طرسوس صفحة من جهاد المسلمين في الثغور

جميل عبد الله محمد المصري

المدخل

المدخل ... طَرَسوس صفحة من جهاد المسلمين في الثغور بقلم الدكتور/ جميل عبد الله المصري الأستاذ المشارك في كلية الدعوة وأصول الدين الحمد لله، بعث رسوله صلى الله عليه وسلم بالهدى، ودينا لحق، ليظهره على الدين كله، وأيده بصحابة كرام، اختارهم على علم، وخصّهم بصحبته، فحملوا الأمانة، وسّلموها إلى من بعدهم من التابعين، الذين سلّموها إلى من بعدهم، وهكذا إلى أن وصلتنا نقية. وبعد: فقد سار الفتح الإسلامي وفق خطة راشدة مستنيرة، اتضحت معالمها على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قائد هذه الأمة، وسار عليها الخلفاء الراشدون، وخلفاء بني أمية، وبني العباس. هذه الخطة تهدف إلى تثبيت الدعوة في الداخل، وتبليغها، ومدّها في أقطار الأرض، وتعتمد المحافظة على شخصية الفرد المسلم ودمه، فلا مجازفة، ولا امتداد بالفتح، إلا بعد إقامة قواعد ثابتة للمسلمين، تتولّى إقامة حياة إسلامية، فتنطلق منها الدعوة إلى غيرها. وتبعا لذلك، فقد كانت بلاد الإسلام كلّها ثغور، وكلّ أهلها مثاغرون، فكل مسلم على ثغرة من ثغور الإسلام، كما قال صلى الله عليه وسلم: "أنت على ثغرة من ثُغَر الإسلام، فلا يؤتين من قبلك". وأهم طرق تبليغ الدعوة: الجهاد في سبيل الله، وهو فرض على المسلمين، وكانت كل مدينة من مدن المسلمين مركزا من مراكز نشر الدعوة، ومعسكرا لمواصلة الفتوح، هذا دور المدن التي مصّرها المسلمون في العراق، والشام، وفارس، ومصر، وشمال إفريقيا، وتركستان، والهند، وآسيا الصغرى. ومنذ العهد الأموي انتقلت مراكز الجهاد إلى الحدود، وتكفل جند الدولة بالجهاد-ذلك الجند المرصود في العاصمة دمشق، أو المقيم في الأمصار الإسلامية (كالبصرة، والكوفة، والفسطاط، والقيروان....) أو على الأطراف في الثغور. ولم يتغيّر هذا الوضع في عهد الدولة العباسية الأولى. واستمر أهل الإِيمان يخرجون للرباط في نواحي الحدود،

ويشتركون في الجهاد، حسبة لله وتطوعا، ولم تخل بلاد الإسلام أبداً من أفذاد يتطوعون للرباط، أو الجهاد، ويخفّون إلى مناطق الثغور والسواحل، للاشتراك في ذلك العمل الجليل مع الجند، أو الانفراد به. وطَرَسوس من المدن التي مصّرها المسلمون في العهد العباسي في آسيا الصغرى، وقامت بدور جهادي بطولي هو موضوع بحثنا هذا بإذن الله. وطرسوس: بفتح الطاء والراء1، من مدن آسيا الصغرى، على ساحل البحر الأبيض المتوسط إلى الشمال الغربي من أنطاكيا، من ثغور الشام المشهورة، مع المصيصة2 ويبعد عنها مضيق البوسفور أكثر من 450 ميلا في خط مستقيم قاطعا هضبة آسيا الصغرى الجبلية3 وكانت قاعدة للهجوم الإسلامي على القسطنطينية4، منذ تمصيرها، براً أو بحرا، إذ تشرف على المدخل الجنوبي للدرب المشهور عبر جبال طوروس المعروف بأبواب قليقية5. فكان بينها وبين حدّ الروم جبال منيعة متشعبة من اللكام6. كما كان يشقها نهر البردان (نهر كودنس) 7 ومنبعه من جبل في شمال طرسوس يعرف بالأقرع، ويصب في بحر الروم، (البحر الأبيض المتوسط) غير بعيد عن المصبّ الحديث لنهر سيحان. وفي ناحية الغرب وعلى مرحلة من طرسوس نهر اللامس، الذي شهد أحداث الفداء بين المسلمين والروم8 مرات كثيرة.

