طريقة كمية لدراسة معاجم التراجم الإسلامية في العصور الوسطى

رجاردو بليت

مقدمة

مقدمة ... تقديم بقلم د/ أكرم ضياء العمري رئيس المجلس العلمي الحمد لله حق حمده والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وأصحبه ومن اتبعه إلى يوم الدين. أما بعد: فقد اطلعت على هذا البحث الذي كتبه الأستاذ/ رجارد بليت باللغة الإنكليزية ونشره في مجلة الشرق الاقتصادي والاجتماعي في سنة 1970م بعنوان (Aquantitative approach to medieval muslim biographical dictionaries.) وقد أعجبتني النتائج الجريئة التي وصل إليها من خلال استخدام الطرق الإحصائية في دراسة تراجم رواة الحديث في نيسابور التي ضمها كتابا الحاكم النيسابوري (ت405هـ) وعبد الغافر الفارسي (ت529هـ) وقد تبدو بعض الملاحظات متعسفة، ولكن منهج البحث بين جدوى استخدام الطرق الكمية في

الدراسة التاريخية أحيانًا وخاصة في النواحي الاجتماعية والاقتصادية التي نحس بفقر مصادرنا فيها، في حين تتضخم فيها الجوانب السياسية والأدبية. فقد تمكن الباحث ببراعة من الوصول إلى الطرق المسلوكة نحو نيسابور في القرون الهجرية الخمسة الأولى وحجم حركة النقل عليها من خلال الدراسة الكمية لنسبة العلماء إلى المدن توصل إلى متوسط العمر العلماء في تلك الحقبة وهو 75 سنة ميلادية. وقد استعان الباحث بالرسوم البيانية، وحاول مطابقة النتائج الإحصائية بالمعلومات التاريخية التي تقدمها كتب التاريخ العام. موضحا أثر الأحداث السياسية على النشاط الاقتصادي وخاصة حركة النقل البري من نيسابور وإليها، وظهور قوة مدن أخرى تنافسها سياسياً واقتصادياً مثل بخارى في عهد السامانيين بالإضافة إلى أثر تنامي استقلال خراسان عن الخلافة العباسية ببغداد مما يضعف حركة التجارة بين المركزين. مع الإشارة إلى أثر الصراع بين السامانيين والبويهيين والغزنويين والسلاجقة على حركة النقل والتجارة في المنطقة. ونظراً للجدة في منهج المؤلف في نطاق الدراسات التاريخية العربية وللطرافة في نتائج البحث مهما بدا فيها من

تعسف أحياناً فقد اقترحت على الأستاذ الفاضل/ شاكر نصيف العبيدي القيام بترجمة هذا البحث إلى اللغة العربية فقام بذلك مشكورًا وطلب مني أن أسجل بعض التعليقات الضرورية دفعًا للبس أو إيضاحًا لوهم ربما حصلا بسبب ثقافة الكاتب الغربية وعدم وضوح معالم الثقافة الإسلامية في ذهنه بدقة، وقد تبنى المجلس العلمي في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة نشر هذا البحث خدمة لمحبي الدراسات التاريخية، والله من وراء القصد.

طريقة كمية لدراسة معاجم التراجم الإسلامية في العصور الوسطى (بحث بقلم رجاردو. بليت، نشر بالإنكليزية في مجلة الشرق الاقتصادي والاجتماعي - المجلد الثالث عشر - الجزء الثاني - نسيان 1970م) . ترجمة شاكر نصيف لطيف العبيدي / الأستاذ المساعد في قسم اللغات الأوربية / كلية الآداب / جامعة بغداد.

مقدمة إن الغرض من هذا البحث هو استكشاف طريقة لدراسة معاجم التراجم الإسلامية في العصور الوسطى1 -والتي ستكون حسب اعتقادي- ذات فائدة عظيمة للمؤرخ الاجتماعي والاقتصادي. إن الأساس الذي تقوم عليه هذه الطريقة هو تركيب معاجم التراجم تلك وطريقة تأليفها، وبالطبع فإن هذه المؤلفات يختلف بعضها عن البعض الآخر اختلافاً كبيراً. إنها تختلف من حيث موضوعاتها الأساسية، فبعضها يدرج أسماء أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) وبعضها يذكر جميع العلماء المقيمين في مدينة معينة أو ينتمون إلى فرقة دينية معينة، وبعضها يذكر جميع الأشخاص الذين توفوا في قرن معين، وهكذا دواليك، كما أنها تختلف من حيث التنظيم فبعضها يتبع الحروف الهجاء بدقة وبعضها مقسم 1 إن مصطلح العصور الوسطى يرتبط بتقسيم التاريخ الأوربي، ويمثل حقبة مظلمة، وهي تقابل حقبة مضيئة في التاريخ الإسلامي، فينبغي عدم سحب ظل هذا المصطلح القاتم على التاريخ الإسلامي.

على أساس الفترات التاريخية المتعاقبة وبعضها مقسم إلى طبقات قائمة على أساس زمني1، ولكنها تستند في جوهرها على آراء شخصية، كما أنها تختلف أكثر من ذلك في المحتويات الأساسية للتراجم الفردبة، إن الصفة الوحيدة التي تشترك فيها جميع التراجم تقريبا في المسألة الأخيرة هي أنها قلما تتضمن معلومات عن سير الأفراد مما يعتبر ذا أهمية تاريخية، ومع ذلك فإن هناك صفات معينة تشترك بها هذه التراجم مما يجعلها ذات قيمة بالنسبة للمؤرخ، إن الصفتين المهمتين من هذا النوع هما توفر كمية من المعلومات المتعلقة بالسير القياسية نسبياً ودرجة من العشوائية في اختيار الأشخاص الذين تتضمنهم الكتب، ولا نحتاج إلى جهد لإثبات النقطة الأولى فنظرة عابرة في كتاب بروكلمان (تاريخ الأدب العربي) تكفي لإقناع أي شخص بأن عدد التراجم الشخصية الموجودة قد تصل إلى مئات الألوف وربما الملايين، إلا أن النقطة الأخيرة أقل وضوحاً، ويمكن القول في هذا الوقت بأنه بينما يكون اختيار التراجم ليس بعشوائي كما هي الحالة في الطبقات الاجتماعية، نجد الأمر كذلك بكل تأكيد في الحالات الأخرى كما هي حال الأسماء الأولى. إن كتب التراجم تختلف -طبعا- بصورة كبيرة بالنسبة للطرق التي يظهر بها الاختيار العشوائي، إن هذه الصفحات جميعاً 1 ينبغي تفطن إلى أن الأساس الزمني للطبقات ليس محدداً، صحيح أن الطبقات اللاحقة تكون غالباً متأخرة زمنياً عن الطبقات السابقة، ولكن يوجد تداخل كبير بين الطبقات من الناحية الزمنية ما عدا كتاب الإسلام للذهبي، ففيه

بالطبع تمثل مؤشرات لنوع من معالجة الكمية أو الإحصائية وإن المقال الحاضر موجه إلى استكشاف هذا الخط من البحث. لم ينشر لحد الآن إلا القليل في هذا المضمار، إذ أن العلماء اعتادوا على استعمال كتب التراجم كما أراد لها مؤلفوها، أي كمصادر أو مراجع، والسبب في ذلك لا تصعب معرفته، إذا بدا أن الشاذ النادر من التراجم فقط يحتوي على معلومات ذات قيمة تأريخية، فمن الواضح كذلك أنه ليس بالإمكان أن نتعلم إلا النزر القليل عن طريق (دراسة الكمية) لجميع التراجم الشاذة. وهكذا فإن المسألة هي كيف يمكن أن نستفيد فائدة ذات معنى من هذا الضرب من الكتابة، والذي تكمن فيه حقاً فائدة كبيرة؟ في المرحلة الحالية للبحث في هذه الطريقة الكمية قد تكون الجهود معرضة لأن تثقل بصورة كبيرة بافتراضات تجعلها الطريقة تأملية إلى حد ما، من النادر ورود معلومات موثقة في مجال التاريخ الاجتماعي أو الاقتصادي في المصادر الإسلامية للقرون الوسطى مما يجعل من العسير إثبات النتائج التي يتوصل إليها بالوسائل الكمية، وهكذا تبقى هذه النتائج غير نهائية إلى أن يتم تطور وسائل البحث تطورًاً كاملاًً، ومع ذلك فإني أرى

أن لا بد من الشروع بالاستفادة من أعظم مصدر للمعلومات عن الشرق الأوسط في القرون لم يطرق لحد الآن.

