه. وكذلك فإن من وراء التفكر الواعي بأحوال الناس والنفس والدنيا وسرعة زوالها وانقضائها، وفي الصفات المهلكة والصفات المنجية، يكون الاعتزاز بالله وحده والذل لوجهه سبحانه والترفع عن الهوان لغيره، وإحياء الجوانب الفاضلة والحسنة في القلب وإزهاق النوازع الخبيثة والرديئة، ويقوي الرغبة فيما عند الله والدار الآخرة. وكان سفيان بن عينيه يقول: "إذا المرء كانت له فكرة ففي كل شيء له عبرة" .. ومما يُربى في النفس فضيلة التفكر، دعوة القرآن إلى النظر في آيات الله، ومفعولاته التي هي مخلوقاته وآثار صنعه، والتي هي أعظم دليل على وحدانيته وتفرده، فقال الله تعالى في سورة الحشر {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}.

وربط بين التفكر والعبرة وبين مواطنها المتعلقة بما خلق الله وأبدع في كونه من أشياء داعية إلى توحيده وخشيته فيقول في سورة النحل: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ} (66) سورة النحل. ويقول في سورة النور: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ}. وكما قال الشاعر: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد وكأن التفكر لصاحبه رائد يهديه إلى طريق ربه ويحول بينه وبين الانصراف عنه. وإذا كان التفكر بهذه المنزلة، وثمرته بتلك المكانة، فالمصيبة كبيرة حين يحرم الإنسان ذلك الجانب من العبادة، فالذي يمر على الآية العظيمة والخلق الباهر والعبرة الموقظة دون أن يدركها أو يتأثر بها أو يعتبر عندها، دال على تجمد تفكيره وإدراكه وتبلد شعوره وإحساسه، ويكون بمنزلة من

فقد العقل أو البصر أو كما وصفهم الرب عز وجل {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} قال جلا وعلا: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ} (146) سورة الأعراف. وقد ذكر الحسن أن معنى الصرف هنا هو أن الله جل جلاله يمنع هؤلاء الأشقياء من التفكر في أمر الله عز وجل. وقد يسأل سائل عن طريق التفكر وكيف الوسيلة إلى تحقيقه، وجواب ذلك أن التفكر هو عمل قلبي تأتي الجوارح تبعاً له، وعبادة تحتاج إلى نية وبذل وجهد وقصد، ثم إنه يأتي بحمل النفس على ذلك والمحاولة وتكرار ذلك، لأن التكرار يورث التعود، ويعاون على التفكر الصمت والسكون والخلوة بالنفس

حتى يسبح الفكر في آفاق التذكر والتدبر بلا شواغل ولا قواطع، كانتهاز فرصة الذهاب إلى رحلات البر أو البحر أو الصعود إلى سطح المنزل، والتفكر في بديع صنع السماء، وكذا يفتش في عجيب صنع نفسه وتغير مراحله وأحواله، وقد سئل أعرابي: بما عرفت ربك؟ فرد بجواب المتفكر: بنقض العزائم وصرف الهمم. وهذا هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوجه الانتباه إلى التفكر والاعتبار بأحوال الخلق وضعفهم ونهايتهم وحقارة الدنيا وسرعة انقضائها فيقول: "أولستم ترون أهل الدنيا يمسون ويصبحون على أحوال شتى، فميت يبكى، وآخر يعزى، وصريع مبتلى، وعائد يعود، وآخر بنفسه يجود، وطالب الدنيا والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه، وعلى أثر الماضي يمضي الباقي".

ثالثا: الاجتهاد في الأعمال الصالحة

ولكن ليس كل صمت يؤدي إلى فضيلة التفكر؛ فقد يصمت الإنسان في غفلة وبلادة وشرود، لذلك قال الحسن: "من لم يكن سكوته تفكراً فهو سهو". ثالثاً: الاجتهاد في الأعمال الصالحة: فمن أهم أسباب زيادة الإيمان وأظهرها القيام بالأعمال الصالحة الخالصة لوجه الله تعالى والإكثار منها والمداومة عليها. فإن كل عمل يقوم به المسلم مما شرعه الله ويخلص نيته فيه يزيد في إيمانه؛ لأن الإيمان يزيد بزيادة الطاعات وكثرة العبادات. والأعمال الصالحة تنقسم من حيث متعلقها إلى ثلاثة أقسام: 1 - أعمال قلبية. 2 - أعمال قولية. 3 - أعمال فعلية. 1 - أما أعمال القلب فمنها: الإخلاص، والمحبة، والتوكل، والإنابة، والرجاء، والخوف، والرضا، والصبر، وغيرها من أعمال القلب. وهي في الحقيقة أصل الدين ورأس أمره؛ لأن الأعمال الظاهرة لا تقبل إن