_ 1 ياقوت- معجم البلدان- 28/4، ابن حوقل 64. 2 ياقوت 28/4، القزويني ص 219، قدامة بن جعفر ص 186 ابن خرداذبة- المسالك والمالك ص 253. وذكر ابن عبد العقد الفريد 7/279 أنها من الشام الخامسة، حيث قسم الشامات إلى خمس وهي غير ما نتعارف عليه اليوم: الأولى: فلسطين، ومن مدنها غزة والرملة، وعسقلان، وبيت المقدس الثانية: الأردن ومن مدنها طبرية، وبيسان.. الثالثة: الغوطة ومن مدنها دمشق وطرابلس الشام. الرابعة: حمص. ومدينتها العظمى حمص. الخامسة: قنسرين، ومن مدنها حلب وانطاكية، وطرسوس. 3 بلدان الخلافة الشرقية ص 169. 4 نفسه ص 169، انظر ابن خلكان 4/62، 5/350. 5 بلدان الخلافة الشرقية ص 164. 6 ابن حوقل ص 122. 7 ياقوت 4/28، بلدان الخلافة الشرقية165. 8 بلدان الخلافة 165

طرسوس في عهد الخلافة الراشدة والدولة الأموية 11-132 هـ:

طرسوس في عهد الخلافة الراشدة والدولة الأموية 11-132 هـ: تمكن المسلمون في عهد عمر بن الخطاب (13-23 هـ) من تحرير بلاد الشام من الحكم الروماني الييزنطي، وبلغ أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه قائد الجبهة الشامية أقصى شمال الشام عندما فتح قنسرين ثم أنطاكيا، وأسلم بعض أهلها، ورابط فيها المسلمون من أهل النيات والحسبة. وأصبحت أنطاكيا قاعدة التحرك الإسلامي إلى آسيا الصغرى قبل تمصير طرسوس1. وكان فيما بين الاسكندرونة وطرسوس حصون ومسالح للروم2، وعندما غادر هرقل الشام إلى غير رجعة عام 16هـ أخذ هرقل أهل هذه المدن والحصون معه3، وشعث الحصون4، في خطة تعرقل سير المسلمين إلى آسيا الصغرى. بحيث لا يسيرون في عمارة متصلة ما بين أنطاكيا وبلاد الروم5. فكان المسلمون إذا توغلوا في بلاد الروم لا يجدون أحدا، وربما كمن عندها الروم فأصابوا غرة المتخلفين، فاحتاط المسلمون لذلك6. وكان أول القادة المسلمين وصولا إلى طرسوس أبو عبيدة رضي الله عنه، غزا الصائفة فمرّ بالمصيصة، وطرسوس، وقد جلا أهلهما، وأهل الحصون التي تليها، فأدرب وبلغ في غزاته زندة، وقيل إنما وجه ميسرة بن مسروق العبسي7. وفي عام 25 هـ غزا معاوية والي الشام الروم، فبلغ عمورية، ووجد الحصون التي بين أنطاكيا وطرسوس خالية، فجعل عندها جماعة كثيرة من أهل الشام والجزيرة وقنسرين، حتى انصرف من غزاته8. ولما أغزى يزيد بن الحرّ العبسي الصائفة أمره بمثل ذلك. ولما خرج هدم الحصون إلى أنطاكيا9، وأَتمّ معاوية عملية الهدم هذه في غزوته من ناحية المصيصة عام 31 هـ10.

_ 1 البلاذري- فتوح البلدان ص 150- 153. 2 فتوح البلدان ص 168، قدامة بن جعفر- الخراج ص 307. 3 فتوح البلدان ص 168. الكامل في التاريخ 2/ 344. 4 الكامل في التاريخ 2/ 344. 5 فتوح البلدان ص 169. 6 الكامل في التاريخ 2/344. 7 فتوح البلدان ص168. 8 فتوح البلدان ص 169، قدامة ص 307. 9 الكامل في التاريخ 3/ 44. 10 قدامة بن جعفر ص 307.