الفصل الأول

الفصل الأول لقد رُجع إلى كتابين للتراجم في تهيئة هذا البحث وهما: (تاريخ نيسابور) لمحمد بن عبد الله البيع النيسابوري المتوفى في 405هـ والمعروف بالحاكم النيسابوري، و (السياق لتاريخ نيسابور) لعبد الغافر بن إسماعيل الفارسي المتوفى في 529هـ، إن المخطوطات الموجودة لهذين المؤلفين نشرت تصويراً في كتاب (تاريخ نيسابور) الذي حرره"د. ن فراى"، وهناك مخطوطة للمصدر الأول التي تزيد على معجم للقاموس الأصلي المتعدد الأجزاء، حيث لا يرد في أغلب كتب التراجم الكثيرة من المعلومات عن صاحب الترجمة إلا اسمه. أما المؤلف الثاني فيوجد في مخطوطتين كل منهما تحتوي على تراجم لا تحتويها المخطوطة الأخرى، إلا أن الظاهر أن المخطوطتين تحتويان فيما بينهما جميع التراجم التي تحتويها الأصل باستثناء عدد قليل. إن المؤلف الأخير كتب كاستمرار للمؤلف السابق. وهكذا فإن مبدأين مهمين للطريقة الكمية لهما أهمية مباشرة في أية دراسة لهذين المؤلفين: الأول هو أن الهيكل العام لمخطوطة الحاكم النيسابوري تقدم لنا اختيار محدداً واضح

المعالم للفكرة القائلة بإمكانية استخلاص معلومات نافعة من مجرد قوائم الأسماء. والثاني هو أن استعمال مؤلفين يعالجان نفس الموضوع ولكنهما يغطيان فترات زمنية مختلفة يختبر درجة إمكانية مقارنة كتب مختلفة للتراجم، وهذا لا يعني بأن هناك أي مبرر يدفعنا للاعتقاد بأن كتب التراجم للعصور الوسطى يمكن اعتبارها قابلة للمقارنة من حيث المعالجة الكمية كمبدأ عام، وإنما يمكن القول بأن مختارات من كتب التراجم يمكن مقارنتها بشكل يؤدي إلى فائدة ولكن بشكل محدود. قبل الانتقال إلى استكشاف الطريقة الكمية التي تمثل لب موضوعنا، يجب أن نقيم الأساس للمقارنة داخل هذين الكتابين وبينهما والذي تستند عليه طريقتنا، إن المبادئ التي تتضمنها هذه المؤلفات هي أن الفرد لابد أنه عاش أوزار مدينة نيسابور في إقليم خراسان في شمال شرقي إيران ولابد أنه كان يتمتع بشيء من الشهرة ضمن طبقته الدينية، أي تلك الفئة من السكان التي كانت تهتم بصورة خاصة بإرادة وحفظ ونشر وشرح الدين الإسلامي1، ومن الواضح أن هذه الأسس تنطوي على كثير من المعلومات بشأن الحالة الاجتماعية والاقتصادية العامة للفرد، ويمكن 1 لقد لاحضت بعض الركاكة في الأسلوب في الصياغة أحياناً، وبعض الغموض اليسير، لكنني لم أتدخل في هذا الأمر

عمل الكثير إحصائياً للوصول إلى تحديد أكثر دقة لهذه الحالة أو هذا النمط من الحالات الاجتماعية، وكل ما علينا أن نفترضه الآن هو أن هؤلاء الناس بصورة عامة ينتمون إلى طبقة ثرية نسبيًا وتتمتع بامتيازات خاصة1. وبعد الخوض بصورة سطحية في حدود الجغرافية والاجتماعية لكتب التراجم يبقى لدينا العمل الأكثر أهمية وهو تحديد نظام التسلسل التاريخي للأحداث، إن كلا الكتابين مرتبان حسب الحروف الأبجدية وذلك استناداً للاسم الأول للشخص ولكنها مرتبة كذلك حسب الطبقات، ففي مخطوطة الحاكم النيسابوري تظهر كل طبقة كوحدة مستقلة مرتبة أسماؤها حسب الحروف الأبجدية، أما في مخطوطة عبد الغافر الفارسي، من الناحية الثانية، فإن كل مجموعة من الأسماء المتشابهة قسمت إلى طبقات، وفي بعض الأحيان لا يبدو واضحاً إلى أية طبقة ينتمي فرد ما، إن مجموع الطبقات في كلا الكتابين هو أحد عشر طبقة، ثمان منها في الحاكم النيسابوري وثلاث في عبد الغافر الفارسي. ومن سوء الطالع أن المبدأ الذي يمكن استعماله لتحديد التاريخ الأخير لكل طبقة لازال غير معروف، إن المبدأ النظري القائم على أساس الأجيال التي جاءت بعد محمد 1 الواقع أن الفرضية ليست صحيحة، فإن رواة الحديث كانوا من طبقات اجتماعية متباينة ومعظمهم من الفقراء. ويبدو أن الكاتب متأثر بمفهوم الطبقة الاجتماعية في العصور الوسطى الأوروبية، وهو يرى أن الأثرياء وحدهم يمكن أن تخلد أسماؤهم في الكتب مثل تلك العصور.

(صلى الله عليه وسلم) يمكن تطبيقه على طبقتين الأوليتين من طبقات الحاكم النيسابوري، وبعد ذلك فيبدو أن الطبقات تختلف اختلافاً كبيراً بالنسبة لمدة بقائها وتبدو أن لا علاقة لها بمسألة الأجيال1، إن الطبقة الوحيدة التي تبدو لها علاقة بشيء محدَّد هي أقصر الطبقات وهي الطبقة الثامنة للحاكم النيسابوري، فيبدو أن هذه الطبقة تتألف من معاصري وأصدقاء المؤلف، ويبدوا فيها الكثير من الأشياء الخاصة وذلك بسبب الطريقة غير الموضوعية التي جمعت على أساسها والتي تختلف بصورة واضحة عن الطريقة التي اتبعت في دراسة الطبقات الأخرى، لذا يجب إهمالها في أكثر الحالات العمل الإحصائي. مع أن المبدأ الذي يتحكم في التقسيم حسب التسلسل التاريخي غير واضح فإنه مما لا شك فيه أن الأقسام تخضع لهذا المبدأ في الواقع، فعن طريق جمع تواريخ الوفاة التي تزودنا بها التراجم الشخصية يمكن بسهولة أن نقرر بأن أول تاريخ للوفاة لكل طبقة هو نفس التاريخ أو تاريخ لاحق لآخر وفاة الطبقة السابقة، وهذا يؤيد القول بأن الطبقات تتبع التسلسل التاريخي حسب تاريخ الوفاة1

_ 1 إن المؤلف يقرر عدم معرفته للأساس الذي بني عليه نظام الطبقات في كتابي الحاكم الغافر سوى الطبقتين الأولى والثانية والثالثة والطبقة الثامنة. ومن المفيد أن أبين هنا أن أساس تنظيم الطبقات يقوم على اللقيا وليس على أساس الجيل ولا وفق زمني دقيق

