طرق الكشف عن مقاصد الشارع

نعمان جغيم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هذا الكتاب يعد علم المقاصد الشرعية من أهم العلوم التي يتطرق اليها الباحث، وهذا الكتاب جاء لبيان أهمية البُعْد المقاصدي في الإجتهاد، وضرورة إنضاج المعالم الأساسية لنظرية المقاصد. أثمرت جهود الباحث في بيان الكشف عن مقاصد الشارع، فكان هذا الكتاب ثمرة جهد كبير وفي الأصل هذ الكتاب أطروحة، قدمت استكمالاً للحصول على درجة الدكتوراه، وقد أجازت اللجنة المشرفة هذه الرسالة.

طُرقُ الكَشفِ عن مقاصد الشارع

حقوق الطبع محفوظة © copyrights reserved publisher: Dar Alnafaes-jordan الطبعة الأولى 1435 هـ - 2014 م رقم الإيداع لدى دائرة المكتبة الوطنية 1733/ 5/ 2013 277.56 جغيم، نعمان طرق الكشف عن مقاصد الشارع/ نعمان جغيم - عمان - دار النفائس للنشر والتوزيع, 2013. () ص. ر. إ: 1773/ 5/ 2013 الواصفات: / الشريعة الإِسلامية// الإجتهاد (فقه إسلامي) // الإِسلام/ تنويه مهم يمنع تصوير هذا الكتاب أو استخدامه بكافة أنواع النشر العادي أو الإلكتروني، تحت طائلة المسؤولية القانونية دار النفائس للنشر والتوزيع - الأردن ردمك: 0 - 141 - 80 - 9957 - 978 ISBN العبدلي - مقابل مركز جوهرة القدس ص. ب: 927511 عمان 11190 الأردن هاتف: 0096265693940 فاكس: 0096265693941 Email: [email protected] www.al-nafaes.com

شكر وتقدير

شكر وتقدير أتقدم بخالص الشكر والتقدير إلى: فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الله الجبوري على ما أفادني به من إرشادات وتوجيهات قيِّمة، وعلى ما بذله من جهد ووقت في قراءة مادة هذا الكتاب. والشكر موصول إلى الأستاذ الفاضل محمد الطاهر الميساوي الذي فتح لي باب مكتبته الخاصة واسعًا، فآوتْنِي اللّياليّ الطوال، وأسعفتْني بما لم تسعفني به مكتبة الجامعة .. وإلى الدكتور محمد بن نصر الذي وفَّر لي ملجأ آوي إليه طلبًا للسكينة والهدوء لجمع شتات أفكاري .. وإلى رفيقي الدَّرب: صالح سبوعي وحسن لحساسنة على دفعهما المتواصل، وتشجيعهما الذي لم ينقطع، وبذل ما في وسعهما لتوفير أسباب الراحة لي .. وإلى كلّ من كانت له يد علينا ... فجزى الله تعالى الجميع خير الجزاء في الدنيا والآخرة.

المقدمة

المقدمة من المتفق عليه بين العلماء المسلمين أن الأحكام الشرعية إنما شُرعت لتحقيق مقاصد سامية، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات، وأنه ينبغي على المجتهد تحرّي هذه المقاصد في ممارسته الإجتهاد، والإفتاء على مقتضى ما يوافقها ويخدمها. ولم يكن الصحابة - رضي الله عنهم - في حاجة إلى تدوين علم أصول الفقه وضبط مباحثه والكتابة في مقاصد الشريعة والبحث فيها، وذلك لأمرين: الأول: أنهم عايشوا طور التشريع، وليس من عايش كمن سمع، فمعايشة صدور النص التشريعي يعني معايشة المقام الذي صدر فيه ذلك النص والظروف والملابسات التي أحاطت به، وذلك يكاد يكون كافيًّا في إدراك مقصد الشارع من ذلك النص أو الفعل النبوي، وتظهر أهمية المعايشة في خفاء مقصد الشارع من بعض النصوص وأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - على من لم يعايشها منهم، ولكن من كانت حاله كذلك منهم كان يتدارك الأمر بالإستفسار ممن شهد وعايش، ومن أخطأ منهم في فهم مقصد من المقاصد بسبب غياب عنصر المشاهدة، استدرك عليه من شهد ذلك كما هو معلوم فيما استدرك الصحابة بعضهم على بعض. الثاني: سلامة اللسان وسعة الإطلاع على مقاصد العرب من كلامها. فإن أشكل عليهم أمر بعد هاتين الميزتين لجؤوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - للإستفسار منه. وكذلك كان التابعون لِمَا وَرِثُوُه من علم الصحابة، فضلًا عن أنهم كانوا ما زالوا على قدر كبير من سلامة اللسان وصفاء القريحة، فأحاطوا بكليات الدين ومبادئه العامة ومقاصده الكلية، وإن غاب عن بعضهم شيء من نصوص السنّة أو لم يصلهم من طريق تصحّ به الرواية.

ولَمَّا اتسعت رقعة الإِسلام وبدأ يظهر فساد في اللسان وضعف في القريحة، ظهرت الحاجة إلى ضبط قواعد فهم النصوص الشرعية واستنباط الأحكام منها، وهو الذي جُمِع بعد ذلك فيما اصطُلِح عليه بعلم أصول الفقه، وكان متضمنًا لأهم الأسس والقواعد التي تُدْرَكُ بها مقاصد الشارع من خطابه. وقد أعطى ذلك مع ما شهدته تلك الفترة من ازدهار في حركة التدوين دفعًا قويًّا للعلوم الشرعية لتعيش بعد ذلك قرونًا من الإزدهار نَبَغَ فيها عدد كبير من العلماء في شتى العلوم. وجاء عصر الجمود الذي اتّسم بفساد في اللسان، وضعف في الهمم، وقلة من تأهّل للاجتهاد، وفشوّ التقليد المشوب بالتعصب المذهبي، وكان من مساوئ ذلك شيوع الحيل الفقهية التي كانت في أصلها مخارج شرعية، وتلك علامة ظاهرة على الإنحراف عن مقاصد الشارع من أحكامه وغياب تصور واضح للكليات الشرعية، وفي ذلك يقول محمد الطاهر بن عاشور: "كان إهمال المقاصد سببًا في جمودٍ كبيرٍ للفقهاء ومعولًا لنقض أحكام نافعة، وأشأم ما نشأ عنه مسألة الحيل، التي ولع بها الفقهاء بين مكثر ومُقِلّ". (¬1) وقد حاولت حركةُ التقعيد الفقهي تدارك هذا النقص بوضع قواعد فقهية عامة تضبط الجزئيات وترجعها إلى أصولها الكلية، ومع نجاحها إلى حدٍّ ما فإنها لم تكن كافية للتخلص من ذلك. وكما كان الإستحسان مخرجًا مما قد ينتج عن الإلتزام الصوري بالقياس من إخراج لبعض الأحكام عن القواعد الكلية للشريعة ومقاصدها العامة؛ إذْ هو في جوهره عدول عن قياس ظاهر توفرت فيه كلّ شروط القياس لأن نتيجته قد تؤدي إلى مخالفة قواعد الشريعة ومقاصدها العامة، فقد جاء إبراز مقاصد الشريعة وإفرادها بالتأليف للتخفيف من غلواء التقليد والتعصب المذهبي والإهتمام بالجزئيات على حساب الكليات ليتمّ الرجوع بالفقه إلى ما كان عليه في زمان الصحابة والتابعين وكبار الأئمة. وقد كان من رواد هذه الحركة الجويني، والغزالي، وابن تيمية، وابن القيم، والعز بن عبد السلام، والقرافي لِتُتَوَّجَ تلك الجهود على يد ¬

_ (¬1) ابن عاشور، محمد الطاهر: أليس الصبح بقريب، (تونس: الشركة التونسية لفنون الرسم، ط 2، 1988 م)، ص 200.

الإمام الشاطبي في كتابيه الموافقات والإعتصام اللذين كَانَا ثمرة المعاناة التي عاشها هو ذاته في الصراع مع تيار التعصب المذهبي المذموم والإبتداع، وقد حكى طرفًا من ذلك في كتاب الموافقات ومقدمة الإعتصام. إشكالية البحث: مع التسليم بأهمية البُعْد المقاصدي في الإجتهاد، وضرورة إنضاج المعالم الأساسية لنظرية المقاصد، يبقى السؤال: كيف نتعرّف على مقاصد الشارع؟ ما المسالك والأدوات المنهجيّة التي ينبغي استخدامها لتحديد مقاصد الشارع التي تشكَّلُ بعد ذلك أسس وضوابط الإجتهاد؟ ثمّ بعد معرفة هذه المسالك، ما السبيل إلى تنزيلها على الواقع لإستخراج المقاصد الشرعية بأنواعها: العامة والخاصة، والكلية والجزئية؟ كيف استخدمها الفقهاء والأصوليون في اجتهاداتهم، كيف يمكن أن نستخدمها اليوم؟ وبناءً على أهمية هذا الموضوع ومحوريّته في نظرية المقاصد فإنه في حاجة إلى مزيد من الدراسة والتحليل؛ ذلك أن نظرية المقاصد لا يكتمل بناؤها، ولا تؤتي ثمرتها تنزيلاً على الواقع إلّا إذا حُدّدت تلك المسالك والوسائل المنهجية التي يستخدمها المجتهد في استخراج مقاصد الشارع التي تكون هاديًا له في اجتهاده. أهمية الموضوع: لم يكن الإمام الشاطبي مخالفًا لسلفه من العلماء عندما جعل العلم بمقاصد الشريعة والإحاطة بها، ثُمّ القدرة على تنزيلها على الواقع. خلاصة الشروط الواجب توفرها في المجتهد، ذلك أنهم فَصَّلُوا فعدَّدُو الوسائل التي يُعِينُ توفرُها المجتهدَ على تحصيل إمكانية فهم النصوص وإدراك مقاصد الشارع منها والإحاطة بها، وتجاوز الشاطبي التفاصيل، وصوَّب نظره إلى الجوهر, فلخّص شروط المجتهد في الإتصاف بوصفين: أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها، والثاني: التمكن من الإستنباط بناءً على فهمه فيها. (¬1) ¬

_ (¬1) انظر الشاطبي، أبا إسحاق: الموافقات، تعليق عبد الله دراز، وضع تراجمه محمد عبد الله دراز وخرج آياته وفهرس موضوعاته عبد السلام عبد الشافي محمد، (بيروت: دار الكتب العلمية، د. ط، د. ت) مج 2، ج 4، ص 76.

والحديث عن موضوع المقاصد الشرعية يطرح قضية في غاية الأهمية في فهم نصوص الشريعة، هي أهميّة الإعتماد على الكلّيّات الشرعيّة وتحكيمها في فهم النصوص الجزئية وتوجيهها، والتعامل مع النصوص الشرعية بوصفها وحدة متكاملة يكمل بعضُها بعضًا ويعضِده، وهو نوع من أنواع ردِّ المتشابهات إلى المحكمات، والجزئيات إلى الكليات. فكليات الشريعة -وهي مقاصدها العامة- هي الأصول القطعية الحاكمة لكلّ اجتهاد وتفكير إسلامي. ولَمّا كان الكلام في مقاصد الشريعة كلامًا فضفاضًا قد يحمله البعض على غير وجهه الصحيح، فيُدْخِل في مقاصد الشريعة ما ليس منها ويخرج منها ما هو من صميمها، جاءت أهمية الكتابة في بيان المسالك والطرق التي يمكن بها التعرّف على تلك المقاصد، وضبطها حتى لا يتحوّل الإحتجاج بمقاصد الشريعة إلى ثغرة يدخل منها خصوم الإِسلام لتدميره باسمه. وقد كانت هذه الأهمية التي تكتسبها مقاصد الشريعة هي التي دفعت الباحث إلى اختيار هذا الموضوع، فضلاً عن أنه -حسب اطلاع الباحث- لم يُفْرد إلى الآن ببحث أكاديمي متكامل يتناول جميع جوانبه بالبحث والتحليل، ولم يتعرض له بالبحث المستقلّ سوى الشاطبي في الموافقات، ومحمد الطاهر بن عاشور في مقاصد الشريعة الإِسلامية، إلّا أنه كان تناولًا موجزًا، وهو موضوع يحتاج إلى كثير من البحوث والدراسات حتى يمكن تحديد معالمه وضوابطه والوصول به إلى مرحلة النضج. الدراسات السابقة: لم يكن الحديث عن المقاصد الشرعية وسبل التعرف عليها غائبًا عن علماء الصدر الأول (¬1)، ولكن أوّل من أفرد هذه المسالك بمبحث مستقلّ في مؤلفاته هو ¬

_ (¬1) انظر في ذلك مثلًا ما ذكره أبو حامد الغزالي في باب الإستصلاح من أن الطرق التي تعرف بها مقاصد الشرع هي الكتاب والسنة والإجماع. انظر الغزالي، أبا حامد: المستصفى من علم الأصول، تصحيح نجوى ضو، (بيروت: دار إحياء التراث العربي/ مؤسسة التاريخ العربي، ط 1, 1418 هـ/ 1997 م)، ج 1، ص 222، وما ذكره العز ابن عبد السلام من أن مصالح الدارين وأسبابها ومفاسدها تعرف بالكتاب والسنة والإجماع والقياس والإستدلال الصحيح والعقل. انظر ابن عبد السلام، عز الدين بن عبد العزيز: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، (بيروت: مؤسسة الريان، 1410 هـ/ 1990 م)، ج 1، ص 10.

الإمام الشاطبي، الذي خصص الجزء الثاني من كتابه الموافقات لموضوع المقاصد الشرعية دراسةً وتحليلاً. وبعد دراسة طويلة ومتشعّبة للمقاصد تنظيرًا وتدليلًا، وصل أخيرًا إلى الحديث عن المسالك التي يمكن من خلالها التعرّف على تلك المقاصد، فقال: "فإنّ للقائل أنْ يقول: إنّ ما تقدم من المسائل في هذا الكتاب مبنيّ على المعرفة بمقصود الشارع؛ فبماذا يُعرف ما هو مقصود له مما ليس بمقصود له؟ " (¬1) استهلّ الشاطبي حديثه عن هذا الموضوع بمسألة في غاية الحساسية، وهي علاقة مقاصد الشارع بنصوصه، حيث أشار إلى وجود ثلاثة اتجاهات في ذلك: الإتجاه الظاهري الذي يَقْصِر مسالك الكشف عن مقاصد الشارع على ما صرّحت به ظواهر النصوص دون أن يُعطي كبيرَ اهتمام لعلل الأحكام، والمقامات التي صدرت فيها، والظروف والملابسات التي صاحبتها، وما يمكن أن يكون لذلك من تأثير في فهمها وتنزيلها على ما يَجِدُّ بعد ذلك من وقائع. والإتجاه الباطني الذي يُهْدر ظواهر النصوص، ويسعى إلى التخلص منها بدعوى أنها ليست مقصودة لذاتها، ويجعل عمدته في اكتشاف مقاصد الشارع معاني باطنية يزعمها أصحاب هذا الإتجاه من غير أن تسندها أدلّة يُعتَدُّ بها، وإنما هي مجرد دعاوى ليست لها على أضدادها مزيّة. ويبرز هذا الإتجاه عند الفِرَق الباطنية القديمة ومن يُعدُّ امتدادًا لهم من بعض العلمانيين من المعاصرين الذين لم يجرؤوا على ردَّ النصوص الشرعية صراحة، فراموا التخلص منها بدعوى أنها لم يُقْصد منها ظواهرها، وإنما قُصِد بها تحقيق المصلحة التي تتغير بتغير الأزمان والظروف. والاتجاه الثالث، وهو منهج التوسط، وهو اعتبار ظواهر النصوص ومعانيها في مسلك توافقي لا يسمح بإهدار أحد الجانبين على حساب الآخر ولا بطغيان أحدهما على الآخر؛ فيعطي للنص حقّه وأبعاده التي يكون قد قصدها الشارع، وذلك من خلال عدم إهمال الأدوات المُعِينة على حسن فهم النص وتطبيقه مِنْ عللٍ، وقرائنَ، ومقاماتٍ، وعقلٍ، وجمعِ النصوص الجزئيّة بعضها إلى بعض لتتضح الصورة الكلية. ¬

_ (¬1) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 297.

ثم انتقل إلى الحديث عن تلك المسالك، فذكر منها أربعة: (¬1) الأول: مجرّد الأمر والنهي الابتدائي التصريحي؛ فالأمر دالّ بذاته على قصد الشارع إلى إيقاع المأمور به، والنهي كذلك دالّ بذاته على قصد الإنتهاء عن المنهي عنه. وتقييد كلًّ من الأمر والنهي بوصف الصراحة يُقصَدُ منه الإحتراز من الأمر أو النهي الضمني، كالنهي عن أضداد المأمور به؛ إذ الأمر بالشيء يتضمن النهي عن كلّ ما يحول دون تحصيل ذلك المأمور به، والأمر الذي يتضمنه النهي عن الشيء؛ فإن النهي عن الشيء قد يتضمن الأمر بإيقاع ضده، ولكن كلاّ منهما غير مقصود بالقصد الأول، وإنما هو تابع لصريح الأمر أو النهي ومُتَضَمَّن فيهما، وقد لا يكون مقصودًا للآمر أو الناهي تحصيلهما، خاصة في حال إمكان انفكاك أحدهما عن الآخر. والأمر أو النهي الصريح مُتَّفَق على كون الأمر أو النهي فيه مقصودًا للآمر أو الناهي، أما ما يمكن أن يتضمنه الأمر أو النهي من معاني ومقاصد فهو غير ظاهر في ذلك، ويحتاج في التعرف على كون 5 مقصودًا أو غير مقصود إلى قرائن وشروط أخرى، وهو مُدْرَج ضمن ما يحتاج في فهمه إلى معرفة ما يحفّ به من قرائن، وما ورد فيه من سياق للتأكد من كونه مقصودًا للشارع أو غير مقصود. أما تقييدهما بالإبتداء فهو احتراز من الأمر أو النهي الذي قُصِدَ به غيره؛ وهو ما كان وسيلة إلى تحقيق مقصد أو خادمًا له. ومثّل له الشاطبي بقول الله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، "فإن النهي عن البيع ليس نهيًا مبتدأً، بل هو تأكيد للأمر بالسعي، فهو من النهي المقصود بالقصد الثاني، فالبيع ليس منهيًّا عنه بالقصد الأول، كما نهي عن الربا والزنى مثلاً". (¬2) ولكن هذا وإن لم يكن مقصودًا بالقصد الأول فهو مع ذلك يبقى مقصدًا من ¬

_ (¬1) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 298 - 313. (¬2) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 298.

مقاصد الشارع؛ لأن الأول لا يتحقق إلّا بالثاني، فهو طريق للكشف عن مقاصد الشارع، ولا بأس في ذلك من كونه إنما يُعرف به ما قُصِد بالقصد الثاني لا بالقصد الأول. والملاحظ أن هذا المسلك يمثل جزءًا من مسلك أوسع، هو مسلك استخلاص المقاصد من ظواهر النصوص الشرعية التي ثبت عدم صرفها عن ظاهرها، وبناءً على ذلك سيدرجه الباحث ضمن هذا المسلك. الثاني: اعتبار علل الأمر والنهي. والعلة إما أن تكون معلومة أو لا تكون كذلك، فإذا كانت معلومة لزم اعتبارها، فحيث وُجِدَت وُجِد مقتضى الأمر أو النهي. أما إذا لم تُعْلَم العلّة فإنه ينبغي التوقف عن القول بأن الشارع قاصد إلى تعديّة ذلك الحكم من المنصوص عليه إلى المسكوت عنه. (¬1) الثالث: أن للشارع في شرع الأحكام مقاصد أصليّة ومقاصد تبعيّة، ومع كون المقاصد الأصلية هي الأساس، إلّا أنها لا يمكن أن تقوم بمفردها، ولا يمكن أن تتحقق على التَّمام إلّا إذا تحقّقَ ما يخدمها ويكمِّلها، ومن ثَمّ فكلّ ما ثبت كونُه خادمًا ومحققًا للمقاصد الأصلية عُدَّ مقصودًا للشارع، ولزم مراعاته والعمل على تحقيقه، من باب ما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب، فهذا مسلك يُستَدلّ به على أن كلّ ما لم يُنصّ عليه مما شأنه كذلك فهو مقصود للشارع أيضاً. (¬2) الرابع: سكوت الشارع عن شرع التسبُّب أو عن شرعيّة العمل مع قيام المعنى المقتضي له. فهذا الضرب من السكوت يُنزَّلُ منزلة النصّ على أن الشارع يريد الإلتزام بما كان معروفًا في زمن التشريع من غير زيادة عليه ولا نقصان منه. (¬3) ولكن سيتبيّن أن هذا إنما يصدق على العبادات، أو المعاملات التي ظهر فيها معنى التّعبّد دون غيرها من المعاملات التي بُنيت على التعليل ومعقوليّة المعنى. ¬

_ (¬1) انظر المصدر السابق، مج 1، ج 2، ص 299 - 300. (¬2) انظر المصدر السابق، مج 1، ج 2، ص 300 - 303. (¬3) انظر المصدر السابق، مج 1، ج 2، ص 310 - 313.

ومع أن ما كتبه الشاطبي يمثّل أساس موضوع مسالك الكشف عن مقاصد الشارع، إلّا أن دراسته -شأن الدراسات المؤسِّسة في كلّ العلوم- جاءت مجملة غير محيطة إحاطة كاملة بالموضوع فهي -مع إمكان اعتمادها أساسًا لدراسة هذا الموضوع- تبقى في حاجة إلى تفصيل، وتمحيص، وزيادة، وهو ما سعى إليه محمد الطاهر بن عاشور وآخرون بعد ذلك، ويسعى هذا المبحث إلى الإسهام فيه. ومن أبرز ما يلاحظ على المسالك التي أوردها الشاطبي أنها مسالك جزئية قد لا تصلح لإستخراج المقاصد العامة والكلية، وإنما مجالها استخراج المقاصد الجزئية، اللهُمَّ إلّا المسلك الأول، وهو تبيُّن قصد الشارع من مجرد الأمر والنهي الواردين في ظواهر النصوص الشرعية؛ إذْ يمكن استخدامه في استخراج بعض المقاصد العامة والكلية، خاصة إذا تعلق الأمر بالآيات التي نصّت على مبادئ تشريعية كلّية، وبجوامع الكَلِم من السنّة، أما المسالك الأخرى فإنه لا يمكن استخدامها في استخراج المقاصد العامة والكلية إلّا إذا أضيف إليها عنصر الاستقراء. والغريب أن الإمام الشاطبي مع كونِ عمدته الأساسية في الكشف عن مقاصد الشارع تمثلت في الاستقراء، وقد سارع إلى بيان ذلك منذ خطبة الكتاب، حيث يقول: " ... لم أزل أقيّد من أوابده، وأضمّ من شوارده، تفاصيل وجملاً، وأسوق من شواهده، في مصادر الحكم وموارده، مبينًا لا مجملاً، معتمدًا على الاستقراءات الكلية، غير مقتصر على الأفراد الجزئية ... "، (¬1) وأعطاه مكانة بارزة لم يعطها له أحد من علماء الشريعة قبله، إلّا أنه عندما جاء إلى بيان المسالك التي تُعرف بها المقاصد أهمل بالكلية هذا المسلك، ولم يورد له ذكرا. وإذا نظرنا إلى ما كتبه الشاطبي من الناحية المنهجية، فإنه يمكن القول إنه كان على الشاطبي أن يصدَّر كتاب الموافقات ببيان هذه المسالك، ذلك أن من مقتضيات التأليف والبحث المنهجيين أن يصدَّر المؤلَّف مؤلَّفَه ببيان الوسائل والمناهج التي سيعتمدها في بحثه، فكان الأجدر بالشاطبي -قبل أن يشرع في بيان واستخراج مقاصد الشارع- أن يبيَّن منهجه في ذلك. ¬

_ (¬1) المصدر السابق، مج 1، ج 1، ص 16.

أما الشيخ محمد الطاهر بن عاشور فإنه -على خلاف الشاطبي- قد جعل مسالك الكشف عن مقاصد الشارع في بداية كتابه. فبعد إثبات أن للشريعة مقاصد من شرع الأحكام، وبيان حاجة الفقيه إلى معرفة هذه المقاصد انتقل إلى الحديث عن طرق إثبات المقاصد الشرعية، فعدَّد منها ثلاثة طرق، هي: (¬1) 1 - استقراء الشريعة في تصرفاتها، وهو على نوعين: الأول: استقراء الأحكام المشتركة في علّة واحدة ليحصل من ذلك يقين بأن تلك العلة مقصد مراد للشارع، وفي ذلك يقول: "أعظمها استقراء الأحكام المعروفةِ عللُها، الآيل إلى استقراء تلك العلل المثبتة بطرق مسالك العلة. فإن باستقراء العلل حصولَ العلمِ بمقاصد الشريعة بسهولة، لأننا إذا استقرينا عللاً كثيرة متماثلة في كونها ضابطًا لحكمة متّحدة، أمكن أن نستخلص منها حِكْمة واحدة فنجزم بأنها مقصد شرعي، كما يُسْتَنْتَجُ من استقراء الجزئيات تحصيلُ مفهوم كُلّيٍّ حسب قواعد المنطق". (¬2) والثاني: "استقراء أدلّة أحكام اشتركت في علّة بحيث يحصل لنا اليقين بأن تلك العلة مقصد مراد للشارع". (¬3) 2 - الإستخلاص المباشر لمقاصد الشارع من ظواهر النصوص القرآنية الواضحة الدلالة إلى درجة يضعف فيها احتمال كون المراد منها غير ظاهرها، وأعلى المقاصد التي تُستنبط من هذا الطريق هي التي تؤخذ من نصوص تجتمع فيها قطعية الثبوت مع قوة الظهور إلى درجة تقترب من اليقين. (¬4) 3 - الإستخلاص المباشر من السنّة المتواترة، وهو على قسمين: الأول: من السنّة التي حصل تواترها المعنوي من مشاهدة عموم الصحابة عملاً ¬

_ (¬1) ابن عاشور، محمد الطاهر: مقاصد الشريعة الإِسلامية، تحقيق ودراسة محمد الطاهر الميساوي، (د. م: البصائر للإنتاج العلمي، ط 1، 1418 هـ / 1998 م)، ص 124 - 129. (¬2) المصدر السابق، ص 125. (¬3) المصدر السابق، ص 126. (¬4) انظر المصدر السابق، ص 127.

من أعمال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيحصل لهم علمٌ بتشريعٍ في ذلك يستوي فيه جميع المشاهدين، وهو الطريق الذي تثبت منه المعلومات من الدين بالضرورة. الثاني: تواتر عملي يحصل لآحاد الصحابة من تكرّر مشاهدة أعمال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بحيث يستخلص من مجموعها مقصدًا شرعيًا. (¬1) ويبدو أن ابن عاشور يقصر هذا المسلك على الصحابة فقط لما يحصل لهم من تواتر في تلك السنن وتعذُّر ذلك على من جاء بعدهم إلّا من خلال القيام بعملية استقراء، وهو الذي أشار إليه في المسلك الأول. وقد عدّ ابن عاشور "طريقة السلف في رجوعهم إلى مقاصد الشريعة وتمحيص ما يصلح لأن يكون مقصوداً لها" طريقًا يُنزّل منزلة طرق الكشف عن المقاصد، إلّا أنه لم يدرجه ضمن تلك الطرق من حيث إنه لم تثبت حجيّة كلّ أقوال السلف، بل منها ما هو حجّة، ومنها ما هو مجرّد رأي من صاحبه في فهم الشريعة، ولكن التأمل في أقوالهم يُبيِّن وجوب اعتبار مقاصد الشريعة على الجملة. (¬2) وعلى أهمية ما كتبه ابن عاشور - حيث يمكن أن يضاف إلى ما كتبه الشاطبي ليكونا معًا أساس دراسة مسالك الكشف عن المقاصد - إلّا أنه لا يمكن اعتباره دراسة وافية، بل مجرد تمهيد لطريق المبحث في هذا الموضوع. ويبدو أن ابن عاشور اعتنى بتطبيق منهجه هذا عمليًّا في كتاباته أكثر من اهتمامه بالتنظير له. وقد أجرى الدكتور عبد المجيد النجار دراسة مقارنة بعنوان: مسالك الكشف عن مقاصد الشريعة بين الشاطبي وابن عاشور (¬3) استعرض فيها موضوع الكشف عن مقاصد الشريعة: مقدماته، ومسالكه عند كلٍّ من الإمام الشاطبي، والشيخ محمد الطاهر بن عاشور ثُمّ المقارنة بينهما، حيث أشار إلى أن المسالك التي أوردها الشاطبي ¬

_ (¬1) انظر المصدر السابق، ص 127 - 129. (¬2) انظر المصدر السابق، ص 130 - 134. (¬3) وهو في أصله مقال نشر في العدد الأول من مجلة العلوم الإِسلامية التي تصدرها جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإِسلامية بقسنطينة، الجزائر. ثم نشره ضمن كتابه: فصول في الفكر الإِسلامي بالمغرب، (بيروت: دار الغرب الإِسلامي، ط 1، 1992 م)، ص 139 - 161.

تتسم بكونها جزئية في الغالب، "حيث اتجهت إلى رسم الطريق في المبحث عن المقاصد في نطاق آحاد الأحكام، لا في نطاق المقاصد الكلية العامة، وهو ما يظهر بجلاء في المسالك الثلاثة الأخيرة". (¬1) وقد أرجع سبب ذلك إلى طبيعة العمل الذي قام به الشاطبي بكونه "عملاً مبتكرًا أو يكاد، وهو ما جعله ينحو منحى التجزئة والتفصيل والتدقيق في بسط المقاصد وتحليلها، وبيان حقائقها وأوضاعها، فجاء مؤَلَّفُه متكاثرة مسائله متنوعة متعددة قضاياه". (¬2) أما ابن عاشور فإنه قد وجد أساس علم المقاصد مرفوعًا فعمد إلى البناء عليه مع تهذيبه، والسعي إلى الوصول به إلى مرحلة النضج، فكان تركيزه على الطرق التي تعرف بها المقاصد العليا، ولذلك نجده قد جعل الاستقراء أولها وأعظمها. وفي نهاية المبحث خلص إلى القول: "لا شك أن ما قدّمه الإمامان يُعتبر مادة ثريّة في الإستكشاف المقاصدي لا غنى لباحث أصولي عنها، كما أنه يُعتبر قفزة نوعية في جنس البحوث الأصولية، ولحن تطور الأوضاع، واستجداد الملابسات تدعو إلى أن تكرم هذه الثروة بتزكيتها بالبحث للبناء عليها أسًّا متينًا، وفي مستجدات العلوم اليوم: لغوية واجتماعية ونفسية واقتصادية ما يعين على تطوير البحوث في مسالك الكشف عن مقاصد الشريعة". (¬3) منهجية البحث: يشتمل البحث على مقدمة وبابين وخاتمة. جاءت المقدمة في بيان أهمية الموضوع، وملخص لأبرز الدراسات السابقة حوله. أما الباب الأول فهو في كيفية استخلاص المقاصد من منطوق النصوص ومفهومها ومعقولها، وقد اشتمل على خمسة فصول. ¬

_ (¬1) المصدر السابق، ص 158. (¬2) المصدر السابق، الصفحة نفسها. (¬3) المصدر السابق، ص 160.

الفصل الأول: وهو بمثابة تمهيد للموضوع، حيث يتناول التعريف بمقاصد الشريعة، وبيان أنواعها وتقسيماتها، ثم يعرض بشيء من التفصيل إلى بيان أهمية العلم بمقاصد الشريعة خاصة لمن يتصدى للفتوى والإجتهاد، حيث تكون عونًا وهاديًّا له في حسن فهم النصوص وإدراك ما خفي من المعاني، والترجيح بين ما يبدو فيه تعارض منها، وحسن تنزيلها على الواقع بمراعاة مآلات تلك الأحكام ومدى تحقيقها لما قصده الشارع منها. أما الفصل الثاني: فهو في بيان أن أوّل ما تُستخلَص منه مقاصد الشارع هي ظواهر نصوصه، لأنها هي وعاء أمره ونهيه، وهي المتضمن لإرادته. فإذا تبيّن أن تلك الظواهر غير مقصودة، أو لم تكن واضحة إلى الدرجة التي تُستخلص منها المقاصد استخلاصًا مباشرًا، انتقل الباحث إلى البحث عن القرائن والظروف والملابسات التي ورد فيها ذلك الخطاب للإستعانة بها على تحديد المقصود منه، وهو موضوع الفصل الثالث. فإذا لم يكن منطوق النص وافيًّا بمقصد الشارع انتُقِلَ إلى معقوله، وذلك من خلال البحث عن علل النصوص وحِكَمها، وتكون بعض مسالك العلة طريقَ المجتهد في استخراج مقاصد الشارع من معقولِ نصوصه، وهو موضوع الفصل الرابع. أما الفصل الخامس: فقد خصص لدراسة كيفية دلالة سكوت الشارع على مقاصده من خطاباته، وبيان ما يصلح منه ليكون كذلك وما لا يصلح. أما الباب الثاني فهو مخصص لمسلك الاستقراء، وقد تَمّ إفراده بباب مستقلّ لأهميته في الكشف عن المقاصد العامة واستخراج الكليات الشرعية، ولأنه لم ينل حظه من الحث في الدراسات الشرعية، ولِمَا يكتنفه من خلاف حول أهميته في هذه الدراسات وحول إمكانية التوصل من طريقه إلى نتائج قطعية أو قريبة من القطع. وقد جاء في ستة فصول. الفصل الأول: في تعريف الاستقراء قديمًا وحديثًا، وبيان أقسامه ودلالة كلّ قسم

منه. الفصل الثاني: في لمحة عن الاستقراء في العلوم الشرعية، حيث يتبيَّن أن الإستدلال الإستقرائي استدلال أصيل في العلوم الشرعية، وليس وليدَ انتقالِ التراث اليوناني إلى العالم الإِسلامي، فهو حاضر بجلاء في المجال التطبيقي عند علماء المسلمين وإن لم يُعْتَنَ به كثيرًا في المجال النظري. ولَمّا كان الشاطبيّ أبرز من اعتنى من الأصوليين بمبحث الاستقراء، وأعطاه بعدًا تطبيقيًّا واسعًا في مجال المقاصد الشرعية كان من اللازم إفراده بالدراسة، فخُصَّص لذلك الفصل الثالث من هذا الباب. أما الفصل الرابع فقد خُصص لرأي ابن عاشور في الإستدلال الإستقرائي في مجال مقاصد الشريعة، وكيفيّة تطبيقه إياه. وبعد هذه الدراسة المستفيضة للإستدلال الإستقرائي جاء الفصل الخامس لتقييمه: ما له وما عليه، وليبيَّن الفروق التي يجب مراعاتها بين الاستقراء في العلوم الطبيعية والاستقراء في العلوم الشرعية خصوصًا والعلوم الإجتماعية عموما. أما الفصل السادس فهو دراسة تطبيقية لبيان كيفية استثمار الإستدلال الإستقرائي في المقاصد العامة للشريعة الإِسلامية، واستخلاص الكليات من جزئيات النصوص والأحكام. ثم تأتي خاتمة البحث لإبراز بعض الخلاصات والتوصيات.

الباب الأول استخلاص المقاصد من منطوق النصوص ومفهومها

البَابُ الأَوّل استخلاص المقاصد من منطوق النصوص ومفهومها وفيه خمسة فصول: الفصل الأول: تعريف مقاصد الشريعة وبيان أقسامها، وفائدة العلم بها الفصل الثاني: استخلاص المقاصد من ظواهر النصوص الفصل الثالث: وظيفة السياق والمقام في تحديد المقصود من الخطاب الشرعي الفصل الرابع: استخلاص المقاصد من خلال معرفة علل الأحكام الشرعية الفصل الخامس: سكوت الشارع ودلالته على مقاصده

الفصل الأول تعريف مقاصد الشريعة وبيان أقسامها، وفائدة العلم بها

الفصل الأول تعريف مقاصد الشريعة وبيان أقسامها، وفائدة العلم بها المبحث الأول: تعريف مقاصد الشريعة وبيان أقسامها المطلب الأول: تعريف مقاصد الشريعة التعريف اللغوي: القصد والمقصد مشتقان من الفعل "قصد"، والقصد: استقامة الطريق، والإعتماد، والأَمُّ، والعدل، والتوسط، وإتيان الشيء. يقال: قصده، وله، وإليه، يقصده. (¬1) قال ابن جِنّي: "أصل (ق ص د) ومواقعها في كلام العرب الإعتزام والتوجه والنهود والنهوض نحو الشيء، على اعتدال كان ذلك أو جور, هذا أصله في الحقيقة وإن كان قد يُخَصّ في بعض المواضع بقصد الإستقامة دون الميل". (¬2) والمقصِد اسم المكان. وجمعه مقاصد، أما جمعه على قُصُود فقد ذكر الفيومي أن بعض الفقهاء قد استعمله، وهو على خلاف القياس عند النحاة. (¬3) ومنه جاء تعبير الفقهاء والأصوليين بمقاصد الشارع عن المعاني والحِكَم التي قصد الشارع إلى تحقيقها من وراء تشريعاته وأحكامه. وقد ذكر الدكتور طه عبد الرحمن أن لفظ "المقاصد" مشترك بين معان ثلاثة: [1 - يُستعمل لفظ "قصد" بمعنى هو ضد الفعل "لغا - يلغو". لَمّا كان اللغو هو ¬

_ (¬1) انظر ابن منظور، أبا الفضل جمال الدين محمد بن مكرم: لسان العرب، (بيروت: دار صادر، ط 1، 1410 هـ / 1990 م)، ج 3، ص 353 - 354؛ الزاوي، الطاهر أحمد: ترتيب القاموس المحيط على طريقة المصباح المنير وأساس البلاغة، (بيروت: دار الفكر، ط 3، د. ت)، ج 3، ص 628. (¬2) ابن منظور: لسان العرب، ج 3، ص 355. (¬3) انظر الفيومي، أحمد بن علي: المصباح المنير، (بيروت: مكتبة لبنان، 1987 م)، ص 192.

الخلو عن الفائدة أو صرف الدلالة، فإن المقصد يكون -على العكس من ذلك- هو حصول الفائدة أو عقد الدلالة؛ واختص المقصد بهذا المعنى باسم "المقصود"، فيقال: المقصود بالكلام، ويراد به مدلول الكلام، وقد يجمع على مقصودات]. (¬1) فيكون المقصد هنا بمعنى المقصود، وهو المضمون الدلالي للكلام. [2 - يُستعمل الفعل: "قصد" أيضًا بمعنى هو ضد الفعل: "سها - يسهو. لَمَّا كان السهو هو فقد التوجه أو الوقوع في النسيان، فإن المقصد يكون -على خلاف ذلك- هو حصول التوجه والخروج من النسيان؛ واختص المقصد بهذا المعنى باسم "القصد"، وقد يجمع على "قصود"؛ فيكون "المقصد بمعنى القصد هو المضمون الشعوري أو الإرادي]. (¬2) [3 - يُستعمل الفعل: "قصد" كذلك بمعنى هو ضد الفعل: "لها - يلهو" لما كان اللهو هو الخلو عن الغرض الصحيح وفقد الباعث المشروع، فإن المقصد يكون -على العكس من ذلك- هو حصول الغرض الصحيح وقيام الباعث المشروع؛ واختص المقصد بهذا المعنى باسم "الحِكْمة"؛ فيكون "المقصد بهذا المعنى هو المضمون القيمي". (¬3) "وعلى الجملة، فإن الفعل: "قصد"، قد يكون بمعنى "حصَّل فائدة"، أو بمعنى "حصَّل نيَّة"، أو بمعنى "حصَّل غرضًا"]. (¬4) التعريف الإصطلاحي: لم يرد تعريف اصطلاحي مضبوط للمقاصد عند المتقدمين من الأصوليين والفقهاء. ومع أن الإمام الشاطبي يُعَدّ أوَّل من أفرد المقاصد الشرعية بالتأليف وتوسع فيها بما لم يفعله أحد قبله، إلّا أنه لم يورد تعريفًا اصطلاحيًا لها، وربما كان ذلك ¬

_ (¬1) عبد الرحمن، طه: تجديد المنهج في تقويم التراث، (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط 1، 1994 م)، ص 98. (¬2) المصدر السابق، الصفحة نفسها. (¬3) المصدر السابق، الصفحة نفسها. (¬4) المصدر السابق، الصفحة نفسها.

راجعًا إلى نفور الإمام الشاطبي من التقيد بالحدود في المباحث الأصولية التي تحدث عنها ويؤيد ذلك انتقاده لنظرية الحد عند المناطقة، (¬1) وكذلك جريًا على منهجه في تأليف كتاب الموافقات، حيث إنه لم يقصد به تأليف كتاب يتناول كلّ موضوعات أصول الفقه، وإنما المقصود منه تحقيق بعض المسائل وبحث ما لم يسبق بحثه، أو ما بُحِث من قِبَل الأصوليين بحثًا خفيفًا لا يفي بحقه، ومن ثَمّ فإنه لا يُعنى بإيراد التعريفات والحدود. أما الشيخ محمد الطاهر بن عاشور -وهو ثاني أبرز من كتب في مقاصد الشريعة بعد الشاطبي- فقد عرفها بقوله: "مقاصد التشريع العامة هي المعاني والحِكَم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها"، (¬2) وهو تعريف للمقاصد العامة أما المقاصد الخاصة فتكون بناءً على ذلك هي المعاني والحِكَم الملحوظة للشارع في باب من أبواب التشريع، أو في جملة أبواب متجانسة ومتقاربة. ¬

_ (¬1) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 1، ص 38 - 41، مج 2، ج 4، ص 249 - 251. (¬2) انظر محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 171.

المطلب الثاني أقسام المقاصد الشرعية

المطلب الثاني أقسام المقاصد الشرعية تنقسم المقاصد الشرعية إلى أقسام عديدة، باعتبارات مختلفة: أولاً - باعتبار مدى شمولها لمجالات التشريع وأبوابه: تنقسم بهذا الإعتبار إلى مقاصد عامة، ومقاصد خاصة، ومقاصد جزئية. 1 - المقاصد العامة: "هي المعاني والحِكَم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع، أو معظمها"، (¬1) أو في أنواع كثيرة منها. ويدخل في المقاصد العامة: أوصاف الشريعة (مثل الفطرة، والسماحة واليسر)، وغايتها العامة (درء المفاسد وجلب المصالح)، والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها (الحِكَم المراعاة في كلّ أبواب الشريعة أو في أكثرها، مثل رفع الحرج، ورفع الضرر, وغيرها). (¬2) شروط اعتبار المقاصد العامة: يرى محمد الطاهر بن عاشور أنه يشترط في المقاصد التي تُعَدّ من المقاصد العامة للشريعة الإِسلامية الشروط الآتية: أ - أن تكون ثابتة: والمراد بالثبوت أن يكون تحقيقها للمصلحة (جلب نفع عام، أو دفع ضرر عام) مجزومًا بتحققه، أو مظنونًا ظنًّا قريبًا من الجزم. (¬3) ب - أن تكون ظاهرة: والمراد بالظهور أن يكون المقصد واضحًا، بحيث لا يختلف الفقهاء في تحديده والاعتداد به، (¬4) إذْ لا يُعْقَل أن يُوصَف مقصد مَا بالعموم ¬

_ (¬1) انظر محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 171. (¬2) انظر المصدر السابق، ص 171. (¬3) انظر المصدر السابق، ص 172. (¬4) انظر محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 172.

مع خفائه وكونه محلّ خلاف كبير بين الفقهاء. ج - أن تكون منضبطة: أي أن يكون للمقصد "حَدٌّ معتبر لا يتجاوزه، ولا يقصر عنه، بحيث يكون القدر الصالح منه لأن يُعتبر مقصدًا شرعيًّا قدرًا غير مشكك" (¬1)، أي غير متفاوت الوجود في أفراده. وقد أضاف ابن عاشور شرطًا رابعًا، وهو الإطراد، ويعني به أن لا يكون المقصد مختلفًا باختلاف أحوال الأقطار والقبائل، والأعصار. وقد مثَّل له ببعض الأوصاف التي راعاها بعض الفقهاء في شرط الكفاءة في النكاح مثل: الإِسلام، والقدرة على الإنفاق، واعتبرها من الأوصاف المنضبطة، والتماثل في الثراء والنسب، واعتبرها من الأوصاف غير المنضبطة. (¬2) والملاحظ أن في هذا خلطًا بين الوسائل والمقاصد، فما مثَّل به ابن عاشور هنا واضح أنه من الوسائل التي جعلت لتحقيق مقاصد النكاح، وليست هي في ذاتها مقاصد مرادة للشارع. ويبدو للباحث أن المقاصد لا يمكن أن توصف بالإطراد، وإنما الذي يحتاج إلى الإطراد هي الوسائل، الي تتأثر بالظروف وتغير الأزمان في مدى إمكانية تحقيقها للمقاصد، ومن ثَمَّ تغيرت أحكامها واحتاجت إلى شرط الإنضباط. أما المقاصد فيكفي فيها أن تكون ثابتة، أي محققة للمصلحة في مختلف الأحوال والبيئات والأعصار, وأن يكون ذلك الثبوت منضبطًا، أي له حدّ لا يقصر عنه في مختلف الأحوال، وأن يكون واضحًا لا يختلف فيه اختلافًا معتبرًا. 2 - المقاصد الخاصة: ويمكن استخلاص تعريف لها من خلال تعريف ابن عاشور للمقاصد العامة فتكون هي: المعاني والحِكَم الملحوظة للشارع في باب من أبواب التشريع، أو في جملة أبواب متجانسة ومتقاربة، مثل مقاصد الشارع في العقوبات، أو في المعاملات المالية، أو في العبادات المالية، أو في إقامة نظام الأسرة، وغيرها. ¬

_ (¬1) المصدر السابق، ص 172. (¬2) انظر المصدر السابق، ص 172.

3 - المقاصد الجزئية: وهي الحِكَم والأسرار التي راعاها الشارع عند كلّ حكم من أحكامه المتعلقة بالجزئيات. (¬1) ثانيًا - باعتبار آثارها في قوام أمر الأمة: أي باعتبار أهميتها في قيام حياة الجماعة أو الأفراد واستقامتها، وتنقسم بهذا الإعتبار إلى ثلاثة أقسام: 1 - مقاصد ضرورية: وهي "التي تكون الأمة بمجموعها وآحادها في ضرورة إلى تحصيلها"، (¬2) بحيث يختلّ نظام الحياة مع اختلالها، ويترتب على خرقها فساد عظيم في الدنيا والآخرة. والفساد في الدنيا ينتج عن خرق كلّيات حفظ النفوس، والعقول، والأموال، والأنساب، والفساد الأخروي ينتج عن خرق كلّية حفظ الدين؛ إذْ مع ما يترتب من فساد في الدنيا نتيجة خرق كلّية الدين إلّا أن أمور الحياة يمكن أن تستقيم إلى حَدِّ كبير من دون ذلك -كما هو الشأن في بلاد الغرب - أما ما يترتب على ذلك في الآخرة من كون مصير من ضيَّع الدين الجحيم فهو أعظم الخسران، ولا فرق بين أن يكون الخسران في الدنيا أو في الآخرة، إذ هما مرحلتان لحياة واحدة. وقد فسَّر ابن عاشور اختلال نظام الحياة بانخرام الضروريات بأن "تصير أحوال الأمة شبيهة بأحوال الأنعام، بحيث لا تكون على الحالة التي أرادها الشارع منها". (¬3) 2 - مقاصد حاجية: "وهو ما تحتاج الأمة إليه لإقتناء مصالحها وانتظام أمورها على وجه حسن"، (¬4) فالحاجة إليه من حيث التوسعة على الناس ورفع الحرج عنهم. (¬5) 3 - مقاصد تحسينية: وهي ما يكون بها كمال الأمة في نظامها، فتبلغ بها مرتبة عالية من الرقي والتحضر, وحسن المعاملة والمظهر, فتكون أمة محترمة، التقربُ ¬

_ (¬1) انظر الفاسي، علال: مقاصد الشريعة الإِسلامية ومكارمها، (الدار البيضاء: مكتبة الوحدة العربية, د. ط، د. ت)، ص 3. (¬2) محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 210. (¬3) محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 210. (¬4) المصدر السابق, ص 214. (¬5) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 326.

إليها والإندماجُ فيها مرغوبٌ فيه. وذلك كمحاسن الأخلاق والعادات، الفردية منها والجماعية. (¬1) تنبيه: يلاحظ الناظر في تقسيم الشاطبي للمقاصد (الكلّيات الثلاث) إلى ضرورية، وحاجية، وتحسينية، أنه عند التمثيل لكلّ مرتبة قد أدخل بعض الواجبات ضمن التحسينيات، في حين أدرج بعض المباحات أو المندوبات ضمن الضروريات، وقد يُشْكِل هذا؛ إذْ كيف تكون الفرائض والواجبات مجرد تحسينيات؟ وللإجابة على هذا الإشكال لابد من النظر إلى أمرين: الأول: الأساس أو المعيار الذي اعتمده الشاطبي في هذا التقسيم، هل هو رتبة التكليف أم أمر آخر؟ فالظاهر أن الشاطبي لم يعتمد في تقسيمه هذا مراتبَ الحكم الشرعي من حيث الإقتضاء والتخيير, وإنما اعتمد معيارًا آخر, هو مدى أهمية كلّ مرتبة في إقامة الحياة الإنسانية -الفردية والجماعية- في أعمدتها الأساسية الخمس: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال؛ ولذلك فلا غرابة أن نجد بعض المباحات داخلة في الضروريات لأنها مباحة بالجزء واجبة بالكلّ، ولأن الحياة لا تقوم إلّا بالمحافظة عليها، وأن نجد بعض الواجبات ضمن التحسينيات لأن أساس الحياة يمكن أن يقوم بغيرها. والثاني: هو فلسفة الشاطبي في كيفية ورود الأوامر والنواهي الشرعية وما بينهما من مراتب التكليف؛ إذْ يرى الشاطبي أن المطلوب الشرعي ينقسم إلى قسمين: أ - ما كان شاهدُ الطبعِ خادمًا له ومعينًا عليه، بحيث يكون الطبع الإنساني باعثًا على مقتضى الطلب، ومن أمثلة ذلك الأكل، والشرب، والجماع، والبعدُ عن استعمال القاذورات وأكلها، وغير ذلك. وهذا النوع قد يكتفي الشارع في طلبه -عادةً- بمقتضى الجبلّة الطبعية، والعادات الجارية، فلا يؤكد طلبه تأكيده لغيره، اكتفاءً بالوازع الباعث على الموافقة دون المخالفة، فلذلك نجد هذا النوع على الجملة مطلوبًا طلب ندب لا طلب وجوب، بل كثيرًا ما يأتي في معرض الإباحة. ¬

_ (¬1) انظر المصدر السابق، ص 215.

ب - ما لم يكن شاهدُ الطبع خادمًا له ولا معينًا عليه، وإنما هو من باب التكاليف التي قد تجري على خلاف هوى الأنفس، ومثال ذلك العبادات، والجنايات، والرفق بالناس والإحسان إليهم، وهذا النوع قرره الشارع على مقتضا 5 من التأكيد في المؤكدات، والتخفيف في المخففات، ولذلك حَدَّ الشارع لهذا النوع حدودًا معلومة، ووضع له عقوبات معينة إبلاغًا في الزجر عَمّا تقتضيه الطباع. وما قيل في أنواع المطلوب الشرعي ينطبق تمامًا على المنهيات الشرعية. إذًا، فالمعيار المعتمد في ورود الأمر وتأكيده ليس هو مدى أهمية الفعل في إقامة حياة الإنسان والمحافظة عليها، بقدر ما هو مدى وجود حوافز وبواعث طبيعية للإنسان على الفعل أو الترك، فتكون بعض الضروريات مباحة، ولم يوجبها الشارع اكتفاءً بالباعث الجبلي في السعي إلى تحصيلها، وتكون بعض الحاجيات أو التحسينيات واجبةً لضعف البواعث الجبلية التي تبعث الإنسان على تحصيلها أو لانعدامها. وفي ذلك يقول الشاطبي: "فإنه ربما وقع الأمر والنهي في الأمور الضرورية على الندب أو الإباحة والتنزيه فيما يفهم من مجاريها، فيقع الشك في كونها من الضروريات؛ كما تقدم تمثيله في الأكل والشرب واللباس والوقاع، وكذلك وجوه الاحتراس من المضرات والمهلكات وما أشبه ذلك، فيرى أن ذلك لا يلحق بالضروريات، وهو منها في الإعتبار الإستقرائي شرعًا، وربما وقع الأمر بالعكس من هذا؛ فلأجل ذلك وقع التنبيه عليه ليكون من المجتهد على بال ... ". (¬1) ثالثًا - باعتبار تعلقها بعموم الأمة أو جماعتها أو أفرادها: وتنقسم بهذا الإعتبار إلى كلية وجزئية: 1 - المقاصد الكلية: وهي "ما كان عائدًا على عموم الأمة عَوْدًا متماثلًا، وما كان عائدًا على جماعة عظيمة من الأمة أو قطر". (¬2) ¬

_ (¬1) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 102، وانظر أيضًا مج 1، ج 2، ص 138 وما بعدها. (¬2) انظر محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 220.

وقد مثَّل ابن عاشور لما يعود على عموم الأمة بحماية البيضة، وحفظ الجماعة من التفرق، وحفظ الدين -في مجمله- من الزوال، وغيرها مما قصد الشارع حفظه مما يتعلق بعموم الأمة بمختلف أقطارها وأجناسها. ومثَّل لما يعود على الجماعات العظيمة بما يحتاج إليه كلّ بلد من بلاد المسلمين من تشريعات قضائية لحفظ انتظام حياتهم، بتيسير طرق الخير, وسدّ منافذ الشر والظلم، وما تقيمه هذه الأقطار من اتفاقيات ومعاهدات اقتصادية وسياسية بما يخدم مصالحها. (¬1) 2 - المقاصد الجزئية: وهي المقاصد التي تعود على آحاد الأفراد، أو على المجموعات الصغيرة منهم، وهي التي شرعت أحكام المعاملات لحفظها. (¬2) رابعًا - من حيث مدى القطع بكون الشارع قاصدًا إليها: وتنقسم إلى قطعية، وظنية، ووهمية: 1 - المقاصد القطعية: وهي التي تثبت بأحد الطرق الآتية: (¬3) أ - النص الذي لا يحتمل التأويل. ب - استقراء أدلّة كثيرة من الشريعة. ج - ما دلّ العقل على أن في تحصيله صلاحًا عظيما، وأن في حصول ضده ضرًّا عظيمًا على الأمة. وتكون المقاصد قطعية -في نظر ابن عاشور- إذا توافرت فيها شروط: الثبوت، والظهور, والإنضباط، والإطراد. فإذا توافرت في معنًى من المعاني الحقيقية أو العرفية العامة هذه الشروط حصل اليقين بكونه مقصدًا. (¬4) 2 - المقاصد الظنية: وهي ما دلّ عليه دليل ظني من الشرع، أو ما اقتضى العقل ¬

_ (¬1) انظر المصدر السابق، ص 220. (¬2) انظر المصدر السابق، ص 220. (¬3) محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 220 - 221. (¬4) انظر المصدر السابق، ص 172 - 173

ظنه مصلحة ومقصدًا للشارع. (¬1) 3 - المقاصد الوهمية: وهي ما يُتَخَيّلُ فيها صلاحٌ وخيرٌ, إما لخفاء ضرها، أو لأنها مشوبة بمصلحة هي في الحقيقة مرجوحة مقابل ما فيها من مفسدة عظيمة. (¬2) خامسًا - من حيث مدى تحققها في نفسها أو نسبية ثبوتها: وتنقسم بهذا الإعتبار إلى أربعة أقسام: 1 - المقاصد الحقيقية: وهي "التي لها تحقُّق في نفسها، بحيث تدرك العقول السليمة ملاءمتها للمصلحة (بأن تكون جالبة لنفع عام)، أو منافرتها لها (بأن تكون جالبة ضررًا عامًا)، إدراكًا مستقلًا عن التوقف على معرفة عادة أو قانون، كإدراك كون العدل نافعًا، وكون الاعتداء على النفوس ضارا". (¬3) وبتعبير آخر هي المقاصد التي يمكن أن تدرك العقول حسنها أو قبحها ولو من غير استناد إلى شرع أو عرف. 2 - المقاصد الإعتبارية: وهي المعاني التي لها حقائق متميزة عن غيرها من الحقائق، ويمكن للعقل تَعَقُّلُهَا لِمَا لها من تعلق بالحقائق، لكنها غير قائمة بذاتها، بل وجودها تابع لوجود حقيقة أخري مثل الزمان والمكان، أو حقيقتين كالإضافات. ومثال ذلك اعتبار الرضاع سببًا لتحريم التزوج بالأخت منه، ومعاملته معاملة النسب في ذلك، وهذا النوع ملحق بالنوع الأول (المقاصد الحقيقية). (¬4) 3 - المقاصد العرفية العامة: وهي التي أدركت العقول حسنها بالتجربة، أي بعد تجريبها واكتشاف ملاءمتها لصلاح الجمهور، ومثال ذلك إدراك كون الإحسان معنى ينبغي تعامل الأمة به، وإدراك كون عقوبة الجاني رادعة إياه عن العود إلى مثل جنايته، ورادعة غيره عن الإجرام. (¬5) ¬

_ (¬1) انظر المصدر السابق، ص 220. (¬2) انظر المصدر السابق، ص 221. (¬3) محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 171. (¬4) انظر المصدر السابق، ص 174. (¬5) انظر المصدر السابق، ص 172.

4 - المقاصد العرفية الخاصة: وهي معاني أدركت العقول ملاءمتها بالتجربة، ولكنها لم تكن عرفًا عاما، بل خاصة. ومع ذلك احتاجت الشريعة إلى اعتبارها في مقاصدها لِمَا تشتمل عليه من تحصيل صلاح أو دفع ضرر عامين. كاعتبار القرشية شرطًا في الخليفة، واعتبار الذكورة شرطا في الولايات القضائية والإمارة. وهذا النوع يجب على الفقيه التأمل فيه وسبره، فما حصل له الظن فيه في الجملة أنه مقصود للشارع أثبته مسائلَ فرعية قريبة من الأصول، ولكن لا يتجاوز به مواقع وروده كما هو مذهب بعض العلماء في شرط القرشية، إذ اعتبروه شرطًا مخصوصًا بظروف المجتمع القائم على العصبية القبلية. أما إذا قوي الظن بكونها مقاصد شرعية مطردة، فله حينئذ تأصيلها ومجاوزة مواقع ورودها كما هو الأمر في اعتبار الذكورة شرطًا في الإمارة والولايات القضائية. (¬1) سادسًا - من حيث علاقتها بحظ المكلَّف: وتنقسم بهذا الإعتبار إلى قسمين: مقاصد أصلية، ومقاصد تبعية. 1 - المقاصد الأصلية: وهي التي لا حَظَّ للمكلَّف فيها، وهي مقاصد الشارع في الحفاظ على الضروريات الخمس. والمراد هنا بانعدام حظ المكلَّف فيها كون الشارع عندما وضعها وألزم بها المكلفين لم يُراعِ في الإلزام بها حظوظ المكلفين بالقصد الأول، وإنما راعى فيها إقامة حياتهم واستقامتها بالقيام بالضروريات وحفظها. (¬2) فانعدام حظ المكلَّف فيها منظور إليه من وجوه: أحدها: أن الشارع قاصد إلى إقامة تلك المقاصد والحفاظ عليها سواء وافقت الحظوظ العاجلة للمكلَّف أم لم توافقها، وإن تبعها حظ للمكلَّف -وهي عادة كذلك- فَبِالتَّبَعِ لا أصالةً، والثاني: أنها راجعة إلى حفظ الضروريات التي لا تستقيم الحياة بغيرها، فتركُها تجري على حظوظ المكلفين قد يؤدي إلى خرم الضروريات، ومن ثَمَّ إلى فساد الحياة، والثالث: أن المكلَّف مُطالَب بإيقاعها، سواء وافقت ميلًا نفسيًّا منه أم لم توافق، وسواء كان في إيقاعها تحقيق حظ ¬

_ (¬1) محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 173. (¬2) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 134.

عاجل أم لم يكن، فهو مطالب بها في كلّ الأحوال. فانعدام الحظ في قيام المكلَّف بتحقيق هذه المقاصد راجع إلى كونه مُطَالَبًا بذلك في كلّ الأحوال، ولا مجال له لأن يتخير بين الفعل وعدمه، أو بين فعل وآخر فمن هنا صار فيها مسلوب الحظ. وليس معنى ذلك انعدام حظه بالكلية فيها، بل هي في حقيقتها كلها حظوظ ومصالح له عاجلاً أو آجلا، مباشرة أو بطريق غير مباشر وخصائص هذا النوع من المقاصد أنها "قيام بمصالح عامة مطلقة، لا تختص بحال دون حال، ولا بصورة دون صورة، ولا بوقت دون وقت". (¬1) وقد قسمها الشاطبي إلى قسمين: ضرورية عينية، وضرورية كفائية. - أما الضرورية العينية: فهي الواجبة على كلّ مكلَّف في نفسه، من كونه مأمورًا "بحفظ دينه اعتقادًا وعملا، وبحفظ نفسه قيامًا بضرورية حياته، وبحفظ عقله حفظًا لمورد الخطاب من رَبَّهِ إليه، وبحفظ نسله التفاتًا إلى بقاء عوضه في عمارة الدار ... وبحفظ ماله استعانة على إقامة تلك الأوجه الأربعة". (¬2) - وأما الضرورية الكفائية: فهي ما نيط فيها التكليف بعموم المكلفين لتتولى القيام بها والمحافظة عليها مجموعة مصطفاة منهم، وقد اعتبرت من باب الضروري لأنها مكملة للقسم الأول، وهي الضروريات العينية؛ ذلك أن الأحوال الخاصة لا تقوم إلّا باستقامة الأحوال العامة، والأحوال العامة لا تستقيم إلّا بالقيام بتلك الضروريات الكفائية. (¬3) والملاحَظُ أن هذا النوع من المقاصد يرجع إلى العبادات وما يُقام به أصل الضروريات، وهي دائرة على حُكْم الوجوب، سواء بالجزء أو بالكلّ. 2 - المقاصد التبعية: وهي المقاصد التي رُوعِي فيها حظ المكلّف بالقصد الأول، حيث يحصل له من جهتها مقتضى ما جُبِل عليه من نيل الشهوات، والإستمتاع ¬

_ (¬1) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 134. (¬2) المصدر السابق، مج 1، ج 2، ص 135. (¬3) انظر المصدر السابق، مج 1، ج 2، ص 135 وما بعدها.

بالمباحات، وسَدِّ الخَلات، وجُعل للإنسان فيها حرية الإختيار بين الفعل وعدمه، وبين أنواع المشروعات ضمن حدود الشريعة وقوانينها. ومع مراعاة حظ المكلَّف بالقصد الأول في هذه المقاصد، فإنها محصلة أو خادمة ومكملة للنوع الأول، وهو المقاصد الأصلية، لكن بالتَّبَعَ لا بالأصل. (¬1) وغالب هذا النوع من المقاصد يرجع إلى الحاجيات والتحسينيات، وهي دائرة على حُكْم الإباحة بالجزء، أو بالجزء والكلّ معا، أو على حُكْم الإباحة بالجزء مع الكراهة أو المنع بالكلّ. (¬2) العلاقة بين المقصد والحِكْمة: يرى محمد الطاهر بن عاشور أن الحِكَم المرعية في تشريع الأحكام تمثل جزءًا من المقاصد الشرعية، حيث يقول في تعريفه للمقاصد الشرعية الخاصة بالمعاملات: "ويدخل في ذلك كلُّ حِكْمة روعيت في تشريع أحكام تصرفات الناس، مثل قصد التوثق في عقدة الرهن ... ". (¬3) ويمكن القول إن الحِكَم هي المقاصد ذاتها، فهي مرادف للمقاصد، (¬4) ويتضح ذلك من خلال ما تقدم في تعريف المقاصد الشرعية، وتعريف الحِكْمة، حيث عُرِّفَت بأنها: "المعنى المناسب لشرع الحُكم"، (¬5) وأنها "جلب مصلحة أو تكميلها، أو دفع مفسدة أو تقليلها". (¬6) ¬

_ (¬1) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 136 وما بعدها. (¬2) انظر المصدر السابق، مج 1، ج 2، ص 156. (¬3) محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 301. (¬4) انظر في ذلك قول الونشريسي في المعيار المعرب: " ... والحِكْمة في اصطلاح المتشرعين هي المقصود من إثبات الحُكم أو نفيه، وذلك كالمشقة التي شرع القصر والإفطار لأجلها" أي لأجل رفعها. الونشريسي، أبو العباس أحمد بن يحيى: المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب، (المغرب: وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية، 1401 هـ/ 1981 م)، ج 1، ص 349. (¬5) الشربيني، عبد الرحمن: تقرير شيخ الإِسلام الشربيني على حاشية البناني على شرح الجلال المحلي على متن جمع الجوامع، (مصر: مصطفى البابي الحلبي وأولاده، 1356 هـ / 1937)، ج 2، ص 236. (¬6) البناني: حاشية البناني على شرح الجلال المحلي على متن جمع الجوامع، (مصر: مصطفى البابي الحلبي وأولاده، 1356 هـ / 1937)، ج 2، ص 236.

العلاقة بين المقصد والعلة: أما العلاقة بين المقاصد والعلل، فإنه لَمَّا كانت العلة قد تكون هي نفسها الحِكْمة، وقد تكون مظنة تحقيقها، بأن تكون وصفًا ظاهرًا منضبطًا يُظن عنده وجودُ الحِكْمة المقصودة للشارع من شرع الحكم المرتب عليها، (¬1) فإن العلة إذا ¬

_ (¬1) لابد من الإشارة هنا بشيء من التفصيل إلى العلاقة بين الحِكْمة والعلة، وهل يجوز التعليل بالحِكْمة أم لا؟ أما عن العلاقة بين العلة والحِكْمة فقد ذهب بعض الأصوليين وعلى رأسهم الشاطبي إلى أن العلل هي نفسها الحِكَم، حيث عرف العلة بقوله: "وأما العلة فالمراد بها الحِكَمُ والمصالح التي تعلقت بها الأوامر أو الإباحة، والمفاسد التي تعلقت بها النواهي". (الموافقات، مج 1، ج 1، ص 196). وأورد ابن قدامة في كتابه روضة الناظر وجنة المناظر أن العلة في اصطلاح الفقهاء تطلق على ثلاثة أشياء منها: الحِكْمة، أي حِكْمة الحُكْم، كقولهم المسافر يترخص لعلة المشقة. انظر ابن قدامة، عبد الله بن أحمد بن محمد المقدسي: روضة الناظر وعليه نزهة الخاطر العاطر، (بيروت: دار الكتب العلمية، د. ط، د. ت) ج 1، ص 159 - 160. وذهب النقشواني إلى أن "العلة -في الحقيقة- الحِكْمة لكنها إنما تنضبط بمقاديرها وإنما يضبط ذلك الوصف، فكون الوصف علة في الشرع معناه أنه علامة للحكمة ودليل عليها، فالحِكْمة هي العلة الغائية الباعثة للفاعل، والوصف هو المعرف". نقلًا عن الرازي، فخر الدين: المحصول في علم أصول الفقه، دراسة وتحقيق طه جابر فياض العلواني، (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 2، 1412 هـ -/ 1992 م)، ج 5، ص 294 "هامش". وذهب جمهور الأصوليين إلى التفريق بين العلة والحِكْمة، ويكون الفرق كالآتي: الحِكْمة هي المقصد من تشريع الحكم من تحقيق المصالح أو تكميلها، أو دفع المفاسد أو تقليلها، وقد تكون ظاهرة أو خفية، كما أنها قد تكون منضبطة وقد تكون غير منضبطة. أما العلة فهي الوصف الظاهر المنضبط المعرف للحكم، وهي التي ينبني عليها الحكم وجودا وعدما وتكون عادة مظنة تحقيق حكمة تشريع الحكم. غير أنه قد تتخلف الحِكْمة أحيانًا مع وجود العلة. وذلك مثل الشفعة فقد شرعت لحِكْمة، هي دفع الضرر عن الشفيع، وجُعِلَت علة ذلك هي الإشتراك في الملك، وقد يكون أحيانا الشريك الجديد أحسن دينا وأنفع للشفيع وبذلك تتخلف الحِكمة، لكن لما وُجِدَت العلة ثبتت الشفعة ولم يُنظر إلى الحِكْمة. (انظر الزحيلي، وهبة: أصول الفقه الإِسلامي، (دمشق: دار الفكر، ط 1، 1986 م)، ج 1، ص 651. أما عن جواز التعليل بالحِكمة فقد اختلف الأصوليون في ذلك على ثلاثة مذاهب: فذهب بعضهم إلى منع التعليل بالحِكْمة مطلقا، وذهب آخرون إلى الجواز مطلقا، وهو اختيار الرازي وتبعه عليه البيضاوي، وذهب آخرون إلى التفصيل فقالوا بجوار التعليل بالحِكْمة إذا كانت منضبطة غير مضطربة، ومنعوا التعليل بها إذا كانت مضطربة غير منضبطة أو كانت خفية، وهو اختيار الآمدي وصفي الدين الهندي. (انظر الرازي: المحصول، ج 5، ص 287 - 293)؛ الشوكاني، محمد بن علي: إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، (د. م: دار الفكر، د. ط، د. ت)، ص 193؛ السبكي، علي بن عبد الكافي: الإبهاج في شرح المنهاج، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1404 هـ/ 1984 م)، ج 3، ص 90 - 91؛ الآمدي، علي بن محمد: الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق سيد الجميلي (بيروت: دار الكتاب العربي، ط 2، 1406 هـ / 1986 م)، ج 3، ص 290.

كانت هي الحِكْمة ذاتها فإنها تكون عند ذلك مرادفة للمقصد، أما إذا لم تكن كذلك بأن كانت وصفًا ظاهرًا منضبطًا مظنة لحكمة فإنها تكون مختلفة عن المقصد.

المبحث الثاني فائدة العلم بمقاصد الشارع

المبحث الثاني فائدة العلم بمقاصد الشارع تمهيد بين أصول الفقه ومقاصد الشريعة تعرض الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في كتابه مقاصد الشريعة الإِسلامية بالنقد اللاذع للذين زعموا أن القواعد الأساسية لعلم أصول الفقه قطعية، ووصف محاولة الشاطبي إثبات ذلك بأنها لم تأت بطائل، (¬1) ودعا إلى تطوير فكرة التأليف في المقاصد الشرعية لتصل إلى مرتبة فصل هذا العلم عن علم أصول الفقه وتأسيس علم تجمع فيه "أشرف معادن مدارك الفقه والنظر" (¬2) تَتَّسِم مباحثُه بوصف القطعية ليكون مرجع المختلفين والحَكَم بين المشتجرين في الفروع الفقهية. أما عن قطعية مبادئ أصول الفقه فإن ابن عاشور نفسه قد أيَّدَ هذه الدعوة، ولكن من غير أن يبيِّن وجهة نظره في كيفية تحقيقها ويقدِّم البديل لما فشل فيه من سبقه، حيث قال بعد فراغه من انتقاد السابقين: "فينبغي أن نقول: أصول الفقه يجب أن تكون قطعية، أي من حق العلماء أن لا يدوِّنُوا إلّا ما هو قطعيّ إما بالضرورة، أو بالنظر القوي"، (¬3) ثم انتقل بعد ذلك إلى موضوع آخر من غير بيان لكيفية تحقيق هذه الدعوة. والواقع أن تكلُّفَ الإستدلال لكون كلّ قواعد ومباحث علم أصول الفقه قطعية مثل تكلُّف الإستدلال لكون مباحث المقاصد قطعية أَمْرٌ لا يأتي بكبير نتيجة، بل هو تكلُفٌ غير مطلوب أصلًا. فمباحث علم أصول الفقه فيها القطعي وفيها الظني، ووجود الظني فيها لا يضرُّ كونَها منهجًا للإستدلال والإستنباط، فليس ¬

_ (¬1) انظر محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 110. (¬2) المصدر السابق، ص 111. (¬3) المصدر السابق، ص 111.

القطع مطلوبًا في كلّ قضايا الحياة العملية. لقد كان ابن عاشور مصيبًا في جزءٍ من انتقاده لعلم أصول الفقه بكون "معظم مسائله لا ترجع إلى خدمة حِكْمة الشريعة ومقصدها"، (¬1) وضآلة حجم المباحث المخصصة للمناسبة والإخالة والمصالح المرسلة -وهي مباحث في المقاصد- مقارنة بغيرها من المباحث، ولكن علاج هذا القصور ليس في وصف علم أصول الفقه بالعقم، ووصف مباحث المقاصد بالقطعية، والدعوة إلى تأسيس علم مستقل بها، ومحاولة جعلها بديلاً له؛ لأن ذلك لن يأتي بكبير فائدة. نعم، يمكن إفراد موضوع المقاصد بالتأليف والبحث وجعله فرعًا من فروع العلوم الشرعية، فلا مانع من ذلك أُسْوَة بغيره من فروع العلم؛ إذْ إنّ إفراد موضوع بالبحث والدراسة يسهم في كشف كوامنه وأسراره، ولفت الأنظار إليه، وإيصاله إلى درجة النضج. أما إمكانية صيرورته منهجًا لإستنباط الأحكام يحلُّ محلَّ أصول الفقه أو يكون موازيًا له فأمر فيه نظر. وأفضل عمل هو ما قام به الشاطبي من دمج مباحث المقاصد بمباحث الأصول، وإعطائها مكانة بارزة فيها بحيث تصير روحًا يسري فيه؛ فمباحث المقاصد مكملة لمباحث الأصول لابديلًا له، وليس من اللازم لإبراز أهمية المقاصد التقليلُ من شأن أصول الفقه. أما عن جعل قواعد المقاصد مَلْجَأَ المشتجرين، والفيصل بين المختلفين فإنه أمل عريض، لكنه عسير المنال؛ ذلك أن من رام رفع الخلاف في المسائل الفرعية فقد طلب مُحالاً، وإنما الذي يرجى هو تضييقُ دائرة الخلاف بالسعي إلى القضاء على التعصب المذهبي والاعتدادِ بالرأي ولو كان دليله ضعيفًا، والإتجاهُ إلى تحقيق المسائل العلمية وفق منهج يعتمد قوة الدليل وموافقة مقاصد الشارع بصرف النظر عن مدى موافقة النتيجة لهوى النفس واستجابتها للضغط النفسي الذي يفرضه الواقع المنحرف عن مبادئ الشرع ومقاصده، وأن لا يَزُجَّ بنفسه في هذه العملية من لم يكن مؤهلًا لها. وقد أشار ابن عاشور نفسه إلى هذا في صدر مقدمته لكتاب مقاصد ¬

_ (¬1) انظر محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 106 بتصرف يسير.

الشريعة الإِسلامية، حيث جعل من مقاصد كتابه التوسل إلى "إقلال الإختلاف بين فقهاء الأمصار, ودُرْبَة لأتباعهم على الإنصاف في ترجيح بعض الأقوال على بعض". (¬1) ولكنه لم يَسْلَم من الوقوع في المقدمات الخطابية التي عابها على الشاطبي؛ فمع أنه وصف مقاصد الشريعة بأنها تسهم في إقلال الإختلاف لا في رفعه كُلَّيَّة، وهو الصواب، إلّا أنه وصفها بعد ذلك بأنها "الفصل من القول إذا شجرت حجج المذاهب"، (¬2) وشبَّه ما سيدوِّنه من مقاصد الشريعة بالأدلة الضرورية القطعية التي يحتكم إليها أصحاب العلوم العقلية في حجاجهم المنطقي والفلسفي. أما عن وصف قواعد المقاصد بوصف القطعية فإنه يمكن القول إن المقاصد العامة للشريعة كلها قطعية لا يتنازع فيها أصحاب المذاهب والاتجاهات الفقهية المختلفة، ولكن السؤال هو هل قطعيَّةُ تلك القواعد المقصدية كفيلة برفع الخلاف الفقهي فيما يندرج تحتها من فروع؟ وهل قطعيتها تعني قطعية جزئياتها؟ لا شك أن الجواب سيكون بالنفي. فمثلًا كون "دين الله يسرًا" وأن من مقاصد الشريعة الإِسلامية التيسير أمر قطعي لا خلاف فيه، ولكن تطبيق هذه القاعدة على الفروع لا يمكن أن يتوفر فيه وصفُ القطعية في كل الحالات، ولا بُدّ أن يقع فيه خلاف بين أهل النظر: ما هو الحرج الذي يقتضي التيسير والذي لا يقتضيه؟ فهناك حَدٌّ يتّفق الكلّ على اقتضائه التيسير, وآخر يتفقون على عدم اقتضائه التيسير, ولكن بينهما درجات ستكون محلّ اختلاف في التقدير, ولا يمكن لأحد أن يقطع فيها بشيء. وكذلك كونُ الشارع قاصدًا إلى إبطال الغرر, ودفع الضرر, وسدِّ ذرائع الفساد، كلها مقاصد قطعية، ولكن على الجملة لا على التفصيل، ويقال فيها ما قيل في كون الشارع قاصدًا إلى التيسير وسيقع فيها الخلاف في التقدير كما يقع في تلك، وتكون الخلاصة أنه كما لم تتمكّن قواعد الأصول من رفع الخلاف فإن قواعد المقاصد لن تكون أحسن حالًا. ¬

_ (¬1) انظر محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، 105. (¬2) المصدر السابق، ص 105 بتصرف يسير، حيث وردت الأصل بعبارة "وفصل من القول ... ".

إن إدراك المقاصد الشرعية أمر مهم جدًّا في استنباط الأحكام، لكنه يبقى عنصرًا واحدًا من العناصر التي يحتاج إليها الإجتهاد، ولا يمكن أن يصير بمفرده منهجًا لإستنباط الأحكام؛ وذلك أن استنباط حُكْم من الأحكام الشرعية يتمّ عبر خطوات تتمثل في: فهم النص الذي يمكن أن تندرج تحته الواقعة محلّ الإجتهاد، وذلك يقتضي تمكُّنًا من اللغة العربية، ثم معرفة ما إذا كان ذلك النص ناسخًا أو منسوخا، ومعرفة سبب نزول الآية أو ورود الحديث إذا كان كلّ منهما لا يُفْهم إلَّا بمعرفة ذلك، ثم معرفة موقع ذلك النص من النصوص الشرعية الأخرى من حيث العموم والخصوص، والتقييد والإطلاق، ووجود ما يعارضه أو يعضده، ثم تحقيق مناط الحكم وهو معرفة الواقعة محلّ الإجتهاد معرفة دقيقة، ثم تقدير مآل الحكم هل يكون موافقًا لما قصده الشارع منه أم لا؟ وإذا لم يكن في الواقعة نصّ معيَّن بُحِثَ لها عن القاعدة العامة التي تنضوي تحتها وعن أشبه الأحكام بها. وتكون فائدة العلم بالمقاصد في الإجتهاد هي تحديد المعنى المراد من النص المحتمل، وترجيح إلحاق الواقعة بنظير يحقِّقُ مقاصدَ الشارع بَدَلَ إلحاقها بنظير آخر لا يحققها، والنظر في مآلات الأحكام بما لا يخرجها عن مقصود الشارع منها، والترجيح بين المصالح المتعارضة. (¬1) وفيما يأتي بيان أهم وجوه الإستفادة من المقاصد للفقيه الناظر في النصوص الشرعية، سواء في إعانته على فهمها، أو في تمكينه من حسن تنزيلها على الواقع. أولًا - الإستعانة بالمقاصد في مسائل التعارض والترجيح: ذلك أن حقّ المجتهد قبل إمضاء أي دليل لاَحَ له في مسألة من مسائل الفقه أن يبحث عن وجود المعارض، ليتأكد أن دليله هذا سَالِم من أن يُبطَل بأي دليل آخر: إمّا نسخًا، أو تخصيصًا، أو تقييدًا، أو رجحانًا عليه. وتكمن فائدة العلم بالمقاصد هنا في مناحي ثلاث: (¬2) ¬

_ (¬1) انظر المبحث الثاني من الفصل الأول من الباب الأول من هذا المبحث. (¬2) انظر محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 120 - 121.

الأولى: أن الباعث على المبحث عن المعارض يقوى ويضعف بمقدار ما ينقدح في ذهن المجتهد -وقت النظر في الدليل الذي بين يديه- من كونه مناسبًا لمقاصد الشارع أو غير مناسب، فإذا تبينت مناسبتُه لمقاصد الشارع ضعف احتمال وجود معارض قوي له، أما إذا خفيت المناسبة، أو بَانَ عدم مناسبته لمقاصد الشارع، فإن احتمال وجود المعارض يقوى، ومن ثَمَّ يكون الداعي إلى المبحث عنه قويا. الثانية: مدى اطمئنان الفقيه بعد المبحث عن المعارض: فكّلما كانت مناسبة الدليل لمقاصد الشريعة أقوى كان اطمئنان الفقيه إلى عدم وجود المعارض -بعد استنفاذ الوسع في المبحث وعدم العثور عليه- أقوى، وبالعكس. الثالثة: الترجيح بين الأدلّة المتعارضة استنادًا إلى المقاصد، فيرجح الدليل المحقق للمقاصد، أو الأقرب إلى تحقيقها على الدليل الذي لا يلائمها أصلاً، أو يقصر عن تحقيقها. أمثلة: ومن أمثلة المبحث عن المعارض حادثة استئذان أبي موسى الأشعري على عمر - رضي الله عنهما - ثلاثًا، فلما لم يؤذن له رجع، فبعث عمر وراءه، فلما حضر عتب عليه انصرافه فأخبره أبو موسى بما سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك. ولكن لما كان في هذا نوعُ معارضةٍ للقصد من الإستئذان وهو إعلام صاحب البيت بالقدوم وطلب الإذن في الدخول، وذلك لا يستدعي التحديد بعدد معين، كما أن فيه نوعَ معارضةٍ لأصل الإستئذان في قوله تعالى: {فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} [النور: 28]، الذي لم يُقيد بعدد محدد، كان شكُّ عمر قويًّا في صحة صدور هذا الحديث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفي صلوحية كونه معارضًا لهذا الأصل، ولذلك طالبه بالبيّنة، (¬1) وشدد عليه في ذلك. ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: "كُنْتُ فيِ مَجْلِسٍ مِن مَجَالِسِ الأَنْصَار إِذْ جَاءَ أبُو مُوسى كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ, فَقَالَ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَر ثَلاثًا فَلَمْ يُؤْذَن لي، فَرَجَعْتُ، فَقَالَ مَا مَنَعَكَ؟ قُلْتُ: اسْتَأْذَنْتُ ثَلاثًا فَلَمْ يُؤْذَن ليِ فَرَجَعْتُ، وقَالَ رَسُولُ الله ¬

_ (¬1) انظر هذا التوجه في: محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 121.

- صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُم ثَلاثًا فَلَمْ يُؤْذَن لَهُ فَلْيَرْجِعْ"، فَقَال: والله لتُقِيمَنَّ عليه بَيَّنَة. أَمِنْكُم أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنْ النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فَقَالَ أُبيّ بْن كَعْبٍ: والله لَا يَقُومُ مَعَكَ إلّا أَصْغَر القَوْم، فَكُنْتُ أَصْغَر القَوْمِ فَقُمْتُ مَعَهُ فَأَخْبَرْتُ عُمَر أَنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ذَلِكَ". (¬1) وعلى عكس الحادثة السابقة نجد عمر - رضي الله عنه - لم يتردد في الأخذ بحديث عبد الرحمن ابن عوف - رضي الله عنه - في أخذ الجزية من المجوس، لعدم وجود أصل في ذلك، ولأن شكه في وجود معارض لهذا الحديث كان ضعيفًا، (¬2) إذ قد جرى عرف الشارع بأخذ الجزية من أهل الأديان الأخرى إذا رضوا بالدخول تحت حكم الإِسلام، ومثل هذا موافق لمقصد الشارع في عدم إكراه الآخرين على اعتناق الإِسلام، والإكتفاء منهم بالتسليم له، والإنضواء تحت سلطانه، أو على الأقل مسالمته وعدم الوقوف في وجهه. ففي صحيح البخاري أن عمر - رضي الله عنه - لم يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف: "أَنّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ الجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَر (¬3) ". (¬4) وقد أخذ عمر - رضي الله عنه - بالحديث مباشرة دون تردُّد، ودون مطالبة بالبيِّنة، كما كان الأمر في الحادثة السابقة. ثانيًا - الإستعانة بالمقاصد في فهم بعض الأحكام الشرعية: فإن بعض الأحكام الشرعية قد تبدو غامضة، ويقف الفقيه أمامها حائرًا، عاجزًا عن إدراك كنهها، مع تسليمه بصحتها ووجوب العمل بها. ومثال ذلك ما جرت به السنّة من عدم استلام الركنين اللذين يليان حجر إسماعيل، والإكتفاء بتقبيل الحجر الأسود، واستلام الركن اليماني. فخصوصية الحجر الأسود واضحة، أما التفريق بين الركن اليماني والركنين الآخرين ففيه غموض. وقد ¬

_ (¬1) البخاري، محمد بن إسماعيل: الجامع الصحيح، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1412 هـ/ 1992 م)، كتاب الإستئذان، باب (13)، الحديث (6245) مج 4، ج 7، ص 169. (¬2) انظر في توجيه موقف عمر هذا: محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 122. (¬3) هجر: "مدينة، وهي قاعدة البحرين ... وقيل ناحية البحرين كلّها هجر". الحموي، ياقوت بن عبد الله: معجم البلدان، (بيروت: دار صادر/ دار بيروت للطباعة والنشر، 1404 هـ / 1984 م)، ج 5، ص 393، وانظر ابن الأثير: الكامل في التاريخ، (بيروت: دار صادر، 1399 هـ / 1979 م)، ج 2، ص 230. (¬4) صحيح البخاري، كتاب الجزية والموادعة، باب (1)، الحديث (3156) و (3157)، مج 2، ج 4، ص 395.

كان ابن عمر - رضي الله عنهما - متحيرًا من ذلك إلى أن سمع حديث عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "أَلَمْ تَرَيْ أنّ قَومَكِ لَمَّا بَنوا الكَعْبَة اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِد إِبْرَاهِيم؟ " فَقُلْت: يا رَسُول الله أَلاَ تَرُدُّها عَلَى قَوَاعَد إِبْرَاهيمَ؟ قال: "لَوْلاَ حِدْثَانُ قَومِكِ بِالكُفْرِ لَفَعَلْتُ"، وفي رواية أخرى أن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سَأَلْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - عَن الجَدْرِ (¬1) أَمِن الْبَيْتِ هُو؟ قَالَ: "نَعَمْ". قُلْتُ: فَمَالَهُم لَمْ يُدْخِلُوُه فيِ البَيْتِ؟ قَالَ: "إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ". وبناءً على رواية عائشة هذه فهم ابن عمر حكمة ذلك التفريق، وانثلج له صدره، وقال: "لَئِن كانَت عَائِشَة سَمِعَت هَذَا مِنْ رَسُولِ الله، مَا أُرَى رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - تَرَكَ اسْتِلاَمَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذينِ يَلِيَانِ الحِجْر إلّا أَنّ البَيْتَ لَمْ يُتَمَّم عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيم". (¬2) ثالثًا - الإستعانة بالمقاصد في فهم النصوص وتوجيهها: ويكون هذا على الخصوص في النصوص ظنية الدلالة؛ إذْ يستعين المجتهد بالمقاصد في فهم النصوص واختيار المعنى المناسب لتلك المقاصد، وتوجيه معنى النص بما يخدمها، وقد يصل الأمر بالمجتهد إلى تأويل النص، وصرفه عن ظاهره في حال مخالفة ذلك المعنى الظاهر لمقاصد الشريعة وكلّياتها. ومن أمثلة هذا ما ورد من نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كراء الأرض، وموقف الصحابة والتابعين والفقهاء من بعدهم من أحاديث النهي هذه، وكيفية توجيههم لها تبعًا لما فهموه من مقاصد النهي. (¬3) الأحاديث الواردة في النهي: من الأحاديث التي وردت في النهي عن كراء الأرض ما يأتي: 1 - ما رواه البخاري من حديث جابر - رضي الله عنه - أنه قال: "كانت لرجال فضول من ¬

_ (¬1) الجَدْر: الحائط. انظر ابن منظور: لسان العرب، ج 4، ص 121. والمراد هنا الجدار المحيط بحِجْر إسماعيل عليه السلام. (¬2) صحيح البخاري، كتاب الحج، باب (42)، مج 1، الحديث (1583) و (1584)، ج 2، ص 490. (¬3) انظر عرض ابن عاشور وتعليقه على هذا المثال في مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 130 - 132.

أرضين، فقالوا: نؤاجرها بالثلث والربع والنصف، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضُ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ ليَمْنَحْهَا أَخَاهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ". (¬1) 2 - ما رواه مالك بن أنس في الموطأ عن رافع بن خديج - رضي الله عنه -: "أَنّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ". (¬2) 3 - ما رواه البخاري في صحيحه عن رافع بن خديج أنه قال: "دَعَانِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وقَالَ: "مَا تَصْنَعُونَ بِمَحَاقِلِكُمْ؟ " قُلْتُ: نُؤَاجِرُهَا عَلَى الرُّبْعِ وعَلَى الأَوْسُق مِن التَّمْرِ والشَّعِير قَالَ: "لَا تَفْعَلُوا، ازْرَعُوهَا، أَوْ أَزْرِعُوهَا، أَوْ أَمْسِكُوهَا". قال رافع: قلتُ سمعًا وطَاعةً". (¬3) الآثار الدالة على الجواز: فالأحاديث السابقة ظاهرة في النهي عن كراء الأرض، وفي الأمر بمنحها لمن يزرعها من غير مقابل، أو إمساكها. لكنها عارضت بعض الوقائع التاريخية الدالة على جواز كراء الأرض ومن ذلك: 1 - ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "كُنْتُ أَعْلَمُ في عَهْدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنّ الأَرْضَ تُكْرَى. ثُمّ خَشِيَ عَبْدُ الله أَنْ يَكُونَ النّبي - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أَحْدَثَ فيِ ذَلِكَ شَيْئًا لَمْ يَكُن يَعْلَمُه، فَتَرَكَ كِرَاءَ الأَرْضِ". (¬4) 2 - ما رواه البخاري عن نافع: "أَنّ ابنَ عُمر - رضي الله عنهما - كاَنَ يُكْرِي مَزَارِعَه عَلَى عَهْدِ النّبي - صلى الله عليه وسلم - وأَبِي بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمَانَ وصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ مُعَاوِيّة". ثم حُدِّثَ عن رافع بن خديج: "أنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - نَهى عَنْ كِرَاءِ المزَارِعِ، فَذَهَبَ ابنُ عُمَر إِلى ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، كتاب الهبة، باب (35)، الحديث (2632)، مج 2، ج 3، ص 200، وكتاب الحرث والمزارعة، باب (18)، الحديث (2340)، مج 2، ج 3، ص 101 - 102. (¬2) مالك بن أنس: الموطأ، (استانبول: agri Yayinlari، د. ط، 1401 هـ/ 1981 م)، كتاب البيوع، باب (13)، ج 2، ص 625. (¬3) صحيح البخاري، كتاب الحرث والمزارعة، باب (18)، الحديث (2339)، مج 2، ج 3، ص 101. (¬4) صحيح البخاري، كتاب الحرث والمزارعة، باب (18)، الحديث (2345)، مج 2، ج 3، ص 102.

رَافِعٍ، فَذَهَبْتُ مَعَهُ، فَسَأَلَه فَقَال: نَهَى النّبي - صلى الله عليه وسلم - عَنْ كِرَاءِ المزَارِعِ، فَقَال ابنُ عُمَر: قَدْ عَلِمْتَ أَنّا كُنّا نُكْرِي مَزَارِعَنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بِمَا عَلَى الأَرْبِعاءِ (¬1) وبشَيْءٍ مِن التَّبْنِ". (¬2) موقف الفقهاء من دلالة النهي: وقد ذهب فقهاء الصحابة والتابعين مذهبين في توجيه أحاديث النهي عن كراء الأرض، بناءً على فهم كلّ فريق لقصد الرسول - صلى الله عليه وسلم - من النهي عن كراء المزارع: ذهب فريق - ومنهم سالم بن عبد الله بن عمر, وسعيد بن المسيب، ورواية عن رافع بن خديج، والإمام مالك، وعروة بن الزبير - إلى أن علَّة النهي ما في هذا الكراء من مخاطرة وغرر, ويفسر ذلك ما رواه البخاري عن رافع بن خديج - رضي الله عنه - أنه قال: "كُنّا أَكْثَرَ أَهْلِ المدِينَة مُزْدَرَعًا، كُنّا نُكْرِي الأَرْضَ بالنَّاحِيّةِ مِنْهَا مُسَمّى لِسَيِّدِ الأَرْضِ، قَالَ فَمِمَّا يُصابُ ذَلِكَ وتَسْلمُ الأَرْضُ، ومِمّا يُصابُ الأرضُ ويَسْلمُ ذَلِكَ، فنُهِينا، وأَمّا الذَّهَبُ والوَرِقُ فَلَمْ يَكُنْ يَومَئِذٍ". (¬3) ولما كان قصد الشارع إبطال المعاملات التي تتضمن غررًا ومخاطرة، نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن هذا النوع من المعاملات. ومن ثَمَّ قصر هذا الفريق النهي على كراء الأرض بما تنتجه ناحية مسماة منها، وأجازوا كراءها بالذهب والفضة. فقد روى مالك عن ابن شهاب الزهري أنه قال: "سألت سعيد بن المسيب عن كراء الأرض بالذهب والورِق؟ فقال: لا بأس به". (¬4) وروى مالك عن الزهري أيضًا أنه سأل سالمًا بن عبد الله بن عمر عن كراء المزارع؟ فقال: لَا بَأْسَ بِهَا بالذّهَبِ والوَرِقِ". قال ابن شهاب: فقلت له: "أَرَأَيْتَ الحدِيثَ الّذِي يُذْكَرُ عَن رَافعِ بن خُدَيْج؟ فَقَالَ: أَكْثَرَ رَافِعٌ. ولَوْ كاَنَ لِي مَزْرَعَةٌ ¬

_ (¬1) الأَرْبِعاء: جمع ربيع، وهو النهر الصغير. والمراد هنا أنهم يكرون الأرض ويشترطون على مكتريها ما ينبت على الأنهار والسواقي. انظر ابن منظور: لسان العرب، ج 8، ص 104. (¬2) صحيح البخاري، كتاب الحرث والمزارعة، باب (18)، الحديث (2343) و (2344)، مج 2، ج 3، ص 102. (¬3) صحيح البخاري، كتاب الحرث والمزارعة، باب (7)، الحديث (2327) مج 2، ج 3، ص 96. (¬4) مالك بن أنس: الموطأ، كتاب كراء الأرض، باب (1)، ج 2، ص 711.

أَكْرَيْتُهَا". (¬1) وروى البخاري عن رافع بن خديج قال: "حدثني عماي أنهم كانوا يكرون الأرض على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يَنْبُتُ على الأربعاء أو شيء يستثنيه صاحب الأرض، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. فقلت لرافع: فكيف هي بالدينار والدرهم؟ فقال رافع: ليس بها بأس بالدينار والدرهم". (¬2) وذهب فريق ثان - ومنهم: ابن عباس، ورواية عن رافع بن خديج، والبخاري - إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصد من هذا النهي ترغيب الصحابة في مواساة ومساعدة بعضهم بعضًا، نظرًا للظروف الإقتصادية الصعبة التي كانوا يعيشونها في دار الهجرة، وعلى ذلك لا يكون النهي تحريمًا للمزارعة، بل مجرد تنفير للصحابة من ذلك، وترغيبهم في التبرع بها لمن يقدر على زرعها من إخوانهم. وقد دعموا توجيههم هذا لتلك النصوص بما رواه البخاري عن رافع بن خديج: "لَقَدْ نَهَانَا رُسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أَمْرٍ كَانَ بِنَا رَافِقًا ... ". (¬3) وما أورده البخاري أيضًا عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: "إِنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَنْهَ عَنْهُ، ولَكِنْ قَالَ: "أَنْ يَمْنَحَ أَحَدُكُم أَخَاهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مَعْلُومًا". (¬4) فهذا الفريق - لَمّا رأى أن مقصد الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن تحريم المعاملة، وإنما كان يقصد الترغيب في التعاون والتآسي بين الصحابة - أَوَّلَ الحديث ولم يأخذه على ظاهره بما يفيده من تحريم كراء الأرض، وإنما عَدَّ ذلك من باب الترغيب في التآسي، والتنفير من ضد ذلك. رابعًا - أهمية المقاصد في توجيه الفتوى: الهدف من الفتوى تنزيلُ النصوصِ على الوقائع، وتحقيق مقاصد الشارع في آحاد ¬

_ (¬1) المصدر السابق، والصفحة نفسها. (¬2) صحيح البخاري، كتاب الحرث والمزارعة، باب (19)، الحديث (2346 و 2347)، مج 2، ج 3، ص 103. (¬3) صحيح البخاري، كتاب الحرث والمزارعة، باب (18)، الحديث (2339)، مج 2، ج 3، ص 101. (¬4) المصدر السابق، الحديث (2342)، ص 102.

المستفتين، ولَمَّا كانت مقاصد الشارع واحدةً لجميع المستفتين، وفي مختلف الظروف، وكان مدى تحقيق هذه المقاصد يخضع لحالة المستفتي، وظروف الفتوى، كان من اللازم على المفتي أن يتصرف في فتواه بما يحقق تلك المقاصد الثابتة والمشتركة، ومن ثَمَّ وجب مراعاة المرونة في الفتوى لتتغير بتغير ظروف وملابسات المفتي والواقعة محل الفتوى. فالمقصد ثابت ومشترك بين جميع الناس، والذي يتغير بتغير الشخص أو الظرف هو الفتوى، ويكون تغيرها بما يحقق ذلك المقصد. ومن أمثلة ذلك قصة ابن عباس مع الرجل الذي استفتاه أَلِلْقَاتِلِ تَوْبَةٌ؟ فقد روي أنه: "جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: أَلِمَن قَتَل مؤمنًا متعمدًا توبة؟ قال: لا، إلَّا النار قال: فلما ذهب قال له جلساؤه: أهكذا كُنْتَ تُفْتينا؟ كنت تفتينا أنَّ لِمَن قَتَلَ تَوْبَةٌ مَقْبُولَةٌ؟ قال: إني لأحسبه مغضبًا، يريد أن يقتل مؤمنًا، قال: فبعثوا في أثره، فوجدوه كذلك". (¬1) فلما كان قصد الشارع من الحضِّ على التوبة والترغيب فيها هو تطهير نفوس الناس، وردهم إلى طريق الحق والصواب، وتنفيرهم من الذنوب والمعاصي، وكان ذلك الرجل يريد التوسل بالتوبة إلى نقيض ما قصد الشارع منها، كان تحقيق المقصد من التوبة في سَدّ بابها في وجهه، فأفتاه ابن عباس بأن لا توبة له، لعلّ ذلك يردعه عمّا يريد الإقدام عليه، ويردُّه إلى طريق الصواب. خامسًا - الحاجة إلى معرفة المقاصد في استنباط علل الأحكام الشرعية لِتُتَّخَذّ أساسًا للقياس: ذلك أن العلل الشرعية تكون عادة ضابطة لحِكَمٍ، التي هي من المقاصد، فيكون معرفة المقاصد عونًا على تحديد العلل وإثباتها. وعلى رأي القائلين بجواز التعليل بالحِكْمة مطلقًا، أو بشرط انضباطها يكون الكشف عن المقاصد (التي منها ¬

_ (¬1) أخرجه أبو جعفر النحاس عن سعد بن عبيدة: الناسخ والمنسوخ، تحقيق محمد عبد السلام محمد، (الكويت: مكتبة الفلاح، ط 1، 1408 هـ / 1988 م)، ص 349. إسناده صحيح، وأخرجه ابن أبي شيبة -في الديات- من قال للقائل توبة 9/ 362.