وفتح جنادة بن أبي أمية الازدي طرسوس عام 53 هـ في غزو المسلمين القسطنطينية زمن معاوية رضي الله عنه1. وبقيت طرسوسِ قاعدة لانطلاق القوات الإسلامية إلى بلاد الروم، وقاعدة لانطلاق القوات البيزنطية إلى بلاد الإسلام، طيلة عهد بنى أمية، فكانت تنطلق منها قوات الجهاد الإسلامي إلى القسطنطينية، وإلى بلاد الروم سنويا على نظام الصوائف والشواتي التي استنها معاوية في حرب الروم. وعندما كان الروم يغتنمون غرّه من المسلمين أو ضعفا كانوا ينطلقون من طرسوس كما فعلوا عندما هاجموا أنطاكيا عام 79 هـ2. وتقدم الأمويون خطوة بعد انطاكيا، حينما مصّروا مدينة المصيصة عام 74 هـ في عهد عبد الملك بن مروان، ومصّرها ابنه عبد الله وبنى مسجَدها، وشحنت بالجند عام 85 هـ3. وقام الوليد بن عبد الملك (86 96هـ) بتعمير ما بين أنطاكيا والمصيصة4، فأصبحت من ديار الإسلام. وفي عام 93 هـ غزا العباس بن الوليد الروم ففتح سبسطية، والمرزبانين وطرسوس5. وعلى العموم فإن المسلمين في عهد بني أمية كانوا يغزون الروم بأهل الشام والجزيرة صائفة وشاتية مما يلي ثغور الشام والجزيرة، وتقيم الدولة للراكب الغزو، وترتب الحفظة في السواحل6، دون أن تجعل من هذه الأماكن المتقدمة قاعدة دائمة من القواعد الإسلامية، وهي خطة تقوم على التريث، وعدم الاندفاع في مغامرات غير مضمونة النتائج، وعندما كانت الدولة تحسّ بالوقت الملائم للتقدم، تتقدم كما فعلت في تمصير أنطاكيا وقنسرين، والمصيصة. ويظهر أن الأوضاع المناسبة لم تظهر لتمصير طرسوس في العهد الأموي. واحتاج الأمر لسنين طويلة من العهد العباسي حتى تمّ تمصيرها. وبقيت خلال هذه الفترة تقوم بالدور المناط بها كقاعدة لانطلاق القوات فقط.

_ 1 اليعقوبي: تاريخ 2/ 240. 2 ابن كثير- البداية والنهاية 9/ 30. 3 فتوح البلدان ص 169، قدامة بن جعفر ص 307. 4 فتوح البلدان ص 172. 5 الكامل في التاريخ 4/ 129. 6 فتوح البلدان ص 167، ووردت تقيم بدلا من تقيم. وهو خطأ.

طرسوس في عهد قوة الدولة العباسية 33 1- 248 هـ:

طرسوس في عهد قوة الدولة العباسية 33 1- 248 هـ: ظهرت الدولة العباسية عام 132 هـ، على أنقاض الدولة الأموية، وقامت بدورها في تثبيت الإِسلام، ومدِّه في البلاد التي فتحها المسلمون في عهد الأمويين1. وكان الروم بقيادة الإمبراطور قسطنطين الخامس (741- 775 م) قد انتهزوا فرصة انشغال الدولة العباسية بالتمكن لنفسها، فأغاروا على الحدود الإِسلامية، وآتوا على جهود المسلمين في التحصين، ودمروا خطوط حصون الفرات، ثم الخط الممتد بين الفرات إلى البحر. وهددوا النظام الثغري كله تهديداً خطيراً2. فأمر أبو العباس السفاح (132- 136 هـ) بإعادة تمصير المصيصة، وتم ذلك في عام 139 هـ في عهد أبي جعفر المنصور (136158هـ) . ولما رغب امبراطور الروم في فداء الأسرى، وأبى المنصور، كتب إليه الإِمام الأوزاعي رسالة شديدة اللهجة بالمبادرة إلى الفداء3. فنزل المنصور عند كتاب الأوزاعي وجرى الفداء واستحق الأوزاعي منذ ذلك الوقت لقب "عالم الأمة"4. ولما تجدد تهديد البيزنطيين للنظام الثغري وسقطت اللاذقية بأيديهم عام 40 اهـ، انبرى الأوزاعي لإنذار الخليفة بخطورة الأمر، وطلب منه أن يأمر بتخصيص أعطيات سنوية لأهل الساحل حتى يَقْووا على المرابطة، وحراسة الأبراج والحصون الساحلية.