وهي تحدد كذلك على الأقل التاريخ التقريبي لنهاية كل طبقة. يعطينا الجدول الآتي نتائج هذا القرار بالنسبة للطبقات الأحد عشر الواردة في الكتابين، كما ورد أنه يبين عدد التراجم في كل طبقة (بصورة تقريبية بالنسبة لطبقات عبد الغافر الفارسي وذلك بسبب الغموض الطارئ في المسألة إلحاق بعض الأفراد بطبقة ما) ، كما يبين الجدول معدل عدد التراجم للسنة الواحدة وذلك بتقسيم الفترة الزمنية للطبقة على أعداد التراجم:

جدول رقم (1)

من المؤكد أن أكثر نقطة جلباً للنظر في هذا الجدول هي عمود معدل التراجم للسنة الواحدة، لو تجاهلنا الطبقات الثلاث الأولى والتي جاءت في تاريخ نيسابور المبكر الغامض وقبل تطور وتعقيد الوسائل العلمية للمسلمين ونظامهم التربوي، والطبقة الثامنة التي نوقشت آنفا، نجد فترة ثلاثة قرون بقيت خلالها معدلات عدد التراجم ذات حجم متشابه، أما معدل التراجم لهذه الفترة بأجمعها فهو 13 للسنة الواحدة، وبكل تأكيد أن هذه النتيجة تبرهن على الانتظام الكبير في تجميع التراجم الشخصية، ويمكن القول كذلك بأن هذا النظام أكبر مما يبدو لأول وهلة، إذ أن التغيير في المعدلات إنما يتبع الخط البياني لزيادة أو انخفاض عدد سكان نيسابور والذي يمكن معرفته من مصادر مستقلة كالجغرافيين، وهذا يعني أن سكان المدينة وبالتالي حجم الطبقة الدينية كان أكبر خلال فترة السامانية للطبقة السابعة حيث بلغ معدل التراجم للسنة الواحدة ثمان عشرة ترجمة، وهو أكبر من معدل التراجم لأية فترة سابقة، حيث كانت نيسابور في بداية بروزها كمدينة عظيمة تحت رعاية الطاهريين، أو فترة لاحقة حين عم البلاد الاضطراب عند تدفق الأتراك وقيام الإمبراطورية السلجوقية، وهكذا نرى أن عدد

التراجم للسنة الواحدة لكل طبقة دينية متشابهة قد تكون أكثر انتظاماً مما يشير إليه الجدول. وهكذا نجد في فترة أطول بكثير من حياة المؤلفين وفي كتابين منفصلين للتراجم نجد دليلاً على انتظام مدهش، والسبب يكمن بالتأكيد في طبيعة النظام التربوي والعلمي والإسلامي، وبإيجاز فإن العالم يؤلف كتاباً يحتوي على ملاحظات لترجمة حياة كل من درس عنه أو سمع عنه شيئاً ذا أهمية دينية، وهذه المؤلفات التي تسمى المشيخات (مفردها مشيخة) قد أخذت طريقها إلى مكتبات المرتبطة عادة بالمؤسسات الدينية والتربوية للمدن الإسلامية في العصور الوسطى، وبعد ذلك حصل أن رجالاً مثل الحاكم النيسابوري وعبد الغافر الفارسي قرأوا هذه المشيخات وقواميس أخرى للتراجم تسبقها واختاروا تراجم من أرادوا أن يترجموا لهم حسب الأسس التي وضعوها لكتاباتهم، وبعد مقارنة مجموعة الملاحظات الناتجة يُزال المكرر منها ويؤلف كتاب للتراجم، وبالتالي فإن من النادر أن يقوم مؤلف القاموس الأخير بعمل اختيارات أولية، وإنما كل قاموس للتراجم هو عبارة عن نتائج عدد كبير من الجهود الفردية وهذا يعلل الانتظام الذي لاحظناه أعلاه والذي يضمن عدم تأثير أهواء

المؤلف الأخير على محتويات مؤلفة بشكل كبير، وهذا يؤكد الفكرة القائلة بأن الموضوع الذي نعالجه إنما هو نموذج حقيقي عشوائي لطبقة رجال الدين1 يمكن الاعتماد عليه لفترة طويلة من الزمن. وبعد إيضاح طبيعة وتركيب كتب التراجم موضوعة البحث بهذا الشكل يمكننا الآن أن نستمر في تبيان الطريقة الكمية

الفصل الثاني

الفصل الثاني إن معظم الأسماء الشرق الأوسط في العصور الوسطى يتكون من عدة أجزاء، وأي شخص يمكن أن يعرف بجزء واحد من اسمه، ولكن بصورة عامة تحتوي قواميس التراجم على جميع الأسماء التي تعرف بها صاحب الترجمة آنذاك، وباستثناء ذلك النوع من الأسماء الذي يملكه كل شخص في الواقع وهو الاسم والكنية فإن النوع الشائع للتسمية هو النسبة، والنسبة في الأساس اسم تضاف إليه اللاحقة (ي) والتي تحيله إلى صفة لتبيان علاقة (نسبة) ويمكن لهذا الاسم أن يدل على أي شيء، فيمكن أن يكون اسم القبيلة، ككلب مثلاً، فالشخص الذي يدعى ((الكلبي)) هو فرد من تلك العائلة أو من أبنائها أو من أتباعها أو له علاقة ما بتلك القبيلة بشكل من الأشكال. ويمكن للنسبة أن تكون متعلقة بمكان ما، فالبغدادي رجل له علاقة ببغداد بشكل أو بآخر، والنيسابوري له علاقة بنيسابور بشكل ما وهكذا دواليك، ويمكن أن تشير النسبة إلى مهنة الشخص أو نقص في جسمه أو اتجاه ديني معين أو سلف مشهور أو فضيلة معينة أو غير ذلك.

والنوع الذي يهمنا من النسب في هذا المكان هو ما يتعلق بمدينة معينة، والافتراض الذي يمكن أن نعمله الآن هو أن التكرار الغالب نسبياً للنسبة الجغرافية في الفترات تاريخية مختلفة تعكس بصورة مباشرة حركة النقل على الطرق خلال تلك الفترات، وبصورة غير مباشرة مستوى حجم التجارة والرفاه، ترد للذهن اعتراضات كثيرة على هذه النظرية لأول وهلة ويمكن تقسيمها إلى نوعين: الأول هو الاعتراض على الافتراض القائل بأن اسم النسبة يعني بأن الشخص قد انتقل من المكان الذي تشير إليه النسبة إلى نيسابور، والاعتراض الآخر هو على الاستنتاج بأن حجم النسب بطريقة ما لها علاقة بحجم حركة السفر، دعك عن التجارة. والاعتراض الرئيسي في المجموعة الأولى هو أن النسبة قد تكون اسم لعائلة يعكس علاقة مادية بالمدينة التي تشير إليها النسبة حصلت قبل أمد بعيد حين انتقل أحد الأجداد من مكان إلى آخر، إن هذا القول محتمل، بلا ريب. ولكن من دراسة حوالي 200 مائتي شجرة للأنساب استخلصت من التراجم المقدمة من قبل عبد الغافر الفارسي وجد أنه من النادر استعمال مثل هذا النوع من النسبة كأسماء للعائلة في نيسابور، إن كثيراً من النسب