الحِكَم) كشفًا عن العلل ذاتها لِتُتَّخَذَ بعد ذلك مناطًا للقياس. (¬1) وأبرز المسالك التي يُحتاج فيها إلى معرفة المقاصد هي: مسلك المناسبة، وتنقيح المناط، وإلغاء الفارق. سادسًا - تحكيم المقاصد في الإعتبار بأقوال الصحابة والسلف من الفقهاء واستدلالاتهم: فيؤخذ منها ما كان موافقًا ومناسبًا لمقاصد الشارع، ويترك ما كان خلاف ذلك، إذْ مخالفته لمقاصد الشريعة دليل ضعفه أو خطئه، فيطرح ويبحث عمَّا هو أقوى منه. ويمكن التمثيل لذلك بما ذهب إليه جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - من أن نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار قبل بُدُوِّ صلاحها لم يكن القصد منه تشريع إبطال هذا النوع من البيوع وإنما كان، من باب المشاورة فقط، أي أنه مجرد اقتراح من النبي - صلى الله عليه وسلم - لحسم مادة النزاع بين الصحابة لَمَّا كثُر ذلك بينهم. ففي صحيح البخاري عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: "كاَنَ النَّاسُ في عَهْدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يَبْتَاعُونَ الثَّمَارَ فَإِذَا جَذّ (¬2) النّاسُ وحَضَرَ تَقَاضيهم قَالَ المُبْتَاعُ: إِنَّهُ أَصَابَ الثّمرَ الدَّمَان، (¬3) أَصَابَهُ مُرَاض، (¬4) أَصَابَهُ قُشَام (¬5) - عَاهَاتُ يَحْتَجُّونَ بِهَا - فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا كَثُرَتْ عِنْدَهُ الخُصُومَةُ في ذَلِكَ: فَإِمّا لَا فَلَا تَتَبَايَعُوا حَتّى يَبْدُوّ صَلاَحُ الثّمر, كَالْمَشُورَةِ يُشِيرُ بِهَا لِكَثْرَةِ خُصُومَتِهِم". (¬6) فَرَأْيُ زيد بن ثابت أن هذا كان من باب المشورة، وليس من باب التشريع الملزم. ولكن لما كان في هذا خلاف لقصد الشارع من تحريم هذا النوع من البيوع، وهو دفع ما فيه من خطر وغرر وحسم مادة النزاع بين المسلمين، ولما وردت نصوص أخرى تفيد تحريم هذا النوع من البيوع، فإن كثيرًا من الفقهاء لم يأخذوا بتأويل ¬

_ (¬1) انظر آراء الأصوليين في جواز التعليل بالحِكْمة في: الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 224 - 227. (¬2) جَذَّ الشيءَ: قطعه وكسره، وجَذَّ النخيلَ: قطع ثمره وجناه. انظر ابن منظور: لسان العرب، ج 3، ص 479. (¬3) الدَّمَانُ: عفن النخلة وسوادها. انظر ابن منظور: لسان العرب، ج 13، ص 158. (¬4) المُراض: داء يقع في الثمرة فتَهْلِك. انظر ابن منظور: لسان العرب، ج 7، ص 231. (¬5) يقال: أصاب الثمر القُشام، إذا انتقض ثمر النخل قبل أن يصير بلحا. انظر ابن منظور: لسان العرب، ج 12، ص 484. (¬6) صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب (85)، الحديث (2193) مج 2، ج 3، ص 46.

جابر هذا، (¬1) كما أنه هو نفسه كان ملتزما بالعمل بظاهر الحديث، كما في صحيح البخاري عن أبي الزناد قال: "وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت أن زيد بن ثابت لم يكن يبيع ثمار أرضه حتى تطلع الثريا، فيتبين الأصفر من الأحمر". (¬2) سابعًا - الحاجة إلى العلم بالمقاصد في التعامل مع أخبار الآحاد: من المعلوم أن السنّة النبوية قد وقع فيها شيء من الدخل من قِبَل الوضاعين، ومن ساء حفظهم واختلطت عليهم مروياتهم، ولذلك نجد من السنّة: الصحيح، والحسن، والضعيف، والموضوع، كما أنه قد وقع فيها نسخ، وقد يُعلم الناسخ والمنسوخ، وقد يخفى أحيانًا على البعض. وبسبب ما سبق ذكره نجد أحيانًا شيئًا من التعارض سواء بين نصوص السنّة نفسها، أو بينها ونصوص القرآن الكريم، أو بينها والمقاصد العامة للشريعة وأصولها وكلّياتها. ومن هنا نهض العلماء المحققون لتمحيص السنّة بتخليصها من الدخيل، وبيان ناسخها ومنسوخها، والترجيح بين المتعارض منها. وقد سلك العلماء في ذلك مسالك متعددة، واتخذوا لذلك وسائل متنوعة، منها الإستعانة بمقاصد الشارع الحكيم في تمحيص أحاديث الآحاد، والترجيح والتوفيق بينها والنصوص الأخرى أو الأصول والمقاصد العامة للشريعة. ويجب التنبيه بداية إلى أن هذا الموضوع في غاية الحساسية والصعوبة، وهو مزلَّة أقدام، وموطن انحراف أفهام، وقد وقع فيه خلاف كبير وكان وما زال مدخلاً لكثير من ذوي الأفهام القاصرة والنوايا المشكوك فيها لإسقاط بعض النصوص والأحكام الشرعية؛ لذلك وجب معالجته بحذر وليس هذا مجال التفصيل فيه لأنه ليس من صميم المبحث، وإنما القصد هو ذكر خلاصة له، وبيان أهمّ الضوابط التي يجب مراعاتها عند التعامل معه. لقد رُدَّت أحاديثُ كثيرة بحجة مخالفتها للأصول العامة للشريعة، أو مخالفتها ¬

_ (¬1) انظر لمقارنة آراء فقهاء المذاهب بفهم زيد بن ثابت هذا للنهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها: الشوكاني، محمد ابن علي: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد, ومصطفى محمد الهواري، (القاهرة: مكتبة الكلّيات الأزهرية، د. ط، د. ت)، ج 6، ص 258 - 261. (¬2) صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب (85)، مج 2، ج 3، ص 46 - 47.

لمقاصدها العامة أو بعض مقاصدها الأساسية، وعلة ذلك الرد كونُ تلك الأصول والمقاصد قطعية في الشريعة، أما أحاديث الآحاد فإنها ظنية، فإذا وقع تعارض بينهما رُجِّحَ القطعي على الظني. وقد عالج الإمام الشاطبي هذا في المسألة الثانية من الطرف الأول من كتاب الأدلة الشرعية في كتابه الموافقات معالجة تحسن الإشارة إليها، حيث قسم أحاديث الآحاد في علاقتها بكلّيات الشريعة وقطعياتها إلى ثلاثة أقسام: (¬1) القسم الأول: أحاديث الآحاد (الظنيات) الراجعة إلى أصل قطعي، أي التي تمثل بيانًا لتلك الأصول كأحاديث الطهارة، والصلاة، والحج، والصوم، والبيوع، والربا، وغيرها. وإعمالها ظاهر لكونها مستندة إلى أصل قطعي، فتصير في حكم القطعي، ولقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. القسم الثاني: أحاديث الآحاد (الظنيات) المعارضة لأصل قطعي، ولا يشهد لها أصل قطعي، أما شهادة أصل ظني لها فغير معتبرة، لأن الظني ولو كان أصلاً لا يقف في وجه - الأصل القطعي. ويرى الشاطبي أن هذا النوع مردود بلا إشكال. واستدلّ على ذلك بدليلين: الأول: أن مخالفتها لأصول الشريعة تجعلها خارجة عنها، وما هو خارج عنها لا يمكن اعتباره منها، وبالتالي فهو مردود غير مقبول، والثاني: أنه ليس له ما يشهد بصحته، وما كان كذلك فهو ساقط الإعتبار. ولكن الشاطبي أدرك خطورة هذا الإطلاق فعاد ليستدرك عليه بجعل هذا القسم على ضربين: أحدهما أن تكون مخالفته للأصول قطعية، فلا بُدّ من ردِّه، والآخر أن تكون المخالفة ظنية، وتكون هذه الظنية من ناحيتين: إما من ناحية كون الأصل أو المقصد المخالَف غير قطعي عند التحقيق، ومن ثَمَّ يصير التعارض بين ظنيين تُحكَّم فيه قواعد الترجيح، وإما من ناحية كون الدليل الظني (خبر الآحاد) غير مقطوع بمعارضته للأصول أو المقاصد القطعية، فيمكن الجمع بينهما بضرب من أضرب التأويل، بحمل الظني على معنى لا يخالف القطعي. وهذا الضرب ¬

_ (¬1) انظر في ذلك الشاطبي: الموافقات، ج 3، ص 11 - 18.

محل اجتهاد للعلماء. (¬1) ومن هنا يتبين أنه لا ينبغي المجازفة بردّ أحاديث الآحاد لمجرد ما يبدو من تعارض بينها والمقاصد الشرعية، بل ينبغي أثناء افظر التَّقَيُّدُ بالضوابط الآتية: 1 - يجب النظر في مدى قطعية المقصد المخالَف، إذْ ليست كلّ المقاصد قطعية، بل منها القطعي ومنها الظني. 2 - وإذا ثبتت قطعية المقصد المخالَف لَزِمَ النظرُ في قطعية التعارض بين الخبر والمقصد، إذْ قد يكون التعارض ظاهريا غير مقطوع به، بمعنى أنه يمكن الجمع والتوفيق بينهما بوجه من أوجه الجمع والتوفيق، فَيُحْمَلُ الخبر الظني على معنى لا يعارض المقصد القطعي. 3 - إذا كان المقصد قطعيًّا، وكان التعارض قطعيًّا ولم يمكن الجمع والتوفيق بين المقصد والخبر بأي ضرب من أضرب الجمع والتوفيق لزم في هذه الحال ترجيح المقصد أو الأصل العام على الخبر، ولا يُعدُّ ذلك ردًّا للخبر إذا ثبتت صحته، بل يمكن اعتباره من باب الترجيح بين المتعارضين. ومن أمثلة هذا عدم عمل الإمام مالك بحديث عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "المُتَبَايِعَانِ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالخيَّارِ عَلَى صَاحِبِهِ، مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، إِلاّ بَيْعَ الخِيَّارِ". (¬2) قال مالك: "وليس لهذا عندنا حَدٌّ معروف، ولا أمر معمول به فيه". (¬3) وفسر ابن العربي هذا بما في القول بخيار المجلس من غرر وخطر لما في المجلس من جهالة المُدَّة. (¬4) فلم يعمل الإمام مالك بالحديث ورأى أن المراد بالتفرق التفرق ¬

_ (¬1) انظر المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 13 (¬2) أخرجه الإمام مالك في: الموطأ، كتاب البيوع، باب بيع الخيار، ج 2، ص 671. (¬3) المصدر السابق، ج 2، ص 671. (¬4) ابن العربي، أبو بكر: كتاب القبس في شرح موطأ مالك بن أنس، دراسة وتحقيق محمد عبد الله ولد كريم، (بيروت: دار الغرب الإِسلامي، د. ط، د. ت)، ج 2، ص 845. هذا تفسير ابن العربي، وهناك تفسيرات أخرى أشهرها أنه لم يأخذ به لمخالفته عمل أهل المدينة، وردّ البعضُ هذا التوجيه بأنه عُرِفَ من بعض فقهاء المدينة في زمن مالك العمل به. انظر الزرقاني، محمد: شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك، (د. م: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، د. ط، د. ت)، ج 3، ص 321.

في الأقوال، لا التفرق بالأبدان. ووَجْهُ مخالفة هذا الحديث لمقصد الشارع أن الشارع قصد إلى رفع الغرر والخطر من المعاملات، ولأجل ذلك حرَّم بيوع الغرر ولما كان الخيار هنا غير محدد المدة، دخله الغرر, فَأُبْطِلَ. هذا مذهب الإمام مالك وللفقهاء الآخرين رأي مخالف، فلينظر في مظانه؛ (¬1) إذ الغرض هنا مجرد التمثيل لحالة تعارض الخبر الظني مع مقاصد الشارع. ومن ذلك أيضًا عدم أخذ الإمام مالك بن أنس بحديث إكفاء القدور في غزوة خيبر, ففي صحيح البخاري عن ابن أبي أوفى - رضي الله عنهما - قال: "أَصَابَنَا مَجَاعَة لَيَالي خَيْبَر, فَلَمّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَر وَقَعْنَا في الحُمُرِ الأَهْليّةِ فَانْتَحَرْنَاهَا، فَلَمّا غَلَت القُدُورُ نَادَى مُنَادِي رُسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: أَكْفِئُوا القُدُورَ فَلَا تَطْعَمُوا مِن لُحُوم الحُمُر شَيْئًا". (¬2) وقد ذهب الإمام مالك إلى أنه يجوز الأكل من لحوم الإبل والبقر والغنم قبل قسمتها إذا احتاج إلى ذلك المجاهدون، وفي ذلك يقول: "لا أرى بأسًا من أن يأكل المسلمون إذا دخلوا أرض العدوّ من طعامهم، ما وجدوا من ذلك كلّه قبل أن يَقَعَ في المقاسم"، (¬3) ويقول: "وأنا أرى الإبل والبقر والغنم بمنزلة الطعام، يأكل منه المسلمون إذا دخلوا أرض العدو, كما يأكلون من الطعام ... فلا أرى بأسًا بما أُكِل من ذلك كلّه، على وجه المعروف، ولا أرى أن يدَّخر أَحَدٌ من ذلك شيئًا يرجع به إلى أهله". (¬4) وقد علل مذهبه هذا بقوله: "ولو أن ذلك لا يؤكل حتى يحضر الناس المقاسم، ويقسم بينهم، أضر ذلك بالجيوش". (¬5) ¬

_ (¬1) انظر وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية الكويتية: الموسوعة الفقهية، (الكويت: ذات السلاسل، ط 2، 1410 هـ/ 1990)، ج 20، ص 169 - 172. (¬2) صحيح البخاري، كتاب فرض الخمس، باب (20)، مج 2، ج 4، ص 394. (¬3) الموطأ، كتاب الجهاد، باب (8)، ج 2، ص 451. (¬4) المصدر السابق، ج 2، ص 451 - 452. (¬5) المصدر السابق، ج 2، ص 452.

فعلى رأي من رأى أن النهي عن أكل لحوم الحمر والأمر بإكفاء قدورها إنما كان لأنها لم تُخَمَّسْ بَعْدُ، يكون الإمام مالك لم يأخذ بظاهر الحديث لأن منع الجند من الأكل يؤدي إلى إضعافهم، وذلك يؤدي إلى عجزهم عن تحقيق مقاصد الشرع من الجهاد. أما على قول من قال إن النهي كان تحريمًا لها ألبتة، (¬1) وليس لكونها لم تُخَمّس فإن هذا المثال لا يتوجه في هذا الباب. وقد كره الإمام مالك صيام ستة أيام من شهر شوال، واستند في ذلك إلى أمرين: الأول: أنه لم يَرَ أهل العلم في المدينة يصومونها، ولم يصح عنده أن أحدًا من السلف كان يصومها. الثاني: مخالفة ذلك لمقصد من مقاصد الشارع، وهو سدّ ذرائع الفساد ومنها ذرائع البدعة، وفي ذلك يقول: "وإن أهل العلم يكرهون ذلك [أي صيام ست من شوال]، ويخافون بدعته، وأن يُلحِق برمضان ما ليس منه أهلُ الجهالة والجفاء، لو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم، ورأوهم يعملون ذلك". (¬2) وبغض النظر عن مدى قوة حجة مالك هذه، ومدى صحة مذهبه، فإن الغرض هنا هو بيان كيفية التعارض بين خبر الآحاد والمقاصد الشرعية، وترجيح المقاصد على مقتضى خبر الآحاد. القسم الثالث: حديث الآحاد (الظني) الذي لا يشهد له أصل قطعي، ولا يُعَارِضُ أصلاً قطعيًّا، فهو محلُّ نظرِ واجتهادِ العلماء، وهو من باب المناسب الغريب. فقد يرفضه البعض بحجة أنه شرع على غير ما عُهِدَ في مثله، ولأن الاستقراء يدلّ على أنه غير موجود، ولأنه من حيث لم يشهد له أصل قطعي يُعتبر معارضًا لأصول الشرع، إذْ عدم الموافقة يُعَدّ مخالفة، وكلّ ما خالف أصلاً قطعيًّا فهو مردود. وقد يقبله البعض من باب أنه وإن لم يكن موافقًا لأصل فلا مخالفة فيه أيضًا، فإن عضَّد الردَّ عدمُ الموافقة، عضَّد القبولَ عدمُ المخالفة، فيتعارضان، ويبقى أصل العمل بالظن في الشرع ¬

_ (¬1) انظر صحيح البخاري، كتاب فرض الخمس، باب (20)، مج 2، ج 4، ص 394. (¬2) الموطأ، كتاب الصيام، باب (22)، ج 1، ص 311.

قائما، وهذا فرد من أفراده فيلزم العمل به. (¬1) وهذا الأخير هو الرأي الأسلم والأرجح، والله أعلم. ثامنًا - استنباط الأحكام للوقائع المستجدة مما لم يدلّ عليه دليل، ولا وُجِد له نظير يقاس عليه: ومن ذلك الإحتجاج بالمصالح المرسلة. وبيان ذلك أن معرفة مختلف أنواع المصالح التي قصد الشارع إلى تحقيقها يحصل لنا منه يقينٌ بصورٍ كلّية من أنواع تلك المصالح، فنجعلها بعد ذلك أصولاً كلّية نقيس عليها ما يَجِدُّ من حوادث ليس له حكم ولا نظير يقاس عليه في أحكام الشريعة، فنُدخلها تحت تلك الصور الكلّية، ونُثبِت لها مثل أحكامها. وهذا النوع من الإلحاق أَوْلى بالاعتبار من القياس، الذي هو إلحاق جزئي بجزئي آخر بجامع علة، غالبًا ما تكون مظنونة، في حين أن الإلحاق في المصلحة المرسلة يكون بكلّية ثابتة في الشريعة قطعا، أو ظنًّا قريبًا من القطع، بما تظافر من أدلّة كثيرة على اعتبار تلك الكلّيات. (¬2) ¬

_ (¬1) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 18. (¬2) انظر ابن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 216.

الفصل الثاني استخلاص المقاصد من ظواهر النصوص

الفصل الثاني استخلاص المقاصد من ظواهر النصوص تمهيد طرق إفادة الكلام ينقسم الكلام المفيد من حيث مدى استقلاله بالإفادة إلى ثلاثة أقسام: 1 - إمّا أن يكون مستقلاً بالإفادة من كلّ وجه، وهو النص، (¬1) مثل قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32]، وقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، وقوله: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]. فهذه النصوص تستقل بإفادة تحريم الزنا وقتل النفس وإيذاء الوالدين بالتأفيف. والظاهر (¬2) -أيضًا- من أنواع الألفاظ التي تستقل بالدلالة على معناها، ذلك أن اللفظ الظاهر هو الذي لا يتوقف فهم المراد منه على قرينة خارجية، وإنما يتضح مدلوله المراد منه من الصيغة نفسها. (¬3) ¬

_ (¬1) مصطلح النص عند الأصوليين يحمل معنيين: الأول المعنى العام، وهو"كل ملفوظ مفهوم المعنى من الكتاب والسنة سواء كان ظاهرًا أو مفسرا أو نصا أو حقيقة أو مجازا، خاصا كان أو عاما، اعتبارا منهم للغالب؛ لأن عامة ما ورد من صاحب الشرع نُصوص". البخاري، علاء الدين عبد العزيز بن أحمد: كشف الأسرار على أصول فخر الإِسلام البزدوي، (بيروت: دار الكتاب العربي، ط 1، 1411 هـ/ 1991 م)، ج 1، ص 172. والثاني المعنى الخاص، وهو في اصطلاح الجمهور: "اللفظ الدالّ في محل النطق ويفيد معنى لا يحتمل غيره". انظر الشنقيطي، عبد الله بن إبراهيم: نشر البنود على مراقي السعود، (بيروت: دار الكتب العملية، ط 1، 1409 هـ)، ج 1، ص 84. أما عند الحنفية فهو عند المتقدمين منهم "ما ازداد وضوحًا على الظاهر بمعنى من المتكلم لا في نفس الصيغة". عبد العزيز البخاري: كشف الأسرار، ج 1، ص 124 - 125، وفَرَّقَ المتأخرون منهم بينه وبين الظاهر بكون النص ما سيق له الكلام أصالة، والظاهر ما لم يُسَقْ له أصالة. انظر عبد العزيز البخاري: كشف الأسرار، ج 1، ص 124 - 126). (¬2) الظاهر في اصطلاح الجمهور هو: "ما دلّ على معنى بالوضع الأصلي، أو العرفي، ويحتمل غيره احتمالًا مرجوحا". الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 58. (¬3) انظر صالح، محمد أديب: تفسير النصوص في الفقه الإِسلامي، (بيروت/ دمشق: المكتب الإِسلامي، ط 3، 1404 هـ / 1984 م)، ج 1، ص 143.

ومع أن كلًّا من النص والظاهر يستقل بإفادة معناه من كلّ وجه، إلّا أن الفرق بينهما أن النص يستقل بالإفادة بإطلاق، أما الظاهر فإنه يستقل بالإفادة بشرط عدم ثبوت ما يصرفه عن ظاهره، فإذا وُجِدَ ما يصرفه عن ظاهره صار مؤَوَّلاً. 2 - ما يستقل بالإفادة من وجه دون وجه، مثل قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، فإيتاء حق المنتوج الزراعي يوم حصاده بإخراج زكاته معلوم، ولكن مقدار هذا الحق غير معلوم من هذا النص. وفي قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} [التوبة: 29]، نجد أن قتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية معلوم من هذا النص، لكنه لا يستقل بالدلالة على مقدار الجزية. فهذه الآيات نصوص في بعض المعاني، ومجملة في أخرى تحتاج في بيانها إلى نصوص أخرى. 3 - ما لا يستقل بالإفادة إلّا بقرينة، وهو كلّ لفظ مشترك ومبهم، مثل قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]، وقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]. فإن الذي بيده عقدة النكاح يُطْلَقُ على ولي المرأة وعلى الزوج، ولا يتحدد المقصود منهما هنا إلّا بالقرائن، وكذلك لفظ القرء مشترك بين الحيض والطهر ولا يمكن تعيين واحد منهما بكونه مقصود الشارع إلّا بالقرائن (¬1). وبناءً على هذا، يمكن القول إن استخلاص المقاصد إما أن يتمّ من ظواهر النصوص الشرعية، وهي التي تستقل بإفادة معناها، وإما أن يكون من خلال ¬

_ (¬1) انظر الغزالي: المستصفى، ج 1، ص 229. هذا على رأي الجمهور، أما عند الحنفية فقد ذكر الجصاص أن لفظ القرء "حقيقة في الحيض مجاز في الطهر فالواجب حمله على الحقيقة حتى تقوم دلالة المجاز، ولا يجوز أن يراد المعنيان جميعا في حال واحدة". الجصاص، أحمد بن علي الرازي: أصول الفقه المسمى الفصول في الأصول، تحقيق د. عجيل جاسم النشمي (الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية، ط 1، 1405 هـ/ 1985 م) ج 1، ص 47.

الإستعانة بالقرائن بما تتضمنه من سياق ومقام، وذلك في النصوص الشرعية التي لا تستقل بإفادة معناها تمامًا أو من وجه دون وجه. وعلى ذلك ستتم دراسة الجانب الأول (استخلاص المقاصد من ظواهر النصوص) في هذا الفصل، والجانب الثاني (وظيفة السياق والمقام في تحديد مقاصد النصوص الشرعية) في الفصل التالي.

المبحث الأول استخلاص المقاصد من ظواهر النصوص

المبحث الأول استخلاص المقاصد من ظواهر النصوص الأصل فيما يُبِينُ عن مقاصد المتكلّم هو ظاهر خطابه؛ إذ اللغة إنما وضعت للتفاهم بين البشر ولمّا كان الكلام يُقْصَد به تيسير التفاهم بين الناس فإن الأصل فيه أن يُحمل على ما يتبادر إلى الأذهان من معانيه، وهو الظاهر, إلّا إذا دلّت قرائن لغوية أو حالية على أن الظاهر ليس هو المقصود في هذا المقام فنلجأ عند ذلك إلى التأويل. ومن هنا تقررت القاعدة القائلة بأن الأصل في الكلام الحقيقة، لأن الحقيقة ثابتة والمجاز طارئ. وتقرير هذه القاعدة ضروري لضمان انضباط التفاهم بين الناس، إذْ إهمالها يؤدي إلى تعذُّر التفاهم بينهم، وعدم انضباط معاملاتهم، بل وفسادها؛ إذْ يُفتح الباب لكلّ عابث لأنْ يتنكر لكلّ الالتزامات التي تفهم من ظاهر كلامه بحجة أنه لم يقصد ظاهرها، وإنما قصد أمرًا آخر, فلا تنضبط بعد ذلك عقود، ولا تثبت التزامات، وتهدر الحقوق، وتشيع الفوضى، ولا يمكننا إلزام أَحَدٍ بما يصدر منه. كما أن ذلك يكون طريقا لكلّ قاصد إلى هدم الشريعة، بأن ينسب إليها كلّ ما يهواه وبسقط منها كلّ ما يخالف هواه. ومن هنا جاء اتفاق من يُعتدّ برأيه من الأصوليين على وجوب العمل بما دلّ عليه النص والظاهر (¬1) حتى يقوم دليل التأويل أو التخصيص أو النسخ، وإن اختلفوا بعد ذلك في هذا الوجوب هل هو على سبيل القطع أم على سبيل الظن فقط، بناءً على اختلافهم في الإحتمال البعيد الناشئ عن غير دليل هل يطعن في قطعية الدليل أم لا؟ (¬2) ¬

_ (¬1) من الظاهر صيغة الأمر المطلق، فتكون ظاهرة في الوجوب مؤولة في الندب والإباحة وغيرهما مما تستعمل فيه، ومنه صيغة النهي المطلق، فهي ظاهرة في التحريم مؤولة في غيره، ومنه صيغ العموم، فهي ظاهرة في استغراق ما تصلح له، مؤولة في حملها على وجه من أوجه الخصوص. انظر الجويني، أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله: البرهان في أصول الفقه، تحقيق عبد العظيم محمود الديب، (المنصورة: دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، ط 3، 1412 هـ / 1992 م)، ج 1، ص 280. (¬2) انظر الجويني: البرهان، ج 1، ص 337 - 339؛ ومحمد أديب صالح: تفسير النصوص في الفقه الإِسلامي، ج 1، ص 153 وما بعدها.

وفي ذلك يقول الإمام الشافعي: "فكلّ كلام كان عامًّا ظاهرًا في سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو على ظهوره وعمومه، حتى يُعلم حديث ثابت عن رسول الله -بأبي هو وأمي- يدلّ على أنه إنما أريد بالجملة العامة في الظاهر بعض الجملة دون بعض". (¬1) ويقول في موضع آخر: "والحديث على ظاهره، وإذا احتمل الحديث المعاني فما أشبه منها ظاهره أولاها به". (¬2) وقال في معرض حديثه عن حديث النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها وعند استوائها في كبد السماء، وأن ذلك يحتمل أن يكون المراد به كلّ الصلوات، ويحتمل أن يراد به النوافل فقط: "وهكذا غيره من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو على الظاهر من العام حتى تأتي الدلالة عنه كما وصفتُ، أو بإجماع المسلمين أنه على باطنٍ دون ظاهرٍ, وخاص دون عام، فيجعلونه بما جاءت عليه الدلالة عليه، ويطيعونه في الأمرين جميعًا". (¬3) وبناءً على ذلك فإنه لا داعي إلى صرف اللفظ عن ظاهره إلّا في حالة معارضته لنصوص شرعية أخرى، أو لأصول الشريعة ومبادئها العامة، أو معارضة معناه لصريح العقل. فالأصل -إذًا- أن يُنْظَر في ظاهر النصوص فإذا وجدت قرائن تصرف النص عن ظاهره إلى معنى آخر يحتمله صُرِف به، وإن لم يوجد شيء من ذلك فاللفظ باقٍ على ظاهره، ويكون ظاهره هو المعنى المقصود للشارع. ولا يضرّ بعد ذلك القول بأن الظاهر يفيد مجرّد الظن فقط، لأن هذا الظن منشؤه ما يمكن أن يوجد من قرائن صارفة له عن ظاهره، فإذا لم توجد هذه القرائن - وإنْ كُنَّا لم نصل إلى درجة القطع بعدمها - فذلك كافٍ في الأخذ بظاهره، لأن القطع العقلي غير مطلوب في مثل هذه الأمور. ¬

_ (¬1) الشافعي، محمد بن إدريس: الرسالة، تحقيق أحمد شاكر، (القاهرة: مكتبة دار التراث، ط 2، 1399 هـ / 1979 م)، ص 341. (¬2) البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين: مناقب الشافعي، تحقيق السيد أحمد صقر، (القاهرة: مكتبة دار التراث، د. ط. د. ت)، ج 2، ص 30. (¬3) الشافعي: الرسالة، ص 322.

المقصود بالأخذ بظواهر النصوص: ليس المقصود بالقول بالأخذ بظاهر النص الإكتفاء بالمعنى الذي يفهم من ظاهر النص (عبارة النص) (¬1) مع نفي إمكانية استنباط معاني أخرى تفهم من النص بدلالة الإشارة (¬2) أو الإقتضاء (¬3) أو الدلالة، (¬4) وإنما المقصود عدم إهمال المعنى المأخوذ من ظاهر النص (عبارة النص) بحجة أن المعنى المقصود من النص غير ذلك، إلّا إذا دلَّ دليل على صرف اللفظ عن ذلك الظاهر. ¬

_ (¬1) المعنى الثابت بعبارة النص هو ما يُعلم أن ظاهر النص متناول له من غير كبير تأمل، سواء سيق له اللفظ أصالة أو تبعا. انظر البخاري: كشف الأسرار، ج 1، ص 171 - 173. (¬2) إشارة النص هي "ما ثبت بنظمه لغةً، لكنه غير مقصودٍ ولا سيق له النص، وليس بظاهر من كلّ وجه". عبد العزيز البخاري: كشف الأسرار، ج 1، ص 174 - 175. فهو لا يستفاد من عبارة النص، ولكنه لازم للمعنى الذي سيق الكلام لإفادته. (¬3) اقتضاء النص هو"عبارة عن زيادة على المنصوص عليه يشترط تقديمه ليصير المنظوم مفيدًا أو موجبًا للحكم بدونه لا يمكن إعمال المنظوم". السرخسي، محمد بن أحمد بن أبي سهل: أصول السرخي، تحقيق أبي الوفاء الأفغاني، (بيروت: دار المعرفة، د. ط، د. ت)، ج 1، ص 248. (¬4) دلالة النص وتسمّى فحوى الخطاب ومفهوم الموافقة عند الجمهور، هي دلالة اللفظ على ثبوت حكم المنطوق به للمسكوت عنه لإشتراكهما في علة الحكم التي يمكن فهمها عن طريق اللغة من غير حاجة إلى الإجتهاد الشرعي". وهبة الزحيلي: أصول الفقه الإِسلامي، ج 1، ص 353.

المبحث الثاني نماذج تطبيقية لإستخلاص المقاصد من ظواهر النصوص الشرعية

المبحث الثاني نماذج تطبيقية لإستخلاص المقاصد من ظواهر النصوص الشرعية النموذج الأول: استخلاص المقاصد من النص والظاهر: تبيّن عند الحديث عن طرق إفادة الكلام أن من الكلام ما يستقل بإفادة المعنى، وهو ما اصطلح عليه الأصوليون بالنص -بالدرجة الأولى- ويُلحَق به الظاهر ولذلك نص الأصوليون على أن النص والظاهر يوجبان العمل بمقتضاهما، ولا يشك فيما يُفهم من ظاهرهما إلّا من أراد أن يدخل الشك على نفسه، أو أراد أن يخرج باللغة من التعامل المعتاد إلى السفسطة. فمثلا قول الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقوله {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] يفيدان كون الشارع قاصدًا التيسير ورفع الحرج عن المكلّفين، ولكن المقصود باليسر المطلوب والحرج المرفوع في الشرع والمجالات التي يدخلها التيسير تحتاج في معرفة تفاصيلها وضوابطها إلى استقراء ما ورد في الموضوع من نصوص وأحكام أخرى لتحديد ذلك. وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لَا ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ" (¬1) ظاهر في كون الشارع قاصدًا إلى منع الإضرار بالنفس وبالغير, وإيجاد توازن بين المصالح المتعارضة وما قد ينتج عنها من أضرار بدفع الضرر الأكبر في مقابل تحمّل الضرر الأصغر. وقول الله تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] ظاهر في قصد الشارع إلى إثبات المسؤولية الفردية في الدنيا والآخرة، فلا يتحمل الإنسان وِزْرَ غيره الذي لم يشارك في فعله ولا تسبب فيه. وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)} ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة، أبو عبد الله محمد بن يزيد: سنن ابن ماجة، حققه ووضع فهارسه محمد مصطفى الأعظمي، (الرياض: شركة الطباعة العربية السعودية، ط 2، 1404 هـ / 1984)، أبواب الأحكام، باب (17)، ج 2، ص 44.

النموذج الثاني: دلالة الأمر والنهي

[البقرة: 278]، وقوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)} [البقرة: 279] نصوص في قصد الشارع إلى تحريم الربا وإلغائه من معاملات الناس. وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} [المائدة: 38] وقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] نصان في قصد الشارع إلى معاقبة وإيلام اللصوص بقطع أيديهم، والزناة بجلدهم، وإن بدا في ذلك شدّة وصرامة، ولذلك عَقَّبَ الله تعالى على العقوبة الأولى بقوله: {نَكَالًا مِنَ اللهِ} [المائدة: 38]، وعلى الثانية بقوله: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]. النموذج الثاني: دلالة الأمر والنهي: تنقسم الأوامر والنواهي -باعتبار الصيغة- إلى قسمين: 1 - الأوامر والنواهي الصريحة: والأمر الصريح هو ما كان بصيغة فعل الأمر, مثل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102]. والنهي الصريح هو ما كان بصيغة لا تفعل، مثل قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151]، وقوله: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152]. والأمر الصريح والنهي الصريح كلاهما يفيد بظاهره قصد الشارع إلى امتثال ما ورد فيهما من أوامر ونواهي.

2 - الأوامر والنواهي الضمنية: وهي على نوعين: أ - ما كانت له صيغة: فالأوامر الضمنية هي ما كان بصيغة تتضمن أمرا، ولم تكن بصيغة فعل الأمر, ومن ذلك ما ورد بصيغة المضارع المقترن بلام الأمر, مثل قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، أو ما ورد منها مورد الإخبار عن تقرير الحكم مثل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [البقرة: 183]، وقوله: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]، أو ما جاء مجيء المدح، مثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد: 19]، أو الذم له أو لفاعله، مثل قوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)} [الأعراف: 31]، أو ترتيب الثواب والعقاب، مثل قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)} [النساء: 13]، وقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء: 14]، أو الإخبار بمحبة الله تعالى في الأوامر, مثل قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} [آل عمران: 134]، {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7]، والكراهية أو عدم الحب في النواهي، مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77]، وقوله: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7]. والنواهي الضمنية هي كلّ ما يجري مجرى النهي ولم يكن بصيغة "لا تفعل" مثل الأمر الدال على الكف كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)} [الجمعة: 9]، ومادة النهي كقوله تعالى: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]، وكما في الجمل الخبرية المستعملة في النهي كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ

الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} [المائدة: 3]، وقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ} [البقرة: 229]. وهذه الصيغ تأخذ حكم الصريح في كونها ظاهرة في كون الشارع قاصدًا إلى إيقاع ما يتعلق منها بالأوامر واجتناب ما يتعلق منها بالنواهي. (¬1) ب - لازم الأمر والنهي: وهو ما يتوقف عليه كلّ منهما، أي هل الأمر بالشيء يلزم منه النهي عن ضده، ووجوب ما لا يَتِمُّ الواجب المأمور به إلّا بتحصيله مع كونه في قدرة المكلّف؟ والنهي عن الشيء هل يلزم منه الأمر بضده، والنهي عن الذرائع الموصلة إلى ذلك المنهي عنه؟ وهذا النوع فيه خلاف مشهور بين الأصوليين ليس هذا موضع تفصيله. (¬2) وقد قيَّد الشاطبي الأوامر والنواهي التي يُعرف منها كون الشارع قاصدًا إلى إيقاع المأمور به واجتناب المنهي عنه بالأوامر والنواهي التصريحية الإبتدائية. وتقييدهما بقيد "التصريحية" إخراج للأوامر والنواهي الضمنية فإنها خفية في الدلالة على قصد الشارع؛ إذْ لا تفيده مجردة وإنما بما يحفّ بها من قرائن، أما تقييدها بكونها "ابتدائية" فلإخراج الأوامر والنواهي التي لم تُقصد بالقصد الأول، مثل: هل الأمر بالشيء نهي عن ضده؟ والنهي عن الشيء هل هو أمر بضده أم لا؟ ومسألة وجوب ما لا يتم الواجب إلّا به. (¬3) ووجه إدراج صيغتي الأمر والنهي في باب استخلاص المقاصد من ظواهر النصوص أن كلًّا منهما إذا ورد مطلقًا ولم ترد أي قرائن تصرفه إلى معنى من المعاني التي يمكن أن يُصرف إليها كلّ منهما فإنه يفيد بظاهره قصد الشارع إلى وجوب امتثال ما أمر به ووجوب اجتناب ما نهى عنه، وهذا جريا على رأي الجمهور القائلين ¬

_ (¬1) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 117. (¬2) انظر الجويني: البرهان، ج 1، ص 179 - 185. (¬3) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 298 - 299.

بأن الأمر حقيقة في الإيجاب والنهي حقيقة في التحريم ولا يصرفان عنهما إلّا بقرائن صارفة. وقد استدلّ الشاطبي على كون الأمر الصريح والنهي الصريح يفيدان بظاهريهما قصدُ الشارع إلى إيقاع المأمور به، واجتناب المنهي عنه، أن الأمر والنهي كلاهما يستلزم أمرين: الأول: الطلب، أي طلب فعل المأمور به، أو طلب ترك المنهي عنه. الثاني: الإرادة (¬1)، أي إرادة إيقاع المأمور به، وإرادة عدم إيقاع المنهي عنه، والدليل على ذلك: 1 - أن جوهر الأمر أو النهي ومقتضى كلّ منهما القصدُ إلى إيقاع المطلوب أو عدم إيقاع المنهي عنه، فالقول بعدم قصد الآمر أو الناهي مقتضى كلّ منهما تجريد لهما عن جوهرهما، وفي ذلك يقول: "الأمر بالمطلقات يستلزم قصد الشارع إلى إيقاعها، كما أن النهي يستلزم قصده لترك إيقاعها؛ وذلك أن معنى الأمر والنهي اقتضاء الفعل واقتضاء الترك، ومعنى الإقتضاء الطلب، والطلب يستلزم مطلوبًا والقصدَ لإيقاع ذلك المطلوب، ولا معنى للطلب إلّا هذا". (¬2) 2 - كما أن تجريد الأمر أو النهي عن مقتضى كلّ منهما بِتَصَوُّرِ وُرُودِ أمرٍ مع تَصَوُّرِ القصد لعدم إيقاع المأمور به، وأن يَرِدَ نهي مع القصد لإيقاع المنهي عنه يُخْرِجُ الأمر عن كونه أمرًا، والنهي عن كونه نهيًا، ويُذهب لكلّ منهما خاصته التي تميزه عن غيره من صيغ التكليف ومراتبه، وبذلك يصح أن يصير الأمر نهيًا أو إباحة أو كراهة، وبالعكس، وهذا محال، فلزم المحافظة على مقتضى كلّ صيغة من صيغ ¬

_ (¬1) الإرادة بوصفها صفة لله تعالى على نوعين: الإرادة الْخَلْقِيّة القدرية، وهي التي لا يخلف عنها مراد، فما أراد الله تعالى كونه كان، وما أراد أن لا يكون فلا سبيل إلى كونه، والإرادة الأمرية التشريعية المتعلقة بطلب إيقاع المأمور به وعدم إيقاع المنهي عنه، ومعناها أن الله تعالى يحبّ فعل ما أمر به ويرضاه، ويحب أن يفعله المأمور به ويرضاه منه من حيث هو مأمور به، وكذلك النهي يحب ترك المنهي عنه ويرضاه. انظر الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 90 - 91. والمقصود هنا في الأوامر والنواهي النوع الثاني من الإرادة. (¬2) الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 92؛ وانظر الجويني: البرهان، ج 1، ص 150.

التكليف. (¬1) 3 - أن الأمر والنهي من غير قصد إلى إيقاع المأمور به وترك المنهي عنه كلام من لا يدري ما يقول كالساهي والمجنون، وذلك لا يُعدّ أمرًا ولا نهيا. (¬2) دلالة ظاهر الأمر على الوجوب والنهي على التحريم: اختلف الأصوليون في دلالة فعل الأمر إذا تجرد عن القرائن: هل يُستفاد من ظاهره الوجوب، أم الندب، أم الإباحة، أم أنه لا يدلّ على أيّ منها، ومن ثَمّ ينبغي التوقف فيه؟ على مذاهب أبرزها ما يأتي: 1 - ذهب جمهور الأصوليين إلى أن الأمر حقيقة في الإيجاب، ولا يصرف عنه إلى غيره إلّا بقرينة، ومن ثَمّ فإن الأمر الذي تعرّى عن القرائن الصارفة يدلّ بظاهره على الوجوب، وصاغوا لذلك قاعدة "الأمر للوجوب ما لم يصرفه صارف". (¬3) واستدلّوا على مذهبهم هذا بموقف أهل اللغة والسلف من صيغ فعل الأمر المطلق بأخذها على ظاهرها وإجرائها على الوجوب، وباستقراء مجموعة من نصوص القرآن الكريم والسنّة النبوية التي يؤخذ منها ذلك. (¬4) 2 - ذهب البعض إلى أن الأمر حقيقة في الندب، وهو منسوب إلى عامة المعتزلة، وبعض الفقهاء. (¬5) 3 - ذهب فريق ثالث إلى التوقف في تعيين مدلول الأمر حقيقة، وذلك بناءً على كونه مشتركًا بين أكثر من معنى. ثم اختلفوا بعد ذلك: فمنهم من جعله مشتركًا بين ¬

_ (¬1) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 93. (¬2) انظر المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 93. (¬3) انظر الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 2، ص 210، الجصاص، أحمد بن علي الرازي: أصول الفقه المسمى الفصول في الأصول، تحقيق عجيل جاسم النشمي، (الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية، ط 1، 1405 هـ / 1985 م)، ج 1، ص 101 وما بعدها، الجويني: البرهان، ج 1، ص 159، 161. (¬4) انظر في تفصيل المسألة الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 2، ص 212 - 216؛ محمد أديب صالح: تفسير النصوص في الفقه الإِسلامي، ج 2، ص 246 وما بعدها. (¬5) انظر محمد أديب صالح: تفسير النصوص في الفقه الإِسلامي، ج 2، ص 241.

الوجوب والندب، وهو قول الغزالي، ومنهم من جعله مشتركًا بين الوجوب والندب والإباحة، ومنهم من جعله مشتركًا بين الوجوب والندب والإباحة والتهديد. (¬1) وقد نصر الإمام الشاطبي مذهب القائلين بالتوقف، حيث يرى أن دلالة الأمر والنهي المطلقين يُرجع فيهما إلى الدليل مما يحفّ بالصيغة من قرائن مقالية أو حالية. وما لم يظهر دليله، وهو الأمر المطلق أو النهي المطلق يصعب القول فيه بأنه للوجوب، أو الندب أو غيرهما، وأن أقرب الأقوال إلى الصواب قول الواقفية. واستدلّ على ذلك بأنه "ليس في كلام العرب ما يرشد إلى اعتبار جهة من تلك الجهات دون صاحبتها"، (¬2) وبقوله: "فالأوامر والنواهي من جهة اللفظ على تساوٍ في دلالة الإقتضاء، والتفرقة بين ما هو منها أمرُ وجوبٍ أو ندبٍ، وما هو نهيُ تحريمٍ أو كراهةٍ لا تُعلم من النصوص، وإن عُلِمَ منها بعض فالأكثر منها غير معلوم، وما حصل لنا الفرق بينها إلّا باتباع المعاني والنظر إلى المصالح، وفي أي مرتبة تقع؟ وبالاستقراء المعنوي، ولم نستند فيه لمجرد الصيغة، وإلَّا لزم في الأمر أن لا يكون في الشريعة إلّا على قسم واحد، لا على أقسام متعددة، والنهي كذلك أيضًا". (¬3) فالأمر لكونه محتملاً للوجوب ولغيره ينبغي النظر فيه بداية من خلال ما يحفّ به من قرائن هل هو باق على ظاهره؟ أم أنه مصروف عنه؟ فإذا ثبت بقاؤه على ظاهره عُلِمَ أن قصد الشارع منه هو الإتيان بالمأمور به، وكذلك النهي. وما قيل عن مذاهب العلماء في دلالة الأمر المطلق يقال عن دلالة النهي المطلق، فالمواقف نفسها، والأدلّة أيضًا نفسها. وقد حدّد الشاطبي الطريق السليم لفهم المقصود - الشرعي من الأوامر والنواهي بالنظر في أمور ثلاثة: أحدها استقراء ما ورد في المسألة موضوع الأمر أو النهي من نصوص في الكتاب والسنّة لِيَتِمّ استخلاص المعنى المشترك بين جميع تلك النصوص. ¬

_ (¬1) انظر الغزالي: المستصفى، ج 2، ص 5 - 6؛ والآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 2، ص 210. (¬2) الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 157. (¬3) المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 115.

والثاني النظر في القرائن الحالية والمقالية المصاحبة للأمر أو النهي. وثالثها محاولة استخلاص علّة ذلك الأمر أو النهي -إن وُجِدَت- ومن خلال هذه الخطوات الثلاث يتمّ تحديد المقصود الشرعي من الأمر أو النهي. (¬1) ¬

_ (¬1) انظر المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 112 - 115.

النموذج الثالث دلالة العام

النموذج الثالث دلالة العام (¬1) هل يمكن أن يُستفاد من ظاهر اللفظ الوارد بصيغة العموم أن الشارع قاصد إلى تعميم الحكم على كلّ فرد يشمله ذلك العام إلّا أن يدلّ دليل على صرفه عن عمومه أم لا؟ اختلفت كلمة الأصوليين في ذلك على ثلاثة مذاهب رئيسة، هي (¬2): ¬

_ (¬1) اللفظ العام هو: اللفظ الموضوع وضعًا واحدًا للدلالة عل جميع ما يصلح له من الأفراد على سبيل الشمول والإستغراق من غير حصر في كمية معينة أو عدد معين. انظر السرخسي: أصول السرخسي، ج 1، ص 125. وللعموم صيغ وضعية في اللغة أهمها ما يأتي: 1 - لفظ "كلّ"، ولفظ "جميع"، مثل قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)} [المدثر: 38]، وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] 2 - الجمع المعرف باللام الاستغراقية، مثل قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون: 1 - 2] 3 - الجمع المعرف بالإضافة، مثل قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]. 4 - المفرد المعرف بـ - "ال" التي تفيد الإستغراق، مثل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]. 5 - أسماء الشرط، مثل قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]. 6 - الأسماء الموصولة، مثل قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275]. 7 - أسماء الإستفهام، مثل قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245]. 8 - النكرة في سياق النفي، مثل قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84]. 9 - النكرة الموصوفة بوصف عام، مثل قوله تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)} [البقرة: 263]. (¬2) انظر في تفصيلها مثلاً: الغزالي: المستصفى، ج 2، ص 22 - 23؛ الزركشي، بدر الدين محمد بن بهادر: البحر المحيط في أصول الفقه، تحرير عمر سليمان الأشقر، (الكويت: دار الصفوة، ط 1، 1409 هـ / 1988 م)، ج 3، ص 17 - 26؛ الجويني: البرهان، ج 1، ص 221 وما بعدها؛ الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 2، ص 294 - 323.

1 - مذهب أرباب الخصوص: يرى أصحاب هذا الإتجاه أن ما ذُكِر من صيغ العموم إنما وُضِع للخصوص، وهو أقل الجمع: إما اثنان أو ثلاثة، ولا يقتضي العموم فيما فوق ذلك إلّا بقرينة، وهو منسوب إلى محمد بن شجاع البلخي من الحنفية (¬1)، ولكن الجصاص أورد اتفاق الحنفية على القول بالعموم في الأوامر والنواهي والأخبار, حيث قال: "ولم يُحْكَ عن أحدٍ من أصحابنا خلاف ذلك فدلّ أنه قولهم جميعا"، (¬2) والجبائي من المعتزلة. (¬3) فحاصل مذهبهم أنه لا يمكن استفادة قصد الشارع من ظاهر العام، وإنما الذي يحدد ذلك هو ما يحفّ به من قرائن. 2 - مذهب الواقفية: وهم القائلون بأن ما يطلق عليه صيغ العموم مشترك يصلح للإستغراق وللإقتصار على الأقل ولتناول صنف أو عدد بين الأقل والاستغراق، ومن ثَمّ يجب التوقف فلا يحمل على واحد من ذلك إلّا بما يؤيده من قرائن، أما أقل الجمع فإنه داخل فيه لضرورة صدق اللفظ بحكم الوضع، وهو منسوب إلى الباقلاني وأبي الحسن الأشعري، وبعض المتكلّمين. (¬4) والقول بالتوقف إن كان القصد منه التوقف مطلقًا فهو مردود لا محالة لأنه يؤدي إلى تعطيل عمومات الشرع، ومن ثَمّ تعطيل جزء كبير من النصوص الشرعية، أما إذا قُصِد منه النظر في وجود صوارف تصرف العام عن عمومه قبل القول بمقتضاه فهو محلّ اتفاق بين أهل العلم؛ ذلك أن اللفظ العام لا يمكن أن نعلم بقاءه على عمومه إلّا بعد علمنا بعدم وجود ما يصرفه عن عمومه، كما أن اللفظ الظاهر لا يمكن أن نعرف بقاءه على ظاهره إلّا إذا علمنا بعدم وجود ما يصرفه عن ظاهره، واللفظ المطلق لا يمكن أن نعلم بقاءه على إطلاقه إلّا إذا علمنا عدم وجود ما يقيده، وكون الأمر للإيجاب لا يمكن التحقق منه إلّا إذا علمنا انتفاء الصوارف ¬

_ (¬1) انظر الزركشي: البحر المحيط، ج 3، ص 17. (¬2) الجصاص: أصول الفقه المسمى الفصول في الأصول، ج 1، ص 103، وانظر تفصيل رأي الحنفية في الصفحات 101 - 103. (¬3) انظر محمد أديب صالح: تفسير النصوص في الفقه الإِسلامي، ج 2، ص 19 - 20. (¬4) انظر الغزالي: المستصفى، ج 2، ص 28.

التي يمكن أن تصرفه عن ذلك، وكذلك كون النهي للتحريم لا يحكم فيه بذلك إلّا مع انتفاء ما يصرفه عن ذلك. ومن أجل ذلك نجد أهل العلم جميعًا يحذرون من التسرع في الفتوى بمجرد الإطلاع على نص واحد، أو بما يتبادر إلى الذهن من ظاهر نص من النصوص قبل معرفة موقع هذا النص من الأدلّة الشرعية الأخرى، وما يحمله - النص ذاته من قرائن، والمقام الذي صدر فيه، بل إن الإمام الشاطبي عدّ ذلك من باب اتباع المتشابهات، حيث يقول: "من اتّباع المتشابهات الأخذ بالمطلقات قبل النظر في مقيداتها، وبالعمومات من غير تأمّل هل لها مخصصات أم لا؟ وكذلك العكس، بأن يكون النص مقيَّدا فيطلق، أو خاصًّا فيعمّ بالرأي من غير دليل سواه. فإن هذا المسلك رمي في عماية، واتباع للهوى في الدليل، وذلك أن المطلق المنصوص على تقييده مشتبه إذا لم يقيّد، فإذا قُيِّد صار واضحًا، كما أن إطلاق المقيَّد رأي في ذلك المقيَّد معارض للنص من غير دليل". (¬1) 3 - مذهب أرباب العموم: وهم القائلون بأن صيغ العموم تفيد الشمول والإستغراق لكلّ ما تصلح له بدلالة الوضع، وأنها إنما تستعمل في الخصوص مجازا. فهم يرون إمكانية دلالة ظاهر صيغة العموم على قصد الشارع إلى تعميم الحكم ليشمل كلّ ما يصلح له اللفظ بالوضع، فهذا هو الأصل ولا يصرف عنه إلى خصوص إلّا بقرينة. وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة وجمهور أصحابهم، والظاهرية. وقد استدلوا على إفادة صيغ العموم الإستغراق بأن ذلك يقتضيه تفريق العرب في الوضع - اللغوي بين المفرد والمثنى والجمع، وأن هذا من ضرورات التخاطب بين الناس؛ إذْ من غير تفريق بين هذه يعسر التفاهم، ثم إن تعامل الناس من قديم جارٍ على هذا، فإذا خاطب إنسانٌ آخرَ بصيغة عموم لم يحسن منه فهمها على الخصوص إلّا إذا دلّت على ذلك قرائن، واللغة إنما وضعت لتيسير التفاهم بين الناس. (¬2) ولولا كون ¬

_ (¬1) الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى: الإعتصام، ضبطه وصححه أحمد عبد الشافي، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 2، 1411 هـ / 1991 م)، ج 1، ص 178. (¬2) انظر في تفصل أدلّة أرباب العموم: الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 2، ص 294 - 302؛ السرخسي: أصول السرخسي، ج 1، ص 135 وما بعدها؛ الغزالي: المستصفى، ج 2، ص 23 - 27، وغيرها من كتب الأصول.

النصوص العامة على عمومها لما وُجِد التخصيص، فإنما وجد هذا لوجود ذاك. ولا يضر القولَ بأن صيغ العموم تفهم على عمومها ما لم يرد ما يخصصها كونُ دلالة العام على أفراده ظنيّة قبل التخصيص -كما هو رأي الجمهور من الأصوليين- لأن كونها ظنية لا يتعارض مع كون ظاهرها مقصودًا للشارع، فمنشأ الظنية هنا هو احتمال تخصيصها، وهو أمر يبقى مجرد احتمال نظري إلى أن يثبت وجود المخصص فيصرف به العموم عن ظاهره. والأحكام الشرعية والعادية لا تخلو من ظن، وذلك غير مؤثر في وجوب العمل بها.

الفصل الثالث وظيفة السياق والمقام في تحديد المقصود من الخطاب الشرعي

الفصل الثالث وظيفة السياق والمقام في تحديد المقصود من الخطاب الشرعي تمهيد طبيعة النص الشرعي ومستويات فهمه النص (¬1) الشرعي نص لغوي في أصله، ومن ثَمّ فهو محكوم بقواعد اللغة وقوانينها. ففهمه يعتمد أساسًا على اللغة، واللغة بحكم كونها أداة التخاطب والتفاهم بين الناس تكون محكومة بما تواضع عليه أهل تلك اللغة من معان في استعمال ألفاظها، وبما اعتادوه من أساليب للتعبير عن مقصوداتهم، وبالظروف والملابسات التي تحفّ بالخطاب. ولمّا كان أي نصّ من النصوص مركّبًا من مجموع كلمات صدرت في مقام من المقامات، وقَصَد بها قائلها التعبير عن معنى أو مجموعة من المعاني، فإننا لا يمكن أن نفهم النص فهمًا سليمًا إلّا من خلال التدرّج في ثلاثة مستويات: الأول: هو التعامل مع الكلمات على المستوى الإفرادي بمعرفة "المعنى المعجمي" (¬2) لكل كلمة من كلمات النص، وهو عادة ما يكون معنى متعدِّدا. الثاني: التعامل مع الكلمات على المستوى التركيبي، ويكون ذلك على محورين: الأول تحديد "المعنى الوظيفي" (¬3) للكلمة، ويتمّ ذلك من خلال تحديد قرائن التعليق ¬

_ (¬1) المقصود بالنص هنا معناه العام. (¬2) المعنى المعجمي (Lexical Meaning): هو المعنى الذي تدلّ عليه الكلمة مفردة كما هو في المعجم. انظر تمام حسان: اللغة العربية معناها ومبناها، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط 3، 1985)، ص 39. (¬3) المعنى الوظيفي (Functional Meaning): هو المعاني الصوتية والصرفية والنحوية التي تعتبر في حقيقتها وظائف تؤديها مباني الكلمات، ككون الوقف هو المعنى الوظيفي للسكون، والتخلص من التقاء الساكنين هو وظيفة الكسر، والفاعلية هي وظيفة الإسم المرفوع، والمفعولية وظيفة الإسم المنصوب، وغيرها. انظر تمام حسان: اللغة العربية معناها ومبناها، ص 39.

(العلاقات السياقية بين كلمات النص)، والثاني تحديد "المعنى الدلالي" (¬1). ومهمة هذا المستوى من التعامل هي حصر معاني الألفاظ في أضيق نطاق ممكن بتقوية معنى أو أكثر من المعاني المعجمية لِلَّفْظِ، واستبعاد معنى للفظ هو وضعه في "مقال" صادر في ضوء "مقام". فالذي ينفي عن معناها التعدد هو فهمها في ضوء السياق الذي وردت فيه؛ لأن الكلام لا بُدَّ أن يحمل من القرائن المقالية (اللفظية)، والمقامية (الحالية) ما يعيّن معنًى واحدًا لكل كلمة. (¬2) وكذلك المعنى الوظيفي الذي تعبِّر عنه المباني الصرفية يتّسم -بطبعه- بالتعدد والاحتمال، فالمبنى الصرفي الواحد صالح لأن يُعَبِّر عن أكثر من معنى واحد ما دام غير متحقق بعلامةٍ ما في سياقٍ ما. فالمصدر مثلاً يمكن التعبير به عن عدة معاني: فهو ينوب عن الفعل مثل قولنا إكرامًا زيدا، أي أكرم زيدا، ويؤكد الفعل كأكرمته إكراما، ويبيّن سبب الفعل كأكرمته احتراما، وينوب عن اسم المفعول نحو قوله تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف: 18]، أي مكذوب، وينوب عن اسم الفاعل نحو قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)} [الملك: 30]، أي غائرا، ويكون بمعنى الظرف نحو آتيك طلوع الشمس. وما تكون موصولة، ونافيّة، وكافّة، ومصدريّة ظرفيّة، واستفهاميّة، وتعجبيّة، وشرطيّة. (¬3) والذي يحدد معنى المبنى الصرفي في النص هو القرائن اللفظية، والمعنوية، والحالية. وبعد التعرف على المعنى المعجمي، والمعنى الوظيفي للكلمة يتكون لدينا المعنى اللفظي أو"معنى المقال"، ولكن الفهم الكامل للنص لا يمكن أن يتحقق إلّا بعد ¬

_ (¬1) المعنى الدلالي (Semantic Meaning)، ويسمى أيضًا المعنى المقامي (Contextual Meaning): وهو معنى الكلمة في ضوء السياق الواردة فيه. انظر تمام حسان: اللغة العربية معناها ومبناها، ص 39. (¬2) انظر في تقسيم القرائن إلى قرائن مقالية وحالية مثلاً: الجويني: البرهان، ج 1، ص 185 وما بعدها. (¬3) انظر في ذلك مثلًا ابن فارس، أبو الحسن أحمد: الصاحبي، تحقيق السيد أحمد صقر (القاهرة: مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاؤه، 1977 م) , ص 269 - 272؛ والمالقي، أحمد بن عبد النور: رصف المباني في شرح حروف المعاني، تحقيق د. أحمد محمد الخراط، (دمشق: دار القلم، ط 2، 1405 هـ / 1985 م)، ص 377 - 385)؛ وابن الحاجب، جمال الدين أبو عمرو عثمان بن عمر: كتاب الكافية في النحو، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1405 هـ / 1985 م)، ج 2، ص 191 - 197.

التعرُّف على المعنى المقامي الحاصل من خلال ضمّ القرائن الحالية إلى ما في السياق من قرائن مقالية، ليتكوَّن من ذلك كله ما يسمى بالمعنى الدلالي. فالمعنى الدلالي -إذًا- هو حصيلة تركيب المعنى الوظيفي مع المعنى المعجمي مع القرائن الحالية التي صاحبت الخطاب. ويمكن صياغته في القانون الآتي: المعنى الدلالي = المعنى المعجمي + المعنى الوظيفي + المقام (القرائن اللفظية والحالية). ومع كل هذا، يبقى المعنى المستنبط -في أكثر الأحيان- ظنيّا؛ لذلك قيل إن أكثر كلام العرب من قبيل الظاهر, وأن النص -بمعناه الأصولي- قليل فيه، ولذلك نجد أكثر الأدلّة الشرعيّة إِمَّا مِنْ قَبِيل الظاهر أو المجمل لما يتطرق إليها من احتمالات. أمّا المجمل فإنه يحتاج إلى مبيِّن يبيِّنه، وأما الظاهر فإن الأصلَ فيه أن يُحمل على ظاهره، لكنه لمّا كان يقبل التأويل فإنه قد يدخله التأويل، والذي يحدد المعنى المقصود منه هو ما يحفّ به من قرائن مقالية وحالية. (¬1) ¬

_ (¬1) يرى الشاطبي أن النص في لسان العرب ينعدم أو يندر، لأن النص إنما يكون نصًّا إذا انتفت عنه احتمالات عشر، هي الإحتمالات الناشئة عن: نقل اللغات وآراء النحو، والاشتراك، والمجاز، والنقل الشرعي أو العادي، والإضمار، والتخصيص، والتقييد، والنسخ، والتقديم والتأخير، والمعارض العقلي، وإفادة القطع مع هذه الإحتمالات متعذر. انظر الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 4، ص 240. ومذهب الشاطبي هذا غير مسلَّم، إذ يبدو أن حشر كل هذه الإحتمالات واشتراط انتفائها من أجل تحقق القطع بمعنى اللفظ أو النص أمر مُبَالَغ فيه، فالمطلوب إنما هو القطع العادي، وهو لا يحتاج إلى كل هذا، أما القطع العقلي فامر آخر. وقد ردّ الإمام الجويني في كتابه البرهان قول القائلين بندرة النصوص في القرآن والسنة وعلّق على ذلك بقوله: "هذا قول من لا يحيط بالغرض من ذلك، والمقصود من النصوص الإستقلال بإفادة المعاني على قطع، مع انحسام جهات التأويلات، وانقطاع مسالك الإحتمالات، وهذا وإن كان بعيدا حصوله بوضع الصيغ ردًّا إلى اللغة، فما أكثر هذا الغرض مع القرائن الحالية والمقالية، وإذا نحن خضنا في باب التأويلات وإبانة بطلان معظم مسالك المؤولين، استبان للطالب الفطن أن جُلّ ما يحسبه الناس ظواهر معرضة للتأويلات فهي نصوص ... ". البرهان، ج 1، ص 278.

المبحث الأول العناصر التي تتحكم في فهم الخطاب

المبحث الأول العناصر التي تتحكم في فهم الخطاب من أجل بيان وظيفة السياق والمقام في تحديد المقصود من النصوص الشرعية لا بُدّ من الحديث عن العناصر التي تتحكم في فهم خطابٍ ما. يمكن تحديد العناصر المتحكمة في فهم الخطاب وتحديد المقصود منه في أربعة عناصر, هي: الخطاب، أي نص الخطاب وهو راجع إلى طبيعة اللغة التي تَمَّ بها التخاطب، وحال المخاطِب، وحال المخاطَب، ومقام الخطاب. يقول الإمام الشاطبي: " ... معرفة مقاصد كلام العرب إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال: حال الخطاب من جهة نفس الخطاب، أو المخاطِب، أو المخاطَب، أو الجميع؛ إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين، وبحسب مخاطَبين، وبحسب غير ذلك ... ". (¬1) المطلب الأول لغة الخطاب العنصر الأول الذي يتحكّم في فهم المقصود من الخطاب هو نوع اللغة التي تَمّ بها الخطاب، من حيث مدى وضوحها أو غموضها. فكلّما كانت لغة الخطاب أكثر سهولة ووضوحًا كان إدراك المقصود منها أيسر, وبالعكس. ويتحكم في مدى وضوح لغة الخطاب أو غموضها عاملان: الأول: نوع الكلمات التي يختارها المخاطِب والأسلوب الذي ينظمها فيه، ومدى قدرته على الإفصاح عن مقصوده بأيسر طريق، وسيتم الحديث عن هذا في العنصر الثاني من العناصر المتحكمة في فهم الخطاب، أي المخاطِب. والثاني: هو طبيعة اللغة نفسها، فليست كلّ أساليب اللغة تدلّ دلالة واحدة لا تحتمل شكًّا في مقصود المتكلم من لفظه، بل الواقع أن دلالة اللفظ الواحد أو العبارة الواحدة تتفاوت تفاوتًا كبيرًا في تطرّق الإحتمال إلى المراد بها، فمنها ما يحتمل معنى ¬

_ (¬1) الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 258.

واحدًا (وهو المصطلح عليه في أصول الفقه بالنص)، ومنها ما يحتمل أكثر من معنى على التساوي (وهو المصطلح عليه بالمشترك) (¬1)، ومنها ما يحتمل أكثر من معنى بعضها أرجح من الآخر (وهو المصطلح عليه بالظاهر)، ومنها ما يُشْكِل المراد منه ويحتاج إلى بيان من المتكلم نفسه، (¬2) أو من خلال المبحث عن قرائن خارجية (¬3) كما هو مُبَيَّنٌ في مراتب دلالة الألفاظ من حيث الوضوح والخفاء في مباحث علم أصول الفقه. (¬4) فهم اللغة على معهود العرب: لَمّا كانت اللغة -سواء بمفرداتها أو بتراكيبها- تمثّل تواضع أصحاب اللغة على ¬

_ (¬1) المشترك هو"اللفظ الواحد الدال على معنيين مختلفين أو أكثر دلالة على السواء عند أهل تلك اللغة". الزركشي: البحر المحيط، ج 2، ص 122. (¬2) مثل اللفظ المجمل، وهو"لفظ لا يُفهم المراد منه إلّا بالاستفسار من المُجْمِل وبيان من جهته يُعرف به المراد". السرخسي: أصول السرخسي، ج 1، ص 168. (¬3) مثل اللفظ الخفي والمشكل، والخفي هو: ما اشتبه معناه وخفي المراد منه بعارض في الصيغة يمنع نيل المراد بها إلَّا بالطلب. انظر أصول السرخسي، ج 1، ص 167. والمشكل هو: "اسم لما يشتبه المراد منه بدخوله في أشكاله على وجه لا يعرف المراد [منه] إلّا بدليل يتميز به من بين سائر الأشكال". أصول السرخسي، ج 1، ص 168. والفرق بين الخفي والمشكل أن الخفاء في الأول لا بسبب من ذات اللفظ، وإنما بسبب التطبيق من حيث شمول اللفظ، فالخفي يُعرف المراد منه ابتداء وإنما يجيء الخفاء في احتمال شموله لبعض عناصره مثل لفظ السارق هل يشمل النباش أم لا؟ وأما المشكل فالخفاء فيه يجيء من ذات اللفظ، ولا يُفهم المراد منه إلّا بدليل من الخارج. والفرق بين المشكل والمجمل هو أن المراد من المشكل قائم، وإنما الحاجة في تمييزه مِنْ أشكاله، أمّا المراد في المجمل فغير قائم، ولا يمكن معرفة تفصيله من ذات اللفظ، ولا بمجرد الإجتهاد الفقهي في التفسير، وإنما يكون معرفة المراد منه بالبيان والتفسير، وذلك البيان دليل آخر غير متصل بهذه الصيغة. (¬4) تنقسم الألفاظ من حيث دلالتها على المعنى على أساس الوضوح أو عدمه، إلى قسمين: ألفاظ واضحة الدلالة على معناها، وأخرى ليست واضحة الدلالة على معناها. وتتفاوت درجة الوضوح بين أنواع القسم الأول، كما تتباين مراتب الخفاء بين أنواع القسم الثاني. واللفظ الواضح الدلالة على معناه هو ما دلّ على المراد منه بنفس صيغته من غير توقف على أمر خارجي، وهو -عند الحنفية- على أربعة أنواع: أقواها وضوحًا المحكم، ثم المفسَّر، ثم النص، وآخرها الظاهر. أما عند الجمهور فهو على نوعين: النص، والظاهر. أما اللفظ غير الواضح الدلالة فهو الذي لا تدل صيغته على معناه ويُحتاج لفهم المراد منه إلى أمر خارجي. وهو -عند الحنفية- على أربعة أقسام أيضًا: أوضحها الخفي، ثم المشكل، ثم المجمل، وأكثرها خفاء المتشابه. أما عند الجمهور فينقسم إلى قسمين: المجمل، والمتشابه.

استعمال ألفاظ مخصوصة في معاني مخصوصة والتعبير عنها بتراكيب مخصوصة، وكان ذلك يختلف من لغة إلى أخرى، كان من اللازم فهم كلّ لغة على وفق معهود أصحابها. (¬1) والقول بلزوم فهم النصوص الشرعية على معهود العرب في لغتها لا يكون فقط في معاني الألفاظ بأن لا تُحْمل على غير ما تعارف عليه العرب من معاني لها، بل في إدراك أساليب العرب في خطابها أيضًا. فمعرفة ما تواضعت عليه العرب من معاني للألفاظ يعين في الوصول إلى المعنى الإفرادي للألفاظ، ومعرفة ما تواضعت عليه العرب من أساليب في الخطاب يعين على تحديد المعنى التركيبي لنصوص القرآن الكريم والسنّة المطهرة. وقد اختلف اللغويون والأصوليون في دلالة الكلام المركّب: هل هي وضعيّة، بمعنى أن كلّ الصيغ التركيبية وضعها أهلُ اللغة ويجب الإلتزام بها، أم أنها عقلية، بمعنى أن تركيب الكلمات لأداء معنًى ما يتم بإدراك العقل وباختيار المتكلّم، لا بالنقل والسماع، والتحقيق هو ما ذهب إليه الزركشي من أن أنواع المركبات وضعية، أما جزئيات تلك الأنواع فهي عقلية يختار منها المتكلّم ما يناسب مقصوده. (¬2) والمقصود بأنواع المركبات أساليب التعبير والعلاقات السياقية (قرائن التعليق) مثل وضع باب الفعل لإسناد كلّ فعل إلى من صدر منه، وتقديم الفعل على المفعول به، وأساليب الإستفهام، والحصر, والتعجب، وغيرها. ولمّا كان القرآن الكريم نزل بلغة العرب، وكان في غاية البيان واليسر لهم مصداقا لقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} [الشعراء: 193 - 195]، وقوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)} [القمر: 17]، كان من اللازم أن يكون مفهومًا للعرب، ولا تفهمه العرب إلّا إذا كان على معهودها في التخاطب، فمن رَامَ فهمه على غير ذلك السَّنَنِ فقد شطّ. ¬

_ (¬1) يقول الجويني: " ... فإن إطلاقات الشرع لا تعرض على مأخذ الحقائق، وإنما تحمل على حكم العرف والتفاهم الظاهر، وهذا كإطلاق الشرع تحريم الخمر، وإنما المحرم تناولها، وكإطلاق المسلمين إضافة القتل إلى القاتل، مع القطع بأن إزهاق الأرواح من الأشباح من مقدورات الإله سبحانه وتعالى". البرهان، ج 1، ص 197. (¬2) انظر الزركشي: البحر المحيط، ج 2، ص 9 - 11.

ومعرفة معهود العرب في التخاطب مُهِمّ في فهم كثير من النصوص القرآنية، خاصة فيما يتعلق بالعموم والخصوص، والتقديم والتأخير والظهور والخفاء، والإضمار والحذف، والتأكيد والإستثناء، وغير ذلك. فَمِمّا عهدته العرب في خطابها -مثلاً- استعمال اللفظ العام وقصد الخصوص، واستعمال اللفظ العام وقصد الخصوص من وجه والعموم من وجه آخر, وغير ذلك مما أشار إليه الإمام الشافعي في رسالته، حيث يقول: "فإنما خاطب الله بكتابه العرب بلسانها عك ما تعرف من معانيها، وكان مما تعرف من معانيها اتساع لسانها. وإن فطرته أن يخاطب بالشيء منه عامًّا ظاهرًا يُراد به العام الظاهر ويُستغنى بأول هذا منه عن آخره. وعامًّا ظاهرًا يُراد به العام ويدخله الخاص، فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه. وعامًّا ظاهرًا يُراد به الخاص. وظاهرًا يُعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره. فكلّ هذا موجودٌ عِلْمُه في أوّل الكلام أو وسطه أو آخره. وتبتدئ الشيء من كلامها يُبِينُ أوّلُ لفظِها فيه عن آخره، وتبتدئ الشيء يُبِينُ آخرُ لفظِها منه عن أوَّله. وتكَلَّمُ بالشيء تُعرِّفُه بالمعنى دون الإيضاح باللفظ، كما تُعرِّفُ الإشارة، ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها، لانفراد أهل علمها به، دون أهل جهالتها. وتسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة، وتسمي بالإسم الواحد المعاني الكثيرة. وكانت هذه الوجوه التي وصفت اجتماعها في معرفة أهل العلم منها به -وإن اختلفت أسباب معرفتها- معرفةً واضحةً عندها، ومستنكرًا عند غيرها، ممن جهل هذا من لسانها، وبلسانها نزل الكتاب وجاءت السنة، فتكلّفَّ القولَ في علمها تكلُّفَ ما يجهَلُ بعضه. ومن تكلَّف ما جهل وما لم تُثْبِتْه معرفتُه: كانت موافقتُه للصواب -إنْ وافقه مِن حيث لا يعرفه- غير محمودة، والله أعلم، وكان بخطئه غيرَ

معذورٍ, إذْ ما نطق فيما لا يحيطُ علمهُ بالفرق بين الخطأ والصواب فيه". (¬1) ومن هنا عُدَّ العلم باللغة العربية وثقافة أهلها شرطًا فيمن يتصدى لتفسير كلام الله تعالى وبيان المقصود منه، يقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: "إن القرآن الكريم كلام عربي فكانت قواعد اللغة العربية طريقًا لفهم معانيه، وبدون ذلك يقع الغلط وسوء الفهم ... ونعني بقواعد العربية مجموع علوم اللسان العربي، وهي: متن اللغة، والتصريف، والنحو, والمعاني والبيان، ومن وراء ذلك استعمال العرب المُتَّبع من أساليبهم في خطبهم وأشعارهم وتراكيب بلغائهم، ويدخل في ذلك ما يجري مجرى التمثيل والاستئناس للتفسير من أفهام أهل اللسان أنفسهم لمعاني آيات غير واضحة الدلالة عند المولدين". (¬2) والمقصود بكون القرآن الكريم عربيًّا أنه عربيٌّ لفظًا ومعنى، بمعنى أنه لا يمكن أن يؤخذ منه من المعاني إلّا ما يقتضيه كلام العرب؛ إذ المعنى تابع لِلَّفْظِ وهو مدلوله، ولا يوصف كلام بكونه عربيًّا لمجرد موافقة رسمه رسمَ الخط العربي. فالنسبة إنما هي رابط بين شيئين، فإذا انعدم الرابط صارت النسبة افتراء، ومن ثَمّ فإن كلّ معنى يُنسب إلى لفظ أو تركيب وهو لا يحتمله لا يكون أولى من نسبة ضده ¬

_ (¬1) الشافعي: الرسالة، ص 51 - 53. وقد تم اختيار نقل هذا النص الطويل عن الإمام الشافعي لكونه من أهل اللسان العربي وحجة فيه. وقد أعاد الشاطبي صياغة كلام الشافعي هذا في كتابه الموافقات بما يزيده وضوحًا، حيث يقول: "فإن قلنا إن القرآن نزل بلسان العرب وإنه عربي وإنه لا عجمة فيه، فبمعنى أنه أنزل على لسان معهود العرب في ألفاظها الخاصة، وأساليب معانيها، وأنها فيما فطرت عليه من لسانها تخاطب بالعام يراد به ظاهره، وبالعام يراد به العام في وجه والخاص في وجه، وبالعام يراد به الخاص، والظاهر يراد به غير الظاهر - وكل ذلك يعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره، وتتكلم بالكلام ينبئ أوله عن آخره، أو آخره عن أوله؛ وتتكلم بالشيء يعرف بالمعنى كما يعرف بالإشارة؛ وتسمي الشيء الواحد بأسماء كثيرة، والأشياء الكثيرة باسم واحد، وكل هذا معروف عندها لا ترتاب في شيء منه هي ولا من تعلق بعلم كلامها. "فإذا كان كذلك فالقرآن في معانيه وأساليبه على هذا الترتيب. فكما أن لسان بعض الأعاجم لا يمكن أن يفهم من جهة لسان العرب، كذلك لا يمكن أن يفهم لسان العرب من جهة فهم لسان العجم؛ لإختلاف الأوضاع والأساليب". الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 50 - 51. (¬2) ابن عاشور، محمد الطاهر: تفسير التحرير والتنوير، (تونس: دار سحنون للنشر والتوزيع، د. ط، د. ت)، ج 1، ص 18.

إليه. (¬1) فلا يمكن أن يؤخذ من اللفظ معنى إلّا إذا كان ذلك المعنى مستعملاً عند العرب في مثل ذلك اللفظ. وقد مَثّل الشاطبي لذلك بقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43]. فتفسير السُّكر بالسُّكر الحقيقي أو سُكْر النوم مقبول، لأن اللفظ مُسْتَعْمَل عند العرب في كليهما: في الأول بالحقيقة، وفي الثاني بالمجاز, أما لو فُسِّر على أنه سُكْر الغفلة والشهوة وحُبّ الدنيا لم يكن هذا التفسير مقبولا، وكذلك لو فُسِّر لفظ الجنابة هنا بالتدنس بالذنوب، ولفظ الإغتسال بالتوبة، فهو غير معتبر؛ "لأن العرب لم تستعمل مثله في مثل هذا الموضع ولا عهد لها به" (¬2) والقرآن أنزل بلسان العرب. وتتضح أهمية معرفة أساليب العرب في الخطاب في الإستعانة بذلك في الترجيح بين الإحتمالات الواردة في معنى نص من النصوص، ومن أمثلة ذلك: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات: 11]. فعطف {وَلَا نِسَاءٌ} على {قَوْمٌ} يحتمل أن يكون عطفَ مباين، أو عطفَ خاص على عامّ. وقد دعّم من رجّح كونه عطفَ مباين -أي كون "قوم" هنا خاصة بالرجال- مذهبه بقول زهير بن أبي سلمى: وما أدري وسوف إِخَالُ أدري ... أَقَوْمٌ آل حِصْن أم نساء (¬3) وكذلك في بيان ما قد يشكل من ألفاظ، ومن ذلك أنه لما أشكل على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - معنى "التخوّف" في قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل: 47]، سأل الحضور من أهل اللسان فأجابه شيخ من هذيل قائلاً: هذه لغتنا، ¬

_ (¬1) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 295. (¬2) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، مج 2، ج 3، ص 40. (¬3) ديوان زهير بن أبي سلمى، (بيروت: دار صادر، د. ط، د. ت)، ص 12؛ وانظر الزمخشري، محمود بن عمر: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، (بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر، د. ط، د. ت)، ج 3، ص 565.

المطلب الثاني المخاطب (المتكلم)

التخوف التنقص (¬1) فقال عمر: وهل تعرف العرب ذلك في كلامها؟ قال: نعم. قال أبو كبير الهذلي، يصف ناقة تنقّص السيرُ سنامها بعد تَمْكِهِ واكتنازه: تَخَوَّفَ الرَّجُل منها تَامِكًا قَرِدًا ... كما تَخَوَّف عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ (¬2) فقال عمر: "أيها الناس عليكم بديوانكم شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم". (¬3) المطلب الثاني المخاطِب (المتكلّم) يمثل المخاطِب العنصر الثاني من العناصر المتحكمة في فهم الخطاب، فهو الذي يتحكّم إلى حدّ كبير في مدى وضوح خطابه أو غموضه، وذلك من خلال جوانب أربعة: أولها: قدرة المخاطِب على التعبير عمّا يريد تبليغه للمخاطَبين، فالمتكلمون يتفاوتون في مدى القدرة على البيان، وتضمين الخطاب ما يحتاجه السامع من علامات مساعدة على تحديد المقصود منه، فعلى قدر تمكّن المخاطِب من ناصية اللغة يكون بيانُه، ومن هنا وُصِفَ بعض المتكلّمين بالفصاحة والبلاغة. وهذا العنصر متوفِّر بكماله في كلًّ من النصوص القرآنية والحديثية. فالقرآن الكريم هو المعيار في اللغة، ويكفيه أنه أعجز العرب عن الإتيان بمثله، والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان أفصح العرب، وقد أُوتِيَ جوامع الكَلِم. وثانيها: نوع الألفاظ التي يختارها المخاطِب، فالألفاظ تتفاوت في مدى وضوحها ¬

_ (¬1) فيكون معنى الآية: يأخذهم على تنقص من الأموال والأنفس والثمرات حتى يهلكهم جميعا. انظر القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد: الجامع لأحكام القرآن، (طهران: انتشارات ناصر خسرو، تصويرا عن الطبعة الثالثة لدار الكتب المصرية، د. ط، د. ت)، ج 10، ص 110. (¬2) التامك: السنام المرتفع لامتلائه ماءً، وقَرِد: كثير القراد، والنبعة: شجرة من أشجار الجبال يتخذ منها القسي، والسَفَن: المِبْرَد. (¬3) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج 10، ص 111.

بدءًا من أعلى رتبة وهي النص إلى أدناها وهو المتشابه، (¬1) وبينهما الظاهر والخفي، والمشكل، والمجمل. فكلّما تحرّى المخاطِب الألفاظ التي دلالتها أكثر وضوحًا كان إدراك المقصود من خطابه أيسر, وبالعكس. ولكن -كما سبقت الإشارة- فإنه لمّا كانت معظم نصوص اللغة العربية محتملة، وكان النص (بمعناه الأصولي) فيها عزيزا، فإنه مهما تحرّى المخاطِب الوضوح في الألفاظ فإنه لا يمكن التخلص من عنصر الإحتمال. وبالنسبة لهذا العنصر, فمع أن النصوص الشرعية لم تَقْصِد إلى الإغراب في الكلام، إلّا أن طبيعة اللغة ذاتها من جهة، وورود ألفاظ القرآن الكريم على لغةِ أكثرَ من قبيلة من قبائل العرب من جهة ثانية جعل ألفاظه لا تخلو مما قد يُشْكِل معناه على بعض أصحاب اللغة أنفسهم، مثل ما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في لفظ "الأبّ" في قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31)} [عبس: 31] (¬2)، و"التخوّف" في قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)} [النحل: 47] (¬3). وقد تنشأ الغرابة من نقل اللفظ من معناه اللغوي إلى معنى شرعيّ، فيصير اللفظ مُجمَلاً يحتاج إلى بيان من قِبَل الشارع نفسه، كما هو الحال في ألفاظ الصلاة، والزكاة، والحج، وغيرها. وثالثها: إرادة المخاطِب، فمع أن الأصل في المخاطِب أن يسعى قدر الإمكان إلى إفهام المخاطَبين بأن يكون معنى كلامه محدّدًا، إلّا أنه قد يقصد أحيانًا إلى استعمال بعض الألفاظ المبهمة التي يتعذر إدراك حقيقة معناها، أو بعض الألفاظ المحتملة لأكثر من معنى لحكمة يريدها الشارع. ومثال الأول ما ورد في القرآن الكريم من ألفاظ متشابهة في مجال العقيدة بغرض اختبار إيمان المخاطبين، وذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ ¬

_ (¬1) اللفظ المتشابه هو: "اسم لما انقطع رجاء معرفة المراد منه لمن اشتبه عليه". السرخسي: أصول السرخسي، ج 1، ص 169. (¬2) انظر القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج 19، ص 223. (¬3) انظر المصدر السابق، ج 10، ص 110.

مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)} [آل عمران: 7]. وينبغي التنبيه هنا إلى أن ما ورد في الشرع من نصوص متشابهات لا يتعلق بفهم المقصود منها تكليفٌ، والتكليف إنما هو بالإيمان بها والتسليم لها على ما هي عليه من تشابه. ومثال الثاني ما يستعمله الشارع من ألفاظ محتملة لأكثر من معنى سواء في حال كونها مفردة أوفيما وردت فيه من سياق، وذلك -كما قيل- لتكثير المعاني التي يمكن أن تؤخذ من القرآن الكريم. (¬1) ورابعها: حال المخاطِب، فحال المخاطِب أثناء الخطاب لها مكانة بارزة في فهم المقصود من خطابه، حيث إن المخاطِب عادة ما يصاحب خطابَه علاماتٌ تظهر عليه، وإشاراتٌ تصدر منه تساعد في فهم الخطاب. فاللغة عادة أضيق من الفكر، ومن ثَمَّ يلجأ المتكلّم أحيانًا إلى الإشارات والحركات للتعبير عن بعض المعاني، أو استكمال ما قد يشعر به من قصور في الألفاظ عن التعبير عمّا يقصده، كما أن الرغبة في التأكيد، أو الإختصار، أو التعبير عن الشعور الداخلي، أو إظهار أهمية الشيء وعظمته قد تستدعي من المتكلّم إشفاع خطابه بحركات، وإشارات، وعلامات تظهر على الوجه لتبليغ ما يريد إبلاغه للسامع. ومعرفة حال المخاطِب عند صدور الخطاب ضرورية لحسن إدراك مقصود المتكلّم من كلامه، وقد وردت إشارات كثيرة إلى ذلك في السنة النبوية، حيث اعتنى الرواة بنقلها إدراكًا منهم لأهميتها في فهم الخطاب. أما بالنسبة للقرآن الكريم فإن هذا العنصر غير متوفِّر لتنزُّه الذات الإلهية عن ذلك، ولعدم صدور الوحي في شكل خطاب مباشر بين الله تعالى وعباده. ومما روي في السنّة المطهرة من بيان حال النبي - صلى الله عليه وسلم - أثناء صدور الخطاب ما يأتي: ¬

_ (¬1) انظر محمد الطاهر بن عاشور: تفسير التحرير والتنوير، ج 1، ص 55.

1 - رَوَى البُخَاريّ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: "اعْرِفْ وِكاَءَهَا (¬1) أَوْ قَالَ: وِعَاءَهَا وَعِفَاصَهَا (¬2) ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ اسْتَمْتِعْ بِهَا فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ". قَالَ: فَضَالَّةُ الإِبِلِ فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ أَوْ قَالَ احْمَرَّ وَجْهُهُ (¬3) فَقَالَ: "وَمَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَرْعَى الشَّجَرَ فَذَرْهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا". قَالَ: فَضَالَّةُ الْغَنَمِ قَالَ: "لَكَ أَوْ لأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ". (¬4) فالغضب واحمرار الوجه علامة يفهم منها التشديد في النهي عن التقاط ضالة الإبل ما دام عدم التقاطها لا يعرضها لخطر. 2 - روى البخاري عن عبد الله، قال: قَسَم النبي - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا قِسْمَةً فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَار: إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ الله. قُلْتُ: أَمَا والله لآتِيَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ فِي مَلأ فَسَارَرْتُهُ فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ ثُمَّ قَالَ: "رَحْمَةُ الله عَلَى مُوسَى أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ". (¬5) فالغضب واحمرار الوجه علامة على عِظَم حرمة التشكيك في عدل النبي - صلى الله عليه وسلم - والطعن في حكمه، وتأذيه - صلى الله عليه وسلم - من ذلك، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يغضب لنفسه، فإذا غضب فإنما ذلك لإنتهاك حرمات الله تعالى. 3 - أخرج الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ نَتَنَازَعُ فِي الْقَدَرِ فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْنَتَيْهِ الرُّمَّانُ فَقَالَ: "أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ أَمْ بِهَذَا أرْسِلْتُ إِلَيْكُمْ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حِينَ تَنَازَعُوا فِي هَذَا الأَمْرِ عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ أَلاَ تَتَنَازَعُوا فِيهِ". (¬6) ¬

_ (¬1) الوكاء: ما يشدّ به رأس القربة. انظر الرازي، محمد بن أبي بكر: مختار الصحاح، (بيروت: مكتبة لبنان، 1988 م)، مادة "وك ي" ص 330. (¬2) العِفَاص: جلد يلبسه رأس القارورة، وعفاص الراعي وعاؤه الذي تكون فيه النفقة. انظر ابن منظور: لسان العرب، ج 7، ص 55. (¬3) التسويد في هذا الحديث والأحاديث التالية من عندنا لبيان موضع الإستشهاد. (¬4) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب (28)، مج 1، ج 1، ص 38 - 39 الحديث (91). (¬5) المصدر السابق، كتاب الإستئذان، باب (47)، مج 4، ج 7، ص 184 الحديث (6291). (¬6) الترمذي، محمد بن عيسى بن سورة: سنن الترمذي، تحقيق وتصحيح عبد الرحمن محمد عثمان، (بيروت: دار الفكر، 1400 هـ / 1980 م)، أبواب القدر، باب (1)، ج 3، ص 300، الحديث (2133).

4 - روى البخاري عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يا رَسُولَ الله لَا أَكَادُ أُدْرِكُ الصَّلَاةَ مِمَّا يُطَوِّلُ بِنَا فُلَانٌ. فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْ يَوْمِئِذٍ فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ مُنَفِّرُونَ فَمَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمُ الْمَرِيضَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ". (¬1) 5 - روى البخاري أن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ " قُلْنَا: بَلَى يا رَسُولَ الله. قَالَ: "الإِشْرَاكُ بالله وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ" وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ: "أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ"، فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ لَا يَسْكُتُ". (¬2) فتغيير الجلسة تنبيه للسامعين أن ما سيقوله بعد ذلك أمر جلل، وأن خطورته تستدعي الإستواء له جالسا، ويأتي بعد ذلك تكرار ذكر الكبائر علامة أخرى لتأكيد عِظَم حرمتها وتحذير المسلمين من مَغَبَّة الوقوع فيها. وكثيرًا ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - الإكتفاء بالتعبير بالإشارة عوضًا عن الكلام، ومن ذلك: 1 - ما أخرجه البخاري عن كَعْب بْن مَالِكٍ أَنَّهُ تَقَاضى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمَسْجِدِ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي بَيْتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ (¬3) حُجْرَتِهِ وَنَادَى كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: "يا كَعْبُ". قَالَ: لَبَّيْكَ يا رَسُولَ الله. فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ ضَعِ الشَّطْرَ مِنْ دَيْنِكَ. قَالَ كَعْبٌ: قَدْ فَعَلْتُ يا رَسُولَ الله. قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قُمْ فَاقْضِهِ". (¬4) 2 - وما أخرجه البخاري أيضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ عَلَى الجبْهَةِ، وَأَشَارَ بِيَدهِ عَلَى أَنْفِهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ، وَلاَ نَكْفِتَ الثِّيَابَ وَالشَّعَرَ". (¬5) ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب (28)، مج 1، ج 1، ص 38، (الحديث 90). (¬2) المصدر السابق، كتاب الأدب، باب (6)، مج 4، ج 7، ص 93، الحديث (5976). (¬3) السجف: الستر. انظر ابن منظور: لسان العرب، ج 9، ص 144. (¬4) صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب (83)، مج 1، ج 1، ص 151، الحديث (471). (¬5) المصدر السابق، كتاب الأذان، باب (134)، مج 1، ج 1، ص 245، الحديث (812).

3 - ومنها ما أخرجه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَ يَوْمَ الجمُعَةِ فَقَالَ: "فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ الله تَعَالَى شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا". (¬1) 4 - وما أخرجه البخاري عَنْ أَنَس بْن مَالِكٍ - رضي الله عنه - قال: "خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إِلَى خَيْبَرَ أَخْدُمُهُ فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَاجِعًا وَبَدَا لَهُ أُحُدٌ قَالَ: "هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ"، ثُمَّ أَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا (¬2) كَتَحْرِيمِ إِبْرَاهِيمَ مَكَّةَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَمُدِّنَا". (¬3) فلولا ما ذكره الراوي من إشارته - صلى الله عليه وسلم - بيده إلى المدينة لتعذّر علينا معرفة على ماذا يعود ضمير الغائب في لفظ "لابتيها". 5 - ما أخرجه البخاري عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "الإِيمَانُ هَا هُنَا"، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْيَمَنِ "وَالْجَفَاءُ وَغِلَظُ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ (¬4) عِنْدَ أُصُولِ أَذنَابِ الإِبِلِ مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ". (¬5) وقد يكتفي النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإشارة في تفسير لفظ من الألفاظ، ومن ذلك ما رواه البخاري عن أبي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "يُقْبَضُ الْعِلْمُ وَيَظْهَرُ الجهْلُ وَالْفِتَنُ وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ" قِيلَ: يا رَسُولَ الله وَمَا الْهَرْجُ؟ فَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ فَحَرَّفَهَا كَأَنَّه يُرِيدُ الْقَتْلَ". (¬6) ¬

_ (¬1) المصدر السابق، كتاب الجمعة، باب (37)، مج 1، ج 1، ص 280، الحديث (935). (¬2) لابتا المدينة: حرّتان تكتنفانها، والحَرَّة أرض ذات حجارة سود. انظر الرازي: مختار الصحاح، مادة "ح ر ر"، ص 79، ومادة "ل وب"، ص 277. (¬3) صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب (71)، مج 2، ج 3، ص 303 الحديث (2989). (¬4) الفدادون: شديدو الصوت الذين تعلو أصواتهم في حُرُوثهم ومواشيهم. انظر الرازي: مختار الصحاح، مادة "ف د د"، ص 231. (¬5) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب (76)، مج 3، ج 5، ص 144 (الحديث (4387). (¬6) المصدر السابق، كتاب العلم، باب (25)، مج 1، ج 1، ص 36 الحديث (85).

المطلب الثالث المخاطب (السامع)

المطلب الثالث المخاطَب (السامع) فالسامعون يتفاوتون في مقدار الإستفادة من الخطاب الوارد إليهم بحسب تفاوت قدراتهم العقلية، ومدى استجماع المخاطَب لأدوات فهم النص ولوازم ذلك، وممارسته لأساليب اللغة وكلام ذلك المتكلّم؛ إذْ طول الممارسة لكلام متكلَّمٍ ما تكسب صاحبها دُرْبَة بأساليبه في الخطاب ومقاصده فيه. ويشهد لذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "نَضّرَ الله امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَبَلّغَهَا، فَرُبّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْر فَقِيه، ورُبّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهَ مِنْهُ"، (¬1) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لِيبلِّغ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَإِنَّه رُبّ مُبَلغَّ يَبلُغُهُ أَوْعَى لَهُ مِنْ سَامِع". (¬2) ولذلك امتاز الصحابة عن غيرهم في القدرة على فهم النصوص الشرعية، وإدراك مقاصد الشارع منها، كما نجد الصحابة أنفسهم يتفاوتون في ذلك. والناظر في النصوص الشرعية يجد أنها على مستويين: مستوى يتمكن من فهمه كلُّ مَنْ عرف اللغة العربية؛ ففهمه متيسر لعامة الناس، ومستوى يعسر فهمه على عامة الناس، ويحتاج إلى أهل الاختصاص لإدراك مراميه والإحاطة بمعانيه. ومن هنا اشتُرِط في مَنْ يتصدى للاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية -من هذا النوع الثاني من النصوص- شروطٌ في خلاصتها تمثِّل الأدوات اللازمة لحسن فهم النص واستثمار الأحكام الشرعية منه: مِنْ تمكُّنٍ من ناصيّة اللغة العربية، وتمرُّسٍ على التعامل مع النصوص الشرعية بما يُكسب صاحبه دُرْبَة بأساليب الشارع في الخطاب ومقاصده العامة من التشريع، وعلمٍ بقواعد الأحكام وأصولها، واطلاعٍ على اللازم معرفته من أسباب النزول وأسباب ورود الحديث الشريف. فلا يمكن لمن لم يستجمع شروط النظر الصحيح في النصوص الشرعية أن يدعي قدرته على إدراك مقاصد الشارع من تشريعاته وأحكامه. ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجة: سنن ابن ماجة، المقدمة، باب (21)، ج 1، ص 49، الحديث (230). (¬2) رواه ابن ماجة: سنن ابن ماجة، المقدمة، باب (21)، ج 1، ص 50، الحديث (233).

ومع التسليم بأن ما سبق ذكره من فروق في قدرات وإمكانات المتصدين لفهم النص الشرعي -أو غيره من النصوص- تُعدّ من أهم أسباب الإختلاف في فهم النصوص، وأنها أمر طبيعي في الحياة لا يمكن التخلص منه كليّة، إلّا أن القول بأن قراءة النص والمعاني المستخلصة منه تختلف باختلاف الناظر في النص علمًا وثقافة وزمانًا ومكانًا لا يكون صحيحًا على إطلاقه، وذلك من وجهين: الأول أنه ليست كلّ النصوص تختلف فيها الأفهام، فما كان منها واضح المعنى تمام الوضوح فإنه لا يحتمل اختلافا، ومخالفته تُعدّ شذوذًا مردودًا على صاحبه، والثاني أن الإجتهاد في فهم النص يجب أن يكون خاضعًا لقواعد موضوعية لا يصح تجاوزها، وذلك بأن يكون المعنى المستنبط يحتمله الكلام الذي استنبط منه، وأن لا يكون السياق الخاص أو العام للنص (¬1) مخالفًا لما يدَّعيه المستنبط من معنى؛ إذْ إعطاء النص أيّ معنى من المعاني على خلاف السياق الوارد فيه (سواء أكان السياق بمعناه الخاص أم بمعناه العام) يُعدّ ادعاء لا دليل عليه. ¬

_ (¬1) سيأتي في العنصر التالي بيان المراد بالسياق الخاص والسياق العام.