خلت من الأعمال القلبية ولا عبرة بصلاح الظاهر مع فساد الباطن. مثلاً الأعمال كلها يشترط في قبولها الإخلاص لله عز وجل والإخلاص عمل قلبي، لذا لزم على كل مسلم أن يبدأ بالاعتناء بإصلاح قلبه وتحقيق تلك الأعمال فيه. ففي الصحيحين من حديث النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب". فإذا كان القلب سليماً ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يحبه الله، وخشية الله وخشية الوقوع فيما يسخط الله، صلحت تبعاً لذلك حركات جوارحه وانقادت لذلك الخير الذي في قلبه، بخلاف ما إذا كان القلب قد استولى عليه حب الهوى واتباع الشهوات وتقديم حظوظ النفس، فإن من كان كذلك فسدت حركات جوارحه تبعاً لما في قلبه.

والمقصود أن أعظم باعث للإيمان وأنفع مقوياته وأهم أسباب زيادته ونمائه هو إصلاح القلب بحب الله وحب رسوله وحب من يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وتطهيره مما يخالف ذلك ويناقضه. وجماع ذلك وتحقيقه بإشغال القلب بالفكر بما فيه صلاحه وفلاحه فيشغله بمعرفة ما يلزمه من توحيد الله وتعظيمه وحقوقه عز وجل، وتذكر الموت وما بعده من دخول الجنة أو النار، والتعرف على آفات القلوب وأعمالها المفسدة والتحرز منها، كالشرك بأنواعه والشك وتعظيم الخلق والحسد والرياء والعمل على طرح الإرادات التي تضره والعزم على الإرادات التي تنفعه، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان". ومعنى هذا أن كل حركات القلب إذا كانت كلها لله فقد كمل إيمان صاحبه.

2 - أعمال اللسان

لذلك كان أكمل المؤمنين إيماناً هم أهل المحبة الذين انعقدت قلوبهم على محبة الله عز وجل ومحبة ما يحبه وبغض ما يبغضه، وكذلك أهل التوكل الذين بلغوا أعلى قمة الإيمان لذلك العمل القلبي فأدخلهم بعد رحمة الله الجنة بغير حساب، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم في صفتهم "وعلى ربهم يتوكلون". 2 - أعمال اللسان: كذكر الله عز وجل وحمده والثناء عليه وقراءة كتابه والصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم والاستغفار والدعاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله .. وغير ذلك من الأعمال التي تكون باللسان .. فلا شك أن القيام بها والمداومة عليها والإكثار منها من أعظم أسباب زيادة الإيمان. قال الشيخ السعدي - رحمه الله: ومن أسباب دواعي الإيمان الإكثار من ذكر الله كل وقت، فإن ذكر الله يغرس شجرة الإيمان في القلب، ويغذيها وينميها، وكلما ازداد العبد ذكراً لله قوي

إيمانه، كما أن الإيمان يدعو إلى كثرة الذكر، فمن أحب الله أكثر من ذكره، ومحبة الله هي الإيمان بل هي روحه. وقد ورد في الكتاب والسنة نصوص كثيرة في الأمر بالذكر والحث على الإكثار في الأمر بالذكر والحث على الإكثار منه بما يبين أهميته قال تعالى {وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ}. وقال تعالى {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأرضاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: وما ذلك يا رسول الله؟ قال: ذكر الله".

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تبارك وتعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ... " وغيرها من النصوص الدالة على فضل الذكر وأهميته، وفضل الاشتغال به. فإن أعرض الإنسان عن ذلك ولم يشغل لسانه بذكر الله عز وجل، اشتغل لسانه بغير ذلك من اللغو والخوض الباطل والغيبة والفحش؛ لأن العبد لابد له أن يتكلم، فإن لم يتكلم بذكر الله تعالى وذكر أوامره تكلم بهذه الأمور. قال ابن القيم: "فإن اللسان لا يسكت ألبتة، فإما لسان ذاكر وإما لسان لاغ، ولابد من أحدهما، فها هي النفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، وكذلك القلب، إن لم تسكنه محبة الله عز وجل، سكنته محبة المخلوقين ولابد، وهذا اللسان، إن لم تشغله بالذكر، شغلك باللغو، وهي عليك ولابد، فاختر لنفسك إحدى الخطتين، وأنزلها في إحدى المنزلتين".

فالإيمان يزيد من حيث القول؛ فإن من ذكر الله عشر مرات ليس كمن ذكر الله مئة مرة، فالثاني أزيد بكثير. ثم إن من أعظم العبادات القولية التي تزيد في الإيمان الدعاء والدعوة إلى الله، ولأهمية هذين الأمرين ولعظم نفعهما في زيادة الإيمان لزم الحديث عنهما: - أما الدعاء فهو من أقوى الأسباب لتقوية الإيمان؛ لأنه في حقيقته هو العبادة كما قال صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة". فالعبد عندما يتوجه إلى ربه بالدعاء فإن ذلك يدل على ما في القلب من الثقة بالله وحسن الظن به، وفيه أيضاَ تظهر عبودية الافتقار إلى الله والذل والخضوع له، وكلما حقق ذلك أكثر كان إلى الله أقرب. قال صلى الله عليه وسلم "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء".