تبدو كأسماء للعوائل بالفعل وذلك حين يحمل الاسم جميع أفراد العائلة ولعدة أجيال، ومعظم النسب من هذا القبيل تعود إلى أسماء قبائل عربية، أومهن، أو أجداد بارزين أما النسب الجغرافية ما عدا تلك التي تتعلق بقرية محلية أو محلة (حارة) حيث تستمر العائلة على الإقامة، فإنها تميل إلى الزوال بعد جيلين، وحتى في حالة حمل أب وابنه لنفس النسبة فيحتمل جداً أن يكون الاثنان قد نشآ في المدينة التي تشير إليها النسبة وهاجرا أو سافرا إلى نيسابور سوية. والاعتراض الآخر من هذا النوع هو الحالات النادرة التي يحمل فيها الشخص واحد اسمين أو ثلاثة أسماء للنسبة، وهكذا يكون منشئه غامضاً، إلى أن حالات النسبة الجغرافية المضاعفة من السهل تفسيرها عادة، ففي الغالب يشير أحد أسماء النسبة إلى المدينة والآخر إلى قرية قربها أو إلى حارة في المدينة، ولكن في حالات أخرى يبدو من الواضح أن الشخص كان قد أقام حقاً في الأماكن العديدة التي تشير إليها أسماء النسبة وكان يكتسب نسبة جديدة كلما غير محل إقامته، وهكذا فحين نتكلم عن مجموعة النسب الجغرافية نجد ما يدل بقوة على أنه في حالة حمل رجل اسماً يشير إلى مكان معين فإنه من المحتمل جداً أن يكون قد أقام في ذلك المكان في فترة ما من حياته.

وهناك اعتراضان رئيسيان في المجموعة الثانية للاعتراضات، الأول هو أن ما يمثله عدد النسب الجغرافية في نيسابور في وقت ما لا يتعدى العدد النسبي للعلماء المسافرين طلباً للعلم، وليس له أية علاقة بالأشكال الأخرى لحركة النقل على الطرق، إلا أنه توجد دلائل عديدة تشير إلى خلاف ذلك، ففي المكان الأول كما أشار"س. د. كويتين"، وكما هو واضح من عدد كبير من التراجم موضوعة البحث، فإنه يندر سفر رجال بمفردهم، إذ أن الطرق العامة كانت غير مأمونة، والطريقة الاعتيادية كانت أن يصاحب الفرد قافلة عند انتقاله من مكان إلى آخر، والذي يقوي احتمال قيام الفرد بهذا الأمر هو كون كثير من العلماء إن لم نقل معظمهم كانوا يجمعون بين الدراسة والشغل فكانوا يسافرون كتجار للاشتغال في تجارتهم ويشغلون أنفسهم بطلب العلم خلال بقاءهم الذي قد تطول أو تقصر مدته في المدن المختلفة. وأخيراً فإنه من الواضح أن مدينة بحجم وأهمية نيسابور كانت مغناطيساً لجذل العلماء والتجار، والعوامل التي تؤثر على أسفار أحد النوعين من الناس كفقدان الأمن على الطريق والصراع السياسي تؤثر كذلك على النوع الآخر من المسافرين بنفس الطريقة

إن هذه التعليمات لا تصدق بالطبع على جميع المدن وذلك لأن بعض المدن كمراكز الحج مثلاً لا تجتذب بالضرورة التجارة كما تفعل حاضرة نيسابور. ومع ذلك يبقى لدينا سؤال: هل أن اسم الرجل، حتى في حالة إشارته في معظم الحالات إلى المكان الذي جاء منه حقيقة، هل يمكن اعتباره دليلاً على طريق التي سلكها في سفره؟ وهذا السؤال أساسي في المناقشة الآتية. يمكن لشخص يلقب ببغدادي مثلاً أن يسافر من بغداد إلى البصرة ثم يبحر إلى الهند ويصل إلى نيسابور من الشرق في طريقه إلى بغداد. إن الطريقة التي اتبعت هنا جمع النسب الجغرافية كمجاميع كما تقع على الطرق المختلفة المؤدية إلى نيسابور تعمل الكثير على حل هذه المسألة. بينما يمكن لرجل من أصفهان أن يأتي من نيسابور عن طريق بغداد أو بالعكس ففي حالات نادرة فقط، كما جاء في الحالة السابقة عن الرجل الذي يبحر إلى الهند، يحتمل أن يصل رجل من إحدى المدينتين أم من مدينة أخرى تقع على طريق العام لخرسان الشهير أو الطرق المؤدية له إلى نيسابور من جهة الشرق، كما أن المسالك الأخرى قد اختيرت حسب وضوح الطريق العام الذي يصل الأشخاص عبره إلى نيسابور، فالهدف من اختيار النسب

التي يجب استعمالها وتقرير كيفية تصنيفها هو التأكيد من الاحتمال القائل بأن الأشخاص موضوعي البحث قد انتقلوا بالفعل في إحدى فترات حياتهم بطريق ما من المدينة التي تشير إليها أسماؤهم إلى نيسابور. وأخيراً فهناك مسألة واحدة يجب ذكرها قبل الدخول في مناقشة نتائج هذه الطريقة، لقد ذكرنا آنفا أن الحدود للتسلسل التاريخي للطبقات تقررها تواريخ الوفاة1 وبما أن الشيء الذي نبحثه هنا هو هجرة الأشخاص فإن الفترات التاريخية التي يجب استخدامها يجب أن تكون تلك التي يقررها متوسط العمر في وقت الهجرة. ولكن مما يؤسف له أن هذا العمر من الصعب جداً تحديده بدقة فإن بعض الأشخاص هاجروا أطفالاً مع آبائهم، بينما لم يغادر الآخرون أوطانهم إلا في منتصف العمر، ولكن يمكن أن نخمن متوسط العمر فنقول أن متوسط العمر للهجرة هو ثلاثون سنة، والمسألة الآن هي كم عدد السنين التي يجب طرحها من الحدود التاريخية للطبقة التي تشير إليها التواريخ الوفاة لكي تحدد على وجه التقريب الحدود الزمنية للطبقة التي يحددها متوسط عمر الهجرة؟ والجواب على هذا السؤال يتوقف على متوسط حياة عالم القرون الوسطى، وهناك معلومات كافية في 1 سبقت الإشارة إلى أن هذه الملاحظة ليست مطلقة، وذلك في التعليق رقم (2) .

كتاب عبد الغافر الفارسي يمكن بواسطتها تحديد ذلك، وبناء على دراسة تراجم 150 رجل تعرف تواريخ ميلادهم ووفاتهم يمكن التأكيد بأن متوسط حياة الأفراد في كل المؤلفين هو 78 سنة. ولما كانت هذه السنوات قمرية وجب تحويلها إلى سنوات شمسية وهذا التحويل يجعلها 75 سنة، وهذا الشيء متوقع من مجموعة رجال اجتازوا عهد الطفولة بسلام ولم يدخنوا أو يتعرضوا لتلوث الهواء أو لخدمة العسكرية أو التوتر العصبي الذي هو ناتج الحياة المعاصرة. وهكذا لكي نحدد الطبقات على أساس متوسط العمر للهجرة علينا طرح 45سنة من جميع التواريخ المعطاة في جدول رقم (1) وإذا أردنا تحديد الطبقات حسب تاريخ الولادة وجب طرح 75 سنة. وهذا يؤدي إلى الأرقام الواردة في الجدول رقم (2) . إن هذه المناقشة الطويلة النفس نوعاً ما تزودنا بافتراضات كثيرة تكمن وراءها وتتصارع معها اعتراضات كثيرة لتجعل بالإمكان عرض وشرح النتائج الحاصلة بصورة ميسورة ومباشرة نسبياً، إن الطريقة التي اتبعت كانت كالآتي:

استخلصت كل النسب الواردة في كتب التراجم هذه ورتبت حسب الطبقات (باستثناء 8،3،2،1) وبعد ذلك تأكدنا من معنى كل نسبة وفصلت النسب الجغرافية عن بقية النسب، وبعدها حذفت جميع النسب التي تشير إلى نيسابور أو حارات داخلها، أما بقية النسب فقسمت إلى قسمين، قسم يشير إلى أماكن تقع ضمن منطقة نصف قطرها 100 ميل مركزها نيسابور، وقسم يشير إلى أماكن أبعد من ذلك

جدول رقم (2) تاريخ نيسابور للحاكم النيسابوري

جدول

سميت المجموعة الأولى ((النقل المحلي)) والمجموعة الثانية ((النقل لمسافات طويلة)) وبعدها صنفت النسب التي تشير إلى المسافات حسب أربع طرق عامة تؤدي إلى نيسابور. 1 -طريق شمال شرقي يؤدي إلى نيسابور من الصين عن طريق سمرقند، بخارى، مرو، سرخس. 2 -طريق جنوب شرقي يؤدي إلى الأراضي المنخفضة شمال وجنوب جبال هندكوش وتغطي مدن همذان ومرو والروذ وبلخ. 3 -طريق خراسان القادم من بغداد عبر همذان فالري فدمغان فنيسابور والطرق الفرعية الآتية من كازفن أصفهان والبصرة. 4 -الطريق الواقعة على طول الأراضي المنخفضة لبحر قزوين والمؤدية إلى نيسابور عبر سهل جرجان، يجب أن نلاحظ بأنه بالرغم من أن طريق رقم 4،1 وكذلك 3،2 يوازي بعضها البعض إلا أنها منفصلة عن بعضها البعض بسلاسل جبلية هامة وهي في الواقع طرق متميزة ومنفصلة عن بعضها البعض. ولكي نبين الحصة النسبية لحركة النقل الداخلة إلى

نيسابور من كل واحدة من هذه المسالك في كل فترة زمنية وضع شكل بياني يبين النسبة المئوية لأسماء النسبة المتجمعة للمدن الواقعة على كل من هذه المسالك بالنسبة للعدد الكلي لأسماء النسبة من المسالك الأربعة كلها، ويبدوا هذا في الشكل البياني رقم (1) . إن هذا الشكل يشير فقط إلى النسبة لحركة النقل على المسالك الأربعة ولذلك من الصعب تفسيرها بمفردها لأن الحجم الكلي للنقل خلال كل فترة يبقى مجهولاً، فإن نسبة مقدارها 20% من النقل خلال فترة ما قد تعادل ما يساوي أو يزيد على 60% من حصة النقل الحقيقي خلال فترة أخرى إن كان هناك تغيير ملموس في حجم النقل الكلي. أما الشكل البياني الثاني فيعطي فكرة عن التغيير في المجموع الكلي للنقل، ويبدو فيه العدد الكلي لأسماء النسبة في المسالك الأربعة كنسبة مئوية من العدد الكلي لأسماء النسبة لكل الأنواع في كل طبقة. (اسم النسبة الوحيد الذي أخرج من الحساب هو ((النيسابوري)) وذلك لأن الشخص القاطن في نيسابور لن يميزه اسمه النيسابوري عن أي شخص آخر من المواطنين، وإعطاء اسم النسبة هذا من قبل مؤلفي كتب التراجم كان يشير إلى إقامة وليس لأنه جزء حقيقي من اسم الشخص.

وهذا واضح من حقيقة كون عدد قليل من الناس فقط من مؤلف الحاكم النيسابوري لا يحملون اسم نسبة وقسم كبير منهم يحمل اسم نيسابوري، وبينما نجد في مؤلف عبد الغافر الفارسي عدداً كبير من الناس نوعاً ما بدون اسم نسبة وقسم قليل جداً يحمل اسم النسبة ((النيسابوري)) . من الواضح أن أسلوب المؤلف متقلب وإن ظهور اسم النسبة هذا يجب إهماله في عملنا الكلي) .

1 - الخط المنقط: الطريق الشمال الشرقي من سمرقند، بخارى، مرو. 2 - الخط المنقطع: الطريق الجنوبي الشرقي من بلخ وهرات. 3 - الخط المتصل: طريق خراسان العام من بغداد، أصفهان والري. 4 - الخط المزدوج: طريق منطقة قزوين من استراباد وجرجان. المقياس الزمني (الهجري) : الطبقة: 4 5 6 7 التاريخ: حوالي 155-حوالي255 حوالي250-حوالي269 حوالي269-290 290- 343 أ ب ? 360-380 380-حوالي 415 حوالي 415-480 مما لا يمكن نكرانه أن هذه الطبقة طريقة مغامرة. فبما أن أ‘مدة الشكل البياني لا تجمع 100% فإن التقلبات في الخط قد تكون ناتجة عن تقلبات أخرى حصلت بين أسماء غير الجغرافية الباقية، وذلك يعني أن حالات النسبة الجغرافية للمسافات البعيدة قد يكون عددها كبيراً بشكل خاص ليس بسبب نمو حركة النقل إلى نيسابور خلال فترة زمنية معينة

عربية، وقد تكون ناتجة عن تغيير عنصري في تركيب الطبقة الدينية1. إلا أن الأمر قد لا يكون كذلك. فالأمر لا يتعلق بعدد مطلق من النسب فالأفراد قد لا يحملون أي اسم النسبة أو يحملون عدداً من أسماء النسبة، وهكذا فإن النقص في عدد أسماء النسبة في صنف لا يستدعي ارتفاعاً يقابل ذلك في عدد النسب في صنف آخر لكي يحافظ على مجموع الكلي على حاله. 1 سبقت الإشارة إلى مفهوم الطبقة الدينية في التعليق رقم (9) .

يمثل الخط المتصل النسب المستقاة من النقل للمسافات البعيدة كنسبة مئوية من العدد الكلي للنسب (باستثناء نيسابور) في كل طبقة. * إن هذا ليس بالعدد الكلي للنسب في طبقة 4 ولكن عدد الأشخاص الذين يحملون أية نسبة كانت (ما عدا نيسابوري) ، أما أسماء النسبة المضاعفة التي يحملها شخص واحد فسيجعل عدد النسب الكلي أكبر بقليل بلا ريب ممل سيقلل من النسبة المئوية إلى حد ما) . ولما كان الأمر كذلك فالشيء الوحيد الذي يمكن عمله هو أن نقارن الخط البياني الذي يحمل النقل للمسافات البعيدة في الشكل (2) مع الخطوط البيانية لمجموعات أسماء النسبة الأخرى التي يمكن تشخيصها. يمثل الخط (أ) في الشكل (3) نسبة ورود 30 اسم نسبة في كل طبقة أخذت من ضمن النقل المحلي ضمن دائرة نصف قطرها 100ميل، مشيراً إلى النسبة المئوية من العدد الكلي للنسب في الطبقة، إن الخط البياني مستوٍ نوعا ما وأقصى اختلاف له يصل إلى 6 درجات بالمئة. أما الخط (ب) فيشير إلى النسب المئوية لأسماء النسبة المأخوذة من القبائل العربية ومن أسماء مشاهير. وهذا الخط مستوٍ نوعاً ما، ولولا الطبقة الخامسة التي تغطي الفترة