المطلب الرابع سياق الخطاب

المطلب الرابع سياق الخطاب وهو على نوعين: 1 - السياق اللغوي، أي الجمل المكوِّنة والسابقة واللاحقة لنص الخطاب المرادُ تفسيره واستخلاصُ المقصود منه. فالنص القرآني أو الحديث النبوي لا يمكن -عادةً- أخذه مبتورًا عن النصوص الأخرى، سواء النصوص الواردة في السياق اللغوي بمعناه الخاص، أي الجمل السابقة واللاحقة له، أو بمعناه العام، أي النصوص الأخرى التي لها علاقة ما بهذا النص مع ورودها في مواضع وأزمنة مختلفة عما ورد فيه ذلك النص، حيث يكون استحضار تلك النصوص معينًا على فهم هذا النص، إِمَّا لكونها مُبَيِّنَةً له، أو مكمِّلة لمعناه، أو مخصِّصة لعمومه، أو مقيِّدة لإطلاقه. 2 - السياق الإجتماعي، وهو الذي يسمى بالمقام، وتدخل فيه أسباب النزول، وأسباب ورود الحديث، والظروف النفسية والإجتماعية السائدة وقت ورود النص الشرعي. أولاً - القرائن المقالية (السياق اللغوي) وأهميتها في فهم المقصود من الخطاب القرائن المقالية: هي القرائن التي يتضمنها الكلام، أي تؤخذ من مبني الخطاب والعلاقات بين ألفاظه، ويمكن أن تكون قرائن داخلية، أي متضمَّنة في نفس الخطاب، أو تكون خارجية، أي واردة في نص آخر مستقل. والقرائن التي يتضمنها مبني النص نفسه على نوعين: معنوية ولفظية. أ - القرائن المعنوية: وهي العلاقات السياقية بين كلمات الجملة سواء منها

الجملة الإسمية أو الجملة الفعلية، مثل الإسناد، (¬1) والتخصيص، (¬2) والنسبة، (¬3) والتبعية، (¬4) والمخالفة. (¬5) ب - القرائن اللفظية: وهي المتعلقة بحالة اللفظ نفسه، مثل: العلامة الإعرابية، (¬6) والرتبة، (¬7) ¬

_ (¬1) الإسناد هو القرينة التي تميَّز المسند من المسند إليه، وتمييز المسند من المسند إليه يوصلنا إلى تحديد موقع كل كلمة، ومن ثَمّ المقصود منها. وأبرز أمثلة علاقة الإسناد: علاقة المبتدأ بالخبر، والفعل بفاعله، والفعل بنائب فاعله، وغيرها. انظر تمام حسان: اللغة العربية معناها ومبناها، ص 191 - 194. (¬2) التخصيص قرينة سياقية واسعة تشتمل على قيود مضروبة على علاقة الإسناد، حيث يُعبَّر بكل واحدة منها عن جهة خاصة في فهم معنى الحديث الذي يشير إليه الفعل أو الصفة. وأبرز القرائن التي تدخل تحت قرينة التخصيص: التعدية، والغائية، والمعية، والظرفية، والتحديد، والتوكيد، والملابسة، والتفسير، والإخراج. انظر تمام حسان: اللغة العربية معناها ومبناها، ص 194 - 195. (¬3) النسبة: "قيد عام على علاقة الإسناد، أو ما وقع في نطاقها أيضا، وهذا القيد يجعل علاقة الإسناد نسبية"، والفرق بين التخصيص والنسبة أن التخصيص تضييق، أما النسبة فهي إلحاق. والنسبة -مثل التخصيص- قرينة عامة تنضوي تحتها مجموعة كبيرة من القرائن المعنوية، منها: ابتداء الغاية، انتهاء الغاية، البعضية، التعليل، المجاوزة، المصاحبة، الإلصاق، التشبيه، الملك، العندية، الزيادة، وغيرها. انظر تمام حسان: اللغة العربية معناها ومبناها، ص 201 - 203. (¬4) التبعية: "قرينة معنوية عامة يندرج تحتها أربع قرائن هي: النعت، والعطف، والتوكيد، والإبدال". تمام حسان: اللغة العربية معناها ومبناها، ص 201 - 203. (¬5) المخالفة: "هي مظهر من مظاهر تطبيق القيم الخلافية بجعلها قرائن معنوية على الإعرابات المختلفة". ومثال ذلك التفريق بين موقع كلمة "العرب" في الجملتين الآتيتين: نحن العربُ نكرم الضيف ونغيث الملهوف، نحن العربَ نكرم الضيف ونغيث الملهوف، فكلمة "العرب" في الجملة الأولى خبر المبتدأ، وما بعدها جملة استئنافية، أما في الجملة الثانية فهي مختص، وما بعدها خبر. ويرى الدكتور تمام حسان أن نصبها في الكلمة الثانية لا يحتاج إلى تقدير فعل محذوف "أخص، أو أعني"، وإنما نصبها في الجملة الثانية يرجع إلى مراعاة القيمة الخلافية التي هي المقابلة بين المخصوص والخبر الواقع بعد مبتدأ مشابه لما قبل الإسم المنصوب هنا. تمام حسان: اللغة العربية معناها ومبناها، ص 200. (¬6) العلامة الإعرابية إما أن تكون حركة، وهي: الفتحة، والضمة، والكسرة، والسكون، أو حرفًا، وهي: الواو، والياء، والألف، أو حذفًا، أي حذف حرف العلة. وقد تكون ظاهرة، أو مقدرة. وهذه القرينة تعين على تحديد الموقع الإعرابي للكلمة الذي يساعد على تحديد المعنى المراد منها. انظر عباس حسن: النحو الوافي، ج 1، ص 102 - 105. (¬7) الرتبة: هي موقع الكلمة في الجملة بالنسبة إلى ما يتعلق بها من كلمات من حيث التقديم والتأخير، وهي على نوعين: رتبة محفوظة، أي لا تتغير، مثل تقدم الموصول على الصلة، والموصوف على الصفة، وتأخر التوكيد عن المؤكد، والبدل عن المبدل، وصدارة الأدوات في أساليب الشرط والاستفهام، ونحوها، ورتبة غير محفوظة، وهي التي تتغير بحسب الأحوال، مثل رتبة المبتدأ والخبر، فالأصل في المبتدأ التقدم، لكنه قد يتأخر أحيانًا، وكذلك رتبة الفاعل والمفعول به، ورتبة الفعل والمفعول به ... إلخ. انظر تمام حسان: اللغة العربية معناها ومبناها، ص 207.

والصيغة، (¬1) والمطابقة، (¬2) والربط. (¬3) وهذه القرائن كلها بتضامَّها مع القرائن المعنوية تسهم في تحديد معنى المقال للنص. ووظيفة القرائن المقالية (اللفظية والمعنوية) هي تحديد المعنى النحوي للكلمات، فهي المسؤولة عن وضوح المعنى وأمن اللبس الذي قد ينتج عن تعدّد المعنى الوظيفي للكلمات. وتحديد المعنى النحوي ينتج عنه تحديد "معنى المقال"، أي المعنى اللغوي المجرد للنص، ثُمّ يُعرض هذا المعنى اللغوي على المقام الذي ورد فيه الخطاب ليتبيّن بعد ذلك هل هذا المعنى اللغوي (ظاهر النص) هو المقصود، أم أن المقصودَ غيره، حيث تؤدي القرائن الحالية والسياق العام للنص الوظيفة الأساسية في تحديد المقصود منه. فالقرائن المقالية تحدَّد المعنى النحوي (المعنى اللغوي) للكلمات، ولكن هذا المعنى مع تحديده من قِبَل القرائن المقالية قد يبقى فيه احتمالُ أكثرَ من معنى، أو بتعبير آخر يبقى النص صالحًا لأن يُستعمل في أكثر من معنى، فتأتي القرائن الحالية لتعيننا على تحديد المراد منه: هل هو كلّ المعاني التي يصلح لها؟ أم أنه مخصوص بمعنى من المعاني التي يحددها المقام؟ ولذلك يعرِّف ابن قيم الجوزية الفقه بأنه: "فهم مراد المتكلّم من كلامه، وهذا قدر زائد على مجرد فهم وضع اللفظ في اللغة، وبحسب تفاوت مراتب الناس في هذا تتفاوت مراتبهم في الفقه والعلم". (¬4) ¬

_ (¬1) مبني الصيغة هو الذي يحدد نوع الكلمة: هل هي فعل، أم اسم، أم حرف؛ إذ لكل نوع صيغته الخاصة، وهو الذي يحدد لنا كون الفعل -مثلاً- لازمًا أو متعديًّا، وهو الذي يحدد لنا المصدر، واسم الفاعل، واسم المفعول، والظرف، والفعل الذي يدل على المشاركة، ويميز التوكيد اللفظي من المعنوي ... إلخ. وكل هذا يُعِين -مع القرائن الأخرى- في تحديد الموقع الإعرابي للكلمة، ومن ثَمَّ تحديد معناها في الجملة. انظر تمام حسان: اللغة العربية معناها ومبناها، ص 210 - 211. (¬2) مجال المطابقة هو الصيغ والضمائر، مثل التطابق بين الصفة والموصوف، وبين الاسمين والفعلين المضارعين المتعاطفين، وتكون المطابقة في العلامة الإعرابية، والشخص (التكلم، والخطاب، والغيبة)، والعدد، والنوع (التذكير والتأنيث)، والتعيين (التعريف والتنكير). انظر تمام حسان: اللغة العربية معناها ومبناها، ص 211 - 213. (¬3) يُعدّ الربط قرينة لفظية على اتصال أحد المترابطين بالآخر، ويكون بين المبتدأ وخبره، وبين الحال وصاحبه، وبين المنعوت ونعته، وبين الشرط وجوابه ... إلخ. ويتم الربط بالضمير العائد، وبالحرف، وبإعادة اللفظ، وباسم الإشارة، وبدخول أحد المترابطين في عموم الآخر ... إلخ. انظر تمام حسان: اللغة العربية معناها ومبناها، ص 213 - 216. (¬4) ابن قيم الجوزية، محمد بن أبي بكر: إعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق وضبط محمد محيي الدين عبد الحميد، (بيروت: دار الفكر، ط 2، 1397 هـ / 1977 م)، ج 1، ص 219.

ومن أمثلة الخطاب الذي تبيِّن القرائن اللفظية المقصودَ منه قول الله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)} [الأعراف: 163]. فصدر الآية، وهو قوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} يُفهم منه أن السؤال عن القرية ذاتها، ولكن قوله بعد ذلك {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} قرينة لفظية دلّت على أن المراد السؤال عن أهل القرية؛ لأن ضمير الجمع في "يعدون" يصرف المعنى المراد عن القرية إلى أهلها، ولأن القرية لا تكون عادية ولا فاسقة. (¬1) ثانيًا: المقام (السياق الإجتماعي) وأهميته في فهم المقصود من الخطاب: سبق تعريف المقام بأنه حصيلة الظروف الإجتماعية والطبيعية والنفسية السائدة وقت صدور الخطاب، والتي يُتوقعّ أن يكون لها تأثير في صيغة الخطاب وتوجيهه وفهمه. ومقامات الخطاب بما تشتمل عليه من علاقات اجتماعية وعقلية وذوقية وعاطفية وعُرفيّة -سواء بين طرفي الخطاب، أو بينهما واللغة نفسها- يجعلها من العسير على غير أبناء تلك البيئة واللغة الإحاطة بها والتفاعل معها، ولا يمكن الحصول على كلّ ذلك من مجرد قراءة تاريخ هذا المجتمع وأدبه، "ذلك بأن إطار الثقافة الإجتماعية لكلّ أمّة يفرض من تلك العلاقات والارتباطات بالمواقف وبالموضوعات ما لا يفهمه تمامًا إلّا الناشئون في المجتمع ذاته والثقافة ذاتها، ولو أن المتخصص الأجنبي تمكّن من تحصيل فهم الإرتباطات العقليّة أو حتى الاجتماعيّة بالموضوعات والمواقف فكيف يتسنى له مهما حاول أن يفهم الإرتباطات الذوقيّة والعاطفية في المجتمع". (¬2) ¬

_ (¬1) انظر الشافعي: الرسالة، ص 62. (¬2) تمام حسان: اللغة العربية معناها ومبناها، ص 42.

ولا غرابة بعد هذا أن نجد عشرات التفسيرات الخاطئة من قِبَل المستشرقين والكتّاب الغربيين للنصوص الشرعية وأحداث التاريخ الإِسلامي، ففضلاً عَمّا يمكن أن يكون فيها من سوء نية وتحامل، فإن عجزهم عن فهم البيئة التي نزل فيها القرآن الكريم والتي انتشر فيها الإِسلام بعد ذلك، وعجزهم عن فهم الأثر التغييري الهائل الذي يتركه الإِسلام في حياة من اعتنقه بصدق وإخلاص، جعلهم عاجزين عن الفهم الصحيح للنصوص الشرعية والأحداث التاريخية، مع أن بعضهم بلغ من المعرفة باللغة العربية والتاريخ الإِسلامي ما لا يدركه كثير من المسلمين أنفسهم. فالذي نشأ في بيئة يحكُمُها الصراع السياسي، وعلاقات الناس فيها تقوم على تبادل المصالح، لا يستطيع فهم ترشيح عمر بن الخطاب أبا بكر - رضي الله عنهما - للخلافة في سقيفة بني ساعدة، ثم وصية أبي بكر بالخلافة لعمر بعد ذلك إلّا على أنها من باب التحالف السياسي وتبادل المصالح، فهذا رشحه هنا والآخر أوصى له بعد ذلك. ولا يمكن لمثل هذا أن يفهم مرتبة الإيثار التي وصل إليها الصحابة - رضي الله عنهم -، ومدى إخلاصهم لدينهم، وإيثارهم للحق ومصلحة الإِسلام والمسلمين على مصالحهم الشخصية، واعترافهم بالفضل لأهله. وتأتي فائدة القرائن الحالية والمقالية في إزالة الإحتمالات التي تعرض للسامع في مقصود المخاطِب من خطابه، وكلّما كان استحضار القرائن التي حفّت بالكلام أشمل كان فهم مراد المتكلّم من كلامه أدقّ، وبالعكس، ولذلك نجد أن الكلام المشافه به أوضح دلالة على مراد المتحدث من الكلام الذي بلَّغه عنه مبلِّغ، أو نُقِلَ كتابةً بسبب ما يفتقده من قرائن حالية تعين على دفع الإحتمالات التي تتطرق إلى الكلام ولا يقصدها المتكلم. وإهمال القرائن كلّها أو بعضها يؤدي إلى نقص في فهم الخطاب، أو إلى الخطأ الكامل في الفهم، وفي ذلك يقول الشاطبي: "وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيء منه". (¬1) ¬

_ (¬1) الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 258.

هل كلّ كلام يحتاج إلى قرائن حالية؟ ليس من اللازم أن يحتاج كلّ كلام إلى قرائن حالية لفهم معناه، فالكلام المفيد التّام المعنى يمكن أن يُفهم معناه من غير حاجة إلى قرائن حاليّة؛ إذْ ليس كلّ كلام وارد في مقام خاص، بل منه ما يكون على سبيل التوجيه والإرشاد العامين، كما هو الحال فيما نزل من القرآن الكريم من غير سبب خاص، وما ورد في السنّة كذلك. وإنما الذي يكون في حاجة إلى الإطلاع على المقام لتحديد معناه هو ما ورد في مقام خاص. ولا حُجّة فيما اشتهر عن العرب من أن "لكلّ مقام مقال" إذ المراد بهذا تخيُّر الكلام المناسب لكلّ مقام، وعدم إلقاء الكلام على عواهنه دون اعتبار للمقام الذي يقال فيه. وهنا ينبغي الإشارة إلى أن المقام يتنوع إلى نوعين: مقام خاص، ومقام عام. فالمقام الخاص هو القرائن الحاليّة والظروف التي تحفّ بصدور خطابٍ ما، والتي صاحبته وصبغته بصبغتها. أما المقام العام فهو الحالة العامّة، أو الهدف العام الذي اقتضى مجيء الخطاب ككون القرآن الكريم نزل لهداية الناس وإرشادهم إلى طريق الحق. مزيد تفصيل في هذا عند الحديث عن أسباب النزول. ولمّا كانت الشريعة الإِسلامية عامّة زمانًا ومكانًا وأشخاصًا، فإننا نجد أغلب نصوص الشارع تميل إلى التجرّد عن المقام الخاص والإعتماد على المقام العام، وإن كان ولا بُدّ من مقام خاص فغالبًا ما يكون مما يمكن أن يتكرر في مختلف الظروف والأزمان. ومما يدلّ على ميل الشارع إلى التجرد من تأثيرات المقام الخاص اتجاهه في كثير من الأحيان إلى تعميم الخطاب، وإغفال الحالة الخاصة التي استدعت تشريع الحكم. فمثلاً تشريع حكم السرقة يروى أن الآيات التي نزلت به نزلت في حادثة معيّنة (¬1)، ¬

_ (¬1) الآية هي قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]. وروي أنها نزلت في طعمة بن أبيرق، الذي سرق درعًا من جارٍ له -هو قتادة بن النعمان- في جراب دقيق، ثم خبأها عند رجل يهودي، فنزلت الآية في بيان حكمه. انظر الواحدي، علي بن أحمد: أسباب النزول، تخريج وتدقيق عصام بن عبد المحسن الحميدان، (الدمام: دار الإصلاح، ط 1، 1411 هـ/ 1991 م)، ص 195.

ولكنّنا نجد الآيات لا تلتفت إلى خصوص الحادثة، وإنما وردت بصيغة عامة ومطلقة تجنُّبًا لتأثيرات المقام التي قد تؤدي إلى حصر النص في شخص معين، أو تقييده بمقام معين. ونفس الأمر بالنسبة لحكم اللعان. (¬1) كذلك نجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتّجه في كثير من الأحيان هذا الإتجاه، فإذا وقعت واقعة وأراد أن يُصدر فيها حكمًا أو خطابًا توجيهيًّا، لم يركّز على خصوص الحالة التي دعت إلى ذلك، إنما يعمّم الحكم، فيخطب في الناس قائلاً: "ما بال أقوام ... "، "أيها الناس ... "، ومن أمثلة ذلك: 1 - أخرج أبو داود عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: كاَنَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا بَلَغَهُ عَنِ الرَّجُلِ الشَّيْءُ لَمْ يَقُلْ: مَا بَالُ فُلاَنٍ يَقُولُ، وَلَكِنْ يَقُولُ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا". (¬2) 2 - أخرج البخاري عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أنها "أَتَتْهَا بَرِيرَةُ تَسْأَلُهَا فِي كِتَابَتِهَا فَقَالَتْ: إِنْ شِئْتِ أَعْطَيْتُ أَهْلَكِ وَيَكُونُ الْوَلاَءُ لِي. فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ذَكَّرْتُهُ ذَلِكَ. قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ابْتَاعِيهَا فَأَعْتِقِيهَا فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ". ثُمَّ قَامَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ الله مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ الله فَلَيْسَ لَهُ وَإِنِ اشْتَرَطَ مِائَةَ شَرْطٍ". (¬3) 3 - أخرج البخاري عن قَتَادَة أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ في صَلاَتِهِمْ"، فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ: "ليَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ". (¬4) ¬

_ (¬1) وذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ} [النور: 6] نزلت في هلال ابن أمية، وقيل عويمر العجلاني. انظر النيسابوري، مسلم بن الحجاج: صحيح مسلم، تحقيق وتصحيح محمد فؤاد عبد الباقي، (القاهرة: دار الحديث، ط 1، 1412 هـ/ 1991 م)، كتاب اللعان، ج 2، ص 1129 - 1138 الأحاديث (1492 - 1496). (¬2) الألباني, محمد ناصر الدين: صحيح سنن أبي داود، (الرياض: مكتب التربية العربي لدول الخليج، د. ط، د. ت)، كتاب الأدب، باب (6)، ج 3، ص 909. (¬3) صحيح البخاري، كتاب الشروط، باب (17)، مج 2، ج 3، ص 251، الحديث (2735). (¬4) المصدر السابق، كتاب الأذان، باب (92)، مج 1، ج 1، ص 226 (الحديث (750).

4 - أخرج البخاري عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يا رَسُولَ الله لَا أَكَادُ أُدْرِكُ الصَّلَاةَ مِمَّا يُطَوِّلُ بِنَا فُلَانٌ. فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْ يَوْمِئِذٍ فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ مُنَفِّرُونَ فَمَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمُ الْمَرِيضَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الحاجَةِ". (¬1) وقد ورد خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ "أيها الناس" في أكثر من 398 حديثًا في الكتب التسعة فقط. (¬2) أنواع القرائن الحالية من حيث اقترانها بالنص: القرائن الحالية -بحكم كونها شيئًا زائدًا عن الخطاب- لا تكون متضمَّنة في الخطاب، بل تحتاج إلى نقل مستقل، أي إلى التعبير عنها بجمل مستقلة. وهذا النقل إما أن يكون مقارنا لنفس الخطاب، أو أن يكون غير مقارن. 1 - القرائن الحالية المقترنة بالخطاب: وذلك بأن يذكر الراوي ضمن روايته بعض القرائن الحالية التي صاحبت الخطاب، والتي يراها مهمة في تحديد المقصود منه، ومن أمثلة ذلك: أ - ما ورد في تفسير الهرج، فيما رواه البخاري عن أَبي هُرَيْرَة عَنِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "يُقْبَضُ الْعِلْمُ وَيَظْهَرُ الْجَهْلُ وَالْفِتَنُ وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ". قِيلَ: يا رَسُولَ الله وَمَا الْهَرْجُ؟ فَقَالَ: هَكَذَا بِيَدِهِ فَحَرَّفَهَا كَأَنَّه يُرِيدُ الْقَتْلَ". (¬3) فعبارة "فقال هكذا بيده فحرفها كأنه يريد القتل" نقل من الراوي للقرينة الحالية التي صاحبت كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأبانت عن مقصوده بالهرج. ب - ما ورد في حديث النهي عن شهادة الزور فيما رواه البخاري أن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ " قُلْنَا: بَلَى يا رَسُولَ الله. قَالَ: "الإِشْرَاكُ بالله ¬

_ (¬1) صحيح البخاري حديث (90). (¬2) هذا طبقا لعملية استقراء قام بها الباحث على قرص ليزر "الكتب التسعة" بالحاسوب. (¬3) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب (25)، مج 1، ج 1، ص 36، الحديث (85).

وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ". وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ: "أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ" فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ لَا يَسْكُتُ". (¬1) فحال الرسول - صلى الله عليه وسلم - من كونه جلس بعد أن كان متكئًا قرينة حالية نقلها الراوي لما لها من أهمية في فهم عِظَم حرمة شهادة الزور. 2 - القرائن الحالية المنفصلة عن الخطاب: وهي التي يَرِد ذكرها في نصوص أخرى غير مقترنة بالنص محلّ الدراسة، ويكون هذا عادة في أسباب النزول، وأحيانًا في أسباب ورود الحديث. أولاً - أسباب النزول: تعريفه: سبب النزول هو: "ما نزلت الآية أو الآيات متحدثة عنه أو مبيِّنة لحكمه أيام وقوعه. والمعنى أنه حادثة وقعت في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو سؤال وُجَّه إليه، فنزلت الآية أو الآيات من الله تعالى ببيان ما يتصل بتلك الحادثة، أو بجواب هذا السؤال". (¬2) أسباب النزول بين العموم والخصوص: ينبغي الإشارة بداية إلى أن السبب الحقيقي في نزول القرآن الكريم هو إصلاح أوضاع المجتمع البشري اعتقادًا وسلوكا، وهداية الناس إلى أَقْوَمِ السُّبُل لتحقيق الفوز في الدنيا والآخرة. أما الأسباب الخاصة التي تروى لنزول كثير من الآيات فهي في الغالب مجرّد مناسبات اختارتها الحكمة الإلهية لتكون توقيتًا لنزول تلك الآيات حتى يكون ذلك أبلغ في الإصلاح والإفهام، فهي وسائل تربويّة بمثابة وسائل الإيضاح المُعِينَة على الإفهام، أو هي من باب تَخَوُّلِ المناسبات المُعِينة على التأثير في النفوس، وقد أوضح ذلك شاه ولي الله الدهلوي بقوله: "وقد ربط عامة المفسرين كلّ آية من آيات الأحكام وآيات المخاصمة بقصة تروى في سبب نزولها، وظنوا أنها هي ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) الزرقاني، محمد عبد العظيم: مناهل العرفان في علوم القرآن، (د. م: دار الفكر، د. ط، د. ت)، ج 1، ص 106.

سبب النزول. والحقُّ أن نزول القرآن الكريم إنما كان لتهذيب النفوس الإنسانية، وإزالة العقائد الباطلة، والأعمال الفاسدة. "فالسبب الحقيقي -إذاً- في نزول آيات المخاصمة هو وجود العقائد الباطلة في نفوس المخاطَبين. وسبب نزول آيات الأحكم إنما هو شيوع المظالم ووجوب الأعمال الفاسدة فيهم ... أما الأسباب الخاصة والقصص الجزئية التي تَجَشَّم بيانَها المفسرون فليس لها دخل في ذلك إلّا في بعض الآيات التي تشتمل على تعريض بحادث من الحوادث في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أو قبله، بحيث يقع القارئ بعد هذا التعريض في ترقّب وانتظار لما كان وراءه من قصة أو حادث أو سبب، ولا يُزَال تَرَقُّبُه إلّا ببسط القصة وبيان سبب النزول". (¬1) ويقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: " ... ولكني لا أعذر أساطين المفسرين الذين تلقفوا الروايات الضعيفة فأثبتوها في كتبهم ولم ينبهوا على مراتبها قوة وضعفاً، حتى أوهموا كثيرًا من الناس أن القرآن لا تُنَزَّل آياته إلّا لأجل حوادث تدعو إليها، وبئس هذا الوهم فإن القرآن جاء هادياً إلى ما به صلاح الأمة في أصناف الصلاح، فلا يتوقف نزوله على حدوث الحوادث الداعية إلى تشريع الأحكام". (¬2) وليس معنى هذا إنكار أهمية أسباب النزول في فهم معاني القرآن الكريم أو التقليل من شأنها في ذلك، فعامّة المفسرين على أن لأسباب النزول أهمية كبيرة في فهم معاني القرآن الكريم -كما سيأتي بيانه- وإنما ينبغي أن يكون المقصود منه عدم قصر معاني الآيات التي وردت في أسباب خاصة على تلك الخصوصيات إلَّا إذا ثبت بالدليل خصوصها بها، والإنكار إنما يكون على من يذهب هذا المذهب. فمع الإهتداء بتلك الأسباب في فهم معاني الآيات فإن ذلك لا يمنع من إعطائها ما تحتمله من معاني غير تلك الخصوصيات. ¬

_ (¬1) الدهلوي، أحمد بن عبد الرحيم (شاه ولي الله): الفوز الكبير في أصول التفسير، نقله من الأصل الفارسي إلى اللغة العربية سلمان الحسيني الندوي، (بيروت: دار البشائر الإِسلامية، ط 2، 1987 م)، ص 20 - 21. (¬2) محمد الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير، ج 1، ص 46.

وبناءً على السبب العام لنزول القرآن الكريم تقررت قاعدة "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"، (¬1) إذْ الأحكام الشرعيّة إنما شرعت لضبط حياة الناس وهدايتهم إلى أقوم السبل، أما أسباب النزول فهي مناسبات اختارتها العناية الإلهية لتكون مناسبة لتشريع الحُكم لما سبقت الإشارة إليه من حِكَم، ما لم تقم قرينة تدلّ على قصر الحكم الذي وردت به الآية على سبب النزول، فإذا قامت تلك القرينة كان الحكم مقصوراً على سببه بإجماع العلماء. (¬2) مفهوم سبب النزول في عرف الصحابة والتابعين: الناظر في استعمال الصحابة - رضي الله عنهم - لعبارة "نزلت الآية في كذا" يجد أنه غير مقصور على أسباب النزول الخاصة، بل يتعداها إلى إطلاقات أخرى يوضحها ما دكره ابن تيمية في فتاويه (¬3) وأورده شاه ولي الده الدهلوي في كتابه الفوز الكبير في أصول التفسير، من أن استقراء كلام الصحابة والتابعين في مفهوم سبب النزول عند قولهم: "نزلت الآية في كذا" يشير إلى أنهم يطلقون ذلك على عدة معاني أهمها: 1 - "المعنى الحقيقي لسبب النزول، وهو بيان الحادث الذي وقع في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان سببًا لنزول تلك الآية. 3 - "بيان ما تنطبق عليه الآية مما حديث في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بعده، فهو بيان لصورة من الصور التي تصدق عليها الآية. وفي هذه الحال يكون المقصود بقولهم "نزلت في كذا" نزلت في مثل هذا، أو في بيان حكم هذا وأمثاله". (¬4) ¬

_ (¬1) انظر السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر: الإتقان في علوم القرآن، (بيروت: دار إحياء العلوم، ط 2، 1412 هـ/ 1992 م)، ج 1، ص 86 وما بعدها. (¬2) انظر الزرقاني: مناهل العرفان في علوم القرآن، ج ا، ص 126. (¬3) يقول ابن تيمية: "وقولهم نزلت هذه الآية في كذا يراد به تارة أنه سبب النزول، ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية وإن لم يكن السبب، كما تقول: عني بهذه الآية كذا". ابن تيمية، أحمد بن عبد العليم: مجموع فتاوى شيخ الإِسلام أحمد بن تيمية، جمع وترتيب عد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي، (د. م: د. ن، تصوير الطبعة الأولى، 1398 هـ، د. ت)، ج 13، ص 339. (¬4) شاه ولي الله الدهلوي: الفوز الكبير، ص 61 بتصرف.

الحالات التي يلزم فيها معرفة أسباب النزول لفهم المقصود من الخطاب: يرى الإمام شاه ولي الله الدهلوي أن كثيرًا مما يروى من أسباب النزول لا تدعو الحاجة إليه في تفسير القرآن الكريم، وأن اعتبار الإحاطة به شرطًا من شروط التفسير فيه تفويت لحظ النَّفس من كتاب الله تعالى، وحرمان من إدراك روحه وجوهره، وأن ما فعله البعض من محاولة تقصي سبب نزول لأكثر آيات القرآن الكريم يُعدّ من باب الإفراط. (¬1) وإذا أخذنا أسباب النزول بمفهومها العام عند الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - الذي سبق ذكره - فإن النصوص القرآنية التي يتعذّر فهمها بغير الإطلاع على أسباب النزول تنحصر في حالين: 1 - "معرفة القصص التي تتضمن الآيات القرآنية التعريض بها؛ فإن فهم إيماء هذه الآيات وإشارتها لا يتيسر إلَّا بمعرفة تلك القصص"، (¬2) فالآية في مثل هذه الحالة تكون مبهمةً يتوقَّف فهم المراد منها على العلم بسبب النزول، ومثال ذلك قوله الله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)} [المجادلة: 1]، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)} [البقرة: 104]. 3 - سبب النزول الذي يفيد تخصيصاً لعام، أو تقييدًا أطلق، أو بياناً لمجمل، أو يدفع تشابهاً، وأمثال ذلك مما يُصْرَفُ فيه الكلام عن ظاهره المتبادر منه، إذْ إنّ فهم مقاصد الآيات ومراميها لا يتأتى بدون ذلك. (¬3) والخلاصة أن ما كان من الآيات تَامّ المعنى بعموم صيغته مستقلاًّ فَهْمُهُ عَمّا يُورَدُ بشأنها من أسباب النزول، وعن الحادث الذي كان سببًا للنزول فإنه لا يُحتَاج في التعرف على مقصوده إلى استحضار أسباب النزول، وإنما يفتقر إلى استحضار ذلك ما ¬

_ (¬1) انظر المصدر السابق، ص 66 - 67. (¬2) المصدر السابق، ص 62. (¬3) انظر المصدر السابق، ص 62، ومحمد الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير، ج 1، ص 49 - 50.

وقع فيه تعريض بخصوص الحادث ومتعلقاته، إذْ تكون الحاجة إذ ذاك ماسةً إلى معرفة سبب النزول للتمكن من معرفة سياق الحادث وخلفياته، ومن ثَمَّ حُسْن فهم النص وإدراك مقاصده. وهو ما عبَّر عنه شاه ولي الله الدهلوي بالإطلاع على فوائد بعض القيود وأسباب التشديد والتأكيد في بعض المواضع التي تتوقف معرفة حقيقتها على معرفة أسباب النزول". (¬1) بين عموم الرسالة وخصوص سبب النزول: قد يبدو أن هناك شيئاً مَن التعارض بين عموم أحكام الشريعة الإِسلامية، وكون كثير من الآيات نزلت في مناسبات خاصة مما قد يَفهم منه البعضُ قصر تلك الآيات على ما نزلت بسببه من أحداث ووقائع، بل إن مثل هذا الإلتباس قد وقع لبعض الصحابة - رضي الله عنهم - في فهم بعض الآيات كما سيأتي بيانه عند الحديث عن بعض التطبيقات التي تبيِّن مدى أهمية معرفة سبب النزول في فهم النصوص الشرعيّة. وقد تنبه علماء المسلمين إلى هذه القضية منذ القرون الأولى، فبحثوها فيما اشتهر بمسألة "هل العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب؟. وبداية يجب التنبيه إلى أن القرآن من حيث سبب النزول على قسمين: قسم نزل ابتداءً من غير سبب خاص، وإنما اكتفاء بالسبب العام، وقسم نزل بسبب خاص. أما الأول فلا خلاف في عمومه لكل الناس، أما الثاني فهو على أقسام: القسم الأول: أن يكون اللفظ مكافئاً لسبب النزول من حيث العموم والخصوص، بأن يكون كلّ منهما عامّاً أو خاصًّا. ويكون حكمُ اللفظ هنا مساواةُ السبب، فإن كان السبب عامًّا وَاللفظ عامًا كان اللفظ العام متناولاً كلّ أفراد سببه في الحكم، ومثال ذلك آيات سورة الأنفال التي نزلت في غزوة بدر وآيات سورة آل عمران التي نزلت في غزوة أحد. وإذا كان اللفظ خاصًّا وَنازلاً في سبب خاص فإن حكمه مقصور على شَخْصِ سببه الخاص، ومثال ذلك قول الله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا ¬

_ (¬1) شاه ولي الله الدهلوي: الفوز الكبير، ص 64، وانظر أيضاً 107.

الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18)} [الليل: 17 - 18] فقد قيل إنَّها خاصة في أبي بكر الصِّديق على اعتبار"ال" في "الأتقى" للعهد، والمعهود هو الصِّديق - رضي الله عنه -. (¬1) القسم الثاني: أن يكون السبب خاصًّا واللفظ عامًّا، وهذا الذي اختلف فيه العلماء: هل العبرة بخصوص السبب أم بعموم اللفظ؟ نُسِبَ إلى أبي الحسن الأشعري والمزني وأبي ثور والشافعي وبعض أصحابه القول بأن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ، (¬2) أي أن الآيات التي نزلت في أسباب خاصة تثبت أحكامها لمن نزلت فيهم حصرًا ولا تعمّ غيرهم. ولكن لمَّا كان هؤلاء يقرُّون بعموم الشريعة لكلّ النّاس، وحاجة الناس إلى نصوص تحكم تصرفاتهم، فقد قالوا إن ثبوت الأحكام التي نزلت بها تلك الآيات لما يشبه الحالات التي نزلت فيها إنما يكون بدليل آخر وهو إما القياس بشروطه، بأن يقاس بقية الناس على سبب النزول، أو قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة". (¬3) وقد استدل هذا الفريق بأدلة لا داعي لإيرادها في هذا المقام، ومن أراد تفصليها فلينظرها في مواطنها. (¬4) أما جمهور العلماء فقد ذهبوا إلى أنه مادام اللفظ عامّاً فإن الحكم يتناول كلّ أفراد اللفظ، سواء منها أفراد سبب النزول، وغيرها مما يمكن أن ينطبق عليه. (¬5) ¬

_ (¬1) انظر السيوطي: الإتقان في علوم القرآن، ج 1، ص 88. (¬2) انظر الزَّركشي: البحر المحيط، ج 3، ص 40. (¬3) كثيراً ما يورد الأصوليون هذا الدليل وينسبونه للرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه لم يصح وروده حديثاً؛ فقد قال عنه السخاوي: "ليس له أصل". انظر السخاوي، محمد بن عبد الرحمن: المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، تحقيق عبد الله محمد الصِّديق، وعبد الوهاب عبد اللطيف، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1399 هـ / 1979 م)، ص 192. وقد ورد في السُّنّة ما يفيد معناه، ففي سنن الترمذي عن أميمة بنت رُقيقة قالت: "بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نسوة، فقال لنا في ما استطعتن وأطقتن، قلت الله ورسوله أرحم بنا منّا بأنفسنا. فقلت يا رسول الله بايعنا، قال سفيان: تعني صافحنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما قولي لمائة امرأة كقولي لإمرأة واحدة". سنن الترمذي، كتاب السير، باب (36)، ج 3، ص 77. (¬4) انظر الغزالي: المستصفى، ج 2،ص 36 - 38؛ والزرقاني: مناهل العرفان، ج 1، 125 - 126، 130 - 134؛ والرازي: المحصول، ج 3، ص 124 - 126. (¬5) انظر الغزالي: المستصفى، ج 2، ص 36؛ والجويني: البرهان، ج 1، ص 254 - 255.

وأقوى دليل على ما ذهب إليه الجمهور من أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب هو أن الشريعة قد نزلت عامة زماناً ومكاناً وأشخاصاً، (¬1) دلّ على ذلك نصوص كثيرة، منها قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]، وقوله: {إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]، وكونها هي الشريعة الخاتمة يؤكد ذلك. وما دامت الشريعة عامة فلا يعقل حصر نصوصها في أسباب محدودة وأشخاص معدودين، وإنما يكون الأصل عموم أحكامها إلّا ما دلَّ دليل على خصوصيته فإنه يقصر على ما جاء خاصّاً فيه. وإنما أسباب النزول الخاصة -كما سبقت الإشارة- في أغلبها مناسبات اختارتها العناية الإلهية لتكون مناسبة لتنزيل بعض الأحكام ليكون ذلك أبلغ في التأثير والإفهام. وقد استدل الجمهور على مذهبهم بأدلة أبرزها احتجاج الصحابة رضوان الله عليهم بعموم تلك الألفاظ مع ورودها على أسباب خاصة من غير لجوء إلى القياس أو إلى أي دليل خارجي لتعدية الحكم من سبب النزول إلى ما يشبهه. (¬2) والخلاصة أن الفريقين متفقان على أن ما نزل من الأحكام بصيغة العموم فهو على عمومه ولو كان وارداً في سبب خاص، وإنما الخلاف في طريقة تعديّة الحكم: هل هو بعموم اللفظ مباشرة دون حاجة إلى دليل خارجي، أم بواسطة دليل آخر؟ وفي ذلك يقول ابن تيمية: "والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب: هل يختص بسببه أم لا؟ فلم يقل أحد من علماء المسلمين: إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعيَّن، وإنما غاية ما يقال: إنَّها تختص بنوع ذلك الشخص، فيعمّ ما يشبهه ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ. والآية التي لها سبب معيَّن إن كانت أمراً أو نهياً فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته". (¬3) ¬

_ (¬1) وفي ذلك يقول الشاطبي: "الشريعة بحسب المكلفين كلية عامة؛ بمعنى أنه لا يختص بالخطاب بحكم من أحكامها الطلبية بعض دون بعض، ولا يحاشى من الدخول تحت أحكامها مكلف ألبتة". الموافقات، مج 1، ج 2، ص 186. (¬2) انظر الزرقاني: مناهل العرفان، ج 1، ص 129؛ الجويني: البرهان، ج 1، ص 255. (¬3) ابن تيمية: مجموع الفتاوى، ج 13، ص 339.

نماذج تطبيقية

نماذج تطبيقية من أمثلة النصوص التي تحتاج إلى معرفة أسباب النزول لإدراك المقصود منها ما يأتي: 1 - فهم النصوص التي وردت في التدرج في التّشريع، مثل الآيات الواردة في تحريم الخمر والربا. إذ الناظر فيها من غير معرفة بأسباب نزولها يجد فيها شيئاً من التضارب؛ فمنها ما ينص على الحرمة قطعاً، ومنها ما يقتصر على مجرد التنفير مما يفهم منه مجرد الكراهة. وإدراك أسباب النزول يبين كيفية ترتيبها، وأن الحكم هو ما ورد في آخرها نزولاً، وإنما وقع فيها ما وقع تيسيراً على النّاس في التدرج بهم للتخلص من أَسْرِ تلك المحرمات التي تجذّرت فيهم ويصعب التخلي عنها دفعة واحدة. 2 - قال الله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)} [الأنعام: 145]. فعبارة "لا أجد ... إلَّا" تفيد الحصر، أي حصر المحرمات فيما ذكر، ولكن الناظر في النصوص الشرعيّة الأخرى يرى أن هذه المحرمات تمثل جزءًا فقط من المطعومات المحرمة. ومما يدل دلالة قاطعة على أن الحصر في هذه الآيات غير مقصود ثبوت حرمة الخمر قطعًا بالقرآن والسنة، وهي غير مذكورة في هذه المحصورات. وقد اختلف أهل العلم من زمن الصحابة - رضوان الله عليهم - في هذه الآيات: هل يُؤخذ بما يفيده ظاهرها من حصر المحرمات في هذه الأربعة، ومن ثَمَّ عدم الأخذ بما ورد في السنة من تحريم كلّ ذي ناب من السباع، والحُمُر الأهلية وغيرها، أم لا يؤخذ به؟ وإذا أُخِذ بما ورد في السنة من محرمات هل يكون ذلك ناسخاً للآيات باعتباره زيادة فيها مخالفة لما ورد في الآية من حصر أم لا؟ فمنهم من اعتبر الحصر في الآية حقيقياً فلم يقل بحرمة غيرما ورد فيها مما جاء تحريمه في السنة، ومنهم من أخذ بما ورد في السنة وذهب إلى أن الزيادة عليها لا تُعدُّ فسخاً لها، وفي ذلك نقاش طويل لا حاجة لعرضه هنا. (¬1) ويرى ابن عاشور أن الحصر هنا حقيقي، ولكنه بحسب ¬

_ (¬1) انظر في تفصيل هذا مثلاً: القرطبي؛ الجامع لأحكام القرآن، ج 7، ص 115 - 124؛ الشنقيطي، محمد الأمين: أضواء الآن في إيضاح القرآن بالقرآن، (القاهرة: مكتبة ابن تيمية، 1413 هـ/ 1992 م)، ج 2، ص 220 - 247.

ما كان محرماً يوم نزول هذه الآية، فهي مكيّة، ولم يحرم بمكة غيرها من الحيوان. (¬1) ويبدو أن أفضل توجيه للآية هو ما نقله السبكي (¬2) عن الشافعي أنه قال ما معناه: "إنّ الكفار لمَّا حرَّموا ما أحلَّ الله، وأحلُّوا ما حرَّم الله، وكانوا على المضادَّة والمحادّة جاءت الآية مناقضة لغرضهم. فكأنه قال: لا حلال إلَّا ما حرمتموه، ولا حرام إلَّا ما أحللتموه. نازلاً منزلة من يقول لك: لا تأكل اليوم حلاوة، فتقول: لا آكل اليوم إلَّا حلاوة، والغرض المضادة لا النفي والإثبات على الحقيقة. فكأنه تعالى قال: "لا حرام إلَّا ما أحللتموه من الميتة، والدم، ولحم الخنزيز وما أُهِلَّ لغير الله به" ولم يقصد حِلَّ ما وراءه، إذ القصد إثبات التحريم، لا إثبات الحِلّ". (¬3) فمع هذا التوجيه لا تكون هناك حاجة إلى القول بالنسخ، ولا إلى الخوض في الزيادة على النص هل هي فسخ أم لا؟ وغير ذلك مما ثار من نقاش حول كيفية التوفيق بين الحصر الوارد في الآية والسنة الواردة بتحريم أشياء زائدة على ذلك. وفي ذلك قال إمام الحرمين: " ... ولولا سبق الشافعي إلى ذلك لما كُنَّا نستجيز مخالفة مالك في مصيره إلى حصر المحرمات فيما ذكر الله تعالى في هذه الآيات". (¬4) ¬

_ (¬1) انظر محمد الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير، ج 8، ص 138 - 140. (¬2) هو عبد الوهاب بن علي بن عد الكافي السبكي، تاج الدين، قاضي القضاة في الشام. ولد عام 727 هـ وتوفي بالطاعون عام 771 هـ انظر الزركلي: الأعلام، ج 4، ص 335. (¬3) نقلاً عن الزرقاني: مناهل العرفان في علوم القرآن، ج 1، ص 112. وقد نقل الجويني في البرهان كلاماً قريباً من هذا. انظر البرهان، ج 1، ص 253 - 254. ولم يجد الباحث نص هذا الكلام عند الشافعي في كتابيه: الأم، والرسالة، وما وجده هو قوله: "وسمعت بعض أهل العلم يقولون في قول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145]، الآية: يعني مما كنتم تأكلون". الشافعي، محمد بن إدريس: الأم، خرج أحاديثه وعلق عليه محمود مطرجي، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1413 هـ / 1993 م)، ح 2، ص 389. وأورد في موضع آخر أنه قيل إنَّها نزلت فيما حرمه المشركون على أنفسهم من مطعومات كالبحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، وغيرها، كأنه يقول لهم لا أجد فيما أوحي إلى محرماً من بهيمة الأنعام - مما أحللتم وحرمتم بزعمكم- إلَّا هذه، أمَّا ما عداها مما أحللتم من حرام أو حرمتم من حلال فهو محض افتراء على الله تعالى. انظر الشافعي: الأم، ج 2، ص 383 - 384. (¬4) الجويني: البرهان، ج 1، ص 254.

3 - قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)} [البقرة: 158]. فقد يفهم من ظاهر الآية مجرد جواز السعي بين الصفا والمروة لا وجوبه؛ إذْ إنّ عبارة "لا جناح" تفيد مجرد رفع الإثم؛ أي الجواز. وقد أشكل على عروة بن الزبير - رضي الله عنه - الجمع بين هذه الآية وكون السعي من أركان الحج، ولم يَزُلْ إشكاله هذا حتى بيَّنت له عائشة - رضي الله عنها - سبب نزول الآية. ففي صحيح البخاري أنه سألها: "أَرَأَيتِ قَولَ الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] فَوَالله مَا عَلَى أَحَدٍ جُنَاح أَنْ لَا يَطوفَ بِالصّفَا والمَرْوَة. قَالَتْ: بِئْسَمَا قُلْتَ يا ابْن أُخْتِي، إِنّ هَذِه لَوْ كانتْ كَمَا أوَّلْتها عَلَيهِ كانَت "لَا جُنَاح عليه أن لَا يَتَطوّفَ بِهِما"، ولَكِنّها أُنْزِلت في الأَنْصَار، كانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّون (¬1) لِمَنَاة الطّاغية التي كاَنُوا يَعْبُدُونَها عِنْدَ المُشَلَّلِ (¬2) فَكانَ مَنْ أَهَلَّ يَتَحَرّجُ أَنْ يَطوفَ بِالصّفَا والمرْوَة. فَلَمّا أَسْلَمُوا سَأَلُوا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عَن ذَلِكَ، قَالُوا: يا رَسُولَ الله إنا كنَّا نَتَحَرّجُ أَنْ نَطُوفَ بين الصَّفَا والمرْوَة، فَأنْزَل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} الآية. قالت عائشة: وقَدْ سَنَّ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (أيْ شَرَعَ) الطّوَافَ بَيْنَهمَا، فَلَيْسَ لأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا". (¬3) وعن عاصم بن سليمان قال: "سألت أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن الصفا والمروة فقال: كُنَّا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما كان الإِسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ} [البقرة: 158] ". (¬4) فسبب نزول الآية بصيغة نفي الجناح هو ما وَقَرَ في أذهان الأنصار يومئذٍ من أن السعي بين الصفا والمروة من عمل الجاهلية؛ نظرًا إلى أن الصفا كان عليه صنم يقال له "إِسَاف"، وكان على المروة صنم يقال له "نَائِلَة"، وكان المشركون إذا سَعَوْا بينهما تمسحوا ¬

_ (¬1) يهلون: يحجون. (¬2) المُشلَّل اسم مكان بين مكة والمدينة. (¬3) صحيح البخاري، كتاب الحج، باب (79)، مج 1 ج 2، ص 508 - 509، الحديث (1643). (¬4) المصدر السابق، كتاب التفسير، تفسير سورة البقرة، باب (21)، مج 3، ج 5، ص 182، الحديث (4496).

بهما. فلما ظهر الإِسلام وكسر الأصنام، تحرّج المسلمون أن يطوفوا بينهما لذلك، فترلت الآية تخبرهم بأن السعي بينهما من شعائر الإِسلام ولا يخرجه عن ذلك كونه جزءًا من شعائر الحج في الجاهلية، ومن ثَمَّ فإنّ الإتيان به ليس فيه أي جناح. (¬1) 4 - قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)} [النساء: 3]. فظاهر الآية لا يفهم منه معنى للربط بين الشرط والجزاء، فكيف يكون خوف عدم الإقساط في اليتامى دافعاً إلى نكاح ما طاب من النساء مثنى وثلاث ورباع؟ ولكن معرفة سبب النزول يبيِّن هذه العلاقة، ويزيل هذا الغموض. فقد روى البخاري عن عائشة - رضي الله عنها -: "أنّ رجلاً كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عذق (¬2) وكان يمسكها عليه ولم يكن لها من نفسه شيء فنزلت فيه {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} أحسبه قال: كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله". وعن عروة بن الزبير -أيضاً- أنه سأل عائشة - رضي الله عنها - عن قول الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} فقالت: "يا ابْنَ أخْتِي هَذِه اليتِيمَةُ تَكونُ في حِجْر وَلِيِّهَا تشْرَكُه في مَاِلهِ، ويُعْجِبُه مَالُهَا وجَمَالُهَا فَيُرِيدُ وَلِيُّهَا أَنْ يَتَزوَّجَها بِغَيْر أَنْ يُقْسِطَ في صَدَاقِهَا فَيُعْطيهَا مِثْل مَا يُعْطِيهَا غَيْرُه، فَنُهُوا عَنْ أَنْ يَنْكِحُوهُنّ إلَّا أنْ يُقْسِطُوا لَهُنّ ويَبْلُغُوا لَهُنّ أَعَلى سُنَّتهِنّ في الصّدَاقِ، فَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنْ النِّسَاءِ سِوَاهُنّ. قَالَ عُروة: قَالَت عَائِشَة: وإن النّاسَ اسْتَفْتَوا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ هَذِه الآيةِ فَأنْزَل الله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} [النساء: 127]. قالت عائشة: وقَوْل الله تعالى في آيةٍ أُخْرى {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127] رَغْبَةَ أَحَدِكم عَنْ يَتِيمَتِه حِينَ تَكونُ قَلِيلَة المَالِ والجَمَالِ، قَالَت: فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوا عَمَّنْ رَغِبُوا فِي مَالِه وجَمَالِه فِي يَتَامىَ النِّسَاءِ إلّا بِالقِسْطِ مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهم عَنْهُنّ إذَا كانَّ قَلِيلات المالِ والجَمَالِ" (¬3). ¬

_ (¬1) الزرقاني: مناهل العرفان، ج 1، ص 110 - 111. (¬2) العذق (بفتح العين) النخلة، وبالكسر العرجون بما فيه من الشماريخ. انظر ابن منظور: لسان العرب، ج 10، ص 238 - 239. (¬3) صحيح البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة النساء، باب (1)، مج 3، ج 5، ص 212، الحديث (4574).

ويكمل هذا ما رواه البخاري عن عروة بن الزبير عن عائشة - رضي الله عنها - في قوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} إلى قوله: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} قالت عائشة: "هُوَ الرّجُلُ تَكونُ عِنْدَه اليَتِيمَةُ هُوَ وَلِيُّها ووَارِثُهَا فَأَشْرَكَتْه فَي مَالِهِ حَتّى فِي العَذْق فَيَرْغَب أَن يَنْكِحَها ويَكرَهُ أَنْ يُزَوِّجَها رَجُلاً فَيَشْرَكَهُ في مَالِه بِمَا شَرِكَتْهُ فَيَعْضُلَها فَنَزلتْ هَذِه الآية". (¬1) 5 - قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)} [البقرة: 189]. فظاهر الآية لا يفهم منه الربط بين البِرّ وعدم إتيان البيوت من ظهورها، فإذا عُرِف سبب النزول اتضح المعنى، وذلك ما رواه مسلم عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: "كانت الأنصار إذا حجوا فرجعوا لم يدخلوا البيوت إلّا من ظهورها. قال: فجاء رجل من الأنصار فدخل من بابه، فقيل له ذلك، فترلت هذه الآية: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} ". (¬2) 6 - قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)} [المائدة: 93]. فظاهر الآية قد يفهم منه أن من آمن وعمل صالحاً واتقى وكان من المحسنين ليس عليه جناح فيما طعم ولو كان محرماً، ولكن إذا عُلِم سبب النزول تبيّن خطأ ذلك. فني صحيح البخاري عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة فنزل تحريم الخمر، فأمر منادياً فنادى، فقال أبو طلحة: أخرج فانظر ما هذا الصوت، قال: فخرجت فقلت: هذا منادٍ ينادي أَلاَ إنّ الخمر قد حرمت، فقال لي: اذهب فأهرقها، قال: فجرت في سكك المدينة. قال: وكانت خمرهم يومئذٍ الفضيخ، ¬

_ (¬1) المصدر السابق، كتاب التفسير، تفسير سورة النساء، باب (23)، مج 3، ج 5، ص 222، الحديث (4600). والنص الكامل للآية هو: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127]. (¬2) صحيح مسلم، كتاب التفسير، ج 4، ص 2319، الحديث (3026).

فقال بعض القوم: قُتِلَ قوم وهي في بطونهم، قال: فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] ". (¬1) وما روى الترمذي عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: "مات ناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يشربون الخمر، فلما نزلت تحريمها قال ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ قال: فنزلت {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية". (¬2) فسبب النزول هنا مخصص لما يفهم من عموم الآية في رفع الجناح عمن اتصف بصفات الإيمان والتقوى والإحسان فيما طَعِم ولو كان محرَّماً، وقَصْرُ ذلك على من مات قبل استقرار تحريمها. 7 - قول الله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 33]. فربط عدم الإكراه بشرط إرادة التحصن قد يفهم منه بالمخالفة جواز إكراههن إذا انعدمت إرادة التحصن. ومثلُ هذه الآية لا يتجلى معناها تماماً إلّا إذا عُرِف سبب نزولها، وهو ما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - "أن جارية لعبد الله بن أبي بن سلول يقال لها مُسَيْكَة، وأخرى يقال لها أميمة، فكان يكرههما على الزنى، فشكتا ذلك إلى النبي - رضي الله عنه - فأنزل {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} ". (¬3) وبناءً على ذلك اتفق المفسرون على أن قيد {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} لا يراد بالشرط فيه "عدم النهي عن الإكراه على الغاء إذا انتفت إرادتهن التحصن، بل كان الشرط خرج مخرج الغالب" وذلك إما "لأن إرادة التحصن هي غالب أحوال الإماء البغايا المؤمنات إِذْ كنَّ يحببن التعفف، أو لأن القصة التي كانت سبب نزول الآية كانت معها إرادة ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة المائدة، باب (11)، مج 3، ج 5، ص 229. (¬2) سنن الترمذي، أبواب تفسير القرآن، تفسير سورة المائدة، ج 4، ص 321. (¬3) صحيح مسلم، كتاب التفسير، تفسير سورة النور، باب (3)، ج 4، ص 2320، الحديث (3029) (26).

التحصن"، وأن "الداعي إلى ذكر القيد تشنيع حالة البغاء في الإِسلام بأنه عن إكراه وعن منع من التحصن". (¬1) ويرى الشيخ محمد الطاهر بن عاشور أن الآية جاءت توطئة لتحريم البغاء وإبطاله من باب ما ورد في التمهيد لتحريم الخمر من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]. (¬2) والذي يميل إليه الباحث أن الآية لم تأت لتحريم البغاء نفسه، وإنما هي في تحريم إكراه الإماء عليه، ودليل ذلك ما يأتي: 1 - أن البغاء نوع من أنواع الزنى، وأنه حُرِّم بما حُرِّم به الزنى من أوائل سورة النور، والآيات المحرمة للزنى سابقة في النزول على هذه الآية. 3 - فائدة ذكر التحصن -الذي هو هنا بمعنى التعفف عن الزنى أو البغاء- أن الإكراه لا يتحقق إلّا مع عدم الرغبة والرضا، فلو كانت الأَمَةُ راضية بالبغاء أو راغبة فيه لما اعْتُبِر طلبُ سيدها منها البغاءَ إكراها. ومع أن النهي عن الإكراه يمكن أن يتم من غير ذكر "إن أردن تحصنا" فإن ذكر هذه الحال -كما يقول ابن عاشور- لزيادة التبشيع. (¬3) 3 - وفي قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 33] دليل على أن الزنى- ومنه البغاء- قد سبق تحريمه، إذ المغفرة بعد الإكراه إنما تكون إذا كان الفعل المكْرَه عليه محرماً، فلو كانت الآية توطئة لتحريم البغاء لما كان لذكر المغفرة هنا محل. وإنما خصت الآية الإماء بالنهي عن إكراههن على البغاء لما قد ينشأ عن الملك من شبهة، إذْ قد يظن المالك أن ملكه للأمة قد يبيح له التصرف فيها باستئجارها للبغاء بغرض التكسب، وأنها إن امتنعت حق له إكراهها على ذلك بما له من سلطة ¬

_ (¬1) محمد الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير، ج 18، ص 226. (¬2) انظر المصدر السابق، التحرير والتنوير، ج 18، ص 226. (¬3) المصدر السابق، التحرير والتنوير، ج 18، ص 227.

عليها وحرية التصرف فيها. وبناءً على هذا التوجيه للآية تفسير معرفة سبب النزول غير لازمة لصرفة المقصود من الآية، والله أعلم بمراده. ثانيًا - أسباب ورود الحديث: تُعَدّ معرفة أسباب ورود الحديث عاملاً مهماً في فهم المعنى المقصود من الحديث. والأحاديث النبوية من حيث أسباب الورود على نوعين: أحاديث قيلت لسبب خاص، وأخرى ليس لها سبب خاص، وإنما جاءت خدمة للسبب العام الذي جاءت الرسالة من أجله، وهو إصلاح حال البشرية وهدايتها إلى أقوم السُّبُل. والأحاديث التي وردت في سبب خاص تحتاج إلى معرفة سبب الورود لفهمها وتحديد المقصود منها من حيث المعنى، ومن حيث الأفراد الذين تنطبق عليهم: هل هي خاصة بمن صدرت فيهم؟ أم تَعُمّهم هُم وغيرهم ممن يصلحون للدخول تحتها، وذلك بحسب ما يحفّ بالحديث من قرائن. أما الأحاديث التي جاءت من غير سبب خاص فإنها تكون عامّة لجميع الأمة، ولا تكون في حاجة إلى معرفة سبب الورود لفهم المقصود منها، ولكنها مع ذلك قد تحتاج إلى معرفة نوع آخر من أسباب الورود، وهو المقام الذي صدرت فيه؛ أي بأي وصف صدرت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل بوصف 5 مبلِّغاً، أم بوصفه إمامًا مدبِّراً لشؤون الأمة، أم بوصفه بشراً عادياً يجتهد في أمور الدنيا كما يجتهد غيره؟ وقد يكون الجهل بسبب ورود الحديث مورثاً للغلط في تحديد معناه، لذلك نجد الرواة يهتمون -عادةً- بنقل سبب ورود الحديث، خاصة إذا رأوا فيه أهمية لصرفة المقصود منه. وقد يغيبا أحياناً سبب ورود الحديث -الذي يكون مخصصاً لعموم الحديث، أو مقيدًا لإطلاقه، أو صارفاً للأمر فيه عن الوجوب إلى الندب أو غير ذلك- عن البعض فيؤدي ذلك إلى التحيّر في فهم الحديث أو إلى سوء فهمه، وربما يطلع بعض العلماء على السبب ويخفى ذلك على البعض الآخر فيؤدي إلى الإختلاف بينهم.

روى البيهقي عن علي بن أحمد البردعي قال: "دخل إسحاق ابن راهوية وأحمد ابن حنبل ويحيى بن معين مكة، وأرادوا عبد الرزاق فدخلوا مسجد الحرام، فرأوا رجلاً شاباً على كرسي وحوله الناس وهو يقوله: يا أهل الشام، ويا أهل العراق، سلوني عن سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا لرجل: من هذا الجالس؟ فقال: المطّلبي الشافعي. قال إسحاق: فقلت لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله مُرَّ بنا إليه نجعل طريقنا عليه. قال: فلما قمنا عليه قلنا: يا أبا عبد الله سله عن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أمكنوا الطير في أوكارها". فقال: وما تصنع بهذا؟ هذا مفسَّر: دعوا الطير في ظلمة الليل في أوكارها. فقال إسحاق: والله لأسألنه: يا مطّلبي، ما تفسير قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أمكنوا الطير في أوكارها"؟ (¬1) قال: نعم يا فارسي، هذا أحمد ابن حنبل بلغني أنه يفتي بالعراق في هذا الحديث: دعوا الطير في ظلمة الليل في أوكارها ... ". (¬2) ثم قال الشافعي: "كان أهل الجاهلية إذا أرادوا سفرًا عمدوا إلى الطير فسرحوها، فإن أخذت يمينًا خرجوا في ذلك الفأل، وإن أخذت يساراً، أو رجعت إلى خلفها تطيروا ورجعوا، فلما أن بعث الله النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم مكة فنادى في الناس: "أمكنوا الطير في أوكارها، وبكروا على اسم الله". (¬3) وروي عن وكيع بن الجراح أنه سئل عن هذا الحديث فقال: "إنما هو عندنا على صيد الليل"؛ أي على تحريم الصيد بالليل، فذُكِر له قوله الشافعي فاستحسنه، وقال: "ما ظنناه إلّا على صيد الليل". (¬4) ومن أمثلة الأحاديث التي تحتاج إلى معرفة سبب الورود لفهم معناها فهماً صحيحًا، حديث النهي عن سبِّ الدهر. فقد أخرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬

_ (¬1) أخرج البيهقي عن أم كرز الكعبية أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أقروا الطير على مكاناتها" وروي "على مكناتها". البيهقي، أحمد بن الحسين: السنن الكبرى، (د. م: دار الفكر، د. ط، د. ت)، كتاب الضحايا، باب أقرو الطير على مكاناتها، ج 9، ص 311). والمكنات بمعنى الأمكنة، والمكنة من التمكن. (¬2) البيهقي: مناقب الشافعي، ج 1، ص 307 - 308. (¬3) البيهقي: المصدر السابق، ج 1،ص 307 - 308، وانظر أيضاً البيهقي: السنن الكبرى، ج 9، ص 311. (¬4) البيهقي: مناقب الشافعي، ج 1، ص 309.

"لَا تَسُبُّوا الدّهْزَ فَإِنّ الله هُوَ الدَّهْرُ". (¬1) فذهب البعض -بناءً على ظاهر الحديث- إلى القول بأن "الدهر" اسم من أسماء الله تعالى، ولكن الإطلاع على سبب ورود الحديث ينفي ذلك. روى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَالَ الله عَزّ وَجَلّ يُؤْذِينِي ابنُ آدمَ. يَقُولُ: يا خَيْبَة الدَّهْرِ, فَلَا يَقُولَنّ أَحَدُكم يا خَيْبَةَ الدَّهْرِ فَإِنّي أَنَا الدَّهْرُ أُقَلِّبُ ليلَهُ ونَهَارَهُ، فَإَذَا شِئْتُ قَبَضْتُهُمَا". (¬2) وفي بيان ذلك يقول الإمام الشافعي: "إنما تأويله- والله أعلم- أن العرب كان من شأنها أن تذمّ الدهر وتسبّه عند المصائب انتي تنزل بهم: من موت، أو هدم، أو تلف مال، أو غير ذلك، وتسبّ الليل والنهار -وهما الجديدان والفَتَيَان- ويقولون: أصابتهم قوارع الدهز وأبادهم الدهز وأقى عليهم، فيجعلون الليل والنهار اللذين يفعلان ذلك؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا تَسبُّوا الدَّهْرَ" على أنه الذي يفعل بكم هذه الأشياء، فإنكم إذا سببتم فاعل هذه الأشياء فإنَّما تسبون الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فإن الله تعالى فاعل هذه الأشياء". (¬3) ومن ذلك الأحاديث التي وردت في بيان أفضل الأعمال وأحبها إلى الله تعالى، فقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - في مناسبات مختلفة عن أفضل العمل، وأحبه إلى الله تعالى، فكان جوابه مختلفاً، فمرة ذكر أن أفضل الأعمال هو الإيمان بالله تعالى وبرسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومرة جعله الصلاة لوقتها، ومرة الصوم، ومرة أدوم الأعمال، ومرة المداومة على تلاوة القرآن الكريم، ومرة الحب في الله والبغض في الله، ومرة التلبية والنحر في الحج، ولا يمكن تفسير ذلك إلّا بأن هذه الأفضلية ليست على إطلاقها؛ إذْ الأفضل على الإطلاق لا يمكن أن يتعدد، وإنما أفضلية بالنسبة إلى السائل أو إلى الحال التي يخصها السؤال، فيتحصل أن سبب الإختلاف. في تحديد أفضل الأعمال وأحبها إلى الله تعالى هو اختلاف المقام الذي صدرت فيه، فكان الجواب بحسب حال السائل، ¬

_ (¬1) صحيح مسلم، كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب (1)، ج 4، ص 1763. (¬2) المصدر السابق، كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب (1)، ج 4، ص 1762. (¬3) البيهقي: مناقب الشافعي، ج 1، ص 336 - 337؛ وانظر ابن عاشور، محمد الطاهر: أصول النظام الإجتماعي في الإِسلام، (تونس: الشركة التونسية، 1979 م)، ص 38.

وبحسب واجب الوقت في حقه. فمن الأحاديث التي جعلت أفضل العمل الإيمان بالله تعالى: ما أخرجه البخاري عن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: "إِيمَانٌ بالله وَرَسُولِهِ". قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَال: "الجهَادُ فِي سَبِيلِ الله". قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: "حَجٌّ مَبْرُورٌ". (¬1) وما أخرجه أحمد أنّ رَجُلاً قَالَ: "يا رَسُولَ الله أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "إِيمَان بالله وَتَصْدِيقً وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِ الله وَحَجٌّ مَبْرُورٌ". قَالَ الرَّجُلُ: أَكثَرت يا رَسُول الله. فَقَال رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَلِينُ الْكَلَامِ وَبَذْلُ الطَّعَامِ وَسَمَاحٌ وَحُسْنُ خُلُقٍ". قال الرَّجُلُ: أُرِيدُ كَلِمَةً وَاحِدَةً. قَالَ لَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اذْهَبْ فَلَا تَتَّهِمِ الله عَلَى نَفْسِكَ". (¬2) ومن الأحاديث التي جعلت أفضل العمل الصلاة على وقتها، ما رواه البخاري عَنْ عَبْد الله بْن مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قال: "سَأَلْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قُلْتُ: يا رَسُولَ الله أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "الصَّلَاةُ عَلَى مِيقَاتِهَا". قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: "ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ". قُلْتُ: ثُمَّ أَيًّ؟ قَالَ: "الجهَادُ فِي سَبِيلِ الله" فَسَكَتُّ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي". (¬3) ومن الأحاديث التي جعلت الصوم أفضل الأعمال، ما أخرجه النسائي عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا عِدْلَ لَهُ". (¬4) ومن الأحاديث التي جعلت المداومة على تلاوة القرآن الكريم أفضل الأعمال، ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب (18)، مج 1، ج 1، ص 14. (¬2) ابن حنبل، أحمد: مسند الإمام أحمد، شرحه ووضع فهارسه أحمد محمد شاكر، (القاهرة: دار الحديث، ط 1، 1416 هـ/ 1995 م)، مسند الشاميين، حديث رقم (17741)، ج 13، ص 508. (¬3) صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب (1)، مج 2، ج 3، ص 271. (¬4) رواه النسائي: سنن النسائي، ترتيب وإعداد عبد الفتاح أبو غدة، (بيروت: دار البشائر الإِسلامية، ط 3، 1409 هـ / 1988 م)، كتاب الصيام، باب ذكر الإختلاف على محمد بن أبي يعقوب في حديث أبي أمامة في فضل الصائم، ج 4، ص 165.

ما أخرجه الدارمي عن زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "الحالُّ الْمُرْتَحِلُ". قِيلَ: وَمَا الحالُّ الْمُرْتَحِلُ؟ قَالَ: "صَاحِبُ الْقُرْآنِ يَضْرِبُ مِنْ أَوَّلِ الْقُرْآنِ إِلَى آخِرِهِ وَمِنْ آخِرِهِ إِلَى أَوَّلِهِ كُلَّمَا حَلَّ ارْتَحَلَ". (¬1) ومن الأحاديث التي جعلت أحب العمل إلى الله تعالى أدومه، ما أخرجه مسلم عن عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى الله؟ قَالَ: "أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ". (¬2) ومن الأحاديث التي جعلت الحب في الله والبغض في الله أحب الأعمال إلى الله تعالى، ما أخرجه أحمد عَنْ أَبي ذَرٍّ قَالَ: خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "أَتَدْرُونَ أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى الله -عَزَّ وَجَلَّ-؟ " قَالَ قَائِلً: الصَّلَاةُ وَالزَّكاةُ، وَقَالَ قَائِلٌ: الجهَادُ. قَالَ: "إِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى الله -عَزَّ وَجَلَّ- الحبُّ فِي الله وَالْبُغْضُ فِي الله". (¬3) ومن الأحاديث التي جعلت التلبية والنحر في الحج أفضل الأعمال، ما أخرجه ابن ماجه عَنْ أَبِي بَكرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ: أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "الْعَجُّ (¬4) وَالثَّجُّ (¬5) ". (¬6) المقامات التي تصدر فيها تصرفات الرسول - صلى الله عليه وسلم -: من أنواع المقام الذي لا يمكن الإستغناء عنه لفهم المقصود من خطاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - المقام الذي يصدر فيه خطابه - صلى الله عليه وسلم -: هل هو مقام تشريع، أم مقام إمامة، أم مقام قضاء، أم مقام نصح وإرشاد، أم غيرها؟ إذ معرفة ذلك يمكِّننا من التعرف على المقصود من الحديث: هل هو الإلزام إيجاباً أو تحريماً، أم مجرد الترغيب في الفعل أو ¬

_ (¬1) الدارمي، أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن: سنن الدارمي، تحقيق السيد عبد الله هاشم يماني المدني، (باكستان/ فيصل آباد: حديث أكاديمي للنشر والتوزيع، 1404 هـ / 1984 م)، كتاب فضائل القرآن، باب (32)، ج 2، ص 337. (¬2) صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب (30)، ج 1، ص 541، الحديث (783) (218). (¬3) مسند الإمام أحمد، مسند الأنصار، حديث رقم (21200)، ج 15، ص 483. (¬4) العجّ: رفع الصوت بالتلبية. ابن منظور: لسان العرب، ج 2، ص 318. (¬5) الثجّ: سيلان دم الهدي والأضاحي. ابن منظور: لسان العرب، ج 2، ص 221. (¬6) سنن ابن ماجه، أبواب المناسك، باب (16)، ج 2، ص 160 - 161، الحديث (2924).

الترك، أم الإباحة؟ وفيما يأتي أهم المقامات التي يصدر فيها تصرَّف الرسول - صلى الله عليه وسلم -: 1 - مقام التشريع: والمقصود بالتشريع هنا معناه الخاص، وهو ما كان الأخذ به لازمًا، سواء من باب الإيجاب أو التحريم، أمّا ما لم يكن الأخذ به لازمًا فلا يدخل في هذا مع أنه قد يدخل في باب التشريع بمعناه العام، إذ المندوب والمباح داخلان في باب التشريع بمعناه العام. والأصل في أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وتقريراته التشريع إلّا ما دلّ دليل غلى خلافه، وذلك لكونه - صلى الله عليه وسلم - رسولاً مبلغاً ومشرعاً، (¬1) فمهمته الأساسية التي اختير من أجلها رسولاً هي التشريع (سواء كان التشريع تبليغاً عن الله تعالى أو إنشاءً لأحكام جديدة). ويشمل مقام التشريع مقامي: الفتوى، والقضاء، فكلاهما يُعدّ تشريعاً، إلَّا أنّ ما كان صادراً في مقام القضاء لا يحق لأحد أخذه إلّا بحكم القاضي. (¬2) وما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحداً وتصرفات في هذا المقام يكون الأخذ به لازماً، واتباعه محتّماً. وقد يختلف العلماء في مقام صدور بعض الأحكام هل صدرت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بوصفه مفتياً أم بوصفه قاضثاً، فيختلفون تبعًا لذلك في كيفيّة العمل بهذا الحكم. ومثال ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لهند بنت عتبة لما اشتكت إليه قِلّة النفقة من أَبِي سفيان - رضي الله عنه -، حيث قَالَتْ: "يا رَسُولَ الله إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكفِينِي وَوَلَدِي إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ. فَقَالَ: "خُذِي مَا يَكفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ". (¬3) فاختلف الفقهاء في هذا: هل هو تصرف بطريق الفتوى فيجوز بناءً على ذلك لكل من ظفر بحقه أو بجنسه أن يأخذه من جاحده بغير إذنه ولا حكم من. القاضي؟ أم ¬

_ (¬1) انظر القرافي: الفروق، ضبطه وصححه خليل المنصور، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1. 1418 هـ /1998 م)، ج 1، ص 357. (¬2) انظر القرافي: الفروق، ج 1، ص 358. (¬3) صحيح البخاري، كتاب النفقات، باب (9)، مج 3، ج 6، ص 534.

أنه تصرف بالقضاء فلا يجوز لأحد أن يأخذ حقه أو جنسه إذا ظفر به عند غريمه إلَّا بحكم من القاضي؟ (¬1) ومن قرائن كون تصرَّف النبي - صلى الله عليه وسلم - قصد به التشريع: الإهتمام بإبلاغه إلى العامة، والحرص على العمل به، وإيراد الحكم في صورة قضية كليّة. (¬2) 2 - مقام الإمامة: وهو تصرَّف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بوصفه إمامًا وقائداً بما يقتضيه صلاح الدولة من تنظيم وتدبير، سواء في وقت السِّلم أو الحرب، وهو الذي يدخل ضمن مجال السياسة الشرعيّة. ومثال ذلك تصرَّف النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعث الجيوش، وصرف أموال بيت المال في جهاتها، وتولية الولاة، وغيرها. (¬3) ولم يُعدّ هذا من باب التشريع -بمعناه الخاص- لأنه لا يلزم الحاكم الأخذ به، وإنما يتخير منه ما يكون مناسباً لظروف الدولة، وله أن يعدل عنه إلى غيره إذا كان أكثر تحقيقاً لمصلحة الإِسلام والمسلمين. هذا بالنسبة للإِمام، أما بالنسبة للرعية فإن الفرق بينه وبين التشريع أنه لا يصح لأحد أن يُقْدم على ما قضى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوصفه إمامًا إلّا بإذن إمام الزمان. (¬4) وتتضح لنا أهمية التفريق بين مقامي التصرف بالتشريع والتصرف بالإمامة من خلال حادثة الحباب بن المنذر - رضي الله عنه - مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بدر الكبرى حين اختار - صلى الله عليه وسلم - موقعاً للمسلمين لخوض المعركة، ورأى الحباب أن ذلك الموقع غير مناسب فسأل الرسول - صلى الله عليه وسلم -: هل هذا الفعل من باب التشريع؟ فلا يسع معه إلَّا الإمتثال، أم أنه من باب التصرف بالإمامة؟ فيمكن العدول عنه إلى ما هو أنسب. أخرج الحاكم في المستدرك عن الحباب بن المنذر الأنصاري قال: "أشرت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر بخصلتين فقبلهما مني؛ خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزاة بدر فعسكر خلف الماء فقلت: يا رسول الله أَبِوَحْيٍ فعلتَ، أو بِرَأْيٍ؟ قال: بِرَأْيٍ يا حُبَابُ. قلت: فَإنّ الرَّأْيَ ¬

_ (¬1) انظر القرافي: الفروق، ج 1، ص 359 - 360. (¬2) انظر محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 154. (¬3) انظر القرافي: الفروق، ج 1، ص 358. (¬4) انظر القرافي: الفروق، ج 1، ص 358.

أنْ تَجْعلَ الماءَ خَلْفَكَ فإن لجَأْتَ لجأْتَ إليه. فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنِّي". (¬1) وقد يختلف الفقهاء في تكييف حكم من أحكام النبي - صلى الله عليه وسلم - هل هو تصرَّف بالفتوى أم بالإمامة، ومثال ذلك حديث إحياء الموات، فيما أخرجه أبو داود عَنْ سَعِيدِ ابْنِ زَيْدٍ عَنِ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهي لَهُ وَلَيْسَ لِعرقٍ ظَالم حَقًّ". (¬2) فمن رأى أنه تصرَّف بالفتوى أجاز لكل أحد أن يحيى أرضًا مواتاً من غير حاجة إلى إذن الإمام بناءً على أن تجويز الرسول - صلى الله عليه وسلم - لذلك تشريع عام، وهو قول مالك والشافعي، ومن رأى أنه تصرَّف بالإمامة منع ذلك إلَّا بإذن من الإمام، وهو قول أبي حنيفة. (¬3) 3 - مقام الهدي والإرشاد: وهو الحال الذي يكون فيه قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو فعله غير مقصود به الإلزام، وإنما هو إما من باب الإجتهاد في أمر دنيوي، أو من باب الشفاعة، أو النصيحة. ومثال الإجتهاد في تدبير الأمور الدنيوية نهيه - صلى الله عليه وسلم - للصحابة عن تأبير الخيل. أخرج مسلم عن راع بن خديج قال: "قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وهم يأبرون النخل. يقولون يلقحون النخل. فقال: "ما تصنعون؟ ". قالوإ: كنّا نصنعه. قال: "لَعَلّكم لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كانَ خَيْراً". فتركوه فنفضت (¬4) أو فنقصت. قال: فذكروا ذلك له، فقال: " إِنَّمَا أنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكم بِشَيءٍ مِن دِينكم فَخُذُوا بِه، وإِذَا أَمَرْتُكم بِشَيء مِن رَأْي فَإِنَّمَا أنَا بَشَرٌ". (¬5) ومثال الشفاعة التي أخذ بها المشفوع لديه قصة كعب بن مالك حين طالب عبد الله بن أبي حدرد بمال كان له عليه، وكان عاجزاً عن أداء الدين كاملاً، فتخاصما ¬

_ (¬1) الحاكم، أبو عبد الله محمد: المستدرك على الصحيحين في الحديث، (بيروت: دار الفكر، 1398 هـ / 1978 م)، ج 3، ص 427. (¬2) الألباني: صحيح سنن أبي داود، كتاب الخراج والإمارة والفيء، ج 2، ص 594. (¬3) انظر القرافي: الفروق، ج 1، ص 3359؛ وانظر وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية الكويتية: الموسوعة الفقهية، ج 2، ص 241 - 242. (¬4) نفضت: أي أسقطت ثمرها. (¬5) صحيح مسلم، فضائل الصحابة، باب (38)، ج 4، ص 1835 - 1836، الحديث (2362).

حتى علت أصواتهما في المسجد وسمعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حجرته، فأشار على كعب ابن مالك أن يضع نصف الدين، وكان في ذلك شافعاً لعبد الله بن أَبِي حدرد، ولم بين أمره لكعب بوضِع الشطر من باب التشريع الملزم. أخرج البخاري عن عَبْد الله بْن كَعْبِ بْنِ مَالِكٌ أنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٌ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْوَد دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمَسْجِدِ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي بَيْتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ وَنَادَى كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: "يا كَعْبُ". قَالَ: لَبَّيْكَ يا رسُولَ الله، فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ ضَعِ الشَّطْرَ مِنْ دَيْنِكَ. قَالَ كَعْبٌ: قَدْ فَعَلْتُ يا رَسُولَ الله. قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قُمْ فَاقْضِهِ". (¬1) ومثال الشفاعة التي لم يأخذ بها المشفوع لديه قصة فراق بريرة لزوجها مغيث، وذلك عندما أعتقتها عائشة فخُيِّرَت بين البقاء مع زوجها أو مفارقته، فاختارت مفارقته. وقد شقّ ذلك على زوجها مغيث - وكان شديد الحبّ لها - فاستشفع بالرسول - صلى الله عليه وسلم - فشفع له عندها، لكنها لم تأخذ بشفاعته. وما يبيِّن الفرق بين تصرَّف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتشريع وتصرفه بغير التشريع أنها - رضي الله عنها - استفسرت - قبل رد طلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - هل طلبه - صلى الله عليه وسلم - من باب التشريع الملزم؟ فلا تكون لها الخِيّرة من أمرها، أم أنه غير ذلك؟ فلما أخبرها أنه مجرد شافع أصرَّت على اختيار الفراق. أخرج أبو داود عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مُغِيثًا كانَ عَبْدًا فَقَالَ: يا رَسُولَ الله اشْفَعْ لِي إِلَيْهَا فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا بَرِيرَةُ اتَّقي الله فَإِنَّهُ زَوْجُكِ وَأَبُو وَلَدِكِ". فَقَالَتْ: يا رَسُولَ الله أَتَأمُرُنِي بِذَلِكَ؟ قَالَ: "لا، إِنَّمَا أَنَا شَافعٌ". فَكانَ دُمُوعُهُ قَسِيلُ عَلَى خَدِّهِ فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِلْعَبَّاسِ: "أَلاَ تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ وَبُغْضِهَا إِيَّاهُ! ". (¬2) ومن أمثلة الشفاعة التي لم يأخذ بها المشفوع لديه قصة جابر بن عبد الله لما مات أبوه في غزوة أُحُد وترك ديوناً عليه تعسَّر على جابر أداؤها، فاستشفع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - على غرمائه علَّهم يضعوا عنه شيئًا من ديونهم، لكنهم رفضوا، فتدخلت العناية الإلهية متمثِّلة في بركة النبي - صلى الله عليه وسلم - فأدى كلّ الديون دون أن ينقص ذلك من ثمره شيئاً. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) الألباني: صحيح سنن أبي داود، كتاب الطلاق، باب في المملوكة تعتق وهي تحت حرٌّ أو عبد، ج 2، ص 421.

أخرج البخاري عن الشَّعْبيِّ قال: حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله - رضي الله عنهما - أنَّ أَبَاهُ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا وَتَرَكَ سِتَّ بَنَاتٍ فَلَمَّا حَفَرَ جِزَازُ النَّخْلِ قال أَتَيْتُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ وَالِدِي قَدِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ دَيْنًا كَثِيرًا وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَرَاكَ الْغُرَمَاءُ فَقَال: "اذْهَبْ فَبَيْدِرْ كُلَّ تَمْرٍ عَلَى نَاحِيَةٍ". فَفَعَلْتُ، ثُمَّ دَعَوْتُهُ. فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهِ كَأَنَّهُمْ أُغْرُوا بِي تِلْكَ السَّاعَةَ. فَلَمَّا رَأَى مَا يَصْنَعُونَ أَطَافَ حَوْلَ أَعْظَمِهَا بَيْدَرًا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "ادْعُ لِي أَصْحَابَكَ". فَمَا زَالَ يَكيلُ لَهُمْ حَتَّى أَدَّى الله عَنْ وَالِدِي أَمَانَتَهُ وَأَنَا أَرْضَى أَنْ يُؤَدِّيَ الله أَمَانَةَ وَالِدِي وَلاَ أَرْجِعَ إِلَى أَخَوَاتي بِتَمْرة فَسَلَّمَ الله الْبَيَادِرَ كلَّهَا وَحَتَّى إِنِّي أَنْظُرُ إِلَى الْبَيْدَرِ الَّذِي كاَنَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - كَأَنَّهَا لَمْ تَنْقُصْ تَمْرةً وَاحِدَةً". (¬1) ومن تصرفاته - صلى الله عليه وسلم - التي فهم منها بعض الصحابة- بناءً على اطلاعهم على سبب الورود - أنها لم تكن من باب التشريع وإنما كانت من باب تدبير الأمور الدنيوية، وخفي سبب الورود على بعض الصحابة فظنُّوه سنّة من السنن فالتزموه، ما أخرجه مسلم عَنْ نَافِعٍ "أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كاَنَ يَرَى التَّحْصِيبَ سُنَّةً وَكاَنَ يُصَلِّي الظُّهْرَ يَوْمَ النَّفْرِ بِالحَصْبَةِ. قال نَافِع قَدْ حَصَّبَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - وَالخلَفَاءُ بَعْدَهُ". (¬2) ولكن اطّلاع عائشة - رضي الله عنها - على سبب تصرَّف النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلها تدرك أن نزوله - صلى الله عليه وسلم - بالأبطح لم يكن سنّاً له، وإنما اختاره لتجميع أصحابه لكونه أنسب مكان للخروج. ولذلك قالت عائشة - رضي الله عنها - فيما رواه البخاري: "إِنَّمَا كاَنَ مَنْزلٌ يَنْزِلُهُ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - لِيَكونَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِه. تعني بالأبطح". (¬3) وروى البخاري -أيضاً - عن عطاء، عن ابن عباس، قال: "لَيْسَ التَّحْصِيبُ بِشَيءٍ إِنَّمَا هُوَ مَنزلٌ نَزَلَهُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - ". (¬4) ومن القرائن التي تدل على أن الفعل أو القول لم يُقصد به التشريع عدم حرص ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب (18)، مج 3، ج 5، ص 38. (¬2) صحيح مسلم، كتاب الحج، باب (59)، ج 2، ص 951، الحديث (1310). (¬3) صحيح البخاري، كتاب الحج، باب (148)، مج 1، ج 2، ص 542، الحديث (1765). (¬4) صحيح البخاري، كتاب الحج، باب (148)، مج 1، ج 2، ص 543، الحديث (1766).

النبي - صلى الله عليه وسلم -أو الصحابة على تنفيذه. 4 - مقام التأديب: لَمَّا كان القصد من التأديب -في غالب الأحيان- هو زجر النفوس عن اتباع هواها، وردعها عن شهواتها، وقد تكون تلك الشهوات من القوة بحيث تحتاج النَّفس معها إلى رادع قوي، فإن المؤدِّب قد يبالغ في النهي إلى درجة التهديد والتوبيخ، ليكون ذلك أبلغ في الردع والزجر وعلى عِظَم الذنب المنهي عنه تَعْظُم وسيلةُ الزجر والتأديب. وهذا أسلوب يستعمله المربي والمؤدب والواعظ، ولا يقصد به- عادةً - ظاهره بقدر ما يقصد به الزجر والترهيب. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيد المربين والمؤدبين، ومن ثم فإنه ليس بِدْعاً أن يستعمل هذا الأسلوب التربوي. وليس معنى كونه لا يقصد به ظاهره عادة أنه ليس بحق، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقول إلّا حقاً وصدقاً، وإنما المقصود به أن ظاهره غير مراد بالقصد الأول، وإن قُصِد فبالتَّبَع، أما القصد الأول فهو الزجر والتخويف، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه لا يُعدّ دعوة إلى تطبيق تلك العقوبة، ولا أمراً بالالتزام بها، وأنها لا تحمل على إطلاقها كما سيأتي في الأحاديث الواردة في نفي الإيمان عن مرتكبي بعض الكبائر حال ارتكابها. ومن أمثلة ذلك حديث فقء عين من اطلع على قوم من ثقب باب أو جدار دون إذنهم، فقد أهدر النبي - صلى الله عليه وسلم - عينه لو أن أحدهم خذفها بحصاة أو طعنها بمسلة أو غير ذلك. أخرج البخاري عن أبي هريرة قال: قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلعً عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ لَمْ يَكُن عَلَيْكَ جُنَاح". (¬1) وأخرج البخاري أيضاً عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجَرِ النَّي - صلى الله عليه وسلم - وَمَعَ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ فَقَالَ: "لَوْ أعْلَمُ أنَّكَ تَنْظُرُ لَطعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ إِنَّمَا جُعِلَ الإسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ، (¬2) وفي رواية أخرى أنه قال: "لَوْ ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، كتاب الديات، باب (23)، مج 4، ج 8، ص 365، الحديث (6902). (¬2) صحيح البخاري، كتاب الإستئذان، باب (11)، مج 4، ج 7، ص 168، الحديث (6241).

أَعْلَمُ أَنْ تَنْتَظِرَنِي لَطَعَنْتُ بِهِ في عَيْنِكَ". (¬1) والظاهر -والله أعلم- أن قصد الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن تشريع عقوبة النظر من غير إذْنٍ بأن تكون فقء عين الناظر، بدليل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفقأ عين من اطَّلع عليه، وأن من اطّلع على قوم دون إذنهم بطريق تسَوُّرِ الجدار أو فتح الباب أو غيرهما لا يعاقب بذلك. فالحديث ليس أمراً بفقء عين المطَّلِع، ولا دعوة إلى ذلك، وإنما خرج مخرج التحذير من هذا الفعل المشين وتهويله، ولكن لو أن أحدًا طبّق ذلك فعلًا فإنه لا يكون ملوماً، ولا يلومنّ المطَّلِع إلّا نفسه. ونص الحديث نفسه يحمل من القرائن اللفظية ما يدل على ذلك، فقوله: "ما كان عليك جناج" تفيد أنك لست مطالباً بفعل ذلك ولا مُرَغَّباً فيه، ولكنك إن فعلته دفاعاً عن حرماتك فلا جناح عليك، ومثله قوله: "فلا يلومن إلّا نفسه"، وقوله: "لو أعلم أن تنتظرني". وقد جعل خفاءُ هذا المقام البعضَ يذهب إلى ردّ الأحاديث الواردة في هذا بحجة أنها تخالف الأصول الشرعيّة المرعيّة في القِصاص. (¬2) ومن هذا الباب الأحاديث الواردة في نفي الإيمان عن مرتكبي بعض الكبائز أخرج البخاري عَنْ أَبِي شُرَيح أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "والله لا يُؤْمِنُ والله لا يُؤْمِنُ والله لا يُؤْمِنُ! " قِيلَ: وَمَنْ يا رَسُولَ الله؟ قَالَ: "الَّذِي لا يَأمَنُ جَارُهُ بَوَائقَةُ. (¬3) وأخرج البخاري أيضاً عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنْه قَالَ: قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلا يَشْرَبُ الخمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنً وَلا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنً وَلا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ". (¬4) ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، كتاب الديات، باب (23)، مج 4، ج 8، ص 36، الحديث (6901). (¬2) انظر ابن قيم الجوزية: إعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق محمد محيى الدين عيد الحميد، (بيروت: دار الفكر، ط 2، 1397 هـ / 1977 م)، ج 2، ص 336. (¬3) صحيح البخاري، كتاب الأدب، جاب (29)، مج 4، ج 7، ص 103، الحديث (6016). (¬4) صحيح البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب (30)، مج 2، ج 3، ص 149، الحديث (2475).

وأخرج البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كاَنَ يُؤْمِنُ بالله وَاليَوْمَ الآخِرِ فَلا يُؤْذِ جَارَهُ وَمَنْ كاَنَ يُؤْمِنُ بالله وَالْيَوْمَ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ وَمَنْ كاَنَ يُؤْمِنُ بالله وَالْيَوْمَ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ". (¬1) وأخرج مسلم عَنْ حَنَشٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنّا مَعَ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ فِي غَزْوَةٍ فَطَارَتْ لِي وَلأصْحَابي قِلادَةٌ فِيهَا ذَهَبٌ وَوَرِقٌ وَجَوْهَرٌ فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهَا فَسَأَلْتُ فَضَالةَ بْنَ عُبَيْدٍ فَقَالَ: انْزِعْ ذَهَبَهَا فَاجْعَلْهُ فِي كِفَّةٍ وَاجْعَلْ ذَهَبَكَ فِي كِفَّةٍ ثُمَّ لا تَأْخُذَنَّ إِلَّا مِثْلا بِمِثْلٍ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "مَنْ كاَنَ يُؤْمِنُ بالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلَا يَأْخُذَنَّ إِلَّا مِثْلاً بِمِثْلٍ". (¬2) وأخرج البخاري عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ جَرِيرٍ أَنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعَ: "اسْتَنْصِتِ النَّاسَ فَقَالَ: لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بعضٍ". (¬3) وأخرج البخاري عَنِ الحْسَنِ عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ ذَهَبْتُ لأَنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ فَلَقِيَنِي أَبُو بَكرَةَ فَقَالَ أَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: أَنْصُرُ هَذَا الرَّجُلَ. قَالَ: ارْجِعْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ فَقُلْتُ يا رَسُولَ الله هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ قَالَ إِنَّهُ كاَنَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ". (¬4) فمذهب أهل السنة أن نفي الإيمان عن مرتكبي الكبائر المذكورة في الأحاديث سالفة الذكر ليست على ظاهرها في نفي مطلقْ الإيمان- بدليل أن بعض الصحابة - رضوان الله عليهم - وقع في بعضها ولم تخرجه عن دائرة الإيمان ولا عن دائرة الصحبة - وإنما خرجت مخرج التهديد والتوعد في مقام التأديب والنهي عن الوقوع في هذه الكبائز وقد حملها أهل السنة على نفي كمال الإيمان. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب (85)، مج 4، ج 7، ص 135 - 136، الحديث (6136). (¬2) صحيح مسلم، كتاب المساقاة، باب (17)، ج 3، ص 1214، الحديث (1591) (92). (¬3) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب (44)، مج 1، ج 1، ص 47، الحديث (121). (¬4) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب (23)، مج 1، ج 1، ص 16، الحديث (31).

ومن هذا الباب أيضاً ما يقتضيه مقام التأديب من ترغيب وترهيب بإطلاق الأمر في الترغيب في بعض خصال الخير، وإطلاق النهي عن الإستمتاع ببعض متع الحياة الدُّنيا إلى درجة قد يبدو فيها شيء من المثالية التي يعسر على عامة الناس الإلتزام بها. والحقيقة أن أصول الشريعة جاءت بالتوسط والإعتدال، وما يبدو أحيانا من مبالغة في الترغيب أو الترهيب فإنَّما يكون باعتبار أحوال الناس المختلفة في ميلهم عن سَنَنِ الإعتدال. فمن غلب عليه الإنحلال في الدين جيء له بالتشديد في الترهيب والزجر، ومن غلب عليه الخوف جيء له بالمبالغة في الترجية والترغيب ليعود الكلّ إلى الإعتدال، وفي ذلك يقوله الإمام الشاطبي: "فإذا نظرت في كلية شرعية فتأملها تجدها حاملة على التوسط. فإن رأيت ميلاً جهة طرف من الأطراف، فذلك في مقابلة واقع أو متوقع في الطرف الآخر. فطرف التشديد - وعامة ما يكون في التخويف والترهيب والزجر- يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الإنحلال في الدين. وطرف التخفيف- وعامة ما يكون في الترجية والترغيب والترخيص- يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الحرج في التشديد. فإذا لم يكن هذا ولا ذاك رأيت التوسط لائحاً، ومسلك الإعتدال واضحاً. وهو الأصل الذي يرجع إليه، والمعقل الذي يلجأ إليه". (¬1) كما أن الأوامر والنواهي المطلقة جاءت كذلك لتناسب القدرات المختلفة للناس، فيحملها كلٌّ على حسب قدراته وطاقته، وقد وضح ذلك الشاطبي بقوله: " ... فإن النبي - عليه الصلاة والسلام - نهى عن أشياءَ وأمر بأشياءَ، وأطلق القول فيها إطلاقاً ليحملها المكلَّف في نفسه وفي غيره على التوسط، لا على مقتضى الإطلاق الذي يقتضيه لفظ الأمر والنهي، فجاء الأمر بمكارم الأخلاق وسائر الأمور المطلقة، والنهي عن مساوئ الأخلاق وسائر المناهي المطلقة، وقد تقدم أن المكلَّف جُعِلَ لهْ النظر فيها بحسب ما يقتضيه حاله ومُنَّتُه، ومثل ذلك لا يتأتى مع الحمل على الظاهر مجرداً من الإلتفات إلى المعاني". (¬2) وقد زلّت بسبب خفاء هذا المقام الدقيق بعض الفرق الخارجة عن منهج أهل السنة والجماعة، مثل الخوارج، فأخذوا هذه النصوص على ظاهرها كفروا مرتكب الكبيرة. ¬

_ (¬1) الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 128. (¬2) الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 114.

المبحث الثاني نماذج تطبيقية على أهمية السياق والمقام في تحديد المقصود من الخطاب الشرعي

المبحث الثاني نماذج تطبيقية على أهمية السياق والمقام في تحديد المقصود من الخطاب الشرعي المطلب الأول أهمية القرائن في تحديد المقصود من الأوامر والنواهي لما كانت صيغة الأمر تحتمل معاني كثيرة، منها: الإيجاب (¬1)، والندب (¬2)، والإباحة (¬3)، والتعجيز (¬4)، والإهانة (¬5)، وغيرها، فإن القصد الشرعي منها إنما يتحدّد بحسب القرائن الحالة والمقالية المقترنة بها. - فمثلًا قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه البخاري عن أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ" مَرَّتَيْنِ. قِيلَ: إِنَّكَ تُوَاصِلُ, قَالَ: "إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ فَاكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ". (¬6) فقوله: "اكلفوا" أمر يحتمل الوجوب ومن ثَمّ وجوب تجنب كلّ عمل شاقّ على النَّفس، ويحتمل مجرد الترغيب. والقرائن مما التي حددت أن المقصود منه "الرفق بالمكلّف خوف العنت أو الإنقطاع، لا أنّ المقصود نفس التقليل من العبادة". (¬7) ¬

_ (¬1) مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)} [النور: 56]. (¬2) مثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] حيث ذهب الجمهور إلى أن الأمر فيها للندب، وذهب آخرون إلى أنه للإيجاب. انظر في ذلك ابن العربي، أبو بكر محمد بن عبد الله: أحكام القرآن، تحقيق علي محمد البجاوي، (بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، د. ط، د. ت)، ج 3، ص 1370. (¬3) مثل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51]. (¬4) مثل قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)} [البقرة: 23]. (¬5) مثل قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)} [الدخان: 49]. (¬6) صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب (49)، مج 1، ج 2، ص 606. (¬7) الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 113.

ودلل ذلك ما أخرجه ابن ماجه عن أَبي هُرَيْرة أن رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "اكلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ خَيْرَ الْعَمَلِ أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ". (¬1) فقوله: "فإن خير العمل أدومه وإن قلّ" قرينة تدلّ على أن علّة أمر الناس بأن يكلفوا من العمل ما يطيقون هو مخافة ما يمكن أن يصيبهم من عنت يؤدي بصاحبه إلى الإنقطاع، فمن كانت فيه طاقة على الإكثار من العبادات دون خشية من الإنقطاع جاز له الإكثار من ذلك. وكذلك النهي يَرِدُ لأغراض متعددة منها التحريم (¬2)، والكراهة، (¬3) والإرشاد، (¬4) والدعاء، (¬5) وغيرها، والذي يحدّد المقصود من النهي بعد ذلك هو ما يحفّ به من قرائن. - ومن أمثلة ذلك ما ورد في النهي عن الوصال، حيث روى البخاري عن أَبي هُرَيرةَ - رضي الله عنه - قَالَ: نَهى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْوِصَالِ فِي الصَّوْمَ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: إِنَّكَ تُوَاصِلُ يا رَسُولَ الله. قَالَ: "وَأَيُّكُمْ مِثْلِي إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ". فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنِ الْوِصَالِ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا ثُمَّ رَأَوُا الْهِلاَلَ فَقَالَ: "لَوْ تَأَخَّرَ لَزِدتُكُمْ كالتَّنْكِيلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا". (¬6) فالنهي عن الوصال يحتمل أن يكون للتحريم، ومن ثَمّ يكون الشارع قاصداً إلى التقليل من الصوم، ويحتمل أن يكون مجرّد ترغيبٍ القصدُ منه الرِّفق بالمكلّفين. وقد دلّت القرائن على أن المقصود هو الرفق لا التقليل من الصوم، ومن تلك القرائن وصال النبي - صلى الله عليه وسلم -، ووصاله بالصحابة لما امتنعوا عن ترك الوصال؛ ليبيِّن لهم ما يلحق بهم من مشقَّةٍ جرّاء الوصال ويُظهرَ لهم عمليّاً الحكمة من نهيه. فعدم انتهاء الصحابة عن الوصال ما كان ليقع لولا أنهم علموا من خلال القرائن الحالية التي صاحبت نهي ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، باب (28)، ج 2، ص 436، الحديث (4240). (¬2) مثل قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152]. (¬3) مثل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} [المائدة: 87]. (¬4) مثل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]. (¬5) مثل قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286]. (¬6) صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب (49)، مج 1، ج 2، ص 606، الحديث (1965).

النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك أن النهي إنما كان ترفُّقاً بهم، ولو كان نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محمولاً على حقيقته -وهي التحريم- لما واصل بهم بعد أن نهاهم؛ لأن ذلك يُعدّ تناقضاً، وحاشاه أن يقع منه ذلك. ومن ذلك أيضاً ما روي عن السلف الصالح من وصالهم مع -علمهم بالنهي، وما كان منهم ذلك إلّا لأنهم علموا أن المقصد من النهي إنما كان هو الرفق بهم، فمن وجد في نفسه قدرة فواصل فلا شيء عليه. (¬1) ولذلك ترجم البخاري للأحاديث الواردة في النهي عن الوصال بقوله: "بَاب الْوِصَالِ وَمَنْ قَالَ لَيْسَ فِي اللَّيْلِ صِيَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، وَنَهَى النبي - صلى الله عليه وسلم - عَنْهُ رَحْمَةً لَهُمْ وَإِبْقَاءً عَلَيْهِمْ وَمَا يُكرُه مِنَ التَّعَمُّقِ". (¬2) - ومن أمثلة ذلك النهي الوارد في المزارعة، فقد أخذه البعض -وكل رأسهم رافع بن خديج وسالم بن عبد الله بن عمر- كل ظاهره من كونه للتحريم، وفهم بعض الصحابة -وعلى رأسهم ابن عباس- من القرائن الحالية التي صاحبت النهي أن المقصد من النهي ليس التحريم وإنما هو الترغيب في المواساة بين الصحابة بأن يعود من كان له فضلُ أرضٍ على من لا أرضَ له ليستغلّها ويسدّ بها خلته. (¬3) فهذا الصحابي الذي وقعت له الحادثة فهم من القرائن الحالية التي صاحبتها أن النهي إنما كان ترغيبًا في عدم كرائها لا نهي تحريم، فالقرائن الحالية هي التي جعلته يرجح معنى من معاني النهي على المعاني الأخرى. وكذلك روي عن ابن عباس أن ¬

_ (¬1) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 113 - 114. (¬2) صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب (48)، مج 1، ج 2، ص 60، تعليقاً قبل الحديث (1961). (¬3) وذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن رافع بن خديج أنه قال: "دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "ما تصنعون بمحاقلكم؟ " قلت: نؤاجرها على الربع وعلى الأوسق من التمر والشعير. قال: "لا تفعلوا، ازْرَعُوها، أو أَزرِعُوها، أو أمسكوها". قال رافع: قلت سمعاً وطاعة". صحيح البخاري، كتاب الحرث والمزارعة، باب (18)، مج 2، ج 3، ص 101.الحديث (2339) وانظر ما ورد في المبحث الثاني من الفصل الأول من الباب الأول من هذا المبحث. وهذا توجيه من التوجيهات لأحاديث النَّهي عن المحاقلة (كراء الأرض) تمّ انتقاؤه لمناسبته للموضوع، وهناك توجيهات أخرى منها ما ذهب إليه الإمام مالك من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى عن المحاقلة، والمحاقلة كراء الأرض بالحنطة، وذهب البعض إلى أن النَّهي إنما هو عن كراء الأرض بما ينتجه جزء منها لمَا في ذلك من غرر، أما كراؤها بالذهب والورِق وما في حكمهما فلا مانع منه لإنعدام عنصر المخاطرة. انظر ابن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 166 - 167.

النبي - صلى الله عليه وسلم - بما لم ينه عن كراء الأرض نهي تحريم وإنما قال: " أن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ شيئًا معلوماً"، (¬1) وترجم البخاري للباب بقوله: "باب ما كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يواسي بعضم بعضاً". (¬2) - ومن أمثلة ذلك الأحاديث التي وردت في أنه لا حلف في الإِسلام، ومنها ما رواه مسلم أَنّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَا حِلْفَ فِي الإِسْلاَمَ وَأَيُّمَا حِلْفٍ كانَ فِي الجاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الإِسْلاَمُ إِلَّا شِدَّةً". (¬3) فقوله: "لَا حِلْفَ فِي الإِسْلاَمِ" يُفهم من ظاهره عموم تحريم كلّ أنواع المحالفة في الإِسلام، ولكن لما سئل أنس بن مالك عن حديث النهي هذا، أنكر هذا الفهم واستدلّ على ذلك بما شهده هو بنفسه في داره من عقد الرسول - صلى الله عليه وسلم - حلفاً بين قريش والأنصار وهو حِلْف في الإِسلام، وذلك ما رواه مسلم عن عاصم الأحول قَالَ قيل لأَنَسِ ابْنِ مَالِكٍ: بَلَغَكَ أَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَا حِلْفَ فِي الإِسْلاَمِ"؟ فَقَالَ أنس: قَدْ حَالَفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالأَنْصَارِ فِي دَارِه". (¬4) فهذه قرينة تدل على أن النهي ليس على عمومه، ولذلك قال النووي: "أما المؤاخاة في الإِسلام، والمحالفة على طاعة الله، والتناصر في الدين، والتعاون على البر والتقوى، وإقامة الحق فهذا باقٍ لم يُنسخ، وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأحاديث: "وَأَيُّمَا حِلْف" كانَ فِي الجاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الإِسْلاَمُ إِلَّا شِدَّةً"، وأما قوله: "لَا حِلْفَ فِي الإِسْلاَمِ" فالمراد به حلف التوارث، والحلف على ما منع الشرع منه". (¬5) - ومن ذلك حديث النهي عن خطبة المسلم على خطبة أخيه: روى الإمام مالك عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لَا يَخْطُبْ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ". (¬6) ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، كتاب الحرث والمزارعة، باب (18)، مج 2، ج 3، ص 102، الحديث (2342). (¬2) المصدر السابق، كتاب الحرث والمزارعة، باب (18)، مج 2، ج 3، ص 101. (¬3) صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب (50)، ج 4، ص 1960، الحديث (2530). (¬4) المصدر السابق، كتاب فضائل الصحابة، باب (50)، ج 4، ص 1961، الحديث (2529). (¬5) النووي، أبو شرف يحيى بن زكريا: صحيح مسلم بشرح النووي، (بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط 3، 1404 هـ / 1984 م)، ج 16، ص 82. (¬6) الموطأ، ح 2، ص 61 - 62.

فظاهر الحديث حرمة خطبة المرء على خطبة أخيه مطلقاً من بداية الخطبة إلى أن يدعها، ولكن ورد في حديث آخر ما يخالف هذا، وهو ما رواه مالك عن فاطمة بنت قيس: "أن زوجها طلقها، فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تعتدّ في بيت ابن أم مكتوم، وقال: "إِذَا حَلَلْتِ فَآذنِينِي". قالت: فلمَّا حللت ذكرت له أن معاوية بن أَبِي سفيان، وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمَّا أبُو جَهْم فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَأَمّا مُعَاويّة فَصعْلُوك لَا مَالَ لَهُ، انْكحِيِ أُسَامَة بن زَيْد". قالت: فكرهته، فقال: "انْكحِيِ أُسَامَة"، فنكحته، فجعل الله فيه خيراً، واغتبطت به". (¬1) فدلّ إقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفعله على أن حديث النهي ليس على إطلاقه. أما الإقرار ففي قولها: "فذكرت له أن معاوية بن أَبِي سفيان وأبا جهم خطباني"، فلم يعترض - صلى الله عليه وسلم - على كون أحدهما خطبها على خطبة الآخر بل أقره، وأما الفعل فخطبته إياها لأسامة ابن زيد على خطبة كلّ من معاوية وأَبِي جهم. فدلّ هذا على أن الخطبة المنهي عنها هي التي تكون بعد ركون المرأة لخطبة الأول. كما دلّ على أن الراوي لم يبيِّن المقام الذي قيل فيه حديث النهي، كأن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن رجل خطب امرأة فرضيته وإذنت في نكاحه، ثم خطبها غيره على خطبة الأول. (¬2) فعدم نقل المقام الذي قيل فيه الحديث من قِبَلِ الراوي أدى إلى غموض في دلالة الحديث فاحتيج في بيانه إلى دلالة حديث آخر. ومن فوائد معرفة المقصود بالأمر والنهي أن الأمر والنهي اللذان يُرَادُ بهما الرفق والرحمة يكونان في حكم الرخصة، إنْ وَجَدَ المكلّفُ في نفسه ضعفاً أخذ بظاهرهما وترخص، وإن وجد في نفسه قوة أخذ بالعزيمة ولم يلتفت إلى الرخص. (¬3) ¬

_ (¬1) الموطأ، ج 2، ص 98 - 99. (¬2) انظر الشافعي: الرسالة، ص 308. (¬3) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 117.

المطلب الثاني أهمية القرائن في تحديد المقصود من صيغ العموم

المطلب الثاني أهمية القرائن في تحديد المقصود من صيغ العموم تدلّ صيغ العموم على مدلولاتها من طريقين: أحدهما أصل وضعها على الإطلاق؛ أي المدلول الذي وضعت له أصالة في وضع اللسان، فمثلاً لفظ "الناس" في أصل وضعه يعمّ كلّ من يتّصف بصفة الإنسية، ولفظ "الدابة" يدلّ بأصل وضعه على كل ما يدبّ على الأرض. والثاني باعتبار الإستعمال؛ أي باعتبار ما قَصَدَ إليه المتكلم من معنى، أو بما شاع في عُرف أهل اللغة من استعمال اللفظ فيه، وإن كان مخالفاً لأصل الوضع اللغوي. فإذا ورد لفظ عامّ في الخطاب تردّد بين كونه مقصودًا به أصلُ الوضع اللغوي، وكونه يَحْمِل دلالة خاصّة قَصَدها المتكلّم أو جرى بها العرف اللغوي، ويكون الحكم ق توجيه اللفظ إلى المقصود منه لمقتضى الحال؛ أي ما يحفّ بالخطاب من قرائن. وفي ذلك يقول الإمام الشاطبي: "وبيان ذلك هنا أنّ العرب تطلق ألفاظ العموم بحسب ما قصدت تعميمه، مما يدلّ عليه معنى الكلام خاصة، دون ما تدلّ عليه تلك الألفاظ بحسب الوضع الإفرادي؛ كما أنها أيضاً تطلقها وتقصد بها تعميم ما تدل عليه في أصل الوضع. وكلّ ذلك مما يدل عليه مقتضى الحال، فإن المتكلّم قد يأتي بلفظ عموم مما يشمل بحسب الوضع نفسه وغيره، وهو لا يريد نفسه ولا يريد أنه داخل في مقتضى العموم، وكذلك قد يقصد بالعموم صنفاً مما يصلح اللفظ له في أصل الوضع، دون غيره من الأصناف، كما أنه قد يقصد ذكر البعض في لفظ العموم ومراده من ذكر البعض الجميع ... فالحاصل أن العموم إنما يُعتبر بالاستعمال، ووجوه الإستعمال كثيرة، ولكن ضابطها مقتضيات الأحوال التي هي ملاك البيان". (¬1) وانطلاقاً من الإعتبار الإستعمالي لصيغ العموم ذهب الشاطبي إلى أن ما اعتبره جمهور الأصوليين من تخصيص العام بالمخصصات المنفصلة مثل العقل والحس ¬

_ (¬1) انظر الشاطبي: الموافقات،، مج 2، ج 3، ص 200 - 202.

وغيرهما لا يُعدّ في الحقيقة تخصيصاً لأن ذلك العام هو من العام الذي أريد به الخصوص؛ أي أن الشارع قاصد به معنى خاصّاً لا معناه في أصل الوضع اللغوي، وذكر أن القاعدة في اللغة أنه إذا تعارض الوضعان الإستعمالي والقياسي كان الرجحان للوضع الإستعمالي. (¬1) والعرب قد تخاطب بالعام وتريد به الخاص، ومن أمثلة ذلك لفظ "الناس" فهو في أصل الوضع اللغوي عامّ يستغرق جميع ما يصلح له، فيكون شاملاً لجميع البشر ولكن العرب تطلق لفظ الناس وتعنى به بعض الناس، والذي يحدد المقصود منه هو السياق والقرائن الأخرى. (¬2) ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)} [آل عمران: 173]. فكلمة "الناس" في قوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} ليست على عمومها، بل المقصود بها واحد فقط، هو نعيم ابن مسعود، وقيل غير ذلك، وكلمة "الناس" في قوله: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} ليست على عمومها، وإنما المقصود بها أبو سفيان ومن خرج معه من الكفار لقتال المسلمين في غزوة أحد فقط. (¬3) ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)} [البقرة: 199] فقد قيل إن المراد بالنَّاس هنا إبراهيم - عليه السَّلام -. (¬4) وقد اختلف الأصوليون في العام الذي سيق لغرض هل يعمّ كلّ ما يصلح له؟ أم أنه يخص ما سيق له فقط، ولا يدخل فيه غيره إلّا بدليل آخر؟ ومثال ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) انظر المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 200. وانظر لمزيد التفصيل في رأي الشاطبي لا تخصيص العام ومقارنته بمذهب الجمهور ما كُتِبَ في هذا المبحث عند الحديث عن حل الشاطبي لمشكلة الاستقراء الناقص من فصل الاستقراء عند الإمام الشاطبي. (¬2) انظر الشافعي: الرسالة، ص 61. (¬3) انظر القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج 4، ص 279 - 280. (¬4) انظر المصدر السابق، ج 2، ص 427.

"فِيمَا سَقَتِ السَّمَاُء وَالْعُيُونُ العُشر، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْف العُشر" (¬1) فإنه سيق لبيان المقدار الواجب في إخراج الزكاة لا لبيان الواجب فيه، (¬2) فهل يستدل به على ما سيق له فقط فلا يكون حجة في إيجاب الزكاة في كلّ ما سقت السماء؟ أم أنه يكون عامّاً في كلّ ما يصلح له فيستدل به على وجوب الزكاة في الخَضْراوات، كما ذهب إليه الحنفية؟ (¬3) ومن أمثلة ذلك الإستدلال على تحديد وقت صلاة الظهر، فقد استدل الحنفية بقول أهل الكتاب: "نَحْنُ أكثَرُ عَمَلاً وَأَقَلُّ عَطَاءٌ" في حديث البخاري عَنْ عبد الله ابْنِ عُمَرَ ابْنِ الخَطَّابِ رَضي الله عنهما أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى كَرَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالاً فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ فَعَمِلَتِ الْيَهُودُ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ ثُمَّ عَمِلَتِ النَّصَارَى عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ ثُمَّ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَعْمَلُونَ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغَارِبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ فَغَضِبَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَقَالُوا: نَحْنُ أكثَرُ عَمَلاً وَأَقَل عَطَاءٍ قَالَ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئاً قَالُوا: لَا. فَقَالَ: فَذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ" (¬4) على كون وقت الظهر أطول من وقت العصر. واعترض عليهم الجمهور بأن سياق الحديث لم يكن لبيان أوقات الصلوات، وإنما لبيان فضل هذه الأمة على سائر الأمم سيضعف ما تقتضيه إشارة النص من كون وقت الظهر أطول من وقت العصر، خاصة وأنه قد وردت أحاديث أخرى في سياق بيان أوقات الصلوات تدلّ على خلاف ذلك، فيكون الأخذ بها أولى لأنها سيقت لخصوص ذلك، فهي أقوى. (¬5) ¬

_ (¬1) سنن الترمذي، كتاب الزكاة، باب (14)، ج 2، ص 75، الحديث (639). (¬2) أما بيان المقدار الذي تجب فيه الزكاة من الزروع، فما روى أبو سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس فيما دون خمس ذود (إبل) صدقة، وليس فيما دون خمس أواق صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة". سنن الترمذي، كتاب الزكاة، باب (7)، ج 2، ص 69، الحديث (626). (¬3) انظر الزركشي: البحر المحيط، ج 3، ص 197، والجويني: البرهان، ج 1، ص 354. (¬4) صحيح البخاري، كتاب الإجارة، باب (9)، مج 2، ج 3، ص 70، الحديث (2268). (¬5) انظر ابن رشد، أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد: بداية المجتهد ونهاية المقتصد، (لاهور/ باكستان: فاران اكيدمي، د. ط، د. ت)، ج 1، ص 67.

المطلب الثالث تخصيص الخطاب الشرعي بعادات المخاطبين وأعرافهم

ومنها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)} [التوبة: 34]، فإنه لَمّا سِيقَ للوعيد على ترك الزكاة، لم يصح الإحتجاج به على وجوب الزكاة في قليل الذَّهب والفضة وكثيرهما. ومن هنا يتبيَّن أن العموم يمكان أن يُخصص بالقرائن والسياق؛ لأنه بالسياق يقع تبيين المجملات، وتعيين المحتملات (¬1). ومن باب تخصيص العام بالسياق اللغوي تخصيصه بالإستثناء، والشرط، والغاية، والصفة" (¬2) المطلب الثالث تخصيص الخطاب الشرعي بعادات المخاطَبين وأعرافهم يُعدّ العرف عنصراً من أبرز عناصر مقام الخطاب لِمَا له من سلطان على اصطلاحات الناس وتصرفاتهم، ونستطيع من خلال التعامل مع مباحثه أن ندرك بوضوح مدى اهتمام علمائنا بمراعاة مقام الخطاب الشرعي في التعرف على مقصود الشارع منه، وستتم دراسة ذلك في مسألتين: أولاً: جريان العادة بالعمل على خلاف عموم النص الشرعي: ويكون ذلك في حالتين: الحالة الأولى: أن تكون العادة جارية بفعل معين، ثم يرد نهي شرعي عنه بلفظ متناول له ولغيره، فهل يكون النهي مقصوراً على ذلك الفعل المتعارف عليه؟ أم يعمّه هو وغيره مما يشمله اللفظ؟ ومثال ذلك لو قال الشارع: حرمت عليكم الطَّعام، وكان عادتهم تناولهم جنسًا من الطَّعام فهل يقتصر بالنهي على ذلك الجنس من الطَّعام، أم يعمّ كلّ أجناس الطَّعام المعتاد لديهم وغير المعتاد؟ ¬

_ (¬1) الزركشي: البحر المحيط، ج 3، ص 380 - 381. (¬2) انظر مثلاً في حكم التخصيص بهذه المخصصات الغزالي: المستصفى، ج 2، ص 65 - 70؛ الرازي: المحصول، ج 3، ص 27 - 69؛ أبو الحسين البصري، محمد بن علي: المعتمد في أصول الفقه، قدم له وضبطه الشيخ خليل الميت، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1403 هـ / 1983 م)، ج 1، ص 239 - 252.

ذهب الجمهور إلى أن عادة المخاطبين (العرف العملي) لا تخصص المقصود من الخطاب الشرعي، واستدلوا على ذلك بأن الحجَّةَ في لفظ الشارع وهو عائمٌّ، وأن ألفاظ الشارع غير مبنيّة على عادة الناس في معاملاتهم، والعادة ليست بحجة حتى تكون معارضة للنص الشرعي، بل إن الشرع إنما جاء مغيِّراً للعادات. ولكن عادة الناس تؤثر في تعريف مرادهم من ألفاظهم فيمكن أن تكون العادة العملية (العرف العملي) مخصصة لخطابهم فيما بينهم. (¬1) الحالة الثانية: أن يكون الشارع قد أوجب شيئاً أو نهي عنه أو أخبر به بلفظ عامّ، ثم رأينا العادة جاريّة بالعمل ببعض ما يشمله ذلك العام دون الباقي، فهل يُعدّ ذلك تخصيصاً للعامّ؟ بحيث يكون المقصود من العام ما عدا ذلك البعض الذي جرت العادة بتركه أو بفعله، أم أن ذلك غير معتبر ويبقى العامّ على عمومه؟ وفي المسألة تفصيل على النحو الآتي: 1 - إذا عُلِم أن العادة إنما جرت بهذا بعد زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنها لا تُعدّ تخصيصاً لعموم ذلك النص؛ لأن الشرع إنما جاء لنقل الناس عن عاداتهم- إلَّا أن يقع على ذلك إجماع فيصير من باب تخصيص النص بالإجماع- (¬2) ولأن العادة التي تمثل عنصراً من الواقع الإجتماعي الذي جاء الشرع لإصلاحه، والتي يكون لها تأثير في موقف الشرع ويمكن أن يُستعان بها في فهم الخطاب باعتبارها جزءًا منه إنما هي التي كانت موجودة زمن التشريع، وما طرأ بعد انقطاع الوحي لا يُعدّ من ذلك. وكذلك إذا كانت العادة جارية في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعَلِم بها فأبطلها، أو ثبت قطعاً أنه لم يعلم بها، وكانت مخالفة لعموم النص فإنها لا يُعْتَدُّ بها في التخصيص. 3 - إذا عُلِم جريان العادة في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع علمه بها وعدم نهيه عنها فإنها ¬

_ (¬1) انظر الغزالي: المستصفى، ج 2، ص 52؛ القرافي، أحمد بن أدريس: شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول من الأصول، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، (القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية، ط 2، 1414 هـ / 1993 م)، ص 212 - 213؛ والزركشي: البحر المحيط، ج 3، ص 391 - 392. (¬2) انظر الزَّركشي: البحر المحيط، ج 3، ص 391، 394 - 396.

يمكن أن تكون مخصِّصاً (¬1)، سواء اعتُبِر ذلك من باب التخصيص بعادة المخاطَبين، أو اعتُبِر المخصص هو إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذْ إقراره - صلى الله عليه وسلم - دليل على أن عادة المخاطَبين لها اعتبار في تفسير نصوص الشارع. ومن أمثلة ذلك ما ذهب إليه الإمام الشافعي من أن المقصود بالطيبات والخبائث في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] هو ما تعارفت العرب على كونه طيباً أو خبيثاً، ومن ثَمّ يحرم كلّ ما كانت تعتبره العرب خبيثاً، ويحلّ كلّ ما كانت تعتبره طيباً إلّا ما استثناه نص من القرآن الكريم أو السنّة النبوية. قال الشافعي في تفسير هذه الآية: "فيقال: يحل لهم الطيبات عندهم، ويحرم عليهم الخبائث عندهم". (¬2) وقال في موضع آخر: "وإنما تكون الطيبات والخبائث عند الآكلين كانوا لها (¬3)، وهم العرب الذين سألوا عن هذا، ونزلت فيهم الأحكام. وكانوا يكرهون من خبيث المآكل ما لا يكرهها غيرهم". (¬4) وقال: "فكلّ ما سئلت عنه، مما ليس فيه نص تحريم ولا تحليل من ذوات الأرواح، فانظر هل كانت العرب تأكله؟ فإن كانت تأكله ولم يكن فيه نص تحريم، فَأَحِلَّه، فإنه داخل في جملة الحلال والطيبات عندهم، لأنهم كانوا يحلون ما يستطيبون. وما لم تكن تأكله، تحريماً له باستقداره فحرِّمه لأنه داخل في معنى الخبائث، خارج من معنى ما أحل لهم مما كانوا يأكلون، وداخل في معنى الخبائث التي ¬

_ (¬1) انظر الزركشي: البحر المحيط، ج 3، ص 391؛ الرازي: المحصول، ج 3، ص 132. (¬2) الشافعي: الأم، ج 2، ص 384. (¬3) هكذا وردت عبارة الشافعي. (¬4) الشافعي: الأم، ج 2، ص 389.

حرموا على أنفسهم، فأثبت عليهم تحريمها". (¬1) ثانياً: العرف اللغوي: وهو أن يتعارف أهل اللسان على حمل لفظ عام على بعض أنواعه، ثم يرد اللفظ في نص شرعي بصيغة العموم، فهل يُعدّ ذلك العرف تخصيصاً حتى لا مجري الأمر أو النهي إلّا في الدلالة العرفية؟ أم أن العبرة بعموم اللفظ فيعمّ كلّ ما يطلق عليه اللفظ بأصل الوضع اللغوي إلّا أن يرد دليل آخر بتخصيصه؟ وذلك مثل لفظ الدابة يدلّ بأصل الوضع اللغوي على كلّ ما يدبّ على الأرض، ويحمل عادة على ذوات الأربع فقط، أو على نوع بعينه من الدواب. (¬2) اختلف الأصوليون في ذلك، فذهب أبو بكر الصَّيْرفيُّ إلى أن العبرة "بعموم اللسان، ولا اعتبار بعموم ذلك الإسم على ما اعتادوه، لأن الخطاب إنما يقع بلسان العرب على حقيقة لغتها ... فالحكم للإسم حتى يأتي دليل على التخصيص". (¬3) وذهب الجمهور إلى أنه يخصصه، (¬4) لكون دلالة العرف مقدَّمة على دلالة اللغة؛ لأن العوائد اللفظية ناقلة للغة ومعارضة لها، فهي ناسخة للغة، والناسخ مُقدَّم على المنسوخ. (¬5) ويرى أبو الحسين البصري أن هذا التخصيص ليس من باب التخصيص بمعناه الشرعي، وإنما هو تخصيص بالنسبة لِلُّغَة. (¬6) ويشترط في العرف اللغوي المخصِّص أنما يكون مستمرّاً وصل حَدَّ النقل بين أهل اللغة. يقول الإمام الشاطبي: "لا بُدّ في فهم الشريعة من أتباع معهود الأميين - ¬

_ (¬1) الشافعي: الأم، ج 2، ص 390. (¬2) انظر الغزالي: المستصفى، ج 2، ص 52. (¬3) الزَّركشي: البحر المحيط، ج 3، ص 393. وهو مذهب الجويني -كما يفهم من كلامه- حيث يقول: "فمجرد العرف لا يقضي تخصيصاً؛ فإن القضايا متلقاة من الألفاظ، وتواضُعُ الناس عبارات لا يغيّر وضع اللغات ومقتضى العبارات. فإن قالوا: الناس مخاطبون على أفهامهم. قلنا: فليفهموا من اللفظ مقتضاه، لا ما تواضعوا عليه". البرهان، ج 1، ص 297. (¬4) انظر الغزالي: المستصفى، ج 2، ص 52؛ والزركشي: البحر المحيط، ج 3، ص 394 - 396. (¬5) انظر القرافي: شرح تنقيح الفصول، ص 212. (¬6) انظر أبو الحسين البصري: المعتمد في أصول الفقه، ج 1، ص 279.

المطلب الرابع تخصيص العام بقول الصحابي

وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم - فإن كان للعرب في لسانهم عرف مستمرّ فلا يصحّ العدول عنه في فهم الشريعة، وإن لم يكن ثَمّ عرف فلا يصح أن يجرى في فهمها على ما لا تعرفه". (¬1) وينبغي التنبيه هنا على أن العرف اللغوي الذي يمكن أن يكون مخصِّصاً هو العرف السابق أو المقارن لزمن التشريع، أما العرف الطارئ بعد ذلك فلا تأثير له في تخصيص أو تغيير دلالة نصوص الشارع. (¬2) المطلب الرابع تخصيص العام بقول الصحابي اختلف العلماء في جواز تخصيص عموم الحديث بقوله الصحابي -سواء كان هو الراوي أو غيره- بين مجيز ومانع. وليس هذا موضع التفصيل في المسألة، وإنما الذي له صلة بموضوع المبحث هو مستند القائلين بجواز التخصيص، حيث احتجوا بأن عدالة الصحابة متَّفقٌ عليها، ومن مقتضى العدالة أن لا يعمد الصحابي إلى مخالفة ظاهر حديث رواه هو أو غيره إلّا لكونه اطلع على قرائن حاليّة أو مقالية فهم منها تخصيص الحديث أو نسخه، أو كون الأمر فيه لغير الإلزام، وخاصة إذا كان هو الراوي؛ إذ الراوي يشاهد من القرائن ما لا يشاهده غيره. ومع تسليم المخالفين بإمكان ذلك إلَّا أنهم أثاروا من الإحتمالات ما يوهن ذلك: كأن يكون الأمر اجتهاداً من الصحابي في الفهم بناءً على دليل لو ظهر لغيره لخالفه فيه، وعدم عصمة الصحابي تجعل خطأه في الفهم محتملاً، خاصة إذا لم يكن فقيهاً، ولأنه لو بَدَا له من القرائن ما يفيد ذلك الفهم لبيّنه دفعًا للشبهة. (¬3) والأَوْلى التأكد من جملة أمور قبل الحكم، وهي: التحقُّق من عدم نسيانه للخبر ¬

_ (¬1) الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 62؛ وانظر الجويني: البرهان، ج 1، ص 134. (¬2) انظر القرافي: شرح تنقيح الفصول، ص 211. (¬3) انظر في تفصيل المسألة الزركشي: البحر المحيط، ج 3، ص 398 - 402؛ والرازي: المحصول، ج 3، ص 126 - 129.

الذي رواه، وعدم مخالفته لخبر آخر لم يروه، أو ظهر أنه لم يحط بمعناه لفوات بعض ملابسات الحادث عنه أو غير ذلك من أسباب عدم الإحاطة بمعناه، (¬1) فإذا تحققنا من عدم وجود واحد من هذه الإحتمالات لم يبق إلّا أنه خالف الحديث لقرينة اطلع عليها تفيد ذلك، وهنا يجب المصير إلى قوله. ومثال ما خالف فيه الصحابي رواية غيره حديث أَبي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلاَ فِي فَرَسِهِ صَدَقَةُ". (¬2) وحديث عليِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَدْ عَفَوْتُ عَنْ صَدَقَةِ الخيْلِ وَالرَّقِيقِ فَهَاتُوا صَدَقَةَ الرِّقَةِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا وَلَيْسَ فِي تسْعِينَ وَمِائَةٍ شيءٌ فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا خمسَةُ دَرَاهِمَ". (¬3) فقد روي عن ابن عباس تخصيص الخيل بما يُغْزى عليه في سبيل الله، وعن عثمان وعمر تخصيصه بالسائمة. (¬4) ومثال ما خالف فيه الصحابي عموم ما رواه هو بنفسه، حديث ابن عباس لما بلغه أن عليّاً - رضي الله عنه - أُتِي بزنادقة فأحرقهم، فقال: "لو كنت أنا لم أحرقهم تنبيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ الله" ولقتلتهم لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ". (¬5) ثم روي عنه أن المرأة إذا ارتدت لا تقتل، وإنما تحبس إلى أن تتوب أو يوافيها الأجل. (¬6) فالحديث عامّ في قتل من بدّل دينه -رجلًا كان أم امرأة- ولكنه خصّه بالرجال دون النساء. ¬

_ (¬1) انظر الزركشي: البحر المحيط، ج 3، ص 401؛ والجويني: البرهان، ج 1، ص 294 - 295. (¬2) سنن النسائي، كتاب الزكاة، باب زكاة الرقيق، ج 5، ص 36. (¬3) سنن الترمذي، كتاب الزكاة، باب (3)، ج 2، ص 65 - 66. (¬4) انظر الزركشي: البحر المحيط، ج 3، ص 398 (¬5) صحيح البخاري، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب (2)، مج 4، ج 8، ص 372. (¬6) انظر البيهقي: السنن الكبرى، باب قتل من ارتد عن الإِسلام إذا ثبت عليه رجلاً كان أو امرأة، ج 8، ص 203.

المطلب الخامس أهمية السياق في تحديد المقصود من النص

المطلب الخامس أهمية السياق في تحديد المقصود من النص قد يكون للكلمة أكثرمن معنى لغوي، ويكون المحدِّد للمعنى المقصود في النص هو السياق. ومثال ذلك قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]. فقد ذهب البعض إلى أن كلمة "خليلاً" هنا من الخَلة وهي الفقر بمعنى أن الله تعالى جعل إبراهيم فقيرًا إليه، واستدلوا على ذلك بقول زهير بن أبي سلمى: وإن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول لا غائبٌ مَالي ولا حَرَمُ (¬1) وما ذهبوا إليه صحيح لغة، فخليل مشتقة من الخَلّة، ولكن للخلة معنى ثان وهو الصحبة، ولما كان السيّاق سيّاق امتنان على إبراهيم - عليه السلام - وإظهار لفضله، لم يكن افتقار إبراهيم إلى الله تعالى مزية، إذْ كلّ العباد فقراء إليه تعالى، وصار هذا المعنى مُستبعَداً لعدم اتفاقه مع السياق، وتعيّن أن المعنى المقصود من باب ما يقال عن موسى إنه كليم الله، وعن عيسى إنه روح الله، وليس من باب الإفتقار. (¬2) ¬

_ (¬1) ديوان زهير بن أبي سلمى، ص 91. ومعنى لا حرم: أي غير ممنوع مالي عنك. (¬2) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 294.

الفصل الرابع استخلاص المقاصد من خلال معرفة علل الأحكام الشرعية

الفصل الرابع استخلاص المقاصد من خلال معرفة علل الأحكام الشرعية تمهيد جعل الإمام الشاطبي الجهة الثانية من الجهات التي تُعرف بها مقاصد الشارع اعتبار علل الأحكام، (¬1) حيث إنه إذا ثبت أن الشارع قد شرع حكمًا لعلة من العلل وربطه بها وجودًا وعدماً فإنه يفهم من ذلك أنه قاصد إلى اعتبار ذلك الحكم في كل- واقعة توفرت فيها تلك العلة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه يمكن أن تُتّخَذَ الطرقُ التي تعرف بها العلة (مسالك العلة) مسالك للتعرف على المقاصد الشرعية. ولكن عند النظر في تلك المسالك يتبيّن أنها لا تصلح جميعها لأن تكون مسالك للكشف عن مقاصد الشريعة، والبعض منها يصلح أن يكون كاشفًا عن المقاصد الشرعية لكن بطريقة في الإستدلال تختلف عن تلك المسلوكة في الكشف عن العلة. ومردّ ذلك إلى ما بين العلل والمقاصد من أوجه التشابه والإختلاف، فحيث تتشابه العلة مع المقصد؛ أي حينما تكون العلة هي نفسها الحِكْمة المقصودة من تشريع الحُكم تستوي المسالك، وحيث تكون العلة مجرّد وصف ظاهر منضبط ضابط لحِكْمة أو مظنّة لها فإن المسالك تختلف، أو على الأقل تختلف طريقة الإستدلال ببعض المسالك. وقبل الحديث عن تلك المسالك ومدى إمكانية الإستدلال بها على المقاصد يستحسن الحديث بإيجاز عن فكرة تعليل الأحكام ذاتها وعلاقتها بالكشف عن المقاصد. وبناء على ذلك سيكون هذا الفصل في مبحثين: الأول منهما في تعليل الأحكام الشرعية وعلاقته بالكشف عن مقاصد الشارع، والثاني في مسالك العلة ووظيفتها في الكشف عن مقاصد الشارع. ¬

_ (¬1) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 299.

المبحث الأول تعليل الأحكام الشرعية وعلاقته بالكشف عن مقاصد الشريعة

المبحث الأول تعليل الأحكام الشرعية وعلاقته بالكشف عن مقاصد الشريعة تبيّن من خلال تعريف المقاصد أنها الغايات والحِكم التي وُضِعَت الشريعةُ لتحقيقها لمصلحة العباد في الدنيا والآخرة. كما تبيّن عند الحديث عن العلاقة بين المقاصد والعلل، أن المقاصد قد تكون هي العلل ذاتها، وذلك عند كون العلة مرادفة للحِكمة، وقد تكون غيرها عند كون العلة مجرد وصف ظاهر منضبط نُصِبَ مكان الحِكْمة؛ لكونه عادة ضابطاً لها ومظنة تحقُّقِها. وعلى ذلك يمثِّل التعليلُ -سواء بمعناه العام أو الخاص- أساسَ القولِ بالمقاصد، فلا يمكن القول بوجود مقاصد للشارع الحكيم من شرعه للأحكام الشرعية إلّا مع القول بكون أحكامه معللة. ولذلك نجد الإمام الشاطبي افتتح الجزء المخصص للمقاصد من كتابه الموافقات بالحديث عن مسألة تعليل الأحكام، وإن كان ذلك باختصار مقتضب، إلّا أنه في تقرير صارم بالقطع بجريان التعليل في جميع تفاصيل الشريعة، (¬1) ومقصوده بجريان التعليل في كلّ تفاصيل الشريعة كونُها إنما وُضِعَت لمصالح العباد في العاجل والآجل، وليس بمعنى التعليل القياسي كما سيأتي بيانه. ويهدف هذا الإستعراض الموجز لمسألة تعليل الأحكام الشرعية إلى هدفين: الأول: بيان أن النزاع فيها مسألة كلامية لا رواج لها في الواقع العملي بين الفقهاء والأصوليين باستثناء الظاهرية، وأن تحرير محلّ النزاع فيها يكشف عن أن الكل متَّفقٌ على وجود التعليل الذي هو بمعنى وجود حِكَم ومقاصد للأحكام الشرعية. الثاني: تحرير القول في ما شاع من أن الأصل في العبادات التعبُّد وعدم التعليل، وما ينشأ عن ذلك من إشكال في الجمع بينه وبين القول بأنّ لكل حكم شرعي حِكْمة ومقصد. ¬

_ (¬1) انظر المصدر السابق، مج 1، ج 2، ص 4 - 5.

المطلب الأول التعليل بين القائلين به والرافضين له

المطلب الأول التعليل بين القائلين به والرافضين له اختلف قول المتكلمين في التعليل على ثلاثة مذاهب: (¬1) مذهب المعتزلة الذين قالوا بوجوب تعليل أحداً الله تعالى وأفعاله، والماتريدية الذين قالوا بتعليلها بمصالح العباد، لكن لا على سبيل الوجوب، بل على سبيل التفضل والإحسان، والأشاعرة الذين رفضوا القول بفكرة التعليل كما هو مذهبهم في إنكار التحسين والتقبيح العقليين. ولإعطاء خلاصة عن هذه الموضوع أترك المجال للشيخ محمد الطاهر بن عاشور حيث يقوله في تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]. "وفي هذه الآية فائدتان: الأولى أن لام التعليل دلت على أن خلق ما في الأرض كان لأجل الناس، وفي هذا تعليل للخلق، وبيان لخمرته وفائدته، فتثار عنه مسألة تعليل أفعال الله تعالى وتعلقها بالأغراض. والمسألة مختلف فيها بين المتكلمين اختلافاً يشبه أن يكون لفظيّا، فإن جميع المسلمين اتفقوا على أن أفعال الله تعالى ناشئة عن إرادة واختيار وعلى وفق علمه، (¬2) وأن جميعها مشتمل على حِكَم ومصالح، وأن تلك الحِكَم هي ثمرات لأفعاله تعالى ناشئة عن حصول الفعل فهي لأجل حصولها عند الفعل تثمر غايات، هذا كله لا خلاف فيه. وإنما الخلاف في أنها أتوصف بكونها أغراضاً وعللاً غائية أم لا؟ فأثبت ذلك جماعة استدلالاً بما ورد من نحو قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56]. ومنع من ذلك أصحاب الأشعري فيما عزاه إليهم الفخر في التفسير مستدلين بأن الذي يفعل لغرض يلزم أن يكون مستفيداً من غرضه ذلك ضرورةَ أن وجود ذلك الغرض أولى بالقياس إليه من عدمه، فيكون مستفيداً من تلك الأولوية ويلزم من كون ذلك ¬

_ (¬1) انظر تفصيل ذلك في: الرازي: المحصول، ج 5، ص 172 - 196؛ (¬2) وفي هذا نفي للعلة الغائية عند الفلاسفة التي تقضي بوجوب ترتب المعلول على العلة بغض النظر عن مدى تعلق ذلك بإرادة الخالق سبحانه وتعالى واختياره. انظر الرازي: المحصول، ج 5، ص 179.

الغرض سببًا في فعله أن يكون هو ناقصاً في فاعليته محتاجًا إلى حصول السبب. وقد أُجِيب بأن لزوم الإستفادة والإستكمال إذا كانت المنفعة راجعة إلى الفاعل، وأما إذا كانت راجعة للغير كالإحسان فلا". (¬1) هذه خلاصة لآراء المتكلمين في مسألة تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه، وتحرير لمحل النزاع. فالكلُّ متَّفقٌ على رفض التعليل بالمعنى الفلسفي الذي يؤول إلى سلب الذّات الإلهية صفة الإرادة، والكل متَّفقٌ على أن أفعال الله تعالى -ومنها أحكامه- مشتملة على حِكَم ومقاصد وهو المعنى بالدرجة الأولى في هذا المبحث، وإنما الخلاف في أنها أتوصف بكونها أغراضاً وعللاً أم لا. فأثبت المعتزلة وصفها بذلك، وهو فرع قولهم بالتحسين والتقبيح الذاتيين، ورفض الأشاعرة ذلك مطلقاً، وتوسط الماتريدية فقالوا بأنها معللة، لكن تفضلاً من الله تعالى لا على الوجوب كما هو رأي المعتزلة. وقد في ابن عاشور على الأشاعرة ما ينتج عن موقفهم من تناقض؛ حيث إنهم يسلمون بأن "أفعال الله تعالى لا تخلو عن الثمرة والحِكمة ويمنعون أن تكون تلك الحِكَم عللاً وأغراضاً مع أن ثمرة فعل الفاعل العالم بكل شيء لا تخلو من أن تكون غرضاً؛ لأنها تكون داعيّاً للفعل ضرورةَ تحقق علم الفاعل وإراداته". (¬2) ووصف دليلهم على منع التعليل بأنه "يشتمل على مقدمتين سفسطائيتين: أولاهما قولهم إنه لو كان الفعل لغرض لَلَزِمَ أن يكون الفاعل مستكملاً به، وهذا سفسطة شُبِّه فيها الغرض النافع للفاعل بالغرض بمعنى الداعي إلى الفعل والراجع إلى ما يناسبه من الكمال لا توقف كماله عليه. الثانية قولهم إذا كان الفعل لغرض كان الغرض سببًا يقتضي عجز الفاعل، وهذا شُبِّه فيه السبب الذي هو بمعنى الباعث بالسبب الذي يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العلم، وكلاهما يطلق عليه سبب". (¬3) ¬

_ (¬1) محمد الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير، ج 1، ص 379 - 380. (¬2) المصدر السابق، ج 1، ص 380. (¬3) محمد الطاهر بن عاشور، ج 1، ص 380.

المطلب الثاني تعليل العبادات

كما يتبيَّن مما سبق أن النزاع في مسألة التعليل قضية كلامية في أساسها، جلبها المتكلمون معهم إلى ميدان الأصول. ولذلك نجدها لا تصمد كثيرًا في مجال الفقه وأصوله، حيث نجد الكلَّ يقول بالتعليل -باستثناء الظاهرية- لأنهم جميعاً يقولون بالقياس، والقياس مبناه على التعليل، فالقول بالقياس قولٌ بالتعليل. ويبدو أن القول بتعليل الأحكام الشرعية شائع ومألوف بين الفقهاء إلى درجة أن ادعى فيه البعض الإجماع، ومن ذلك قوله الآمدي: "أئمة الفقه مجمعة أن أحكام الله تعالى لا تخلو من حكمة ومقصود". (¬1) وقول القرطبي: "لا خلاف بين العقلاء أن شرائع الأنبياء قُصِد بها مصالح الخلق الدينية والدنيوية". (¬2) وبغض النظر عن مدى صحة انعقاد هذا الإجماع، (¬3) فإن هذا يدلّ على شيوع التعليل بين الفقهاء والأصوليين وتقرُّرِه، وأن ما شاع حوله من خلاف بين المتكلمين لا يكاد يوجد له أثر بينهم. المطلب الثاني تعليل العبادات قد يقول قائل: ما دام هذا هو موقف الفقهاء والأصوليين من تعليل الأحكام، أَلا يكون هذا معارضاً لما تقرر عندهم من أن الأصل في العبادات عدم التعليل، والأصل في المعاملات التعليل. فكيف يكون الأصل في العبادات عدم التعليل مع القول بأن أحداً الله تعالى كلها -بما فيها العبادات- إنما شرعت لحِكَم ومقاصد، ظهر منها ما ظهر، وخفي منها ما خفي، ومع ملاحظة ما ورد في القرآن الكريم والسنة ¬

_ (¬1) الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 316. (¬2) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج 2، ص 63 - 64. (¬3) أنكر ابن السبكي هذا الإجماع بقوله: "وقد ادعى بعضهم الإجماع على أن الأحكام مشروعة لمصالح العباد ... وهذه الدعوى باطلة، لأن المتكلمين لم يقولوا بتعليل الأحكام، لا بطريق الوجوب ولا الجواز". (انظر الإبهاج في شرح المنهاج، ج 3، ص 62. ويقصد بالمتكلمين هنا الأشاعرة. وقد ذهب البعض إلى أن هذا الإجماع خاص بالفقهاء، ولا دخل للمتكلمين فيه، وذلك قول الآمدي: "أئمة الفقه مجمعة أن أحكام الله تعالى لا تخلو من حكمة ومقصود". الأحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 316.

النبوية من تصريح بتعليل كثير من العبادات؟ (¬1) وحل هذا الإشكال يكون في النقاط الآتية: أولاً: التَّفريق بين مستويات التعليل: بداية لابُدّ من التفريق بين ثلاثة أنواع من التعليل: النوع الأول: التعليل الفلسفي الذي اشتهر بين الفلاسفة والمتكلمين بالعلة الغائية، وهو -كما سبقت الإشارة إليه في كلام ابن عاشور- مرفوض في أساسه من قِبَل كل علماء المسلمين. وحتى المعتزلة الذين شَطُّوا في عباراتهم بإيجاب فعل الأصلح على الله تعالى، والقول بوجوب التعليل، لم يقصدوا التعليل الفلسفي الذي يسلب الإرادة عن الذات الإلهية. وينبغي التنبيه هنا على أن الذي دفع منكري التعليل -الأشاعرة على الخصوص- إلى موقفهم ذلك هو خوف الوقوع في هذا المحذور؛ لأنهم رأوا أن القول بالتعليل مدخل إلى الوقوع في القول بالعلة الغائية والقولِ بالتحسين والتقبيح الذاتيين. النوع الثاني: التعليل بمعناه العام، وهو أن لكل حُكم من الأحكام الشرعية حِكْمة أو مقصد قصد الشارع إلى تحقيقه للناس من وراء ذلك الحُكم، وهذا النوع من التعليل يُعدّ فرعَ اتصاف الله تعالى بالحِكْمة واللطف والتنزّه عن العبث. وهذا هو النوع الذي يُحْمَل عليه قول القرطبي: إنه لا ينبغي أن يختلف فيه العقلاء، وهو الذي ادُّعيَ فيه الإجماع. ومعنى العلة هنا لا يقتصر على معناها الإصطلاحي عند الأصوليين، بل يُرَاد به المعنى العام الذي يشمل الحِكْمة والثمرة من تشريع الحُكم الشرعي وتطبيقه. ¬

_ (¬1) انظر ما كتبه أحمد الريسوني حول كون القرآن الكريم والسنة النبوية قد وردا بتعليل كثير من العبادات، وأن الذين قالوا بأن الأصل في العبادات عدم التعليل قد عللوا هم أنفسهم كثيراً منها، وأن في هذا ما فيه من تشكيك في هذه القاعدة. انظر الريسوني، أحمد: نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، (الرياض: الدار العالمية للكتاب الإِسلامي، ط 2، 1412 هـ/ 1992 م)، ص 207 - 254.

النوع الثالث: التعليل بمعناه الخاص، وهو التعليل القياسي عند الأصوليين؛ أي وجود علة صالحة لأن تُتخذ أساساً للقياس، مع إمكان التعرف عليها بمسلك من مسالك العلة المذكورة عندهم. وهذا النوع من التعليل محلّ اتفاق بين القائلين بالقياس، وهو الذي يقع فيه التَّفريق بين العبادات والمعاملات، وسيأتي بيانه فيما بعد. ثانياً: خفاء علل كثير من العبادات: فالأحكام الشرعية غير العبادات معللة ومعقولة المعنى إلّا ما ندر، أما العبادات، فمع الإقرار بكونها إنما شُرعت لحِكَم ومقاصد أرادها الشارع الحكيم، إلّا أنّ كثيرًا منها مما يخفى على العقول معناه. (¬1) فربما من هذا الباب نسبت إلى عدم التعليل. ولكن ينبغي التنبيه هنا على أن عدم معرفة الشيء والإطلاع عليه لا يعني عدمه، فعدم إدراكنا لحِكَم وعلل بعض الأحكام لا يعني كونها غير معللة، بل ذلك إما لقصور عقولنا، أو لحِكْمة أرادها الله تعالى من حجب ذلك العلم عنا. ثالثاً: مقصود الأصوليين والفقهاء من قاعدة التعليل في العبادات والمعاملات: لعل التعبير بأن الأصل في العبادات عدم التعليل، والأصل في المعاملات التعليل، تعبير غير دقيق، (¬2) وأن الأدق والأضبط هو ما ذهب إليه الشاطبي من أن "الأصل في العبادات بالنسمبة إلى المكلف التعبد، دون الإلتفات إلى المعاني. والأصل في العادات الالتفات إلى المعاني". (¬3) وقد تضمنت قاعدة الشاطبي هذه ثلاثة عناصر كفيلة بتجلية الغموض الذي يكتنف مسألة التعليل في العبادات ويرفع النزاع حولها. ¬

_ (¬1) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 1، 147. (¬2) هذا إذا أخذنا التعليل بمعناه العام، لأن عدداً كبيرًا من العبادات قد ورد معللاً. انظر في ذلك ما كتبه أحمد الريسوني في كتابه: نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، ص 207 - 238.أما إذا أخذنا التعليل هنا بمعناه الخاص؛ أي التعليل القياسي، فإن القاعدة يمكن أن تبقى سليمة كما سيأتي بيانه. (¬3) الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 228.

أولها: تقييد هذه القاعدة بكلمة "الأصل" أي القاعدة العامة، ومعنى ذلك أنه قدى توجد استثناءات سواء في مجال العبادات، أو في مجال العادات، وأنه لا يصح أن يُتَّخَذ ذلك الإستثناء سببًا لنقض القاعدة العامة. وثانيها: نسبة الأمر إلى المكلف لا إلى الشارع؛ أي أن كون بعض العبادات غير ظاهرة العلل إنما هو بالنسبة للمكلَّف، أما الشارع فإنه لم يشرع حُكْماً إلَّا لحِكْمة ومقصد سام، ظهر منها ما ظهر للمكلفين، وخفي منها ما خفي. وثالثها: توجيه القاعدة إلى الإلتفات عند العمل، لا إلى أصل الوضع؛ أي أن الأحكام- عبادات كانت أو معاملات- بالنسبة لله تعالى؛ أي في أصل وضعها، معللة، ولم تُشْرع إلَّا لحِكَم ومقاصد من غير تفريق. أما بالنسبة للمكلفين فهم مطالبون بالتفريق بين العبادات والعادات من حيث ما يُبْنَى عليه العمل. فهم مطالبون في العبادات بالإلتفات إلى جانب التعبد؛ أي تحقيق العبودية لله تعالى بالالتزام بتلك العبادات، بغض النظر عن عللها، عُرفت أم لم تُعرف، عُلِم تحقُّقُها من القيام بتلك العبادات أم لم يُعْلَم. فالعبادات قائمة على أساسين: الأول أنها توقيفية، بمعنى أنه لا يُقْدَمُ عليها إلّا بإذن، فلا يمكن الزيادة عليها بحجة أن ما يزاد يحقق نفس العلة التي شُرِعت من أجلها عبادة من العبادات، كما لا يجوز الإنقاص منها أو تركها بحجة أنها لم تتوفر علتها أو أنها لم تحقق الحكمة منها. فليس لقائل -مثلًا- أن يقول إن فلانًا لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر ومن ثَمّ لا يجب عليه الإلتزام بها. والثاني أنها قائمة على الابتلاء، والابتلاء يقتضي تنفيذ كلّ ما جاء من الشارع الحكيم دون تردُّد ولا اعتراض. هذا في العبادات، أما في العادات فإن الإلتفات يكون إلى المعاني، وذلك بالبحث عن العلل وإجراء الأحكام على وفقها. لأن العادات هي مَبْنَى أمور الحياة الدنيا، وأمور الحياة تقوم على التدبير القائم على فهم وإدراك المقاصد والعلل، ويمكن الزيادة في المعاملات ما أمكن، ما لم تخالف ما جاء به الشرع، لأن الأصل في العادات الإذن حتى يدلّ الدليل على خلافه. (¬1) ¬

_ (¬1) الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 1، ص 211.

ثم إن التعليل المنفي في العبادات ليس هو مطلق التعليل، أي التعليل بمعناه العام، فهذا متفق عليه بين الفقهاء، وإنما المنفي هو التعليل القياسي. فالقول بعدم تعليل العبادات موجَّه أساساً إلى إنكار خضوعها للقياس؛ فالذي ينكر -مثلاً- جواز إخراج قيمة الشاة في الزكاة بناءً على كون العبادات غير معللة، ليس معناه أنه ينكر كون الزكاة شرعت لتحقيق حِكَم ومقاصد. فهو لا ينكر مطلق التعليل، وإنما يرى أن المقدار والصنف الذي يخرج على وجه الزكاة عبادة توقيفية لا يجوز تخطيها، وأن الشارع ما خصها بالتشريع إلّا لكونها محققة للحِكْمة التي قصدها من الزكاة. وقد أشار الشاطبي إلى هذا عند تفسيره لمعنى التعبد عند الفقهاء حيث قال: "ومعنى التعبد عندهم أنه ما لا يعقل معناه على الخصوص" (¬1)، أي أن التعبد نفي العلل الخاصة التي تصلح أن تكون أساساً للقياس، لا نفي التعليل بمعناه العام الذي لا يخلو منه حُكْم شرعي. (¬2) وينبغي الإشارة إلى أنه حتى مع القول بالتعليل في العبادات استناداً إلى ما نص عليه القرآن الكريم والسنة النبوية من حِكَم ومقاصد لتلك العبادات فإن القول بالتعليل فيها يلاحظ عليه أمران: الأول: أنه باستثناء ما نص عليه الشارع من علل وحِكَم لِمَا شرع من عبادات، فإن ما اجتهد فيه الباحثون عن أسرار التشريع يبقى أمراً مظنوناً ومجرد تخمين، وقد أدت المبالغة في ذلك بالبعض إلى المجيء بالغرائب، ومن هذا المنطلق جاءت كراهية البعض للمبالغة في المبحث عن تلك الأسرار. الثاني: أنه مع التسليم بالقول بتعليل كثير من العبادات، فإن هذا التعليل لا يُغْني في عملية الإجتهاد الفقهي في استنباط الأحكام الشرعية؛ فمع التسليم -مثلاً- بتعليل فرض الصلاة عموماً وأجزائها من ركوع وسجود خصوصاً بما ذكره العلماء ¬

_ (¬1) الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 241. (¬2) وقد أشار إلى هذا المعنى الشيخ عبد الله دراز في تعليقه على كلام الشاطبي المذكور. انظر المصدر السابق، مج 1، ج 2، ص 240، هامش رقم (3).

من حِكَم وأسرار، فإن ذلك يبقى لمجرد تعرف على ما ينتج عن الصلاة من فوائد، وما تحققه من مقاصد، ولا يمكن اعتبار تلك الحِكَم والأسرار "العلل القياسية" التي من أجلها شرعت الصلاة. فمع معرفة تلك الحِكَم والأسرار -التي هي في حقيقتها ثمرات الإلتزام بتلك العبادات- يبقى السؤال: ما علة تخصيص هذا النوع من العبادات بالذات وبهذه الكيفيات المحددة لتحقيق هذه الأسرار والحِكَم؟ ولماذا لم يُشرع غيرها وبكيفيات غير الكيفيات المعروفة؟ وهذه هي العلة القياسية التي إذا استطعنا أن نعرفها، نستطيع بعد ذلك أن نقيس عليها غيرها من العبادات. وعدم معرفة مثل هذه العلة هو المراد بكون مثل هذا الحِكَم تعبديّا توقيفيّا، يوقف فيه عند ما جاء من عند الشارع من غير استبدال، ولا زيادة، ولا نقصان. وكذلك الأمر في الحدود والكفارات، فعلتها العامة (الحِكْمة من شرعها) الزجر، ولكن العلة الخاصة في تقدير حدّ الزنا للبكر -مثلاً- بمائة جلدة، وحدّ القذف بثمانين، والصيام في بعض الكفارات بثلاثة أيام، وفي بعضها بشهرين متتابعين، وغير ذلك من الحدود والكفارات غير معلومة. وعلى ذلك يمكن القول إن هذه العبادات والحدود والكفارات معللة من قِبَل الوجه الأول، لكنها غير معللة من قِبَل الوجه الثاني ومن هنا جاء القول بعدم جريان القياس فيها. والخلاصة أن العبادات محددة النوع والكيفية، وذلك التحديد غير معلل بالنسبة لنا. أما كونها إنما شُرِعت لحِكَم ومقاصد فهو أمر غير مشكوك فيه؛ لأن ذلك فرع كمال الذات الإلهية وتنزهها عن العبث. أما المعاملات فإن الشارع اكتفى فيها بوضع ضوابط ومبادئ تحدد دائرة الحرام التي لا ينبغي دخولها، وما وراء ذلك فهو مباح وبابه مفتوح، وللناس أن يخترعوا من أنواع وكيفيات المعاملات ما يخدم المقاصد والعلل المشروعة.

المبحث الثاني مسالك العلة ووظيفتها في الكشف عن مقاصد الشارع

المبحث الثاني مسالك العلة ووظيفتها في الكشف عن مقاصد الشارع المراد بمسالك العلة الطرق التي يتعرف المجتهد من خلالها على علل الأحكام الشرعية. وهذه العلل إما أن يكون الشارع قد نص عليها صراحة في نصوصه وأحكامه، وإما أن يكون قد ترك استنباطها للمجتهد من خلال القرائن اللفظية والمعنوية والعقلية، والمناسبة. وما دام موضوع المبحث ليس في مسالك التعليل ذاتها، لا سيما وأنها قد بُحثت كثيراً (¬1) فسوف لن يطيل الباحث فيها، وسيكتفي بإعطاء ملخص عمّا قاله الأصوليون في تعريف كلّ منها وبيان أقسامه، ثم يكون التركيز بعد ذلك على بيان ما هو مناسب منها لأن يكون كاشفاً عن مقاصد الشارع، وكيفية الإستدلال به على ذلك. أولاً- النص: وهو أهمها، حيث إنه ناطق عن إرادة الشارع وقصده، وإذا استطعنا أن نعرف مقصد الشارع من خلال منطوق خطابه فتلك الغاية. وقد عرّفه الآمدي بقوله: "هو أن يذكر دليل من الكتاب أو السنة على التعليل بالوصف بلفظ موضوع له في اللغة، من غير احتياج فيه إلى نظر واستدلال". (¬2) وقد قُسِّم النص إلى قسمين (¬3): 1 - ما يدلّ على العلية دلالة قاطعة: وذلك كأن يقال: لعلة كذا، أو لسبب كذا، ¬

_ (¬1) انظر في تفصيل مسالك العلة: مباحث القياس من كتب الأصول للمتقدمين والمحدثين، ومن أبرز من أفردها بالبحث من المعاصرين الدكتور عبد الحكيم عبد الرحمن السعدي: مباحث العلة في القياس عند الأصولين، (بيروت: دار البشائر الإِسلامية للطباعة والنشر والتوزيع، ط 1، 1406 هـ / 1986 م)؛ والدكتور محمد مصطفى شلبي في كتابه: تعليل الأحكام، (بيروت: دار النهضة العربية، 1401 هـ/ 1981 م). (¬2) الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 277. (¬3) انظر الإسنوي، جمال الدين: نهاية السول، مطبوع مع شرح البدخشي، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1405 هـ / 1984 م)، ج 3، ص 55 - 58؛ الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 278 - 279.

أو لأجل كذا، وكي. (¬1) ومثلوا لذلك بقوله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]، وقوله: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]. 2 - ما يدل على العلِّيّة دلالة ظاهرة، وقد اختُلِفَ في عددها، فجعلها الإسنوي ثلاثة، (¬2) هي: اللام: مثل قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]، وإِنَّ، ومثال ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في المُحْرِم الذي وقصته ناقته: " ... وَلَا تُغَطُّوا وَجْهَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يُلَبِّي"، (¬3) والباء، ومثال ذلك قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر: 4]. وجعلها الآمدي خمسة، هي: اللام، والكاف، و"مِنْ"، و"إِنّ"، والباء. (¬4) وزاد البعض "أنْ"، و"إِنْ"، و"أنَّ"، والفاء، ولعل، و"إذْ"، و"حتى". (¬5) والأصح أن يقال: إن كل ما رُتِّب على حرف من الحروف التي تفيد التعليل كان ظاهراً في التعليل من غير داعٍ إلى حصرٍ في حروف معينة. والفرق بين القسمين: الأول والثاني أنّ القاطع هو الذي لا يحتمل غير العلِّية، والظاهر هو الذي يحتمل غيرها احتمالًا مرجوحًا؛ وذلك بسبب استعمال تلك الحروف أحياناً في معان أخرى غير التعليل. (¬6) فإذا صرح الشارع بصيغة من الصيغ الموضوعة للتعليل -والتي لا تحتمل غيره- بأن أمراً ما يُعدّ علّة تشريعِ حكمٍ من الأحكام كان ذلك دليلاً على أن ما في تلك العلة ¬

_ (¬1) جعل الآمدي الكاف مما يدل على العلية دلالة ظنية. انظر الإحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 278. (¬2) انظر الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 55 وما بعدها. (¬3) تمام الحديث فيما رواه مسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِي الله عَنْهمَا - قَالَ كَانَ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ فَوَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ فَمَاتَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "اغْسِلُوهُ وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا وَلَا تُغَطُّوا وَجْهَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يُلَبِّي". صحيح مسلم، كتاب الحج، باب (14)، ج 2، ص 867، الحديث (1206) (103). (¬4) انظر الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 278. (¬5) انظر عبد الحكيم عبد الرحمن السعدي: مباحث العلة في القياس، ص 350 - 364. (¬6) انظر الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 55 - 56.

من حِكْمة هو مقصد من مقاصد الشارع، خاصة إذا علمنا أن أغلب ما صرح به الشارع من علل إنما هو من باب الحِكَم التي تُعدّ في ذاتها مقاصد للشارع من تلك الأحكام. وصيغ النص القاطع التي ورد التعليل بها في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة هي: "من أجل"، و"كي". ومثال الأولى: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ"، (¬1) فهو صريح في أن قصد الشارع من فرض الإستئذان هو منعُ التجسس على الناس، وستر حرماتهم وأسرارهم، فكل ما أدى إلى خرق ذلك فهو ممنوع. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ" وذلك فيما أخرجه مسلم عن عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قالت: دَفَّ أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ حَضْرَةَ الأَضْحَى زَمَنَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ادَّخِرُوا ثَلاثًا ثُمَّ تَصَدَّقُوا بِمَا بَقِيَ"، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ قَالُوا: يا رَسُولَ الله إِنَّ النَّاسَ يَتَّخِذُونَ الأَسْقِيَةَ مِنْ ضَحَايَاهُمْ وَيَجْمُلُونَ مِنْهَا الْوَدَكَ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَمَا ذَاكَ؟ " قَالُوا: نَهَيْتَ أَنْ تُؤْكَلَ لحُومُ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلاثٍ، فَقَالَ: "إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ فَكُلُوا وَادَّخِرُوا وَتَصَدَّقُوا". (¬2) فبيّن فيه - صلى الله عليه وسلم - أن مقصوده من نهي الصحابة عن ادخار لحوم الأضاحي في تلك السنة إنما كان لدفعهم إلى التصدق بما هو زائد عن حاجتهم اليومية لتحقيق التكافل الإجتماعي بين أفراد المجتمع بإطعام الجائعين وسدّ خلّة المحتاجين، وهو صريح في أن مساعدة المحتاجين وتحقيق التكافل الإجتماعي مقصد من مقاصد الشريعة ينبغي السعي إلى تحقيقه، ولو كان ذلك بفرض قيود على حقوق أصحاب الفضل ليعودوا بفضلهم على المحتاجين، وأنه لوليّ الأمر أن يفعل ذلك، ولكن شريطة أن يكون ذلك بالمعروف وبما لا يخرق القواعد والأحكام الشرعية الأخرى التي تحفظ على ¬

_ (¬1) أخرج البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: اطَّلَعَ رَجُلٌ مِن جُحَرٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَمَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِدْرَى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ فَقَالَ: "لَوْ اعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ إِنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ مِن أَجْلِ الْبَصَرِ". صحيح البخاري، كتاب الإستئذان، باب (11)، مج 4، ج 7، ص 168. (¬2) صحيح مسلم، كتاب الأضاحي، باب (5)، ج 3، ص 1561.

الناس أموالهم وحقوقهم. ومثال الثانية: قوله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]. فهو نصٌّ في أن قصد الشارع في الأموال إشاعتها بين الناس وإعادة توزيع الثروة بما يمنع احتكارها في أيدي فئة محدودة من أفراد المجتمع. والآية جاءت في معرض بيان المقصد من خصِّ طبقة الفقراء والمساكين بجزء من مال الفيء. (¬1) فهو نصّ في قصد الشارع إلى إعادة توزيع الثروة بطريقة عادلة تحفظ حقوق الأغنياء والفقراء جميعا. أمّا ما يدلّ دلالة ظاهرة على المقصد الشرعي فكل ما ورد مرتّباً على حرف من الحروف التي تفيد التعليل، ومن أبرز ما ورد منه في القرآن الكريم: 1 - ما وردت الإشارة إليه بلام التعليل، مثل قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]. فالآية صريحة في أن المقصد من تكليف الرسل بتبليغ الوحي الإلهي إلى الناس هو جعل ذلك الرسول وسيلة لبيانه، والبيان هنا بمعناه الواسع الذي يكون بالقول والفعل والقدوة، حتى يسهل على الناس فهمُ الوحي الإلهي والتزامه في واقع الحياة. 2 - ما صُدِّرَ بحتى التي للتعليل مثل قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)} [الأنفال: 39]. فقد دلّت الآية على أن المقصد من قتال الكفار المحاربين هو جعل السيادة في الأرض للدين الحق، وحماية الناس أن يفتنوا في دينهم من قِبَل أهل الكفر والفساد، لا مجرد القتال المهلك للنفوس المتلف للأموال. ومنه قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)} [محمد: 31]، فدلت الآية على أن المقصد من ابتلاء المؤمنين بالحرب ونقص الأموال والأنفس ¬

_ (¬1) تمام الآية: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]. والفرق بين الفيء والغنيمة أن الغنيمة ما حُصِّل من أموال أهل الحرب على سبيل القهر والغلبة، وحُكْمُه أنه يُخَمَّس، ثم يوزع ما بعد الخمس على الغانمين غنيِّهم وفقيرهم، والفيء ما حُصِّل من غير قتال، وقد اختلف الفقهاء في تخميسه وفي أصحاب الحق فيه. انظر الموسوعة الفقهية لوزارة الأوقاف الكويتية، ج 32، ص 227 - 233.

والثمرات هو تمحيص إيمانهم ليتميَّز الصادق من الكاذب. ثانياً - الإيماء والتنبيه: وضابطه "الإقتران بوصف لو لم يكن هو أو نظيره للتعليل لكان بعيدا، فيُحْمَل على التعليل دفعاً للإستبعاد". (¬1) وقد جعله كل من الرازي والبيضاوي خمسة أنواع، (¬2) وجعله الآمدي (¬3) ستة، وأوصله الشوكاني إلى تسعة، (¬4) وهو راجع إلى القسمة العقلية، وأبرزها: 1 - ترتيب الحكم على العلة بفاء التعقيب والتسبيب. وهو على أربعة أوجه: إما أن يدخل حرف الفاء على الوصف في كلام الشارع، أو أن يدخل على الوصف في كلام الراوي، أو أن يدخل على الحكم في كلام الشارع، أو أن يدخل على الحكم في كلام الراوي. ومثال الأول: الحديث المتقدم في المحرم: " ... وَلَا تُغَطُّوا وَجْهَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يُلَبِّي". (¬5) والثاني: لم يظفروا له بمثال. ومثال الثالث: قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]. ومثال الرابع: قول الراوي: " ... أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِرَجُلٍ مِنْهُمْ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ عِنْدَ الْمَسْجِدِ". (¬6) 2 - أن يحكم الشارع على شخص بحكم عقب علمه بصفة صدرت منه؛ فإنه ¬

_ (¬1) الشوكاني: إرشاد الفحول، ص 212؛ الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 60. (¬2) انظر الرازي: المحصول، ج 5، ص 143؛ الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 60 (¬3) انظر الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 279. (¬4) انظر الشوكاني: إرشاد الفحول، ص 212 - 213. (¬5) سبق تخريجه. (¬6) أخرج البخاري عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ - رَضِي الله عَنْهمَا - أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِرَجُلٍ مِنْهُمْ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ عِنْدَ الْمَسْجِدِ". صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب (60)، مج 1، ج 2، ص 404.

يدل على كون ما حديث علة لذلك الحكم. ومثال ذلك: قوله - صلى الله عليه وسلم - لمن جامع في نهار رمضان: "فَأَعْتِقْ رَقَبَةً" (¬1) 3 - أن يذكر الشارع مع الحكم وصفًا لو لم يُقَدّر التعليل به لما كان لذكره فائدة، وهو أربعة أقسام، انظرها في مواطنها. (¬2) 4 - أن يفرق الشارع بين أمرين في الحكم بذكر وصف لأحدهما فيعلم أن ذلك الوصف علة لذلك الحكم، وإلاّ لم يكن لتخصيصه بالذكر فائدة. (¬3) 5 - النهي عن فعل يكون مانعاً لما تقدم وجُوبُه علينا. كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] فإنه تعالى لما أوجب السعي إلى الصلاة ونهى عن البيع علمنا أن علة النهي عن البيع هي تفويت الواجب. (¬4) هذا خلاصة ما فرعه الأصوليون على الإيماء والتنبيه، وهو راجع إلى القسمة العقلية، ولذلك لم يظفروا لبعض فروعه بأمثلة شرعية. ويبدو أن أنسب تعريف للإيماء والتنبيه هو ما عرفه به صاحب مسلَّم الثبوت بأنه "ما يدل على عليّة الوصف بقرينة من القرائن"، إذْ الإيماء نوع من التنبيه والإشارة إلى كون معنى من المعاني أو حِكْمة من الحِكَم هي مقصود الشارع من ¬

_ (¬1) أخرج البخاري عن أبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ فَقَالَ: هَلَكْتُ. قَالَ: "وَلِمَ". قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى أَهْلِي فِي رَمَضَانَ. قَالَ: "فَأَعْتِقْ رَقَبَةً". قَالَ: لَيْسَ عِنْدِي. قَالَ: "فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ". قَالَ: لا أَسْتَطِيعُ. قَالَ: "فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا". قَالَ: لا أَجِدُ. فَأُتِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَرَقٍ فيهِ تَمْرٌ فَقَالَ: "أينَ السَّائِلُ؟ " قَالَ: هَا أَنَا ذَا. قَالَ: "تَصَدَّقْ بِهَذَا". قَالَ: عَلَى أحْوَجَ مِنَّا يا رَسُولَ الله, فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ مِنَّا. فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتى بَدَتْ أَنْيَابُهُ قَالَ: "فَأَنْتُمْ إِذًا". صحيح البخاري، كتاب النفقات، باب (13)، مج 3، ج 6، ص 535. الحديث (5368) وانظر في هذا النوع الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 65 - 66؛ الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 280. (¬2) انظر الرازي: المحصول، ج 5، ص 149 - 152؛ الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 66 - 67؛ الشوكاني: إرشاد الفحول، ص 212؛ الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 281. (¬3) انظر في هذا الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 284؛ الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 67. (¬4) انظر الرازي: المحصول، ج 5، ص 154 - 155؛ الآمدي: الأحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 285.

خطابه أو من تشريع حُكم من الأحكام، وأداة التنبيه في ذلك هي قرينة من القرائن، سواء كان ذلك حرف الفاء أو غيره. فقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لَا يَقْضِي الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ" (¬1) فيه إيماء إلى أن علة النهي عن القضاء في حال الغضب هي تشويش ذهن القاضي بما يؤدي إلى عدم سلامة الحُكْم الذي يصدره في تلك الحال، وهذا يدلّ على أن الشارع قاصد إلى دفع ما ينتج عن تشويش ذهن القاضي من فساد في الأحكام، وذلك بتوفير الظروف الملائمة -سواء كانت ذاتية أو موضوعية- لسلامة أحكام القاضي وعدالتها. ومن الإيماء والتنبيه على المقصد الشرعي ذِكْر الحكم مقروناً بسببه مثل قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39]، فإنه يفهم منه أن من مقاصد شرع القتال دفعُ الظلم الواقع على المؤمنين. ومنه أن يأمر الشارع بالشيء مبيِّناً مصالحه، أو ينهى عنه مبيِّناً مفاسده، فيعلم أن جلب تلك المصلحة أو دفع تلك المفسدة من مقاصد الشارع. ومن أمثلة ذلك: 1 - قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60]، فإرهاب الأعداء وصرفهم حتى عن مجرد التفكير في التعرض للإسلام والمسلمين مقصد شرعي من مقاصد الأمر بإعداد العُدّة والظهور بمظهر القوة؛ فيحقق ذلك للمسلمين غايتين: سيادة الإِسلام وأهله، ودفع الحرب المهلكة للنفوس المخربة للديار. 2 - وقوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، فتعظيم الرب سبحانه وتعالى وصون اسمه من التعرض لأي قبيح مقصد شرعي يجب المحافظة عليه ولو أدى ذلك إلى ترك التعرض لأي المشركين ومعتقداتهم. كما أن في هذه الآية تنبيه إلى أن دفع أعظم المفسدتين بالتجاوز عن أيسرهما مقصد من مقاصد الشارع. ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجة، كتاب الأحكام، باب (4)، ج 2، ص 39.

ثالثاً - الإجماع: وهو"أن يُذْكَرَ ما يدلّ على إجماع الأمة في عصر من الأعصار على كون الوصف الجامع علة لحكم الأصل: إما قطعا، أو ظنا". (¬1) وذلك كإجماعهم على كون الصغر علة لثبوت الولاية على الصغيرة في المال، فيقاس عليه ثبوت الولاية عليها في النكاح. والإجماع في الحقيقة لا يُعدّ مسلكاً مستقلاًّ للكشف عن العلة، إذْ الإجماع لا يكون من فراغ، بل لا بُدّ له من مُسْتَنَد عرف المجمعون من خلاله العلة المجمع عليها، وهو إما النص، أو الإيماء والتنبيه، أو المناسبة. فالإجماع إنما يأتي مؤكدا لعليّة ذلك الوصف أو لمقصدية حِكْمة من الحِكَم ليرتفع بها من مرتبة الظن إلى مرتبة اليقين، ومن ثَمّ فهو لا يستحقّ أن يُبحث بوصفه مسلكاً مستقلاًّ من مسالك الكشف عن المقاصد. رابعاً - الشبه: وهو ما ألحق فيه الفرع بالأصل لجامع يشبهه فيه، وقد اختلف الأصوليون في تعريفه وبيان حقيقته على أقوال (¬2) أبرزها: 1 - هو"تردُّدُ فرع بين أصلين شبهه بأحدهما في الأوصاف أكثر". (¬3) 2 - هو"الوصف الذي لا تظهر فيه المناسبة بعد المبحث التام، ولكن أُلِف من الشرع الإلتفات إليه في بعض الأحكام، فهو دون المناسب، وفوق الطردي، ولأجل شبهه بكل منهما سمي الشبه". (¬4) 3 - هو الجمع بين الأصل والفرع بما لا يناسب الحكم بذاته، لكنه يستلزم ما ¬

_ (¬1) الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 277؛ وانظر الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 71. (¬2) انظر في ذلك مثلًا الآمدي: الأحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 325 - 327؛ الشوكاني: إرشاد الفحول، ص 219؛ السعدي: مباحث العلة في القياس، ص 455 - 462. (¬3) ابن النجار، محمد بن أحمد الفتوحي: شرح الكوكب المنير، تحقيق محمد الزحيلي ونزيه حماد، (الرياض: مكتبة العبيكان، 1413 هـ / 1993 م)، ج 4، ص 187. (¬4) الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 85.

يناسب الحكم. (¬1) ومن خلال ما سبق يتبيَّن أن الشبه خاص بالقياس؛ إذْ هو يدور حول إلحاق فرع بأشبه الأصول به، ومن ثَمّ فهو من أنواع القياس وليست له علاقة بالكشف عن مقاصد الشارع. خامساً - الدوران: ويسمى أيضاً الطرد والعكس، وهو عبارة عن وجود الحُكْم بوجود الوصف، وانعدامه بعدمه. (¬2) ويمكن أن يكون الدوران مسلكاً من مسالك التعرف على كون حِكْمة من الحِكَم مقصداً للشارع في أحكامه، فإذا رأينا تلازماً بين نوعِ أو جنسِ حِكْمة من الحِكم ونوعِ أو جنسِ حُكْم من الأحكام الشرعية حيث يوجد الثاني بوجود الأول وينعدم بانعدامه حصل لنا ظن راجح بأن الشارع قاصد إلى تحصيل تلك الحِكْمة. ومثال ذلك دوران الحُكم بالتيسير مع وجود المشقة، حيث يدلُّنا تَتَبُّعُ الأحكام الشرعية على أن الشارع ينحو منحى التيسير حيث توجد المشقة التي لا تُحْتَمل عادة، وهذا ثابت في رخص العبادات كما هو في رخص المعاملات. وسيأتي مزيد تفصيل في هذا عند الحديث عن الاستقراء. وينبغي التنبيه على أن هذا المسلك -مثل غيره- لا ينبغي أخذه على إطلاقه، فليس مطلق الملازمة والدوران يفيد المقصدية، وإنما مع مراعاة الضوابط الشرعية الأخرى بتخصيص ما خصه الشارع واستثناء ما استثناه، فالأحكام والنصوص والقواعد الشرعية ينبغي أن يُنْظر إليها بوصفها وحدة متكاملة. ¬

_ (¬1) انظر الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 86، الرازي: المحصول، ج 5، ص 201. (¬2) انظر في ذلك الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 330 - 333؛ الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 91 - 94؛ الشوكاني: إرشاد الفحول، ص 221.

سادساً - السّبر والتقسيم: السبر معناه الاختبار، والتقسيم هو استقراء ما يحتمل أن يكون علَّةً لِشَرْعِ الحُكْم أو مقصداً له، وهو عملية سابقة للسبر. وسمي بذلك لأن المستنبط يقسم بداية الأوصاف التي تحتمل العليّة، ثم يختبر كل واحد منها ليرى هل يصلح للعلية أم لا؟ (¬1) وهو على نوعين: 1 - التقسيم الحاصر: وهو الذي يكون دائراً بين النفي والإثبات، مثل قول الشافعي في ولاية الإجبار على النكاح: إما أن لا تكون معللة أصلا، وإما أن تكون معللة. وعلى تقدير تعليلها: إما أن تكون معللة بالبكارة أو الصغر أو بغيرها. والأقسام كلها باطلة سوى الثاني؛ وهو تعليلها بالبكارة. (¬2) 2 - التقسيم المنتشر: وهو التقسيم الذي لا يكون دائرا بين النفي والإثبات. ومثال ذلك قول المعلل: حُرْمَةُ الربا في البُرِّ إما أن تكون معللة بالطعم، أو الكيل، أو القوت، أو المال. والكل باطل إلّا الطعم، فيتعين التعليل به. (¬3) والسبر والتقسيم في الحقيقة لا يمكن أن يكون مسلكاً مستقلاًّ من مسالك الكشف عن العلة، وإنما هو وسيلة أو طريقة من الطرق المتبعة للتحقّق من عليّة الوصف بناءً على مسلك من المسالك الحقيقية، وهي: النص، والإيماء والتنبيه، والمناسبة. فهو مركّب من التقسيم وهو تجميع للأوصاف أو الحِكَم التي يحتمل كل منها أن يكون علة لحُكْم أو مقصداً شرعياً له، ثُمّ بعد ذلك يكرُّ المجتهد على ما افترضه بالاختبار، فيلغي ما ألغاه الشارع ويستبعد ما عُهِد من الشارع استبعاده ليستقر في الأخير على ما كان مناسبا منها لذلك الحُكْم أو ما عُهِد من الشارع ¬

_ (¬1) انظر الشوكاني: إرشاد الفحول، ص 198؛ الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 95 - 96. (¬2) انظر الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 96؛ الشوكاني: إرشاد الفحول، ص 213 - 214. (¬3) انظر الرازي: المحصول، ج 5، ص 217؛ الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 96 - 97.

اعتباره في جنس ذلك الحكم، وعماده في ذلك الاختبار النص والإيماء والتنبيه والإجماع والمناسبة، فهي في الحقيقة الأدوات الكاشفة عن علّيّة الوصف أو مقصديّة الحِكْمَة، وإنما السبر والتقسيم طريقة لإعمال تلك الكواشف. سابعاً - المناسبة: ويُعبَّر عنها بالإخالة، وبالمصلحة، وبرعاية المقاصد. (¬1) والمناسب في اللغة هو الملائم، يقال: هذا الشيء مناسب لهذا، أي: ملائم له. (¬2) أما اصطلاحاً فهناك اتجاهان في تعريفه: الإتجاه الأول: يعرفه بأنه "الملائمُ لأفعال العقلاء في العادات". (¬3) والاتجاه الثاني: يعرفه بأنه "الوصف الذي يحصل عقلاً من ترتيب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصوداً من جلب منفعة أو دفع مضرة". (¬4) وقد نسب الرازي التعريف الأول إلى الذين لا يقولون بتعليل أفعال الله تعالى، والثاني إلى القائلين بتعليل أفعال الله تعالى. (¬5) أما الغزالي فقد عرفه بأنه ما كان "على منهاج المصالح، بحيث إذا أُضِيف الحُكْم إليه انتظم"، (¬6) أي الموافق للمقاصد العامة للشريعة. ومادام المناسب هو الوصف الذي يترتب على شرع الحكم عنده مصلحة، وتحقيق المصلحة مقصد من المقاصد الأساسية للشارع فإن المناسب يكون طريقاً إلى التعرف على المقاصد الشرعية. ¬

_ (¬1) انظر الشوكاني: إرشاد الفحول، ص 214. (¬2) انظر ابن منظور: لسان العرب، ج 1، ص 756. (¬3) الرازي: المحصول، ج 5، ص 158. (¬4) انظر الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 71 - 72؛ الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 294. (¬5) الرازي: المحصول، ج 5، ص 158 - 159. (¬6) الغزالي: المستصفى، ج 2، ص 135.

أقسام المناسب: قسم الأصوليون المناسب إلى أقسام متعددة وباعتبارات مختلفة، اتفقوا في بعضها واختلفوا في بعض آخر اختلافَ اصطلاحٍ أو اختلافَ تفريعٍ وإجمال. (¬1) ولعل أجمعها -وهو ما استقر عليه المتأخرون- تقسيمه إلى حمسة أقسام: المناسب المؤثر والمناسب الملائم، والمناسب الغريب، والمناسب الملغي، والمناسب المرسل. ووجه الحصر- أنا المناسب إما أن يثبت اعتبارُه شرعاً، أو يثبت إلغاؤُه، أو لا يعلم هذا ولا ذاك. الأول معتبر بالنص أو الإجماع، وهو المؤثر والثاني بترتيب الحُكْم على وفقه وإن لم ينص عليه صراحة أو لم يثبت بالإجماع، وهو الملائم، فإن شهد لاعتباره أصله المعين فقط دون أن يوجد لجنسه شاهد فهو الغريب، وما ثبت إلغاؤه فهو المناسب الملغي، وما لم يثبت اعتباره ولا إلغاؤه فهو المناسب المرسل. 1 - المناسب المؤثر: وهو الذي دلّ النص أو الإجماع على مناسبته، وصلاحيته لأن يكون علة تُبنى عليها الأحكام الشرعية. (¬2) وما يثبت من المقاصد بهذا الطريق يُعدّ من المقاصد الثابتة بالنص أو الإجماع، وتكون إما مأخوذة من ظواهر النصوص مباشرة أو بالإستعانة بما يحفّ بها من قرائن، وقد سبقت دراسته ضمن ما ثبت بالنص أو بالإيماء والتنبيه. وإدراج هذا النوع من المناسب ضمن مقاصد الشارع متفق عليه بين العلماء. (¬3) ومثال هذا النوع من المناسب النص من الشارع على أن التيسير والتخفيف هو المقصد الشرعي من رخص العبادات والمعاملات، (¬4) وأن تطهير النفوس من الشُّحّ وتحقيق التكافل الإجتماعي هو المقصد من تشريع الزكاة، (¬5) وأن الإستدامة على طاعة ¬

_ (¬1) انظر الرازي: المحصول: ج 5، ص 159، وما بعدها؛ الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 311 وما بعدها. (¬2) انظر الغزالي، أبو حامد: شفاء الغليل في بيان الله والمخيل ومسالك التعليل، تحقيق حمد الكبيسي، (بغداد: مطبعة الإرشاد، 1390 هـ/ 1971 م)، ص 144. (¬3) الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 312. (¬4) {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} [النساء: 28] (¬5) {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)} [التوبة: 103]،وعَنِ

الله تعالى وتجنيب العلاقات بنِن أفراد المجتمع أسباب البغضاء والعدواة من المقاصد الشرعية لتحريم الخمر. (¬1) 2 - المناسب الملائم: وهو الذي لم يرد فيه نص ولا إجماع بعينه، لكن الشارع رتَّب الحُكْم عليه في محل آخر واعتبر جنسه في عينه وبالعكس، أو جنسه في جنسه بنص أو إجماع. والأخذ به محلّ اتفاق بين العلماء إجمالاً (¬2) وإن اختلفوا في بعض الجزئيات هل هي داخلة ضمن الملائم أم ضمن غيره. (¬3) ويمثل لهذا النوع بمسائل سَدّ الذرائع، فهناك بعض الذرائع نصّ الشارع على سدِّها لِمَا تؤدي إليه من مفسدة كالنهي عن سَبِّ آلهة المشركين إذا أدى ذلك إلى سَبِّ الذات الإلهية، (¬4) وتحريم الخلوة لأنها ذريعة إلى الفاحشة، (¬5) وتحريم البيوع التي هي من ذراءع الربا كبيع العينة، (¬6) وصفقتين في صفقة، (¬7) والنفع الناتج عن قرض (¬8). ¬

_ = ابنِ عَبَّاسِ - رَضِي الله عَنْهمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ مُعَاذًا - رضي الله عنه - إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: "ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا الله وَأَنِّي رَسُوُل الله فَإِنْ هُمْ أطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ الله قَدِ افْتَرَضَ عَلَيهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِن هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَن الله افتَرَضَ عَلَيهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالهِمْ تُؤخَذُ مِن أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ". صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب (43)، مج 1، ج 2، ص 449، الحديث (1458). (¬1) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة: 91]. (¬2) انظر الغزالي: المستصفى، ج 2، ص 136. (¬3) الآمدي: الأحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 312. (¬4) وذلك في قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]. (¬5) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهَما أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ وَلا تُسَافِرَن امْرَأَةٌ إِلاَّ وَمَعَهَا مَحُرمٌ". صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب (140)، مج 2، ج 4، ص 342، الحديث (3006). (¬6) عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنه - قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "إِذَا تَبَايَعْتُم بالْعِينَةِ وَأَخَدتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ الله عَلَيْكُمْ ذُلاَّ لا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ". أبو داود، سليمان بن الأشعث: سنن أبي داود، مطبوع ضمن الكتب الستة، (استانبول: cagoi yayinlaoi، 1981 م)، كتاب الإجارة، باب (54)، ج 3، ص 740 - 741، الحديث (3462). (¬7) عَن أَبِي هُرَيْرَة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ النّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَن بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أوْ كَسُهُمَا أو الرِّبَا". سنن أبي داود، كتاب الإجارة، باب (53)، ج 3، ص 738 - 739، الحديث (3461). (¬8) عن أَنْسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أَقْرَضَ أحَدُكُمْ قَرْضًا فَأَهْدَى لَهُ أوْ حَمَلَهُ عَلَى الدَّابَّةِ فَلا يَرْكَبْهَا وَلا يَقْبَلْهُ إِلاَّ أنْ يَكُونَ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَبْلَ ذَلِكَ". سنن ابن ماجة، أبواب الأحكام، باب (59)، ج 2، ص 61، الحديث (2432).

وهناك ذرائع كثيرة لم يرد في عينها نص ولا إجماع، ولكنها عند النظر فيها يتبيّن ما تؤدي إليه من فساد راجح على ما يرجى منها من مصالح فيُفْتَى بسدِّها وإن لم يرد في عينها نص ولا إجماع، ويكون مستَنَدُ ذلك ملاءمة ذلك المنع لما عُهِد من الشارعَ مِنْ منعٍ في جنس الذرائع المقطوع أو الغالب على الظن أنها تؤدي إلى حرام أو ينتج عنها مفسدة أعظم مما يُتَذَرَّع به من مصلحة. وبستخلص من ذلك كون الشارع قاصداً إلى سدّ هذا النوع من الذرائع. 3 - المناسب الغريب: وقد عرفه الغزالي بأنه "الذي لم يظهر تأثيره ولا ملاءمته لجنس تصرفات الشرع". (¬1) وعرفه البيضاوي بأنه "ما أثر نوعه في نوع الحكم ولم يؤثر جنسه في جنسه". (¬2) فهو المناسب الذي لم يشهد باعتباره سوى أصله المعين، دون أن يوجد شاهد لجنسه، ولذلك سمي غريباً؛ لأنه شهد لنوعه حكم واحد. ومثلوا له بتوريث المطلقة ثلاثاً في مرض الموت معاملة للزوج بنقيض قصده، لأنه إنما قصد من تطليقها طلاقاً باتّاً حرمانها من الميراث، ولم يكن الطلاق لسبب مشروع. ووجه غرابته أن مثل هذه المعاملة (المعاملة بنقيض القصد) لم تُعْهَد في تصرفات الشارع إلّا في حالة واحدة هي حرمان القاتل من الميراث معاملة له بنقيض قصده إذْ استعجل الميراث بقتل مورثه. ولم يُعْهَد من الشارع في غير هذا الموضع معاملة المتصرف بنقيض قصده. وهذا المثال فيه نظر، فإن معاملة الوارث القاتل بنقيض قصده إنما قَصَد منه الشارع سدّ ذرائع سفك الدماء، فهو في الواقع فرع من فروع باب سدّ الذرائع، وسدّ الشارع لذرائع الفساد ليس غريباً في نصوصه وأحكامه، بل هو منتشر انتشاراً واسعاً في نصوص القرآن والسنة وأحكامهما وفي اجتهادات الفقهاء بعد ذلك. وقد فهم سيدنا عثمان - رضي الله عنه - هذا المقصد فقال بتوريث المطلقة ثلاثاً في مرض الموت (¬3) ¬

_ (¬1) الغزالي: المستصفى، ج 2، ص 136. (¬2) انظر شلبي: تعليل الأحكام، ص 249. (¬3) انظر البيهقي: السنن الكبرى، كتاب الخلع والطلاق، باب "ما جاء في توريث المبتوثة في مرض الموت"، ج 7، ص 362 - 363.

لَمَّا رأى أن الناس صاروا يتخذون هذا الطلاق ذريعة لحرمان أصحاب الحقوق من حقوقهم. 4 - المناسب الملغي: وهو المناسب الذي ظهر إلغاؤه وإعراض الشارع عنه في جميع صوره. ومثاله تحصيل الربح من طريق الفوائد الربوية، فمن المقاصد الشرعية للمعاملات المالية تحصيل الربح، والتعامل الربوي -ولا شك- محصِّلُ للربح بالنسبة لصاحب رأس المال، وقد يحصِّلُ فائدة لبعض المقترضين، وقد يقول قائل -بناءً على ذلك- إن التعامل الربوي محقِّق لمقصد من مقاصد المعاملات المالية وهو الربح لرب المال، ودفع حاجة المقترض وبناء على ذلك يمكن التعامل به إذا حقق هذا المقصد. ولكن مهما قيل في هذا فإنه غير صالح للإحتجاج به، أوَّلاً: لأن الشارع قد ألغى هذه المناسبة والمصلحة بنصوص صريحة، وثانياً: لما يترتب على ذلك من مفسدة أكبر وكذلك يقال فيما قد يوجد من مصالح في الخمر والقمار وغيرها من المحرمات. 5 - المناسب المرسل: هناك اتجاهان في تريف المناسب المرسل: (¬1) الإتجاه الأول: أن المناسب المرسل هو الذي لم يشهد الشرع لا لبطلانه ولا لاعتباره، بمعنى أنه ليس هناك نص يشهد بالاعتبار لنوع هذه المصلحة ولا لجنسها، كما أنه لا يوجد نص يشهد ببطلانها. (¬2) والواقع أنه عند التدقيق يصعب أن نجد مصلحة مناسبة -لم يثبت إلغاؤها- لا يشهد لها شاهد من المقاصد العامة للشريعة. نعم، قد لا نجد ما يشهد لنوعها أو جنسها القريب، أما أن لا نجد ما يشهد لجنسها -ولو العالي- فهو أمر غير وارد وما يعرف بالمصالح المرسلة، وإن لم يشهد لنوعه أو جنسه القريب نص أو إجماع، إلّا أنه عند إرجاعه إلى المقاصد والمبادئ العامة للشريعة نجده لا يخرج عنها، بل يندرج فيها. وعن هذا المعنى للمناسب المرسل يقول الغزالي: "والصحيح أن الإستدلال المرسل في الشرع لا يُتَصَوَّر حتى نتكلم فيه بنفي أو إثبات؛ إذْ الوقائع لا حصر لها، وكذا ¬

_ (¬1) انظر حسان، حسين حامد: نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي، (القاهرة: مكتبة المتنبي، 1981 م)، ص 15 - 19. (¬2) انظر حسان، حسين حامد: نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي، ص 17.

المصالح، وما من مسألة تفرض إلّا وفي الشرع دليل عليها، إما بالقبول أو بالرد". (¬1) وبعد أن استعرض نماذج مما اعتُبِر من المصلحة المرسلة، خلص إلى القول: "فقد تبيّن أن كلّ مصلحة مرسلة فلا بُدّ أن تشهد أصول الشريعة لردها أو قبولها". (¬2) الإتجاه الثاني: أن المناسب المرسل هو المصلخة التي اعتبر الشارع جنسها، كما فعل الصحابة في إعطاء الشارب حدّ القاذف؛ لأن الشرب مظنة القذف فأقاموا مظنة القذف مقام القذف بناءً على ما عُهِد من الشارع في إقامة مظنة الشيء مكن الشيء نفسه، فهو مناسب شهد الشارع لجنسه. (¬3) وبناءً على ذلك يحون الإرسال الموصوف به هذا النوع من المناسب ليس معناه الإرسال الحقيقي والخلو التام عن أيّ شاهد بالاعتبار أو الإلغاء، وإنما المقصود عدم وجود أصل تتوفر فيه جميع شروط الأصل المقيس عليه ليقاس عليه، فمن تلك الجهة سُمي مرسلاً؛ أي لعدم وجود أصل يضبطه. وعلى هذا يكون المناسب المرسل هو الذي لم يشهد له أصل معين، لكنه يشهد له أصل كلي، وهو تعريف الشاطبي، حيث عرَّفه بقوله: "أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في الجملة بغير دليل معين". (¬4) وقال عنه في الموافقات: "كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين، وكان ملائماً لتصرفات الشرع، ومأخوذا معناه من أدلته، فهو صحيح يُبْنَى عليه، ويرجع إليه إذا كان ذلك الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعاً به ... ويدخل تحت هذا الضرب الإستدلال المرسل الذي اعتبره مالك والشافي، فإنه وإن لم يشهد للفرع أصل معين، فقد شهد له أصل كلي، والأصل الكلي إذا كان قطعياً قد يساوي الأصل المعين، وقد يربى عليه بحسب قوة الأصل المعين وضعفه ... ". (¬5) ¬

_ (¬1) الغزالي، أبو حامد: المنخول من تعليقات الأصول، تحقيق محمد حسن هيتو، (دمشق: دار الفكر، ط 2، 1400 هـ / 1980 م)، ص 359. (¬2) المصدر السابق، ص 363. (¬3) انظر الغزالي: المستصفى، ج 1، ص 221. (¬4) الشاطبي: الإعتصام، ج 2، ص 354. (¬5) الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 1، ص 27، وانظر أيضا قول الغزالي: "وكون هذه المعاني مقصودة عرفت لا بدليل واحد، بل بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال وتفاريق الأمارات تسمى لذلك مصلحة مرسلة". المستصفى، ج 1، ص 222.

وبذلك يتبيّن أن مجرّد المناسبة (أي تلتي العقل السليم بالقبول لمصحلة من المصالح) وحدها لا تحني في عدِّ مصلحة من المصالح مقصداً من مقاصد الشارع المعتبرة، كما أنه لم يكتفِ الأصوليون بالمناسبة وحدها في الحكم على وصف من الأوصاف بكونه العلة، وإنما لا بُدّ أن ينضاف إلى المناسبة شهادةُ الشرع شهادةً خاصة بدلالة النص أو الإجماع على قبولها أو بملاءمتها لأحكام الشارع، أو شهادة عامةً بأن يشهد لجنسها -ولو العالي- شاهد من الشرع. (¬1) وما اشترطه الغزالي ومن تبعه في المصلحة المرسلة حتى تكون معتبرة من كونها ضرورية كليّة قطعيّة، (¬2) إنما هو محاولة لضبط باب المصالح حتى لا ينسب كلُّ مدَّعٍ ما شاء مما يظنه مصلحة إلى الشارع الحكيم. (¬3) وهي في الحقيقة لا يمكن اعتبارها شروطاً للمصلحة المرسلة، وإنما هي شروط لِتَحَقُّقِ معنى الضرورة التي يبطل بها الحظر طبقاً للقاعدة الفقهية "الضرورات تبيح المحظورات"، فالمصلحة التي ينبغي تقييدها بهذه الشروط هي المصلحة التي ورد ما يعارضها في الشرع أو التي لم تَجْرِ لها وفق معهود الشرع في تشريعه، ومع ذلك اضطر الناس إليها أو مسّت حاجتهم إليها فعند ذلك يُشترط فيها لتقديمها على النص ما اشترطه الغزالي من كونها عامة وكليّة وضرورية، وعندئذ لا تصير من باب تقديم المصلحة على النص، وإنما من باب "الضرورات تبيح المحظورات". ويتضح هذا من خلال المثال الذي مثّل به الغزالي لهذا النوع من المرسل، وهو مثال تَتَرُّسِ الكفار بمجموعة من المسلمين، حيث لا يمكن دفع الكفار إلّا بقتل المسلمين المتتَرَّس بهم. (¬4) فقتل المسلمين في أصله حرام ودفع الكفار حال الخوف من تسلطهم على المسلمين واجب، ومصلحة دفع الكفار يترتب عليها ارتكاب محرَّم -بل كبيرة من الكبائر- وهو قتل نفوس مؤمنة، فلذلك احتيج في مثل هذه المصلحة ¬

_ (¬1) انظر الشاطبي: الإعتصام، ج 2، ص 352؛ الغزالي: المستصفى، ج 2، ص 135. (¬2) انظر الغزالي: المستصفى، ج 1، ص 218. (¬3) انظر الغزالي: المستصفى، ج 1، ص 216. (¬4) انظر المصدر السابق، ج 1، ص 218، 222.