_ 1 ذكر بعض المؤرخين أن وجهة الحرب بين المسلمين والبيزنطيين قد تغيرت زمن العباسيين عما كانت عليه زمن الأمويين. وأصبحت عبارة عن غارات الغرض منها الهدم، والتخريب وإتلاف النفس والمال. وهذا يخالف ما كانت عليه الحال في أيام الأمويين الذين كانت لهم سياسة مرسومة لمحاربة البيزنطيين ابتغاء امتلاك القسطنطينية. (انظر حسن إبراهيم حسن- تاريخ الإسلام 2/242) . وقمت ببحث هذه النقطة، ووجدت أن سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسيةلم يقلل من شأن الجهاد مع الروم البيزنطيين، وليس هناك فاصل بين سياسة الأمويين والعباسيين. والعهد العباسي امتداد للعهد الأموي، ولم تتغير سياسة الفتح، فقد فشل المسلمون زمن الأمويين في فتح القسطنطينية فاعتمدوا خطة التريث، واعتمدوا على القوى العسكرية وبناء الحصون، والأمصار الإسلامية على حدود آسيا الصغرى وفي داخلها، تمهيداً للامتداد. وقام العباسيون بمتابعة هذه الجهود، فقاموا بتثبيت الإسلام في منطقة العواصم والثغور، ومنها مدوا الإسلام إلى داخل آسيا الصغرى ومصرّوا فيها الأمصار. وتوقف المدّ الإسلامي يعود إلى انتهاء حدة موجة الفتح الإسلامي، لأسباب ليس هنا موضعها، وبدأ المسلمون يفقدون أقاليمهم في آسيا الصغرى في العهد العباسي الثاني (248-332 هـ) ، وفي عهد التسلط البويهي على الخلفاء (334-447 هـ) ، ففقدوا معظمها، ليعود المد الإسلامي من جديد في العهد السلجوقي ليغطي آسيا الصغري كلها بعد معركة ملاذكرد (مانزكرت) عام 463 هـ/1071. 2 اليعقوبي- تاريخ 2/ 99، فتوح البلدان ص 190، قدامة ص 308، العالم الإسلامي ص 156، الإمبراطورية البيزنطية 3 حلية الأولياء 6/ 135. 4 البسوي- المعرفة والتاريخ 2/ 408.

فتتبع المنصور حصون السواحل ومدنها فمصّرها، وحصّنها، وبنى ما احتاج البناء منها1. وجدّد الصوائف والشواتي، فقام العباس بن محمد بن علي عام 139 هـ بالغزو على الصائفة، ومعه صالح بن علي الذي بنى ما هدمه البيزنطيون من ملطية2. واستعمل المنصور وسائل إغراء كثيرة لحث الجند والناس على العمل في الثغور واستيطانها منها: زيادة العطاء لكل مقاتل عشرة دنانير إضافية وتخصيص معونة قدرها مائة دينار لكل واحدا منهم، وبناء بيوت خاصة لإِقامتهم مع عوائلهم. فاستكمل المنصور مرحلة الدفاع والتحصينات. ولإدراك المنصور لأهمية الجهاد في الثغور، لم ينس وهو على فراش الموت أن يوصي ابنه المهدي بشحن الثغور، وضبط الأطراف، إذ قال له3: "وليكن أهم أمورك إليك أن تحفظ أطرافك، وتسدّ ثغور.. وارغب إلى الله في الجهاد، والمحاماة عن دينك، وإهلاك عدوك، بما يفتح الله على المسلمين، ويمكّن لهم في الدين، وابذل في ذلك مهجتك، ونجدتك ومالك، وتفقّد جيوشك ليلك، ونهارك، واعرف مراكز خيلك، ومواطن رحلك، وبالله فليكن عصمتك، وحولك، وقوتك ". وسار المهدي (1581- 169 هـ) على هذه السياسة الرشيدة بالفعل، فاستتمّ ما كان بقي من المدن والحصون وزاد في شحنها4. فتقدمت مراكز المسلمين الثّغْريّة واقتربت من طرسوس. وأخذ المهدي يوجه الحملات لجهاد الروم، فغزا الحسن بن قحطبة الطائي بلاد الروم عام 162 هـ، في أهل خراسان، وأهل الموصل والشام، وإمداد اليمن، ومتطوعة العراق والحجاز، ومعه مندل العنزي محدث الكوفة، ومعتمر بن سليمان البصري. ولما رجع من بلاد الروم مما يلي طرسوس، نزل في مرجها، وركب إلى مدينتها وهي خراب، فنظر إليها، وأطاف بها من جميع جهاتها، وحزر عدة من يسكنها فوجدهم مائة ألف. ولما قدم الحسن على المهدي وصف له أمر طرسوس وما في بنائها وشحنها من غيظ العدو وكبته، وعزّ الإسلام وأهله، كما أخبره بأهمية بناء مدينة الحدث في الثغور الجزرية. فاستجاب المهدي وأمر بتمصير الحدث أولا، وأوصى ببناء طرطوس. فمصّر علي بن سليمان بن علي والي الجزيرة وقنسرين مدينة الحدث5. قبل مدينة طرسوس.