المبكرة عندما كان عدد العرب في الطبقة الدينية عالياً نسبياً لكان أقصى حد للاختلاف 3 درجات بالمائة. إن الاختلاف بين هذين الخطين والخط الذي يمثل النقل على المسافات البعيدة (أي خط في الشكل3) اختلاف كبير، إن كون الأقصى اختلاف هو 12 درجة بالمائة والقمة الواضحة في الطبقة السابعة يجعل من الصعب تجنب الاستنتاج بأن هناك شيئاً خاصاً يفصل الفترة الزمنية للطبقة السابعة عن الفترات قبلها وبعدها. بالإضافة إلى ذلك فإن الاستواء النسبي للخط المبين للنقل المحلي بالمقارنة بالخط البياني لحركة النقل البعيدة تؤكد صحة الفرضية التي تكمن وراء التحقيق بأكمله، أي أن تردد النسب المسافات البعيدة يعكس تغييرات هامة في مستوى التجارة، بغض النظر عن الأوضاع الاقتصادية والسياسية فإن النقل المحلي يحتمل أن يبقى ثابتاً نوعاً ما، وذلك لأن المؤن الغائية لا بد أن تجلب إلى المدينة والمدينة لها دائما سحر الجاذبية على مناطق التي تزودها بالمؤن الغذائية خاصة في المسائل الدين والتربية، ومن ناحية أخرى فإن الأوضاع الاقتصادية والسياسية يمكن لها أن تؤثر تأثراً شديداً على النقل المسافات البعيدة طالما أن المنتجات الكمالية التي تختص بها النقل للمسافات البعيدة ليست

ضرورية وطالما كانت هناك مدن أخرى يمكن أن تكون مراكز الجذب العلماء إليها. وهكذا تقوم المناقشة معتمدة على عدد من الافتراضات التي يمكن أن تقام الحجة ضدها أو معها، ومن الوجهة المثالية يجب أن تقدم إحصاءات متوازية من مصادر إحصائية مستقلة لكي تؤيد صحة الافتراضات أو تدحضها، إلا أن مثل هذه الإحصاءات غير متوفرة، للأسف. ولكن هناك طريقتان أخريتان للاختبار، واحدة متوافرة حاليا ونأمل أن تتوفر الأخرى في المستقبل والطريقة الأخيرة ستأخذ شكل إحصاءات مقارنة لمدن أخرى تستخلص من كتب أخرى للتراجم، فالطريقة التي تدعي تقديم نتائج ذات معنى في حالة ما لابد أن تعمل كذلك في حالات أخرى. أما الطريقة الأولى فهي طريقة المؤرخ القياسية: ما مدى اتفاق هذه النظرية مع الحقائق التاريخية المعروفة؟ وبكلمة أخرى كيف يجب أن تفسر الخطوط البيانية؟ إن من نافلة القول أن نذكر بأن تفسير لا يمكن أن يكون واضحاً وحاسماً أبداً. إلا أنه في المسألة الحاضرة يبدو أن التوافق بين المظاهر الرئيسية للخطوط البيانية الممثلة للطرق العامة في الشكل (1) والخط البياني للمسافات

الطويلة في الشكل (2) وبين الحوادث التاريخية مسألة لا تحتمل الجدل. الطبقة الرابعة (حوالي 155-225) : من المميزات البارزة لهذه الفترة هو مستوى عال من حركة النقل الاجمالية للمسافات البعيدة وخاصة الرحلات الآتية من الشمال الشرقي عن طريق رقم (1) حيث تمثل أعلى نسبة، تليها ضخامة الرحلات التي اتخذت الطريق الجنوبي الشرقي رقم (2) . تمثل تلك الفترة عظمة العباسيين، وتبدأ من حكم المنصور وتمتد إلى بداية فترة سامراء، لقد كانت بلخ عاصمة لخراسان، أما العاصمة السابقة قبل سنة 118 فقد كانت مروو التي كانت لا تزال المدينة الكبرى في آسيا الوسطى العربية آنذاك، أما بغداد فكانت عاصمة الإمبراطورية الإسلامية بلا منازع وكانت نيسابور حتى وقت متأخر من فترة اتخذها طاهر عاصمة له مدينة صغيرة على طريق المؤدية إلى ترانسسكونيا والمناطق التي فيها، وهكذا يصبح سبب تعاظم مقدار النقل وتركز اتجاهه من الشرق إلى الغرب مفهوماً واضحاً، لقد كان نقلاً للترانسييت يعبر عن مقدار تدفق الرجال والبضائع من آسيا الوسطى وخرسان إلى العاصمة بغداد.

الشكل البياني (3) العدد في كل مجموعة هو نفس العدد في الشكل رقم (2) . (أ) الخط المتقطع – النسب المستقاة في الأماكن الواقعة ضمن دائرة نصف قطرها 100ميل حول نيسابور. (ب) الخط المنقط – النسب المستقاة من أسماء القبائل العربية ومن أسماء أسلاف مشهورين. (?) الخط المتصل – كما هو في الشكل (2) . (2) إن المعلومات عن النسب المأخوذة من القبائل العربية والأسلاف المشاهير، والنقل المحلي لم تجمع فيما يخص طبقة رقم (4) .

إن الرجال الذين كانوا يتوقفون لفترات طويلة أو قصيرة في نيسابور كانوا شرقين في طريقهم إلى أو من عاصمة العباسيين، وبصورة خاصة، كانوا رجالاً من مرو وبلخ اللتين استأثرتا بنبسة 42% من مجموع النقل للمسافات الطويلة مجتمعين (يشير نموذج صغير جداً إلى أنه خلال الفترة السابقة وللطبقة الثالثة المحصورة بين حوالي 65 إلى حوالي 155 وهي الفترة التي أصبحت فيها بلخ عاصمة خراسان، كانت النسبة المشتركة لهاتين المدينتين نفس النسبة بالضبط أي 42%) .

النسبة المئوية لإجمالي النقل على المسالك الأربعة البعيدة المسافات المنطلقة من: الخط المتصل – بخارى. الخط المتقطع – مرو. الطبقة الخامسة (من حوالي 225إلى حوالي 269) : كانت خراسان في وضع يختلف تماماً في هذه الفترة. إن ظهور الطاهريين عند بداية فترة طويلة من الانبعاث السياسي الفارسي الذي شهد استقلالاً متزايداً لإيران الشرقية وترانسكسونيا عن بغداد سياسياً وثقافياً، لقد اتخذ الطاهر يون نيسابور عاصمة لهم وبدأوا يعملون على جعلها مدينة عظيمة، إلا أنهم طردوا من عاصمتهم عام 261هـ على أيدي الصفارين وهم سلالة الفارسية حاكمة أخرى جاءت من إيران الجنوبية، إلا أن هذا التغيير في الحكومة لم يكن ليؤثر على المدينة كثيراً، وفي وقت ذاته ظهرت سلالة الفارسية حاكمة ثالثة؛ سلالة

السامانين في بخارى وترانسكسونيا، وكانت الحكومة المركزية للعباسيين تعاني أياماً سوداً من القتال الإمبراطوري1 الداخلي في سامراء وأياماً أكثر سواداً بعد عودتهم إلى بغداد وهم يقيمون ثورة الزنج. إن هذه الأحداث تبدو واضحة في الأشكال البيانية. إن نيسابور الناشئة كانت لا تزال مدينة الترانسيت بصورة رئيسية لذا اتجاه السفر الغالب كان مازال من الشرق إلى الغرب ومازالت مرو وبلخ تستأثران بـ 40%. الطبقة السادسة (حوالي 269-290) . حادثة واحدة ترمز إلى التغييرات التي حصلت خلال هذه الفترة ففي سنة 287تغلب الحاكم الساماني إسماعيل بن أحمد على عمرو بن الليث الصفاري، وهكذا أصبح أميراً لخراسان متخذاً بخارى عاصمة له، واستقبلت نيسابور حاكماً سامانيا لها. إن نتائج ظهور السامانيين والتغييرات التي حصلت في تركيب السلطة يبدون بوضوح في الأشكال البيانية، فهناك ازدياد ملحوظ في النقل على طريق الشمال الشرقي الذي كان واسعاً في السابق بسبب أهمية مرو وأصبح أكثر اتساعاً بسبب الأهمية الجديدة بخارى، التي أصبحت نيسابور بالنسبة لها آنذاك 1 دأب الغربيون من الستشرقين وغيرهم على تسمية الدولة الإسلامية بالأمبراطورية الإسلامية ولا شك أن هذا المصطلح ينطبق على الدولة التي مدت سلطانها على دول الأخرى على سبيل الاستعمار لها والاستحواذ على خيراتها واستعلاء الشعب الحاكم عليها دون أن تتمكن من دمجها عقيدياً وثقافياً وحضارياً معها، أما بالنسبة للدولة الإسلامية