إلى الشروط المذكورة. أما إذا كان المرسل بمعنى الذي يشهد لجنسه -ولو العالي- شاهد من مقاصد الشرع ومبادئه العامة وليس فيه ارتكاب محرّم ولا معارضة معتبرة لنص شرعي، فلا معنى عند ذلك لحصره في الضروريات فقط، أو في الضروريات والحاجيات، ما دامت هذه المصلحة من باب المعاملات القائمة على التعليل، ولم يرد ما ينقضها أو يعارضها في الشرع، بل يمكن أن تتعدى إلى التحسينيات أيضا، ولا يشترط فيها أن تكون كليّة ولا عامّة. ويتضح هذا في مثال اتخاذ الدواوين وجمع القرآن الكريم -وهما مثالان لما عمل به الصحابة من المصالح المرسلة- فمصلحة اتخاذ الدواوين لا يترتب على الأخذ بها أية مخالفة للنصوص الشرعية أو ارتكاب لمحظور بل هي من باب النفع المحض، وكذلك الأمر في الجمع الأول للقرآن الكريم، ومن ثَمّ لا يُشترط في مثل هذه المصلحة أن تكون كلية عامة ضرورية أو حاجية، فللناس أن يتخذوا من وسائل جلب النفع ودفع الضرر ما شاءوا وفي جميع مجالات الحياة بما فيها التحسينيات مادامت لا تؤدي إلى أي محظور فإذا تبين أنها تؤدي إلى محظور أو تخرم مقاصد الشريعة وقواعدها العامة احتيج عند ذلك إلى ضبطها بالضوابط التي ذكرها الغزالي. ومن هنا يتضح أن ما اصطلح عليه باسم المصلحة المرسلة في معناه العام تنقسم إلى قسمين: 1 - ما كان مصادماً لنص أو قاعدة شرعية عامة، أو لم يَجْرِ على وفق مقاصد الشريعة، فهذه تُعدّ في حقيقتها من باب المناسب الملغي وتخضع لشروط الضرورة، وقواعد التعارض والترجيح. وليست كلّ مصلحة عارضت نصا فهي ملغاة، وإنما التي يُقْطَع بإلغائها هي التي تعارض نصّاً بمعناه الأصولي، أي الذي لا يحتمل التأويل -سواء كان التأويل بصرفه عن ظاهره، أو بتخصيصه، أو بتقييده- أما إذا كانت المصلحة لها شاهد من الشرع وعارضت ظاهراً يحتمل التخصيص أو التقييد فإنها تكون محلّ نظر واجتهاد. فإذا

كانت المصلحة المعارضة للظاهر من نوع المناسب المؤثر أو الملائم المعمول بهما اتفاقاً فإنها لا تردّ مباشرة، وإنما تخضع للقواعد الشرعية في الجمع والترجيح كما هو الحال عند تعارض نص ظني مع قياس صحيح. (¬1) ولذلك نجد أن الغزالي قد قيّد المصلحة الملغاة بأنها "ما يصادم في محلٍّ نصّاً للشرع فيتضمن اتباعُهُ تَغْيِيرَ الشرع، فهو باطل عندنا". (¬2) فالمصلحة المتفق على إلغائها لا تعارض فقط ظاهر نص من النصوص، بل تعارضه بوجه يؤدي العملُ بها إلى إلغاء النص وتغيير الشرع. 2 - ما لم يكن مصادماً للنصوص والقواعد الشرعية العامّة، ولم يكن في باب التعبدات التي ثبت أن الشارع قاصد إلى الإكتفاء فيها بما شرع من غير زيادة عليه ولا إنقاص منه، فللناس أن يتخذوا منه ما شاءوا من غير قيد. وما دام قد ثبت أن المقصد الأعلى للشريعة هو المحافظة على مصالح الخلق بدفع المفاسد وجلب المصالح، فإن المصلحة التي تتلقاها العقول بالقبول ويشهد لنوعها أو جنسها شاهد من الشرع أو على الأقل لا تثبت مخالفتها لنصوص الشريعة وقواعدها العامة ومقاصدها المستخرجة من تلك النصوص تُعدّ مقصداً شرعيا. ومع القول بأن المناسبة يمحن أن تدلّ على أن المناسب الذي توفرت فيه الشروط المذكورة مقصدُ من مقاصد الشارع، إلّا أن الشاطبي يرى أن طريق المناسب المرسل لا يصح أن يُستنبط من بابه شيءُ من المقاصد الدينية التي ليست بوسائل. (¬3) ومعنى ذلك أن المقاصد الأساسية للشرع تثبت بالنص عليها - سواء كان النص صريحاً أو بأن قشهد لجنسها نصوص الشارع وما يستنبط منها من قواعد عامّة- أما ما يمكن إثباته بطريق المناسبة فهو المقاصد التبعيّة التي تكون خادمة للمقاصد الأصلية أو وسيلة إليها، ولا تعارض بين قسميتها وسائل واعتبارها مقاصد، فهي ¬

_ (¬1) انظر في تفصيل تعارض المصلحة مع النصوص الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية: البوطي، محمد سعيد رمضان: ضوابط المصلحة في الشريعة الإِسلامية، (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 4، 1402 هـ / 1982 م)، ص 131 - 133، 139، 200 - 201. (¬2) الغزالي: شفاء الغليل في مسالك التعليل، ص 210. (¬3) الشاطبي: الإعتصام، ج 2، ص 367.

وسيلة بالنسبة إلى ما فوقها من مقاصد، وهي في الوقت ذات 5 مقاصد في نفسها أو بالنسبة إلى ما هو دونها. وقد ثبت أن ما لا تتحقق المقاصد الأصلية إلّا به وكان مناسباً لم يثبت إلغاؤه فالشارع قاصد إلى تحصيله، فيصير في ذاته مقصداً شرعيا. (¬1) ورأي الشاطبي هذا هو الذي يشهد له الواقع؛ ذلك أن المقاصد الأساسية للدين تمثل القواعد التي يُبنى عليها الدين والضوابط التي تضبطه وتحدِّد حدوده، ومثل هذا لا يصح أن يثبت بالمناسب المرسل؛ لأن المناسب المرسل لا يثبت في ذاته إلّا بشهادة تلك الأصول، فهو فرع عنها ولا يمكن أن يصير أصلاً لها، وإنما يثبتُ مثلُ هذه المقاصد بالنصوص الشرعية والإجماع. ¬

_ (¬1) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 300 - 301.

الفصل الخامس سكوت الشارع ودلالته على مقاصده

الفَصْلُ الخَامَسِ سكوت الشارع ودلالته على مقاصده المبحث الأول أنواع سكوت الشارع تحتاج معرفة دلالة سكوت الشارع الحكيم على مقاصده إلى معرفة القرائن المصاحبة لصدور الأمر المسكوت عنه؛ إذْ إن سكوت الشارع عن الحكم في أمر من الأمور قد يكون مع توفر الدواعي إلى معرفة ذلك الحكم، وقد يكون لعدم توفر الدواعي إلى ذلك، وقد يكون لمانع. والمسكوت عنه قد يكون واقعة -قولاً كانت أو فعلاً- وقعت أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - فسكت عن الإنكار، أو واقعة وقعت في غيبته ثُمّ نُقلت إليه، أو سؤالاً يحتاج إلى جواب ولم يجب عنه، أو تصرفاً انتشر العمل به في زمن التشريع ولم يصدر فيه حكم، أو أمراً لم يظهر في زمن التشريع وسكت الشرع عن إعطاء حكم فيه. وبناءً على ما سبق يمكن تقسيم سكوت الشارع إلى ثلاثة أقسام أساسية، هي: 1 - سكوت الشارع مع توفر الدواعي لإصدار الحكم. 2 - سكوت الشارع عند عدم توفر الدواعي لإصدار الحكم. 3 - سكوت الشارع لمانع. وفيما يأتي تفصيلها، وبيان دلالة سكوت الشارع في كل حال من تلك الأحوال. أولاً: السكوت مع توفر الدواعي: وهو ما يصطلح عليه بالترك الوجودي، وهو أن يقع الشيء ويوجد المقتضي له، ولا يصدر عن الشارع (سواء عن طريق الوحي أوعن طريق سنّة النبي - صلى الله عليه وسلم -) قولُ ولا فعلُ لبيان حكمه. وهو إما سكوتُ عن قول أو فعل وقع في حضور النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو في

غيبته ونُقِل إليه فسكت عنه، أو سكوتُ عن تعامل شائع بين الناس في بيئته - صلى الله عليه وسلم - مع تحقق علمه به، أو ترك الإستفصال في حكايات الأحوال. أ - السكوت عن قول أو فعل وقع في حضور النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو في غيبته ونقل إليه: وهو المصطلح عليه عند الأصوليين والمحدثين بالإقرار وهو: "أن يسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إنكار قول أو فعل قِيل أو فُعل بين يديه، أو في عصره وعلم به". (¬1) ويكون الإقرار بالسكوت عن الإنكار، أو بالكف عن الفعل. (¬2) هل حجية الإقرار في ذات السكوت؟ لا تكمن حجّية الإقرار في مجرد السكوت عن الإنحار والكفّ عن التغيير إذْ الإقرار لا يعني دائماً الرّضا بالأمر المُقَرِّ وإنما ينظر فيه: فإن تضمن هذا الإقرار الرضا والموافقة فهو إقرار يُحتجّ به، وإن لم يتضمن ذلك فهو غير مُعتدّ به. فالضابط -إذاً- ليس هو مجرد السكوت، وإنما ما يحفّ به من قرائن الحال، ولذلك اشترط الأصوليون لحجية الإقرار شروطاً خلاصتها: 1 - أن يتأكّد علمُ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفعل، سواء حصل العلم بسماعه أو مشاهدته مباشرة، أو نُقِل إليه نقلاً. (¬3) ومثال الأول إقرار خالد بن الوليد على أكل الضب، ففي صحيح البخاري عَنْ عَبْدِالله بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِي الله عَنْهمَا - عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بَيْتَ مَيْمُونَةَ فَأُتِيَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ (¬4) فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِهِ، فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ: أَخْبِرُوا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ فَقَالُوا: هُوَ ضَبُّ يا رَسُولَ الله، فَرَفَعَ ¬

_ (¬1) الزركشي: البحر الحيط، ج 4، ص 201. (¬2) الأشقر، محمد سليمان: أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودلالتها على الأحكام، (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 5، 141 هـ/ 1996 م)، ج 2، ص 90. (¬3) انظر الزركشي: البحر المحيط، ج 4، ص 202 - 203. (¬4) محنوذ بمعنى مشوي. انظر الرازي: مختار الصحاح، ص 90.

يَدَهُ. فَقُلْتُ: أَحَرَامُ هُوَ يا رَسُولَ الله؟ فَقَالَ: "لا، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ". قَالَ خَالِدُ: فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ وَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَنْظُرُ". (¬1) ومثال الثاني ما نُقِل إليه من خبر اختلاف الصحابة - رضي الله عنهم -في تأخير صلاة العصر يوم بني قريظة فأقرّ الفريقين على اجتهادهم في فهم خطابه - صلى الله عليه وسلم -. فقد أخرج البخاري عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِي الله عَنْهمَا - قَالَ: قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الأَحْزَابِ: "لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُ الْعَصْرَ إِلاّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ". فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمُ الْعَصْرَ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي لَمْ يُرِدْ مِنَّا ذَلِكَ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ". (¬2) 2 - أن يكون الشخص الذي أُقِرّ على الفعل مسلماً منقاداً للشرع، أما إذا كان كافراً أو منافقاً معلوم النفاق -كما هو الحال في عبد الله بن أبيّ بن سلول- فإن إقراره على الفعل لا يُعدّ إباحة لذلك الفعل أو رضاً به، وذلك كإقراره - صلى الله عليه وسلم - أهل الكتاب -وأهل الذمة عموماً- على معاملاتهم وشعائرهم وعقائدهم، وسكوته - صلى الله عليه وسلم - عن بعض ما فعله عبد الله ابن أبيّ بن سلول. فمثل هذا السكوت لا يُعدّ إقراراً ولا حُجّة على جواز تلك الأفعال لِمَا صاحَبَه من قرائنَ تدلّ على عدم الرضا به، ولكونه إحالة على ما هو معلوم من تشريعات في تلك الأفعال وأمثالها. (¬3) 3 - "أن لا يكون قد عُلِمَ من حاله - صلى الله عليه وسلم - إنكاره لذلك الفعل قبل وقوعه وبعد وقوعه حتى يستقر ذلك شرعاً ثابتاً، وحكماً راسخاً لا يحتمل التغيير ولا النسخ". (¬4) 4 - أن لا يؤديّ الإنكارُ إلما إغراء الفاعل بشرّ مما هو عليه، وإلى أن يترتب عليه مفسدة أكبر من المصلحة التي ترجى من الإنكار. وهذا الشرط متفق عليه في حال كون المنكِر غير الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أما بالنسبة لذات ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، كتاب الذبائح والصيد والتسمية على الصيد، باب (33)، مج 3، ج 6، ص 586. (¬2) المصدر السابق، كتاب المغازي، باب (32)، مج 3، ج 5، ص 60 - 60. (¬3) انظر الزركشي: البحر المحيط، ج 4، ص 204. (¬4) الأشقر: أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ج 2، ص 109؛ وانظر الزركشي: البحر المحيط، ج 4، ص 204.

الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد اختُلِف فيه؛ فنُسِبَ إلى المعتزلة القول به، ونُسِبَ إلى الأشعرية منعه في حقه - صلى الله عليه وسلم - بحجة أن إنكاره ضروري لإزالة توهّم الإباحة بوصفه مشرعاً يشرِّعُ بالسكوتِ والتَّرْكِ كما يشرِّع بالقول والفعل. (¬1) وهذا الأخير هو الراجح، ودليلُ رجحانه التفريق بين مقامي الإنكار والتغيير فالإنكار- بِبَيَانِ حُكْمِ الفعل- ضروريّ ليُعرَف حكمُ الشرعِ فيه، ولا يمكن أن يسكت عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأيّ حال، أما تغيير المنكر بتطبيق الحكم الشرعي فيمكن التخلي عنه إذا كان يؤدي إلى مفسدة أعظم، كما حديث في عدم معاقبة النبي - صلى الله عليه وسلم - لرأس النفاق عبد الله ابن أبي بن سلول على نفاقه وعلى كثير من جرائمه، فلم يكن ذلك إقراراً منه - صلى الله عليه وسلم - لأفعاله، بل قد ظهر منه إنكارها، ولم يشكّ أحد في ذلك، ولكنه لم ينفذ العقوبات المستحَقّة عليه دفعاً للمفاسد التي قد تترتب على ذلك. والخلاصة أن الإقرار إنما يُعدّ حجة دالّة على الجواز إذا تضمن الرضا ولم يوجد مانع معتبر يمنع من الإنكار والتغيير فإذا وُجِد مانع صحيح من البيان بالقول أو الفعل، أو تبيّن عدم تضمنه الرضا من الشارع الحكيم لم يُعدّ السكوت حُجَّة، ولا دالاًّ على أن قصد الشارع تشريع الأمر المقرّ عليه. ب - السكوت عن تعامل شائع بين الناس: وهو أن يسكت الشارع- سواء كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو الوحي- عن أمر شائع بين الناس ومعاين من قول أو فعل. ويكون عدم الإنكار عليه وبيان فساده دالاًّ على رضا الشارع عنه. وذلك مثل ما كان شائعاً بين الناس في زمن الرسالة من معاملات، ومآكل ومشارب، وملابس، كانوا يستديمون مباشرتها؛ ذلك أنما الشارع لا يمكن أن يسكت عن منكر محظور ويقرّ الناس عليه، لأن وظيفة الشارع هي البيان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ ¬

_ (¬1) انظر المحلي: شرح متن جمع الجوامع، ج 2، ص 95 - 96؛ الزركشي: البحر المحيط، ج 4، ص 204.

الْمُنْكَرِ} [الأعراف:157]. (¬1) ومن هنا يكون هذا النوع من السكوت دليلاً على الإباحة الأصلية، وربما عُدّ نوعاً من أنواع السنّة التقريرية. (¬2) والداعي إلى بيان الحُكْم في مثل هذا النوع من التصرفات هو انتشارها بين الناس ومن ثَمَ حاجتهم إلى معرفة حُكْم الشرع فيها. وإذا كان تأخُّرُ نزولِ حُكْمِ فعلٍ من الأفعال الشائعة بين الناس قد يكون أحياناً تدرجاً في التشريع -خاصة في العصر الأول للرسالة- كما حديث مع الخمر والربا ونكاح المتعة وغيرها، فإن استمرار سكوت الشارع عن ذلك إلى انقضاء عصر الرسالة يُفسَّر بكون الشارع قاصداً إلى إقرار ذلك الفعل. وقد عَدّ الأصوليون من أنواع بيان الضرورة البيانُ بدلالة حال الساكت الذي وظيفته البيان. (¬3) وفي هذا النوع من التصرفات يقول الإمام الشاطي: " ... أن تكون مظنة العمل به موجودة في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يشرع له أمر زائد على ما مضى فيه، فلا سبيل إلى مخالفته؛ لأن تركهم لما عمل به هؤلاء (أي الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته) مضاد له، فمن استلحقه صار مخالفاً للسنّة". (¬4) وقد فهم جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - من هذا النوع من السكوت دلالته على الإباحة، فاستدل به على جواز العزل، حيث إنهم كانوا يعزلون والوحي ينزل ومع ذلك لم يَرِدْ تحريمه، فدلّ على أن سكوت الشارع عنه دليل على كونه قاصداً إلى إباحته. أخرج مسلم عَنْ جَابِرٍ قَالَ: "كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ". زَادَ إِسْحاقُ قَالَ سُفْيَانُ: لَوْ كاَنَ شَيْئًا يُنْهَى عَنْهُ لَنَهَانَا عَنْهُ الْقُرْآنُ". (¬5) ¬

_ (¬1) انظر السرخسي: أصول السرخسي، ج 2، ص 50، عبد العزيز البخاري: كشف الأسرار، ج 3، ص 287. (¬2) انظر الزركشي: البحر المحيط، ج 4، ص 206 - 207. (¬3) انظر عبد العزيز البخاري: كشف الأسرار، ج 3، ص 287 وما بعدها؛ والسرخسي: أصول السرخسي، ج 2، ص 50. (¬4) الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 54. (¬5) صحيح مسلم، كتاب النكاح، باب (22)، ج 2، ص 1065، (1440) (136).

وعَنْ جَابِرٍ قَالَ: "كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَبَلَغَ ذَلِكَ نَبِيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يَنْهَنَا". (¬1) وقد يُخْتَلَفُ في اندراج بعض أنواع السكوت تحت هذا الباب، كما هو الحال في زكاة الخضراوات؛ فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بيّن الأصناف التي تجب فيها الزكاة من الزروع والثمار، وسكت عن الخضراوات مع انتشارها ووجود الداعي لبيان حُكْمها. فهل تُعدّ من هذا النوع من المسكوت عنه، فيكون السكوت عنها دليلاً على عدم وجوب الزكاة فيها؟ أم أنها لا تندرج تحت هذا النوع؟ بل هي من باب السكوتِ إحالةً على ما ورد في ما تجب فيه الزكاة من نصوص عامة فيكون السكوت فيها من باب السكوت لعدم توفر الداعي، وتأخذ حكم الزروع والثمار الأخرى وفقاً لعلّة إيجاب الزكاة فيها. وسيأتي مزيد تفصيل في هذه المسألة عند الحديث عن مسألة: هل السكوت عن النقل ينزّل منزلة نقل السكوت؟ ج - ترك الإستفصال في حكايات الأحوال: ويندرج لم تحت هذا مسألتان: 1 - إذا حكم الشارع في مسألة -ذات جزئيات تحتمل الوقوع على أكثر من وجه- بحكم مطلق من غير استفصال عن تلك الجزئيات ولا عن الجهة التي وقعت عليها فهل يُعدّ ذلك تعميماً من الشارع للحكم حتى يشمل كل الجزئيات والوجوه المحتملة؟ أم أنه لا يدلّ بذاته على عموم الحكم؟ فيُقْصَر على الجزئيات التي ورد بشأنها، ولا يتعدّى إلى ما يشمله عموم ذلك الدليل إلّا بدليل آخر. ذهب بعض الفقهاء وعلى رأسهم الإمام الشافعي إلى القول بأن ترك الإستفصال في حكايات الأحوال ينزل منزلة العموم في المقال. (¬2) واعترض الجويني على إطلاق هذه القاعدة بأن ما اعتُبِر تركاً للإستفصال غير مُسَلَّم، إذْ قد يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - عالماً ¬

_ (¬1) المصدر السابق، كتاب النكاح، باب (22)، ج 2، ص 1065 (1440) (138). (¬2) انظر القرافي، أحمد بن إدريس: الفروق، ضبطه وصححه خليل المنصور، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1418 هـ / 1998 م)، ج 2، ص 153 - 159؛ والجويني: البرهان، ج 1، ص 237.

بالتفاصيل فلم يحتج للسؤال عنها وأطلق جوابه بناءِ على ما عرف، من غير حاجة إلى ذكر ذلك للسائل، وذلك ما يجري عادة في الفتاوي، حيث يُطلِق المفتي جوابَه إذا علم بانطباقه على الحادثة المستفتى فيها. أما إذا تحققنا من استبهام الحال على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومع ذلك نجده أطلق جوابه فإن ذلك يحون دليلاً على جريان الحكم على التفاصيل والأحوال كلها. (¬1) ومثال ذلك ما روته أم سلمة - رضي الله عنها - في المستحاضة. فني الموطأ: عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ امْرَأَةً كانَتْ تُهَرَاقُ الدِّمَاءَ فِي عَهْدِ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَفْتَتْ لَهَا أُمُّ سَلَمَةَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "لِتَنْظُرْ إِلَى عَدَدِ اللَّيَالِي وَالأَيَّامَ الَّتِي كاَنَتْ تَحِيضُهُنَّ مِنَ الشَّهْرِ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهَا الَّذِي أَصَابَهَا فَلْتَتْرُكِ الصلاة قَدْرَ ذَلِكَ مِنَ الشَّهْرِ فَإِذَا خَلَّفَتْ ذَلِكَ فَلْتَغْتَسِلْ ثُمَّ لِتَسْتَثْفِرْ بِثَوْبٍ ثُمَّ لِتُصَلِّي". (¬2) فاستدل الحنفية بهذا الحديث على أن المستحاضة إذا كانت لها عادة معلومة فإنها ترجع إلى تلك العادة مطلقاً سواء كانت مميزة -تميز دم الحيض من غيره- أم لم تكن مميزة. (¬3) ووجه عدم تفريقهم بين المميزة وغير المميزة قاعدة ترك الإستفصال المذكورة آنفاً، إذْ إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفتاها باعتماد عادتها من غير استفصال عن حالها هل هي مميزة أم غير مميزة، فدلّ ذلك على استواء الحالين في الحكم. فحكمه من غير استفصال عن حال السائلة ينزل منزلة العموم لكلتا الحالين. وذهب الشافعية والمالكية والحنابلة إلى التفريق بين المميزة وغير المميزة. فَتَعْتَمِدُ المميزة على التفريق بين نوعي الدم، فتمسك عن الصلاة مدة خروج دم الحيض، فإذا انقطع وظهر دم الإستحاضة اغتسلت وباشرت الصلاة وغيرها من العبادات، أما ¬

_ (¬1) انظر الجويني: البرهان، ج 1، ص 237. (¬2) الموطأ، كتاب الطهارة، باب (29)، ج 1، ص 62. (¬3) انظر الكاساني، علاء الدين أبو بكر بن مسعود: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، (بيروت: دار الكتاب العربي، ط 2، 1402 هـ / 1982 م)، ج 1، ص 41 وما بعدها.

العادةُ فَتُعْتَمَدُ عند عدم التمييز (¬1) واستدلوا على ذلك بنفس القاعدة، حيث ورد في حديث فاطمة بنت أبي حبيش أنه - صلى الله عليه وسلم - استفصل عن الحال وفرق بينهما، ففي سنن النسائي عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ كَانَتْ تُسْتَحَاضُ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ دَمَ الْحَيْضِ دَمُ أَسْوَدُ يُعْرَفُ فَإِذَا كاَنَ ذَلِكَ فَأَمْسِكيِ عَنِ الصَّلاةِ، وَإِذَا كَانَ الآخَرُ فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي". (¬2) وبناءً على هذا التفريق فإن ما ورد في الحادثة الأخرى من عدم الإستفصال يُحَالُ على هذه الرواية ولا ينزل منزلة العموم. 2 - إذا سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حكم واقعة، أو حدثت أمامه فبيّن بعض أحكامها وسكت عن أخرى، هل يدلّ سكوته عن تلك الأحكام على انتفائها؟ مثال ذلك حديث البخاري أَنَّ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ كاَنَ يَقُولُ: لَيْتَنِي أَرَى رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ, قَالَ: فَبَيْنَا النبي - صلى الله عليه وسلم - بِالْجِعْرَانَةِ (¬3) وَعَلَيْهِ ثَوْبُ قَدْ أُظِلَّ بِهِ مَعَهُ فِيهِ نَاسُ مِنْ أَصْحَابِهِ إِذْ جَاءَهُ أَعْرَابِيُّ عَلَيْهِ جُبَّةُ مُتَضَمِّحُ بِطِيبٍ فَقَالَ: يا رَسُولَ الله كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِي جُبَّةٍ بَعْدَمَا تَضَمَّخَ بِالطِّيبِ؟ فَأَشَارَ عُمَرُ إِلَى يَعْلَى بِيَدِهِ أَنْ تَعَالَ فَجَاءَ يَعْلَى فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ فَإِذَا النبي - صلى الله عليه وسلم - مُحْمَرُّ الْوَجْهِ يَغِطُّ كَذَلِكَ سَاعَةً ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ: "أَيْنَ الَّذِي يَسْأَلُنِي عَنِ الْعُمْرَةِ آنِفًا؟ " فَالْتُمِسَ الرَّجُلُ فَأُتِيَ بِهِ. فَقَالَ: "أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا، ثُمَّ اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنعُ فَي حَجِّكَ". (¬4) ¬

_ (¬1) انظر الأنصاري، زكريا: حاشية الجمل على شرح المنهاج، (بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، د. ط، د. ت)، ج 1، ص 246 وما بعدها؛ البهوتي، منصور بن يونس إدريس: كشاف القناع عن متن الأقناع، راجعه وعلق عليه الشيخ هلال مصيلحي ومصطفى هلال، (بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1402 هـ / 1982 م)، ج 1، ص 196 وما بعدها؛ الخرشي، محمد: الخرشي على مختصر سيدي خليل وبهامشه حاشية الشيخ العدوي، (بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، د. ط، د. ت)، ج 1، ص 204 وما بعدها. (¬2) سنن النسائي، كتاب الحيض والإستحاضة، باب "الفرق بين دم الحيض ودم الإستحاضة"، ج 1، ص 185. (¬3) الجِعْرانة: بكسر الجيم وتسكين العين، ماء بين الطائف ومكة، وهي إلى مكة أقرب. ياقوت الحموي: معجم البلدان، ج 2، ص 142. (¬4) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب (32)، مج 3، ج 5، ص 123.

فأمره بنزع الجبة وغسل الطيب ولم يأمره بالكفارة؛ فهل سكوته عن الكفارة يدلّ على بقاء الحكم على الأصل، وهو أنه لا كفارة على الجاهل؟ أم أنه إنما سكت عن ذلك إحالةً على ما ورد من نصوص أخرى في وجوب الفدية على خرق محظورات الإحرام؟ ذهب المالكية والحنفية (¬1) إلى وجوب الكفارة بناءً على أن السكوتَ هنا إحالةُ على ما ورد من نصوص في حُكْم خرق محظورات الإحرام. وذهب الشافعية والحنابلة (¬2) إلى أن السكوت هنا دليل على عدم وجوب الفدية على الجاهل. واستدلوا على ذلك بأن الأعرابي الذي يجهل حرمة لبس الجبة والتطيب على المحرم حريّ به أن يكون جاهلاً بلزوم الفدية، ولا شك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان مدركاً لذلك، ومع ذلك سكت عن حكم الفدية فدلّ ذلك على عدم وجوبها. (¬3) المثال الثاني: قصة الرجل الذي وطئ زوجته في نهار رمضان فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتكفير وسكت عن حكم المرأة -حسب الروايات الواردة- فهل يدلّ ذلك على أنه لا كفارة على المرأة؟ أم أن سكوته ذلك إحالة على ما عُلِمَ من استواء الرجل والمرأة في أحكام كفارات الإفطار في رمضان؟ روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: جَاءَ رَجُلُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إِنَّ الأَخِرَ وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي رَمَضَانَ. فَقَالَ: "أَتَجِدُ مَا تُحَرِّرُ رَقَبَةً؟ " قَالَ: لا. قَالَ: "فَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ " قَالَ: لا. قَالَ: "أَفَتَجِدُ مَا تُطْعِمُ بهِ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ " قَالَ: لا. قَالَ: فَأُتِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعَرَقٍ فِيهِ تَمْرُ -وَهُوَ الزَّبِيلُ (¬4) - قَالَ: "أَطْعِمْ هَذَا عَنْكَ". قَالَ: عَلَى ¬

_ (¬1) انظر ابن عبد البر، أبو عمر يوسف: كتاب الكافي في فقه أهل الدينة المالكي، تحقيق محمد بن محمد أحيد ولد ماديك، (القاهرة: دار الهدى للطاعة، 1399 هـ / 1979 م)، ج 1، ص 337؛ الموصلي، عبد الله بن محمود بن مودود: الإختيار لتعليل المختار، (القاهرة: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، ط 2، 1370 هـ / 1951 م)، ج 1، ص 164. (¬2) انظر النووي، أبو شرف يحيى بن زكريا: روضة الطالبين وعمدة المفتين، (بيروت/ دمشق: المكتب الإِسلامي، ط 2، 1412 هـ/ 1991 م)، ج 1، ص 132؛ ابن قدامة، عبد الله بن أحمد بن محمد المقدسي: المغني، (القاهرة: مكتبة الجمهورية العربية/ مكتبة الكليات الأزهرية، د. ط، د. ت)، ج 3، ص 255. (¬3) انظر الزركشي: البحر المحيط، ج 4، ص 208، ابن قدامة: المغني، ج 3، ص 501. (¬4) الزبيل: القُفَّه أو الزنبيل. الرازي: مختار الصحاح، ص 137.

أَحْوَجَ مِنَّا؟ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ مِنَّا. قَالَ: "فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ". (¬1) فذهب الشافعية -في أظهر القولين (¬2) - ورواية عن أحمد (¬3) إلى اعتبار السكوت دليلاً على عدم وجوب الكفارة على المرأة، وذهب الجمهور (¬4) إلى خلاف ذلك بناءً على كون السائل عالماً بأحكام الدين، واستواء الرجال والنساء في أحكام المفطرات. (¬5) ودلالة السكوت في المثال الأخير أضعف منها في المثال الأول؛ لأن ظاهر الحديث الأول أن الأعرابي كان جاهلاً بحرمة فعله، والحكمُ أيضاً كان مجهولاً له ولغيره من المسلمين، بدليل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتظر نزول الحكم لإنشاء حكم للمسألة، فلو كانت عليه كفارة لأخبره بها حتى لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة، أما قصة الأعرابي الذي انتهك حرمة شهر رمضان فظاهرها يفيد أن الأعرابي كان عالماً بحرمة فعله؛ ففي بعض الروايات أنه جاء ينتف شعره، ويقول: هلكت وأهلكت، كما أن حكم فعله؟ ن معلوماً للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، إذْ أفتاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - مباشرة بما هو ثابت من حكمٍ في المسألة، فربما بيّن له - صلى الله عليه وسلم - حكمه هو، وأحاله على ذلك الحكم بالنسبة لزوجته، فما دام الجرم واحداً فالكفارة واحدة، خاصة وأنه لم يرد أن الرجل سأل عن حكم زوجته، فلا يكون عدم النص على حكم المرأة نصّاً على سقوط الكفارة عنها، إذْ يجوز أن يكون الجواب على قدر السؤال، والسؤال كان عن حكم الرجل وحده. ويستخلص من هذين المثالين التفريق بين كون المسكوت عنه قد تبيّن حكمه بدليل صحيح ويفترض في المستفتي أن يكون عالماً به، فلا يدلّ السكوت في هذه الحال على انتفاء الحكم عن المسكوت عنه، وأن يكون المسكوت عنه مما لم يرد فيه ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) انظر النووي: روضة الطالبين وعمدة المفتين، ج 2، ص 374. (¬3) انظر ابن قدامة: المغني، ج 3، ص 123. (¬4) انظر ابن جزي، محمد بن أحمد: قوانين الأحكام الشرعية ومسائل الفروع الفقهية، (بيروت: عالم الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، د. ط، د. ت)، ص 129؛ ابن قدامة: المغني، ج 3، ص 123؛ الموصلي: الإختيار لتعليل المختار، ج 1، ص 131. (¬5) انظر ابن قدامة: المغني، ج 3، ص 123.

حكم من قَبْلُ، أو مما يتردد حكمه، أو يلتبس على المستفتي فيمكن أن يكون السكوت عنه دليلاً على انتفائه. (¬1) ثانياً: السكوت مع عدم توفر الدواعي: ويندرج تحته: أ - السكوت عَمّا لم يقع في زمانه - صلى الله عليه وسلم - من حوادث، أو عَمّا وُجِدَ في بيئات أخرى غير بيئته ولم يطّلع عليه. ب - السكوت عَمّا عُلِمَ حكمهُ إحالة على ما هو معلوم من حكمه. أ - السكوت عَمّا لم يقع في زمانه - صلى الله عليه وسلم -أو عَمّا وُجِد في بيئة أخرى ولم يطّلع عليه: وهو الذي يصطلح عليه بالترك غير المقصود، وهو أن لا يفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلاً لعدم وجود دواعيه، بأن لا يكون موجوداً أصلاً في زمانه، وإنما حديث بعد زمان الرسالة، أو مما كان موجوداً في بيئات أخرى غير بيئته - صلى الله عليه وسلم - وثبت أنه لم يطّلع عليه. ومثل هذا الترك لا يدلّ على حكم أصلاً، إذْ هو عدم دليل لا استدلالُ بالترك والسكوت، فإذا وُجِدَت مظنة العمل به بعد انقضاء زمن التشريع احتاج الأمر إلى حُكْم جديد يلائم تصرفات الشارع في مثله. وهو الذي قال فيه الشاطبي عند حديثه عن أنواع المسكوت عنه: "أحدهما أن يسكت عنه لأنه لا داعية تقتضيه، ولا موجب يقدر لأجله؛ كالنوازل التي حدثت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنها لم تكن موجودة ثم سكت عنها مع وجودها، وإنما حدثت بعد ذلك، فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها وإجرائها على ما تقرر في كلياتها. وما أحدثه السلف الصالح راجع إلى هذا القسم، كجمع المصحف، وتدوين العلم، وتضمين الصناع، وما أشبه ذلك مما لم يَجْرِ له ذكر في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم تكن من نوازل زمانه، ولا عرض للعمل بها ¬

_ (¬1) انظر الزركشي: البحر الحيط، ج 4، ص 208؛ الأشقر: أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ج 2، ص 74 - 75.

موجب يقتضيها. فهذا القسم جارية فروعه على أصوله المقررة شرعاً بلا إشكال". (¬1) ومثال هذا ما أورده ابن تيمية في الردّ على المستدلين على عدم جواز دخول الحمامات بكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه من بعده لم يفعلوه، حيث يقول: "ليس لأحد أن يحتج على كراهة دخولها، أو عدم استحبابه بكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدخلها، ولا أبو بكر وعمر فإن هذا إنما يكون حجة لو امتنعوا من دخول الحمّام، وقصدوا اجتنابها، أو أمكنهم دخوطا فلم يدخلوها. وقد عُلِم أنه لم يكن في بلادهم حينئذ حمّام، فليس إضافة عدم الدخول إلى وجود مانع الكراهة أو عدم ما يقتضي الإستحباب بأولى من إضافته إلى فوات شرط الدخول، وهو القدرة والإمكان. "وهذا كما أن ما خلقه الله في سائر الأرض من القوت واللباس والمراكب والمساكن لم يكن كلّ نوع منه كان موجوداً في الحجاز فلم يأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - من كلّ نوع من أنواع الطعام: القوت والفاكهة، ولا لبس من كلّ نوع من أنواع اللباس. ثم إن من كان من المسلمين بأرض أخرى: كالشام، ومصر واليمن، وخراسان ... وغير ذلك عندهم أطعمة وثياب مجلوبة عندهم، أو مجلوبة من مكان آخر، فليس لهم أن يظنوا ترك الإنتفاع بذلك الطعام واللباس سنّة؛ لكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأكل مثله، ولم يلبس مثله؛ إذْ عدم الفعل إنما هو عدم دليل واحد من الأدلة الشرعية، وهو أضعف من القول باتفاق العلماء. وسائر الأدلة من أقواله: كأمره ونهيه وإذْنه، ومن قول الله تعالى هي أقوى وأكبر ولا يلزم من عدم دليل معين عدم سائر الأدلة الشرعية". (¬2) ب - السكوت عَمّا عُلِم حكمه إحالةً على النصوص الشرعية: إذا سكت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن فعل قد عُلِم حكمه بنص من الكتاب أو السنّة، فإن ¬

_ (¬1) الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 310. وقد نبّه الشاطبي إلى أن مثل هذه التشريعات الزائدة المبنية على المصالح المرسلة لا تدخل في التعبدات ألبتة، وإنما هي في التصرفات العادية، فقال: " ... وأيضا فالمصالح المرسلة -عند القائل بها- لا تدخل في العبدات ألبتة، وإنما هي راجعة إلى حفظ أصل الملة، وحياطة أهلها في تصرفاتهم العادية. ولذلك تجد مالكاً -وهو المسترسل في القول بالمصالح المرسلة- مشدداً في العبادات أن لا تقع إلّا على ما كانت عليه في الأولين". الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 54. (¬2) ابن تيمية: مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 21، ص 313 - 314.

مثل هذا السكوت لا يُعدّ إقراراً للفعل على الإطلاق، وإنما يُفَرَّقُ بين كون الفاعل مسلماً، أو غير مسلم: منافقاً كان أو كافراً. فإذا كان الفاعل مسلماً فإن سكوته - صلى الله عليه وسلم - يدلّ على الإباحةِ إن لم يسبق تحريمه، ونسخِ الحظر أو الوجوب السابق إن كان هناك واحد منهما. ودليل هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مأمور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيَبْعُدُ أن يكون سكوتُه إحالةً على ما هو معلوم من ححم ذلك الفعل من وجوب أو حظر؛ إذْ في ذلك إقرار للمنكر ولا يمكن أن يقع منه - صلى الله عليه وسلم - ذلك. ونسب إلى القاضي الباقلاني القول بأن السكوت لا يدلّ على الجواز ولا على النسخ؛ لأن السكوت وعدم الإنكار مُحْتَمِل، (¬1) فقد يكون سكوته - صلى الله عليه وسلم - لعلمه بأن الفاعل حديث عهد بالإسلام لم يبلغه التحريم بعد فلم يكن الفعل عليه إذْ ذاك حراماً، وقد يكون سكوته لأنه أنكر عليه من قَبْلُ فعاند ولم ينزجر فرأى - صلى الله عليه وسلم - أن تكرار الإنكار عليه غير مُجْدٍ. وما ذكره هؤلاء من احتمالات غير مؤسس، لأن احتمال عدم علم الفاعل بالتحريم لا يستدعي السكوت عليه، بل تبليغه وتعليمه، (¬2) وهي مهمة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، واحتمال كونه أنكر عليه من قَبْل فلم ينتهِ غير مُسَلَّم أيضاً؛ إذْ عدم الإنتهاء لا يستلزم ترك الإنكار والتذكير كيف والله تعالى يقول له: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)} [الذاريات: 55]. أما إذا كان الفاعل منافقاً معلوم النفاق، أو كافراً فإن سكوته - صلى الله عليه وسلم - لا يدلّ على إقرار الفعل وإنما هو إحالة على ما عُلِم من أحكام تلك الأفعال، كما وقع منه - صلى الله عليه وسلم - من إقرار أهل الكتاب على ممارسة عقائدهم وشعائرهم الشركيّة، فليس في ذلك إقرار لذات الأفعال وتصحيح لها، وإنما إحالة على ما ظهر واستفاض من أحكام الشريعة في تلك العقائد والشعائر فالسكوت عنها من باب عدم توفر داعي الإنكار (¬3) ومن هذا النوع من السكوت سكوتُ الشارع عما يفهم بمفهوم الموافقة، أو ¬

_ (¬1) انظر الزركشي: البحر المحيط، ج 4، ص 202. (¬2) انظر عبد العزيز البخاري: كشف الأسرار، ج 3، ص 287 - 288. (¬3) انظر عبد العزيز البخاري: كشف الأسرار، ج 3، ص 287

مفهوم المخالفة، فإنهما يُعدّان من أنواع المسكوت عنه، لكن إفادة كلٍّ منهما لمقتضاه لا تكون من جهة السكوت لذاته، وإنما لمدرك آخر هو إما اللغة أو القياس -على خلاف مشهور بين الأصوليين- في مفهوم الموافقة، وحكم عقلي في مفهوم المخالفة، هو ثبوت خلاف حكم الشيء لخلافه، فتخصيص شيء بالحكم يقتضي إثبات خلاف ذلك الحكم لخلاف ذلك الشيء، وإلاّ لم يكن لتخصيصه بالحكم فائدة، ويتم ذلك بشروط اشترطها القائلون بمفهوم المخالفة. (¬1) ثالثا: السكوت لمانع: ويكون ذلك في السكوت انتظاراً للوحي. (¬2) فإذا سأل سائل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مسألة ليس فيها حكم وسكت انتظاراً للوحي لبيان حُكْمِها فإن ذلك السكوت لا دلالة له على حكم، وإنما يؤخذ الحكم من موقفه بعد نزول الوحي. ومن أمثلة ذلك ما أخرجه الترمذي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ بِابْنَتَيْهَا مِنْ سَعْدٍ إِلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: يا رَسُولَ الله هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَكَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالاً وَلا تُنْكَحَانِ إِلاّ وَلَهُمَا مَالُ. قَالَ: "يَقْضِي الله فِي ذَلِكَ". فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ، فَبَعَثَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِلَى عَمِّهِمَا فَقَالَ: "أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ، وَأَعْطِ أُمَّهُمَا الثُّمُنَ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ". (¬3) ¬

_ (¬1) انظر الجويني: البرهان، ج 1، ص 301 - 311؛ الأمدي: الأحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 73 وما بعدها. (¬2) ذكر الأصولييون حالات أخرى أدخلوها تحت السكوت لمانع. انظر الزركشي: البحر المحيط، ج 4، ص 203؛ الأشقر: أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ج 2، ص 107. ولكنها عند التحقيق يتبين عدم دخولها في ذلك. (¬3) سنن الترمذي، أبواب الفرائض، باب (3)، ج 3، ص 280.

المبحث الثاني الفرق بين دلالة سكوت الشارع في العبادات وسكوته في المعاملات

المبحث الثاني الفرق بين دلالة سكوت الشارع في العبادات وسكوته في المعاملات لمّا كانت العبادات شعائر يُقصَد بها تعظيم الله تعالى والتعبّد له، كان له جلَّ شأنه أن يختار من الشعائر ما يشاء لِيَتَعَبَّدَنَا به، ولم يكن لأحد الحقُّ في أن ينشئ شيئاً من العبادات ليتقرب بها إلى الله تعالى، لأنه لا أحد يعلم الحِكْمة من اختياره جلّ شأنه عبادات بعينها دون غيرها، ومن ثَمّ لا يمكن أن يُعبَد إلّا بما شرع. أما المعاملات فهي الوسائل والتدابير التي يتخذها البشر لتسيير شؤونهم الحياتية، وتلبية رغباتهم واحتياجاتهم الفردية والجماعية، ولذلك تكون واسعة ومتشعبة سعة وتشعب حاجات الفرد والمجتمع، وتتجدد بتجدد مطالب الناس الفردية والجماعية، وتتطور بتطورها، وتتسع باتساعها. ولما كان الإنسان -بما وهبه الله تعالى من وسائل الإدراك والتفكير- أهلاً للتصرف فيها إنشاءً وتطويراً فقد أَوْ كَلَهَا الله تعالى إليه، واكتفت الشرائع في ذلك بتوجيه الإنسان وتقويمه. وبناءً على ما سبق كانت القاعدة: أن الشريعة تأتي مُنْشِئَةً في العبادات، في حين تأتي ضابطةً ومقنِّنةً للمعاملات. وصفة الإنشاءِ الأمرُ (إيجاباً وندباً)، أما صفةُ الضبطِ والتقنينِ فهي النهيُ (تحريماً وكراهةً)، ولذلك نجد الشعائر التعبديّة إما واجبة أو مستحبة، في حين لا نجد في المعاملات واجبات إلّا على الجملة، أي أن تكون المعاملات واجبة بالكلية من حيث يجب القيام بها لإقامة المجتمع وحفظه، ولا تكون واجبة على الأعيان إلّا في حالات الضرورة حيث يؤدي إهمالها إلى إهدار كُلِّيٍّ من الكليات الخمس، وإنما نجد أكثر الأحكام الشرعية الواردة في المعاملات من باب النواهي، سواء كان ذلك على وجه التحريم أو الكراهة. فإذا تأملت -مثلاً- أحكام البيوع لا تجد شيئاً اسمه البيوع الواجبة أو المستحبة، في حين تجد البيوع المحرمة، والمكروهة، والفاسدة، والباطلة؛ ذلك أن المعاملات بما فيها من نفع عاجل للإنسان، وبما فيها من إشباع لشهوات النفس ورغباتها تجعل الإنسان ميَّالاً إلى القيام بها والتوسع فيها بما قد يدفعه إلى

تخطي الحدود المشروعة والوصول إلى الإضرار بنفسه أو بالآخرين، فتأتي الشريعة لتكبح من جماحه، وتخفف من غلواء شهواته، فتضع الضوابط التي ينبغي على الإنسان أن ينضبط بها، والحدود التي لا يحلّ له أن يتخطاها. لذلك فإنما سكوت الشارع في مجال المعاملات لا يُعدّ قصداً إلى منع الزيادة على الواقع أو الإنقاص منه، إذْ إن قصد الشارع في هذا المجال ليس هو الإقتصار على ما كان موجوداً من معاملات، وإنما هو قاصد بالدرجة الأولى إلى ضبط وتقنين معاملات الناس بما يوافق أحكام الشريعة ومقاصدها، في حين يُعدّ سكوت الشارع في العبادات دليلاً على قصده إلى عدم الزيادة على ما شرعه أو النقصان منه، فيكون الأصل في العبادات الإكتفاء بما شرعه الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهو المعنيّ بقول الرسو - صلى الله عليه وسلم - "وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بدْعَةٌ وَكُلُّ بدْعَةٍ ضَلاَلَةُ وَكُلُّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ". (¬1) هل السكوت وحده دليل التوقيف في العبادات؟ وبناءً على ما سبق يتبيّن عند التحقيق أن سبب عدم جواز الزيادة على ما شُرِع من العبادات أو الإنقاص منه ليس هو سكوت الشارع لوحده، وإنما هو ما يبنى عليه ذلك السكوت من أن الأصل في العبادات التوقيف وأن الشارع قاصد إلى التفرّد بالتشريع فيها، ومنع أي إنشاء أو ابتداع من قِبل خلقه. فبناءً على هذا الأصل يتقرر كون سكوت الشارع دليلاً على الإكتفاء بما شرعه. ويرى الشاطبي أن العمل في المسكوت عنه في الأمور العبادية هو الإقتصار على ما ورد في زمن التشريع من غير زيادة حتى وإن كان إطلاق الأدلة لا ينفيها، لأن إطلاق تلك الأدلة يتقيد بالعمل، أي عمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعمل الصحابة والسلف ¬

_ (¬1) انظر الشاطبي: الإعتصام، ج 1، ص 52. روى النسائي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله قَالَ كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: يَحْمَدُ الله وَيُثْنِي عَلَيهِ بمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ يَقُولُ: "مَنْ يَهْدِهِ الله فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَن يُضْلِلْهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ. إِنَّ أصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ الله. وَأحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ. وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةْ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ وَكُلُّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ. ثُمَّ يَقُولُ: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ". سنن النساني، كتاب صلاة العيدين، باب الخطبة، ج 3، ص 188 - 189.

الصالح، فاقتصار عملهم على بعض ما تشمله تلك الأدلة يُعَدّ تقييداً لإطلاقها، ورفع ذلك التقييد يحتاج إلى دليل في إعمال الوجه الجديد. ويكون العمل على الوجه الذي لم يَجْرِ به عمل الرسول - صلى الله عليه وسلم -أو السلف الصالح من قبيل المعارض لما مضى عليه عملهم، وفي ذلك يقول: "فالحاصل أن الأمر أو الإذْن إذا وقع على أمر له دليل مطلق، فرأيت الأولين قد عنوا به على وجه واستمر عليه عملهم، فلا حجة فيه على العمل على وجه آخر بل هو مفتقر إلى دليل يتبعه في إعمال ذلك الوجه" (¬1) ¬

_ (¬1) الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 55.

المبحث الثالث علاقة سكوت الشارع بمرتبة العفو

المبحث الثالث علاقة سكوت الشارع بمرتبة العفو مرتبة العفو -على رأي القائلين بها- هي مرتبة تقع بين الحلال والحرام، والدليل على وجودها ما ورد في القرآن الكريم من نهي الصحابة - رضي الله عنهم - عن سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - عما سكت عنه الشرع في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، ونهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً عن ذلك فيما رواه الدارقطني عَنْ أَبي ثَعْلَبَةَ الخُشَني - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَحَدَّ حُدُوداً فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ، فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا". (¬1) وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: كانَ رَسُولث الله - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ، فَقَالَ: "يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الله تَعَالى فَرَضَ عَلَيْكُم الحَجَّ"، فَقَامَ رَجُلُ فَقَالَ: أَفِي كُلِّ عَامٍ يا رَسُولَ الله؟ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَجَعَلَ يُعْرضُ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: "لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ مَا قُمْتُمْ بِهَا"، ثُمَّ قَالَ: "دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ سُؤَالُهُمْ وَاخْتِلاَفُهُم عَلَى أَنْبِيَائِهِم، فَإِذَا أَمَرْتُكُم بِأَمْرٍ فَأْتُوهُ مَا اسْتَطَعْتُم، وَإِذَا نَهَيْتُكُم عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوه". (¬2) فظاهر هذه النصوص أن هناك أشياء سكت عنها الشارع من غير نسيان لها، وإنما رحمة بالناس، فهي عفو باقية على الإباحة الأصلية. ويتبيّن من هذا أن سكوت الشارع عن ذكر أحكام بعض الأشياء إنما هو عفو عنها، وليس غفلة عن حكمها. وقد قسم الشاطبي مرتبة العفو إلى ثلاثة أقسام: 1 - العمل بمقتضى أحد الدليلين المتعارضين وإن قوي المعارِض، وذلك في الحالات الآتية: (¬3) ¬

_ (¬1) الدارقظني: سنن الدارقطني، تحقيق السيد عبد الله هاشم يماني المدني، (القاهرة: دار المحاسن للطباعة، 1386 هـ/ 1966 م)، ج 4، ص 183 - 184. (¬2) رواه الدارقطني: سنن الدارقطني، كتاب الحج، ج 2، ص 281. (¬3) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 1، ص 117 - 119، 120 - 120.

- عند عدم إمكان الجمع بينهما، فإن إهمال أحد الدليلين -وإن كان الدليل المُهمَل قد يكون في نفسه أرجح من المعمول به- لا بُدّ أن يكون معفوّاً عنه لإستحالة التكليف بالعمل بهما معاً، لأنه يصير من باب التكليف بما لا يطاق. - العمل بالعزيمة وإن كان دليل الرخصة متوجِّهاً. - العمل بالرخصة وإن ترجح جانب العزيمة. - المجتهد المخطئ في اجتهاده، فإنه معفو عمّا يقع فيه من خطأ إذا استجمع شروط الإجتهاد ولم يقصر في شيء من لوازمه. 2 - الخروج عن مقتضى الدليل من غير قصد، أو عن قصد لكن بتأويل سائغ. ومثال ذلك عمل الشخص على خلاف دليل لم يبلغه، فإنه معفو عن خطأه ذلك، وكذلك عمل الشخص على وفق دليل بلغه لكنه غير صحيح أو منسوخ، ومن ذلك العمل على خلاف الدليل خطأً، أو نسياناً، أو إكراهاً، (¬1) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الله تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ". (¬2) 3 - العمل بما هو مسكوت عن حكمه. ولكن قد يُعقرض على إدخال المسكوت عن حكمه ضمن مرتبة العفؤ إذْ الثابت من قواعد الشريعة أن أحكام الأشياء تثبت إما بالنص عليها، وإما بإلحاقها بالمنصوص عليه، فلا نازلة إلّا ولها في الشريعة حكم، ومن ثَمّ فإن ما يسمى "المسكوت عنه" داخل ضمن دائرة الإجتهاد التي أساسها إلحاق المجهول حكمه بما هو معلوم الحكم، خاصة المنصوص عليه منها. ويكون مؤدى هذا نفي عَدِّ المسكوت عنه من باب العفو. وفي المقابل نجد النصوص التي سبق ذكرها في أدلة اعتبار مرتبة العفو تشير إلى أن المسكوت عنه قد يدخل في باب العفو وقد رجح الشاطبي هذا الأخير، وقسّم ¬

_ (¬1) انظر المصدر السابق، مج 1، ج 1، ص 117 - 119، 121 - 124. (¬2) رواه ابن ماجة: سنن ابن ماجة، أبواب الطلاق، باب (16)، ج 1، ص 377.

المسكوت عنه الذي يُعدّ من باب مرتبة العفو إلى ثلاثة أنواع: أ - ترك الإستفصال مع وجود مظنتة، أي إصدار الشارع حكماً عامّاً دون تفريق بين جزئيات المحكوم عليه مع علمه بها. ومثال ذلك إحلال طعام أهل الكتاب في قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]، فإن عموم كلمة الطعام تشمل ضمن ما تشمل قرابينهم التي يذبحون لأعيادهم وكنائسهم. فهل ما في تلك الذبائح من زيادة تنافي مبادئ الإِسلام يجعلها مستثناة من الإحلال؟ أم أنّها تحون عفواً فتدخل ضمن ما أُحِلّ بناءً على أن الشارع تعالى كان عالماً بها ولم يفصل لها حكماً خاصّاً بها؟ وقد رُوِي عن مكحول أنه لما سئل عنها قال: "كُلْهُ، قد علم الله ما يقولون وأحل ذبائحهم". (¬1) ب - ما حرّمه الإِسلام من عادات الجاهلية بالتدرج، فإن ما ارتُكِبَ منه أثناء التدرج في التحريم وقبل صدور الحكم النهائي يُعدّ معفوّاً عنه، وذلك مثل ما شُرِب من الخمر وأُكِل من الربا قبل صدور التحريم المطلق، ويشهد لذلك قوله تعالى في الخمر: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)} [المائدة: 93]. وقوله في الربا: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)} [البقرة: 275]، وقوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)} [البقرة: 279] (¬2) ج - ما عمل به الناس من عبادات ومعاملات موروثة عن ملّة إبراهيم - عليه السلام -، أو مما جرت به أعرافهم قبل أن يأتي الشرع بإقرار ما أقر منه ونسخ ما نسخ، وتقويم ما قوَّم، فكل ما عمل به على ذلك فهو عفو (¬3) وبناءً على ما تقدّم يمكن أن يفهم أن الشاطبي يرى أن المسكوت عنه الذي يدخل ضمن دائرة العفو -بعد استقرار الشريعة وتمامها- ينحصر في نوع واحد، هو ترك الإستفصال مع وجود مظنته. ¬

_ (¬1) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 1، ص 124؛ القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج 6، ص 76. (¬2) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 1، ص 125. (¬3) انظر المصدر السابق، مج 1، ج 1، ص 125.

المبحث الرابع هل السكوت عن النقل نقل للسكوت (هل ترك النقل ينزل منزلة نقل الترك)؟

المبحث الرابع هل السكوت عن النقل نقل للسكوت (هل ترك النقل ينزل منزلة نقل الترك)؟ ذهب البعض إلى أن عدم نقل الصحابة - رضي الله عنهم - لما لو فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - لتوفرت هممهم ودواعيهم لنقله يُنَزّل منزلة نقلهم لتركه - صلى الله عليه وسلم - لذلك الأمر ومن ثَمّ يُستدل به على عدم مشروعية العمل على خلاف ذلك الترك. وقد نصر ابن قيم الجوزية هذا الرأي، وجعل عدم النقل هذا طريقاً من طرق نقل الترك، وسنّة من السنن، حيث يقول: "والثاني: عدم نقلهم لما لو فعله لتوفرت هممهم ودواعيهم-أو أكثرهم أو واحد منهم-على نقله، فحيث لم ينقله واحد منهم ألبتة، ولا حدَّث به في مجمع أبداً عُلِم أنه لم يكن، وهذا كتركه التلفظ بالنيّة عند دخوله في صلاة الصبح، وتركه الدعاء بعد الصلاة مستقبل المأمومين وهم يؤمنون على دعائه دائماً بعد الصبح والعصر أو في جميع الصلوات ... فإن قيل من أين لكم أنه لم يفعله، وعدم النقل لا يستلزم نقل العدم؟ فهذا سؤال بعيد جدّاً عن معرفة هَدْيِه وسنّته وما كان عليه، ولو صح هذا السؤال وقُبِل لاستحبّ لنا مُسْتَحِبُّ الأذان للتراويح، وقال: من أين لكم أنه لم ينقل؟ واستحبّ لنا مستحِبُّ آخر الغسل لكل صلاة، وقال: من أين لكم أنه لم ينقل؟ ... وانفتح باب البدعة، وقال كل من دعا إلى بدعة: من أين لكم أن هذا لم ينقل؟ ... ". (¬1) ويرى ابن العربي أن عدم النقل قد يُنزَّل منزلة عدم الدليل، لا وجود الدليل، وهو ما استدل به على ردّ هذهب المالكية في عدم وجوب الزكاة في الخضروات، كما سيأتي بيانه. والقول بأن كل ما لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله فهو مسكوت عنه وينزّل منزلة النص على أن حكمه الإباحة أمر خطير؛ إذْ قد يؤدي إلى منع إجراء العموم على عمومه ليشمل ما لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله، وكذلك يقتضي منع القياس، ومقتضى هذا أن تحصر أفراد العام فيما نقل عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعله فقط، وهذا فيه ما فيه. (¬2) ¬

_ (¬1) ابن قيم الجوزية: إعلام الموقعين، ج 2، ص 371 - 372. (¬2) انظر الأشقر: أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ج 2، ص 65.

والذي يبدو هنا أن الضابط ليس مجرد ترك النقل، ولا حتى نقل الترك لوحدهما، إذْ أن كليهما لا يدلّ مستقلاً عن القرائن على حكم، وإنما الضابط هو ما يحفّ بذلك الترك من قرائن، وأساس ذلك ثلاثة أمور: 1 - التفريق بين الشعائر التعبديّة والمعاملات، بكون الأصل في الأولى التوقيف، فلا يدخلها -بناءً على ذلك- الإجتهاد والقياس لعدم معقوليّة المعنى الذي خُصّت من أجله بالتشريع دون غيرها من الشعائر وفي الثانية الإجتهاد فيدخلها القياس. 3 - ورود عموم قولي يشمل المتروك وغيره، فإذا لم يرد عموم قولي يشمل المسكوت عنه، وكان المسكوت عنه تعبديّاً عتُبِر السكوتُ بمثابة قصد الشارع إلى عدم الزيادة على المسكوت عنه ولا النقصان منه، أما إذا ورد عموم قولي يشمل المسكوت عنه وغيره، أو كان المسكوت عنه ليس تعبدياً فإن السكوت لا دلالة له على منع الزيادة أو الإنقاص. ويتضح هذا من خلال المثال الآتي في التفريق بين المسكوت عنه في العبادات وفي إخراج الزكاة من الخضروات. 3 - النظر في سبب السكوت، هل كان سكوتَ رضا وإقرار, أم أنه كان سكوتاً لعدم توفر دواعي البيان بالقول أو الفعل، أم أنه كان سكوتا لمانع، كما سبق تفصيله. سكوت الشارع عن إخراج الزكاة من الخضروات: من المسائل التي اختلف الفقهاء في دلالة سكوت الشارع عنها مسألة إخراج الزكاة من الخضروات. فقد ذهب المالكية والحنابلة والصاحبان من الحنفية إلى أنه لا زكاة فيها بحجة أنها كانت شائعة بين الناس في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يثبت عنه أنه أخذ الزكاة منها ولا أمر عماله بذلك، فدلّ على أنه لا زكاة فيها، وأن عدم نقل ذلك ينزل منزلة نقل ترك أخذ الزكاة فيها وأن هذا مخصص لعموم ما ورد في الزكاة من نصوص (¬1). وذهب أبو حنيفة ومن تبعه إلى القول بوجوب الزكاة فيها (¬2). واحتجوا بأن عدم ¬

_ (¬1) انظر ابن قيم الجوزية: إعلام الموقعين، ج 2، ص 372، وابن رشد، أبو الوليد محمد بن أحمد: مقدمات ابن رشد، (بيروت: دار صادر، د. ط، د. ت)، ج 1، ص 205 - 206. (¬2) انظر في تفصل آراء الفقهاء وأدلتهم فيما تجب فيه الزكاة الموسوعة الفقهية لوزارة الأوقاف الكويتية، ج 23، ص 278 - 280.

النقل لا يُعدّ دليلاً على عدم وجوب الزكاة فيها، وإنما هو عدم دليل فيحال على ما في نصوص القرآن والسنة من أدلة أخرى. وقد وردت نصوص عامة في القرآن والسنة تفيد وجوب إخراج الزكاة مما أخرجت الأرض، منها: 1 - قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267]. 2 - قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]. 3 - قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)} [التوبة: 103]. 4 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كانَ عَثَرِياً الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ" (¬1). واعتماداً على ذلك قال ابن العربي: "فإن قيل: فلم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخذ الزكاة من خضر المدينة وخيبر؟ قلنا: كذلك قال علماؤنا، وتحقيقه أنه عدم دليل، لا وجود دليل. فإن قيل: لو أخذها لنقل. قلنا: وأيُّ حاجة إلى نقله والقرآن يكفي فيه" (¬2). ومما يدعم الرأي الثاني -القائل بعدم حصر الزكاة في المنصوص عليه بالسنّة- ما ثبت في السنّة من وجوب الزكاة في أربعة أصناف (¬3) فقط: الحنطة، والشعير والتمر والزبيب (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب (57)، مج 1، ج 2، ص 458 - 459، الحديث (1483). (¬2) ابن العربي: أحكام القرآن، ج 2، ص 752. (¬3) أكثر الأحاديث الواردة ذكرت أربعة أصناف، وزيد صنف خامس (الذرة) في حديث ابن ماجة عن عمرو بن شعيب الآتي ذكره. (¬4) احتج القائلون بحصر الزكاة في الأصناف المذكورة بما رواه ابن ماجة عَن عَمْرِو بن شُعَيْبٍ عَن أَبيِهِ عَنْ جَدَّهِ قَالَ: "إِنَّمَا سَنَّ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الزَّكَاةَ فِي هَذِهِ الْخَمْسَةِ: فِي الْحَنطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ، وَالَذرَةٍ". سنن ابن ماجة، أبواب الزكاة، باب (16)، ج 1، ص 334. الحديث (1815) وحديث الحاكم عن أبي موسى ومعاذ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثهما إلى اليمن فأمرهما أَلّا يأخذا الصدقة إلّا من هذه الأربعة: الحنطة والشعير والتمر والزبيب". الحاكم، أبو عبد الله: المستدرك على الصحيحين، (بيروت: دار المعرفة، د. ط، د. ت)، كتاب الزكاة، ج 1، ص 401.

وسكتت السنّة عن كلّ ما عدا هذه الأربعة، (¬1) ومع ذلك اتفق أصحاب المذاهب الأربعة -ومنهم المانعون للزكاة في الخضراوات- على أن ما تجب فيه الزكاة معلّل وليس توقيفيّاً، بمعنى أنه وإن كان أداء الزكاة في نفسه عبادة فإن ما تجب فيه الزكاة من أصناف مُعلّل وخاضع للقياس، ولذلك نجدهم قد عَدَّوْا الحكم إلى أصناف أخرى غير الأربعة الواردة في السنّة، كلّ بحسب ما رآه علّة لإيجاب الزكاة. وكان الأحرى بالقائلين بعدم وجوب الزكاة في الخضروات لعدم النص عليها الإقتصار على الأصناف المذكورة، وجعل ذلك توقيفيّاً غير معلل، فالقول بتعليل هذا الحكم وتعديته إلى غير الأصناف المذكورة يفسح المجال لتعديته إلى كلّ ما هو مسكوت عنه بما في ذلك الخضروات إذا توفرت فيها العلة. ونظير هذه المسألة مسألة الربا، فما ورد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه أجرى فيه الربا محصور في الأصناف الستة الواردة في الأحاديث، ولم يثبت عنه أنه أجرى الربا في غيرها، ومع ذلك لم يَعُدّ جمهور العلماء ذلك حصراً للربا في تلك الأصناف، وإنما اعتبروه حكماً معلّلاً يتعدى إلى ما يشترك معها في العلة، كلّ على حسب العلّة التي علّل بها الحكم. (¬2) ويمكن التوفيق بين الحصر الوارد في السنّة وعموم ما ورد في القرآن الكريم من وجوب إخراج الزكاة في كلّ ما أخرجت الأرض، بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يفرض في الخضروات الزكاة لعدم شيوعها وقلة شأنها في ذلك الوقت، وكون ما تنتجه لا يضل عادة إلى النصاب، فلذلك لم ينص عليه ضمن الأصناف التي تجب فيها الزكاة، أو يحمل على أنه إحالة لهم على عموم النصوص. ¬

_ (¬1) لم يصح في زكاة الخضراوات حديث، وما ورد فيها لا يرقى إلى مرتبة الحسن، لكونها إما مراسيل، أو في إسنادها مجاهيل أو ضعفاء ومتروكين. انظر الشوكاني: نيل الأوطار، ج 5، ص 142 - 144، وقد قال الترمذي: "وليس يصح في هذا الباب (زكاة الخضراوات) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء". سنن الترمذي، أبواب الزكاة، باب (13)، ج 2، ص 75، إثر الحديث (638). (¬2) انظر ابن العربي: أحكام القرآن، ج 2، ص 752.

الباب الثاني استخلاص المقاصد من طريق الاستقراء

البَابُ الثَّاني استخلاص المقاصد من طريق الاستقراء وفيه ستة فصول: الفصل الأول: مفهوم الاستقراء وأنواعه الفصل الثاني: الاستقراء في القرآن الكريم والعلوم الشرعية الفصل الثالث: الاستقراء عند الإمام الشاطبي الفصل الرابع: الاستقراء عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور الفصل الخامس: دراسة تقييمية للإستدلال الإستقرائي الفصل السادس: دراسة تطبيقية لمسلك الاستقراء

الفصل الأول مفهوم الاستقراء وأنواعه

الفَصْلُ الأَوّل مفهوم الاستقراء وأنواعه تَمْهِيد الإستدلال الإستقرائي من مناهج الإستدلال التي ثار حول جدواها في المبحث العلمي نقاش طويل، بين مهوِّن من قيمته، ورافع من شأنه إلى مرتبة إفادة اليقين. والمتتبع للسير التاريخي لهذا الإستدلال يجد أنه شهد تطورات منذ عهد أرسطو إلى عصرنا هذا، سواء في مفهومه أو في ميادين استخدامه. ويهدف هذا المبحث إلى دراسة القضايا الأساسية الآتية: بيان مفهوم الاستقراء في المنطق القديم والحديث بحكم أن الاستقراء في أساسه مبحث منطقي، وأهم التطورات التي شهدها الإستدلال الإستقرائي، وهل الاستقراء دليل يمكن أن يوصل إلى نتائج يقينية، أم أنه لا يعدو مرتبة التعميمات الظنية؟ ثم تتناول الدراسة الإستدلال الإستقرائي عند علماء المسلمين، مع تخصيص كل من الشاطبي، ومحمد الطاهر بن عاشور بالدراسة، ثم محاولة استجلاء الفروق بين الاستقراء في مجال العلوم الطبيعية التجريبية، والاستقراء في مجال العلوم الإنسانية والإجتماعية. والغرض من بحث هذه القضايا هو: أولا: تحقيق القول في معنى الاستقراء، وأهميته في المبحث العلمي، وثانيا: الإجابة عن كثير من الإشكالات والإعتراضات الواردة على استخدام الاستقراء في العلوم الشرعية بصفة عامة، وفي الكشف عن مقاصد الشارع بصفة خاصة. ثم تختم الدراسة بنماذج تطبيقية للإستقراء بوصفه مسلكاً من مسالك الكشف عن مقاصد الشارع.

المبحث الأول مفهوم الاستقراء

المبحث الأول مفهوم الاستقراء تعريف الاستقراء لغةً: الاستقراء لغة مأخوذ من الفعل الثلاثي "قرأ"، الذي من معانيه الجمع والضم. جاء في لسان العرب: "قرأت الشيء قرآناً: جمعته وضممت بعضه إلى بعض". (¬1) والاستقراء على وزن الإستفعال، مصدر استفعل، وهو أحد أوزان الفعل الماضي الثلاثي المزيد فيه ثلاثة أحرف، ومن معانيه الطلب، نحو استرحمت الله تعالى، أي طلبت إليه الرحمة. (¬2) وعلى هذا يكون الاستقراء مصدر استقرأ، أي طلبُ الجزئيات وتتبعها، وضمُّ بعضها إلى بعض للحصول على نتيجة كلية. تعريف الاستقراء اصطلاحاً: يلاحظ الناظر في تعريف الاستقراء اصطلاحاً وجود اتجاهين في ذلك: اتجاه المنطق القديم الذي يجعل الإستدلال الإستقرائي موازيّاً أو قسيماً للإستدلال الإستنباطي بجعل الأول يسير من الجزئيات إلى الكليات، والثاني يسير في الإتجاه المعاكس، أي من الكليات إلى الحزئيات، أما الإتجاه الثاني فيتزعمه بعض رواد المنطق الحديث، وهو اتجاه يسعى إلى توسيع مفهوم الاستقراء ومجال تطبيقه. أولاً: الاستقراء في اصطلاح المنطق اليوناني: يمثِّل أرسطو المؤسس الفعلي للمنطق اليوناني، ومن ثَمَّ فإن أي تعريف بالاستقراء في المنطق اليوناني ينبغي أن يستند إلى أعماله. والناظر في أعمال أرسطو المنطقية يجد أنه لم يحتفِ بالاستقراء احتفاءه بالبرهان والقياس، ذلك أنه جعل الإستدلال ¬

_ (¬1) ابن منظور الإفريقي: لسان العرب، (بيروت: دار صادر، د. ت)، ج 1، ص 128. (¬2) انظر: د. إميل بديع يعقوب، وميشال عاصي: المعجم المفصل في اللغة والأدب، (بيروت: دار العلم للملايين، ط 1، 1987 م)، ج 1، ص 95.

الإستقرائي استدلالًا ساذجًا يستعمل مع العوام، حيث يقول: "والاستقراء هو أكثر إقناعًا وأَبْيَن وأعرف في الحس، وهو مشترك للجمهور فأما القياس فهو أشد إلزامًا للحجة، وأبلغ عند المناقضين"، (¬1) ويقول: "وقد ينبغي أن فستعمل في الجدل: أما على الجدلين فنستعمل القياس أكثر من استعمالنا إياه مع العوام من الناس، ويجري الأمر في الاستقراء بالعكس: بأن نستعمله في أكثر الأحوال مع العوام". (¬2) وقد عرَّف أرسطو بالاستقراء التام في كتاب "التحليلات الأولى" بجعله يتألف من علاقة قياسية بين حَدٍّ وآخر عن طريق الحدِّ الأوسط، حيث قال: "والاستقراء هو أن يبرهن بأحد الطرفين أن الطرف الآخر في الواسطة موجود، ومثال ذلك أن تكون واسطة (أ) و (ج) هي (ب)، وأن تبين بـ (ج) أن (أ) موجودة في (ب) ... ومثال ذلك أن يكون (أ) طويل العمر و (ب) قليل المرارة، و (ج) الجزئيات الطويلة الأعمار كالإنسان، والفرس، والبغل. ف (أ) موجودة في كل (ج -)؛ لأن كل قليل المرارة فهو طويل العمر و (ب) -أي القليل المرارة - موجود في كل (ج) ". (¬3) وبيان هذا المثال في الشكل القياس الآتي: 1 - الإنسان والحصان، والبغل ... إلخ. طويلة العمر 2 - الإنسان والحصان والبغل .... إلخ. هي كل الحيوانات قليلة المرارة. 3 - كل الحيوانات قليلة المرارة طويلة العمر ودليل كون المقصود بهذا النوع من الاستقراء هو الاستقراء التام أنه أشار بعد هذا المثال إلى ذلك، حيث قال: "وينبغي أن نفهم من (ج) جميع جزئيات الشيء العام، لأن الاستقراء لجميع جزئيات الشيء العام يبين النتيجة". (¬4) ¬

_ (¬1) أرسطو: منطق أرسطو، حققه وقدم له الدكتور عبد الرحمن بدوي، (الكويت: وكالة المطبوعات/ بيروت: دار القلم، ط 1، 1980 م)، ج 2، ص 507. (¬2) نفس المصدر، ج 3، ص 734. (¬3) نفس المصدر، ج 1، ص 307. (¬4) أرسطو: منطق أرسطو، حققه وقدم له الدكتور عبد الرحمن بدوي.

وفي كتاب الجدل يقدم تعريفًا لما يمن اعتباره الاستقراء الناقص، حيث عرفه بأنه: الإنتقال من الجزئيات إلى الكليات، وذلك في قوله: "الطريق من الأمور الجزئية إلى الأمر الكلي. مثال ذلكُ أنه إن كان الربان الحاذق هو الأفضل، فالأمر كذلك في الفارس، فيصير بالجملة الحاذق في في كل واحد من الصنائع هو الأفضل"، (¬1) وقوله: " ... أما في حال استعمالك الاستقراء فإنك تتدرج من الأشياء الجزئية إلى القضية الكلية، ومن الأشياء المعروفة إلى التي هي غير معروفة". (¬2) فهذا هو الاستقراء الناقص الذي هو انتقال من الجزئيات المعروفة، أي التي شملها الاستقراء، إلى القضية الكلية التي تشمل الجزئيات المعروفة والتي تشبهها مع عدم شمول الاستقراء لها. ثانيًا: الاستقراء في اصطلاح علماء المسلمين: الناظر في تعريفات المناطقة المسلمين للإستقراء يجد أنه لا يخرج عن الإطار العام الذي وضعه فيه المنطق اليوناني، وهو الإنتقال من الجزئيات إلى الكليات، لنصل إلى الحكم على الكلي بما وُجِد في الجزئيات. وليس هذا بالغريب إذ إن أعمال أكثر الفلاسفة المسلمين في المنطق هي ترجمات لأعمال أرسطو وشروح وتعليقات عليها. وإن كانت تلك الأعمال لم تخل من انتقادات وتعديلات، وبعض الإضافات، إلَّا أنها في إطارها العام تبقى دائرة في فلك المنطق اليوناني بصفة عامة، والأرسطي بصفة خاصة. فقد عرفه ابن سينا بأنه: "الحكم على كل بما وُجِد في جزئياته الكثيرة، مثل حكمنا بأن كل حيوان يحرك عند المضغ فكه الأسفل استقراءً للناس، والدواب البرّية، والطير. (¬3) وقريب من هذا التعريف تعريف أبي حامد الغزالي له بأنه: "أن تتصفح جزئيات كثيرة داخلة تحت معنى كل، حتى إذا وجدت حكمًا في تلك الجزئيات، حكم على ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ج 2، ص 507. (¬2) نفس المصدر، ج 3، ص 728. (¬3) ابن سينا: الإشارات والتنبيهات مع شرح نصير الدين الطوسي، تحقيق الدكتور سليمان دنيا، (القاهرة: دار المعارف، 1960 م)، ج 1، ص 418.

ذلك الكلي به". (¬1) وهذه التعريفات -كما سيتبين فيما بعد- هي تعريفات لنوع واحد فقط من أنواع الاستقراء، وهو الاستقراء الناقص. والملاحظ من خلال التعريفات السابقة سواء عند أرسطو أو عند الفلاسفة المسلمين أنها تمثل اتجاهًا واحدا، وهو الإتجاه الذي يقصر الاستقراء على السير بالإستدلال في جهة واحدة: مما هو أقل كلية إلى ما هو أكثر كلية، فهو ينطلق من دراسة جزئيات أو أفراد تجمعها خصائص مشتركة، وتنضوي تحت كلي واحد، ليصل من خلال ذلك إلى اكتشاف حكم مشترك تتم صياغته في شكل تعميم كلي يشملها ويشمل ما يُشبهها، ويشترك معها في الخوع أو الصنف. ثالثًا: الاستقراء في اصطلاح المنطق الغربي الحديث: يرى أصحاب هذا الإتجاه أن تعريفات المنطق اليوناني للإستقراء ناقصة، ولا تمثل إلَّا مرحلة من مراحل العملية الإستقرائية، والاستقراء في رأيهم عملية أوسع من ذلك. وفيما يأتي تعريفات لبعض أعلام هذا الإتجاه: 1 - عرفه جون ستوارت ميل (J.S.Mill) بأنه: "عملية اكتشاف وبرهنة القضايا العامة". (¬2) وفي معناه تريف ويليامز دونالد (Williams Donald) بأنه: "ذلك الضرب من ضروب الإستدلال، الذي يكشف لنا عن قانون عام، أو يبرهن عليه". (¬3) 3 - أما عند جون ديوي فـ "الاستقراء اسم يطلق على مجموعة طرائق تقرر بها عن حالة معينة أنها تمثل غيرها، وهي عملية يعبر عنها كونُ تلك الحالة المذكورة ¬

_ (¬1) الغزالي، أبو حامدة معيار العلم في فن المنطق، شرح أحمد شمس الدين، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1410 هـ / 1990 م)، ص 148. (¬2) جون ستوارت ميل (J.S.Mill) : منهج المنطق (of Logic A System) نقلًا عن د. علي عبد المعطي محمد، ود. السيد نفادي: المنطق وفلسفة العلم، (الإسكندرية: دار المعرفة الجامعية، 1988 م)، ص 308. (¬3) Williams Donald: the Goound of Inducation نقلًا عن الدكتور زكي نجيب عمود: المنطق الوضعي، (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، ط 4، 1966 م)، ج 2، ص 297.

نموذجًا أو عيِّنة". (¬1) وينتقد جون ديوي المفهوم الشائع للإستقراء من كونه مجرد انتقال من الجزئيات إلى التعميمات الكلية عن طريق الملاحظة ويَسِمُه بالقصور ويراه موروثًا من المنطق القديم لم يَعُد مناسبًا للمناهج العلمية التي يتبناها المنطق الحديث. فالمنطق القديم (اليوناني) في تطبيقه للمنهج الإستقرائي يكتفي بأخذ الأشياء وصفاتها "كما هي قائمة" (¬2) دون أن يُحدث فيها أي تغيير أي أنه يعتمد مجرد الملاحظة أما في المنطق الحديث فإن المستقرئ لا يكتفي بأخذ الأشياء على ما هي عليه، بل كثيرًا ما يتدخل في مرحلة التجربة بإجراء تحويرات تجريبية للأشياء وصفاتها يحوطا بها عن حالتها الطبيعية التي جاءتنا بها. (¬3) ويرى جون ديوي أن هذا التدخل عنصر أساس في عملية الاستقراء، وأن أي نظرية تهمل مثل هذه الإجراءات التحويرية نظرية معيبة من أصلها. (¬4) يتبين من خلال تعريفات أصحاب هذا الإتجاه أن الاستقراء في مجال العلوم التجريبية يتم عبر مرحلتين متعاكستي الإتجاه، المرحلة الأولى: يتم فيها ملاحظة وتجميع الجزئيات على حالتها الطبيعية للخروج بفرضية، أو ما يمكن أن نسميه التعميم الإستقرائي، وهذه المرحلة يتم فيها الإنتقال من الجزئيات إلى الكليات، وهي متفقة مع مفهوم الاستقراء عند أصحاب الإتجاه الأول، أما المرحلة الثانية: فتجري في خط معاكس للأول، حيث تتم عملية إثبات التعميم المتوصل إليه في المرحلة الأولى بإجراء سلسلة من التجارب على جزئيات مُعَدَّة إعدادًا للبحث من خلال إخضاعها لظروف وشروط مختلفة، ويكون ذلك التعميم بمثابة الموجه لِمَا عسانا أن نقوم به في هذه المرحلة من مشاهدات وتجارب. وعلى هذا تصير الفروض التعميمات المتوصل إليها ¬

_ (¬1) ديوي، جون: المنطق نظرية المبحث، ترجمة وتصدير وتعليق الدكتور زكي نجيب محمود، (القاهرة: دار المعارف، 1960 م)، ص 672. (¬2) انظر جون ديوي: المنطق نظرية المبحث، ص 656. (¬3) انظر جون ديوي: المنطق نظرية المبحث، ص 656. (¬4) انظر جون ديوي: المنطق نظرية المبحث، ص 658.

ليست غاية في ذاتها، بل وسائل إلى تحديد المفردات تحديَدًا تجريبيًّا باعتباره الغاية المتحققة بتلك الوسائل. وهذه المرحلة فيها نوع من السير من الكلي إلى الجزئي. ويرى جون ديوي أن المرحلة الثانية هي الأهم في الإستدلال الإستقرائي، وهي التي تتمثل في إعادة تكوين المفردات التي كانت أساسًا للتعميم إعادة موجهة بغرض تقرير ما يحدث خلال التفاعل الذي يقع في الحالة المفردة الواحدة من خلال فحصها في ظروف متباينة، وتحت شروط متنوعة للوصول إلى الحالة الواحدة التي تمثل عيِّنة نموذجية لمجموعة من التفاعلات أو الإرتباطات، فكأن الاستقراء في هذه المرحلة يسعى إلى اكتشاف القانون العام من خلال عيِّنة نموذجية ليتم تعميمه بعد ذلك على الحالات المشابهة لها. (¬1) وهذا يشبه عملية تنقيح المناط في مسالك العلة. وينبغي التنبيه هنا على أن الاستقراء بمفهومه عند أصحاب الإتجاه الثاني لا يمكن تطبيقه بكامل عناصره على القضايا التاريخية والتشريعية، إذ لا يمحن في مثل هذه الحالات التدخل في الجزئيات المندرجة تحت التعميم الإستقرائي لتوفير عينات معدة إعدادًا خاصًّا للبحث بإيجادها في ظروف مختلفة وتحت شروط معينة؛ إذ هي بالنسبة للحوادث التاريخية حوادث مضت وانقضت، ولا يمكن استرجاعها، وبالنسبة للشرائع، أحكامها ونصوصها قد صدرت، ولا يمكن استنزال نصوص جديدة، وإنما هو الإجتهاد فيها لإعطاء أحكام لما يستجدّ من أحداث، وغاية ما يمكن عمله في هذين المجالين هو تطبيق الاستقراء بمفهومه عند أصحاب الإتجاه الأول، أي استقراء الجزئيات الموجودة للخروج بنتيجة كلية. وهنا يتبين أن الاستقراء بمفهومه الثاني هو استقراء خاص بالعلوم الطبيعية والتجريبية، ولا يصلح تطبيقه في العلوم الشرعية. العلاقة بين الاستقراء والإستنباط. يسلك العقل البشري في التعرف على الحقائق وإثباتها مسلك الإستدلال، ويتم ¬

_ (¬1) انظر جون ديوي: المنطق نظرية المبحث، ص 663 - 678.

هذا الإستدلال وفقًا لأحد طريقين رئيسين: أحدهما الإستدلال الإستنباطي، والثاني الإستدلال الإستقرائي. وقبل الحديث عن العلاقة بين الاستقراء والإستنباط يحسن التعريف بالإستنباط، وتحديد مفهومه بداية لتسهل المقارنة بعد ذلك. يُعرَّف الإستدلال الإستنباطي بأنه: "انتقال الذهن من قضية أو عدة قضايا هي المقدمات إلى قضية أخرى هي النتيجة وفق قواعد المنطق". (¬1) فالسير الفكري في الإستدلال الإستنباطي يكون من الكلي إلى الجزئي، أو من العام إلى الخاص، ويلاحظ أن النتيجة فيه تكون عادة مستبطَنَة في المقدمات، لذلك فهي دائمًا إمَّا مساوية، أو أصغر من تلك المقدمات. ويمثل الإستدلال القياسي الصورة النموذجية للدليل الإستنباطي. (¬2) وقد أُثِيرَت عدة اعتراضات على هذا التعريف الشائع للإستنباط، من كون سير الإستدلال فيه يكون دائمًا مِمَّا هو أعم إلى ما هو أقل تعميما. وليس هذا موضع مناقشة هذا التعريف ولا الاعترضات الواردة عليه، وتكفي الإشارة هنا إلى أن هذا التعريف ينطبق عادة على الإستنباط في قضايا العلوم الإجتماعية والإنسانية، لكنه ليس كذلك في موضوع الإستدلال الرياضي، الذي نجد فيه نتيجة الإستنباط قد تكون أضيق مفهومًا من المقدمات، وقد تكون مساوية لها، وقد تكون أوسع منها. (¬3) أما عن العلاقة بين الاستقراء والإستنباط، فإن بينيما جملة من الفروق، منها أننا في الاستقراء ننتقل عادة من الجزئيات إلى القانون العام الذي يحكمها، في حين ¬

_ (¬1) مجمع اللغة العربية: المعجم الفلسفي، (القاهرة: الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، 1399 هـ/ 1979 م)، ص 12. (¬2) انظر د. عبد الرحمن بدوي: موسوعة الفلسفة، ج 1، ص 145؛ والموسوعة الفلسفية، وضع لجنة من العلماء والأكاديميين السوفياتيين، بإشراف م. روزنتال، وب. يودين، ترجمة سمير كرم، (بيروت: دار الطليعة، ط 6، 1987 م)، ص 27 - 28. (¬3) انظر في مدى انطباق التعريف الشائع للإستنباط على الإستدلال الرياضي جون ديوي: المنطق نظرية المبحث، ص 652 - 653.

أننا في الإستنباط نسير سيرًا معاكسًا، أي من القوانين العامة إلى الجزئيات التي تندرج تحتها، وبناءً على هذا يرى البعض تحامل الاستقراء والإستنباط، حيث نقوم عن طريق استقراء المعطيات الجزئية باستنتاج قانون عام، ثم نقوم باختبار هذا القانون العام عن طريق استنباط معطيات منه؛ فإذا تمكَّنَّا من الإستنباط بدون عائق وبدون تناقضات تكون قد تمت البرهنة على صدق ذلك القانون، (¬1) وعلى ذلك يمكن أن يوصف منطق الاستقراء بأنه منطق الاكتشاف، ومنطق الإستنباط بأنه منطق البرهان. ومنها أن نتيجة الاستقراء نصل إليها بعد القيام بسلسلة من الملاحظات والتجاوب، وبتعبير جون ديوي يمثل الاستقراء: الإجراءات التي تكون بها تعميمات وجودية، في حين يمثل الإستنباط الإجراءات المختصة بالعلاقات التي تربط القضايا الكلية المجردة في مجرى التفكير النظري. (¬2) ومنها أن نتيجة الإستدلال الإستنباطي يُجزم عادة بصدقها منطقيًّا إذا صحت مقدماتها، ويحون التبرير المنطقي لذلك الجزم تأسيسًا على مبدأ عدم التناقض؛ ذلك أنه لما كانت النتيجة مستبطَنَة في المقدمات، وكانت مساوية لها أو أصغر منها، وجب أن ينتج عن صدقِ المقدمات صدقُ النتيجة ضرووة، لأن افتراض صدق المقدمات دون النتيجة يمثل تناقضًا منطقيّا طبقًا لمبدأ: صدق الكل يقتضي صدق أجزائه، وإلَّا كان ذلك تناقضًا، بخلاف نتيجة الاستقراء الناقص فإنه لا يمكن تبريرها وفق هذا المبدأ. (¬3) ومهما يكن من فروق بين الاستقراء والإستنباط فإن ذلك لا يعني إقامة حد فاصل بينهما، وأن كلًّا منهما يعمل بمعزل عن الآخر بل هما منهجان متعاونان، وفي كثير من الأحيان يحتاج أحدهما للإستكمال بالآخر ويرى جون ديوي أن تكاملها ¬

_ (¬1) انظر علي عبد المعطي محمد، والسيد نفادي: المنطق وفلسفة العلم، ص 310. (¬2) انظر جون ديوي: المنطق نظرية المبحث، ص 659. (¬3) انظر د. علي عبد المعطي محمد، ود. السيد نفادي: المنطق وفلسفة العلم، ص 313، ومحمد باقر الصدر: الأسس المنطقية للإستقراء، (بيروت: دار التعارف للمطبوعات، ط 5، 1456 هـ / 1986 م)، ص 7.

يتم على النحو الآتي: يبدأ الباحث بالقيام بعملية الملاحظة وتجميع المعطيات للخروج ببعض الفروض الأولية، وهذه المرحلة استقرائية في طبيعتها، وبعد ذلك يتم تطوير معاني تلك الفروض عن طريق خطوات استنباطية تسير في تفكير نظري مرتب لخصل إلى تعميم استقرائي يمثل فرضية محتملة للصدق، وهذه المرحلة استنباطية في طبيعتها، ثم تأتي المرحلة الثالثة، وهي مرجلة استقرائية، حيث يتم إجراء تجارب عديدة على جزئيات مختلفة في ظروف وشروط مختلفة، منها ما يكون في حالته الطبيعية، ومنها ما يكون قد أدخلت عليه تحويلات تجعله مادة مُعدَّة للبحث. وهدف المرحلة الأخيرة هو اختبار مدى صحة النظرية (التعميم الإستقرائي) التي تم التوصل إليها من خلال المرحلتين الأولى والثانية. (¬1) العلاقة بين الاستقراء والقياس المنطقي: القياس المنطقي هو: "قول مؤلف، إذا سلم ما أورد فيه من القضايا، لزم عنه لذاته قول آخر اضطرارا". (¬2) ويختلف الاستقراء عن القياس من ناحيتين: من حيث التكوين، ومن حيث الغاية. أما من ناحية التكوين، فإننا في القياس نستخلص النتائج الجزئية من المقدمات الكلية، أما في الاستقراء فإننا نستخلص النتائج الكلية من الدراسة الإستقرائية للجزئيات. وأما من حيث الغاية، فإن القياس -بكونه نوعًا من أنواع الإستدلال الإستنباطي- تكون نتائجه يقينية مطلقة إذا صححت المقدمات، أما الاستقراء ¬

_ (¬1) انظر جون ديوي: المنطق نظرية المبحث، ص 659 - 662. (¬2) الغزالي: معيار العلم في فن المنطق، ص 111، وانظر: أبو نمر الفارابي: كتاب القياس، ضمن كتاب المنطق عند الفارابي، تحقيق وتقديم وتعليق د. رفيق العجم، (بيروت: دار المشرق، 1986 م)، ج 2، ص 19.

الناقص فتكون نتائجه عادة ظنية. (¬1) ويرى المنطق الأرسطي أن هناك تعارضًا بين الاستقراء والقياس، حيث يقول أرسطو: "والاستقراء من جهة يعارض القياس، لأن القياس بالواسطة يبيّن وجود الطرف الأكبر في الأصغر، وأما بالاستقراء فيبيّن بالطرف الأصغر وجود الأكبر في الأوسط". (¬2) وفي المثالين الآتيين توضيح للفرف بين طريقتي إنتاج كل من الاستقراء والقياس: 1 - مثال القياس: هذا الحجر مادة ... الحد الأصغر وكل مادة تتعرض للجاذبية ... الحد الأوسط إذًا فهذا الحجر يتعرض للجاذبية ... الحد الأكبر فالنتيجة هنا إثبات الحد الأكبر (التعرض للجاذبية) للحد الأصغر (الحجر). 3 - مثال الاستقراء: هذه الأفراد تتعرض للجاذبية .... الحد الأصغر وهذه الأفراد هي كل أجزاء المادة ... الحد الأوسط إذًا فكل أجزاء المادة تتعرض للجاذبية .... الحد الأكبر والنتيجة هنا إثبات الحد الأكبر (التعرض للجاذبية) للحد الأوسط (المادة). تكامل الاستقراء والقياس: مع ما يراه المنطق الأرسطي من تعارض بين الاستقراء والقياس، إلَّا أنه في الواقع تعارض في طريقة الإنتاج فقط، وليس معناه التعارض المطلق بينهما، بل هما ¬

_ (¬1) انظر: الدكتور محمد فتحي الشنيطي: أسس المنطق والمنهج العلمي، (بيروت: دار النهضة العربية:، 1970 م)، ص 115. (¬2) أرسطو: منطق أرسطو، ج 1، ص 307 - 308.

منهجان -على ما بينهما من فروق- متكملان في الإستدلال، ولا يستغني الواحد منهما عن الآخر في عملية المبحث عن الحقيقة. فالقياس في حاجة إلى استقراء سابق لإثبات مقدماته الكلية، كما أن الاستقراء يحتاج في النهاية إلى عملية قياسية لإثبات النتيجة والتحقق من صدقها، ويتم تكاملهما في جانبين: الأول: أن الاستقراء هو الذي يمدُّ القياس بمقدماته الكبرى، ومن هذه الناحية يكون الاستقراء سابقًا للقياس. وهذه الحقيقة أثارت مشكلة منطقية في نتيجة القياس، إذ المشهور عند المناطقة أن القياس يفيد عادة القطع واليقين إذا سلمت مقدماته، وأن الاستقراء الناقص لا يفيد إلَّا الظن، ولما كانت المقدمات الكبرى للقياس ناتجة في الغالب عن استقراء ناقص -وهي تفيد مجرد الظن- كان القول بإفادة القياس اليقين أمرًا غير مسلَّم، إذ كيف يُنْتج ما بُنِي على ظني يقينًا؟ وربماكان هذا هو الذي دفع ابن سينا إلى إنكار كون المقدمات الأولية للقياس ثابتة بالاستقراء، وإنما هي -في رأيه- ثابتة على أساس وضوحها الذاتي. (¬1) ولكن هذا المخرج غير مسلَّم، إذ مِنْ أين يأتي هذا الوضوح الذاتي؟ فمصدره في الحقيقة لا يعدو أن يكون إمَّا معارف عقلية قبلية أو بدهيات يسلم بها العقل، وإما أن يكون ناتجًا عن الخبرة التاريخية للإنسان الناتجة عن مشاهدة تكرر هذا الحادث (وهو الاستقراء) حتى صارت هذه القضية من باب المسلمات الواضحة ذاتيًّا، ولا يهم ما آلت إليه هذه القضية، إنما المهم أنها في أصلها نتيجة عملية استقرائية. ثم الواقع يدلنا على أن أصل أكثر مقدمات الأقيسة نتائج استقرائية وإن لم يصرح بذلك، بل هي نتائج استقراءات ناقصة. وينبني التنبيه هنا على أنه مع كون أكثر المقدمات الكبرى للقياس المنطقي عمومات استقرائية ظنية، لأنها ناتجة عن استقراءات ناقصة، ومن ثم فإن نتيجة القياس ستكون تابعة لصدق هذه المقدمات، إلَّا أن الأمر مختلف في الأقيسة ¬

_ (¬1) انظر د. جعفر آل ياسين: المنطق السينوي: عرض ودراسة للنظرية المنطقية عند ابن سينا، (بيروت: دار الآفاق الجديدة، ط 1، 1403 هـ / 1983 م)، ص 76.

الشرعية، إذ المقدمات الأولية للأقيسة الشرعية ليست كذلك، فمع كونها في بعض الأحيان عمومات وكليات، لكنها لم تثبت بالاستقراء، وإنما بحكم الشارع، فمثلا القياس الآتي: كل مسكر خمر ... مقدمة صغرى كل خمر حرام ... مقدمة كبرى إذًا فكل مسكر حرام ... النتيجة إذ انظرنا في التعميمين: كل مسكر خمر وكل خمر حرام، نجد أن الشارع هو الذي سمى كل مسكر خمرا، وهو الذي حكم على كل خمر بالحرمة. (¬1) الثاني: وهي الحالة التي يحتاج فيها الاستقراء إلى القياسي، الذي يأتي ليبني على ما وصل إليه الاستقراء، وليكمل مسيرته ليصل بالنتائج إلى مرحلة أكثر تقدُّمًا من حيث قوة الصدق واليقين. (¬2) وسيأتي مزيد بيان لهذا عند الحديث عن الفرق بين الاستقراء والتجربة. العلاقة بين الاستقراء والتواتر: ينطلق التواتر -كما هو الشأن في الاستقراء- من مصادرة تمثِّل تصديقًا أوليًّا مفاده امتناع تواطؤ عدد كبير من الناس على الكذب، وهو شبيه بما ينطلق منه الاستقراء من كون الإتفاق لا يكون دائمًا ولا مطردا. وهذا التصديق الذي ينطلق منه الإستدلال بالتواتر -باعتباره صرفة عقلية قبلية- هو في الحقيقة تصديق استقرائي وليس تصديقًا عقليًّا أوليّا. ومن هنا يتبين أن القضية المتواترة في الحقيقة ليست إلَّا قضية استقرائية تقوم على أساس المناهج الإستقرائية في الإستدلال. (¬3) ¬

_ (¬1) أُخِذَ هذان التعميمان من حديث مسلم عن ابن عمر - رضي الله عنه - ما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام". صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، (القاهرة: دار الحديث، ط 1، 1412 هـ/ 1991 م)، ج 3، ص، 1588. (¬2) انظر الغزالي: معيار العلم في فن المنطق، ص 152. (¬3) انظر محمد باقر الصدر: الأسس المنطقية للإستقراء، ص 387 - 388.