وكذلك بالدعاء يتوجه العبد إلى ربه بطلب التوفيق إلى أسباب زيادة الإيمان وتقوية اليقين لأن الله سبحانه هو مسبب الأسباب وميسر الأمور، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم". وتقدم معنا أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان يقول في دعائه "اللهم زدني إيماناً ويقيناً وفقهاً". - أما الدعوة إلى الله تعالى وإلى دينه ففيها يكمّل العبد نفسه وإيمانه ويكمَل غيره. كما أقسم الله تعالى بالعصر أن جنس الإنسان لفي خسر إلا من أتصف بصفات أربع: الإيمان والعمل الصالح اللذين بهما تكمل النفس، والتواصي بالحق الذي هو العمل النافع، والصبر على ذلك كله، وبهما تكمل الهداية للنفس وللغير. والدعوة إلى الله من أكبر مقويات الإيمان؛ لأن صاحبها يسعى إلى نصرة هذه الدعوة ويقيم الأدلة والبراهين لتحقيقها،

فالجزاء من جنس العمل، فكما سعى إلى تكميل العباد ونصحهم وتوصيتهم فإن الله يجازيه بتأييده بنور منه وقوة إيمان. وكما تصدى لنصره الحق فإن الله يفتح عليه الفتوحات العملية والإيمانية بمقدار صدقه وإخلاصه. قال تعالى: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}. وقال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ}. كما ينبغي للآمر الناهي الداعي إلى الله أن يلتزم الصدق والإخلاص، وأن يلتزم في دعوته بالحكمة والرفق، والصبر على المدعوين والعلم بما يدعوهم إليه، فإن تحققت فيه هذه الأوصاف أثمرت دعوته ونفعت بإذن الله، وكانت سبباً لقوة إيمانه، وقوة إيمان المدعوين.

3 - أعمال الجوارح

3 - وأما أعمال الجوارح: من صلاة وصيام وحج وصدقة وجهاد وغير ذلك من الطاعات، فهي كذلك من أسباب زيادة الإيمان، فالاجتهاد في القيام بالطاعات التي افترضها الله على عباده، وبالقربات التي ندب عباده إليها، والإتيان بها على أحسن الوجوه وأكملها، من أعظم أسباب قوة الإيمان وزيادته. قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ* إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ* أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ* الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1 - 11) سورة المؤمنون.

فهذه الصفات الثماني، كل واحدة منها تثمر الإيمان وتنميه، كما أنها من صفات الإيمان وداخلة في تفسيره. فحضور القلب في الصلاة، وكون المصلي يجاهد نفسه على استحضار ما يقوله ويفعله من القراءة والذكر والدعاء فيها، ومن القيام والقعود، والركوع والسجود، من أسباب زيادة الإيمان ونموه. وقد سمى الله الصلاة إيماناً بقوله: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} سورة البقرة (143). وقوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (45) سورة العنكبوت. فهي أكبر ناه عن كل فحشاء ومنكر ينافي الإيمان، كما أنها تحتوي على ذكر الله الذي يغذي الإيمان وينميه لقوله: {ولذكر الله أكبر}.

والزكاة كذلك تنمي الإيمان وتزيده، فرضها ونفلها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "والصدقة برهان" أي: على إيمان صاحبها، فهي دليل الإيمان، تغذيه وتنميه. والإعراض عن اللغو الذي هو كل كلام لا خير فيه، وكل فعل لا خير فيه، بل يقولون الخير ويفعلونه، ويتركون الشر قولاً وفعلاً، ولا شك أنه من الإيمان ويزداد به الإيمان. ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم إذا وجدوا غفلة أو تشعث في إيمانهم، يقول بعضهم لبعض "اجلس بنا نؤمن ساعة" فيذكرون الله، ويذكرون نعمه الدينية والدنيوية، فيتجدد بذلك إيمانهم. وكذلك العفة عن الفواحش خصوصاً فاحشة الزنا ولا ريب أن هذا من أكبر علامات الإيمان ومنمياته، فالمؤمن لخوفه مقامه بين يدي ربه {ونهى النفس عن الهوى} إجابة لداعي الإيمان.