تابعاً. إن الشكل (4) الذي يصور النسبة المئوية لنسب المسافات البعيدة الخاصة بمرو وبخارى يبين كيف يمكن أن نرى بجلاء الظواهر المتدرجة لتدهور مرو كمدينة كبرى في خراسان من جهة وبروز بخارى من جهة أخرى باتباع هذه الطريقة. كانت بلخ تتدهور لحساب بخارى كذلك. إن النسبة المئوية للنقل من بخارى وبلخ خلال هذه الفترة مجتمعتين هو 33% وبالإضافة لهذه فإن الخط الجديد يعكس تدهوراً ملحوظاً في مقدار النقل بصورة عامة، كان الشرق آنذاك كياناً مستقلاً عن الإمبراطورية العباسية التي كان مركزها بغداد، ولم تعد بغداد ممركز الجذب الوحيد، فإن تجارة الترانسيت عبر نيسابور قد أخذت بالانخفاض كلما ازدادت خراسان باتجاهاً إلى الشرق نحو بخارى. الطبقة السابعة (290-343) : إن التطورات السياسية الكبرى التي حصلت في هذه الفترة كانت قليلة، ولكن الأشكال البيانية تبين بأن آثار التطورات السابقة قد تحققت بصورة تامة في هذا الوقت، لقد استمرت الخلافة في بغداد تتدهور بينما أخذت الدولة السامانية بالازدهار.

وازدهرت نيسابور كذلك تحت رعاية السمجوريين، وهو سلالة من الحكام الساماني والتي تمتد جذورها في منطقة نيسابور، استنتاجاً من التقدم المطرد في مقدار النقل للمسافات الطويلة لابد أن تكون تلك الأيام من أكثر الأيام رفاهية في تاريخ نيسابور. كما شهدت هذه الفترة أيضا تطورات الأولى في مدرسة الفقه الأشعرية والتي كتب لها أخيراً أن تخرج أعظم مفكري نيسابور أمثال إمام الحرمين الجويني، أبي القاسم القرشي والغزالي، إن أ‘ظم مناصري هذا المذهب من أبناء نيسابور وهو أبو سهل الصعلوكي توفى عام 369. إن تحليل هذه الفترة المزدهرة عن طريق المسالك العامة شيء ينور الفكر. إن نسبة النقل عن طريق الشمال الشرقي قلت، ولكن كما يشير إليه الشكل البياني رقم (4) فإن الانخفاض كان راجعاً بصورة رئيسية إلى التدهور الجديد لمرو كمدينة عظمى، إن حصة بخارى من النقل ارتفعت ارتفاعاً كبيراً، بينما تقلص النقل عن طريق الجنوبي الشرقي، لقد أصبحت الحصة المشتركة للنقل من مرو وبلخ آنذاك 13% فقط مقابل 16% حصة بخارى لوحدها بسبب تدهور بلخ لمصلحة بخارى ونيسابور المزدهرتين. إلا أن الأمر الذي يثير الاهتمام هو انعكاس ميزان النقل بين الشرق والغرب، فلأول مرة نجد نسبة النقل الآتية من

الشرق (54% مقابل46%) . إن نيسابور وبخارى كمركزين لانبعاث سياسي وثقافي فارسي قوي ظهرتا كمركزي جذي توازي قوتهما الجاذبية من كل الوجوه تلك التي كانت تتمتع بها بغداد. لقد ازداد النقل من منطقة بحر قزوين، ولكن يقلل من أهمية هذه الزيادة تلك الزيادة العظيمة في حركة النقل المتدفقة نحو الشرق على طول الطريق العام لخراسان، بالإضافة إلى ذلك لا يمكن اعتبار مدينة واحدة سبباً لهذه الزيادة، إذ أنه كما يشير شكل رقم (5) فإن الري وبغداد وأصفهان يظهرن قمماً متشابهة في طبقة رقم 7 حيث تصور النسبة المئوية لعدد النسب من تلك المدن بالنسبة للمجموع الكلي للنقل البعيد. وباختصار فإن أوج عظمة الحكم الساماني يبدو كفترة ازدهار عظيم في الشرق، ازدهرت خلالها نيسابور ازدهاراً كبيراً ووضعت الأسس لازدهار ثقافي في المستقبل

الشكل البياني رقم (5) العدد في كل طبقة كما ورد في الشكل (1) انسبة المئوية للنقل الإجمالي للمسافات الطويلة على المسالك الأربعة المنطلقة من: (أ) بغداد. (ب) الري. (?) أصفهان.

الطبقة أ (360-380) : لو نظرنا إلى الأشكال البيانية بعد فجوة أمدها عشرون سنة سببها حذف الطبقة الثامنة الشاذة لبدا الأمر كما لو أن شريطاً سينمائياً قد حذف منه مقطع، إذ نجد أن مستوى النقل البعيد قد انخفض فجأة إلى درجة واطئة جديدة، احتفظ بها حتى نهاية الفترة الزمنية التي تعطيها كتب التراجم، فإن ميزان النقل بين الشرق والغرب قد تغير ثانية وأصبحت نسبة النقل من الغرب 42% فقط وإن مستوى النقل على طريق خراسان العام قد هبط من قمته العالية مشاركاً بذلك التدهور الذي أصاب المدن العظمى الثلاث الواردة في الشكل رقم (5) ويبدو أن منطقة قزوين فقط لم تتأثر. ماذا حصل لازدهار السامانين العظيم؟ هل حقاً تعكس الأشكال البيانية تغييرات اقتصادية وسياسية مهمة؟ في الواقع أن المنحنيات في الشكل البياني توحي بمعلومات معينة يؤيدها بصورة تامة فحص للأحداث التاريخية، إن هذه الأحداث تتعلق بثلاث سلالات حاكمة. أولا: إن سلالة البويهيون في غرب إيران والعراق قد وصلت ذروة ازدهارها وقوتها تحت حكم عضد الدولة الذي

تمتع بأكبر مقدار من السلطة من أوائل الستينات للقرن الرابع حتى وفاته سنة 372. ثانيا: بدأت سلالة السامانين خلال هذه الفترة تعوض في مستنقع من المؤامرات البلاطية والسيطرة التركية الإمبراطورية. بالإضافة إلى ذلك كانت هناك عداوة بين البويهين والسامانين بسبب الخلافات الدينية والتي تعتبر هي قوة الجذب للبلاط البويهي سبباً للانحطاط الملحوظ في مقدار النقل على طريق خراسان العام. إن هذا الهبوط في مقدار النقل على هذا الطريق العام العظيم بالإضافة إلى فوضى في قلب الدولة السامانية يشاركان بكل تأكيد في الانحطاط العام في الرفاهية التي تشير إليه انخفاض في المقدار الكلي للمسافات البعيدة. ثالثاً: إن منطقة قزوين كانت خلال هذه الفترة متماسكة نوعاً ما تحت حكم سلالة بني زيار الذين اقتصر سلطانهم على هذه المنطقة. إن هذه السلالة الصغيرة لم تكن آمنة في سلطتها أبداً، إلا أن اتخاذ جرجان عاصمة لها وكون بني زيار حلفاء للسامانين ضد البويهين يعلل بسهولة سبب ازدياد مقدار النقل على هذه الطرق. وهكذا فالبرغم من المشاركة الأكيدة لنيسابور في التدهور الاقتصادي فإ السياسات المستبدة هي