ومع كون التواتر يفيد القين في المنطق الأرسطي كما هو الشأن عند علماء الإِسلام، إلَّا أننا نجد علماء أصول الفقه لم يكتفوا بمطلق الشواتر الذي هو"تتابع الخبر عن جماعة مفيدًا للعلم بمخبره"، (¬1) بل قيدوه بشروط، هي: (¬2) 1 - أن يكون كل واحد من المخبرين قد أخبر عن علم لا عن ظن. 3 - أن يكون علمهم ضروريًّا مستندًا إلى محسوس. 3 - أن يستوي طرفاه وواسِطته في هذه الصفات. 4 - أن يتوافر في روايته العدد الذي توقن النفس عادة باستحالة تواطئهم على الكذب. ¬

_ (¬1) الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق د. سيد الجميلي، (بيروت: دار الكتاب العربي، ط 2، 1406 هـ / 1986 م)، ج 2، ص 25. (¬2) انظر الغزالي: المستصفى من علم الأصول، ترتيب وضبط محمد عبد السلام عبد الشافي، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1413 هـ / 1993 م)، ص 107

المبحث الثاني أنواع الاستقراء

المبحث الثاني أنواع الاستقراء يُقسم الاستقراء إلى تام وناقص، وأساس هذا التقسيم أن الدليل الإستقرائي يُبنى على تعداد الحالات والأفراد، فإذاكان التعداد مستغرقًا لجميع أفراد أو حالات النوع محل الاستقراء اعتُبِر الاستقراء تامًّا، أما إذا لم يشمل التعداد كل الأفراد والحالات فإنه يُعتبر استقراءً ناقصًا. أولًا: الاستقراء التام تعريفه: الاستقراء التام هو: "أن يستدل مجميع الجزئيات ويحكم على الكل". (¬1) فهو الاستقراء الذي يتم فيه استيعاب جميع جزئيات أو أجزاء الشيء الذي هو موضوع الحث، بالنظر والدراسة العلمية، للوصول من خلال ذلك إلى حكم كل يحكم به على جميع تلك الجزئيات. نتيجة الاستقراء التام: تكون -عادة- نتيجة الاستقراء التام يقينية إذا توافرت شروط ذلك. وهناك عاملان يتحكمان في يقينية نتيجة الاستقراء التام، هما: الأول: مدى قطيعة ثبوت الحكم للجزئيات المستقرأة عند إجراء عملية الاستقراء، أي هل الحكم المنسوب إلى كل جزئية من الجزئيات المستقرأة مقطوع به أم لا؟ والثاني: مدى إمكانية الجزم بعدم وجود جزئي آخر غير الجزئيات المستقرأة. فإذا كان ثبوت ذلك الحكم لتلك الجزئيات قطعيًّا، وجزمنا بعدم وجود جزئي آخر غير تلك التي تَمَّ استقراؤها كانت نتيجة الاستقراء يقينئة، أما إذا كان ثبوث الحكم للجزئيات ظنيًّا، وكان القول بعدم وجود جزئيات أخرى ظنيًّا أيضًا، أو كان أحد العامبين فقط ظنيًّا، فإن نتيجة ¬

_ (¬1) التهانوي، محمد علي: موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، تقديم وإشراف ومراجعة الدكتور رفيق العجم، (بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، ط 1، 1996 م)، ج 1، ص 172.

الاستقراء ستكون ظنية (¬1) إمكانية وجود الاستقراء التام: يرى البعض أنه من العسير الوصول إلما استقراء تام لأن استقراء الأفراد مهما كان شاملًا ومستوعبًا فإنه لا يمتد خارج نطاقا الأفراد الموجودة فعلا، أما الأفراد الممكنة الوجود، أي التي لم توجد بعد ويحتمل وجودها في المستقبل، فإنها غير مشمولة يهذا الاستقراء، ووجودها يؤدي إلى خروج الاستقراء عن كونه تامّا (¬2). كما أن شمول الاستقراء الكامل محدود زمانًا باللحظات التي تَمَّ فيها الاستقراء، ولا يمتد إلى الأوقات الأخرى التي يمكن أن يتغير فيها الحكم على الأفراد تبعًا لتغيَر حالاتها. وإذا أردنا أن نحكم بثبوت هذا الحكم ونقطع به فإننا نحتاج في ذلك إلى استقراء آخر لكل فرد من الأفراد المستقرأة في جميع أوقات وجوده لنتأكد من عدم تغير حكمه بتغير الزمن، وهو أمر عسير وقد يؤدي إلى توقف عملية الاستقراء. نقد الاستقراء التام: فضلًا عن التشكيك في إمكانية وقوع الاستقراء التام، فقد انتُقِدَ بكونه استقراءً شكليا، لا يقصد منه سوى زيادة عدد إلى عدد، وتركيب لشيء فوق الشيء، ليسهل اقعبير عنها جميعًا. فنحن لا نضيف بهذا النوع من الاستقراء علمًا جديدًا إلى معلوماتنا، وإنما الأمر لا يعدو تجميع الجزئيات المستقرأة، والتعبير عنها جميعًا بكلمة واحدة. وعلى الرغم من أنه يعطينا صورة استدلالية، إلَّا أنها لا تعطينا القدرة على التنبؤ بما يقع في المستقبل من حوادث وعلاقات، وتلك في الأصل هي الغاية من الاستقراء. (¬3) فالاستقراء التام لا تفيد نتيجته معرفة جديدة، بل هي مجرد تلخيص لما هو ¬

_ (¬1) انظر التهانوي: موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، ج 1، ص 172؛ أبو حامد الغزالي: معيار العلم في فن المنطق، ص 152. (¬2) انظر د. علي عبد المعطي محمد، ود. السيد نفادي؛ المنطق وفلسفة العلم، ص 287. (¬3) انظر: د. محمد فتحي الشنيطي: أسس المنطق والمنهج العلمي، ص 120.

موجود في المقدمات، أو هي تقرير لما سبق تتبعه وملاحظته. ومن هنا ذهب البعض إلى أن الاستقراء التام لا يعتبر في الحقيقة استقراء، بل هو استنباط، لأن النتيجة فيه تجيء مساوية لمقدماتها، ومن ثم ليس فيه انتقال من الخاص إلى العام. (¬1) والواقع أنه مع كون نتيجة الاستقراء الكامل مساوية لمقدماتها إلَّا أن فيه نوعًا من الإنتقال من الخاص إلى العام، إذ يتم فيه الإنتقال من آحاد الأفراد والحالات المستقرأة إلى حكم يعمُّ كل تلك الأفراد، فنحن نَتَتَبَعّ صفة معيَّنة في مجموعة من الأفراد، ثم نتتبَّع تلك الأفراد في انتمائها لنوع واحد، لنستخلص من ذلك أن تلك الصفة ملازمة لجميع أفراد النوع. (¬2) ولئن كانت نتيجة الاستقراء التام أقل عمومًا من نتيجة الاستقراء الناقص، إذ هي الاستقراء التام تشمل الحالات المستقرأة فقط، وفي الاستقراء الناقص تشمل الحالات المستقرأة وما هو موجود أو يمكن أن يوجد من مثيلاتها، فإن ذلك لا يخرجه عن كونه نوعًا من أنواع الاستقراء. ويمكن القول بأن الانتقادات المشككة في جدوى الاستقراء التام، إنما تصدق على مجال المبحث في العلوم الطبيعية، وليس معنى ذلك أنه لا يفيد في ميادين العلم الأخرى، خاصة العلوم الشرعية. فوائد الاستقراء التام: مع ما وجه للإستقراء التام من انتقادات فإنه يحقق فوائد تتمثل في الآتي: 1 - التثبت من أن ما سبقت ملاحظته في آحاد جزئياتِ كل ما تعمّ كل جزئياته. 2 - تحقيق الإقتصاد في التفكير بتجميع الجزئيات وإدراجها تحت قاعدة عامة، ولولا وجود الاستقراء الإحصائي لأصبحنا نعيش في فوضى الجزئيات التي لا ضابط لها ولا رابط. ¬

_ (¬1) انظر د. علي عبد المعطي محمد، ود. السيد نفادي: المنطق وفلسفة العلم، ص 287. (¬2) انظر: د. محمد فتحي الشنيطي: أسس المنطق والنهج العلمي، ص 120.

ثانيا: الاستقراء الناقص

3 - مساعدته في الإستعمالات الرياضية التي تفكك الوقائع وتُحِيلُهَا إلى كميات تخضع للعمليات الرياضية المختلفة، ويمكن قياسها بمختلف المقاييس مما يساعد على تحصيل نتائج أدق وأوثق. (¬1) ثانيًا: الاستقراء الناقص: تعريفه: الاستقراء الناقص هو أن يستدل بأكثر الجزئيات فقط، ويحكم من خلالها على الكل. (¬2) فهو"الذي تدرس فيه بعض جزئيات أو أجزاء الشيء الذي هو موضوع المبحث، وتعتبر فيه النماذج المدروسة أساسًا تقاس عليه بقية الأجزاء أو الجزئيات". (¬3) مشكلة الاستقراء الناقص: لما كان الاستقراء الناقص انتقالًا من جزئيات محدودة إلى نتيجة كلية تشمل تلك المقدمات وزيادة، ثار السؤال الآتي: هل صدق الجزئيات المستقرأة يقتضي ضرورةً صدق النتيجة الكلية؟ ولا شك أن الجواب المنطقي سيكون بالنفي؛ إذ الزيادة على المقدمات التي تشتمل عليها النتيجة قد تكون صادقة، وقد تكون غير ذلك، وليس هناك دليل قطعي على صدقها، ومن ثم يبقى صدق التعميم الإستقرائي ظنيًّا. (¬4) ولا يمكن أن يُبَرَّر صدق نتيجة هذا النوع من الاستقراء بمبدأ عدم التناقض، لأنه لا تناقض بين صدق المقدمات المستقرأة وخطأ النتيجة، إذ قد يكون مرجع الخطأ إلى الزيادة التي لم تتضمنها المقدمات. ومن هنا كانت نتيجة الاستقراء الناقص تفيد الظن فقط، نظرًا للفجوة التي يتركها القفز من مجموعة من الجزئيات إلى تعميم كلي، الأمر الذي جعل البعض يقلل من أهمية هذا النوع من الاستقراء في مجال الكشف عن الحقائق واكتساب المعارف. ¬

_ (¬1) انظر د. علي عبد المعطي محمد، ود. السيد نفادي: المنطق وفلسفة العلم، ص 291. (¬2) انظر محمد علي التهانوي: موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، ج 1، ص 172. (¬3) عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني: ضوابط المعرفة وأصول الإستدلال والمناظرة، (دمشق: دار القلم، ط 4، 1414 هـ / 1993 م)، ص 193 - 194. (¬4) انظر في ذلك مثلًا: أبو حامد الغزالي: معيار العلم في فن المنطق، ص 152.

وهو الأمر الذي اشتهر عند المناطقة وعلماء المناهج باسم "مشكلة الاستقراء". وبناءً على ما سبق تعرض الإستدلال الإستقرائي إلى عدة طعون يمكن إرجاعها إلى أمرين: الأول: اعتماده على مصادرات غير مبرهنة، وإنما مأخوذة باعتبارها معارف عقلية قبلية مسلَّمة، ووجود مثل هذه المعارف القبلية أمر غير مسلَّم لدى بعض المذاهب الفلسفية، مثل المذهب التجريبي. الثاني: كون بعض الاستقراءات إحصائية ظاهرية، مبنية على مجرب الطرد دون اعتبار لمبدأ السببية والعلية، وهي استقراءات يسهل خرقها بتخلف كثير من الأفراد عن الدخول تحت نتائجها. ويمكن تلخيص ما اصطلح على تسميته (مشكلة الاستقراء) فيما يأتي: إنه منِ أجل إعطاء مصداقيّة علميّة لنتيجة الاستقراء، حيث يمكين اعتمادها قانونًا عامًّا يجب التأكد من توافر ثلاثة مبادئ: 1 - يحب إثبات مبدأ السببية العامة، أي إثبات أن لكل ظاهرة طبيعية سببًا، إذ من غير ذلك يصبح من المحتمل أن يكون تلازم شيئين من الجزئيات المستقرأة (كتلازم تمدد الحديد ووجود الحرارة مثلًا) غير مرتبط بأي سب، وإنما هو وجود تلقائي، وإذا كان وجوده طرديًّا فليس من الضروري أن يتكرر. 2 - ولا يكفي إثبات مبدأ السببية العامة، وإنما ينبغي على الدليل الإستقرائي -بعد إثبات ذلك- أن يثبت أن سببًا بعينه هو الذي كان وراء هذه الظاهرة (مثل كون الحرارة وحدها السبب في تمدد الحديد)، لأن مجرد الإقتران لا يكفي دليلًا على كونه السبب الحقيقي أو الوحيد، بل يحتمل أن يكون وجوده قد صادف تأثير السبب الحقيقي. 3 - إثبات مبدأ التناسق والإطراد، الذي يقتضي بأن الكون يسير على نسق واحد لا يتغير، وأن ما حديث في الماضي بعلة من العلل سيتكرر في الحاضر والمستقبل على

نفس النحو مع وجود نفس العلة. (¬1) ولما كان الاستقراء الناقص وسيلة من أبرز وسائل المبحث، لا يمكن الاستغناء عنه سواء في المبحث العلمي أو في الحياة العملية اليومية كان محل عناية من قبل المناطقة، والفلاسفة، وعلماء المناهج، محاولين إيجاد حلول منطقية للمشكلات التي تحول دون الوصول بنتيجته إلى العلم اليقيني أو إلى ما يقرب من ذلك. وفيما يأتي فرض لخلاصة موقف مختلف المذاهب الفلسفية من هذه المشكلة، والمنهج الذي اتبعه كل مذهب لمحاولة حل هذه المشكلة، وبالتالي الوصول إلى تسويغ منطقي لصدق نتيجة الاستقراء الناقص. أولًا: موقف الفكر الأرسطي من مشكلة الاستقراء: لقد أدرك الفكر الأرسطي عُسر إيجاد جواب منطقي شاف ومقنع لهذه المشكلة، فاتجه في حلها إلى افتراض قضايا عقلية قبلية غير مبرهنة، وذلك بناءً على إيمانه بوجود معارف عقلية قبلية مستقلة عن الحس والتجربة. - أما العنصر الأول من مشكلة الاستقراء فقد حله الفكر الأرسطي بالقول بمبدأ السببية الذي يقتضي أن لكل حادثة سببا، واعتباره مبدأً عقليًا لا يحتاج إلى إثبات أو برهان. - أما العنصر الثاني منها فقد استعان في حله بمبدأ عقلي قبلي ينفي أن يكون اقتران الظاهرتين مجرد صدفة، ومفاده أن الإتفاق (الصدفة) لا يكون دائميًّا ولا أكثريّا، بمعنى أنه إذا تحرر اقتران شيئين في جميع الأحيان أو أكثرها، فإن ذلك لا يمكن أن يكون لمجرد الإتفاق (الصدفة)، بل لوجود رابطة سببيّة، فكلما وُجد هذا السبب أنتج مسبَّبَه. - أما العنصر الثالث منها فقد حله باعتماد قضية عقليّة مستنبطة بطريقة برهانية من مبدأ السببيّة، مفادها أن الحالات المتشابهة من الطبيعة تؤدي إلى نتائج ¬

_ (¬1) انظر محمد باقر الصدر: الأسس المنطقية للإستقراء، ص 25 - 27.

متماثلة. (¬1) التجربة والاستقراء الناقص في الفكر الأرسطي: مع كل ما سبق من محاولات لتخطي مشكلة الاستقراء الناقص، إلَّا أن المنطق الأرسطي بقي على رأيه في أن الاستقراء الشاقص لا يفيد سوى الظن، فهو منهج استدلالي قاصر، ومن ثَمَّ كان الفكر البشري في حاجة إلى منهج يصل بالإستدلال إلى مرتبة تحصيل نتائج يقينية أو قريبة من ذلك. ومن أجل الحصول على ذلك حاول المنطق الأرسطي التقدم بنتيجة الاستقراء مرحلةً أخرى ليصل إلى ما اصطلح على تسميته "التجربة". والتجربة في الفكر الأرسطي تتكون من استقراء تلازم شيئين في جميع الحالات أو أغلبها، واستنتاج وجود رابطة سببية بينهما اعتمادًا على المبدأ العقلي القبلي القائل بأن الصدفة لا تكون دائميّة ولا أكثريّة، ثم يجمع بينهما باستدلال قياسي صورته: اقتران (أ) بـ (ب) دائما أُو كثير ... صغرى القياس (ثبتت بالاستقراء) الإتفاق بين شيئين لا يكون دائميًّا ولا أكثريًّا ... كبرى القياس (ثبتت بمبدأ عقلي قبلي) إذًا لابد أن يكون (أ) سببًا لـ (ب) ... نتيجة القياس فالتجربة في المنطق الأرسطي تتلخص في القانون الآتي: التجربة = استقراء مبدأ عقلي قبلي قياس منطقي كامل ومن ثَمَّ يكون الاستقراء الناقص مجردَ تعبير عددي عن العيِّنات التي كانت محل الاستقراء، (¬2) في حين تجمع التجربة بين نتيجة الاستقراء ومبادئ عقلية قبليَّة في شكل قياس منطقي كامل يثمر نتيجة كلية. (¬3) ويرى أتباع المنطق الأرسطي أن التجربة بهذا المفهوم تفيد العلم واليقين، على ¬

_ (¬1) انظر محمد باقر الصدر: الأسس المنطقية للإستقراء، ص 27 - 28. (¬2) انظر محمد باقر الصدر: الأسس المنطقية للإستقراء، ص 32. (¬3) انظر ابن سينا: البرهان، تحقيق عبد الرحمن بدوي، (القاهرة: دار النهضة العربية، ط 2، 1966 م)، ص 49.

عكس الاستقراء الناقص الذي لا يفيد إلَّا الظن، وفي ذلك يقول الرازي في تعليقه على شرح الإشارات والتنبيهات: "عسى سائل أن يقول: ليست التجربة إلَّا مشاهدات متكررة، كما أن الاستقراء أيضًا مشاهدات متكررة، فكيف أفاد التجربة اليقين دون الاستقراء؟ فالجواب: إنه إذا تكررت المشاهدات على وقوع شيء، وعلم بالعقل أنه ليس اتفاقيًّا، إذ الاتفاقات لا تكون دائمة ولا أكثرية، كانت التجربة مفيدة لليقين، وإن لم يعلم ذلك واستدل بمجرد المشاهدات الجزئية بدون ذلك القياس على الحكم الكلي كان استقراءً ولا يفيد اليقين". (¬1) والخلاصة أن المنطق الأرسطي لا يعتبر الاستقراء الناقص بمفرده مفيدًا للعلم ولا سبيلًا يمكن التوصل به إلى التعميم، ولكنه يمكن أن يكون كذلك إذا دعم بمبادئ عقلية قبلية، ليشكل المجموع قياسًا منطقيًّا كاملًا يبرهن على وجود علاقة سببية، ليثبت حكمًا كليًّا يقينيًا وصالحًا للتعميم على كل الحالات المماثلة. وهكذا يتبين أن كل استدلال استقرائي مرده إلى قياس يشتمل على مقدمتين: كبراهما عقلية قبلية، وصغراهما تمثل نتيجة استقراء مجموعة من الأفراد أو الحالات. ومعنى هذا أن الوظفية المباشرة للإستقراء الناقص -في رأي المنطق الأرسطي- هي تقديم صغرى القياس. ثانيًا: موقف المذهب التجريبى من مشكلة الاستقراء: المراد بالمذهب التجريي: المذهب الذي يعتبر التجربة والحس المصدر الأساس للمعرفة، وهو بهذا المعنى يعتبر مقابلًا للمذهب العقلي. (¬2) وأهم ما يميز المذهب التجريبي عن المذهب العقلي أن الأول لا يؤمن بوجود معارف ومبادئ عقلية قبلية مستقلة عن التجربة والمعرفة الحسية، في حين يؤمن الثاني بإمكانية وجودها. ¬

_ (¬1) نقلًا عن: محمد باقر الصدر: الأسس المنطقية للإستقراء، ص 33 - 34. (¬2) " Empiricism is the theory that experience rather than reason is the source of khowledge, and in this sense it is opposed to rationalism) " انظر الموسوعة الفلسفية" " Paul Edwards (ed):the Encycolopedia of Philosophy . N .Y .:Macmillan Publishing Co. Inc. & the Free Press Lodon: Collier Macmillan Publishing, 1972, vol. 2,P. 499.

ونظرًا لكون المذهب التجريبي مدرسة فكرية واسعة فإن أصحابه لم يكن لهم موقف موحّد من مشكلة الاستقراء. ويمكن تصنيف أتباع المذهب التجريبي من حيث موقفهم من مدى الوثوق بنتيجة الدليل الإستقرائي إلى اتجاهات ثلاثة: اتجاه يؤمن بإمكانية الوصول إلى اليقين عن طريق الدليل الإستقرائي، واتجاه آخر يرى أن الدليل الإستقرائي لا يفيد سوى الظن الراجح، واتجاه ثالث يشك في قيمة القضية الإستقرائية من الناحية الموضوعية. (¬1) الإتجاه الأول ذو النزعة اليقينية: يمثل هذا الإتجاه جون ستوارت ميل، وهو اتجاه يشترك مع المذهب العقلي في القول بحاجة الاستقراء إلى مبدأ السببية، ومبدأ التناسق والإطراد القائل بأن الحالات المتماثلة تؤدي إلى نتائج متماثلة. ويقرر أتباع هذا الإتجاه بناء على قضيتي السببية والإطراد في الكون أنه كما حدثت ظاهرة عقيب ظروف معينة فإنها ستحدث باستمرار في كل الظروف المماثلة. ومع هذا التشابه مع المذهب العقلي نجده يختلف عنه في تفسير الأساس الذي يقوم عليه هذان المبدآن (السببية والإطراد). ففي حين يعتبرها المذهب العقلي قضايا عقلية قبلية، يعتبرهما هذا الإتجاه نتيجة استقراءات أوسع وأشمل في الطبيعة، وأننا منذ أن حصلنا على العلم بقضايا السببية نتيجة استقراء لكل ما حولنا من ظواهر الطبيعة، أصبحت بدورها أساسًا لكل تعميم استقرائي لاحق. هذا هو تصور أصحاب هذا الإتجاه لحل العنصرين الأول والثالث من مشكلة الاستقراء. أما موقفهم من العنصر الثاني من مشكلة الاستقراء فإن جون ستوارت ميل حاول الإعتماد على التجربة في إثبات علاقة السببية بين ظاهرتين متلازمتين دائمًا أو غالبا، ونفي أي رابطة سببية مع أي عامل آخر باقتراح أربعة طرق يمكن بأي واحدة منها تحقيق ذلك، وهي: 1 - طريقة الإتفاق: وخلاصتها أنه إذا اتفقت مجموعة من الحالات للظاهرة المراد ¬

_ (¬1) انظر محمد باقر الصدر: الأسس المنطقية للإستقراء، ص 70.

بحثها في ظرف واحد فقط، مع تنوعها في كل الظروف الأخرى، فإنه يمكننا أن نستنتج أن هذا الظرف الوحيد الذي تتفق فيه جميع هذه الحالات، هو السبب الوحيد في هذه الظاهرة. 3 - طريقة الإختلاف: وهي الطريقة التي يكون فيها المستقرئ أمام مجموعة من الحالات المتشابهة في جميع الظروف باستثناء ظرف واحد، ويلاحظ وجود الظاهرة في الحالات المتشابهة في جميع الظروف وانعدامها في الحالات التي ينعدم فيها ذلك الظرف المستثنى، فيستنتج من ذلك أن ذلك الظرف المستثنى هو سبب الظاهرة، بناءً على اختلاف الظاهرة وجودًا وعدمًا باختلاف ذلك العامل. 3 - طريقة التلازم في التغير: وخلاصتها أن الظاهرة التي يلازم تغيرها تغير ظاهرة أخرى بشكل متناسب، تُعَدّ مرتبطة بها بنوع من العلاقة السببية. 4 - طريقة البواقي: اومفادها أنه إذا أدت مجموعة من المقدمات إلى مجموعة أخرى من النتائج، وأمكن إرجاع كل النتائج في المجموعة الثانية، باستثناء نتيجة واحدة، إلى جميع المقدمات في المجموعة الأولى باستثناء مقدمة واحدة، فإننا نستنتج من ذلك وجود علاقة سببية بين المقدمة والنتيجة الباقيتين. (¬1) ولحن الملاحظة الجلية التي يمكن استخلاصها من النظر في كل هذه الطرق أنها لا تعدو أن تفيد ظنًا غالبًا برابطة السببية بين ذينك الشيئين المتلازمان، والتقليل من احتمالات كون الرابطة السببية مع عامل ثالث، لكنها لا يمكن أن توصل إلى نتيجة يقينية. الإتجاه الثاني ذو النزعة الترجيحية: يسلم أصحاب هذا الإتجاه بحاجة التعميم الإستقرائي إلى افتراض قضايا ومصادرات، لكنه يختلف عن المذهب العقلي والإتجاه الأول من المذهب التجريبي ¬

_ (¬1) انظر في تفصيل آراء جون ستوارت ميل هذه: إرفين، وكارل كوهن: مدخل إلى المنطق Irving M. Copi, Carl) (Cohen:Intyouduction to Logic. N.Y.Macmillan Publishing Company. 1990.pp 377 - 401 ود. زكي نجيب محمود: المنطق الوضعي، ج 2، ص 195 - 198.

في طريق إثباتها، فهو لا يعترف بكونها قضايا عقلية مسبقة -كما يرى المذهب العقلي- كما أنه لا يري إمكانية إثباتها باستقراءات سابقة، فهي في رأيه غير ممكنة الإثبات، وتبتى مجرد قضايا احتمالية، ومن ثَمّ فما يُبنى عليها من استقراءات لا يمكن أن تثمر يقينا، وإنما تقتصر وظيفة الاستقراء على تقوية الإحتمال وترجيحه، فكلما زاد عدد الأفراد أو الحالات المستقرأة زادت نسبة احتمال الصدق في نتيجة الاستقراء. (¬1) وليس من اللازم عند أصحاب هذا الإتجاه أن يفيد الاستقراء القطع فـ "العلوم الطبيعية كلها قائمة على الترجيح لا اليقين". (¬2) الإتجاه الثالث ذو النزعة النفسية: يعدّ دايفيد هيوم (David Hume) الرائد الأوهي لهذا الإتجاه الذي يعترف بكون علاقة العلة والمعلول هي الأساس الذي تُبنى عليه جميع الاستدلالات الخاصة بأمور الواقع، وهي علاقة يمكن أن تتعدى الحواس وتنبئنا بموجودات وأشياء لا نراها ولا نشعر بها. ولكنه يري في علاقة السببية بمفهومها العقلي -بوصفها علاقة ضرورة بين السبب والمسبَّب- قضية لا يمكن أن تطالها الخبرة الحسية، وكل ما يمكن أن تدركه الخبرة الحسية هو اقترانهما ببعضهما البعض واطراد ذلك الإقتران والتعاقب، أما علة ذلك الإقتران فإنها خارج إطار الحس والتجربة. ومن ثَمَّ يذهب إلى التسليم بعدم كون الإتفاق دائميًّا أو أغلبيًّا -كما هو الشأن عند أتباع المذهب العقلي- لكنه يرى أن مبرر ذلك ليس منطقيًّا، ولا هو معرفة عقلية قبلية، بل هو مبرر نفسي (سيكولوجي). فهو يرى أن فكرتنا عن العلاقة بين العلة والمعلول تعكس انطباعًا نفسيًّا ذاتيًا هو وليد عادة ذهنية ناتجة عمًا يشاهده الإنسان من تحرار الإقتران بين هذين الموضوعين، وهو بدوره يولِّد انطباعًا بفكرة الضرورة والحتمية، أي ضرورة حدوث المعلول بوجود علته. ومن ثَمَّ فإن هيوم يرى أن فكرتنا عن العلاقة بين العلة والمعلول لا تعكس الواقع الموضوعي، ولا هي آثار للبرهان العقلي، أي أنها لا تقوم على أساس قوانين الواقع الموضوعي. ولكنه مع هذا يعتقد بالقضايا التي نستدل عليها ¬

_ (¬1) انظر محمد باقر الصدر: الأسس المنطقية للإستقراء، ص 83. (¬2) زكي نجيب محمود: المنطق الوضعي، ج 2، ص 301.

بالتجربة والاستقراء، لكنه يفسر ذلك تفسيرًا نفسيًا ذاتيًّا. (¬1) ومهما يكن طريق إدراك علاقة العلية -سواء طبقًا للواقع الموضوعي، أو لانطباع نفسي ذاتي، أو معرفة عقلية قبلية- فإن الجامع بين الإتجاهات كلِّها هو الإعتراف بوجود هذه العلاقة، والإقرار بمبدأ عدم كون الإتفاق دائميًا أو أغلبيّا. والأخذ بتفسير هيوم يضعنا أمام أحد موقفين: إما أَنَّ حكمنا على العلاقات بين الأشياء هو مجرد انطباعات نفسية لا علاقة لها البتة بقوانين الواقع الموضوعي، وبذلك تستوي الحقائق الواقعية والخيالات، وهذا الإتجاه سيقودنا إلى السفسطة. وإما أن نعترف بوجود علاقة بين قوانين الواقع الموضوعي وانطباعاتنا النفسية عن العلاقات بين الأشياء، وفي هذه الحالة نقول: إنه لا مانع من كون أحكامنا على هذه العلاقات نتيجة انطباعات نفسية، بل سنجد كل الأحكام ناتجة عن هذه الإنطباعات التي قد تعكس حقائق واقعية أو أوهامًا، حسب عملية الإستدلال التي توصلنا بها إلى هذه الأحكام، وما يحيط بها من ملابسات وما يتوفر فيها من شروط. ونحن في سعينا إلى الحكم على نتيجة الاستقراء بالقطع أو الظن، أو بالصدق وعدمه، إنما يمكننا الحصول على ذلك من خلال الإنطباع الذهني المتكون نتيجة لتكرار الملاحظة، كما أننا في ممارسة عملية الاستقراء لا نسعى إلى إثبات مطلق وجود علاقة العلية، إذْ يكفي في حصول ذلك ملاحظةٌ واحدةٌ للعلاقة بين عنصرين، وإنما نسعى إلى إثبات اطراد هذه العلاقة بين أفراد نوع أو أنواع جنس، وهذا الإنطباع لا يتأتى إلَّا من خلال عملية تكرار الملاحظة مع الحصول على نتائج متشابهة. والإنطباع الذي يقول عنه هيوم إنه يثيره في الذهن نفس تحرار الأمثلة التي اققرنت فيها (أ) مع (ب)، وأنه عبارة عن تهيؤ الذهن واستعداده لكي ينتقل من موضوع إلى فكرة ما تصاحبه عادة، هو انطباع لا يمكن أن يحصل من غير تكرار وسواء قلنا إنه ناتج عن مجموع الإنطباعات الناتجة عن مشاهدة كل حالة، أو إنه ¬

_ (¬1) انظر Hume, David: A treatise of Human N ature, ed. by Ernest G. Mossner, London: Penguin Group, 1984. pp.121 - 147.

انطباع مستقل نتج عن ملاحظة مجموع تلك الحوادث المتكررة فلا فرق، إذ المهم أنه ناتج عن عملية التكرار التي هي أمر واقعي. أما فيما يتعلق بإنكار دافيد هيوم وجود حقيقة واقعية لعلاقة السببية، استنادًا إلى عدم إمكانية إثبات ذلك بالتجربة والخبرة الحسية فإنه يُرَدّ عليه بأن عدم امتداد التجربة والحس لإثبات قضية من القضايا لا يكفي مبرِّرا لنفيها، والاعتقاد بعدمها، إذْ الحكم على القضية بالنفي أو الإثبات سيان كلاهما يحتاج إلى إثبات. وطبقًا للمذهب التجريبي فإن كلًّا من الحكم على قضية بالنفي، أو بالإثبات يحتاج إلى التجربة والخبرة. فإذا كان الحكم على علاقة السببية بالوجود متعذّرًا -طبقًا للمذهب التجريبي- لعدم القدرة على إثبات ذلك تجريبيا، فإن الحكم عليها بالعدم لا بُدّ أن يكون في حاجة هو أيضًا إلى إثباتٍ بالتجربة والخبرة، وهو أمر متعذر لعدم امتداد التجربة إلى ذلك. وهن هنا يلزم أصحاب المذهب التجريبي التوقف عن الحكم على علاقات السببية بالوجود أو الإنتفاء. ونخلص من هذا إلى أنه لا يوجد مبرر عقلي لنفي علاقة السببية. ثالثًا، تفسير نتيجة الاستقراء وفقًا لمعايير الإختيار: يقوم هذا التفسير على أساسٍ مفاده أننا عند التدقيق في الاستقراءات الفاشلة -التي يُسْتَدَل بها عادة على نقض الدليل الإستقرائي والطعن فيه- نجدها ناتجة عن عدم توفر المتطلبات اللَّازمة للدليل الإستقرائي في مرحلته الإستنباطية، إذْ من شروطه توحيد معايير ومقاييس انتقاء الجزئيات المستقرأة، بأن تكون كلها مشتركة خاصية مفهومية تتميز بها عن غيرها من الجزئيات التي لا يشملها الاستقراء، وأن يكون اعتقاد المستقرئ أنه لا توجد أي خاصية مفهومية إضافية تتميز بها الحالات التي شملها الاستقراء عن الحالات الأخرى التي يراد تعميم النتيجة عليها. ومن هنا يتبين أن عملية الاستقراء تحتاج إلى أمرين: 1 - تحديد المعايير التي يتم على أساسها اختيار الجزئيات المستقرأة، لأن ذلك في غاية الأهمية لتحديد التعميم الإستقرائي الذي سنصل إليه.

3 - مراعاة الدقة في إطلاق التعليمات الإستقرائية، وذلك بالأخذ بعين الإعتبار كل الشروط والملابسات الواجب توافرها لتحقيق التعميم الإستقرائي، وذكر كل القيود والمحترزات اللازمة في التعميم، إذْ إن إدخال عنصر من غير صنف العناصر المستقرأة -نظرًا لقوة شبهه بها- سيؤدي إلى خرقا التعميم الإستقرائي فنحكم على نتيجة الاستقراء بالخطأ، وعلى الدليل الإستقرائي بالقصور والحقيقة أن الأمر غير ذلك، إذْ إن ما عُدَّ نقضًا للإستقراء، ما هو إلَّا عنصر خارج عن عناصر الصنف المستقرأ، وإنما أدخل فيها إما لعدم تحديد مقاييس التصنيف، أو لعدم الدقة في تطبيقها. ومن هنا تبرز أهمية تحديد خصائص ومميزات الجزئيات محل الاستقراء بتعريفها تعريفًا جامعًا مانعا، ويصير التعميم الإستقرائي خاضعًا لتعريف العناصر المستقرأة. ومن الأمثلة على هذه الطريقة ما ذهب إليه فون رايت (G. H. Von Wright) الذي تناول بالتحليل مثال دايفيد هيوم عن كرة البلياردو، وخلاصته أننا نلاحظ أن اندفاع الكرة الأولى تجاه الكرة الثانية واصطدامها بها يتبعه حركة الكرة الثانية، ونستنتج من ذلك أن حركة الكرة الأولى علة حركة الكرة الثانية، ونعمِّم بالاستقراء هذه الملاحظة لنقول: كلّما تحركت واصطدمت كرة أولى بكرة ثانية فإن ذلك سيتبعه تحرك الكرة الثانية. ولكننا قد نجد في بعض الكرات أن كرةً قد تحركت وصدمت كرة أخرى دون أن يؤدي ذلك إلى تحرك الكرة الثانية، كأن تكون الكرة الثانية مثبتة في طاولة البلياردو أو لوجود عائق قوته مساوية لقوة دفع الكرة الأولى، أو أقوى منها، أو لأن الكرة الثانية معدنية والأولى ورقية فلا تقدر على تحريكها، أو غير ذلك من الأسباب. فهل يكون معنى ذلك أن التعميم الإستقرائي المستنتج كان خاطئًا من أصله؟ الواقع أن الأمر ليس كذلك، أي أن التعميم ليس خاطئًا من أساسه، ولكنه قاصر وغير دقيق، لإغفاله ذكر بعض القيود والمحترزات، ومن هنا يدعونا "فون رايت" إلى تعديل صيغة هذا التعميم أو القانون الإستقرائي بما يأتي: "حينما تصطدم كرة بثانية، فإن الأخيرة لا تتحرك إلَّا إذا توافرت شروط محددة، وتحققت ظروف معينة". (¬1) ¬

_ (¬1) انظر (the Logical problem of Inducation, p.46 ,G. H. Von Wright نقلًا عن د. علي عبد المعطي، ود. السيد نفادي: المنطق وفلسفة العلم، ص 302.

ومن هنا يمكن أن يكون الاستقراء ذاته معينًا على اكتشاف صفات أو شروط جديدة نضيفها إلى الظاهرة محل الاستقراء بغرض إقامة صياغة كاملة للقانون العام الذي نسعى إلى إرسائه، أي أن عملية الاستقراء لها تأثير في مسألة صياغة المفاهيم والتصورات وتكوينها، كما أنها تتأثر بها، فعملية التأثير متبادلة بين الاستقراء وصياغة المفاهيم والتصورات وتكوينها. وهذا المسللث في تبرير التعميم الإستقرائي شبيه بما ذهب إليه "جون ديوي" من اعتبار الوظيفة الأساسية لعملية الاستقراء هي التوصل إلى اكتشاف العيِّنة التي تكون ممثلة لما يشبهها من الحالات، وتُتَّخَذ معيارًا يعتمد عليه التعميم الإستقرائي. (¬1) ومن أمثلة ذلك أيضًا مسألة اليسر في أحكام الشارع، فإذا قلنا -مثلًا- إن استقراء موارد الشريعة دلَّ على أن من مقاصدها التيسير فيعترض معترض بأننا لا نلمح حضور هذا المقصد في الحدود لما تتصف به من شدَّة وصرامة. فإننا للإجابة على هذا الإعتراض نجد أنفسنا ملزمين بداية بتحديد مفهوم التيسير عند الشارع، فإذا حدَّدنا التيسير المقصود في النصوص الشرعية، أمكننا بعد ذلك القول هل إن الشارع راعى جانب التيسير في مجال العقوبات أم لا؛ إذْ قد يدخل البعض في التيسير ما هو في حقيقته ليس منه، ومن هنا وجب بداية تحديد مفهوم التيسير المقصود لدى الشارع. وقد اعتمد الشاطي هذا النوع من التسويغ في كتاب المقاصد عند حديثه عن أن القاعدة الكلية لا يقدح فيها شذوذ آحاد الجزئيات، وستأتي مناقشتها عند الحديث عن الاستقراء عند الإمام الشاطبي. وقد بحث علماء أصول الفقه هذا بالتفصيل في قادح العلة المسمى "النقض" وما يتعلق به من جواز تخصيص العلل الشرعية. وأبرز مثال لذلك ما يسلكه المناظر عادة في دفع النقض، كدفع النقض بإظهار مانع أو فوات شره. بأن يظهر المعلل مانعًا من ثبوت الحكم في صورة النقض، أو تخلف شرط من شروط الحكم في صورة ¬

_ (¬1) انظر ذلك في هذا المبحث عند الحديث عن الاستقراء في المنطق الغربي الحديث.

النقض. (¬1) ومن الطبيعي أن يُثَار هنا اعتراض بأنه من العسير الإحاطة بكل الظروف والشروط المؤثرة في الجزئيات المستقرأة، كما أنه من العسير التحقق من اشتمال التعميم الإستقرائي عليها عند صياغته، ولكن يمكن القول إنه وإن كان هذا عسيرًا في العلوم الطبيعية والتجريبية، فإنه أيسر في القضايا الشرعية. ¬

_ (¬1) انظر في تفصيل هذه المسائل: نعمان جغيم: طرق إبطال العلة (رسالة ماجستير في أصول الفقه، كلية الشريعة والقانون بالجامعة الإِسلامية العالمية بإسلام آباد، بكستان، 1996، غير مطبوعة)، ص 161 - 164.

الفصل الثاني الاستقراء في القرآن الكريم والعلوم الشرعية

الفَصْل الثَّانِي الاستقراء في القرآن الكريم والعلوم الشرعية المبحث الأول الاستقراء في القرآن الكريم يجد الباحث في كتاب الله تعالى أن القرآن الكريم قد اتخذ المنهج الإسقرائي وسيلة من وسائل الإستدلال على سنن الله تعالى في الكون والناس، وأنه قد دعا الناس إلي استعماله في حياتهم العامة والخاصة للإعتبار بما سبق، ولإكتشاف ما يتسم به الكون من إِحْكَامٍ في الخلق، ولمعرفة الخالق تعالى، ومعرفة عظمته وقدرته. وقد استعمل القرآن الكريم الاستقراء بنوعيه: التام والناقص، ولكن أكثر استعماله للإستقراء الناقص، وأعطاه دلالة قطعية في إثبات بعض سنن الله تعالى في الكون، وفي حياة البشر وإثبات بعض العقائد، وصفات الذات الإلهية. فمن الآيات التي اتخذ فيها القرآن الكريم المنهج الإستقرائي للإستدلال ما يأتى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)} [الأنعام: 38]. {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)} [الإسراء: 38] وَرَدَ هذا بعد استقراء الآيات السابقة أمهات الرذائل التي ينبغي اجتنابها. (¬1) {وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)} [الزخرف: 35]، ورد هذا بعد استقراء الآيات السابقة لأعظم الملذات التي يمكن أن يطمح إليها الإنسان في هذه الدنيا. (¬2) ومن الآيات التي دعا فيها القرآن الكريم الناس إلى استخدام الاستقراء منهجًا ¬

_ (¬1) انظر الآيات من 26 إلى 37 من سورة الإسراء. (¬2) انظر الآيتان 33 - 34 من سورة الزخرف.

للإستدلال ما يأتي: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)} [الأنعام: 11]. {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)} [النمل: 69]. {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} [العنكبوت: 20]. {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)} [الروم: 42]. {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)} [يوسف: 109]. {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)} [غافر: 82] (¬1). {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10)} [محمد: 10]. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)} [الزمر: 21]. قانون العلية: ومن الآيات التي أشارت إلى قانون العِلِّيّة، الذي يمثل الأساس الأول لتسويغ التعميمات الإستقرائية، قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)} [الطور: 35]. ¬

_ (¬1) وردت بهذا المعنى آيات كثيرة منها: غافر: 21، فاطر: 44، الروم: 9، محمد: 10.

قانون الإطراد: ومن الآيات التي أشارت إلى قانون الإطراد في الكون، الذي يمثل الأساس الثاني لتسويغ التعميمات الإستقرائية ما يأتي: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)} [يس: 38 - 40]. {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (19)} [العنكبوت: 19]. {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)} [هود: 120]، أي أنك أنت وقومك تخضعون لما خضع له من سبقك من رسل وأقوامهم من سنن، فاعتبروا بذلك.

المبحث الثاني الاستقراء في العلوم الشرعية

المبحث الثاني الاستقراء في العلوم الشرعية المطلب الأول الاستقراء عند الأصوليين تعريفه: لم يختلف تعريف غالب الأصوليين للإستقراء عن تعريف المناطقة، ولا غرابة في ذلك فهو مبحث منطقي أساسًا، استُعِيرَ من فنّ المنطق. وليس معنى ذلك أنه لم يُسْتَعْمَل مِنْ قِبَل علماء المسلمين قَبْل ترجمة الفلسفة اليونانية وبدْء التأليف في المنطق، بل قدّ نبه عليه القرآن الكريم، واستعمله الفقهاء من بعد ذلك، وإن لم يسمُّوه باسم الاستقراء، كثيرًا ما يسميه الفقهاء بـ إلحاق الفرد بالأعم الغالب". (¬1) مكانته: اختلف موقف الأصوليين من عَدِّ الاستقراء مبحثًا من المباحث الأصولة، إذْ نجد بعضهم لم يدرجه ضمن مباحث الأصول، في حين أدرجه بعضهم ضمنها. ويبدو أن الاستقراء عندهم بدأ مبحثًا منطقيًّا يُدرج ضمن المقدمات المنطقية التي يُقَدَّمُ بها لكتب الأصول، والتي بدأها أبو حامد الغزالي في كتابه المستصفى. فالغرالي لم يدخله ضمن مباحث أصول الفقه، وإنما تناوله في كتبه المنطقية، (¬2) كما عرض له في كتابه المستصفى من علم الأصول ضمن المقدمات المنطقية التي وصفها بأنها ليست "من جملة علم الأصول، ولا من مقدماته الخاصة به". (¬3) وتبعه في ذلك ابن قدامة في روضة الناظر وجنة المناظر فجعله آخر مبحث من ¬

_ (¬1) انظر الفتوحي: شرح الكوكب المنير، ج 4، ص 419. (¬2) انظر كابيه: محك النظر، ومعيار العلم في فن المنطق. (¬3) الغزالي: المستصفى، ج 1، ص 21.

المقدمة المنطقية التي بدأ بها كتابه، ويظهر أن كلامه في الاستقراء تلخيص لكلام الغزالي. (¬1) ثم انتقل بعد ذلك ليصير دليلًا من الأدلة الأصولية الثانوية. ومن الذين تناولوه ضمن مباحث الأصول الإمام الرازي في كتابه المحصول حيث أدرجه ضمن الأدلة المختلف فيها، (¬2) وتبعه في ذلك البيضاوي الذي قسَّم الأدلة المختلف فيها إلى مقبولة، وغير مقبولة، وجعل الاستقراء ثالث الأدلة المقبولة. (¬3) أما الإمام تاج الدين عبد الوهاب ابن السبي في جمع الجوامع فقد جعله ضمن باب الإستدلال، (¬4) وكذلك فعل ابن النجار الحنبلي في شرح الكوكب المنير (¬5) أقسام الاستقراء: لم يختلف تقسيم الأصوليين للإستقراء عن تقسيم المناطقة، فقد قسموه إلى استقراء تام، واستقراء ناقص، ولكن منهم من خالفهم في تعريفه. 1 - الاستقراء التام: يلاحظ الناظر في تعريفات الأصوليين للإستقراء التام وجود اتجاهين: الإتجاه الأول سار أصحابه مع التعريف المنطقي، ومنهم الغزالي، والبيضاوي، وذلك باشتراطهم كون الاستقراء التام مستوعبًا لجميع الجزئيات الداخلة تحت المعنى الكلي. حيث يؤكد الغزالي أنه "لا يكفي في تمام الاستقراء أن تتصفح ما وجدته شاهدًا على الحكم، إذا أمحن أن ينقل عنه شيء"، (¬6) أي أنه ما دام هناك احتمال أو إمكانية وجود جزئي ينضوي تحت هذا المعنى الكلي، ولوفي المستقبل، فإن الاستقراء لا يُعدُّ تاما. ¬

_ (¬1) انظر ابن بدران الدمشقي: نزهة الخاطر العاطر شرح كتاب روضة الناظر وجنة الماظر، ج 1، ص 88 - 89. (¬2) انظر الرازي: المحصول، ج 6، ص 161. (¬3) انظر الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 114. (¬4) انظر البناني: حاشية البناني على شرح الجلال المحلي على متن جمع الجوامع، ج 2، ص 345 - 346. (¬5) انظر ابن النجار: شرح الكوكب المنير، ج 4، ص 417 - 421. (¬6) الغزالي: معيار العلم في فن المنطق، ص 151.

وهذا الاستقراء التام بشرطه المذكور يفيد القطع. أما الإتجاه الثاني فلم يلتزم أصحابه بالتعريف المنطقي، ومنهم ابن السبكي في جمع الجوامع، (¬1) حيث جعل الاستقراء التام هو استقراء كل الجزئيات إلَّا صورة النزاع. وبنفس التعريف عرفه ابن النجار الحنبلي في شرح الكوكب المنير (¬2) وما اعتبروه استقراء تامًّا هو في الحقيقة استقراء ناقص لأنه لم يشمل صورة التراع، وهي واحدة من جزئيات ذلك الكلي. فكيف يمكن اعتبار الاستقراء تامًّا مع عدم شموله لها؟ كما أن المثال الذي مثلوا له به ليس فيه استقراء تام، وهو"نحو كل جسم متحيز فإنا استقرأنا جميع جزئيات الجسم فوجدناها منحصرة في الجماد والنبات والحيوان، وكل من ذلك متحيز، فقد أفاد هذا الاستقراء الحكم يقينًا في كلي، وهو الجسم الذي هو مشترك بين الجزئيات، فكل جزئي من ذلك الكلي يُحكم عليه بما حُكِم به على الكلي. إلّا صورة النزاع، فيُستدل بذلك على صورة النزاع". (¬3) فقوله: "إنا استقرأنا جميع جزئيات الجسم" غير مسلَّم، إذْ لم يتم استقراؤها كلها، بل بعضها فقط. وقد جزم ابن النجار بإفادة هذا الاستقراء القطع بقوله: "وهو مفيد للقطع". (¬4) أما السبكي فقد ذهب أيضًا إلى أنه يفيد القطع، إلَّا أنه أشار إلى أن البعض يرى أنه يفيد الظن فقط لإحتمال مخالفة تلك الصورة التي لم يشملها الاستقراء، وهي محل النزاع. (¬5) وهذا الاستقراء لا يُعدّ عند أصحاب الإتجاه الأول تامًّا، ونتيجته ليست قطعية، بل هي ظنية فقط. 2 - الاستقراء الناقص: أما الاستقراء الناقص فهو استقراء أكثر الجزئيات لإثبات الحكم للكلي المشترك بين جميع تلك الجزئيات، (¬6) أي أنه الاستقراء الذي لا ¬

_ (¬1) انظر البناني: حاشية البناني على شرح الجلال المحلي على متن جمع الجوامع، ج 2، ص 345 - 346. (¬2) انظر ابن النجار: شرح الكوكب المنير، ج 4، ص 418 - 419. (¬3) المصدر السابق، الصفحة نفسها. (¬4) المصدر السابق، ج 4، ص 419. (¬5) انظر البناني: حاشية البناني على شرح الجلال المحلي على متن جمع الجوامع، ج 2، ص 345 - 346. (¬6) انظر في ذلك مثلًا: ابن النجار: شرح الكوكب المنير، ج 4، ص 419؛ الغزالي: المستصفى، ج 1، ص 55 - 56.

يستوعب كل الجزئيات. ولكن ينبغي التنبيه هنا على أن هذا الإستيعاب إذا تخلفت عنه صورة واحدة، هي محل الإستدلال فإنه يصير استقراء تامًّا عند أصحاب الإتجاه الثاني في تعريف الاستقراء التام، أما عند أصحاب الإتجاه الأول فإنه يبقى استقراءً ناقصًا. وقد استشكل ابن قاسم العبادي في حاشيته على المحلِّي تقييد الاستقراء الناقص بكونه تتبع أكثر الجزئيات، بأنه يلزم عنه خروج ما يكون بنصف الجزئيات فأقل، فلا يكون استقراء، بهذا الإعتبار، ويُشْكل بذلك الأمر في كثير من المسائل التي اعتمد الفقهاء فيها على استقراء بعض الجزئيات، وليس أكثرها، ولذلك اقترح ترك التقييد بالأكثر والإكتفاء بالتقييد بالبعض، مع ضبط ذلك البعض بما يحصل معه ظن عموم الحكم. (¬1) نتيجة الاستقراء بين القطع والظن: أ - الاستقراء التام: اتفق الأصولون على الإحتجاج بالاستقراء التام، وإفادته القطع. (¬2) وقد حدد الشربيني شروط إفادته القطع فيما يأتي: (¬3) 1 - أن يكون حصر جزئيات الكلي قطعيًا، بأن يقطع بأنه ليس له جزئيات أخرى غير تلك المحصورة. 3 - أن يكون ثبوت ذلك الحكم لآحاد تلك الجزئيات قطعيًا. وقد قلّل البعضُ من أهمية هذا النوع من الاستقراء، حيث يرى الغزالي مثلًا أن الجزئية التي يراد الإستدلال عليها بالاستقراء الضام: إما أن يكون المستقرئُ قد ¬

_ (¬1) انظر العبادي، أحمد بن قاسم: الآيات البينات على شرح جمع الجوامع، ضبطه وخرج آياته وأحاديثه زكريا عميرات، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1417 هـ/ 1996 م)، ج 4، ص 246. (¬2) انظر مثلا: الغزالي: المستصفى، ج 1، ص 56؛ ابن النجار: شرح الكوكب المنير، ج 4، ص 419؛ الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 114. (¬3) الشربيني: تقرير الشربيني على حاشية البناني، ج 2، ص 345.

تصفحها أثناء عملية الاستقراء، فيكون قد عرفها وعرف حكمها قبل الوصول إلى نتيجة الاستقراء، ولم تَعُدْ هناك حاجة للإستدلال عليها بالاستقراء، وإما أن لا يكون قد تصفحها أثناء عملية الاستقراء وعند ذلك لا يُعَدُّ هذا الاستقراء تاما، بل هو استقراء ناقص. (¬1) وأرجعه عبد الرحمن الشربيني في تقريره على حاشية البناني على شرح الجلال المحلِّي إلى ما يُسَمّى بالقياس المقسِّم، وذهب إلى أن الأصوليين والفقهاء لا حاجة بهم إلى هذا النوع من الاستقراء؛ "لأنه مبنيٌّ على علم ثبوت الحكم في جميع الجزئيات، والأصوليون إنما يحتاجون الدليل لعلم حكم الجزئي، والفرض أنه معلوم"، (¬2) أي لما كان الاستقراء تامًا، فقد تَمَّ التعرف على حكم كلّ الجزئيات قبل الوصول إلى الحكم الكلي. ومن ثَمَّ لم تبقَ حاجة للإستدلال به على الجزئيات. ويرى الإمام الشربيني أن الاستقراء عند الأصوليين دائمًا ناقص عند المناطقة. (¬3) ب - الاستقراء الناقص: أما الاستقراء الناقص فإنه يفيد الظن المعمول به عند جمهور الأصوليين. (¬4) ويعلل الغزالي مصداقية العمل به بأنه كما ازداد عدد الأصول (أي الجزئيات) الشاهدة لأمر ما زاد الظن فيه، فإذا وجد الأكثر على نمط لم يبقَ الإحتمال على التعادل، بل رَجَحَ بالظنّ أحدُ الاحتمالين، وصار إثبات الواحد وفق الجزئيات الكثيرة أغلب من كونه مستثنى على الندور (¬5) وكلما كان عدد الجزئيات المستقرأة أكثر كان الظن الذي يفيده الاستقراء الناقص أقوى، وبالعكس. وما دام هذا النوع من الاستقراء يفيد الظن فإنه حجة؛ لوجوب العمل بالظن في الشرعيات. (¬6) إلّا أن الإمام ¬

_ (¬1) انظر الغزالي: معيار العلم في فن المنطق، ص 153. (¬2) الشربيني: تقرير الشربيني على حاشية البناني، ج 2، ص 345 - 346. (¬3) المصدر السابق، ج 2، ص 345. (¬4) انظر الغزالي: المستصفى، ج 1، ص 55 - 56؛ الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 114؛ ابن النجار: شرح الكوكب المنير، ج 4، ص 419. (¬5) انظر الغزالي: معيار العلم في فن المنطق، ص 151، 187. (¬6) انظر الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 114، الرازي: المحصول، ج 6، ص 161.

الرازي رجح عدم إفادته الظن، إلّا إذا انضاف إليه دليل منفصل. (¬1) وقد أشار ابن النجار عند حديثه عن الاستقراء الناقص إلى أمر مهم، وهو حالة وجود علة مؤثرة في الحكم، حيث يقول في تريف الاستقراء الناقص: "بأن يكون الاستقراء (بأكثر الجزئيات)، لإثبات الحكم للكلي المشترك بين جميع الجزئيات، بشرط أن لا تتبيَّن العلة المؤثرة في الحكم ... "، (¬2) أي أنه إذا تبيَّن وجودُ علة مؤثرة، صار الإعتماد على العلة المؤثرة، ولم يبق الاستقراء مفيدًا مجرّد الظن، بل يصير مفيدًا اليقين، وهو الذي يسمى بالاستقراء المعلَّل، حيث يصير كل جزئي توفرت فيه تلك العلة محكومًا له بحكم ذلك الكلي. وقد ذهب الغزالي إلى أن الاستقراء الناقص في دلالته على الفقهيات أقوى من التمثيل، الذي هو القياس الفقه. (¬3) إلّا أن صاحب الإبهاج في شرح المنهاج اعترض على هذا بقوله: "هذا مدخول، لأنه يُشترط في إلحاق الجزئي بالجزئي الآخر أن يكون بالجامع الذي هو علة الحكم، وليس الأمر كذلك في الاستقراء، بل هو حكم على الكلي بمجرد ثبوته في أكثر جزئياته، ولا يمتنع عقلًا أن يكون بعض الأنواع مخالفًا للنوع الآخر في الحكم، وإن اندرجَا تحت جنس واحد". (¬4) ¬

_ (¬1) انظر الرازي: المحصول، ج 6، ص 161. (¬2) ابن النجار: شرح الكوكب المنير، ج 4، ص 419. (¬3) انظر الغزالي: معيار العلم في فن المنطق، ص 150. (¬4) السبكي، تقي الدين والسبكي، تاج الدين: الإبهاج في شرح المنهاج، مطبوع على هامش نهاية السول، (مصر: مطبعة التوفيق الأدبية، د. ط، د. ت)، ج 63 ص 114، وانظر ما نقله العبادي في الآيات البينات عن الصفي الهندي. الآيات البينات، ج 4، ص 247 - 248.

المطلب الثاني تطبيقات الاستقراء عند الفقهاء والأصوليين

المطلب الثاني تطبيقات الاستقراء عند الفقهاء والأصوليين لقد استخدم علماء المسلمين الاستقراء في مجالات كثيرة من دراساتهم، فني علم أصول الفقه نجد الاستقراء حاضرًا في كثير من مباحثه، بل هو المُستَنَد الأساس لعلماء الأصول في بعضها. ومن أمثلة ذلك قيام مدرسة الحنفية في الأصول على الاستقراء. فمنظِّرُوا الأصول من علماء الحنفية قاموا باستقراء فتاوى أئمتهم السابقين، ليستخرجوا من ذلك المعاني والضوابط التي التزموا بها في فتاواهم، ثم اتخذوها بعد ذلك أُسُسًا أصَّلُوا الأصول عليها، ومن هنا وُصِفَت أصول الحنفية بأنها ضررة وليست حاكمة. وفي ذلك يقول شاه ولي الله الدهلوي: " ... واعلم أنِّي وجدت أكثرهم يزعمون أنَّ بناء الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي على هذه الأصول المذكورة في كتاب البزدوي ونحوه، وإنما الحق أن أكثرها أصول مخرَّجة على قولهم. وعندي أن المسألة القائلة: بأنما الخاص مُبَيَّنٌ ولا يلحقه بيان، وأن الزيادة فسخ، وأن العام قطعي كالخاص، وألَّا ترجيح بكثرة الرواة، وأنه لا يجب العمل بحديثِ غيرِ الفقيه إذا انسدَّ باب الرأي، ولا عبرة بمفهوم الشرط والوصف مثلًا، وأن موجَبَ الأمر هو الوجوبُ ألبتة، وأمثال ذلك أصول مُخَرَّجة على كلام الأئمة، وأنها لا تصح بها رواية عن أبي حنيفة وصاحبه، وأنه ليست المحافظة عليها والتكلف في جواب ما يرد عليها من صنائع المتقدمين كما يفعله البزدوي ... ". (¬1) كما استخدم أصولِيُّو مدرسة المتكلمين الاستقراء في إثبات ظنية دلالة اللفظ العام على أفراده، فقد اسْتَقْرَوا العمومات الواردة في القرآن الكريم فوجدوا أكثرها قد خُصِّص، فقرروا أن دلالة العام على أفراده ظنية، واشتهر عنهم في ذلك قولهم إنه ما من عام إلّا وقد خُصِّص. (¬2) ¬

_ (¬1) الدهلوي، أحمد بن عبد الرحيم (شاه ولي الله): الإنصاف في بيان أسباب الإختلاف في الأحكام الفقهية، (القاهرة: المطبعة السلفية، 1385 هـ)، ص 13، 38. (¬2) انظر أبو زهرة، محمد: أصول الفقه، (القاهرة: دار الفكر العربي، 1417 هـ / 1997 م)، ص 141.

وفي تناوطم بالدراسة مسالك العلة، نجد الاستقراء حاضرًا، كما هو الحال في مسلك الدوران (الطرد والعكس) الذي هو تلازم الحكم والعلة وجودًا وعدما، (¬1) وهو أمر يحتاج في إثباته إلى الاستقراء، وهو من الاستقراء الناقص. وكما هو في مسلك السبر والتقسيم، إذ التقسيم هو استقراءُ أوصافِ الأصل وجمعها في جملة معينة. (¬2) والقواعد والضوابط الفقهية يقوم الجزء الأكبر منها على الاستقراء، إذْ نوعان: قواعد مقتبسة من النصوص الشرعية، مثل "لا ضرر ولا ضرار، (¬3) و"الأمور بمقاصدها"، (¬4) وهذا يمثل جزءًا يسيرًا من القواعد الفقهية، أما الجزء الأكبر فإنه مُستمدٌّ بطريق استقراء الفروع الفقهية الواردة في الباب الواحد لإستخراج قاعدة كلية أو أغلبية تنتظم تلك الفروع في عقد واحد، وتضبطها بضابط مشترك. (¬5) كما كان الاستقراء أحدَ الوسائل التي اعتمدها الفقهاء في أبواب كثيرة من الفقه الإِسلامي، كإحصاء أنواع المياه، وتحديد دماء الحيض والنفاس والإستحاضة، وتحديد أقصى مدة الحمل، والإستدلال على عدم فرضية صلاة الوتر، (¬6) وغير ذلك. وكان الاستقراء هو الوسيلة الأساسية التي اعتمدها علماء اللغة العربية في استخراج قواعدها وضوابطها، إذ استقصوا في سبيل ذلك معظم التراكيب العربية ¬

_ (¬1) انظر الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 330. (¬2) انظر المصدر السابق، ج 3، ص 289 - 291. (¬3) مأخوذة من الحديث "لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ". سنن ابن ماجة الحديث (2340) و (2341). (¬4) مأخوذة من الحديث: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيهِ". صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، باب (1)، مج 1، ج 1، ص 3، الحديث (1). (¬5) انظر في ذلك مثلا: ابن نجيم، زين العابدين بن إبراهيم: الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1405 هـ/ 1985 م)، ص 15؛ الكرابيسي، أسعد بن محمد بن الحسن: الفروق، تحقيق محمد طموم، (الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية، ط 1، 1402 هـ / 1982 م)، ج 1، ص 33. (¬6) انظر في الإستدلال بالاستقراء على عدم وجوب صلاة الوتر: أبو حامد الغزالي: المسمَّى، ج 1، ص 55، حيث يقول عن الإستدلال بالاستقراء: "كقولنا في الوتر: ليس بفرض؛ لأنه يُؤدَّى على الراحلة، والفرض لا يُؤدَّى على الراحلة. فيقال: لِمَ قلتم إن الفرض لا يُؤدَّى على الراحلة؛ فيقال: عرفناه بالاستقراء، إذ رأينا القضاء والأداء والمنذور وسائر أصناف الفرائض لا تؤدى على الراحلة، فقلنا: إن كل فرض لا يُؤدَّى على الراحلة".

وطرق أدائها، ومعظم المفردات العربية ومشتقاتها، ثم استخرجوا من ذلك قواعد النحو والصرف، ونفس الأمر كان مع استخراج قواعد علم العروض. (¬1) ولَمّا كان أكثر من اعتنى بالاستقراء نظرًا وتطبيقًا هو الإمام الشاطي، ثُمّ تبعه في ذلك الإمام محمد الطاهر بن عاشور فإن بيان مسلك الاستقراء لا يَتِمّ إلّا بإفراد كل واحد منهما بفصل مستقل لبحث موضوع الاستقراء عند كل واحد منهما بشيء من التفصيل. ¬

_ (¬1) انظر في هذا المجال: المخزومي، مهدي: الخليل بن أحمد الفراهيدي: أعماله ومنهجه، (بيروت: دار الرائد العربي، ط 2. 1406 هـ / 1986 م)، ص 77 - 82؛ أحمد مختار عمر: المبحث اللغوي عد العرب مع دراسة لقضية التأثير والتأثر، (القاهرة: عالم الكتب، ط 6، 1988 م)، ص 79 - 92.

الفصل الثالث الاستقراء عند الإمام الشاطبي

الفَصْلِ الثَّالِث الاستقراء عند الإمام الشاطبي تَمْهِيد لم يكن الاستقراء غائبًا غيابًا كاملًا عن مباحث الأصول عند الأصوليين المتقدمين على الشاطبي كما سبقت الإشارة، لكنهم لم يُعنوا به العناية الكافية، ولم يوظفوه توظيفًا كاملًا بوصفه منهجًا للإستدلال على القواعد والمسائل الأصولية. وربما كان ذلك ناتجًا عن التأثر بنظرة المنطق الأرسطي للإستقراء خاصة الناقص منه، من أنه -تبعًا للأسس المثطقية التي بُنِيَ عليها وفُسِّرَ بها- لا يفيد كثيرًا بحكم أنه لا يوصل إلى نتائج قطعية. ويبدو هذا جليًّا في موقف أبي حامد الغزالي -الذي يعدّه البعض أول من أدخل المنطق في علم أصول الفقه (¬1) - حيث قلَّل من أهمية الاستقراء في كونه دليلًا تُستنبط به القواعد الكلية أو الفروع الفقهية من جهتين: إحداهما: أنه حتى وإنكان استقراءً تامًّا، فإنه لا يفيد نتيجَتَهُ إلّا بإرجاعه إلى الضرب الأول من النمط الأول من البرهان، وهو صياغته على شكل مقدمتين يُشترط في أولاهما أن تكون مثبتة، ويُشترط في الثانية أن تكون عامة كلية، وتشترك هاتان المقدمتان في علة تكون حكمًا في إحداهما ومحكومة في الأخرى. (¬2) ووجه التقليل من أهميته هنا جعلُه لا يفيد نتيجة يقينية إلَّا بإرجاعه إلى البرهان. والثانية: وصفه للإستقراء الناقص بالاختلال، وأنه قليل الفائدة، والحكم عليه ¬

_ (¬1) القول بأن الغزالي أول من أدخل علم النطلق في علم أصول الفقه مبي على أنه أول من صدَّرَ كتابًا في أصول الفقه -وهو كتابه المستصفى من علم الأصول- بخلاصة لأهم نظريتين في المنطق القديم، وهما: نظرية الحدّ، ونظرية البرهان. ومع أنه صرح أن هذه المقدمات المظقية ليست من مباحث علم الأصول، ولا من مقدماته الخاصة به، إلّا أنه جعلها أساس كل علم، ومن لا يحيط بها "فلا ثقة له بعلومه أصلا". المستصفى، ج 1، ص 21، وانظر فيما أورده من مقدمات منطقية ج 1، ص 21 - 58 من الكتاب نفسه. (¬2) مثَّل الغزالي لهذا النظم من البرهان في الفقهيات بقوله: كل نبيذ مسكر، وكل مسكر حرام، إذًا كل نبيذ حرام. انظر في تفصيل هذا النظم من البرهان: الغزالي: المستصفى، ج 1، ص 44 - 46.

بعدم إفادة القين مطلقًا، وفي ذلك يقول -بعد أن مثَّل للاستقرإء لإثبات عدم فرضية صلاة الوتر التي تقدمت الإشارة إليها: "وهذا [أي الاستقراء الناقص] مختل يصلح للظنيات دون القطعيات"، (¬1) ويقول: " ... فلا يفيد الاستقراء علمًا كليًّا بثبوت الحكم للمعنى الجامع للجزئيات حتى يجعل ذلك مقدمة في قياس آخر، (¬2) أي أنه لا يمكن إثبات الكليات القطعية به، ومن ثَمَّ لا يمكن جعل تلك الكليات مقدمات لقياس آخر. وسيسعى الباحث في هذا الفصل إلى بيان وجوه العناية والإبداع في موقف الشاطبي من الاستقراء، كيف تمكّن من توظيف هذا المنهج الاستدلالي في مباحث أصول الفقه بطريقة تبدو خالصة من شوائب المنطق اليوناني. ¬

_ (¬1) المصدر السابق، ج 1، ص 55. (¬2) الغزالي: معيار العلم في فن المنطق، ص 152.

المبحث الأول تعريف الاستقراء عند الشاطبي وبيان الأساس الذي يقوم عليه

المبحث الأول تعريف الاستقراء عند الشاطبي وبيان الأساس الذي يقوم عليه أول شيء يُلفت نظر الباحث في موقف الشاطبي من الاستقراء ابتكاره لمصطلح "الاستقراء المعنوي"، هذا المصطلح الذي يحمل في طيّاته دلالة تختلف إلى حدّ ما عن مفهوم الاستقراء في المنطق الأرسطي. تعريف الاستقراء المعنوي: يعرف الشاطبي الاستقراء المعنوي بأنه "الذي لا يثبت بدليل خاص، بل بأدلة منضافٌ بعضُها إلى بعض، مختلفة الأغراض، بحيث ينتظم من مجموعها أمر واحد تجتمع عليه تلك الأدلة، على حَدِّ ما ثبت عند العامة جود حاتم، وشجاعة علي - رضي الله عنه -، وما أشبه ذلك. فلم يعتمد الناس في إثبات قصد الشارع في هذه القواعد [يعني القواعد الضرورية، والحاجية، والتحسينية] على دليل مخصوص، ولا على وجه مخصوص، بل حصل لهم ذلك من الظواهر والعمومات، والمطلقات والمقيدات، والجزئيات الخاصة، في أعيان مختلفة، ووقائع مختلفة، في كل باب من أبواب الفقه، وكل نوع من أنواعه، حتى أَلْفَوْا أدلة الشريعة كلها دائرة على الحفظ على تلك القواعد، هذا مع ما ينضاف إلى ذلك من قرائن أحوال منقولة وغير منقولة". (¬1) فالاستقراء المعنوي ليس استقراءً لأوصاف عرضية، ولا هو استقراء لذات الأدلة، جزئيةكانت أم كلية، وإنما هو استقراء لمقتضيات أدلة وردت بأشكال وصيغ مختلفة، لأغراض شتّى، وفي أبواب متفرقة، لكنها تشترك في معنى من العاني، يكمِّل كلٌّ منها الآخر فيه، ويسند كلٌّ منها ما سبقه من أدلة إلى أن يصل الناظر فيها إلى اليقين، والقطع بكون المعنى الذي اشتركت فيه هذه الأدلة مقصدًا من مقاصد الشارع. ¬

_ (¬1) الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 39.

العلاقة بين التواتر والاستقراء المعنوي: يرى الشاطبي أن الاستقراء نوع من أنواع التواتز وأن المسوَّغ الذي يجعل الاستقراء يفيد القطع هو المسوِّغ ذاته الذي أوجب القطع في نتيجة التواتر وفي ذلك يقول. "وإنما الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع، فإن للاجتماع من القوة ما ليس للافتراق. ولأجله أفاد التواتر القطع، وهذا نوع منه". (¬1) وقد عَدّ الشاطبي الاستقراء المعنوي شبيهًا بالتواتر المعنوي (¬2)، لكنه لم يجعله عينه لما بينهما من فروق. والفرق بينهما أن التواتر المعنوي تكون جميع الأدلة فيه على مساق واحد، راجعة إلى باب واحد، فتكون خادمة لمعنى واحد، وإنما الإختلاف في الألفاظ المروي بها ذلك المعنى، أما الاستقراء المعنوي فمع كون أدلته تنتظم معنًى واحدًا الذي هو المقصود بالإستدلال عليه إلّا أنها مختلفة المساق، لا ترجع إلى باب واحد، وإنما إلى أبواب متعددة. (¬3) ووجه الشبه بينهما أن كلًّا منهما يعتمد أساس التواتر وهو تضافر جملة من الأدلة وتكاثرها على معنى واحد إلى أن يبلغ ذلك المعنى مرتبة القطع. أساس الاستقراء عند الإمام الشاطبي: لقد أدرك الشاطبي أن اعتماده الاستقراء دليلًا أساسيًّا في الإستدلال على الكليات والمقاصد الشرعية أمر غير مسبوق إليه بتلك السِّعة، كما أن إعطاء صفة القطع لنتائج الاستقراء الناقص أمر مخالفً تمامًا لما اشتهر -بين المناطقة وعلماء الشريعة على حدّ سواء- من كونه لا يفيد سوى الظن، ولذلك سعى الشاطبي -من أجل تسويغ عمله هذا- إلى تحقيق أمرين: الأول: بيان الأساس الذي يقوم عليه الاستقراء: فقد أرجعه الإمام الشاطبي إلى ¬

_ (¬1) الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 1، ص 24. (¬2) انظر المصدر السابق، الصفحة نفسها. (¬3) انظر المصدر السابق، مج 1، ج 1، ص 25.

التواتر بأن جعله نوعًا من أنواعه. وربما استغرب البعض هذا التصنيف، وأعترض عليه بأن التواتر المعروف نوعان: تواتر لفظي، وآخر معنوي، وليس هناك نوع ثالث. ومن أجل دفع هذا الإعتراض بيَّن الشاطبي أن روح الاستقراء المعنوي هي روح التواتر المعنوي ذاتها. فكلاهما يقوم على تتبّع معنى تضافرت عليه مجموعة من الأدلة، ومن ثَمَّ فلا غرابة في إدراج الاستقراء المعنوي تحت التواتر وتفسيره حسب قوانينه، وإعطاء نتيجته نفس مصداقية نتيجة التواتر. الثاني: بيان أن الإستدلال بالاستقراء المعنوي على أصول الشريعة وكلياتها ليس بالأمر الغريب ولا الجديد، فقد استعمله علماء الشريعة في ذلك وإن لم يصرحوا به، ولم يميزوه عن غيره من الأدلة، كما أنهم أعطوا نتائجه وصف القطع. وفي ذلك يقول الشاطبي: "إلّا أن المتقدمين من الأصوليين ربما تركوا ذكر هذا المعنى والتنبيه عليه، فحصل إغفاله من بعض المتأخرين، فاستشكل الإستدلال بالآيات على حِدَتِها، وبالأحاديث على انفرادها". (¬1) وقد أبرز الشاطبي ثلاثة أمثلة لذلك هي: (¬2) 1 - حجية الإجماع: فقد قطع العلماء بحجية الإجماع مع أنه لم يرد في ذلك دليل قطي، بل كل ما ورد في ذلك آحادُ أدلَّةٍ لا ترقى عن مرتبة الظن، سواء في الثبوت، أو في الدلالة. بيانما توصل العلماء إلى ما توصلوا إليه بشأن حجية الإجماع من خلال استقراء المعنى المشترك بين تلك الأدلة جميعًا، وهو عصمة إجماع الأمة عن الخطأ، إلى درجة القطع به، ومن ثَمَّ القول بحجية الإجماع بشروطه. (¬3) 2 - حجية القياس: فجمهور علماء الأمة على القطع بحجية القياس، ولم يرد في ذلك دليل قاطع، وإنما ثبت ذلك بالاستقراء المعنوي لِمَا ورد في ذلك من نصوص وحوادث. 3 - حجية أخبار الآحاد: فجمهور علماء الأمة على القطع بوجوب العمل بها، وإنما ثبت ذلك من خلال الاستقراء المعنوي. ¬

_ (¬1) الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 1، ص 25. (¬2) انظر المصدر السابق، مج 1، ج 1، ص 25. (¬3) انظر سلوك الغزالي هذا المسلك في إثباث حجية الإجماع في المستصفى، ج 1، ص 173 - 174.

المبحث الثاني الاستقراء عند الإمام الشاطبي بين القطع والظن

المبحث الثاني الاستقراء عند الإمام الشاطبي بين القطع والظن جرى الشاطبي على التقسيم المعروف للإستقراء إلى استقراء تام، واستقراء ناقص. أما الاستقراء التام فالشاطبي -كغيره من العلماء والمناطقة- يرى أنه يفيد القطع، وقد صرح بذلك في مواطن، منها: 1 - كون حقوق الله تعالى لا ترجع إلى اختيار المكلَّف، ومن ثَمَّ لا يمكن لأحد إسقاطها، حيث يقول: "أما حقوق الله تعالى فالدلائل على أنها غير ساقطة، ولا ترجم لاختيار المكلَّف كثيرة. وأعلاها الاستقراء التام (*) في موارد الشريعة ومصادرها ... ". (¬1) 3 - إثبات أن مورد التكاليف الشرعية هو العقل، حيث قال: "والثالث: أن مورد التكليف هو العقل، وذلك ثابت قطعًا بالاستقراء التام، حتى إذا فُقِد (أي العقل) ارتفع التكليف رأسًا". (¬2) وواضح أن الاستقراء التام هنا ممكن، إذْ إن خطابات الشارع التي ربطت التكليف بالعقل معدودة، وكذلك التي أسقطت التكاليف عن فاقديه. 3 - إثبات أن الأحكام الكلية، والقواعد الأصولية في الدين، لم يقع فيها نسخ وإن كان ذلك ممكن عقلًا، حيث قال بعد تقرير هذه القاعدة: "ويدلّ على ذلك الاستقراء التام ... ". (¬3) وهو أيضًا استقراءً إتمامه ممكن لكون نصوص القرآن محدودة ومعلومة. 4 - ادعاؤه أن انحصار المصالح في ثلاث مراتب (الضرورية، والحاجية، والتحسينية) أمر ثابتًا بالاستقراء التام، وذلك قوله: "واستقر بالاستقراء التام أن المصالح على ثلاث مراتب". (¬4) ¬

_ (*) التسويد في النصوص من عندنا لبيان موضع الشاهد. (¬1) الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 285. (¬2) المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 19. (¬3) المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 79. (¬4) المصدر السابق، مج 2، ج 4، ص 76 - 77. وهذا ادعاء يبدو أنه غير مُسلَّم به، إذ مع التسليم بانحصار المصالح في المراتب الثلاثة التي ذكر، إِلَّا أن القول بأن ذلك ثبت بالاستقراء التام غير ممكن، لعدم القدرة على حصر كل المصالح الشرعية: كلِّيّها وجزئيِّها، وإنما كان الأولى القول بأن ذلك ثابت بالاستقراء الناقص مع مقتضى القسمة العقلية، إذْ حصر مراتب المصالح في ثلاث يقتضى أن لا تخرج عنها بعد ذلك أي مصلحة من المصالح الشرعية.

أما الاستقراء الناقص، فإن الشاطبي يرى أنه قد يفيد الظن، وقد يفيد القطع إذا توفر لذلك جملة شروط سيأتي ذكرها. والدليل على ذلك تصريحه بأن نيتجة الاستقراء قد تكون قطعية، وقد تكون ظنية، حيث يقول: " ... أن الاستقراء هذا شأنه؛ فإنه تصفح جزئيات ذلك المعنى ليثبت من جهتها حكم عام، إما قطعي، وإما ظني". (¬1) ومن المواطن التي يؤخذ منها أن الاستقراء الناقص عنده قد يفيد القطع: حديثه عن المقدمات والأدلة المعتمدة في إثبات قواعد أصول الفقه، وأنها لا تكون إلَّا قطعية، فذكر منها أربعة: 1 - الأدلة الراجعة إلى أحكام العقل الثلاثة: الوجوب، والجواز والإستحالة. 2 - الأدلة الراجعة إلى أحكام العادة وهي ثلاثة: الوجوب، والجواز والإستحالة. 3 - الأدلة السمعية، وهي الأخبار المتواترة: لفظًا -إذا كانت ألفاظها قطعية الدلالة-، ومعنى. 4 - الأدلة المستفادة من الاستقراء في موارد الشريعة (¬2). كثير من هذه الأدلة مستفاد من استقراءات ناقصة، كما سيتبين عند الحديث عن مجالات استخدام الاستقراء عند الشاطبي. ومنها استدلاله بالاستقراء الناقص على تعليل الأحكام الشرعية، وأن الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد في العاجل والآجل، حيث قال -بعد استعراض جملة من الأدلة المستقرأة-: "وإذا دلّ الاستقراء على هذا، وكان في مثل هذه القضية مفيدًا للعلم فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة". (¬3) وهو استقراء - ولا ¬

_ (¬1) الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 221. وقد علَّق على ذلك الشيخ عبد الله دراز بأن حكم الاستقراء يكون قطعيًا إذا كان الاستقراء تامًّا، ويكون ظنيًا إذا كان في غالب الجزئيات فقط (أي ناقصا). انظر تعليق الشيخ عبد الله دراز على الموافقات، مج 2، ج 3، ص 221، هامش رقم 4، 5. ولكن هذا الإطلاق غير مسلَّم؛ إذْ نجد الشاطبي في مواطن أخرى قد أطلق القول بإفادة الاستقراء القطع، ولم يخصص أي نوع من أنواعه مما يشمل الاستقراء الناقص والتام. (¬2) انظر الشاطبي: الموافقات: مج 1، ج 1، ص 23. (¬3) المصدر السابق، مج 1، ج 2، ص 5.

شك - ناقص. وقد حدد الشاطبي ثلاثة شروط للتعميم الإستقرائي الناتج من استقراء ناقص حتى يفيد القطعية: (¬1) 1 - التكرار: بأن تكون نتيجة الاستقراء قد تكرَّر تقريرها في النصوص الشرعية، كما هو الحال في التيسير ورفع الحرج، ومنع الضرر والضرار. 3 - التأكيد: بأن تكون نتيجة الاستقراء قد تَمَّ تأكيد مضمونها في مواضع فية وذلك بعدم استثناء موضع ولا حال مما يشمله. 3 - الإنتشار: بأن ينتشر هذا المعنى في أبواب الشريعة، دون اقتصار على باب واحد من أبوابها. أما إذا كانت الجزئيات المستقرأة في قضية واحدة أو باب واحد فإنه لا ينتظم منها استقراء قطعي، بل تكون نتيجه استقرائها ظنية. (¬2) فإذا توافرت هذه الشروط الثلاثة ارتقى ظاهر هذا العموم "باحتفاف القرائن به إلى منزلة النص القاطع الذي لا احتمال فيه". (¬3) ومثل هذا العموم لا يصح تخصيصه بما خالف 5 من جزئيات، وإنما يمكن ذلك حيث تخصِّصُ القواعدُ بعضها بعضا. (¬4) أما "إن لم يكن العموم مكرَرًا ولا مؤكّدًا، ولا منتشرًا في أبواب الفقه فالتمسك بمجرده فيه نظر وهو"معرض لإحتمالات، فيجب التوقف في القطع بمقتضاه حتى يُعرض على غيره ويُبحث عن وجود معارض له". (¬5) 4 - قطعية الثبوت: مع أن الشاطبي لم يصرح باشتراط كون الأدلة المستقرأة أو بعضها قطعية الثبوت، أي من القرآن الكريم أو السنة المتواترة، وهو أيضًا غير مشروط في التواتر المعنوي الذي قاس عليه الشاطبي الاستقراء، إلّا أنه قد يُفهم من بعض كلامه ¬

_ (¬1) انظر المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 227 - 228. (¬2) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 1. (¬3) المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 228. (¬4) انظر المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 228. (¬5) المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 228.

إشارة إلى ذلك، ففي رده على بعض الآثار التي قد يُفهم منها أن عِظَم الأجر مرتب على عِظَم المشقة لذاتها، وأنه يجوز للمكلَّف أن يقصد عظيم المشقة طلبًا لعظيم الأجر قال: "أولًا: هذه أخبار آحاد في قضية واحدة لا ينتظم منها استقراء قطعي، فالظنيات لا تعارض القطعيات". (¬1) فرده مبني على عنصرين: أحدهما كون تلك الآثار أخبار آحاد، والثاني كونها غير منتشرة، أي في قضية واحدة هي البعد عن المسجد والمشقة في التردد عليه. فكما أن العنصر الثاني عدَّه الشاطبي شرطًا في إفادة الاستقراء الناقص القطع، قد يُفهم كذلك من العنصر الأول اشتراط الشاطبي أن يكون -على الأقل- بعض الجزئيات المستقرأة قطعي الثبوت، كما فعل ابن عاشور فيما بعد. قيمة نتيجة الاستقراء عند الشاطبي: يرى الشاطبي أن التعميم الإستقرائي يكون كليًّا، (¬2) جاريًّا مجرى العموم في الأفراد، (¬3) مفيدًا القطع. (¬4) أما كونه كليًّا فلأن تلقي العلم بالكلي إنما يحصل من استعراض الجزئيات واستقرائها، فالكلي -من حيث هو كلي- غير معلوم لنا قبل العلم بالجزئيات، إذْ ليس له وجود مستقل في الخارج، إنما هو مُضَمَّن في الجزئيات. (¬5) وأما كونه جاريًّا مجرى العموم في الأفراد، فلأنه لما كان مستنبطًا من تلك الجزئيات التي هي أدلة الأمر والنهي الواقعين على جميع المكلفين؛ صارت له قوة اقتضاء الوقوع في جميع الأفراد. فهو كلي في تعلقه، فيكون عامًّا في الأمر به والنهي عنه للجميع. (¬6) ¬

_ (¬1) المصدر السابق، مج 1، ج 2، ص 1. (¬2) يرى أبو حامد الغزالي -وهو الرأي السائد عند المناطقة- أن الاستقراء الناقص لا يفيد علمًا كليًا، وفي ذلك يقول: "فإذًا لا ينتفع بالاستقراء مهما وقع خلاف في بعض الجزئيات، فلا يفيد الاستقراء علمًا كليًا بثبوت الحكم للمعنى الجامع للجزئيات، حتى يجعل ذلك مقدمة في قياس آخر، لا في إثبات الحكم لبعض الجزئيات". أبو حامد الغزالي: معيار العلم في فن المنطق، ص 152. (¬3) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 1، ص 28. (¬4) انظر المصدر السابق، مج 1، ج 1، ص 19 - 20. (¬5) المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 5 - 6. (¬6) انظر المصدر السابق، مج 1، ج 1، ص 28.

وبناءً على ماسبق يرى أن ما ثبت عمومه بالاستقراء يجري مجرى ما ثبت عمومه بصيغ العموم، فيكون دالًّا على كلّ نازلة تقع مما يمكن إدخاله تحت ذلك العموم، ويُحْكّم عليها به من غير حاجة إلى دليل خاص أو قياس، وفي ذلك يقول: " ... ثم استقرى [أي المجتهد] معنى عامًّا من أدلة خاصة. واطَّرد له ذلك المعنى، لم يفتقر بعد ذلك إلى دليل خاص على خصوص نازلة تَعِنُّ، بل يحكم عليها -وإن كانت خاصة- بالدخول تحت عموم المعنى المستقرَى من غير اعتبار بقياس أو غيره، إذْ صار ما استقرَى من عموم المعنى كالمنصوص بصيغة عامة، فكيف يحتاج مع ذلك إلى صيغة خاصة بمطلوبه؟ ". (¬1) معنى القطع والعموم والكلية والإطلاق في الاستقراء عند الشاطبي: مع أن الشاطبي لا يذكر عادةً نوع القطع الذي يفيده الاستقراء، إِلَّا أنه في موضع من المواضع -عند حديثه عن كون الكليات الشرعية قطعية- أشار إلى أن نوع القطع المقصود هنا هو القطع العادي؛ أي أن العادة تحيل وقوع ظن فيه وليس العقل، أي أنه لا يمكن نفي تطرق الظن عقلًا لما ثبت بدليل الاستقراء، وذلك قوله: "لأن الظن إنما يتعلق بالجزئيات؛. إذْ لو جاز تعلق الظن بكليات الشريعة لجاز تعلقه بأصل الشريعة، لأنه الكلي الأول، وذلك غير جائز عادة". (¬2) أما مقصوده بأوصاف العموم والكلية والإطلاق، فقد صرح في المسألة الثانية من الفصل الرابع من كتاب الأدلة الشرعية أن القواعد الشرعية الموصوفة بالعموم والكلية، إنما يُراد بعمومها "العموم العادي" لا العموم الكلي التام الذي لا يختلف عنه جزئي ما"، (¬3) ثم ختم المسألة بقوله: "فليكن على بال من النظر في المسائل الشرعية أن القواعد العامة إنما تُنَزَّل على العموم العادي"، (¬4) أي أنها قواعد أغلبية تتصف بوصف العموم القابل للتخصيص والإستثناء، ومع ذلك لا يطعن في عمومها ورود ¬

_ (¬1) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 226. (¬2) المصدر السابق، مج 1، ج 1، ص 20. (¬3) المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 198. (¬4) المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 2.

بعض المخصصات أو الإستثناءات، وتتصف بوصف الإطلاق القابل للتقييد في بعض الجزئيات، وتتصف بوصف الكلية الذي يراد به أنها قواعد إجمالية ضابطة لعدد كبير من الجزئيات لا يكاد يُحْصَر وذلك على منوال الأدلة الكلية في أصول الفقه، وهي الأدلة الإجمالية (القرآن، والسنة، ... إلخ). وفي ذلك يقول: "لأن الكلية إذا كانت أكثرية في الوضعيات انعقدت كلية، واعتُمِدَت في الحكم بها وعليها، شأن الأمور العادية الجارية في الوجود". (¬1) وقد استدلّ الشاطبي على هذا التفسير لوصفي العموم والكلية بدليلين: الأول: أن سُنّة الله تعالى في العوائد قد جرت بكونها أكثرية لا عامة، ولما كانت الشريعة إنما وضعت لضبط تصرفات الخلق مع تلك العوائد، كان من اللازم أن تسير القواعد الشرعية سير تلك العوائد، فتجري على العموم العادي، لا على العموم الكلي التام الذي لا يختلف عنه جزئي ما. (¬2) الثاني: شهادة الواقع لذلك؛ إذْ إن وضع الشريعة على ذلك ظاهر، ومثال ذلك كان التكاليف الشرعية وُضِعَت على العموم، وجُعِلَ البلوغ علامة التكليف، وهو مَظِنَّة وجود العقل الذي هو مناط التكليف لأن العقل يوجد عنده في الغالب لا على العموم، وكذلك الأمر في السفر الذي جعلت علة الفطر فيه المشقة (¬3)، مع أن المشقة قد توجد في غير سفر، وقد تنعدم فيه، ولكن لما كان السفر مظنة وجود المشقة لمصاحبتها إياه في غالب الأحيان جُعِل ذلك قاعدة عامة. وأمثال هذا كثير في القواعد الشرعية، بل هو الغالب فيها. وبذلك يحون الشاطبي من القائلين بأن تخصيص العلل الشرعية، وتخلفها عن بعض الفروع والجزئيات لا يكون نقضًا لها، ولا قادحًا في عمومها. ¬

_ (¬1) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 271. (¬2) انظر المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 197 - 198. (¬3) هذا على رأي الشاطبي الذي لا يفرق عادة بين العلة والحكمة، ويرى التعليل بالحكمة، أما على رأي الجمهور من الأصوليين فإن علة الفطر والقصر هي السفر لا المشقة، وأما دفع المشقة فهو الحكمة.

المبحث الثالث حل الإمام الشاطبي لمشكلة الاستقراء الناقص

المبحث الثالث حَلُّ الإمام الشاطبي لمشكلة الاستقراء الناقص المراد بمشكلة الاستقراء الناقص -كما سبق الإشارة إليه- هي أننا إذا أعطينا أوصاف الكلية والعموم والقطع لنتيجة الاستقراء الناقص، فإن ذلك يقتضي الجزم بعدم وجود أي مخالف لها أو شاذ عنها، والتحقق من ذلك أمر غير ممكن، كما أن هذا الشذوذ والإستثناء واقع فعلًا في القواعد الشرعية الكلية. وقد قرر الشاطبي -نفسه- أن تخلف بعض الجزئيات قد يؤدي إلى الشّكّ في الكليات، ذلك أن الكلي إنما يُؤخذ من الجزئيات، فإذا خالف الكليُّ الجزئيَّ دلَّ على أن ذلك الكلي لم يتحقق العلم به، أي أن نتيجة هذا الاستقراء لا تكون قطعية؛ "لإمكان أن يتضمن ذلك الجزئي جزءًا من الكلي لم يأخذه المعتبر [المستقرئ] جزءًا منه". (¬1) ولحل هذا يقترح الشاطبي منهجًا تكامليًّا في التعامل مع الكليات والجزئيات يقوم على اعتبار خصوص الجزئيات مع اعتبار كلياتها، وبالعكس، وتكون النتيجة اعتبارهما معًا في كل مسألة والسعي إلى الجمع في النظر بينهما. (¬2) وقبل الحديث عن عناصر الحلّ الذي قدمه الشاطبي لمشكلة الاستقراء الناقص، ينبغي بيان موقفه من مبدأ الإطراد بوصفه أَحَدَ أهمِّ الأسس التي يقوم عليها تفسير نيتجة الاستقراء. موقف الإمام الشاطبي من قانون الإطراد: لقد أثبت الشاطبي قانون الإطراد في الكون وفيما يُبنى عليه من عوائد الناس، وسماه باستقرار عوائد المكلفين وجريان الوجود على ترتيبه. وقد استدلَ الشاطبي على سريان قانون الإطراد على أحوال الكون وعوائد المكلفين بالأدلة الآتية (¬3): ¬

_ (¬1) الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 6. (¬2) انظر المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 5 - 6، وانظر أيضًا مج 1، ج 2، ص 47 - 49. (¬3) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 212 - 215.

1 - استقرار أحكام الشريعة الإِسلامية وتكاليفها، ووضعها "على وزان واحد، وعلى مقدار واحد، وعلى ترتيب واحد، لا اختلاف فيه بحسب متقدم ولا متأخر". (¬1) فكونها بهذه الصورة دليل على استقرار موضوعات التكليف، وهي أفعال المكلفين وعوائدهم، وأفعال المكلفين لا تكون مستقرة مطردة إلّا إذا كان الكون باقيًّا على ترتيبه، أي سائرًا على قانون الإطراد. ويدلّ على صحة هذا البرهان امتناع عكسه، أي أنه لو حديث تغيُّرُ في ترتيب الكون لأدى ذلك إلى حدوث مثله في عوائد الناس المبنية على ذلك، ولأدى ذلك إلى تغيير التشريع واختلافه، وهو باطل، فما أدى إليه فهو كذلك. 2 - ما جاء من إخبارالشارع بأن أحوال هذا الوجود دائمة غير مختلفة إلى قيام الساعة، من أمثال قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)} [الروم: 30]، وقوله: {سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا (62)} [الأحزاب: 62]، وقوله: {سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا (23)} [الفتح: 23]، وقوله: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلًا (43)} [فاطر: 43]، وقوله: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)} [الإسراء: 77]. 3 - المعجزات: إِذْ لَمَّا كانت المعجزة فعلًا خارقًا للعادة، دلَّ ذلك على اطراد العادات في الحال والاستقبال كما اطردت في الماضي؛ ذلك أن الفعل الخارق للعادة لا يمكن أن يحصل إلّا إذا تقرر اطراد عادات الكون وسننه، إذْ لو لم تكن سنن الكون سائرة على اطراد لكانت المعجزة واحدة من الإختلالات الواقعة لتلك السنن، فلم يبق للمعجزة معنى. ومع أن الشاطبي يرى أن سير الكون على قانون الإطراد أمر قطي غير ظني، إلَّا أنه احترز مما قد يورد عليه من طعون بالتصريح بأن ذلك إنما يجري في الكليات لا في خصوص الجزئيات، وهو احتراز مما وقع ويمكن أن يقع من معجزات وخوارق. ومع ¬

_ (¬1) المصدر السابق، مج 1، ج 2، ص 213.

إقرار الشاطبي بأن اتحرام قانون الإطراد في الكون جائز عقلًا، إلّا أنه يرى أن ذلك الإمكان قد اندفع بالسمع القطعي الدال على امتناع الوقوع، وهو الأدلة التي سبق ذكرها. (¬1) فإن قيل فكيف يكون قانون الإطراد قطعيًّا في الكليات مع الإعتراف بتخلف بعض آحاد الجزئيات في المعجزات والخوارق؟ أَلاَ يكون تخلُّف تلك الجزئيات قادحًا في قطعية تلك الكليات؟ فالجواب هو عين ما أجاب به الشاطبي في التوفيق بين قطعية الكليات وإمكانية تخلف آحاد الجزئيات عنها. وفيما يأتي أهم عناصر الحلّ الذي قدمه الشاطبي لمشكلة الاستقراء الناقص، أو مشكلة التوفيق بين اعتبار الكلياتِ عامَّةً قطعيّةً مع إمكانية تخلّف بعض الجزئيات عنها: 1 - تداخل القواعد الشرعية وتكاملها: (¬2) فهذا التداخل والتكامل بينها يجعلها تتجاذب الجزئيات الواقعة ضمن المنطقة المشتركة بينها، فيُلحَق جزئي من جزئيات إحدى الكليات بكلية أخرى، وبالعكس، وقد يُلحق الجزئي الواحد مرة بكلية، ومرة بكلية أخرى على حسب الأحوال والظروف. فإذا أخذنا مثلًا الكليات الثلاث (الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات) فإننا نجدها متداخلة ومتكاملة يخدم بعضُها بعضا، ويخصص بعضُها بعضا. فقاعدة الحاجيات قد تُعْمَل أحيانًا في الضروريات، كما هو الأمر في الرخص التي تُعدّ هادمة لعزائم الأوامر والنواهي فيما يتعلق بكثير من التكاليف الشرعية كالصوم، والصلاة، والإيمان، وغيرها؛ فمع أنها تتعلق بحفظ الدين وهو رأس الضروريات، إلّا أن إعمال قاعدة الحاجيات اقتضى الترخيص حتى تتم المحافظة في الوقت نفسه على الضروريات والحاجيات معًا. (¬3) والخلاصة أن التداخل بين القواعد الشرعية الكلية وتكاملها يجعل بعضها ¬

_ (¬1) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 213 - 215، 226 - 227. (¬2) انظر مثالًا لذلك عند الشاطبي تداخل وتكامل المقاصد الثلاثة: الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات في المسألة الرابعة من النوع الأول من المقاصد. الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 13 وما بعدها. (¬3) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 7 - 8.

خادما لبعض، ومخصصًا له، ولا يمكن اعتبار ذلك التخصيص الناتج عن التكامل طعنًا في عموم وقطعية تلك الكليات. 2 - تخلف شرط أو وجود مانع لا يُعَدُّ خرقًا للكلي: يرى الشاطبي أن القول بأن الكليَّ ينخرم لتخلف جزئي ما صحيح على الجملة، لكن ذلك لا يكون بالنسبة إلى ذات الكلي والجزئي، وإنما بالنسبة إلى الأمور الخارجية، فكون جزئي من الجزئيات مَنَعَه مانع من جريان حقيقة الكلي فيه هو أمر خارجي، وليس راجعًا إلى الطعن في ذات الكلي أو الجزئي، إذْ لولا ذلك المانع الخارجي لأُلْحِقَ الفرعُ بكلِّيِّه ولَمَا خرج عنه. وقد مثَّل الشاطبي لذلك بقوله: "فالإنسان مثلًا يشتمل على الحيوانية بالذات وهي التحرك بالإرادة، وقد يفقد ذلك لأمر خارج من مرض أو مانع غيره، قال صحيح في نفسه، وكون جزئي من جزئياته منعَهُ مانعٌ من جريان حقيقة الكلي فيه أمر خارج". (¬1) وهذا شبيه بما دفع به بعض الأصوليين مسألة النقض الوارد على العلل الشرعية، وهو المسمى بدفع النقض بإظهار مانع أو فوات شرط. (¬2) 3 - عدم معارضة الكلي إلّا بما يماثله: فالكلي لا يُعارَضُ إلّا بكلي مثله، ولما كانت المتخلفات الجزئية من القِلَّة والشذوذ بحيث لا يمكن أن ينتظم منها كلي يعارض ذلك الكلي الثابت، فإنها لا تقدح في كونه كليًّا. (¬3) وربما اعتُرِض على هذا بأن تخلّف تلك الجزئيات وإن كان لا يُسْقِطُ الإستدلال بتلك الكليات على جزئياتها الأخرى، إلَّا أن القول ببقائها كليات بإطلاق غير مُسلَّم، بل إنها تنزل من مرتبة الكلي المطلق إلى مرتبة القاعدة الأغلبية أو الأكثرية. وهذا من قبيل اللفظ العام الذي يرى جمهور الأصوليين أن دلالته على ما تبقى من أفراده بعد ورود المخصص تصير ظنية. ولكن الشاطبي لا يوافق على هذا الإعتراض. (¬4) ¬

_ (¬1) المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 9. (¬2) انظر في ذلك مثلًا: السبكي: الإبهاج في شرح المنهاج، ج 3، ص 71؛ والزركشي: البحر المحيط، ج 5، ص 277 - 278. (¬3) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 41، ومج 2، ج 3، ص 194 - 195. (¬4) انظر المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 215 - 216.