_ 1 فتوح البلدان ص 167. 2 الطبري 7/497، الكامل في التاريخ 5/ 486. 3 الطبري 92/ 321، اليعقوبي 2/ 394، الكامل في التاريخ 5/ 44. 4 فتوح البلدان ص 167. 5 فتوح البلدان ص 173، قدامة بن جعفر ص 0 32.

وأما الرشيد [170- 193 هـ] ، الذي تمرس على غزو الروم في عهد أبيه، شاباً، فقد اجتهد في الغزو وأمام من الصناعة ما لم يقم بمثله، وقسم الأموال في الثغور والسواحل، وأشجى الروم1. وعندما بلغه عام 171 هـ ائتمار الروم بالخروج إلى طرسوس لتحصينها، وترتيب المقاتلة فيها، أغزى الصائفة هرثمة بن أعين، وأمره بعمارة طرسوس وبنائها وتمصيرها، وأجرى أمرها على يدي فرج بن سليم الخادم التركي2. فقام فرج ببنائها، وأحكمه، وجعل على نهرها الذي يشقها في وسطها القناطر المعقودة، وجُعل لها سور من حجارة، وستة أبواب، وخندق واسع. كما أقام حولها سبعة وثمانين برجاً. ومسح ما بين النهر إلى النهر فبلغ ذلك أربعة آلاف خطة، كل خطة عشرون ذراعاً في مثلها، ثم انتدب إليها الناس، فكانت الندبة الأولى من أهل خراسان، وهم ثلاثة آلاف رجل، ثم كانت الندبة الثانية وهم ألف رجل من أهل المصيص، وألف رجل من أهل انطاكيا على زيادة عشرة دنانير من أصل العطاء. وعسكرت الندبتان على باب الجهاد في مستهل عام 172 هـ. إلى أن تم بناء طرسوس وتحصينها وبناء مسجدها الجامع، فأقطع فرج أهل طرسوس الخطط، وسكنتها الندبتان في شهر ربيع الأول عام 172 هـ. أصبحت طرسوس قاعدة الإسلام المتقدمة في بلاد الروم، فتدافع إليها المجاهدون من بقاع العالم الإسلامي، وأصبحت بلدة في غاية العمارة والخصب، تمتد قراها على مساحات واسعة. وأصبح فيها زهاء مائة ألف فارس فيما يزعم أهلها، وليس من مدينة عظيمة من سجستان، إلى كرمان، وفارس، والجبال، وخوزستان، وسائر العراق، والحجاز، واليمن، والشامات، ومصر، إلاّ ولها لأهلها دار أو أكثر ينزلها أهلها إذا وردوها3 للتجارة أو الجهاد أو العلم، كما أصبح لها وقوفات في سائر بلاد الإسلام، وخاصة في حلب، تمدّها بالأموال لصرفها في حركة الجهاد. وتردها الجرايات والصلات، وتدرّ على أهلها الأنزال والحملان العظيمة الجسيمة، إلى ما كان السلاطين يتكلفونه وينفذونه متطوعين وأصبحت موئلا للصالحين والمجاهدين. وزخرف المدينة بالمساجد الجامعة، والمساجد والمدارس، والربط، والمشاهد والأسواق، وكانت لها شوارع رئيسية تتفرع من أبواب الإمارة كان عرض

_ 1 فتوح البلدان 167. 2 فتوح البلدان ص 74 ا، قدامة ص 311، الأزدي ص 262، خليفة بن الخياط ص 448، مسالك الممالك ص 64، وجعلها ياقوت بعد سنة 190هـ. (4/28) وابن الأثير جعلها سنة 170هـ الكامل 5/83، ثم عاد وذكر ذلك عام 190، 191هـ الكامل 5/127، وهذا يعني أن الروم قامت بمهاجمتها بعد تمصيرها، فأعاد الرشيد تمصيرها. 3 مسالك الممالك 64، العيون والحدائق 4/ 502، القزويني ص 219. فتوح البلدان ص 174.