ورعاية الأمانات والعهود وحفظها من علامات الإيمان، وفي الحديث "لا إيمان لمن لا أمانة له"، وإذا أردت أن تعرف إيمان العبد ودينه، فانظر حاله هل يرعى الأمانات؟ وهل يرعى الحقوق والعهود والعقود التي بينه وبين الله والتي بينه وبين العباد؟ فإن كان كذلك فهو صاحب دين وإيمان .. وإن لم يكن نقص من دينه وإيمانه بمقدار ما انتقص من ذلك. وختمها بالمحافظة على الصلوات على حدودها وحقوقها، وأوقاتها، لأن المحافظة على ذلك بمنزلة الماء الذي يجري على بستان الإيمان فيسقيه وينميه، ويؤتي أكله كل حين. وشجرة الإيمان محتاجة إلى تعاهد كل وقت بالسقي وهو المحافظة على أعمال اليوم والليلة من الطاعات والعبادات، وإلى إزالة ما يضرها من الصخور والنوابت الغريبة الضارة، وهو

العفة عن المحرمات قولاً وفعلاً فمتى تمت هذه الأمور حيا هذا البستان وزها، وأخرج الثمار المتنوعة. وبهذا البيان يتضح لنا شدة أثر الأعمال الصالحة في زيادة الإيمان، وأن القيام بها والإكثار منها سبب عظيم من أسباب زيادته. قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - ولزيادة الإيمان أسباب منها: فعل الطاعة فإن الإيمان يزداد به بحسب حسن العمل، وجنسه، وكثرته، فكلما كان العمل أحسن كانت زيادة الإيمان به أعظم، وحسن العمل يكون بحسب الإخلاص والمتابعة، وأما جنس العمل فإن الواجب أفضل من المسنون وبعض الطاعات أوكد وأفضل من البعض الآخر، وكلما كانت الطاعة أفضل كانت زيادة الإيمان بها أعظم، وأما كثرة العمل فإن الإيمان يزداد بها لأن العمل من الإيمان فلا جرم أن يزيد بزيادته.

فالصلاة إيمان، والحج إيمان، والصدقة إيمان والجهاد إيمان بشرط الإخلاص والمتابعة، ومجالسة أهل الخير ومرافقتهم إيمان، بل هو سبب عظيم من أسباب زيادة الإيمان لما يكون في مجالستهم من التذكير بالله تعالى والترغيب في رحمته وعفوه، والترهيب من سخطه وعذابه، وما في مجالستهم من تحريك بواعث التنافس في الخير ودفع العزائم والهمم إلى فعل الطاعات وترك المعاصي. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل". وكما بين الله تعالى أن القلوب تستفيد من مجالس الذكر ويحدث لها نشاطاً وهمه ويوجب لها الانتفاع والارتفاع، بخلاف مجالس اللهو والغفلة فإنها من أعظم أسباب نقص الإيمان.

ولهذا كان سلفنا الصالح أشد الناس عناية بمجالس الذكر والحرص عليها وأشدهم بعداً عن مجالس اللهو والغفلة. وسبب أخير نختم به هذه الأساليب، ينبغي العناية به وعدم إغفاله: وهو أن الأمور السابقة جميعها تتطلب مجاهدة للنفس وتوطينها على الإتيان بها وتحقيقها فالإيمان لا يأتي دفعة واحدة كما أنه لا يقف عن حد، بالإضافة إلى أن ذلك أيضاَ يستلزم محاسبة النفس على جميع ما من شأنه إنقاص الإيمان أو إضعافه والتوبة مما يقع منها وبالله التوفيق ..

الخاتمة

الخاتمة: وفي الختام أشير إلى بعض النماذج والتطبيقات العملية لزيادة الإيمان وفقنا الله جميعاً إلى العمل بها والثبات عليها وفتح لنا باب الاستزادة من كل خير، ومنها: 1 - المحافظة على الصلاة في أول وقتها. 2 - المحافظة على أذكار أدبار الصلوات ولزومها. 3 - المحافظة على أذكار الصباح والمساء وحفظها وعدم التهاون بها. 4 - المحافظة على الورد اليومي من القرآن. 5 - النظر في شيء من معاني القرآن والتفسير ولا سيما السور المكية التي يغلب عليها ذكر أصول الإيمان. 6 - الإكثار من تذكر الموت والاعتبار بالصحة والعافية ومهلة الحياة. 7 - التصدق بشيء من المال وعدم الغفلة عن ذلك. 8 - الحرص عل قيام الليل ولو قليلاً.

9 - المشاركة في حلق الذكر والمحافظة على حضورها وعدم الانقطاع عنها. 10 - الحرص على الخلوة بالنفس ومحاسبتها والتعرف على تقصيرها وذلك كل يوم أو كل ليلة ثم مجاهدتها في الوصول بها إلى مستوى كمالها وسلامتها. 11 - سماع المواعظ الإيمانية بشكل دوري لا ينقطع مع قراءة كتب السير والرقائق والزهد.

§1/1