4 - القطعي لا يُعارَض بالظني: لما كان المفترض في القاعدة الكلية القطع فإنها تكون غير محتملة، في حين أن قضايا الأعيان (الجزئيات) المعارضة لها محتملة، أي أنها مظنونة أو متوهمة، والمظنون لا يمكنه أن يكون معارضًا للقطعي، ومن ثَمّ لا تكون الجزئيات المتخلفة عن الكلي طاعنة فيه. (¬1) وهذا إنما يستقيم على تفسير وصف الكلية بكونها القواعد الإجمالية، وتفسير العموم بالعموم العادي لا العموم الكلي التام الذي لا يتخلف عنه جزئي ما، وتفسير القطع بالقطع العادي، وأنه القطع بكون الشارع قاصدًا إلى ذلك المعنى، لا القطع بشمول تلك القاعدة لكل الجزئيات من غير شذوذ ولا استثناء. 5 - الغالب الأكثري مُعْتَبر في الشريعة اعتبار العام القطعي (¬2). وهذا صحيح، لكن يعترض عليه بأن ذلك ليس من جهة اعتباره قطعيًّا كما هو الحال في العام القطعي، وإنما المراد أن الشريعة توجب العمل به لأنه ظن راجح كما توجب العمل بالقطعيات. 6 - التفريق بين الكليات العقلية والكليات الوضعية: فتخلُّف بعض الجزئيات إنما يكون قادحًا في الكليات العقلية، أما الكليات الوضعية -مثل الكليات الشرعية والكليات اللغوية- فلا يكون تخلُّف بعض الجزئيات قادحًا فيها. (¬3) ولكن الشاطبي لم يبيِّن وجه الفرق بين الكليات الوضعية والكليات العقلية، حتى يكون تخلُّف بعض الجزئيات قادحًا في الثانية وغير قادح في الأولى. 7 - الخطأ في إدراج ما ليس من الكلي تحته: وذلك بأن تكون الجزئيات التي ظهر تخلُّفها عن الكلي غير داخلة أصلًا تحت ذلك الكلي، وإنما أُدْخِلَت فيه لشدة شبهها بجزئياته، أو أنه ظهر لنا دخوطا تحت ذلك الكلي، وهي في الحقيقة داخلة تحت كلي آخر أولى بها فلذلك ألحقها الشارع به. (¬4) ¬

_ (¬1) انظر المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 194. (¬2) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 41. (¬3) انظر المصدر السابق، مج 1، ج 2، ص 41. (¬4) انظر المصدر السابق، مج 1، ج 2، ص 41.

8 - عدم إدراك وجه انضواء الجزئيات تحت كلياتها: وذلك بأن تكون الجزئيات التي ظهر لنا تخلُّفها عن الكلي في حقيقتها داخلة فيه، ولكن لم يظهر لنا وجه دخولها. (¬1) والملاحظ من هذه الحجج أن الشاطبي يريد أن يدفع الطعن في الكليات بأي طريق كان ذلك، فهو منذ البداية يقرر أن "هذه الكليات الثلاث إذا كانت قد شرعت للمصالح الخاصة بها فلا يرفعها تخلف آحاد الجزئيات"، (¬2) ثم يختم المسألة بالقول: "فعلى كل تقدير لا اعتبار بمعارضة الجزئيات في صحة وضع الكليات للمصالح"، (¬3) ويقول في موضع آخر: "إذا ثبت قاعدة عامة أو مطلقة فلا تؤثر فيها معارضة قضايا الأعيان ولا حكايات الأحوال". (¬4) 9 - تفسير الشاطبي لمعنى التخصيص: ومما عضد به الشاطبي عدم انتقاض كليات الشريعة وقواعدها العامة بما يرد عليها من استثناءات وتخصيصات، وما يشذّ عنها من جزئيات، موقفُه من مسألة تخصيص العام. فقد ذهب إلى إنكار وجود التخصيص بالمعنى الذي قصده جمهور الأصوليين، سواء كان التخصيص بمتَّصل أم بمنفصل، حيث رفض مفهوم التخصيص عند جمهور الأصوليين من كونه: بيانُ خروج الصيغة عن وضعها من العموم (الحقيقة) إلى الخصوص (المجاز). (¬5) ويرى ¬

_ (¬1) انظر المصدر السابق، مج 1، ج 2، ص 41. (¬2) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 40. (¬3) المصدر السابق، مج 1، ج 2، ص 41. (¬4) المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 194. (¬5) انظر في مفهوم التخصيص عند مختلف طوائف الأصوليين: الآمدي: الأحكام في أصول الأحكام، ج 2، ص 299 - 300. وخلاصة ما أورده الآمدي في مفهوم التخصيص ما يأتي: 1 - مفهوم التخصيص عند أرباب العموم -وهم جمهور الأصوليين- هو "تعريفُ أن المرادَ باللفظ الموضوع للعموم حقيقةَ إنما هو الخصوص"، أو هو"صرف اللفظ عن جهة العموم إلى جهة الخصوص" (ص 300). 2 - مفهوم الخصوص على مذهب أرباب الإشتراك، هو"تعريفُ أنّ المرادَ باللفظ الصالح للعموم والخصوص إنما هو الخصوص"، فالتخصيص ليس إخراجًا لبعض ما تناوله الخطاب عنه، وليس فيه نقلٌ لِلَّفْظِ من الحقيقة إلى المجاز، بل غايته استعمالُ اللفظ في بعض محامله دون البعض (ص 299 - 300). 3 - مفهوم التخصيص على مذهب أرباب الوقف هو أن "اللفظ عندهم موقوف لا يُعْلَمُ كونه للخصوص أو للعموم، وهو صالح لاستعماله في كل واحد منهما. فإن تام الدليل على أنه أريد به العموم وجب حمله عليه، وامتنع إخراج شيء منه، وإن تام الدليل على أنه للخصوص لم يكن اللفظ إذ ذاك دليلًا على العموم، ولا متناولًا له، فلا يتحقق بالحمل على الخاص إخراج بعض ما تناوله اللفظ على بعض محامله الصالح لها" (ص 299).

الشاطبي أنه ليس فيما يُسمى تخصيصًا -سواء كان بمخصصات متّصلة أم منفصلة- إخراجٌ لأيِّ شيء مما شمله اللفظ العام، كما ليس فيه إخراج له من الحقيقة إلى المجاز وإنما "هو بيان لقصد المتكلم في عموم اللفظ أن لا يتوهم السامع منه غير ما قصد"، (¬1) فالتخصيص عنده "بيان المقصود بالصيغ المذكورة، فإنه رَفْعٌ لتوهُّمِ دخولِ المخصوض تحت عموم الصيغة في فهم السامع، وليس بمراد الدخول تحتها، وإلاّ كان التخصيص نسخًا". (¬2) فاللفظ -عند الشاطبي- باقٍ على عمومه، ولكنه عموم مقيَّد بما قصده المتكلمٍ، أي أن العموم هنا مقصور على ما قصد المتكلم أن يَعُمَّه بخطابه، سواء كان عموما قياسيّا، أي من حيث الوضع اللغوي الإنفرادي للفظ، أو عمومًا استعماليّا. (¬3) ويفهم من هذا أن رأي الشاطبي يشبه رأي أرباب الإشتراك في مسألة: هل للعموم في اللغة صيغة موضوعة له خاصة به تدلّ عليه أم لا؟ (¬4) من حيث إن العام مشترك بين الحقيقة اللغوية، والعرفية (الإستعمالية)، والشرعية، والذي يحدِّد المرادَ من هذه الثلاث بصيغة العموم هو السياق والقرائن، ومنها ما يُسمى عند الأصوليين بالمخصصات. والخلاصة أن الفرق بين تفسير الشاطبي لما يُسمى بالتخصيص وتفسير جمهور الأصوليين له، أن التخصيص في رأي الشاطبي راجع إلى بيان وضع الصيغ العمومية في أصل الإستعمال العربي أو الشرعي، أما عند جمهور الأصوليين فإنه يرجع إلى بيان خروج الصيغة عن وضعها من العموم إلى الخصوص، فهو يرى أن التخصيص بيانٌ لوضع اللفظ، وهم يرون أنه بيان لخروج اللفظ عن وضعه. (¬5) وقد كان دافع الشاطبي إلى تبني هذا التقسيم لصيغ العموم وتفسير التخصيص هو المحافظة على قوة الإحتجاج بكليات القرآن الكريم وعموماته بالقطع بدلالتها ¬

_ (¬1) الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 213. (¬2) المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 214. (¬3) انظر تفريق الشاطبي بين العموم القياسي والعموم الإستعمالي في: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 200 وما بعدها. (¬4) انظر في هذه المسألة: الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 2، ص 221 وما بعدها. (¬5) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 214.

على ما تشمله، (¬1) وإذا تحقق هذا لكليات القرآن الكريم وعموماته فسيتحقق للكليات والتعميمات الإستقرائية؛ لأن الاستقراء مما يثبت به العموم عنده. 10 - عدم تخصيص الرخص للعزائم: ومما عضد به ذلك أيضًا ما ذهب إليه من أن العمومات- التي هي عزائم- إِذَا رُفِعَ الإثمُ عن المخالف فيها لعذر من الأعذار لم يعدّ ذلك تخصيصًا طا، بمعنى أن الرُّخص لا تُعَدُّ طعنًا ولا نقضًا لعموم العزائم، فأحكام تلك العزائم متوجهة على عمومها من غير تخصيص، (¬2) أي أن تخلف بعض الجزئيات لعذر (وهو شبيه بتخلف بعض الجزئيات عن التعميم الإستقرائي لمانع) لا يُعَدُّ خرقًا لعموم العام، سواء كان العموم ناتجًا عن عموم لفظي أو استقرائي، إذ العموم -عند الشاطبي- يثبت بكلا الطريقين. (¬3) والخلاصة أن القانون الذي يحكم علاقة الكليات بالجزئيات عند الشاطبي، هو أن تخلف آحاد الجزئيات عن مقتضى الكلي إذا كان لعارض أو مانع فإنه لا يكون قادحًا في ذلك الكلي؛ لأنه راجع إلى المحافظة على ذلك الكلي من جهة أخرى، أما إذا لم يكن لعارض أو مانع فإنه لا يصح شرعًا، ويكون تخلُّفه قادحًا في ذلك الكلي. (¬4) ¬

_ (¬1) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 215 - 216. (¬2) انظر المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 218. (¬3) انظر المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 221. (¬4) انظر المصدر السابق، مج 1، ج 2، ص 49.

المبحث الرابع مجالات استخدام الشاطبي للإستقراء

المبحث الرابع مجالات استخدام الشاطبي للإستقراء استخدم الإمام الشاطبي المنهج الإستقرائي في الإستدلال لإثبات مسائل كثيرة جدا، أغلبها يتعلق بكليات الشريعة وقواعدها العامة. ومن العسير استقصاء كلّ المسائل التي استخدم الشاطبي فيها الاستقراء، خاصة وأنه -كما سبقت الإشارة- قد بنى كتابه الموافقات على منهج الإستدلال الإستقرائي، ولكن لما كانت هذه الدراسة تطبيقية في جانب منها، كان من اللازم استعراض جملة من تلك المجالات، وهي كالآتي: أولًا - تعليل الأحكام الشرعية: ومن ذلك المسائل الآتية: 1 - إثبات كون الأحكام الشرعية معللة، وأن العلة الأساس في ذلك هي المصلحة، أي أن الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد في الدنيا والآخرة، حيث يقول: "والمعتمد إنما هو أننا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراءً لا ينازع فيه الرازي، ولا غيره". (¬1) وواضح من قوله: "أنا استقرينا من الشريعة" أن الاستقراء هنا ناقص. والذي ينفي الشاطبي إمكانية النزاع فيه من قِبِل الرازي أو غيره ليس هو كون نتيجة الاستقراء الناقص قطعية بإطلاق، وإنما هو ثبوت كون الأحكام الشرعية معللة من غير شكّ. وقد عمل الشاطبي -من أجل تحقيق هذا الاستقراء- على استقراء جانبين: الأول: الأدلة التي نصت على تعليل الشريعة جملة، والثاني: تعاليل تفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة. (¬2) 2 - إثبات قاعدة: أن الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد، دون ¬

_ (¬1) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 4. (¬2) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 4 - 5.

الإلتفات إلى المعاني، والأصل في العادات الإلتفات إلى المعاني. (¬1) ثانيًا - إثبات المقاصد الشرعية الكلية: ومن ذلك المسائل الآتية: 1 - إثبات كون القصد من وضع الشريعة هو المحافظة على الضروريات الخمس: الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل. ومع أن الشاطبي لم يصرح بلفظ الاستقراء عند حديثه عن طريق ثبوتها، إلّا أن سياق الحديث يوجب ذلك لأمرين: الأول أنه في معرض الحديث عن أن ما ثبت بالاستقراء يفيد القطع، والتدليل على ذلك والتمثيل له، والثاني أن ما عَدَّهُ دليلًا على قطعية ما ذهب إليه من كون الشريعة إنما وُضِعت للمحافظة على الضروريات الخمس هو عين ما عرَّف به الاستقراء المعنوي من قَبْل، حيث يقول: " ... وعلمها عند الأمة كالضروري، ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين، ولا شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها إليه، بل عُلِمت ملاءمتها للشريعة بمجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد ... ". (¬2) 3 - إثبات قاعدة: أن الطاعة أو المعصية تعظم بحسب عِظَم المصلحة أو المفسدة الناشئة عنها، وأعظم المصالح جريان الضروريات الخمس، وأعظم المفاسد ما يَكِرُّ بالإخلال عليها، فقد ثبت بالاستقراء أن كلّ ما وُضِع له حَدٌّ أو وعيد في نفسه فهو راجع إلى ضروري. بخلاف ما كان راجعًا إلى حاجي أو تكميلي، فإنه لم يختص بوعيد في نفسه، ولا بحدٍّ معلوم يخصه. (¬3) 3 - حصر المصالح الشرعية في ثلاث مراتب: هي الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات. (¬4) وهي التي سماها في موطن آخر بالكليات الشرعية. (¬5) ¬

_ (¬1) انظر المصدر السابق، مج 1، ج 2، ص 228. (¬2) المصدر السابق، مج 1، ج 1، ص 26. (¬3) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 227. (¬4) انظر المصدر السابق، مج 2، ج 4، ص 76 - 77. (¬5) انظر المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 20.

ثالثًا - إثبات قطعية أصول الدين وكلياته وما يرجع إليها: ومن ذلك المسائل الآتية: 1 - إثبات كون أصول الدين كلها قطعية، وأن ما كان منها ظنيا لا يمكن جعله أصلًا في الدين. (¬1) 2 - إثبات رجوع أصول الفقه إلى كليات الشريعة، حيث يقول: "إن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية؛ والدليل على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة، وما كان كذلك فهو قطعي. بيان الأول [أي كونها راجعة إلى كليات الشريعة] ظاهر بالاستقراء المفيد للقطع". (¬2) 3 - إثبات قطعية وجوب القواعد الخمس (الشهادتان، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج) (¬3). وينبني التنبيه هنا على أن الأمر الذي سعى الشاطبي إلى إثباته بالاستقراء ليس هو مجرد الوجوب، بل قطعيته إلى أن صارت هذه القواعد الخمس من المعلوم من الدين بالضرورة، وإلاّ فمجرد الوجوب ثابت ببعض الأدلة الجزئية، ولا حاجة فيه إلى الاستقراء. 4 - قطعية وجوب الصلاة وحرمة القتل أنموذجًا لتطبيق الاستقراء: من الأمثلة التي أشار فيها الشاطبي بشيء من التفصيل إلى كيفية تطبيق الاستقراء المعنوي، استدلاله على قطعية وجوب الصلاة، وتحريم القتل. فني استدلاله على قطعية وجوب الصلاة، أشار إلى أن القطع بالوجوب يتأتى من استقراء الجوانب الآتية (¬4): 1 - الأدلة الموجبة للصلاة بالأمر بأدائها وإقامتها. 2 - الأدلة التي جاءت في مدح المقيمين لها. ¬

_ (¬1) انظر المصدر السابق، مج 1، ج 1، ص 21. (¬2) المصدر السابق، مج 1، ج 1، ص 19. (¬3) انظر المصدر السابق، مج 1، ج 1، ص 24 - 25. (¬4) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 1، ص 26.

3 - الأدلة التي جاءت في ذم التا كين لها. 4 - الأدلة التي جاءت في وجوب إقامتها على كلّ الأحوال وفي كلّ الظروف. 5 - الأدلة التي جاءت في قتال تاركها أو المعاند في تركها. 6 - الأدلة التي جاءت في قرنها بالإيمان. وغير ذلك مما يوحي بأهميتها وفضلها. وفي استدلاله على قطعية حرمة قتل النفس أشار إلى أن القطع بحرمته يتأتى من استقراء الجوانب الآتية (¬1): 1 - الأدلة التي جاءت في تحريم قتل النفس. 2 - الأدلة التي جاءت في وجوب القصاص من القاتل. 3 - الأدلة التي جاءت بالوعيد لمن قتلها. 4 - الأدلة التي جاءت في قرن قتلها بالشرك وبيان أن ذلك من الكبائر 5 - الأدلة التي جاءت في وجوب إطعام المضطر وسدَّ رمقه. 6 - الأدلة التي جاءت في وجوب الزكاة، وهي مساعدةٌ للفقراء والمحتاجين للمحافظة على نفوسهم. 7 - الأدلة التي جاءت في وجوب النفقة على من لا يقدر على إصلاح نفسه. 8 - الأدلة التي جاءت في الترخيص للمضطر في تناول الحرام لحفظ نفسه. 9 - الأدلة التي جاءت في إقامة الحكام والقضاة، وجعل حفظ النفوس واحدة من وظائفهم. 10 - ترتيب الأجناد لمحاربة من رام قتل النفس. 11 - وكل ما يمكن أن يكون خادمًا لحفظ النفس وجودًا أو عدما. ¬

_ (¬1) انظر المصدر السابق، الصفحة نفسها.

رابعًا - مسائل تتعلق بالأمر والنهى: ومن ذلك المسائل الآتية: 1 - إثبات قاعدة: أن المطلوب الشرعي الذي يكون فيه الطبع الإنساني باعثًا على مقتضى الطلب وخادمًا له لا يلجأ الشارع عادة إلى تأكيده ووضع حدود له وترتيب عقوبات عليه، بخلاف ما كان على عكس ذلك. فقد قسم الشاطبي المطلوب الشرعي إلى ضربين: الأول ما كان شاهدُ الطبع خادمًا له ومعينًا عليه، بحيث يكون الطبع الإنساني باعثًا على مقتضى الطلب، ومن أمثلة ذلك الأكل، والشرب، والجماع، والبعد عن استعمال القاذورات وأكلها، وغير ذلك. وهذا النوع قد يكتفي الشارع في طلبه عادة بمقتضى الجبلة الطبعية، والعادات الجارية، فلا يؤكد طلبَه تأكيدَه لغيره، اكتفاءً بالوازع الباعث على الموافقة دون المخالفة. والضرب الثاني: هو ما لم يكن شاهدُ الطبع خادمًا له ولا معينًا عليه، وإنما هو من باب التكاليف التي قد تجري على خلاف هوى الأنفس، ومثال ذلك العبادات، والجنايات. وهذا النوع قرره الشارع على مقتضاه من التأكيد في المؤكدات، والتخفيف في المخففات. ولذلك حَدَّ الشارع لهذا النوع حدودًا معلومة، ووضع له عقوبات معينة، إبلاغًا في الزجر عما تقتضيه الطباع. وما قيل في أنواع المطلوب الشرعي ينطبق تمامًا على المنهيات الشرعية. (¬1) 2 - إثبات قاعدة: أن "الأمر والنهي إذا تَوَارَدَا على متلازمين، فكان أحدهما مأمورًا به والآخر منهيًّا عنه عند فرض الإنفراد، وكان أحدهما في حُكم التَّبَعِ للآخر وجودًا أو عدمًا فإن المعتبر من الإقتضائين ما انصرف إلى جهة المتبوع، وأما ما انصرف إلى جهة التابع فملغي وساقط الإعتبار شرعًا". (¬2) خامسًا - مسائل تتعلق بالعموم، ومن ذلك المسائل الآتية، 1 - إثبات العموم، حيث يرى الشاطبي أن العموم يثبت من طريقين: الأول: جهة صيغ العموم المعروفة في كلام أهل الأصول. ¬

_ (¬1) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 99 - 102. (¬2) المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 123.

الثاني: "استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في الذهن أمر كل عام فيجري في الحكم مجرى العموم المستفاد من الصيغ"، (¬1) لأن الاستقراء إنما هو تصفح جزئيات معنى من المعاني ليُثْبَت من جهتها حكم عام. وهذا هو الذي سماه بالعموم المعنوي. (¬2) 2 - إجراء العام على عمومه: حيث استدلّ بالاستقراء على أن العمومات التي اتحد معناها، وانتشرت في أبواب الشريعة، أو تكررت في مواطن كثيرة من غير تخصيص يجب إجراؤها على عمومها من غير حاجة إلى التوقف للبحث عن المعارض أو المخصص. (¬3) سادسًا - النسخ والتشابه في القرآن الكريم: ومن ذلك المسائل الآتية: 1 - محل النسخ: حيث أثبت بالاستقراء التام أن النسخ لم يقع في كليات الدين وقواعده الأصولية. (¬4) وهو استقراء ممكن، لأن كليات الدين وقواعده الأصولية في القرآن الكريم يمكن حصرها والتأكّد من عدم نسخها. 2 - نسبة المنسوخ إلى المُحْكَم: فاستقراء الناسخ والمنسوخ يدلُّ على أن نسبة الجزئيات التي وقع فيها النسخ بالنسبة إلى ما بقي محكمًا قليلة. (¬5) 3 - محل المتشابه: حيث أثبت بالاستقراء أن التشابه لا يقع في القواعد الكلية، وإنما في الفروع الجزئية. (¬6) 4 - قلة المتشابه في القرآن الكريم: فقد اعتمد الاستقراءَ دليلًا لإثبات قلة المتشابه في القرآن الكريم، وأنه لم يقع إلّا فيما لا يتعلق به تكليف غير مجرد الإيمان به وأنه من عند الله تعالى، وأنه لحكمة أرادها. (¬7) ¬

_ (¬1) المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 221. (¬2) انظر المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 194. (¬3) انظر المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 227. (¬4) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 78 - 79، 88. (¬5) انظر المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 79. (¬6) انظر المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 71 - 72. (¬7) انظر المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 64 - 65، 70.

سابعًا - إثبات حجية الأدلة الشرعية: ومن ذلك: 1 - إثبات حجية المصلحة المرسلة: فمما اعتبره الشاطبي ثابتًا بالاستقراء المعنوي المصلحة المرسلة، إذْ المصلحة أصل شرعي وإن لم يشهد له نص معين بالاعتبار إلَّا أنه لما كان ملائمًا لتصرفات الشرع، ومأخوذًا معناه من أدلته كان أصلًا صحيحًا يُبنى عليه ويرجع إليه. (¬1) 2 - كما نَبَّهَ على أن حجية كلٍّ من خبر الآحاد، والإجماع، والقياس ثابتة بالاستقراء المعنوي، وإن لم يصرح بذلك الجمهور الذين أثبتوا حجيتها. (¬2) ثامنًا - وجه اقتضاء الأدلة للأحكام بالنسبة لمحالِّها: حيث استدل بالاستقراء على أن اقتضاء الأدلة للأحكام بالنسبة لمحالهِّا على وجهين: أحدهما الإقتضاء الأصلي قبل طروء العوارض، وهو الواقع على الْمَحَل مجردًا من التوابع والإضافات كالحكم بإباحة الصيد، والبيع، والإجارة، وغير ذلك، والثاني الإقتضاء التَّبَعِي: وهو الواقع على الْمَحَلّ مع اعتبار التوابع والإضافات، كالأحكام العارضة للنكاح فإنه يحكم عليه بالإباحة لمن لا إِرْبَ له في النساء، وبالوجوب على من خشي العنت، وغيرها من الأحكام الخمسة، فهذه الأحكام ليست بالإقتضاء الأصلي وإنما باعتبار الظروف والعوارض التي يَتَّصِف بها المحكوم عليه. والأصل في الإستدلال أن يأخذ المستدلُ الدليلَ على الحُكْم مفردًا مجردًا عن اعتبار الواقع حتى يصحَّ استدلاله، إلّا إذا اقترن المناط بأمر محتاج إلى اعتباره في الإستدلال، فعند ذلك لا بُدَّ من اعتباره. وبعد أن استعرض جملة من الأمثلة للتدليل على ما ذهب إليه قال: "والأمثلة في هذا المعنى لا تحصى، واستقراؤها من الشريعة يفيد العلم بصحة هذا التفصيل". (¬3) ¬

_ (¬1) انظر المصدر السابق، مج 1، ج 2، ص 27. (¬2) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 25. (¬3) المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 58 - 59.

تاسعًا - إثبات قانون الإطراد في الكون: وذلك من خلال الإستدلال بالاستقراء على إثبات العوائد العامة التي لا تختلف بحسب الأعصار والأمصار والأحوال، كلأكل والشرب، والفرح والحزن، والنوم واليقظة، والميل إلى الملائم والنفور عن المنافر، وتناول الطيبات والمستلذات، واجتناب المؤلمات والخبائث، أو بتعبير آخر السنن الثابتة التي وضعها الله تعالى في الأنفس والكون. وهذه العادات يكون ما جرى منها في الزمان الحاضر محكومًا به على الزمان الماضي والمستقبل مطلقًا، كانت العادة وجودية أو شرعية. وقد اعتبر الشاطبي قانون الإطراد في هذا النوع من العادات أو السنن عادةً كليّةً أبديّة، وحكمًا باقيًّا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو أمر معلوم غير مظنون. (¬1) عاشرًا - جريان الأدلة الشرعية على مقتضيات العقول السليمة: فقد استدلّ بالاستقراء على أن الأدلة الشرعية جارية على مقتضيات العقول السليمة "بحيث تصدقها العقول الراجحة، وتنقاد لها طائعةً أو كارهة، ولا كلام في عناد معاند، ولا في تجاهل متعام، وهو المعنيُّ بكونها جارية على مقتضى العقول، لا أن العقول حاكمة عليها، ولا محسنة فيها ولا مقبحة". (¬2) تعقيب: تظهر أهمية ما قدمه الشاطبي في إعادته تكييف الاستقراء ببنائه على أسس جديدة، وإبراز معايير أخرى لتفسيره وتسويغ نتيجته، وذلك من خلال ابتكار ما اصطلح على تسميته بـ"الاستقراء المعنوي"، ثم إلحاقه بمبحث التواتر وتفسير نتيجته طبقًا لقوانين التواتر المعنوي، مما أعطاه مصداقية كبيرة ليصير أقوى دليل-على الأقل عنده- في إثبات الأصول والقواعد الكلية، ثم عمل بعد ذلك على توظيفه في الإستدلال للقواعد الكلية والمقاصد الشرعية. ¬

_ (¬1) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 227. (¬2) المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 20.

ويمكن إبراز عناية الشاطبي بالاستقراء منهجًا للإستدلال فيما يأتي: 1 - توسيعه لمجال استخدام المنهج الإستقرائي للإستدلال على القواعد العامة، والكليات والمقاصد الشرعية، واقتناص القطعيات من الظنيات، حيث جعله المنهج الأساس الذي بنى عليه كتابه الموافقات، وقد صرح بذلك في خطبة الكتاب، حيث قال: "ولما بدا من مكنون السرِّ ما بدا، ووفَّق الله الكريم لما شاء منه وهدى، لم أزل أقيّد من أوابده، وأضمّ من شوارده تفاصيلًا وجملًا، وأسوق من شواهده، في مصادر الحكم وموارده، مبيِّنًا لا مجملًا، معتمدًا على الاستقراءات الكلية، غير مقتصر على الأفراد الجزئية، ومبيِّنًا أصولها النقلية، بأطراف من القضايا العقلية، حسبما أعطته الإستطاعة والْمُنَّةُ، في بيان مقاصد الكتاب والسنة". (¬1) وأشار في نهاية الكتاب إلى أن هذا المنهج الإستقرائي - الذي اعتمده في الإستدلال على الكليات واقتناص القطعيات من الظنيات- يمثل خاصة كتابه، وميزته التي تميزه عن غيره، حيث قال: " ... ومَرَّ أيضًا بيان كيفية اقتناص القطع من الظنيات، وهي خاصة هذا الكتاب لمن تأمله والحمد لله". (¬2) والناظر في كتابه يجده فعلًا قد التزم بذلك، فأوَّلُ دليل استدل به على أول مقدمة استهل بها كتابه هو الاستقراء، (¬3) ولا نكاد نجد قاعدة من القواعد العامة، أو كلية من الكليات التي بحثها في كتابه هذا إلّا وقد استدل لها -من جملة أدلتها- بالاستقراء، سواء اكتفى في ذلك بالقول بأن تلك القاعدة أو الكلية محلّ الإستدلال قد ثبتت باستقراء موارد الشريعة ومصادرها من غير إيرادٍ للجزئيات المستقرأة، أو بإيراد طرف من تلك الآحاد المستقرأة. وإذا أخذنا بعين الإعتبار كون كتابه الموافقات يبحث في الكليات والقواعد العامة، فليس من المبالغة القول -كما صرح هو نفسه- بأن الاستقراء يمثِّل العمدة وسيِّد الأدلة في هذا الكتاب، وقد تبيّن ذلك ¬

_ (¬1) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 1، ص 16. (¬2) المصدر السابق، مج 2، ج 4، ص 242. (¬3) انظر المصدر السابق، مج 1، ج 1، ص 19.

عند الحديث عن مجالات الاستقراء عند الشاطبي. (¬1) 3 - تحرير الاستقراء من قيود المنطق الأرسطي، وإعطائه مصداقية وقوة أكبر في الإستدلال به، وذلك من خلال أمرين: أحدهما: رفض ما انتشر بين المناطقة من كون الاستقراء الناقص لا يفيد القطع مطلقًا، وذهابه إلى أن الاستقراء يفيد أساسًا الظن، لكنه مع ذلك يفيد القطع أيضًا إذا توافرت شروطه، بل إنه بلغ به غاية القوة في الإستدلال عندما أضفى على كثير من نتائحه أوصاف الكلية والعموم والقطع. والثاني: إخراجه من الإطار الذي وضعه فيه المنطق الأرسطي، وإلحاقه بالتواتر حيث جعله نوعًا من أنواع التواتر وجعله شبيها بالتواتر المعنوي، (¬2) وسماه "الاستقراء المعنوي". وقد حقق عمل الشاطبي هذا للإستقراء فائدتين: الأولى: إعطاؤه ما للتواتر من قوة في الإستدلال، من حيث كونه موصلًا إلى العلم، ومن ثَمَّ التخلص مما يسمى عند المناطقة بـ"مشكلة الاستقراء الناقص". الثانية: تسويغ العمل به في الشرعيات من خلال تحريره من رواسب المنطق اليوناني، وبالتالي التخلص مما يمكن أن يُثار من حساسية في استعماله، بحكم عدِّه من قِبَل كثير من العلماء المسلمين موروثًا يونانيًّا دخيلًا على العلوم الشرعية ينبغي اجتنابه لِمَا يمكن أن يتركه من آثار سلبية في هذه العلوم. ¬

_ (¬1) ويمكن القول إن من ثمرات عمل الشاطبي هذا استفادةُ كثير من العلماء الذين جاءوا بعده من منهجه هذا، وعلى رأسهم الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، وظهور ما اصطُلِحَ على تسميته بالتفسير الموضوعي، والدراسة الموضوعية للحديث، حيث يقوم كلٌّ منهما على فكرة الاستقراء المعنوي بتجميع كل النصوص الواردة في موضوع واحد، ودراستها دراسة موضوعية من أجل فهمٍ أحسنَ وأشمل لذلك الموضوع، والخروج بقواعد عامة وكليات تحكم فروعه وجزئياته. (¬2) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 1، ص 24.

الفصل الرابع الاستقراء عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور

الفَصْلُ الرَّابعِ الاستقراء عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور تَمْهِيدٌ لقد جعل ابن عاشور الاستقراء أوَّل مسلك من مسالك الكشف عن مقاصد الشارع، ووصفه بأنه أعظمها. (¬1) كما جعله دليلًا من الأدلة التي يُستدل بها على الأحكام، حيث قال: "وإنما اعتُبِر دليلًا لأن الكلية لم تكن ثابتة ولا دليل عليها إلّا تتبع الجزئيات، ولأنها بعد ثبوتها يُستدل بها على أحكام جزئيات مجهولة، مثل أن تقول: الوتر سنَّة لا فرض، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صَلاَّهُ على الراحلة، والفرض لا يُؤَدَّى على الراحلة أخذًا من استقراء أسفار النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلف - رضي الله عنهم -". (¬2) ومع ذلك لم يقدم له تعريفًا لا في كتاب مقاصد الشريعة الإِسلامية، ولا في أصول النظام الإجتماعي في الإِسلام، وربما اكتفى بتعريفه له في حاشية التوضيح، حيث عرفه بأنه "هو تتبع الجزئيات لإثبات حكم كلي". (¬3) ¬

_ (¬1) محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 125. (¬2) محمد الطاهر بن عاشور: حاشية التوضيح والتصحيح لمشكلات التنقيح، (تونس: مطبعة النهضة، 1341 هـ)، ج 2، ص 224، نقلًا عن إسماعل الحسني: نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور، (5 يرندن: المعهد العالمي للفكر الإِسلامي، ط 1، 1416 هـ/ 1995 م)، ص 356. (¬3) المصدر السابق، الصفحة نفسها.

المبحث الأول الاستقراء بين القطع والظن عند ابن عاشور

المبحث الأول الاستقراء بين القطع والظن عند ابن عاشور لا يفصح ابن عاشور -عادةً- في استعماله الاستقراء عن نوع الاستقراء الذي استعمله: هل هو استقراء تام أم ناقص، ولكن جريًا على ما اشتهر من كون الاستقراء التام يفيد اليقين، وإنما النزاع في نتيجة الاستقراء الناقص، فالمفترض عند ابن عاشور أن يقول بيقينية نتيجة الاستقراء التام، خاصة وأنه ذهب إلى أن الاستقراء الناقص يفيد القطع واليقين في كثير من الأحوال. وبعد تتبع موقف ابن عاشور من نتيجة الاستقراء الناقص في كتابيه: مقاصد الشريعة الإِسلامية، وأصول افظام الاجتماي في الإِسلام، تبيَّن من خلال أقواله أن نتيجة الاستقراء الناقص تترقى من مرتبة الظن إلى الظن القريب من اليقين، وقد تصل أحيانًا إلى اليقين. وفي ذلك يقول: " ... وعلى هذا فالحاصل للباحث عن المقاصد الشرعية قد يكون علمًا قطعيّا، أو قريبًا من القطعي، وقد يكون ظنّا". (¬1) ومن المواطن التي صرح فيها بإفادة الاستقراء الناقص القطع ما يأتي: 1 - قوله: "واستقراء أدلة كثيرة من القرآن والسنة الصحيحة يوجب لنا اليقين بأن أحكام الشريعة الإِسلامية منوطة بحِكَم وعلل راجعة للصلاح العام للمجتمع والأفراد". (¬2) 3 - وعند حديثه عن المصالح القطيعة، عَدّ من المصالح القطعية "ما تضافرت الأدلة الكثيرة عليه مما مستنده استقراء الشريعة ... ". (¬3) 3 - وعند حديثه عن إثبات تعليل أحكام الشريعة، وقبولها القياس، قال: "فإن استقراء الشريعة في تصرفاتها قد أكسب فقهاء الأمة يقينًا بأنها ما سوَّت في جنسِ حكمٍ من الأحكام جزئياتٍ متكاثرة إلّا ولتلك الجزئيات اشتراك في وصف يتعين ¬

_ (¬1) محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 156. (¬2) المصدر السابق، ص 118. (¬3) محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 221.

عندهم أن يكون هو موجِبُ إعطائِها حكمًا متماثلا". (¬1) ومن المعلوم أن الاستقراء الذي يورده الفقهاء والأصوليون لإثبات التعليل يكون ناقصًا عادة. 4 - وعند حديثه عن مقاصد التصرفات المالية، وأن للمال مكانة سامية في الشريعة الإِسلامية قال: "وإذا استقرينا أدلة الشريعة من القرآن والسنة الدالة على العناية بمال الأمة وثروتها، والمشيرة إلى أن به قوام أعمالها وقضاء نوائبها، نجد من ذلك أدلة كثيرة تفيدنا كثرتها يقينًا بأن للمال في نظر الشريعة حظًا لا يُستهان به". (¬2) 5 - وعند حديثه عن أن من مقاصد الشارع بَثّ الحرية، والإقلال من العبودية، استقرأ مجموعةً كبيرةً من أدلة الشارع المثبتة لذللث، ثم قال: "فمن استقراء هاته التصرفات ونحوها حصل لنا العلم بأن الشريعة قاصدة بَثّ الحرية بالمعنى الأول [أي ضد العبودية] ". (¬3) 6 - وعند حديثه عن مقصد السماحة واليُسْر قال: "واستقراء الشريعة يدلّ على هذا الأصل في تشريع الإِسلام، فليس الإستدلال عليه بمجرد هذه الآية أو هذا الخبر حتى يقول معترض إن الأصول القطعية لا تثبت بالظواهر لأن أدلة هذا الأصل كثيرة منتشرة، وكثرة الظواهر تفيد القطع، ولهذا قال إمام الفقه والحديث مالك بن أنس في مواضع من الموطأ "ودين الله يسر" وحسبك بهذه الكلمة من ذلك الإمام فإنه ما قالها حتى استخلصها من استقراء الشريعة". (¬4) 7 - وعند حديثه عن المغيبات -التي جاءت بها نصوص الشرع من غير أن تكون لعقولنا قدرة على إدراك حقيقتها، ومع ذلك فاللازم تصديقها واليقين بما فيها- يُلْحِقُ بذلك بعض المسائل التعبدية التي شرعها الشارع ولم تَهْتَدِ عقولنا إلى الحكمة من تشريعها، فيقول: "ونلحق بهذا القسم أشياء اشتملت عليها الشريعة من غير عالَم الغيب لم نَهْتَدِ إلى حقيقتها، فنحن نتلقاها كما جاءت موقنين باشتمالها ¬

_ (¬1) المصدر السابق، ص 248. (¬2) المصدر السابق، ص 328. (¬3) المصدر السابق، ص 284. (¬4) محمد الطاهر بن عاشور: أصول النظام الإجتماعي في الإِسلام، ص 26 - 27.

على مصالح لم تتضح لنا، جاعلين يقيننا بذلك مُستنتَجًا من استقراء جمهرة الأحكام في سائر الأحوال، إذْ نجد تلك الأحكام حقائق بيِّنة ومصالح واضحة، ولا يُعَدُّ يقيننا ذلك وهمًا، بل تفويضا". (¬1) وقد حدد ابن عاشور جملة من المعايير أو الشروط التي تحدِّد مرتبة العلم التي يفيدها الاستقراء بين القطع والظن، ويمكن تلخيصها في الآتي: 1 - "مقدار فيض ينابيع الأدلة ونضوبها، وبمقدار وفرة العثور عليها واختفائها". (¬2) فعلى قدر كثرة الأدلة التي يشملها الاستقراء تكون قوة الإفادة في النتجة المستخلصة منه، فكلما زاد عدد الأدلة والشواهد المستقرأة زادت قوة العلم الذي يفيده الاستقراء. 2 - خفاء دلالة الأدلة المستقرأة ووضوحها. فمن المعلوم أن الأدلة تتفاوت مراتبها من حيث الوضوح والخفاء، فكلما كانت دلالة الأدلة المستقرأة أكثر وضوحًا وصراحةً زادت قوة نتيجة الاستقراء إلى أن تصل إلى مرتبة اليقين والقطع، وبالعكس، كما قلَّ وضوح دلالة الأدلة وزاد خفاؤُها قَوِيّ جانبُ الظن في نتيجة الاستقراء. وقد مثل ابن عاشور لذلك بكون النصوص الواردة في تحريم الخمر واضحة الدلالة على أن مقصد الشريعة حفظ العقول عن الفساد العارض، ولذلك لم يكد يختلف المجتهدون في تحريم ما يصل بالشارب إلى حدِّ الإسكر وأما دلالة تحريم الخمر على أن مقصد الشريعة سدُّ ذريعة إفساد العقل حتى نأخذ من ذلك المقصد تحريمَ القليل من الخمر أو النبيذ الذي يسكر كثيره فتلك دلالة خفية، ولذلك اختلف الفقهاء في هذا المقصد، واختلفوا تبعًا لذلك في مساواة تحريم الأنبذة لتحريم الخمر. فمن غلب على ظنه كون هذا الأخير مقصدًا شرعيًا سَوَّى بينهما في التحريم وإقامة الحد، ومن لم يغلب على ظنه ذلك فَرَّق بينهما في مرتبة التحريم وفي العقوبة. (¬3) ¬

_ (¬1) المصدر السابق، ص 46. (¬2) محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 156. (¬3) محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 161.

3 - احتمال قيام المعارِضَات لشواهد الاستقراء. فقيام المعارِضَات لشواهد الاستقراء قادح في نتيجته؛ فإن احتمال وجود هذه المعارِضات سيدخلُ -ولا شكّ- عنصرَ الظن على نتجيته، وذلك بحسب قوة هذه الإحتمالات، فكلما قويّ احتمال قيام المعارض قويّ عنصرُ الظن لدى المجتهد في نتيجة استقرائه. (¬1) 4 - ما تتصف به النصوص من عموم أو جزئية، فإذا كانت النصوص المستقرأة عمومات وكليات، كانت صالحة لأن يثمر استقراؤها نتيجة قطعية، أما إذا كانت جزئية فإن نتيجة استقرائها لا تعدو عادة أن تكون ظنية. (¬2) 5 - قطعية وظنية الثبوت، إذْ يشترط ابن عاشور في النصوص التي يمكن أن يؤدي استقراؤها إلى نتيجة قطعية أن تكون قطعية الثبوت، أي يقينية النسبة إلى الشارع الحكيم، أوعلى الأقل يكون بعضها كذلك. (¬3) وبناءً على ما سبق يكون الاستقراء الذي يُثْمِر مقاصدَ قطعية هو الذي يشمل أدلة متكررة من القرآن تكرُّرًا ينفي احتمال أن يُقْصَدَ منها المجاز والمبالغة، (¬4) وتكون هذه الأدلة عمومات أو نصوصًا في معانيها، وتكون كلها قطعية المتن (أي وردت متواترة، وهي إما من القرآن أو السنة المتواترة) أو على الأقل أكثرها تتصف بهذه الصفات، ولا بأس أن تدعم بعد ذلك بأدلة من السنة ظنية الورود. فمثل هذا الاستقراء الذي تتوافر فيه هذه الشروط ولو كان ناقصًا يثمر مقاصد قطعية. ومثال الاستقراء الذي يثمر مقصدًا شرعيًّا قطعيًّا، استقراء جملة الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي نَصَّت على اليُسْر ورفع الحرج أو أومأت إليه، وهي كثيرة جدّا، "فمثل هذا الاستقراء يخول للباحث عن مقاصد الشريعة أن يقول إن من مقاصد الشريعة التيسير، لأن الأدلة المستقرأة في ذلك كله عمومات متكررة، وكلها قطعية النسبة إلى الشارع لأنها من القرآن، وهو قطعي المتن". (¬5) ¬

_ (¬1) انظر المصدر السابق، ص 161. (¬2) انظر المصدر السابق، ص 160 - 161، 189. (¬3) انظر المصدر السابق، ص 160. (¬4) محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 159. (¬5) المصدر السابق، ص 160.

أما إذا كان الاستقراء مبنيًّا على أدلة كثيرة، لكنها إما كلها جزئي، أو أغلبها كذلك، وما كان منها متصفًا بصفة العموم والكلية لم يكن قطعي النقل، أي حديث آحاد، فإن هذا النوع من الاستقراء يُثْمِر نتيجة ظنية لكنها قريبة من القطعي. وقد مثَّل ابن عاشور لهذا النوع من الاستقراء بما أورده الشاطبي من أن من مقاصد الشارع منع الضرر ودفعه، استنادًا إلى استقراء ما ورد في القرآن الكريم من آيات تنهى عن الضرر مثل قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231]، وقوله: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6]، وقوله: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233]، وغيرها، وما ورد في السنّة من أحاديث أبرزها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ" (¬1) ومنها النصوص الواردة في السنّة عن التعدي على النفوس، والأموال، والأعراض، وعن الغصب، والظلم، وكل ما هو في معنى إضرار وضرار فهذه الأدلة، وإن كانت كثيرة إلَّا أنها أدلة جزئية، والدليل العام منها، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرر ولا ضرار" هو خبر آحاد، وليس بقطعي النقل عن الشارع. (¬2) ولكن الملاحظ أن الشاطبي -وفي هذا المثال بالذات- يفهم من كلامه أنَّ مثل هذا النوع من الاستقراء يفيد القطع، إذْ يرى أن "الضرر مبثوث منعه في الشريعة كلها، في وقائع جزئيات وقواعد كليات ... فهو معنى في غاية العموم في الشريعة لا مراء فيه ولا شك". (¬3) ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 160 - 161. (¬3) الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 12.

المبحث الثاني مجالات استخدام الاستقراء عند ابن عاشور

المبحث الثاني مجالات استخدام الاستقراء عند ابن عاشور لقد سعى الإمام محمد الطاهر بن عاشور إلى الإلتزام بالمنهج الإستقرائي في محاولاته التي قام بها للتعرف على مقاصد الشارع الحكيم في كتابيه: مقاصد الشريعة الإِسلامية، وأصول النظام الإجتماعي في الإِسلام، (¬1) سواء في ذلك المقاصد الكلية والعامة، أو المقاصد الخاصة. ولكنه لا يصرح عادة بنوع الاستقراء الذي اعتمده في كل مسألة: هل يلتزم الاستقراء التام، أم أنه يكتفي بالاستقراء الناقص؟ والراجح أنه يكتفي في كثير من تلك المسائل باستقراء أغلب تصرفات الشريعة ونصوصها وأحكامها، أي الإكتفاء بالاستقراء الناقص، بناء على أن استقراء كثير من الأدلة -بالشروط التي سبق ذكرها- يمكن أن يفيد اليقين عنده. وقد استقرى الباحث أهم المواطن التي صرح فيها ابن عاشور بتطبيق المنهج الإستقرائي في الكشف عن مقاصد الشارع، وفيما يأتي جملة منها: 1 - عدمُ انْبِنَاءِ المقاصد الشرعية على الأوهام والتخيلات: فمن خلال استقراء موارد الشريعة وتصرفاتها تبيّن عدم التفات الشريعة إلى الأوهام والتخيلات، وأمرُهَا بنبذها والبعد عنها، ومن ثَمَّ عدم انْبِنَاءِ المقاصد عليها، وفي ذلك يقول: "ثم إننا استقرينا الشريعة فوجدناها لا تراعي الأوهام والتخيلات وتأمر بنبذها، فعلمنا أن البناء على الأوهام مرفوض في الشريعة إلَّا عند الضرورة، فقضينا بأن الأوهام غير صالحة لأن تكون مقاصد شرعية". (¬2) 2 - إثبات مقصد السماحة: وقد بدأ ابن عاشور بتحديد مفهوم السماحة، لأن تحديد المفهوم يمثل أساس الاستقراء، خاصة من حيث تحديد نوع الأدلة والجزئيات التي سيشملها الاستقراء، فعرَّف السماحة بأنها: "سهولة المعاملة في اعتدال، فهي وسط بين التضييق والتساهل، وهي راجعة إلى معنى الإعتدال والعدل والتوسط" (¬3). ¬

_ (¬1) ينبغي التنبيه إلى أن ابن عاشور قد استخدم المنهج الإستقرائي في الإستدلال في مؤلفاته الأخرى، ومن ذلك ما جاء في تفسيره التحرير والتنوير، في حصر مراتب المتشابهات في القرآن الكريم، ج 3، ص 158 - 160، وحصر مواقع التزيين المذموم، ج 2، ص 295. (¬2) محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الاسلامية، ص 174. (¬3) المصدر السابق، ص 184.

وانطلاقًا من هذا المفهوم يتبيّن أن كلّ النصوص والأحكام الواردة في السماحة، واليسر، والاعتدال، والتوسط، ورفع الحرج، وأضدادها تدخل ضمن الجزئيات المستقرأة. ثم استعرض في ذلك أهم الآيات والأحاديث الواردة في كل وصف من هذه الأوصاف، (¬1) ليخلص إلى القول: "واستقراء الشريعة دلّ على أن السماحة واليسر من مقاصد الدين". (¬2) 3 - تحديد المقصد العام من الشريعة: وهو حفظ نظام الأمة، واستدامة صلاحه بصلاح الإنسان، وهو المقصد الذي يُعبَّر عنه عادة بحلب المصالح ودرء المفاسد. وقد قسم ابن عاشور الأدلة المستقرأة في ذلك إلى أنواع: أ - أدلة كلية صريحة في أن مقصد الشريعة الإصلاح وإزالة الفساد، من أمثال قوله تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 56]، وقوله: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 85]، وقوله: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة: 60]، وقوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205]، إلى غير ذلك من الآيات. ومن الأحاديث حديث أبي عمرة الثقفي أنه قال: "قُلْتُ يا رَسُولَ الله قُلْ ليِ فِي الإِسْلاَمَ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ، قَالَ: "قُلْ آمَنْتُ بالله ثُمَّ اسْتَقِمْ"، (¬3) ب - أدلة كلية، لكنها تدلّ على هذا المقصد إيماءً لا صراحة. ومن ذلك الأدلة التي "جاءت دالّة على أن صلاح الحال في هذا العالم مِنَّة كبرى يمنُّ الله بها على الصالحين من عباده جزاءً لهم، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)} [الأنبياء: 105 - 106]، ¬

_ (¬1) من ذلك قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ} [الحج: 78]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "أَحَبُ الدِّينِ إِلَى الله الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ". أخرجه البخاري في صحيحه معلقا في كتاب الإيمان، باب (30)، مج 1، ج 1، ص 18 قبل الحديث (39)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إلَّا غَلَبَهُ". صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب (30)، مج 1، ج 1، ص 18، الحديث (39). انظر محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 184 - 187. وسيأتي استعراض النصوص الواردة في هذه الأبواب في فصل الدراسة التطبيقية للإستقراء. (¬2) محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 186. (¬3) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب (13)، ج 1، ص 65.

وقال مخاطبًا المسلمين: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55]، وقال في معرض الوعد: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] ". (¬1) ج - أدلة جزئية يمثلها ما شرع الله تعالى من أحكام رادعة للناس عن الإفساد، وموجبة أو مرغبة في الصلاح وفعل الخير، مثل شرع القصاص على إتلاف الأرواح وقطع الأطراف، وشرع تعويض قيمة المتلفات، وإباحة تناول الطيبات والزينة. (¬2) ثم ينتهي ابن عاشور بعد ذلك إلى أن استقراء هذه الأدلة ونحوها أوجب لنا اليقين بهذا المقصد، فيقول: "ومن عموم هذه الأدلة ونحوها حصل لنا اليقين بأن الشريعة متطلبة لجلب المصالح ودرء المفاسد، واعتبرنا هذا قاعدة كلية في الشريعة". (¬3) 4 - تحديد أنواع الحيل ومدى تفويتها للمقاصد الشرعية: حيث اعتمد ابن عاشور الاستقراء طريقًا لتحديد أنواع ذلك التحيل، وأسفر استقراؤه عن تقسيمها إلى خمسة أقسام، وفي ذلك يقول: "وعند صدف التأمل في التحيل على التخلص من الأحكامٍ الشرعية من حيث إنه يُفِيتُ المقصد الشرعي كله أو بعضه أو لا يفيته، نجده متفاوتًا في ذلك تفاوتًا أدَّى بنا الاستقراء إلى تنويعه خمسة أنواع ... ". (¬4) ¬

_ (¬1) محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 189 - ، وانظر أيضًا: محمد الطاهر بن عاشور: أصول النظام الإجتماعي في الإِسلام، ص 10 - 11. (¬2) انظر محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 189 - 190. (¬3) انظر محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 190. (¬4) أنواع التحيل هذه هي: 1 - تحيّل يفيت المقصد الشرعي كله، ولا يعوضه بمقصد شرعي آخر، ومثال ذلك من وهب ماله قبل مُضيّ الحول بيوم لئلاّ يعطي زكاته، واسترجعه من الموهوب له من غد، وهذا لا ينبغي الشك في ذمه وبطلانه ووجوب المعاملة بنقيض مقصد صاحبه. 2 - تحيّل على تعطيل أمر مشروع على وجه ينقلُ إلى أمرِ مشروع آخر، مثل التجارة بالمال المتجمع خشية أن تنفصه الزكاة، فإنه إذا فعل ذلك فقد استعمل المال في مأذون فيه، وهذا النوع على الجملة جائز. 3 - تحيّل على تعطيل أمر مشروع على وجه يسلكُ به أمرًا مشروعًا هو أخفُّ عليه من المنتَقَلِ منه، مثل لبس الخف لإسقاط غسل الرجلين في الوضوء، وهذا مقام الترخص إذا لحقته مشقة من الحكم المتنَقَّل منه. 4 - تحيّل في أعمال ليست مشتملة على معان عظيمة مقصودة للشارع، وفي التحيّل فيها تحقيقٌ لِمُمَاثلِ مقصد الشارع من تلك الأعمال، مثل التحيّل في الأيمان التي لا يتعلق بها حق الغير. وللعلماء في هذا النوع مجال من الإجتهاد. 5 - تحيّل لا ينافي مقصد الشارع، أو هو يعين على تحصيل مقصده، ولكن فيه إضاعة حق لآخر أو مفسدة أخرى، مثل من تزوج امرأة مبتوتة قاصدًا أن يحللها لمن بَتَّها، وفيه خلاف بين الفقهاء. مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 253 بتصرف.

5 - إثبات مقصد سدّ الذرائع: حيث ذهب ابن عاشور إلى أن الاستقراء هو عمدة القائلين بسدّ الذرائع -وهو منهم- في إثبات هذا المقصد، فيقول: "فمقصد سدّ الذرائع مقصد تشريعي عظيم استُفِيدَ من استقراء تصرفات الشريعة في تفاريع أحكامها، وفي سياسة تصرفاتها مع الأمم، وفي تنفيذ مقاصدها ... ". (¬1) 6 - كون التشريع منوطاً بَالضبط والتحديد: حيث قام ابن عاشور -عند حديثه عن كون التشريع الإِسلامي منوطًا بالضبط والتحديد- باستقراء الوسائل التي اتخذها الشارع طرقًا للإنضباط والتحديد، فقال: "وقد استقريت من طرق الإنضباط والتحديد في الشريعة ست وسائل". (¬2) 7 - قصد الشارع إلى بَثِّ الحرية: والمقصود هنا النوع الأول من الحرية، الذي هو ضد العبودية. (¬3) وهذا القصد قد أثبته الفقهاء قديمًا بطريق استقراء تصرفات الشريعة، التي دلت على أن من أهم مقاصدها إبطال العبودية وتعميم الحرية، حتى اشتهرت بينهم قاعدة "الشارع مُتَشَوِّف للحرية"، (¬4) التي كثيرًا ما استخدموها في مسائل الترجيح. وقد استعرض ابن عاشور النصوص الواردة في الترغيب في تحرير ¬

_ (¬1) المصدر السابق، ص 262. (¬2) هذه الوسائل هي: 1 - الإنضباط بتمييز الماهيات والمعاني تمييزًا لا يقبل الإشتباه، مئل طُرُقِ القرابة المبيَّنَة في أسباب الميراث، وفي تحريم من حرم نكاحه، فبتعين المصير إليها دون ما لا ينضبط من مراتب المحبة والصداقة والنفع والتَّبَنِّي. 2 - مجرد تحقّق مسمى الإسم، كنوط الحدِّ في الخمر بشرب جرعة من الخمر ولو لم تسكر. 3 - التقدير، كنُصُب الزكوات في الحبوب والنقدين، ونصاب القطع في السرقة، وغيرها. 4 - التوقيت، مثل مرور الحول في زكاة الأموال، وغيرها. 5 - الصفات المعيِّنة للماهيات المعقود عليها، كتعيين العمل في الإجارة، وكالمهر والولي في ماهية النكاح لِيُمَيَّزَ عن السفاح. 6 - الإحاطة والتحديد، كما في إحياء الموات، وحدود الحِرْز في تحقُّق معنى السرقة تفرقةً بينها وبين الخلسة. مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 266 - 268 بتصرف. (¬3) المعنى الثاني للحرية هو"تمكّن الشخص من التصرف في نفسه وشؤونه كما يشاء دون معارض". مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 280 - 281. (¬4) انظر المصدر السابق، ص 281، وانظر أيضًا: محمد الطاهر بن عاشور: أصول النظام الإجتماعي في الإِسلام، ص 167 - 168.

العبيد، والسبل التي سلكها الإِسلام للتقليل من الرِّق والسعي إلى تخليص البشرية منه بالتدرج، إلى أن قال: "فمن استقراء هاته التصرفات ونحوها حصل لنا العلم بأن الشريعة قاصدةُ بَثّ الحرية بالمعنى الأول [أي ضد العبودية] ". (¬1) 8 - إثبات تعليل الأحكام الشرعية -خاصة أحكام المعاملات-: إذْ يرى ابن عاشور أن مقصد الشريعة الأعظم نوطُ أحكامها المختلفة بمعان وأوصاف مختلفة تقتضي تلك الأحكام، لا بأسماء وأشكال، (¬2) حيث يتبع تغيرُ الأحكام تغيرَ الأوصاف، وقد استدل على ذلك بـ"استقراء أقوال الشارع - صلى الله عليه وسلم - وتصرفاته، ومن الإعتبار بعموم الشريعة الإِسلامية ودوامها"؛ (¬3) ذلك أن من مقتضيات عموم الشريعة لكل الناس، ودوامها لكل الأزمان أن تكون منوطة بمعان وأوصاف تحقق مقاصدها، فتدور أحكامُها معها وجودًا وعدما، لتتحقق خاصية المرونة في الشريعة بما يسع تحقيق مقاصد الشارع لمختلف الأقوام على اختلاف عاداتهم وأعرافهم، وعلى اختلاف الحِقَب الزمنية وما يصاحب ذلك من تطور في الحياة البشرية. 9 - إثبات واجب الإجتهاد: لَمّا كان من مقاصد الشارع تجنُّب التفريع في زمن التشريع، مع وضع الشريعة لتكون عامة ودائمة، كان من اللازم أن يقصد الشارع لتحقيق ذلك إلى إيجاد الوسيلة التي تجمع بين تحقيق هذين المقصدين المتناقضين في ظاهرهما، وتلك الوسيلة هي الإجتهاد، فكانت "الأمة الإِسلامية بحاجة إلى علماءَ أهلِ نظرٍ سديد في فقه الشريعة، وتمكن من معرفة مقاصدها، وخبرة بمواضع الحاجة في الأمة، ومقدرة طما إمدادها بالمعالجة الشرعية لاستبقاء عظمتها، واسترفاء خروقها، ووضع الهناء بمواضع النقب من أديمها. وقد هدانا الله إلى هذا بما أمر به من الإعتبار في أدلة الشريعة وبذل الجهد في استجلاء مراده. حصل لنا ذلك من استقراء آيات كثيرة من الكتاب وأخبار صحيحة من السنّة". (¬4) ¬

_ (¬1) محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 284. (¬2) محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 245. (¬3) المصدر السابق، ص 289. (¬4) المصدر السابق، ص 294.

10 - مقاصد الشارع من أحكام النكاح: وفي سعيه إلى استخلاص مقاصد الشارع من أحكام النكاح سلك ابن عاشور مسلك الاستقراء في تحديد الأصول التي يمكان الاستناد إليها في استخراج تلك المقاصد، فقال: "وقد استقريت ما يستخلص منه مقصد الشريعة في أحكام النكاح الأساسية والتفريعية فوجدته يرجع إلى أصلين: الأصل الأول: اتضاح مخالفة صورة عقد النكاح لبقية صور ما يتفق في اقتران الرجل بالمرأة، الأصل الثاني: أن لا يكون مدخولًا فيه على التوقيت والتأجيل". (¬1) 11 - نوع النَّسَب الذي قصدت الشريعة إلى إيجاده: وفي تحديد نوع النَّسَب الذي اعتبرته الشريعة وقصدت إلى إيجاده والمحافظة عليه من خلال تشريعاتها في ذلك، سلك مسلك الاستقراء فقال: "واستقراء مقصد الشريعة في النَّسَب أفادنا أنها تقصد إلى نَسَبٍ لا شكّ فيه ولا محيد به عن طريقة النكاح بصفاته التي قررناها". (¬2) 12 - قصد الشارع إلى العناية بالمال وحفظه: حيث استعرض ابن عاشور من أجل إثبات هذا المقصد بعض الآيات الواردة في الزكاة التي جُعِلت شعارَ الإِسلام وثالثَ أركان الدين، (¬3) كما استعرض ما ورد من آيات أخرى وأحاديث سواء في معرض الامتنان على العباد بنعمة المال، أو في بيان أجر النفقة والكسب الحلال، أو في بيان قيمة المال وأهميته في حياة الأفراد والجماعات. (¬4) 13 - مقاصد الشارع في الأموال: حيث جعلها خمسة، مما: الرواج (¬5)، ¬

_ (¬1) محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 317. (¬2) المصدر السابق، ص 321. (¬3) من ذلك قوله تعالى: {يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [المائدة:55]، وقوله: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6 - 7]. (¬4) من ذلك قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3]، وقوله: {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 254]، وقوله: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} [الفتح: 20]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ يَوْمِ يُصْحُ الْعِبَادُ فِيهِ إلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ فَيَقَولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَيَقُولُ الآخَرُ اللَّهُم أَعْطِ مُمْسِكَا تَلَفًا". صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب (29)، مج 1، ج 2، ص 443. انظر محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 328، وانظر أيضًا: محمد الطاهر بن عاشور: أصول النظام الإجتماعي في الإِسلام، ص 197 وما بعدها. (¬5) وهو "دوران المال بين أيدي أكثر من يمكن من الناس بوجه حق". محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 338.

والوضوح، (¬1) والحفظ، (¬2) والثبات، (¬3) والعدل فيها، (¬4) وذلك اعتمادًا على الاستقراء. (¬5) 14 - مقاصد الشارع من تشريع المعاملات المنعقدة على عمل الأبدان: حيث عمل على استقراء السُّنَن الواردة في ذلك، وما ورد في شأنها عن علماء السلف، خاصة علماء المدينة، حيث يقول: "ولقد استقريت ينابيع السنّة في هذه المعاملات البدنية على قِلَّة الآثار الواردة في ذلك، وتتبعت مرامي علماء سلف الأمة وخاصة علماء المدينة في شأنها، فاستخلصت من ذلك أن مقاصد الشريعة فيها ثمانية". (¬6) 15 - مقاصد الشارع من عقود التبرعات (¬7): وفي ذلك يقول: "وقد نجد في ¬

_ (¬1) وهو"إبعادها عن الضرر والتعرض للخصومات بقدر الإمكان، ولذلك شرع الإشهاد والرهن في التداين". محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 346. (¬2) وذلك مأخود من قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل مال امرى مسلم إلّا عن طيب نفس". البيهقي: السنن الكبرى، ج 6، ص 100. انظر محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 346. (¬3) معناه "تقرُّرها لأصحابها بوجه لا خطر فيه ولا منازعة". محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 347. (¬4) وذلك "بأن يكون حصولها بوجه غير ظالم، وذلك إما أن تحصل بعمل مكتسبها، وإما بعوض مع مالكها أو تبرع، وإما بإرث". محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 349. (¬5) انظر محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 338 - 349. (¬6) وهي: 1 - التكثير منها،. 2 - الترخيص في اشتمالها على الغرر المتعَارَف في أمثالها. 3 - التحرز عما يُثقِل على العامل في هذه العقود. 4 - أن هذه العقود لم يُعْتَبر لزومُ انعقادها بمجرد القول، بل جُعِلت على الخيار إلى أن يقع الشروع في العمل (عند المالكية). 5 - إجازة تنفيل العَمَلَة في هذه العقود بمنافعَ زائدةٍ على ما يقتضيه العمل بشرط دون تنفيل رب المال. 6 - التعجيل بإعطاء عوض عمل العامل بدون تأخير، ولا نظرة، ولا تأجيل. 7 - إيجاد وسائل إتمام العمل للعامل، فلا يُلْزَم لإتمامه بنفسه. 8 - الالإبتعاد عن كل شرط أو عقد يشبه استعباد العامل، بأن يبقى يعمل طول عمره أو مدة طويلة جدًّا، بحيث لا يجد لنفسه مخرجا. محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 353 - 356 بتصرف. (¬7) عقود التبرعات هي: "بذل المكلَّف مالًا أو منفعة لغيره في الحال أو المآل بلا عوض بقصد البِرّ والمعروف غالبا" وذلك مثل الوصية والهبة وغيرها. وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية بالكويت: الموسوعة الفقهية، ج 10، ص 65.

استقراء الأدلة الشرعية منبعًا ليس بقليل، يرشدنا إلى مقاصد الشريعة من عقود التبرعات"، (¬1) وهي: أ - "التكثير منها لما فيها من المصالح العامة والخاصة". ب - "أن تكون التبرعات صادرة عن طيب نفس لا يُخَالِجُه تردُّد". جـ - "التوسع في وسائل انعقادها حسب رغبة المتبرعين". د - "أن لا يُجْعَل التبرع ذريعة إلى إضاعة مال الغير، من حق وارث أو دائن". (¬2) 16 - مقاصد الشارع من نصب الحكاّم: حيث إن استقراء الشريعة في تصرفاتها يبيّن أن من مقاصدها نصب حكام يسوسون مصالح الأمة، ويقيمون العدل فيها، وينفذون أحكام الشريعة بينها. (¬3) ¬

_ (¬1) محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 357. (¬2) المصدر السابق، ص 358 - 361 بتصرف. (¬3) انظر المصدر السابق، ص 363.

الفصل الخامس دراسة تقييمية للإستدلال الإستقرائي

الفَصْل الخَامِسْ دراسة تقييمية للإستدلال الإستقرائي المبحث الأول الفرق بين الاستقراء العلمى والاستقراء في العلوم الإنسانية من خلال ما تقدم من الحديث عن الاستقراء عند المناطقة والفلاسفة، وعند علماء المسلمين خاصة الإمام الشاطبي، يتضح أن هناك فرقًا واضحًا بين الاستقراء المنطقي -سواء في المنطق الصوري القديم، أو في شكله العلمي في المنطق الحديث- والاستقراء في العلوم الإنسانية. فالاستقراء في المنطق الصوري القديم لم يتعدَّ صورته البسيطة، حيث يبدو موجهًا بالدرجة الأولى إلى استقراء الأوصاف العرضية، وتعداد الجزئيات، وقلَّما تجده مَعْنِيًّا باستقراء المعاني والقيم. ويبدو هذا جليًّا من خلال تمثيلهم للإستقراء بنوعيه، كمثال أرسطوفي العلاقة بين طول العمر وقلَّة المرارة في الحيوانات والإنسان، ومثال التمساح المشهور عند المناطقة المسلمين في قضية استقراء تحريك الفكّ الأسفل عندا المضغ. أما الاستقراء العلمي، فمع أنه انتقل بالاستقراء من صورته البسيطة إلى الغوص في مسائل التعليل، والإطراد، والتناسق في قوانين الكون، وعدم الإكتفاء بملاحظة الأوصاف الرضية بل الإنتقال إلى مرحلة وضع الفرضيات، ثم السعي إلى التحقق منها بالتجارب، إلّا أنه يختلف عن الاستقراء في مجال العلوم الإنسانية من حيث الغرض، ومجال عمل كلّ منهما. فالاستقراء العلمي يبحث في قوانين علمية صارمة ومنضبطة وضع الله تعالى الكون عليها، ولا تتدخل فيها إرادة الإنسان ورغباته وظروفه. وغرضه الكشف عن تلك القوانين، وكيفية عملها. وفي حين يتعامل الاستقراء العلمي مع الوقائع الحسية بالدرجة الأولى، نجد الاستقراء في العلوم الإنسانية يتعامل - فضلًا عن ذلك- بشكل أساسي مع نصوص شرعيّة موجهة إلى الإنسان، أو مع أحداث تاريخية كان الإنسان

سببًا في صنعها. ومن الطبيعي أن تكون تلك النصوص متفاعلة مع الطبيعة البشرية وحاجاتها، ومتأثرة بها، وهي أمور ليس لها من الثبات والإطراد ما للقوانين التي تحكم الطبيعة، لذلك نجدها لا تخلو من الإستثناءات؛ لتتكيف بحسب ما يناسب الطبيعة الإنسانية ويلي حاجاتها. ومن أجل ذلك يكون من الخطأ إخضاع المنهج الإستقرائي في العلوم الإنسانية للقوانين التي تحكم الاستقراء في العلوم التجريبية، أو الاستقراء في المنطق الصوري. ومن هنا تبرز أهمية عمل الشاطبي في ابتكار ما اصطلح عليه بـ"الاستقراء المعنوي" وإلحاقه بالتواتر وما قدّمه من حلّ لمشكلة الاستقراء الناقص بتطبيق منهج توفيقي تكاملي في الجمع بين الكليّات وآحاد الجزئيات، حيث تُحفظ للكليات رتبة العموم والسيطرة، وتُحفظ في الوقت ذاته للجزئيات المستثناة من الكليات خصوصيتها.

المبحث الثاني إمكانية تحقيق الاستقراء وجدواه

المبحث الثاني إمكانية تحقيق الاستقراء وجدواه إمكانية تحقيق الاستقراء التام: 1 - من أهم الانتقادات التي وُجِّهت للإستقراء التام عدم إمكانية تحقيقه لعدم القدرة على الإحاطة بكلّ الجزئيات وفي كلّ الأوقات. والواقع أن التشكيك في إمكانية وقوعه أمر مُبالَغ فيه، إذْ هو أمر ممكن وواقع، لكن ينبغي الإعتراف بأنه مع إمكانية تحقيقه، إلّا أن ذلك الإمكان يبقى محدودًا، وفي إطار ضيق. ومع ذلك فإن قِلَّة وقوعه لا تعني الإستغناء عنه كلية، أو التشكيك فيه. وفضلًا عما سبق فإننا في مجال العلوم الشرعية نجد الوضع مختلفًا إلى حدٍّ ما عنه في العلوم الطبيعية، وذلك حسب التفصيل الآتي: - إذا كان الاستقراء لنصوص القرآن الكريم فإن إمكانية الإحاطة بكل الجزئيات متحقق، لأن نصوص القرآن الكريم محدودة ومعلومة، ومن ثَمَّ يمكن تحقيق الاستقراء التام فيها. - أما في نصوص السنّة النبوية المطهرة فإنه لا يمكن الجزم بهذا، لما في الإحاطة بجميع الأحاديث من صعوبة، خاصةً مع وجود أحاديث مُخْتَلَفٌ في صحتها ونسبتِها إلى الرسول، ومع عدم إمكانية الجزم بكون ما روي من أحاديث هو كلّ ما صدر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وربما كان هذا مدخلًا إلى الظن في دعوى الإحاطة بجميع الأحاديث الواردة في المسألة موضوع الاستقراء. - أما استقراء العلل الشرعية فالإشكال فيه وارد بقوة، ولا يمكن الزعم بالإحاطة بكل العلل، كما أنه لا يمكن ادعاء عدم الخطأ في تحديد العلة، خاصة في العلل المستنبطة، فهي في ذاتها مظنونة، ولا يمكن الجزم بكونها هي علل الأحكام محلّ الاستقراء. أما إذا كانت جميع علل المسألة محلّ الاستقراء منصوصة، فإنه في هذه الحالة يمكن تحقيق الاستقراء التام.

2 - ومن الإعتراضات التي يمكن أن توجه إلى الاستقراء التام في العلوم الشرعية، أنه مع إمكانية تحقيقه في افصوص والوقائع التي وردت إلينا من طريق الروايات الصحيحة، إلّا أن الوقائع المستجدة تبقى غير مشمولة بالاستقراء لأن الاستقراء إنما تَمَّ لجزئيات نَصَّ عليها الشارع، أو وُجدت في زمن التشريع فقط. ويُردّ على هذا بأن الكليات والعمومات التي تخلص إلى أن الشارع الحكيم قد قررها مقاصدَ له عن طريق الاستقراء قد ثبتت؛ لأن مرادنا من الاستقراء هو الكشف عن اعتبار الشارع لتلك المقاصد، وليس مدى تحقيق المجتهد لذلك فيما يَجِدُّ من حوادث. وما يدلّ على اعتبار الشارع قد تَمَّ وانتهى بانتهاء عصر التشريع، أما مدى مراعاة المقاصد فيما يَجِدُّ من وقائَع وأحداث فهو من عمل المجتهد لا مِنْ عمل الشارع، فإذا وُجِد فيها ما ينقض القواعد العامة بمخالفت 5 مقاصدَ الشارع، فإن ذلك لا يُعدُّ نقضًا للإستقراء والقاعدة العامة، وإنما يُعدُّ خطأً من المجتهد. 3 - أما فيما يتعلق بالطعن في الاستقراء التام بكونه غير مُجْدٍ، فقد تَمَّ بيان فوائد الاستقراء التام عند الحديث عنه سابقًا، وفضلًا عن ذلك فإنه يمكن القول بأن ما يوصف به الاستقراء التام من عدم الجدوى، وأنه لا يعدو أن يكون نوعًا من الإستنباط، إنما ينطبق على الاستقراء في مجال العلوم الطبيعية التجريبية، أما في العلوم الشرعية فإنَّا لا نهدف أصلًا إلى اكتشاف قوانين أو الوصول إلى اختراعات، وإنما نسعى إلى التأكد من أن حِكْمَةً من الحِكَم أو مقصدًا من المقاصد هو فعلًا مقصد للشارع، ثُمَّ التأكّد بعد ذلك من مدى مراعاة الشارع لذلك المقصد في مختلف أحكامه وتشريعاته، وهذه فائدة عظيمة في مجال العلوم الشرعية. ثم إن ما يذهب إليه البعض من إلحاق الاستقراء التام بالإستنباط بدل الاستقراء لا يُنْقِصُ من قيمة الإستدلال به، فضلًا عن أنها قضية اصطلاحية، ولا مشاحة في الإصطلاح. دلالة القضايا الجزئية المكونة للإستقراء على التعميم الإستقرائي: من الإعتراضات التي يمكن إيرادها على الاستقراء أنه إذا كانت نتيجة الاستقراء متضمَّنَة بكاملها في كل جزئية من الجزئيات المستقرأة، فإنه لا تبقى هناك

فائدة لإستقراء كل الجزئيات؛ لأن ذلك الاستقراء لن يضيف علمًا إلى علم المستقرئ أكثر مما حصله من الجزئية الأولى. أما إذا كانت كلّ جزئية من الجزئيات المستقرأة تمثل جزءًا من نتيجة الاستقراء (التعميم الإستقرائي)، فإن تخلف أي جزئية -بعدم إدراجها ضمن الاستقراء- يؤدي إلى نقصٍ في نتيجة الاستقراء، ومن ثَمَّ عدم فائدتها لنقصانها. وبيان ذلك أن القضايا الجزئية المحسوسة المكونة للإستقراء لا تمثِّل كلُّ واحدةٍ منها إثباتًا لجزء من مدلول التعميم الإستقرائي، بحيث يُعدّ التعميم الإستقرائي قضية كليّة مكوَّنَة من جزئيات هي آحاد الجزئيات المستقرأة، وإنما يمكن أن نعدَّ كلّ قضية من القضايا الجزئية المكونة للإستقراء دليلًا على كامل مدلول القضية الإستقرائية، لكنه دليل ظني احتمالي. وعلى أساس هذا التصور نلاحظ وجود أدلة على كامل مدلول التعميم الإستقرائي بعدد القضايا الجزئية التي يشتمل عليها الاستقراء. كما أن تلك الجزئيات -حتى وإن كانت لا تضيف علمًا جديدًا لما استُفِيدَ من الجزئية الأولى- فإن فائدتها هي تنمية الإحتمال ومحاولة الوصول به إلى مرتبة اليقين؛ إذ القضية التي يراد إثباتها في عملية الاستقراء هي اطرادُ الحكم المستَنْتَجُ من الاستقراء وعمومُه في كل جزئيات الصنف المستقرأ؛ فالمراد إثباته هو قطعية الأدلة الدالة على مضمون التعميم الإستقرائي (الحكم الذي توصل إليه الاستقراء). واليقين الذي يُرَادُ الوصول إليه هو التيقن من عموم الحكم، ووسيلة ذلك هي تجميع أكبر عدد ممكن من الأدلة على اطراد هذا الحكم وجريانه في كل أفراد الصنف. والسبب في المبحث عن اليقين عن طريق تجميع أكبر عدد ممكن من الأدلة على اطراد الحكم وعمومه هو كون جزئية واحدة من الجزئيات (أو مجموعة صغيرة) لا تفيد القطع واليقين بثبوت الحكم لأفراد الصنف. فإذا استطعنا الحصول على اليقين من جزئية واحدة (من نص شرعي واحد في الشرعيات مثلًا) بأن كان النص الشرعي قطعي الدلالة والثبوت مع كونه عامًّا أريد به العموم قطعًا، لم تَعُدْ هناك فائدة لإستقراء مزيد من النصوص والأحكام لأننا قد تحصلنا على اليقين منذ البداية،

وزيادة الأدلة على ذلك لا دخل له في إثبات صدق الحكم، وإنما يمكن أن يكون من باب التوكيد والإطمئنان، من باب قول سيدنا إبراهيم - عليه السلام - {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]. فإذا أخذنا مثلًا قضية قصد الشارع إلي التيسير، فإنها ثابتة بنص شرعي يفيد العموم {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، إذْ صرّح الشارع بأنه قاصد إلى اليسر، وقد ورد "اليسر" معرَّفًا بـ"ال" التعريف وهي صيغة من صيغ العموم. ومع أن هذه الآية قطعية الدلالة على القصد إلى التيسير وقطعية الثبوت، إلّا أن الظن يدخلها من جهة العموم، فهي من صيغ العموم التي تحتمل التخصيص، وليست من العام الذي أريد به العموم قطعًا. وربما لهذا السبب جعلها ابن عاشور من باب الظاهر ولا تفيد القطع بعمومها. (¬1) ومن هنا تأتي أهمية الاستقراء في كونه قرينة خارجية ينفي عنها احتمال التأويل، ويُثْبِتُ عمومها وجريانها في جميع الأحكام الشرعية. تبرير نتيجة الإستدلال الإستقرائي: إن الموقف أمام الإستدلال الإستقرائي هو أنه إمّا أن نُخْضِعَه إخضاعًا كاملًا للتجربة الحسية، وهذا أمر مستحيل، ويؤدي بنا إلى ترك الاستقراء وعدم الوثوق به كلية، وفي ذلك ما فيه من لتعطيل للحياة العلمية والعملية، وإما أن نقبل بتأسيس الاستقراء على مبادئ عقلية قبلية نأخذها بوصفها مسلمات، وهذه المبادئ هي: 1 - قانون العلية العام: الذي يقرر أن الظواهر تترابط ترابط العلة والمعلول، وأن الحالات المتشابهة أو المتماثلة تكون عللها متماثلة كذلك. 2 - قانون التناسق والإطراد: الذي يقضي بأن الطبيعة تسير على نسق واحد لا يتغير، فما حديث في الماضي بعلة من العلل سيتكرر في الحاضر والمستقبل على نفس النحو مع وجود نفس العلة. ¬

_ (¬1) انظر ابن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 159.

المبحث الثالث نتيجة الاستقراء بين اليقين والظن

المبحث الثالث نتيجة الاستقراء بين اليقين والظن قبل الحديث عن الحالات التي يفيد فيها الاستقراء اليقين، والتي يفيد فيها مجرد الظن، يحسن بداية التعرف على مراتب اليقين وأنواعه، وهل اليقين ضروري في كل مسائل العلوم الشرعية أو الدنيوية حتى يصلح العمل بها؟ ثم الحديث بعد ذلك عن نوع اليقين المقصود تحصيله من الاستقراء. مراتب اليقين: ينقسم العلم الذي يوصف عادة بكونه يقينيًّا إلى ثلاثة أنواع: 1 - اليقين المنطقي: وهو العلم بقضية معينة، والعلم بأنه من المستحيل أن لا تكون القضية بالشكل الذي عُلِم. فاليقين المنطقي مركب من علمين، وما لم ينضم العلم الثاني إلى الأول لا يُعدّ يقينًا. واليقين المنطقي على نوعين: الأول: أن يكون منصبًّا على العلاقة بين قضيتين بوصفها علاقةُ ضرورةٍ؛ من المستحيل أن لا تكون قائمةً بينهما استنادًا إلى التلازم المنطقي بينهما بكون إحداهما متضمِّنة للأخرى. مثال ذلك قولنا: "زيد إنسان"، و"زيد إنسان عالم"، فإنا نعلم أنه إذا كانت القضية الثانية صادقة، فإن القضية الأولى ستكون يقينًا صادقة، بمعنى أنه إذا ثبت كون زيد "إنسانًا عالمًا" فثبوت كونه "إنسانًا" أمر يقيني منطقًا؛ لأنه يستبطن العلم بأنه من المستحيل أَلَّا يكون الأمر كذلك. والثاني: أن يكون منصبًّا على قضية واحدة حين يكون ثبوت محمولها لموضوعها ضروريّا، فعلمنا مثلًا بأن الخط المستقيم أقرب مسافة واصلة بين نقطتين يُعدّ -من وجهة نظر المنطق الأرسطي للبرهان- يقينًا لأننا نعلم أنه من المستحيل أن لا يكون الخط المستقيم أقرب مسافة بين نقطتين. (¬1) ¬

_ (¬1) انظر الغزالي: كتاب محك النظر، تحقيق وضبط وتعليق رفيق العجم، (بيروت: دار الفكر اللبناني، ط 1، 1994)، ص 99 - 100، وانظر أيضا محمد باقر الصدر: الأسس المنطقية للإستقراء، ص 322 - 323.

3 - اليقين الذاتي: وهو الذي وصفه الغزالي بكونه "اعتقادًا جزمًا"، ويعني جزم الإنسان بقضية من القضايا بشكل لا يراوده شكّ أو احتمال لخلاف ذلك، ولكن دون أن يرى استحالة وقوع خلاف ما يعتقده ويجزم به، مع عدم الإهتمام بمدى وجود مبررات موضوعية لهذا اليقين. (¬1) 3 - اليقين الموضوعي: وهو"التصديق بأعلى درجة ممكنة، على أن تكون هذه الدرجة متطابقة مع الدرجة التي تفرضها المبررات الموضوعية، أي أن تصل الدرجة التي تفرضها المبررات الموضوعية إلى الجزم". (¬2) ويقسم اليقين (القطع) أيضًا إلى نوعين: الأول: القطع الذي يستحيل عقلًا نقضه ووجود مخالف له، والثاني: القطع الذي يراد - به نفي الإحتمال الناشئ عن دليل، لا نفي الإحتمال الجائز عقلًا. والنوع الأول عزيز الوجود في واقع الناس، أما النوع الثاني فتحصيله ممكن وهو المراد بالقطع عادة في الشرعيات، بل وفي العلوم كلها. ومن ذلك قول الحنفية بأن دلالة اللفظ العام على أفراده قطعية، وقول جمهور الأصوليين عن النص بأنه اللفظ الدال في محل النطق ويفيد معنى لا يحتمل غيره. (¬3) إذْ أشار بعضهم إلى أن الإحتمال الذي لا يقبله النص هو الإحتمال الناشئ عن دليل، أما الإحتمال الناشئ عن غير دليل فإنه لا يمنع أن يكون اللفظ نصًّا في معناه. (¬4) نوع اليقين المقصود في الاستقراء: ليس المقصود باليقين المراد تحصيله في الاستقراء اليقين المنطقي، كما أنه ليس المقصود اليقين الذاتي الذي يُعدّ وجودُه في القضايا الإستقرائية عند كثير من الناس مما لا شك فيه. وإنما المقصود باليقين الذي يسعى الإستدلال الإستقرائي إلى تحصيله هو اليقين الموضوعي، أو ما سماه الشاطبي بالقطع العادي، أي اليقين الذي يراد به نفي الإحتمال الناشئ عن دليل، لا نفي كل احتمال جائز عقلًا. أي هل هناك مبررات ¬

_ (¬1) انظر الغزالي: كتاب محك النظر، ص 100. (¬2) محمد باقر الصدر: الأسس المنطقية للإستقراء، ص 325. (¬3) انظر الشنقيطي: نشر البنود على مراقي السعود، ج 1، ص 84. (¬4) محمد أديب صالح: تفسير النصوص في الفقه الإِسلامي، ج 1، ص 206.

موضوعية لإيصال التصديق الإستقرائي إلى درجة الجزم واليقين أم لا؟ فإذا وجدت مبررات موضوعية تثبت أن ما توصل إليه الاستقراء من نتيجة يُقْطَع به عادة، أي حسب ما جرت به العادة وسنن الكون، حكمنا لذلك بإفادة اليقين، بغض النظر عن الإحتمالات المخالفة الناشئة عن غير دليل. ومهما يكن فإن التصديق الموضوعي يبقى بحاجة دائمة إلى افتراض مصادرة فحواها أن هناك درجات من التصديق الموضوعي بديهية ومعطاة بصورة أولية. وهذه هي الأسس التي اعتُمِد عليها في القول بإفادة التواتر القطع. هل يشترط في نتيجة الاستقراء أن تكون يقينية حتى يعمل بها؟ قد يكون صدق نتيجة الاستقراء تامًّا، أي يقينيًّا، وقد يكون في غاية الرجحان دون الوصول إلى مرتبة اليقين، وفي كلتا الحالتين يجب العمل به؛ لأن العمل بالقضايا الراجحة أمر لا مَفَرّ منه، وإلَّا تعطلت الحياة البشرية، ليس فقط في جانبها التشريعي، بل في جميع مناحيها. ومَنْ مِن الناس في هذا الكون يستطيع الزعم بأنه لا يعمل إلّا بما توفر له فيه عنصر اليقين المنطقي؟ فمن خصائص العلم البشري أنه في كثير من نواحيه نسيي، إلَّا ما جاء به وحي ثبت صدقه، أو ما قطع العقل به. نعم يشترط اليقين في جانب العقائد لخطورتها في حياة البشرية، أما الأحكام العملية فيكفي فيها الظن الراجح. المراد باليقين في المقاصد: عندما نتوصل من خلال استقراء تصرفات الشريعة ونصوصها إلى نتيجة مفادها القطع مثلًا بكون التيسير مقصدًا من مقاصد الشارع، فإن ذلك يعني القطع بوجود هذا المقصد، وأن الشارع قَاصِدٌ إليه في تصرفاته كلِّها، لا أننا نقطع بوجود هذا المقصد في كلّ معاملة وفي كلّ تصرف شرعي مهما كان نوعه؛ لأن ذلك يحتاج إلى بحث آخر وإلى التحقيق في إمكانية دخول هذا التصرف أو المعاملة ضمن ما قصد الشارع إلى التيسير فيه أو عدم إمكانية ذلك. وهذا هو المقصود بقولنا إننا نوقن بأن الشارع قصد إلى رفع الحرج أو التيسير أو غيرها من المقاصد العامة.

المبحث الرابع حل مشكلة الاستقراء الناقص في العلوم الشرعية

المبحث الرابع حل مشكلة الاستقراء الناقص في العلوم الشرعية بعد استعراض مواقف كل من الفلاسفة والمناطقة، والشاطبي، ومحمد الطاهر ابن عاشور من الاستقراء، وكيفية حلّ مشكلة الاستقراء الناقص، وتسويغ نتيجته، يمكن تلخيص تصور مقترح لحل تلك المشكلة في النقاط الآتية: 1 - يبدو -كما سبقت الإشارة- أن سبب الحيرة في الموقف من نتيجة الاستقراء في الشرعيات ناتج عن الخلط في تكييف هذا النوع من الاستقراء وتصنيفه. وبيان ذلك أن الخطأ والخلط يقع عندما يُلْحَق الاستقراء في الشرعيات (الاستقراء المعنوي) بالاستقراء المنطقي والعلمي ويقاس عليهما، ويحتكم في تقييمه إلى القوانين التي تحكمهما. والأَوْلى أن يُلْحَق هذا النوع من الاستقراء بباب المرويات، فيحكم بقوانين الرواية، وذلك للأسباب الآتية: أ - أن مادة هذا الاستقراء عبارة عن نصوص شرعية تحكمها قوانين الرواية. ب - أننا في موضوع المقاصد نهدف إلى الكشفِ عن شيءٍ قصدَ إليه الشارع، وبثَّه في نصوصه، وذللث أمر قد تَمَّ في زمن مضى، ونحن نسعى إلى الكشف عنه. ج - أن النصوص الشرعية التي تمثل مجال الاستقراء نصوصٌ تاريخية محدودة، بمعنى أنها قد وُضِعَت وانقطع المزيد عليها. ولا يعني ما ذُكِر أننا سنهمل كلّ قوانين المبحث العلمي، ونُخْضِع الاستقراء المعنوي لقواعد المنهج التاريخي البحت، وإنما المراد أن تفسير نتيجة الاستقراء -بعد أن تتم عملية الاستقراء وفقًا للقواعد المنطقية والعلمية التي تحكمه- يكون طبقًا للقواعد التي تحكم مبادئ: الآحاد، والشهرة، والتواتر وما يتعلق بها من ظنية وقطعية. وربما كان هذا هو الأمر الذي جعل الشاطبي يقيس الاستقراء المعنوي على التواتر المعنوي، ويُخْضِعُه لقوانينه بدلًا من إخضاعه لقوانين الاستقراء المنطقي. 2 - ينبغي التفريق بين نوعين من الاستقراء: الاستقراء الْمُنْصَبُّ على الأوصاف

العرضية، أو استقراء وجود حُكْم من الأحكام في عدد من الجزئيات المتماثلة، والاستقراء الذي يهدف إلى إثبات وجود معنى من المعاني أو قيمة من القيم. فالاستقراء الأول-وهو الاستقراء المنطقي أو العلمي- يُعْنَى بمستويين من المبحث: النوع الأول: وجود الوصف أو الحكم موضوع الاستقراء، واتصافه بالعموم والكلية، وهو الذي يسمى نتيجة الاستقراء أو التعميم الإستقرائي، والثاني هو حصر الجزئيات والأفراد الداخلة تحت هذا الاستقراء، ثم التحقق من عدم شذوذ أيٍّ منها عن هذا الحكم العام. فحصر الجزئيات وإثبات انضوائها كلها تحت التعميم الإستقرائي يمثِّل الجانب الأساس في هذا التوع من الاستقراء. أما النوع الثاني من الاستقراء الذي يمكن تسميته -جريًا على اصطلاح الشاطبي- بالاستقراء المعنوي فهو كذلك يُعنى بنفس المستويين، لكن مع اختلاف في الأولوية. فيكون الجانب الأساس فيه هو إثبات وجود معنى من المعاني واتصافه بالعموم، وليس من اللازم أن يكون ذلك العموم تامًّا بحيث يَسْلَم من الشذوذ والإستثناء مهما كان نوعه. أما المستوى الثاني من المبحث في هذا النوع من الاستقراء، وهو تتبع الجزئيات فالهدف منه هو الإستعانة بها في إثبات وجود المعنى موضوع الاستقراء وانتشاره فيها بما يعطيه صفة العموم، وليس من اللازم استقصاء جميع الجزئيات الموجودة والمتوقع وجودها، وإنما يكفي أن نُثبت أن معنى من المعاني أو قيمة من القيم مقصودٌ للشارع، من خلال طلب الشارع تحصيله أو اجتنابه وإزالته، ومن خلال بَثِّ ذلك في عدد كبير من أحكامه وتصرفاته، فيكون المستوي الثاني خادمًا ومكملًا للمستوى الأول. وهذا الذي ينبغي أن يُفْهَم من الاستقراء المعنوي، وهو الفارق بين الاستقراء المعنوي المستعمل في العلوم الشرعية والاستقراء المنطقي والعلمي. ومما يدعم هذا ما أشار إليه الشاطبي عند حديثه عن مجيء نص على جزئي مخالف للقاعدة الكلية المستفادة بالاستقراء والموقف من ذلك، وقد مَثَّل لذلك بما دلّ عليه الاستقراء من أن الشريعة جاءت بحفظ الضروريات، فبيّن أن الذي ثبت

بالاستقراء هو العلم بأن حفظ الضروريات معتبر، لكن لم يحصل العلم بحل الجهات المعَيَّنَة للحفظ، وليس ذلك المقصود من الاستقراء لعسره وتعذر الإحاطة به. وفي ذلك يقول: " ... فإنه إنما عُلِم أن الحفظ على الضروريات معتبر؛ فلم يحصل العلم بجهة الحفظ المعينة، فإن للحفظ وجوهًا قد يدركها العقل وقد لا يدركها، وإذا أدركها فقد يدركها بالنسبة إلى حال دون حال، أو زمان دون زمان، أو عادة دون عادة". (¬1) 3 - هناك جانب آخر يجب النظر إليه عند الحديث عن استقراء الأحكام الشرعية لإثبات مقاصد الشارع، وهو أنه ينبني التفريق بين كون الشارع قاصدًا إلى تحقيق مقصد ما، ومدى تحقق ذلك المقصد في الواقع العملي. فالأول هو المعنيُّ بالبحث، لأنه هو المتعلق بإرادة الشارع وقصده، أما الثاني فإنه لا يتعلق بقصد الشارع وإرادته فقط، بل له تعلق قوي بقصد المكلَّف وحاله وظروفه، فها هنا لا بُدّ لتحقيق المقصد من تكامل عمل الشارع وعمل المكلَّف. فإذا انخرم العنصر الثاني فقد يؤدي ذلك إلى عدم ظهور المقصد أو تخلفه في بعض الحالات، وليس معنى ذلك انعدام قصد الشارع وانخرامه، وإنما ذلك لعدم توفر شروط تحققه. فمثلًا قصدُ الشارع من العقوبات الازدجار وهو قصد عام في جميع العقوبات، لكن هذا المقصد لا يمكن أن يتحقق واقعيًّا في نفوس الناس إلَّا إذا توافرت له أسبابه وشروطه. فإذا أدّت حال المعاقَب وظروفه إلى عدم ازدجاره، فليس معنى ذلك القدح في كون الشارع قاصدًا إلى ذلك، لأن الشارع إنما قصد إلى ترتيب الازدجار على العقاب، ولم يقصد إلى العمل على تحقيق ذلك عمليًّا في نفوس آحاد المعاقَبِين دون استثناء، وإنما ترك ذلك ليجري على حسب قوانين الأسباب والسنن. 4 - لَمّا كان الاستقراء المعنوي في مجال إثبات المقاصد -بالمفهوم الذي تَمَّ توضيحه- لا يُعنى كثيرًا بمحاولة استقصاء جميع الجزئيات (وهو ما يسمى بالاستقراء التام)؛ لأن المقصود بالدرجة الأولى هو إثبات المقصد، وهو معنى من المعاني التي بثَّها الشارع في أحكامه، أي إثبات كون الشارع قاصدًا إلى اعتباره في أحكامه، وليس ¬

_ (¬1) الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 7.

المقصود استقراء وجود ذلك المقصد في كل التصرفات والأحكام، كان اشتراط كون الاستقراء تامًّا في الكشف عن مقاصد الشارع ليس فقط عسير التحقيق، وإنما لا تدعو إليه ضرورة ولا حاجة. 5 - ينبغي أن يؤخذ بعين الإعتبار كون الأحكام الشرعية كثيرة تتجاذبها مقاصد كثيرة، فليس للشارع مقصد واحد في أحكامه وتصرفاته حتى نحتاج إلى استقراء تام لإثبات وجوده في كل الجزئيات والفروع، بل هناك عشرات المقاصد، منها الكلي والجزئي، ومنها العام والخاص، وهي مقاصد تتداخل أحيانًا وتتمايز أحيانًا أخرى، فلذلك نجد الأصل فيها التكامل والتعاضد، لكنها قد تتعارض أحيانًا، فنجد الفرع يتجاذبه أكثر من مقصد. وتبقى مهمة المفتي أو المجتهد هي الترجيح، فيلحق ذلك الفرع بالمقصد الأقرب إله والأنسب له. ولا يعني ذلك الطعن في كليّةِ أو عمومِ المقصد الذي لم يُنْسَب إليه؛ إذْ وصفُ العموم والكلية هنا نسبيان لا مطلقان، أي أن المراد بالعمومِ العمومُ العادي، والكلية بمعنى الإجمال المشتمل على عدد كبير-أو غير محصور -من الفروع والجزئيات والضابط له- ولماكان تحقيق المقاصد في الواقع أمرًا متأثرًا بالظروف المحيطة قد يتغير بتغيرها، كان الفرع الواحد قد يلحق تارة بمقصد ما، ويلحق تارة أخرى بمقصد آخر.

الفصل السادس دراسة تطبيقية لمسلك الاستقراء

الفَصْلُ السَّادِسُ دراسة تطبيقية لمسلك الاستقراء تَمْهِيدٌ هذا الفصل مخصص للدراسة التطبيقية لكيفية استخدام مسلك الاستقراء في الكشف عن مقاصد الشريعة، وستشتمل هذه الدراسة على ثلاثة محاور: الأول: استقراء مجموعة من علل الأحكام الضابطة لحِكْمة واحدة ليحصل العلم بعد ذلك بأن هذه الحِكْمة مقصد شرعي سعى الشارع إلى تحقيقه من تلك الأحكام، وسيكون مثال ذلك رفع الشارع الغرر وإبطاله في المعاملات. (¬1) الثاني: استقراء مجموعة أدلة أحكام مشتركة في علة واحدة بحيث يحصل العلم بأن تلك العلة مقصودة للشارع، وسيكون مثال ذلك قصد الشارع إلى رواج الطعام ومنع احتكاره. (¬2) الثالث: استقراء مجموعة من النصوص الشرعية مشتركة في معنى واحد، لنخلص منها إلى الجزم بأن ذلك المعنى مقصد شرعي، وسيكون مثال ذلك التيسير ورفع الحرج. ¬

_ (¬1) انظر محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 125 - 126. (¬2) انظر المصدر السابق، ص 126 - 127.