التي تفسر لنا نموذج النقل في هذه الفترة أكثر من أن يكون هناك شيء خاص يتعلق بالمدينة ذاتها: الطبقة ب (حوالي 380-415) : كانت هذه الفترة محمودية الغزنوي الشهير. أصبح حاكما لنيسابور عام 384، ثم أصبح رئيساً للسلالة الغزنوية بعد فترة قصيرة من وفاة أبيه سبكتكين عام 387 وحكم حتى وفاته 421. تحقق نمو ثقافي عظيم في نيسابور خلال هذه فترة. فقد ازدهرت المدينة فكرياً وإن لم تكن قد ازدهرات اقتصاديا بعد. فقد كان مذهب الأشعرية في ازدهار بزعامة أبي الطيب الصعلوكي (المتوفى في 398) ، وابن فورك (المتوفى في 405) ، وأبي إسحاق الأسفراييي (المتوفى في 418) . لقد ازدهرت المذهب الحنفي –المعتزلي برعاية الغزنويين، وأسس أخو محمود المدرسة الصناعية في نيسابور لهذا المذهب، وربما كلنت هذه المدرسة نموذجاً أنشأت المدرسة النظامية الأخيرة على غراره. إن هاتين الظاهرتين تعللان الموافقات الظاهرة في الأشكال البيانية لهذه الفترة. إن الظاهرة الأكثر أهمية هي بالتأكيد القمة العالية في مستوى النقل القادم من نيسابور على طريق خراسان

العام. إن الخط المنحذر في الشكل (5) الذي يعود فيرتفع مشيراً إلى زيادة النقل من أصفهان والري معاً دليل على أن الزيادة ي النقل كانت عامة على المسالك العامة، بينما يعكس الانحدار المستمر في خط بغداد الفوضى التي تأثرت على المدينة بصورة مستمرة خلال فترة حكم البويهين الأخيرة، إن هذه الزيادة قد تعود جزئياً إلى تولي سلالة جديدة قوية للحكم، ولكن هذا غير محتمل كما سنرى أخيراً. إن الزيادة لابد أن تعود إلى انتعاش نيسابور وظهورها كمركز فكري له قوة الجذب كغيره من المراكز. أما بالنسبة للطرق العامة الأخرى فإن انخفاض حصة منطقة قزوين من النقل قد تعكس تدهور سلالة بني زيار واتباع سياسات غير حكيمة من قبل قابوس بن اشمكير بعد عودته إلى جرجان عام 388هـ. وإن الانخفاض العظيم قابل للتفسير بشكل أكبر. إن ضعف السامانين وبالتالي سقوطهم أزال السد الذي كان يصد القبائل التركية في آسيا الوسطى، أما ترانسسكسونيا التي لم يتمتع الغزنويون فيها بسلطة كبيرة فقد عادت إلى الحياة الرعوية يوضح الشكل (4) ما حدث بالضبط للنقل من مرو وبخارى.

وأخيراً فإن ارتفاع الملحوظ في حصة النقل من الجنوب الشرقي، وهو الاتجاه المؤدي إلى العاصمة الغزنوية يعود إلى مجيء السلالة الحاكمة الجديدة. إن مدينة هيرات التي تعتبر أهم مدينة بين نيسابور وغزنة ظهرت كمصدر رئيسي للنقل إلى نيسابور حيث حيظت 18% من مجموع الكلي للنقل. إلا أن السؤال الذي يرد إلى الذهن هو: لماذا تؤد مثل هذه السلالة الجديدة القوية إلى زيادة في حجم النقل الكلي الذي افتراض هنا أنه يعكس المستوى العام للتجارة والرفاه؟ والجواب على هذا هو البعد؛ فقد كانت غزنة مقر الدولة تفصلها عن نيسابور مسافة 850ميل من الأراضي الصحراوية، بينما تقع على مسافة 470ميل فقط في الجهة المقابلة مدينة لاهور وثروات الهند التي لا تقهر هكذا فليس من المدهش أن نرى محمود يختار الاتجاه نحو الشرق ويقوم بالحملة تلو الحملة داخل الهند. وتحت هذه الظروف أصبحت نيسابور مجرد نقطة على حدود الغربية البعيدة جداً عن القوافل التجارة والقوافل الغنائم من الهند إلى غزنة. ونجد في هذه العزلة بعد فترة قصيرة من الزمن تفسيراً لاستسلام نيسابور للأتراك السلاجقة بكل سهولة.

الطبقة ? (حوالي 415-480) : في سنة 428 احتل الأتراك السلاجقة نيسابور لأول مرة، وبعد طردهم لفترة قصيرة جاءوا ثانية في سنة 431 ليبقوا. إن فترة عظمة السلاجقة محدودة بحكم السلاطين الثلاثة الأوائل: طغرل بك، ألب أرسلان وملك شاه. توفى آخر الثلاثة عام 485 والذي يجعل الفترة التي نحن بصددها توافق عظمة السلاجقة. إلا أن تأثير هذا التغيير في الحكم على اقتصاد نيسابور لم يكن ليرحب به. إن الطريق الشمالي الشرقي كان حكراً على القبائل التركية بينما الجنوبي الشرقي كان يؤدي إلى بلد الغزنزيين الذين كانوا أعداء السلاجقة. إن النقل على كلا الطريقين قد انهار، فقد تدهورت كل من مرو وبخارى وهرات وبلخ. فقد انخفضت حصة هذا الاتجاه من النقل إلى 37% وهي أقل نسبة تصلها، كما تدهور النقل من الغرب كذلك كما يبدو من الشكل البياني رقم (5) . إن نسبة النقل القادمة من منطقة قزوين فقد تبدي زيادة ملحوظة وهذه في الواقع زيادة ظاهرية سببها تدهور الطرق الأخرى، أما جرجان واسترباد، وهما الجزاءن الرئيسيان المكونان للخط البياني للمنطقة فإنهما كما كانا في الفترة

الماضية. وبالإجمال فإن حجم النقل انحط إلى الوطأ درجة لفترة 325 سنة التي تغطيها الأشكال البيانية. لم تصبح نيسابور نفسها –بالطبع- مدينة عديمة الأهمية. الواقع أنها كانت أوسع وأغنى مما كانت خلال الفترات الثلاثة الأولى الموصوفة أعلاه. إن الخطوط البيانية التي تشير إلى سير النقل لا تتعلق بمدينة واحدة فقط، إنما يعكس حركة النقل التي كانت تنتهي عند نيسابور أو تلك التي تمر بنيسابور كنقطة على طريق. وبينما كانت نيسابور تتنامى عملت الأحداث السياسية على الحط من المدن الشرقية العظيمة. وأخيراً فخلال الفترة التي كانت فيها نيسابور في أوج عظمتها الفكرية –وربما كانت أعظم مدينة مبدعة ثقافياً في العالم الإسلامي في تلك الفترة أصبح التطور الذي بدأ منذ تدهور العباسيين حقيقة واقعة مكتملة الجوانب. لقد انفصل الشرق عن الغرب ولم تعد خراسان ملتقى الطرق وأصبحت بدلاً من ذلك نقطة على حدود الشرقية، تذبل وتضوي. وقد تلاشى الجسر الذي أقامه العرب والفرس في ترانسسكسونيا واتجهت أفغانستان نحو الهند. وهذا الاتجاه الجديد نحو الشرق لم يتغير منذ ذلك الحين. وهكذا فبالرغم من المناخ الفكري المزدهر في نيسابور نفسها فإن

النقل عبر المدينة قد جفت منابعه، وبذرت بذور التدهور الاقتصادي للمدينة. رجاردو. بليت (هارفارد) .

§1/1