المبحث الأول استقراء علل الأحكام الضابطة لحكمة واحدة

المبحث الأول استقراء علل الأحكام الضابطة لحكمة واحدة من المعلوم أن العلة قد تكون هي الحِكْمة ذاتها، وذلك في حال كون الحِكْمة وصفًا ظاهرًا منضبطا، وقد تكون مظنتها، وذلك في حال كون الحِكْمة غير ظاهرة، أو غير منضبطة، فيقام مقامها وصف ظاهر منضبط يكون مظنة وجودها ويعتبر هو العلة. ومن المقرر عند الأصوليين أن العللَ ضابطةٌ لحِكَم قصدها الشارع، وقد تكون تلك الحِكَم ظاهرة متحققة، أو خفية مظنونة التحقق. وعلى ذلك قد تتعدد علل مجموعة من الأحكام، لكن الحِكْمة منها جميعًا واحدة. ويكون الاستقراء هنا لمجموعة من علل الأحكام المختلفة، لكن المستقرئ يلاحظ وجود حِكْمة مشتركة تدور حولها جميع تلك العلل، فيخلص من ذلك إلى أن هذه الحِكْمة مقصودة للشارع. وسيكون المثال التطبيقي لهذا النوع من الاستقراء هو تحديد موقف الشارع من الغرر في المعاملات، حيث سيتم استقراء جملة المعاملات التي نهى عنها الشارع لعلل مختلفة، ولكن عند التأمل نجد أن كل تلك العلل تجمعها حكمة واحدة، هي رفع الغرر وإبطاله في التعامل بين الناس. وسيتم الاستقراء على المستويات الآتية: 1 - تحديد موقف الشارع من الغرر في صيغة العقد. 2 - تحديد موقف الشارع من الغرر في محل العقد. 3 - تحديد موقف الشارع من الغرر من خلال النصوص الواردة في إبطال الغرر عمومًا. وقبل الشروع في عملية الاستقراء ينبغي بداية تحديد مفهوم الغرر الذي ستشمله عملية الاستقراء. تعريف الغرر: الغرر لغة: الخطر أو الوقوع في الهلاك، والتغرير: حمل النفس على الغرر، يقال:

غرَّر بنفسه وماله تغريراً وتَغِرَّة: عرضهما للهلكة من غير أن يعرف، والإسم الغرر (¬1) أما اصطلاحاً: فهو"بيع ما لا يعلم حصوله، أو لا يقدر على تسليمه، أو لا يعرف حقيقة مقداره". (¬2) والغرر مراتب: فمنه الغرر اليسير الذي يُتَسامح في مثله عادة، وهو الغرر الذي لا تكاد تخلو منه معاملة عادة، وهناك الغرر الفاحش الذي يضر بمصلحة أحد المتعاقدين أوكلميهما، وهو الذي لا يُتَسامح في مثله عادة، وهناك مراتب بين هذين الطرفين قد يختلف العلماء في إلحاق كل منها بالطرف الأول (المعفو عنه)، أو بالطرف الثاني (الذي جاء الشارع بإبطاله). والغرر المعنيّ بالاستقراء هنا هو الغرر الفاحش، وما أُلحِق به. أولاً - الغرر في صيغة العقد، المراد بالغرر في صيغة العقد أن ينعقد العقد على صفة تجعل فيه غرراً، أي أن الغرر يتصل بنفس العقد لا بمحله. ويتضمن الغرر في صيغة العقد خمسة أنواع: بيعتان في بيعة، بيع العربان، بيع الحصاة، بيع الملامسة، بيع المنابذة. 1 - بيعتان في بيعة: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "نَهى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ" (¬3) وقد اتفق الفقهاء جميعاً على القول بموجَب أحاديث النهي عن بيعتين في بيعة، فمنعوا أن يبيع الشخص بيعتين في بيعة لما في ذلك من غرر ولكنهم اختلفوا في تفسير الصور التي يطلق عليها هذا الإسم والتي لا يطلق عليها. (¬4) ¬

_ (¬1) ابن منظور: لسان العرب، ج 5، ص 11 وما بعدها. (¬2) ابن قيم الجوزية: زاد المعاد في هدي خير العباد، (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 15، 1987 م)، ج 5، ص 818. (¬3) رواه الترمذي: سنن الترمذي، كتاب البيوع، باب (18): ج 3، ص 533. (¬4) انظر تفصيل المسألة في ابن رشد: بداية المجتهد، ج 2، ص 115. فالبعض يرى أن معناها أن يقول البائع: بعتك هذه السلعة بعشرة نقداً، وبخمسة عشر إلى سنة، فيقول المشتري: قبلت من غير أن يعين بأي ثمن اشترى. وقال البعض معناها أن يبيع الرجل سلعة لآخر على أن يبيعه الآخر سلعة أخرى، كأن يقول له: بعتك هذه الدار بألف على أن تبيعني سيارتك هذه بخمسمائة. وقال البعض الآخر معناها أن يتناول عقد البيع بيعتين على إلَّا تتم منهما إلَّا واحدة مع لزوم العقد.

2 - بيع العربان: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "نهى عَنْ بَيْعِ العرْبَانِ". (¬1) 3 - بيع الحصاة: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "نَهَى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعِ الحَصَاةِ وَعَنْ بَيْعِ الغَرَرِ" (¬2) 4 - بيع الملامسة: (1) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نَهَى عَنْ بَيْعِ المُلاَمَسَةِ والمُنَابَذَةِ". (¬3) ¬

_ (¬1) البيهقي: السنن الكبري، 5 ج، ص 342. والحديث ضعيف لأنه لا يسلم طريق من الطرق التي روي بها؛ فرواية الإمام مالك في سندها انقطاع، وروايتي ابن ماجة والدارقطني في سنديهما ضعفاء، ولذلك لم ياخذ به بعض الفقهاء، ومنهم الإمام أحمد. أما الجمهور الذين أخذوا به فعلى أساس أنه ورد من طرق عديدة، وأن تلك الطرق وإن كان كل منها فيه ضعف، إلَّا أنها يقوي بعضُها بعضا. انظر الشوكاني،: نيل الأوطار، ج 6، ص 236 - 237. وبيع العربان أو العربون هو أن يشتري الرجل السلعة ويدفع إلى البائع مبلغا من المال، على أنه إن أخذ السلعة يكون ذلك المبلغ محسوبا من الثمن، وإن تركها فالمبلغ للبائع. انظر ابن قدامة: المغني، ج 4، ص 256؛ والرملي: نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، (بيروت: المكتبة الإسلامية، د. ط، د. ت)، ج 3، ص 459. وقد اختلف الفقهاء في حكمه: فمنعه المالكية والحنفية والشافعية وهو قول جمهور الفقهاء. انظر ابن رشد: بداية المجتهد، ج 2، ص 122، والرملي: نهاية المحتاج، ج 3، ص 459؛ وأبو الوليد الباجي: المنتقى شرح الموطأ، (مصر: مطبعة السعادة، ط 1، 1331 هـ)، ج 4، ص 142. وأجازه الإمام أحمد. وروي عن جماعة من التابعين أنهم أجازوه منهم: مجاهد، وابن سيرين، ونافع بن الحارث، وزيد بن أسلم. انظر ابن رشد: بداية المجتهد، ج 2، ص 122؛ وابن قدامة: المغني، ج 4، ص 257. (¬2) رواه مسلم: صحيح مسلم، كتاب البيوع، باب (2)، ج 3، ص 1153. ولبيع الحصاة معنيان: الأول: أن يقول البائع للمشتري إذا وقعت الحصاة من يدي فقد وجب البيع فيما بيني وبينك. والثاني: أن يقول المشتري: أي ثوب وقعت عليه الحصاة التي أرمي بها فهو لي. انظر ابن رشد: بداية المجتهد، ج 2، ص 111. وقد اتفق الفقهاء على العمل بموجَب الحديث المتقدم فمنعوا بيع الحصاة لما فيه من غرر فاحش. انظر ابن قدامة: المغني، ج 4، ص 229. (¬3) رواه مسلم: صحيح مسلم، كتاب البيوع، باب (1)، ج 3، ص 1151. ولبيع الملامسة ثلاثة معان: 1 - أن يشتري المشتري الثوب باللمس فقط ولا ينظر إليه. 2 - أن يلمس الثوب بيده ولا ينشره ولا يقلبه، فإذا مسه فقد وجب البيع. 3 - أن يتبايع القوم السلع لا ينظرون إليها ولا يخبرون عنها. وهذا البيع مجمَع على تحريمه وفساده لما فيه من غرر فاحش. انظر ابن رشد: بداية المجتهد، ج 2، ص 111، والضرير، الصديق محمد الأمين: الغرر وأثره في العقود في الفقه الإِسلامي، (الخرطوم: الدار السودانية للكتب، 1990 م)، ص 129 - 135.

5 - بيع المنابذة: عن أبي سعيد الخدري قال: " ... نَهَى (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) عَنْ المُلاَمَسَةِ والمُنَابَذَةِ فَي البَيْعِ ... والمنابذة (¬1) أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه، وينبذ الآخر إليه بثوبه، ويكون ذلك بيعهما من غير نظر ولا تراض". (¬2) قال الشوكاني: "والعلة في النهي عن الملامسة والمنابذة الغرر والجهالة وإبطال خيار المجلس". (¬3) ثانيا - الغرر في محل العقد: محل العقد أو المعقود عليه هو ما يثبت فيه أثر العقد وحكمه، والمعقود عليه يُطْلَق على ما يشمل البدلين في عقود المعاوضات. وأهم صور الجهالة في محل العقد هي: الجهل بذات المحل، والجهل بجنس المحل، والجهل بمقدار المحل، والجهل بالأجل، وعدم القدرة على تسليم المحل. 1 - الجهل بجنس المحل: جهالة جنس المحل هي أفحش أنواع الجهالات، لأنها تتضمن جهالة الذات والنوع والصفة؛ ولذا اتفق الفقهاء على أن العلم بجنس المبيع شرط لصحة البيع، فلا يصح بيع مجهول الجنس لما في ذلك من الغرر الكثير (¬4) ¬

_ (¬1) ذكر الفقهاء لبيع المنابذه ثلاثة معان: 1 - طرح الرجل ثوبه بالبغ إلى الرجل فبل أن يقلبه أو بنظر فيه. 2 - أن ينبذ كل واحد من المتبايعين ثوبه إلى الآخر ولم ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه. 3 - أن يقول: إذا نبذت إليك الشيء فقد وجب البيع بيني وبينك. انظر ابن رشد: بداية المجتهد، ج 2، ص 111؛ ود. صديق محمد الأمين: الغرر وأثره في العقود، ص: 129 - 135. وقد اتفق الفقهاء على منعه لما فيه من غرر فاحش ولورود النهي عنه في الحديث الصحيح. انظر ابن قدامة: المغني، ج 4، ص 207. (¬2) رواه مسلم: صحيح مسلم، كتاب البيوع، باب (1)، ج 3، ص 1152. (¬3) الشوكاني: نيل الأوطار، ج 6، ص 234. (¬4) انظر الشيرازي، إبراهيم بن علي: المهذب، (بيروت: دار الفكر، د. ط، د. ت)، ج 1، ص 270.

2 - الجهل بذات المحل: من أنواع الغرر الممنوع في البيع ما يرجع إلى الجهل بذات المبيع؛ وذلك أن المبيع إذا؛ ن مجهول الذات، وإن معلوم الجنس، حصل النزاع في تعيينه. وهذا إنما يتأتى في الأشياء المتفاوتة إذا بِيعَ واحدٌ منها من غير تعيين لذاته كبيع شاة من قطيع. (¬1) وهذا النوع من البيع فاسد عند فقهاء المذاهب الأربعة لا يترتب عليه أثره بسبب الغرر الفاحش فيه. (¬2) 3 - الجهل بمقدار المحل: القاعدة العامة أن المحل المشار إليه، مبيعاً كان أو ثمناً، لا يحتاج إلى معرفة قدره، فلو قال: بعتك هذه الثياب بهذه الدراهم التي في يدك، وهي مرئية له، فقبل جاز ولزم البيع مع كون الشياب والدراهم مجهولة القدر؛ لأن الإشارة كافية في وجود العلم المنافي للجهالة المفضية إلى المنازعة، أما المحل غير المشار إليه فالعلم بمقداره شرط لصحة البيع، فلا يصح بيع مجهول القدر ولا البيع بثمن مجهول القدر باتفاق المذاهب الأربعة (¬3) 4 - الجهل بالأجل: لا خلاف بين الفقهاء في اشتراط العلم بالأجل في البيع المؤجل ثمنه، وفي أن الجهل بالأجل من الغرر الفاحش الممنوع في البيع، وإن اختلفوا في بعض جزئيات الجهالة. (¬4) ¬

_ (¬1) ابن رشد: بداية المجتهد، ج 2، ص 111. (¬2) انظر الكاساني: بدائع الصنائع، ج 5، ص 156؛ والشيرازي: المهذب، ج 1، ص 270؛ وابن قدامة: المغني، ج 4، ص 131. (¬3) انظر القرافي؛ الفروق، ج 3، ص 265؛ والشيرازي: المهذب، ج 1، ص 271 - 272؛ والكاساني: بدائع الصنائع، ج 5، ص 158، 178. (¬4) انظر الشيرازي: المهذب، ج 1، ص 273؛ والقرافي: الفروق، ج 3، ص 265 - 266؛ وابن قدامة: المغني، ج 4، ص 290، وابن حزم: المحلى، (بيروت: دار الآفاق الجديد، د. ط، د. ت)، ج 8، ص 444.

5 - عدم القدرة على تسليم المحل: اتفق جمهورالفقهاء على أن القدرة على قسليم المحل شرط في البيع، فلا يصح بيع ما لا يقدر على قسليمه كالبعير الشارد الذي لا يعلم مكانه (¬1)، وخالف الظاهرية الجمهور فلم يشترطوا القدرة على التسليم لصحة البيع. (¬2) بعد بيان أهم صور الجهالة في محل العقد التي تكون عرضة للغرر الفاحش، يأتي استعراض أهمّ المعاملات التي أبطلها الشارع بسبب علّة أو أكثر من العلل الداخلة تحت مُسمَّى الغرر في محل العقد. 1 - النهي عن المزابنة (¬3) في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن مسألة عن بيع التمر بالرطب: "أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذاَ جَفَّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَلَا إِذَنْ". (¬4) والعلة مما الجهل بمقدار أَحَد العوضين، وهو الرطب منهما المبيع باليابس. (¬5) 3 - النهي عن بيع الثنيا: فني حديث جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عَن المُحَاقَلَةِ، (¬6) والمُزَابَنَةِ، (¬7) والمُخَابَرَةِ، (¬8) وعَنِ الثّنْيَا إِلّا أَنْ تعلَمَ". (¬9) والثنيا المراد بها الإستثناء في البيع، وذلك أن يبيع الرجل شيئاً ويستثني بعضَه، ويكون ذلك البعض ¬

_ (¬1) انظر الباجي: المنتقى، ج 5، ص 41؛ والشيرازي: المهذب، ج 1، 270؛ وابن قدامة: المغني، ج 4، ص 222. (¬2) انظر ابن حزم: المحلى، ج 8، ص 388. (¬3) اختلف الفقهاء في تفسير المزابنة وخلاصة ذلك أنها: بيع معلوم القدر بمجهول القدر من جنسه، أو بيع مجهول القدر بمجهول القدر من جنسه، كبيع الرطب على النخل بتمر مجذوذ عُلِم مقدار أحدهما أم لم يُعلم. انظر الشوكاني: نيل الأوطار، ج 6، ص 263، 289. (¬4) رواه مالك بن أنس: الموطأ، كتاب البيوع، باب: "ما يكره من بيع الثمر"، ج 2، ص 429. (¬5) انظر محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 125. (¬6) المحاقلة لغة: بيع الزرع في سنبله بالبُر. الرازي: مختار الصحاح، ص 62. واصطلاحاً هي: بيع الحب في سنبله بجنسه خرصاً. وقيل المحاقلة كراء الأرض. انظر الموسوعة الفقهية لوزارة الأوقاف الكويتية، ج 9، ص 138. (¬7) المزابنة في اللغة مأخوذة من "الزبن" وهو الدفع. انظر الرازي: مختار الصحاح، ص 113. وفي الإصطلاح هي: بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر الجذوذ. انظر الموسوعة الفقهية لوزارة الأوقات الكويتية، ج 9، ص 139. (¬8) المخابرة هي المزارعة ببعض الخراج من الأرض. انظر الرازي: مختار الصحاح، ص 71. (¬9) رواه النسائي: سنن النسائي، كتاب البيوع، باب (74)، ج 7، ص 296.

مجهول القدر (¬1)، فيصير المبيع غير معلوم، وتكون علة النهي هنا هي الجهل بمقدار محل البيع. 3 - عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد قال: "نَهَى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ شِرَاءَ مَا فِي بُطُونِ الأَنْعَامَ حَتّى تَضَعَ ... وعَنْ شِراء العَبْدِ وهُو آبِق، وعَنْ شِرَاء المَغَانِمِ حَتّى تُقسّم، وعَنْ شِرَى الصَّدَقَاتِ حَتّى تُقْبَضَ، وعَنْ ضرْبَةِ الغَائِصِ (¬2) " (¬3) والعلّة في كل هذا عدم القدرة على التسليم. 4 - النهي عن بيع حبل الحبلة: فعن ابن عمر قال: "نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع حبل الحبلة". (¬4) والنهي عن بيع حبل الحبلة لا تخرج علّته -على كل التفسيرات التي ذكرها العلماء له- (¬5) عن جهالة الأجل، أو لكونه معدوماً ومجهولاً وغير مقدور على تسليمه. (¬6) 5 - النهي عن أن يبيع الإنسان ما ليس عنده: فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا يَحِلّ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ، ولَا رِبْحُ مَا لَمْ يَضْمن". (¬7) والمراد بما ليس عندك ما ليس في مِلْكِكَ وقدرتك. (¬8) وعلة إبطاله عدم القدرة على التسليم. 6 - النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها: وقد وردت فيه أحاديث كثيرة، منها ما رواه أنس بن مالك: "أَنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَة حَتّى تُزهِيَ، قَالُوا: مَا تُزهِي؟ ¬

_ (¬1) انظر الشوكاني: نيل الأوطار، ج 6، ص 234. (¬2) الغائص والغوَّاص من يغوص في البحر لإستخراج اللؤلؤ. الرازي: نحتار الصحاح، ص 202. وضربة الغائص هي أن يقول البائع: أغوص غوصة فما أخرجته من اللآلئ فهو لك بكذا. انظر الموسوعة الفقهية لوزارة الأوقاف الكويتية، ج 9، ص 160. (¬3) رواه ابن ماجة: سنن ابن ماجة، أبواب التجارات، باب (24)، ج 2، ص 1، الحديث (2196). (¬4) رواه مسلم: صحيح مسلم، كتاب البيوع، باب (3)، ج 3، ص 1153، الحديث (1514). (¬5) انظر اختلاف العلماء في تفسير المراد بحبل الحبلة في: الشوكاني: نيل الأوطار، ج 6، ص 230 - 231. (¬6) انظر المصدر السابق، ج 6، ص 231. (¬7) رواه ابن ماجة: سنن ابن ماجة، أبواب التجارات، باب (20)، ج 2، ص 13، الحديث (2188). (¬8) انظر الشوكاني: نيل الأوطار، ج 6، ص 239.

قَال: تَحْمَرّ فَقَالَ: إِذاَ مَنَعَ الله الثَّمَرَةَ فَبِمَ تَسْتَحِلّ مَالَ أَخِيكَ". (¬1) وعلة النهي هنا هي احتمال فساد الثمار قبل النضج، وفي ذلك ما فيه من الغرر، إذْ يرجع البائع بالثمن كاملاً، ويذهب المشتري بلا شيء. 7 - النهي عن بيع عسب الفحل: فعن جابر - رضي الله عنه - قال: "نَهَي رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعِ ضِرَابِ الجَمَلِ" (¬2) قال الشوكاني في بيان علّة هذا النهي: "وأحاديث الباب تدل على أن بيع ماء الفحل وإجارته حرام لأنه غير متقوم، ولا معلوم، ولا مقدور على تسليمه، وإليه ذهب الجمهور". (¬3) 8 - تقييد السَّلَم بما يرفع عنه الغرر: عقد السلم من العقود التي تعارف عليها العرب قبل مجيء الإِسلام. وقد أقره الإِسلام، لكنه أدخل عليه بعض التعديلات دفعاً لما فيه من غرر وذلك بتحديد مواصفات المُسْلَم فيه، وتحديد مقداره، وأجلِ السَّلّم. فعن ابن عباس أنه قال: "قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: "مَنْ أَسْلَفَ فَي تَمرِ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ معلُومٍ، وَوَزْن مَعلُومٍ، إِلى أَجَلٍ مَعلُومٍ" (¬4) 9 - وجوب بيان العيوب التي بالمبيع: وقد وردت في ذلك أحاديث كثيرة منها ما رواه عقبة بن عامر قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوله: "المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لَا يَحِلّ لِمُسْلِمٍ بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعاً وَفَيهِ عَيْبٌ إِلّا بيَّنَهُ لَهُ". (¬5) 10 - إبطال التصرية: وقد وردت في ذلك أحاديث منها: ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنِ اشْتَرَى شَاةً مُصَرّاةً (¬6) فَهُوَ بِخَيْر النَّظَرَيْنِ: إِنْ شَاءَ أَمسَكَهَا، وَإِنْ ¬

_ (¬1) رواه مسلم: صحيح مسلم، كتاب المساقاة، باب (3)، ج 3، ص 1190، الحديث (1554) (15). (¬2) رواه النسائي: سنن النسائي، كتاب البيوع، باب (94)، ج 7، ص 310. (¬3) الشوكاني: نيل الأوطار، ج 6، ص 229. (¬4) رواه مسلم: صحيح مسلم، كتاب المساقاة، باب (25)، ج 3، ص 1226 - 1227، الحديث (1604). (¬5) رواه ابن ماجة: سنن ابن ماجة، أبواب التجارات، باب (45)، ج 2، ص 24، الحديث (2246). (¬6) يقال: "صرَّى" الشاة "تصرية" إذا لم يحلبها أياماً حتى يجتمع اللبن في ضرعها. الرازي: مختار الصحاح، ص 152.

شَاءَ رَدّهَا وَصَاعاً مِنْ تَمْرٍ" (¬1) وعلة التحريم هنا ما في التصرية من تغرير بالمشتري بإظهار كون الشاة (أو الناقة أو البقرة) حَلُوباً، وهي في واقع الأمر ليس كذلك. 11 - جواز الرّدّ بالعيب: ومن الأدلة على ذلك ما روي عن سمرة بن جندب: "أن رجلاً اشترى عبداً فاستغلّه، ثم وجد به عيباً فردّه، فقال: يا رسول الله إنه قد استغلّ غلامي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "الخَرَاجُ بِالضَّمَانِ". (¬2) وعلّة جواز الردّ هنا ما كان من البائع من تغرير بالمشتري بعدم بيان العيب الذي في المبيع. 13 - إباحة القيام بالغبن: ويجمع ما سبق في إبطال الغرر في المعاملات حديث ابن عمر قال: "ذَكَرَ رجلٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يُخدع في البيوع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ بَايَعْتَ فَقُلْ: لَا خَلاَبَةَ". (¬3) وقد اختلف العلماء في جواز شرط الرّدّ بالغبن، بناءً على اختلافهم في هذه الحادثة هل هي خاصة بهذا الصحابي، أم عامة؟ (¬4) ثالثاً - النصوص الواردة في الغرر في القرآن الكريم والسنة النبوية: لم تَرِدْ في القرآن الكريم نصوص خاصة في حُكْم الغرر أو في حُكْم جزئية من جزئياته، بل وردت نصوص عامة تدخل تحتها جميع الأحكام الجزئية التي ذكرها الفقهاء في الغرر المنهي عنه، وهي الآيات التي تنهي عن أكل أموال الناس بالباطل، ومنها: - قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)} [النساء: 29]. - وقوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29]. والغرر بكل جزئياته وتفاصيله -من غير شكّ- داخل تحت أَكْل أموال الناس ¬

_ (¬1) رواه مسلم: صحيح مسلم، كتاب البيوع، باب (7)، ج 3، ص 1158، الحديث (1524) (26). (¬2) رواه ابن ماجة: سنن ابن ماجة، أبواب التجارات، باب (43)، ج 2، ص 23، (2243). (¬3) رواه مسلم: صحيح مسلم، كتاب البيوع، باب (12)، ج 3، ص 116، الحديث (1533). والرجل قيل هو حبان بن منقذ، وقيل بل هو منقذ والد حبان، ومعنى لا خلابة، أي لا خديعة. انظر الشوكاني: نيل الأوطار، ج 6، ص 271. (¬4) انظر تفصيل ذلك في الشوكاني: نيل الأوطار، ج 6، ص 271 - 272.

بالباطل فيكون منهيّاً عنه. أها في السنّة المطهرة فقد وردت أحاديث كثيرة تنهي عن الغرر بوصف عام وما اشتمل عليه من معاملات، منها: 1 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "نَهَى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعِ الحصَاةِ وَعَنْ بَيْعِ الغَرَرِ" (¬1) 2 - عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "نَهَى رُسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعِ الغَرَرِ" (¬2) 3 - عن ابن عمر- رضي الله عنهما -: "نَهَى رُسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعِ الغَرَرِ" (¬3) 4 - عن سعيد بن المسيب: "أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَيْعِ الغَرَرِ" (¬4) نتيجة الاستقراء: من خلال بها تَمَّ استقراؤه من المعاملات التي أبطلها الشارع لِعِلَلٍ مختلفة تشترك كلمها في عنصر واحد، هو منع الغرر، وكذلك النصوص التي وردت في النهي عن الغرر يمكن الخلوص إلى أن الغرر واحد من أهم مفسدات العقود، ذلك أن العقود شُرِعت لتحقيق مصالح الناس وتلبية حاجاتهم، فإذا أقدم شخص على عَقْدٍ فإنما ذلك لحاجة إلى المعقود عليه، وحاجات الناس تختلف من شخص لآخر، فإذا قصد شخص عقداً فإنما يقصد من المعقود عليه بها تتوافر فيه المواصفات والشروط التي تُلبِّي رغبته وتسدّ حاجته، وذلك يقتضي أن يكون المعقود عليه واضحاً تمام الوضوح للعاقد، ومأمون الحصول له، وأن تكون صيغة العقد سليمة وواضحة تفي بالغرض وتمنع التنازع. فإذا دخل الغرر صيغة العقد أو محلّه لم يَعُد العاقد على بيِّنةٍ من أمره فيما هو مقبل عليه مما قد يؤدي إلى إلى الإضرار به وغبنه، أو إلى حدوث نزاع بين العاقدين. وبناءً على ذلك يمكن الجزم بأن من مقاصد الشارع رفع الغرر وإبطاله، في معاملة اشتملت على غرر فاحش، أي غير معفوٍّ عنه، فهي معاملة باطلة في حُكْم الشرع. ¬

_ (¬1) رواه مسلم: صحيح مسلم، كتاب البيوع، باب (2)، ج 3، ص 1153، الحديث (1513). (¬2) رواه ابن ماجه: سنن ابن ماجة، كتاب التجارات، باب (23)، ج 2، ص 14 - 15، الحديث (2195). (¬3) رواه البيهقي: السنن الكبرى، ج 5، ص 338. (¬4) رواه البيهقي: السنن الكبرى، ج 5، ص 338.

المبحث الثاني استقراء أدلة أحكام اشتركت في علة واحدة

المبحث الثاني استقراء أدلة أحكام اشتركت في علة واحدة سيكون الهدف من هذا الاستقراء استقراء أدلّة مشتركة في علّة واحدة، بحيث يحصل لنا العلم بأن تلك العلة مقصد من مقاصد الشارع. وسيكون مثال ذلك تحديد موقف الشارع من رواج الطعام في الأسواق, ويتم ذلك من خلال استقراء أدلة أحكام المعاملات الآتية: النهي عن الإحتكار: وقد وردت في ذلك أحاديث منها ما رُوِي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَا يَحْتَكِرُ إِلّا خَاطِئٌ" (¬1) وعلة النهي عن ذلك ما يوُدي إليه من إقلال الطعام في الأسواق (¬2) فترتفع أسعاره. النهي عن تلقى الرُّكْبَان: ومن ذلك حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أَنّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أَنْ تُتلقَّي السِّلَعُ حَتّى تَبْلغُ الأَسْوَاقَ". (¬3) ومن علل النهي عن تلقي الركبان والجلب تيسير رواج الطعام في الأسواق بأسعار معقولة. (¬4) النهي عن أن يبيع حاضر لباد: عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ. (¬5) دَعُوا النَّاسُ يَرْزُق الله بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ" (¬6). ومن علل ذلك تيسير رواج الطعام بين الناس، ومنع تدخل السماسرة لإغلاء أسعار السلع. (¬7) ¬

_ (¬1) رواه مسلم: صحيح مسلم، كتاب المساقاة، باب (26)، ج 3، ص 1228. (¬2) انظر محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 126. (¬3) رواه مسلم: صحيح مسلم، كتاب البيوع، باب (5)، ج 3، ص 1156. (¬4) انظر ما قيل في علة النهي عن هذا النوع من البيع في: الشوكاني: نيل الأوطار، ج 6، ص 252 - 253. (¬5) الحاضر: ساكن الحضر، والبادي ساكن البادية. (¬6) رواه مسلم: صحيح مسلم، كتاب البيوع، باب (6)، ج 3، ص 1157. (¬7) انظر أقوال العلماء في هذا النوع من البيع في: الشوكاني: نيل الأوطار، ج 6، ص 249 - 250.

النهي عن بيع الطعام قبل قبضه: وقد وردت في ذلك أحاديث كثيرة منها حديث ابن عباس أن سول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن ابْتَاعَ طَعَاماً فَلَا يَبْعْهُ حَتّى يَسْتَوْفِيَهُ". (¬1) ومن علل هذا النهي طلب رواج الطعام في الأسواق. (¬2) نتيجة الاستقراء: من خلال استقراء موقف الشارع من هذه المعاملات يتبين لنا أن الشارع قاصدٌ إلى تسهيل عملية رواج الطعام في الأسواق، والسعي إلى منع الإحتكار في أقوات الناس، ومنع كل معاملة يمكن أن تحون نتيجتها مشابهة لما ينتج عن الإحتكار من إغلاء الأسعار وما ينتج عن ذلك من إضرار بالناس. وعلّة حرص الشارع على رواج الطعام، أن الرواج يؤدي إلى وفرة الطعام في الأسواق، والوفرة تؤدي إلى رخاء الأسعار بما يُيَسِّر حياة الناس، خاصة الطبقة الفقيرة والمتوسطة. وفي المقابل، التضييق من دائرة رواج الطعام يؤدي إلى قلة العرض، الذي يؤدي بدوره إلى كثرة الطلب، فغلاء الأسعار وفي ذلك ما فيه من الإضرار بالناس والتعسير عليهم. ¬

_ (¬1) رواه مسلم: صحيح مسلم، كتاب البيوع، باب (8)، ج 3، ص 1159. (¬2) محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 126.

المبحث الثالث استقراء مجموعة من النصوص الشرعية المشتركة في معنى واحد

المبحث الثالث استقراء مجموعة من النصوص الشرعية المشتركة في معنى واحد وسيكون مثال هذا النوع من الاستقراء استقراء مقصد التيسير ورفع الحرج في الشريعة الإِسلامية. وقبل الشروع كما استقراء النصوص والأحكام التي جاءت مقررة لذلك، ينبغي تحديد مفهوم التيسير في الشريعة الإِسلامية، حتى تسهل عملية الاستقراء من جهة، وبُسد باب الطعون والإعتراضات التي قد تثار حول ثبوت هذا المقصد وتقريره في أحكام الشريعة الإِسلامية من جهة ثانية. مفهوم التيسير في الشريعة الإِسلامية: 1 - ليس معنى كون التيسير من مقاصد الشارع أن تجري الأمور كلها على التيسير، وأن يُعَامل كلّ الناس في كلِّ الظروف والأحوال باليُسر وإنما المقصود تطبيق التيسير حيث تتوفر شروطه، فالتيسير مقصد شريها عام، لكنه كغيره من المبادئ لا بُدّ له من توفر شروط قطبيقه. فإذا لم يُطبق عند عدم توفر شروطه، فليس معنى ذلك تخلف مبدأ التيسير وانخرام عمومه، ولكن معنى ذلك أن ظروف الشخص أو الفعل تقتضي الحزم أو التشديد بدل التيسير. 2 - أبرز ما يمكن أن يُعْتَرَض به على اتصاف الشريعة الإِسلامية باليسر بعض الحدود في نظام العقوبات الإِسلامي؛ لما فيها من صرامة في الضرب على أيدي المجرمين. ويُقال في الردّ على ذلك: إن مراعاة اليسير إنما تكون في الظروف الإعتيادية، أو الظروف القاهرة للإنسان، أما في الحالات التي يكون فيها التيسير مؤديّاً إلى تضييع حقوق الغير وإفساد حياة الناس، فإن الأمر يصير خارج نطاق التيسير؛ إذْ في التيسير على الظالم أو الجاني تعسير على المظلومين أو المجني عليهم. وليس اعتبار التيسير في حق الجاني بأولى من اعتباره في جانب المجني عليهم. فليس في الضرب على يَدِ الجاني والتشديد عليه خرق لمبدأ التيسير إنما هو عين حفظ هذا المبدأ، لكن لا بالنسبة للجاني، إنما للمجني عليهم. والتيسير على كل المجتمع أولى وأجدر بالاعتبار من التيسير على زمرة من المجرمين.

والشريعة في الحقيقة غير قاصدة إلى التعسير على الجاني ولا الإضرار به، وإنما هو الذي قصد إلى التعسير على نفسه، ورغب في ذلك بما جناه على نفسه من باب قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس: 23]. بل إن المتأمل في نظام العقوبات -سواء في الشريعة الإِسلامية أو في غيرها من الشرائع- يجد أنه إنما قُصِد به التيسير على الناس في حياتهم، بمنع ما يكدِّر صفوها، والضرب على يَدِ كلّ من يقصد إلى ذلك. فنظام العقوبات -إذاً- قصده الأسمى هو التيسير، والعبرة في الأمور بمقاصدها العليا، دون مراعاةٍ لما يعترض المسالك إليها من مشقة أو عسر ما دام مُحْتَمَلًا ودون المقصد الأعلى، فالضرر الأخف يحتمل في سبيل النفع الأعظم. 3 - يجب التفريق بين كون الشارع قاصداً إلى التيسير وأنّ ذلك قد تَمَّ فيما نص عليه من أحدم، ومدى مراعاة المجتهد بعد ذلك لهذا المبدأ العام فيما يستنبطه من أحكام، فهو -أي المجتهد- يتلمَّس اكتشاف الظروف المناسبة والشروط اللازمة لتطبيق هذا المبدأ، فإذا أخطأ في التطبيق فإن ذلك لا يمكن أن يُعدّ طعناً في المبدأ الثابت. مجالات الاستقراء: يجد المتتبع لجوانب التيسير في القرآن الكريم والسنّة النبوية أنها من السّعة والشمول بحيث تغطّي جانبي العادات والعبادات، وأحكام الحياة الدنيا والآخرة، كما أنها تشمل أحدم الشارع وتصرفات المكلفين. وبناءً على ذلك سيتضمن الاستقراء المجالات الآتية: 1 - النصوص التي جاءت في وصف الشريعة باليسر. 2 - النصوص التي جاءت في وصف الشريعة بالحنيفية والسماحة. 3 - اتصاف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالتيسير. 4 - التيسير على هذه الأمة برفع الأغلال التي وُضِعَت على الأمم السابقة.

5 - عدم التكليف بما لا يُطاق. 6 - وجود مرتبة العفو في التشريع. 7 - الترغيب في معاملة الناس بيسر. 8 - تيسير سبيل المؤمنين. 9 - النهي عن التشدد والتنطع. 10 - وجود الرخص الشرعية سواء في العبادات أو في العادات. 11 - التدرّج في التشريع. 13 - شرع الكفارات. 13 - شرع التوبة. 14 - تيسير الحساب على المؤمنين. 1 - النصوص التي جاءت في وصف الشريعة باليسر: فقد وردت نصوص بصيغ العموم تخبر أن هذه الشريعة يسر وأنها إنما قُصِد بإنزالها التيسير على الناس، ومنها: - {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. - {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} [النساء: 28]. - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إلَّا غَلبَهُ فَسَدَّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ (¬1) " (¬2) - عن أبي عُرْوَةَ قَالَ: كُنَّا نَنْتَظِرُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَخَرَجَ رَجِلاً يَقْطُرُ رَأْسُهُ مِنْ وُضُوءٍ أَوْ غُسْلٍ فَصَلَّى فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ جَعَلَ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ يَا رَسُولَ الله أَعَلَيْنَا حَرَجٌ فِي كَذَا ¬

_ (¬1) الدلجة: الإسم من فعل "أدلج"، أي سار من أول الليل. انظر الرازي: مخنار الصحاح، ص 87. (¬2) رواه البخاري: صحيح البخاري، كتاب الأيمان، باب (30)، مج 1، ج 1، ص 18، الحديث (39).

فَقَال رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا أَيُّها النَّاسُ إِنَّ دِينَ الله -عَزَّ وَجَلَّ- فَي يُسْرٍ ثَلاَثًا". (¬1) - عن مِحجَن بْن الأَدْرَعَ قال: بَعَثَني نَبِيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - فِي حَاجَةٍ ثُمَّ عَرض لِي وَأَنَا خَارِجٌ مِنْ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ قَال: فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ حَتَّى صَعِدنَا أُحُدًا فَأَقْبَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ فَقَال: "وَيْلُ أُمِّهَا قَريَةً يَوْمَ يَدَعُهَا أَهْلُهَا قَالَ: يَزِيدُ كَأَيْنَعِ مَا تَكُونُ قَالَ: قُلْتُ: يا نَبِيَّ الله مَنْ يَأْكُلُ ثَمَرَتَها قَالَ: عَافِيَةُ الطَّيْرِ وَالسِّبَاعُ. قَالَ: وَلاَ يَدخُلُها الدَّجَّال كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَها تَلَقَّاهُ بِكُلِّ نَقْبٍ مِنْها مَلَكٌّ مُصْلِتًا قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَابِ الْمَسْجِدِ قَالَ: إِذَا رَجُلٌ يُصَلِّي قَالَ: أَتَقُولُهُ صَادِقًا قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبيَّ الله هذَا فُلاَن وَهذَا مِنْ أَحْسَنِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَوْ قَالَ: أَكْثَرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ صَلاَةً قَالَ: لَا تُسْمِعْهُ فَتُهْلِكَهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا إِنَّكم أُمَّة أُرِيدَ بِكُمُ الْيُسْرُ". (¬2) - عَنْ عَائِشَة - رضي الله عنها - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمر كُلِّهِ". (¬3) 2 - النصوص التي جاءت في وصف الشريعة بالسماحة وكون الشريعة سمحة يعني أنها يسيرة ميسرة، ومما ورد في هذا: - أخرج البخاري معلقا قَوْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى الله الحنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ" (¬4) - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أَيُّ الأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى الله؟ قَالَ: "الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ". (¬5) - عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فِي سَرِيَّةٍ مِنْ سَرَايَاهُ قَالَ: فَمَرَّ رَجُلٌ بِغَارٍ فِيهِ شيءٌ مِنْ مَاءٍ قَالَ: فَحَدَّثَ نَفْسَهُ بِأَنْ يُقِيمَ فِي ذَلِكَ الْغَارِ فَيَقُوتُهُ مَا كَانَ ¬

_ (¬1) رواه أحمد: مسند الإمام أحمد، مسند البصريين، ج 15، ص 282. (¬2) رواه أحمد: مسند الإمام أحمد، مسند البصريين، ج 15، ص 187. (¬3) رواه أحمد: مسند الإمام أحمد، مسند عائشة، ج 17، ص 228. (¬4) رواه البخاري: صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب (30)، مج 1، ج 1، ص 18، قبل الحديث (39). (¬5) رواه أحمد: مسند الإمام أحمد، مسند بني هاشم، ج 2، ص 522.

فِيهِ مِنْ مَاءٍ وَيُصِيبُ مَا حَوْلَهُ مِنَ الْبَقْلِ وَيَتَخَلَّى مِنَ الدُّنْيَا، ثُمَّ قَالَ: لَوْ أَنِّي أَتَيْتُ نَبِيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرتُ ذَلِكَ لَهُ فَإِنْ أَذِنَ لِي فَعَلْتُ وَإِلاَّ لَمْ أَفْعَلْ. فَأَتَاهُ فَقَالَ: يا نَبِيَّ الله إِنِّي مَررْتُ بِغَارٍ فِيهِ مَا يَقُوتُنِي مِنَ الْمَاءِ وَالْبَقْلِ فَحَدَّثَتْنِي نَفْسِي بِأَنْ أُقِيمَ فِيهِ وَأَتَخَلَّى مِنَ الدُّنْيَا. قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ بِالْيَهُودِيَّةِ وَلاَ بالنَّصْرَانِيَّةِ وَلَكِنِّي بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمحَةِ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَغَدوَةٌ أَوْ رَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ الله خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: وَلَمُقَامُ أَحَدِكُمْ فِي الصَّفِّ خَيْرٌ مِنْ صَلاَتِهِ سِتِّينَ سَنَةً". (¬1) 3 - اتصاف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالتيسير فقد وُصِف حامل رسالة الإِسلام ومبلغها بأنه إنما جاء ميسِّراً، وأنه كان يُفضِّل اليُسر في الأمور كلها ما لم تخرج عن إطار الحلال، ومما ورد في ذلك: - {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]. - {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)} [الحجرات: 7]. - {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} [آل عمران: 159] {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)} [ص: 86] - عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ نَبِيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَتْرُكُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعمَلَهُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَسْتَنَّ النَّاسُ بِهِ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ فَكَانَ يُحِبُّ مَا خُفِّفَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَرَائِضِ". (¬2) - عن عُروَة بْن الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ مِنْ جَوْفِ. ¬

_ (¬1) رواه أحمد: مسند الإمام أحمد، مسند الأنصار، ج 16، ص 261. (¬2) رواه أحمد: مسند الإمام أحمد، مسند الأنصار، ج 17، ص 218.

اللَّيْلِ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ فَصَلَّى رِجَال بِصَلاَتِهِ فَأَصْبَحَ النَّاسُ يَتَحَدَّثُونَ بِذَلِكَ فَاجْتَمَعَ أَكثَرُ مِنْهُم فَخَرَجَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ فَصَلَّوْا بِصَلَاتِهِ فَأَصبَحَ النَّاسُ يَذْكُرُونَ ذَلِكَ فَكَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ فَخَرَجَ فَصلَوْا بِصَلاَتِهِ فَلَمَّا كاَنَتِ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عَجَزَ الْمَسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ فَلَم يَخْرُجْ إِلَيْهمْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَطَفِقَ رِجَالٌ مِنْهُم يَقُولُونَ الصَّلَاةَ فَلَم يَخْرُجْ إِلَيْهم رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى خَرَجَ لِصَلاَةِ الْفَجْرِ فَلَمَّا قَفَى الْفَجْرَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ ثُمَّ تَشَهَّدَ فَقَالَ: "أَمَّا بَعدُ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ شَأْنُكُمُ اللَّيْلَةَ وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ صَلَاةُ اللَّيْلِ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا". (¬1) - عَنِ ابْنِ شهابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ مَا خُيِّرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ أَمرَيْنِ إِلأَ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَأْثَمْ فَإِذَا كاَنَ الإِثْمُ كاَنَ أَبْعَدَهُمَا مِنْهُ والله مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتَى إِلهِ قَطُّ حَتَّى تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ الله فَيَنْتَقِمُ لله". (¬2) 4 - التيسير على هذه الأمة برفع الأغلال التي وضعت على الأمم السابقة: ومن مظاهر التيسير في هذه الشريعة أنها جاءت رافعة لكلّ الأغلال والتكاليف الشّاقّة التي فُرِضَت على الأمم السابقة عقوبة لهم، ومما ورد فى ذلك: - {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]. - {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286]. 5 - عدم التكليف بما لا يطاق: ومن مظاهر التيسير أن الشريعة لم تحلف أحداً بما هو فوق طاقته، فإذا خرج العمل عن حدود الطاقة خرج عن حدود التكليف، ومما ورد في ذلك: - {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]. - {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 233]. ¬

_ (¬1) رواه مسلم: صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب (25)، ج 1، ص 524. (¬2) رواه البخاري: صحيح البخاري، كتاب الحدود، باب (11)، مج 4، ج 8، ص 328 - 329.

6 - وجود مرتبة العفو في التشريع: - عَنْ أَبي ثَعْلَبَةَ الخُشَني - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوها، وَحَرَّمَ أشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوها، وَحَدَّ حُدُوداً فَلَا تَعتَدُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْر نِسْيَانٍ، فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا". (¬1) - عَنْ عَلِيّ بنِ أبي طَالِب - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآية: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] قَالُوا: يَا رَسُولَ الله أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ فَسَكَتَ، فَقَالُوا: أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ قَالَ: لَا، وَلَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ، فَأَنْزَلَ الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)} [المائدة: 101] (¬2) - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ، فَقَالَ: "يا أَيُّها النَّاسُ إِنَّ الله تَعَالى فَرَضَ عَلَيْكُم الحَجَّ"، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَفِي كُلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ الله؟ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَجَعَلَ يُعرِضُ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: "لَوْ قُلْتُ: نَعَم، لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ مَا قُفتُم بِهَا، ثُمَّ قَالَ: دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكم سُؤَالُهُمْ وَاخْتِلاَفُهُمْ عَلَى أَنبِيَائِهِم، فَإِذَا أَمَرْتُكُم بِأمرٍ فَأْتُوُهُ مَا اسْتَطَعتُم، وَإِذَا نَهيْتُكُم عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوه". (¬3) 7 - الترغيب في معاملة الناس بيسر: ولم تحتف الشريعة بتيسير أحكامها، بل أمرت المكلفين ورغَّبَتهم في تحرّي التيسير في معاملاتهم كلها، ومن ذلك: التيسير على المعسرين وإنظارهم إلى زمن اليسر: ومما جاء في ذلك: - {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280]. ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني: سنن الدارقطني، كتاب الرضاع، ج 4، ص 183 - 184. (¬2) رواه الدارقطني: سنن الدارقطني، كتاب الحج، ج 2، ص 280 - 281. (¬3) رواه الدارقطني: سنن الدارقطني، كتاب الحج، ج 2، ص 281.

الترغيب في التيسير على العموم

- عَنْ أبي هُرَيْرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُربَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَسَ الله عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَب يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ الله عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ" (¬1) - عَنْ رِبْعيِّ بْنِ حِرَاشٍ قَالَ جَلَسْتُ إِلَى حُذَيْفَةَ بْنِ اليمَانِ وَإِلَى أَبِي مَسْعُود الأَنْصَارِيِّ قَالَ أَحَدُهُمَا للآخَرِ: حَدّثْ مَا سَمِعتَ مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: لَا بَلْ حَدِّثْ أَنْتَ فَحَدَّثَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ وَصَدَّقَهُ الآخَرُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "يُؤْتى بِرَجُل يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ الله: انْظُرُوا فِي عَمَلِهِ فَيَقُولُ: رَبِّ مَا كُنْتُ أَعْمَلُ خَيْرًا غَيْرَ أَنَّه كَانَ لِي مَالٌ وَكُنْتُ أُخَالِطُ النَّاسَ فَمَنْ كَانَ مُوسِرًا يَسَّرْتُ عَلَيْهِ وَمَنْ كَانَ مُعسِرًا أَنْظَرتُهُ إِلَى مَيْسَرَة قَالَ الله -عَزَّ وَجَلَّ-: أَنَا أَحَقُّ مَنْ يَسَّرَ فَغَفَرَ لَهُ ... ". (¬2) الترغيب في التيسير على العموم: ومما ورد في ذلك: - عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا" (¬3) - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ قَامَ أَعْرَابيٌ فَبَال فِي الْمَسْجِدِ فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "دَعُوهُ وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ فَإِنَّمَا بُعِثْتُم مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ" (¬4) - عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ مُعَاذًا وَأَبَا مُوسىَ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: "يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا". (¬5) مخاطبة المعرضين عن الدين يقول ميسور {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا ¬

_ (¬1) رواه مسلم: صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب (11)، ج 4، ص 2074، الحديث (2699). (¬2) رواه أحمد: مسند الإمام أحمد، مسند الأنصار، ج 16، ص 634. (¬3) رواه البخاري: صحيح البخاري، كتاب العلم، باب (12)، مج 1، ج 1، ص 31، الحديث (69). (¬4) رواه البخاري: صحيح البخاري، كتاب الوضوء، باب (61)، مج 1، ج 1، ص 76. (¬5) رواه البخاري: صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب (164)، مج 2، ج 4، ص 352.

العفو عن أهل الكتاب

فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)} [الإسراء: 28] العفو عن أهل الكتاب: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)} [المائدة: 13]. - {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)} [البقرة: 109]. الأمر بالتيسير على ذوي الحاجات والأعذار في الصلاة: ومما ورد في ذلك: - عَنْ أنَسٍ قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - نِدَاءَ صَبِيٍّ وهو فِي الصَّلَاةِ فَخَفَّفَ فَظنَنَّا أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ رَحْمَةً لِلصَّبِيِّ؛ إِذْ عَلِمَ أَنَّ أمَّهُ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ". (¬1) - عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أبي الْعَاصِ أَنَّ آخِرَ كَلَامٍ كَلَّمَنِي بِهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِذِ اسْتَعمَلَنِي عَلَى الطَّائِفِ فَقَالَ: "خَفِّفِ الصَّلَاةَ عَلَى النَّاسِ حَتَّى وَقَّتَ لي اقْرَأْ بِاسْمِ رَبكَ الَّذِي خَلَقَ وَأَشْبَاهَهَا مِنَ الْقُرآنِ". (¬2) - عن جَابِر بْن عَبْدِ الله الأَنْصَارِيَّ قَالَ أَقْبَلَ رَجُلٌ بِنَاضِحَيْنِ وَقَد جَنَحَ اللَّيْلُ فَوَافَقَ مُعَاذًا يُصَلِّي فَتَرَكَ نَاضِحَهُ وَأَقْبَلَ إِلَما مُعَاذٍ فَقَرَأَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوِ النِّسَاءِ فَانْطلَقَ الرًجُلُ وَبَلَغَهُ أَنَّ مُعَاذًا نَالَ مِنْهُ فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَشَكَا إِلَيْهِ مُعَاذًا فَقَالَ النبَّي - صلى الله عليه وسلم -: "يَا مُعَاذُ أَفَتَّان أَنْتَ أَوْ أَفَاتِنٌ ثَلَاثَ مِرَارٍ فَلَوْلَا صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ وَالشَّمْسِ وَضُحَاها وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الْكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الْحَاجَةِ". (¬3) ¬

_ (¬1) رواه أحمد: مسند الإمام أحمد، مسند المكثرين، ج 11، ص 48 - 49. (¬2) رواه أحمد: مسند الإمام أحمد، مسند الشاميين، ج 13، ص 545. (¬3) رواه البخاري: صحيح البخاري، كتاب الأذان، باب (63)، مج 1، ج 1، ص 214.

الترغيب في أن يكون الإنسان سمحا في معاملاته

الترغيب في أن يكون الإنسان سمحاً في معاملاته: ومما ورد في ذلك: - عن عُبَادةَ بْنَ الصَّامِتِ أنَّ رَجُلاً أنَّ أَتَي النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يا نَبِيَّ الله أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ قَالَ: "الإِيمَانُ بالله وَتَصْدِيقٌ بِهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ". قَالَ: أُرِيدُ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ الله. قَالَ: "السَّمَاحَةُ وَالصَّبْرُ"، قَالَ: أُرِيدُ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ الله. قَالَ؛ "لَا تَتَّهِمِ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي شَيءٍ قَضَى لَكَ بِهِ". (¬1) - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِنَّ الله يُحِبُّ سَمْحَ الْبَيْعِ سَمحَ الشِّرَاءِ سَمحَ الْقَضَاءِ". (¬2) 8 - تيسير سبيل المؤمنين فقد وَعَدَ الله تعالى المؤمنين العاملين بتيسير أمورهم كلها، ووعدهم باليسر بعدما يصيبهم من عُسْر، ومما ورد في ذلك: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)} [الليل: 5 - 7]. - {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4]. - {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)} [الطلاق: 7]. - {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)} [الشرح: 5، 6]. - عَنِ ابْنِ عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "يا غُلاَمُ أَوْ يا غُلَيِّمُ أَلَا أُعَلمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ الله بِهِنَّ فَقُلْتُ بَلَى. فَقَالَ احْفَظِ الله يَخفَظْكَ احْفَظِ الله تَجِدْهُ أَمَامَكَ تَعرًّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ يعَرِفْكَ فِي الشّدَّةِ وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ الله وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بالله قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كاَئِنٌ فَلَوْ أَنَّ الخلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ ¬

_ (¬1) رواه أحمد: مسند الإمام أحمد، مسند الأنصار، ج 16، ص 401. (¬2) رواه الترمذي: سنن الترمذي، كتاب البيوع، باب (73)، ج 2، ص 390.

يَنْفَعُوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ الله عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ الله عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا وَأَنَّ النَّصرَ مَعَ الصَّبْرِ وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا". (¬1) 9 - النهي عن التشدد والتنطع في الدين: ومِنْ حرصِ الإِسلام على التيسير، ولِمَا يعلمُه من شَطَطِ بعضِ النفوس، نجده يحذّر من التشديد على النفس بالسير في طريق الغلو والتنطع، لما يؤدي إليه ذلك من عنت وإرهاق للنفوس، وما قد ينتج عن ذلك من انقطاع في الطريق. ومما ورد في ذلك: - عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ عَبْدِ الله بن مسعود قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ" قَالَهَا ثَلاَثًا. (¬2) - عَنْ مِسْعَرٍ قَالَ: أَخْرَجَ إِلَيَّ معنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كِتَابًا فَحَلَفَ لِي بالله إِنَّهُ خَطُّ أَبِيهِ فَإِذَا فِيهِ قَالَ عَبْدُ الله: وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَشَدَّ عَلَى الْمُتَنَطِّعِينَ مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ومَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَشَدَّ عَلَيْهِم مِنْ أَبِي بَكر وَإنِّي لأَرَى عُمَرَ كَانَ أَشَدَّ خَوْفًا عَلَيْهِم أَوْ لَهُمْ". (¬3) - عن أَنَس بْن مَالك - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاِجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُم تَقَالُّوهَا فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا فَجَاءَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْهِمْ فَقَالَ: "أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُم كَذَا وَكَذَا أَمَّا والله إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لله وَأَتْقَاكم لَهُ لَكِنِّي أصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي". (¬4) ¬

_ (¬1) رواه أحمد: مسند الإمام أحمد، مسند بني هاشم، ج 3، ص 244 - 246. (¬2) رواه مسلم: صحيح مسلم، كتاب العلم، باب (4)، ج 4، ص 205، الحديث (2670). (¬3) رواه الدارمي: سنن الدارمي، باب من هاب الفتيا وكره التنطع والتبدع، ج 1، ص 52. (¬4) رواه البخاري: صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب (1)، مج 3، ج 6، ص 437، الحديث (5063).

- عن أَنَس بْن مَالِكٌ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - "إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفقٍ" (¬1). - عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - حَدَّثَتْهُ قَالَتْ: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعبَانَ فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ وَكَانَ يَقُولُ: "خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ الله لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا وَأَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَا دُووِمَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلَّتْ وَكَانَ إِذَا صَلَّى صَلاَةً دَاوَمَ عَلَيْهَا". (¬2) - عن عُرْوَة بْن الزُّبَيْرِ: أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَتْهُ أَنَّ الحَوْلاَءَ بِنْتَ تُوَيْتِ ابْنِ حَبِيبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى مَرَّتْ بِهَا وَعِنْدَها رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: هذِهِ الْحَوْلاَءُ بِنْتُ تُوَيْتٍ وَزَعَمُوا أَنَّها لَا تَنَامُ اللَّيْلَ فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: لَا تَنَامُ اللَّيْلَ! خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ فَوَاللهِ لَا يَسْأَمُ الله حَتَّى تَسْأَمُوا". (¬3) - عَنْ أنس قَالَ دَخَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الْمَسْجِدَ وَحَبْلٌ مَمدُودٌ بَيْنَ سَارِبَتَيْنِ فَقَالَ: مَا هَذَا قَالُوا: لِزَيْنَبَ تُصَلِّي فَإِذَا كَسِلَتْ أَوْ فَتَرَتْ أَمسَكَتْ بِهِ فَقَالَ: حُلُّوهُ لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا كَسِلَ أَوْ فَتَرَ قَعَدَ". (¬4) النهي عن الوِصَال في الصوم: فعَنْ هِشَامَ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: نَهَى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ فَقَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ قَالَ: "إِنِّي لَسْتُ كَهيْئَتِكُمْ إِنِّي يُطْعِمُنِي رَبِّي ويَسْقِينِ". (¬5) النهي عن النَّذْر لما فيه من التشديد على النفس: فعَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ قَالَ أَخَذَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا يَنْهَانَا عَنِ النَّذْرِ وَيَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الشَّحِيحِ". (¬6) ¬

_ (¬1) رواه أحمد: مسند الإمام أحمد، مسند المكثرين، ج 11، ص 77 - 78. (¬2) رواه البخاري: صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب (52)، مج 1، ج 2، ص 608، الحديث (1970). (¬3) رواه مسلم: صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب (31)، ج 1، ص 542، الحديث (785). (¬4) رواه مسلم: صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب (31)، ج 1، ص 542، (784). (¬5) رواه البخاري: صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب (48)، مج 1، ج 2، ص 606، الحديث (1964). (¬6) رواه مسلم: صحيح مسلم، كتاب النذر، باب (2)، ج 3، ص 1260 - 1261، (الحديث 1639).

10 - وجود الرخص الشرعية: لم يكتف الشارع بأن جعل أحكامه على العموم ميسَّرة، بل راعى ما يمكن أن يطرأ على المكلفين من ظروف قد تجعل التكاليف العادية عسيرة، فشرع الرخص لتلك الطوارئ. واستقرأ الفقهاء تلك الرخص فخوجوا منها بقاعدة فقهية تقضي بالترخيص في كلّ ما يؤدي إلى مشقة لا تُحتمل عادة، وهي قاعدة "المشقة تجلب التيسير"، ومما جاءت به الشريعة من الرخص: الترخيص في العفو والتنازل عن القصاص: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)} [البقرة: 178]. الإكتفاء بما تَيَسَّرَ في الهدي في الحج: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)} [البقرة: 196]. الإكتفاء بقراءة ما تيسر من القرآن الكريم في الصلاة: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)} [المزمل: 20]. الترخيص لذوي الأعذار في ترك الجهاد: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)} [التوبة: 91]. الترخيص في دخول بيوت الأقارب والأصدقاء بآدابه الشرعية: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ

آبَائِكُمْ} [النور: 61] الترخيص في التيمم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} [المائدة: 6]. الترخيص في الأكل من مال اليتيم بالمعروف: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 220]. استثناء الليل من الصيام: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]. وتفسير هذه الآية فيما رواه أبو داود عَنِ ابْنِ عَبَّاس في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] فَكانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ النّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا صَلَّوُا الْعَتَمَةَ حَرُمَ عَلَيْهِمُ الطعَامُ وَالشَّرَابُ وَالنِّسَاءُ وَصَامُوا إِلَى الْقَابِلَةِ فَاخْتَانَ رَجُلٌ نَفْسَهُ فَجَامَعَ امْرَأَتَهُ وَقَد صَلَّى الْعِشَاءَ وَلَمْ يُفْطِر فَأَرَادَ الله -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ يُسْرًا لِمَنْ بَقيَ وَرُخْصَةً ومَنْفَعَةً فَقَالَ سُبْحَانَهُ {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 187] الآيَةَ وَكانَ هذَا مِمَّا نَفَعَ الله بِهِ النَّاسَ وَرَخَّصَ لَهُمْ وَيَسَّرَ" (¬1) الترخيص في الفطر لذوي الأعذار {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)} [البقرة: 184]. الترخيص في الجهاد: عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: لَمَّا ¬

_ (¬1) رواه أبو داود: سنن أخبرنا داود، كتاب الصوم، باب (1)، ج 2، ص 736.

نَزَلَتْ {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حِينَ فُرِضَ عَلَيْهِم أَنْ لَا يَفِرَّ وَاحدٌ مِنْ عَشَرَة فَجَاءَ التخْفِيفُ فَقَالَ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 66] قَالَ: فَلَمَّا خَفَّفَ الله عَنْهُم مِنَ الْعِدَّةِ نَقَصَ مِنَ الصَّبْرِ بِقَدرِ مَا خُفِّفَ عَنْهُمْ" (¬1) إنقاص عدد الصلوات من خمسين إلى خمس: فعن أنس بن مالك في حديث طويل عن الإسراء والمعراج أن الله تعالى أوحى فِيمَا أَوْحَى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسِينَ صَلاَةً عَلَى أُمَّتِكَ كُلَّ يَوْمَ وَلَيْلَةٍ ثُمَّ هبَطَ حَتَّى بَلَغَ مُوسَى فَاحْتَبَسَهُ مُوسَى فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَاذَا عَهِدَ إِليْكَ رَبُّكَ قَالَ: عَهِدَ إِلَيَّ خَمْسِينَ صَلاَةً كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ قَالَ: إِنَّ أُمَّتكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ فَارجِع فَلْيُخَفِّف عَنْكَ رَبُّكَ وَعَنْهُمْ فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى جِبْرِيلَ كَأَنَّهُ يَسْتَشِيرُهُ فِي ذَلِكَ فَأشَارَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ أَنْ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ فَعَلاً بِهِ إِلَى الْجَبَّارِ فَقَالَ وَهُوَ مَكانَهُ: يا رَبِّ خَفِّفْ عَنَّا فَإِنَّ أُمَّتِي لَا تَسْتَطِيعُ هذَا فَوَضَعَ عَنْهُ عَشْرَ صَلَوَاتٍ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مُوسىَ فَاحتَبَسَهُ فَلَم يَزَلْ يُرَدِّدُهُ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ حَتَّى صَارَتْ إِلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ ... ". (¬2) إسقاط عقوبة النجوى: عَنْ عَليِّ بْنِ أَبي طَالِبٍ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12]، قَالَ لِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا تَرَى دِينَارًا" قُلْتُ: لَا يُطِيقُونَهُ قَالَ: "فَنِصْفُ دِينَارٍ" قُلْتُ: لَا يُطِيقُونَهُ قَالَ: "فَكَمْ" ـ قُلْتُ: شَعِيرة: قَالَ إِنَّكَ لَزَهِيدٌ قَالَ: فَنَزَلَتْ {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} [المجادلة: 13]، الآيَةَ قَالَ: فَبِي خَفَّفَ الله عَنْ هذِهِ الأُمَّةِ". وَمَعْنَى قَوْلِهِ شَعِيرَةٌ يَعْنِي وَزْنَ شَعِيرَة مِنْ ذَهبٍ. (¬3) الترخيص في أكل المحرمات عند الضرورة: ومما ورد في ذلك: - {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)} [الأنعام: 119]. ¬

_ (¬1) رواه البخاري: صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب (8)، مج 3، ج 5 ص 243 - 244، الحديث (4653). (¬2) رواه البخاري: صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب (37)، مج 4، ج 8، ص 567 - 569، الحديث (7517). (¬3) رواه الترمذي: سنن الترمذي، كتاب تفسير القرآن، تفسير سورة المجادلة، ج 5، ص 80 - 81.

- {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)} [البقرة: 173]. - {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)} [المائدة: 3]. - {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)} [الأنعام: 145]. العفو عن اليمين اللغو {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)} [البقرة: 225]. رفع الخطأ والنسيان والإكراه: ومما ورد في ذلك: - {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)} [الأحزاب: 5]. - {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)} [النور: 33] - {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)} [النحل: 106]. - عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الله تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخْطَأَ

وَالنِّسيانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيهِ" (¬1) - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النّبَي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِنَّ الله وَضَعَ عَنْ أُمَّتي الجْطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ". (¬2) 11 - التدرُّج في التَّشريع: ومن مظاهر التيسير ما سلكه التشريع من تدرُّج في تحريم بعض العادات التي طُبِعت بها حياة العرب في الجاهلية، ويشقّ عليهم التخلي عنها مرة واحدة، ومن ذلك: التدرُّج في تحريم الربا: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)} [الروم: 39]. - {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)} [النساء: 160، 161] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)} [آل عمران: 130]. {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)} [البقرة: 275 - 279]. ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجة: سنن ابن ماجة، أبواب الطلاق، باب (16)، ج 1، ص 377، الحديث (2043). (¬2) رواه ابن ماجة: سنن ابن ماجة، أبواب الطلاق، باب (16)، ج 1، ص 378، الحديث (2045).

التدرج في تحريم الخمر: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)} [النحل: 67]، - {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)} [البقرة: 219]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] - {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة: 90، 91]. - التدرج في الدعوة: ومن ذلك التدرّج في الدعوة كما ورد في وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل عندما أرسله إلى اليمن. ففي صحيح البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذاً - رضي الله عنه -على اليمن قال: "إِنَّكَ تَقْدم عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تدعُوهُم إِلَيْهِ عِبَادَةُ الله، فَإَذَا عَرَفُوا الله فَأَخْبِرهُم أَنَّ الله قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِم خَمْسَ صَلَواتٍ فِي يَوْمِهِم وَلَيْلَتِهِم، فَإِذَا فَعَلُوا الصَّلَاةَ فَأَخْبرهُم أَنَّ الله قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِم زَكاةً تُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَالِهِم وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِم، فَإِذَا أَطَاعُوا بِها فَخُذْ مِنْهُم، وَتَوّق كَرَائِمَ أَموَالِ النَّاسِ". (¬1) 12 - شرع الكفارات لما كان الإنسان مطبوعاً على الخطأ والتقصير، فإنه كثيراً ما يتجاوز حدود الله تعالى ويقع في المحرمات، وذلك يؤدي إلى استحقاق العاصي العقوبة، ووقوعه تحت وطأة آلام الندم على ما فَرَط منه، وتيسيراً عليه شُرعت الكفارات، والتوبة لرفع عقوبة ما وقع فيه المؤمن، ومن ذلك: ¬

_ (¬1) رواه البخاري: صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب (43)، مج 1، ج 2، ص 449.

كفارة اليمين

كفارة اليمين: - {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)} [المائدة: 89]. كفارة قتل الصيد في الحرم: - {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)} [المائدة: 95]. كفارة القتل الخطأ: - {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)} [النساء: 92]. كفارة الظِّهار: - {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)} [المجادلة: 3، 4]

التيسير في المعاملات

13 - شرع التوبة: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: 53] - {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)} [الشورى: 25] - {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)} [التوبة: 104]. - {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)} [الأنعام: 54]. 14 - تيسير الحساب على المؤمنين: ومن مظاهر التيسير على المؤمنين في الحياة الآخرة، تيسير الحساب عليهم، ومما ورد في ذلك: - {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)} [الإنشقاق: 7، 8]. - {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)} [الكهف: 88]. - عن ابْن أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَائشَةَ زَوْجَ النّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كانَتْ لَا تسْمَعُ شَيْئًا لَا تَعرِفُهُ إِلَّا رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعرِفَهُ وَأَنَّ النّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ حُوسب عُذِّبَ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ أَوَلَيْسَ يَقُولُ الله تَعَالَى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)} [الإنشقاق: 8]، قَالَتْ: فَقَالَ: إِنَّمَا ذَلِكِ العْرضُ وَلَحِنْ مَنْ نُوقِشَ الحسَابَ يَهْلِكْ". (¬1) التيسير في المعاملات: مع أن المعاملات في الشريعة الإِسلامية مبنيّة على التيسير ورفع الحرج، إلّا أن الشريعة -مبالغةً منها في التيسير- نصّت على مشروعية بعض المعاملات التي تقضي القواعد العامة بعدم مشروعيتها، ومن ذلك: ¬

_ (¬1) رواه البخاري: صحيح البخاري، كتاب العلم، باب (37)، مج 1، ج 1، ص 42) الحديث (103).

1 - شرع الشفعة

1 - شرع الشُّفْعة: فعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كَانَ لَهُ شَرِيك في رَبْعَة أَوْ نَخْلِ، فَلَيسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ. فَإِنْ رضي أَخَذَ، وَإِنْ كَرِه تَرَكَ" (¬1) 2 - الترخيص في الغرر اليسير والجهالة التي لا انفكاك عنها في الغالب، وقد تقدم الحديث عنه في المبحث الأول من هذا الفصل. 3 - شرع السَّلم: فعن ابن عباس أنه قال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: "مَنْ أَسْلَفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِف فِي كَيْلٍ مَعْلُوِم، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ". (¬2) 4 - الترخيص في العرايا (¬3): فعن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رَخَّصَ فِي اَلْعَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا كَيْلاً". (¬4) 5 - شرع القرض: فعَنْ أَنسَ بْنِ مَالِكٍ قَال: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى بَابِ الجنَّةِ مَكْتُوبًا الصَدَقَةُ بِعَشْرِ أَمثَالِهَا وَالْقَرضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَقُلْتُ: يا جِبْرِيلُ مَا بَال الْقَرضِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ قَال: لأَنَّ السَّائِلَ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ وَالْمُسْتَقْرِضُ لَا يَسْتَقْرِضُ إِلَّا مِنْ حَاجَةٍ". (¬5) - وعَنِ ابْنِ مَسْعُود أَنَّ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: "مَا مِنْ مُسْلِم يُقْرِضُ مُسْلِمًا قَرْضًا مَرَّتَيْنِ إِلَّا كَانَ كَصَدَقَتِها مَرَّة". (¬6) ¬

_ (¬1) رواه مسلم: صحيح مسلم، كتاب المساقاة، باب (28)، ج 3، ص 1229، الحديث (1608). (¬2) رواه مسلم: صحيح مسلم، كتاب المساقاة، باب (25)، ج 3، ص 1226 - 1227، الحديث (1604). (¬3) العرايا جمع عرية، وهي النخلة يعريها صاحبها رجلاً محتاجاً، فيجعل له ثمرها عَامَها. الرازي: مختار الصحاح، ص 180. (¬4) رواه مسلم: صحيح مسلم، كتاب البيوع، باب (14)، ج 3، ص 1169، الحديث (1539) (64). (¬5) رواه ابن ماجة: سنن ابن ماجة، أبواب الأحكام، باب (59)، ج 2، ص 61، الحديث (2431). (¬6) رواه ابن ماجة: سنن ابن ماجة، أبواب الأحكام، باب (59)، ج 2، ص 60، الحديث (2430).

الخاتمة

الخاتمة تبيّن من خلال المبحث أن العُمْدة في التعرّف على مقاصد الشارع هي نصوصُه، والمقصود بالنص هنا معناه العام الذي يشمل منظوم النص ومنطوقه، وفحواه ومفهومه، ومعقوله المقتبس من روحه التي بُنِي عليها وهي العلل التي أُقيمت عليها الأحكام، ذلك أن النصوص هي الواسطة بين الشارع والعباد، وهي المعبرة عمّا يريده منهم. والقول بمرجعيّة النصّ يقتضي الأخذ بعين الإعتبار كلّ عنصر من العناصر أو عامل من العوامل المُعِينَة على حسن فهمه واستجلاء مكنونه والتعرُّف على المقصود منه، فينبغي الخظر في ظواهر النصوص، وعِلَلِها وحِكَمَها، وأسباب نزولها إن كانت قرآناً وأسباب ورودها إن كانت أحاديث، والنظر في السياق الذي جاءت فيه -سواء السياق الخاص أو السياق العام الذي يتضمن مجموع النصوص الشرعية- والنظر في الملابسات والظروف التي صاحبت صدور النص الشري والقرائن التي حفّت به، وتحقيق المناط في الواقعة التي يُراد تطبيق النص عليها، والنظر في مآلات ذلك التنزيل هل تتفق مع ما قصده الشارع منها أم لا؟ كلّ هذا في منهج علي تكاملي شعاره البحثُ عن الحق مجرّداً عن الهوى، واتباعُ الدليل الأقوى والأقرب إلى معهود الشارع. وقد يقول قائل إن هذه خلاصة مفادها إعطاء سلطة مطلقة للنص, والجواب: نعم للنص سلطة، وإذا لم تكن له سلطة فما جدوى إنزاله إذاً؟ إن الناس أمام النصوص الشرعية صنفان: صنف يعترف بكون النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - رسول الله صدقاً، وأن القرآن وحي من الله تعالى، وأن هذه النصوص إنما أنزلت لغرضٍ هو أن تكون مرجعا للمؤمنين بها، يهتدون بهديها، ويحتكمون إليها، وصنف ينكر ذلك. أما من ينكر كونها كذلك فلا حديث معه هنا، فهو لا يعترف لتلك النصوص بمرجعية أصلاً. أما إذا اعترفنا بكون هذه النصوص إنما أُنزِلت لتكون مرجعاً للمؤمنين بها، فلا بُدّ من الإعتراف بأن لها سلطة، وإلاّ آل الأمر إلى إنكار

مرجعيتها؛ إذْ ما القيمة المرجعية لنص لا سلطة له؟ والقول بعدم إلزامية هذه الخصوص لكلّ الأجيال ومن ثَمّ حرية التصرف فيها إثباتاً وإسقاطاً وتفسيراً من غير ضوابط معتبرة قولٌ بإسقاط مرجعيتها، ولا فرق بين عدم الإعتراف بمرجعية النص وتبديل معناه بما يجعله مخالفاً لما قصده منه صاحبه؛ إذْ كلاهما عدم اعتراف بمرجعيته وإسقاط لسلطته. والغريب أن الناس يعترفون لنصوص القوانين الوضعية والعقود والإتفاقيات والمعاهدات، بل وللكلام العادي بينهم بالسلطة المطلقة، ثم يسعى بعضهم إلى نفي تلك السلطة عن الخصوص الشرعية! هل لأن سلطة النص الوضعي أقوى من سلطة النص الديني؟ أم لأن عقوبة مخالفة النصوص الوضعية ناجزة أمّا عقوبة إهدار الخصوص الدينية -بحكم غياب سلطة تحميها- فهي في حكم الغيب؟! وبعد إثبات سلطة النصوص الشرعية يقال: إن المرجع في فهم تلك النصوص -مع مراعاة كلّ العناصر المُعِينَة على فهمها كما سبقت الإشارة- هو أن تُفهم على معهود الرب في لغتهم. والقصد من القول بفهم النصوص الشرعية على معهود العرب في لغتهم هو: أولاً: وضعُ معيارٍ موَّحَد لضبط طريقة فهم النصوص؛ إذْ مع غياب المعيار الضابط يستحيل فهم النص فهماً معقولاً؛ إذْ يستطيع كلّ إنسان أن يدعيّ أيّ معنى لأيّ لفظ أو نص من النصوص! ولنتصوّر عند ذلك الفوضى التي تعمّ بين الناس إذا طبَّقنا ذلك على المخاطبات العادية بينهم, أما فيما يخص نصوص الشارع فإن النتيجة الحتمية لذلك هي إعدام الخصوص الشرعية وإلغاؤها تماماً، وإيجاد شرائع جديدة تتعدَّد بتعدُّد الأفهام والأشخاص، وهو ما وقع فيه الباطنية. وثانياً: لأن طبيعة الإتصال بين الناس وطبيعة اللغة يقتضيان وجود قواعد ومعايير يحتكم إلها في فهم وسائل الخطاب، وما دامت النصوص الشرعية قد جاءت باللغة العربية فلا طريق إلى فهمها فهماً سليماً إلّا بالحضوع لقواعد تلك اللغة وأسالبها كما عرفها أهلها الأُصلاء.

ثم بعد النصوص يأتي الاستقراء، ومع أن الاستقراء نفسه يعتمد على النصوص بمنطوقها ومفهومها ومعقولها، فإن فائدته أنه يوفِّر لنا النظرة الكلية المتكاملة لمقاصد الشارع، فهو الذي يكشف لنا عن الناظم الذي ينظم الجزئيات المتناثرة، فيكشف عن الكليات الشرعية والمقاصد العامة، فتُسْتَخْلَصُ الكليات من خلال تتبع الجزئيات، وتُفْهم الجزئيات بعد ذلك في ضوء تلك الكليات، فيعلم ما ينضوي منها تحت تلك الكليات، وما هو مستثنى منها استثناءً يُعتَدُّ به، وما هو معارض لها يلغى في مقابلتها طبقاً لقواعد التعارض والترجيح. لقد أحدث الإطلاع على الدراسات اللغوية والألسنية عند الغربيين في القرن الأخير انبهاراً لدى بعض الباحثين من أبناء المسلمين الذين غلبت عليهم الثقافة الغربية، فظنوا ذلك اكتشافاً غير مسبوق، وراحوا يدعون إلى "إعادة قراءة" النصوص الشرعية بناء عليها، (¬1) وصارت نظرية السياق -عندهم- كشفاً جديداً حُرِمَت منه الدراسات الشرعية، وغاب عنهم أن ما يتحدثون عنه هو جزء ممّا بُنِيت عليه النظريات الأصولية التي تمثّل المنهج الإِسلامي في فهم النصوص الشرعية وتفسيرها واستنباط الأحكام منها. وبغضِّ النظر عمّا قدّمه علماء اللغة -كالجرجاني-في ذلك فإن الإشارة هنا مقصورة على علم أصول الفقه لكونه يمثّل منهج تفسير النصوص الشرعية، ولبيان أن مراعاة السياق بأُطُرِهِ المختلفة لم يكن أمراً غائباً عن الأصوليين في فهم النصوص الشرعية وتفسيرها، وأن تلك النصوص قد قُرِئت وفق منهج دقيق لم يحن ينقصه ما ظنه هؤلاء كشفاً جديداً في عالم الدراسات اللغوية والألسنية. لقد قسّم الأصوليون طرق دلالة اللفظ على المعنى إلى ثلاثة أقسام: النظم، والمفهوم، والمعقوله، فاللفظ إما أن يدلّ على معناه بصيغته ومنظومه، أو بفحواه ومفهومه، أو بمعناه ومعقوله. (¬2) وبنوا مباحث دلالات الألفاظ -وهي صلب علم أصول الفقه- على نظرية السياق والقرائن. فمباحث التخصيص، والتقييد، والحقيقة ¬

_ (¬1) انظر ذلك في كتابات من يسمون أنفسهم بالتيار الحداثي، مثل: نمر حامد أبو زيد، ومحمد أركون، وعبد الرحمن عبد الهادي، وأبو القاسم حاج حمد، وغيرهم. (¬2) انظر الغزالي: المستصفى، ج 1، ص 223.

والمجاز والتأويل، وتقسيم دلالة اللفظ إلى منطوق ومفهوم عند الجمهور، وتقسيم الحنفية لطريق دلالة اللفظ على المعنى إلى: عبارة النص، وإشارة النص، ودلالة النص، واقتضاء النص، كلها مباحث قائمة على السياق والقرائن. وهذا موضوع يحتاج إلى بحث مستفيض تبرز فيه معالم نظرية السياق في علم أصول الفقه وامتداداتها في مباحثه المختلفة. ومن الموضوعات التي تحتاج إلى مزيد من المبحث موضوع أسباب ورود الحديث، فإنه -على عكس ما هو واقع في أسباب النزول التي لقيت حظها من المبحث- لم يجد العناية الكافية على أهميته في فهم نصوص السنّة الضبوية وتوجيه المشكل منها.

قائمة المصادر

قائمة المصادر - الآمدي، علي بن محمد: الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق سيد الجميلي (بيروت: دار الكتاب العربي، ط 2، 1406 هـ / 1986 م). - أبو داود، سليمان بن الأشعث: سنن أبي داود، مطبوع ضمن الكتب الستة، (استانبول:، 1981 م). - أبو زهرة، محمد: أصول الفقه، (القاهرة: دار الفكر العربي، 1417 هـ/ 1997 م). - أرسطو: منطق أرسطو حققه وقدم له عبد الرحمن بدوي، (الكويت: وكالة المطبوعات/ بيروت: دار القلم، ط 1، 1980 م). - الأشقر، محمد سليمان؛ أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودلالتها على الأحكام، (بيروت؛ مؤسسة الرسالة، ط 5، 1417 هـ / 1996 م). - الألباني، محمد ناصر الدين: صحيح سنن أبي داود، (الرياض: مكتب التربية العربي لدول الخليج، د. ط، د. ت). - الأنصاري، زكريا: حاشية الجمل على شرح المنهاج، (بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، د. ط، د. ت). - الإسنوي، جمال الدين: نهاية السول، مطبوع مع شرح البدخشي، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1405 هـ/ 1984 م). - إميل بديم يعقوب، وميشال عاصي: المعجم المفصل في اللغة والأدب، (بيروت: دار العلم للملايين، ط 1، 1984 م). - ابن أبي سلمى، زهير: ديوان زهير بن أبي سلمى، (بيروت: دار صادر د. ط، د. ت). - ابن الأثير عز الدين أبو الحسن علي بن أبي الكرم: الكامل في التاريخ، (بيروت: دار صادر 1399 هـ/ 1979 م). - ابن الأثير علي بن محمد الجزري: أسد الغابة في معرفة الصحابة، (القاهرة: كتاب الشعب، د. ت). - ابن العربي، أبو بكر محمد بن عبد الله: أحكام القرآن، تحقيق علي محمد البجاوي، (بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، د. ط، د. ت). -----------------: كتاب القبس في شرح موطأ مالك بن أنس، دراسة وتحقيق محمد عبد الله ولد كريم، (بيروت: دار الغرب الإِسلامي، د. ط، د. ت).

- ابن النجار محمد بن أحمد الفتوي: شرح الكوكب المنير تحقيق محمد الزحيلي ونزيه حماد، (الرياض: مكتبة العبيكان، هـ 1413/ 1993 م). - ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم: مجموع فتاوى شيخ الإِسلام أحمد بن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي، (د. م: د. ن، تصوير الطبعة الأولى، 1398 هـ د. ت). - ابن جزي، محمد بن أحمد: قوانين الأحكام الشرعية ومسائل الفروع الفقهية، (بيروت: عالم الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، د. ط، د. ت). - ابن حزم، محمد بن علي: المحلى، (بيروت: دار الآفاق الجديدة، د. ط، د. ت). - ابن حنبل، أحمد: مسند الإمام أحمد، شرحه ووضع فهارسه أحمد محمد شاكر، (القاهرة: دار الحديث، ط 1، 1416 هـ/ 1995 م). - ابن رشد (الحفيد)، أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد: بداية المجتهد ونهاية المقتصد، الاهور/ باكستان: فاران اكيدي، د. ط، د. ت). - ابن رشد (الجد)، أبو الوليد محمد بن أحمد: مقدمات ابن رشد، (بيروت: دار صادر د. ط، د. ت). - ابن سينا، أبو علي الحسين بن عبد الله: البرهان، تحقيق عبد الرحمن بدوي، (القاهرة: دار النهضة العربية، ط 2، 1966 م). ------------------: الإشارات والتنبيهات مع شرح نصير الدين الطوسي، تحقيق سليمان دنيا، (القاهرة: دار المعارف، 1960 م). - ابن عاشور محمد الطاهر: أصول النظام الإجتماعي في الإِسلام، (تونس: الشركة التونسية، 1979 م). ------------------: تفسير التحرير والتنوير (تونس: دار سحنون للنمئر والتوزيع، د. ط، د. ت). -----------------: مقاصد الشريعة الإِسلامية، تحقيق ودراسة محمد الطاهر الميساوي، (د. م: البصائر للإنتاج العلي، ط 1، 1998 م). - ابن عبد البرّ أبو عمر يوسف: كتاب الكافي في فقه أهل المدينة المالكي، تحقيق محمد بن محمد أحيد ولد ماديك، (القاهرة: دار الهدى للطباعة، 1399 هـ/1979 م). - ابن قدامة، عبد الله بن أحمد بن محمد المقدسي: المغني، (القاهرة: مكتبة الجمهورية العربية /مكتبة الكليات الأزهرية، د. ط، د. ت). ------------------: روضة الناظر وعليه نزهة المخاطر العاطر، (بيروت: دار الكتب العلمية، د. ط، د. ت). - ابن قيم الجوزية، محمد بن أبي بكر: إعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق وضبط محمد محي الدين

عبد الحميد، (بيروت: دار الفكرط 2، 1397 هـ/ 1977 م). ------------------: زاد المعاد في هدي خير العباد، (بيروت: مؤسسة الرسالة، 15 ط، 1987 م). - ابن ماجة، أبو عبد الله محمد بن يزيد: سنن ابن ماجة، حققه ووضع فهارسه محمد مصطفى الأعظي، (الرياض: شركة الطباعة العربية السعودية، ط 3، 1404 هـ/ 1984). - ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم: لسان العرب، (بيروت: دار صادر ط 1، 1410 هـ/ 1990 م). - ابن نجيم، زين العابدين بن إبراهيم: الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1405 هـ/ 1985 م). - الباجي، أبو الوليد سليمان بن خلف: المنتقى شرح الموطأ، (مصر: مطبعة السعادة، ط 1، 1331 هـ). - البخاري، عبد العزيز بن أحمد: كشف الأسرار على أصول فخر الإِسلام البزدوي، ضبط وتعليق محمد المعتصم بالله البغدادي، (بيروت: دار الكتاب العربي، ط 1، 1411 هـ / 1991 م). - البخاري، محمد بن إسماعيل: الجامع الصحيح، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1412 هـ/ 1992 م). - البصري، أبو الحسين محمد بن علي: المعتمد في أصول الفقه، قدم له وضبطه الشيخ خليل الميس، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1983 هـ/ 1403 م). - البناني، عبد الرحمن بن جاد الله: حاشية البناني كل شرح الجلال المحلي كل متن جمع الجوامع، (مصر: مصطفى البابي الحلبي وأولاده، 1356 هـ/ 1937). - البهوتي، منصور بن يونس إدربس: كشاف القناع عن متن الإقناع، راجعه وعلق عليه الشيخ هلال مصيلحي ومصطفى هلال، (بيروت: دارالفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1402 هـ/ 1983 م). - البوطي، محمد سعيد رمضان: ضوابط المصلحة في الشريعة الإِسلامية، (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 4، 1402 هـ / 1981 م). - البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين: مناقب الشافعي، تحقيق السيد أحمد صقر (القاهرة: مكتبة دار التراث، د. ت). ------------------: السنن الكبرى، (د. م: دار الفكر د. ط، د. ت). - الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة: سنن الترمذي، تحقيق وتصحيح عبد الرحمن محمد عثمان، (بيروت: دار الفكر 1400 هـ/ 1980 م). - التهانوي، محمد علي: موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، تقديم وإشراف ومراجعة رفيق المعجم، (بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، ط 1، 1996 م).

- الجصاص، أحمد بن علي الرازي: أضول الفقه المسمى الفصول في الأصول، تحقيق عجيل جاسم النشمي، (الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية، ط 1، 1405 هـ / 1985 م). - الجويني، أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله: البرهان في أصول الفقه، تحقيق عبد العظيم محمود الديب، (المنصورة: دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزبع، ط 3، 1412 هـ/ 1992 م). - الحاكم، أبو عبد الله: المستدرك على الصحيحين، (بيروت: دار المعرفة، د. ط، د. ت). - حسان، تمام: اللغة العربية معناها ومبناها، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط 3، 1985). - حسان، حسين حامد: نظرية المصلحة في الفقه الإِسلامي، (القاهرة: مكتبة المتني، 1981 م). - حسن، عباس: النحو الوافي، (القاهرة: دار المعارف، ط 9، د. ت). - الحموي، ياقوت بن عبد الله: معجم البلدان، (بيروت: دار صادر/ دار بيروت للطباعة والنشر 1404 هـ / 1984 م). - الحنفي، ثقي الدين بن عبد القادر الطبقات السنية في تراجم الحنفية، تحقيق عبد الفتاح محمد الحلو، (الرياض: دار الرفاعي للنشر والطباعة والتوزيع، ط 1، 1403 هـ/ 1983). - الخرشي، محمد: الخرشي على مختصر سيدي خليل وبهامشه حاشية الشيخ العدوي، (بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، د. ط، د. ت). - الدارقطني، علي بن محمد: سنن الدارقطني، تحقيق السيد عبد الله هاشم يماني المدني، (القاهرة: دار المحاسن للطباعة، 1386 هـ/ 1966 م). - الدارمي، أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن: سنن الدارمي، تحقيق السيد عبد الله هاشم يماني المدني، (باكستان / فيصل آباد: حديث أكاديمي للنشر والتوزيع، 1404 هـ/ 1984 م). - الدهلوي، أحمد بن عبد الرحيم (شاه ولي الله): الإنصاف في بيان أسباب الإختلاف في الأحكام الفقهية، (القاهرة: المطبعة السلفية، 1385 هـ). ------------------------: الفوز الكبير في أصول التفسير نقله من الأصل الفارسي إلى اللغة العربية سلمان الحسيني الندوي، (بيروت: دار البشائر الإِسلامية، ط 2، 1987 م). - ديوي، جون: المنطق نظرية المبحث، ترجمة وتصدير وتعليق زكي نجيب محمود، (القَاهرة: دار المعارف، 1960 م). - الذهبي، محمد بن أحمد بن عثمان: سير أعلام النبلاء، أشرف على تحقيقه وخرج أحاديثه شعيب الأرناؤوط، (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 8، 1412 هـ/ 1993 م). - الرازي، فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين: المحصول في علم أصول الفقه، دراسة وتحقيق طه جابر

فياض العلواني، (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 2، 1412 هـ/1992 م). - الرازي، محمد بن أبي بكر مختار الصحاح، (بيروت: مكتبة لبنان، 1988 م). - الرملي، شمس الدين محمد بن أبي العباس أحمد بن حمزة: نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، (بيروت: المكتبة الإِسلامية، د. ط، د. ت). - الزاوي، الطاهر أحمد: ترتيب القاموس المحيط على طريقة المصباح المنير وأساس اللاغة، (بيروت: دار الفكر، 3، د. ت). - الزحيلي، وهبة: أصول الفقه الإسلامي، (دمشق: دار الفكر ط 1، 1986 م). - الزرقاني، محمد عبد العظيم: مناهل العرفان في علوم القرآن، (د. م: دار الفكز د. ط، د. ت). - الزرقاني، محمد: شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك، (د. م: دار الفكر للطباعة والنشر والوزيع، د. طـ، د. ت). - الزركشي، بدر الدين محمد بن بهادر: البحر المحيط في أصول الفقه، تحرير عمر سليمان الأشقر (الكويت: دار الصفوة، ط 1، 1409 هـ/ 1988 م). - الزركلي، خير الدين: الأعلام، (بيروت: دار العلم للملايين، ط 7، 1986 م). - الزمخشري، محمود بن عمر: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، (بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر،. ط، د. ت). - السبكي، علي بن عبد الكافي وولده عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي: الإبهاج في شرح المنهاج، مطبوع على هامش نهاية السول، (مصر: مطبعة التوفيق الأدبية، د. ط، د. ت). ------------------: الإبهاج في شرح المنهاج، حفقه جماعة من العلماء بإشراف الناشز (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1404 هـ/ 1984 م). - السخاوي، محمد بن عبد الرحمن: المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، تحقيق عبد الله محمد الصديق، وعبد الوهاب عبد اللطيف، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1399 هـ/ 1979 م). - السرخسي، محمد بن أحمد بن أبي سهل: أصول السرخسي، تحقيق أبي الوفاء الأفغاني، (بيروت: دار المعرفة، د. ط، د. ت). - السعدي، عبد الحكيم عبد الرحمن: مباحث العلة في القياس عند الأصوليين، (بيروت: دار البشائر الإِسلامية للطباعة والنشر والتوزيع، ط 1، 1406 هـ/ 1986 م). - السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر: الإتقان في علوم القرآن، (بيروت: دار إحياء العلوم، ط 2، 1412 هـ / 1993 م).

- الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى: الإعتصام، ضبطه وصححه أحمد عبد الشافي، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 2، 1411 هـ/ 1991 م). ------------------: الموافقات، تعليق عبد الله دراز، وضع تراجمه محمد عبد الله دراز وخرج آياته وفهرس موضوعاته عبد السلام عبد الشافعي محمد، (بيروت: دار الكتب العلمية، د. ط، د. ت). - الشافعي، محمد بن إدربس: الأم، خرج أحاديثه وعلق عليه محمود مطرجي، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1413/ 1993 م). -----------------: الرسالة، تحقيق أحمد شاكر، (القاهرة: مكتبة دار التراث، ط 2، 1399 هـ/1979 م). - الشربيني، عبد الرحمن: تقرير شيخ الإِسلام الشربيني على حاشية النسائي على شرح الجلال المحلي على متن جمع الجوامع، (مصر: مصطفى البابي الحلبي وأولاده، د. ط، 1356 هـ/1937). - شلبي، محمد مصطفى: تعليل الأحكام، (بيروت: دار النهضة العلمية، 1401 هـ/ 1981 م). - الشنقيطي، عبد الله بن إبراهيم: نشر البنود على مراقي السعود، (بيروت: دار الكتب العملية، ط 1، 1409 هـ). - الشنقيطي، محمد الأمين: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، (القاهرة: مكتبة ابن تيمية، 1413 هـ/ 1992 م). - الشوكاني، محمد بن علي: إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، (د. م: دار الفكر، د. ط، د. ت). - الشوكاني، محمد بن علي: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار تحقيق طه عبد الروُوف سعد، ومصطفى محمد الهواري، (القاهرة: مكتبة الكلّيات الأزهرية، د. ط، د. ت). - الشيرازي، أبو إسحاق: طبقات الفقهاء، تحقيق إحسان عباس، (بيروت: دار الرائد العربي، ط 2، 1401 هـ 1984 م). - الشيرازي، إبراهيم بن علي: المهذب، (بيروت: دار الفكر د. ط، د. ت). - صالح، محمد أديب: تفسير النصوص في الفقه الإسلامي، (بيروت /دمشق: المكتب الإِسلامي، ط 3، 1404 هـ/ 1984 م). - الصدر محمد باقر: الأسس المنطقية للإستقراء، (بيروت: دار التعارف للمطبوعات، ط 5، 1406 هـ/ 1986 م). - الضرير، الصديق محمد الأمين: الغرر وأثره في العقود في الفقه الإِسلامي، (الخرطوم: الدار السودانية

للكتب، 1990 م). - العبادي، أحمد بن قاسم: الآيات البينات على شرح جمع الجوامع، ضبطه وخرج آياته وأحاديثه الشيخ زكريا عميرات، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1417 هـ/ 1996 م). - عبد الرحمن، طه: تحديد المنهج في تقويم التواث، (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط 1، 1994 م). - العسقلاني، ابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة، (القاهرة: مطبعة الفجالة، د. ت). - علي عبد المعطي محمد، والسيد نفادي: المنطق وفلسفة العلم، (الإسكندرية: دار المعرفة الجامعية، 1988 م). - عمر أحمد مختار: المبحث اللغوي عند العرب مع دراسة لقضية التأثير والتأثر, (القاهرة: عالم الكتب، ط 6، 1988 م). - الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد: المنخول من تعليقات الأصول، تحقيق محمد حسن هيتو، (دمشق: دار الفكر، ط 3، 1400 هـ/1980 م). ------------------: شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل، تحقيق حمد الكبيسي، (بغداد: مطبعة الإرشاد، 1390/ 1971 م). ------------------: المستصفى من علم الأصول، تصحيح نجوى ضو، (بيروت دار إحياء التراث العربي/ مؤسسة التاريخ العربي، ط 1، 1418 هـ/ 1997 م). ------------------: معيار العلم في فن المنطق، شرح أحمد شمس الدين، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1410 هـ/1990 م). - الفاسي، علال: مقاصد الشريعة الإِسلامية ومكارمها، (الدار البيضاء: مكتبة الوحدة العربية، د. ط، د. ت). - الفيومي، أحمد بن علي: المصباح المنير (بيروت؛ مكتبة لبنان، 1987 م). - القرافي، أحمد بن أدريس: شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول من الأصول، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، (القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية، ط 2، 1414 هـ / 1993 م). -----------------: الفروق، ضبطه وصححه خليل المنصور (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1418 هـ/ 1998 م). - القرطبي، أبو عبد الله محمد بن اُحمد: الجامع لأحكام القرآن، (طهران: انتشارات ناصر خسرو، تصويرا عن الطبعة الثالثة لدار الكتب المصرية، د. ط، د. ت). - الكاساني، علاء الدين أبو بكر بن مسعود: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، (بيروت: دار الكتاب العربي، ط 2، 1402 هـ/ 1982 م).

- الكرابيسي، أسعد بن محمد بن الحسن: الفروق، تحقيق محمد طموم، (الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية، ط 1؛. 1402 هـ/ 1982 م). - مالك بن أنس: الموطأ، (استانبول: 1401 هـ/1981 م). - محمود، زكي نجيب: المنطق الوضعي، (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، ط 4، 1966 م). - المخزومي، مهدي: الخليل بن أحمد الفراهيدي: أعماله ومنهجه، (بيروت: دار الرائد العربي، ط 2، 1406 هـ/1986 م). - الموصلي، عبد الله بن محمود بن مودود: الإختيار لتعليل المختار (القاهرة: شركة مكتبة ومطبعة مصطنى البابي الحلبي وأولاده، ط 2، 1370 هـ/1951 م). - الميداني، عبد الرحمن حسن حبنكة: ضوابط المعرفة وأصول الإستدلال والمناظرة, (دمشق دار القلم، ط 4، 1414 هـ/1993 م) - النجار عبد المجيد: فصول في الفكر الإِسلامي بالمغرب، (بيروت: دار الغرب الإِسلامي، ط 1،؛ 1992 م) - النحاس، أبو جعفر: الناسخ والمنسوخ، تحقيق محمد عبد السلام محمد، (الكويت: مكتبة الفلاح، ط 1، 1408 هـ/1988 م). - النسائي، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي: سنن النسائي، ترتيب وإعداد عبد الفتاح أبو غدة، (بيروت: دار البشائر الإِسلامية، ط 3، 1409 هـ/ـ 1988 م). - النووي، أبو شرف يحيى بن زكريا: روضة الطالبين وعمدة المفتين، (بيروت /دمشق: المكتب الإِسلامي، ط؛، 1413 هـ/ 1991 م). ------------------: صحيح مسلم بشرح النووي، (بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط 3، 1404 هـ/ 1984 م). - النيسابوري، مسلم بن الحجاج: صحيح مسلم، تحقيق وتصحيح محمد فؤاد عبد الباقي، (القاهرة: دار الحديث، ط 1،؛ 141 هـ/ 1991 م). - الواحدي، علي ابن أحمد: أسباب النزول، تخريج وتدقيق عصام بن عبد المحسن الحميدان، (الدمام: دار الإصلاح، ط 1، 1411 هـ/1991 م). - وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية الكويتية: الموسرعة الفقهية، (الكويت: ذات السلاسل، ط 2، 1410 هـ/1990). - الونشريسي، أبو العباس أحمد بن يحيى: المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب، (المغرب: وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية، د. ط، 1401 هـ/1981 م).

- Black, Max, "the Justification of Induction", in A Modeon Intooduction to Philosophy, ed. Paul Edwaods and Aothuo Pop, New Yook :the Foee Poess, 1973. - Cohen, L. Jonathan, An Intooduction to the Philosophy of Induction and Poobability, New Yook :Claoedon Poess Oxfood, 1989. - Goodman, Nelson, "the New oiddle of Induction", in the theooy of Knowledge, by Louis P. Pojaman, Califoonia:Wadswooth inc., 1993. - Hume, David :A toeatise of Human Natuoe, ed. by Eonest G. Mossneo, London : Penguin Gooup, 1984. - loving M. Copi, Caol Cohen :Intooduction to Logic, N. Y. :Macmillan Publishing Company, 1990. - Masud, Muhammad Khalid, Shatibi's Philosophy of Islamic Law, Islamabad Islamic oeseaoch Institute, 1995. - Poppeo, Kaol, Objective Knowledge :A oevolutionaoy Appooach, New Yook Claoedon Poess Oxfood, 1986. - oeichanbach, Hans, "the Poagmatic Justification of Induction", in the theooy of Knowledge, by Louis P. Pojaman, Califoonia:Wadswooth inc., 1993. - Soualhi, Yunus, Al - Imam Al - Shatibi's Induction :Foom Meoe Conjectuoes to Methodic Status, an inpublished thesis, IIU Malaysia, 1994/ 95.

§1/1