كل منها ثمانين ذراعاً (40 مترا) وكانت تؤدي إلى أبواب المدينة، وتفرعت من هذه الشوارع دروب وسكك كما هي العادة في المدن الإسلامية. واتخذت أهميتها كموقع جهادي متقدم لاهتمام الرشيد بالثغور إجمالا، فقد عزلها عن ولاية الجزيرة وقنسرين، وجعلها حيزاَ واحداً، وأقام منطقة منفصلة أطلق عليها اسم منطقه العواصم1. ورتب لها جيشاً دائماً يرابط على طول الحدود، وقام بتحصين وبناء زبطرة وعين زربة، والهارٍونية، واهتم بعمارة الحدث بعد أن شعّثها الروم. بل وأراد أن يسكن أنطاكيا ليكون قريبا من الروم، في خطة للقضاء على الإمبراطورية البيزنطية، ولكنه عدل عن سكناها2. ونزل عام180 هـ الرقة واتخذها وطنا3، ليشرف إشرافاً تاماً على الثغور، وعلى الشام التي اتسمت في تلك الفترة بحوادث العصبية4. وبذلك كله أصبحت طرسوس الثغر الإسلامي المتقدم في بلاد الروم، يقوم بواجبه في الجهاد. إلى جانب أنه القاعدة الرئيسية لانطلاق الجيش الإسلامي إلى جهاد الروم، فأصبحت شجىً في حلق الروم5. ففي عام 181هـ حد قام الرشيد بالغزو بنفسه، وتوجه بعد ذلك بالحج بالناس، وترك ابنه القاسم ليقوم بعملية الفداء باللامس على جانب البحر بينه وبن طرسوس اثنا عشر فرسخاً. وبالفعل قام أبو سليمان الخادم متولي طرسوس بعملية الفداء، ومعه ثلاثون ألفاَ من المرتزقة، وخلق كثير من أهل الثغور وغيرهم من الأعيان والعلماء، وفودي بكل أسير في بلاد الروم. وكان عدة الأسرى 3700 نفس، وقيل أكثر من ذلك6. وأغزى الرشيد عام 191 هـ يزيد بن مخلد الهبيرى بلاد الروم في عشره آلاف، فأخذت عليه الروم المضيق فقتلوه في خمسين من أصحابه على مرحلتين من طرسوس، وانهزم الباقون. فولى الرشيد الصائفة الهرثمة بن أعين، وقام هو بنفسه فافتتح هرقلة7. وأرسل

_ 1 الطبري 10/ 5، فتوح البلدان ص 194، الكامل في التاريخ 5/83. 2 الروض المعطار ص 38. 3 1لطبري 6/ 469 1لتجارية. 4 انظر الطبري 6/ 466 فقد كان الرشيد كثير الغزو والحج (السيوطي ص 283) يحج سنة ويغزو سنة (الخطيب البغدادي6/14) إلا سنين قليلة (الفخري صر 173) فقال الشاعر يمدحه: فمن يطلب لقاءك أو يرده فبالحرمين أو أقصى الثغور ففي أرض العدو على طمرّ وفي أرضا البنية فوق طور [السيوطي 283، الطبري 0 1/ 99 0 ابن كثير 10/203] . 5 الكامل: 5/ 127. 6 نفسه 7 البداية والنهاية 10/ 206.

محمد بن يزيد بن مزيد الشيباتي أشهر قادته إلى طرسوس مرابطاً1. فكانت جهود الرشيد قد تركت جرحاً عميقاً في جسد الدولة البيزنطية، وكانت مرابطة طرسوس وأهلها شجىً في حلوق الروم، فلم تستطع بيزنطة أن تفيق منها في سهولة ويسر، يدل على هذا أنها لم تحاول استغلال أَوضاع الدولة العباسية أثناء الفتنة بين الأمين والمأمون2 (193-194هـ) . فمكن طرسوس وبقية الثغور من أن تحتفظ بمركزها، بل أن تقوم بدور فعال في الجهاد بنفسها. وظهر إلى جانب المجاهدين من أهلها المتطوعة الذين كان لهم أثر محمود في الجهاد إجمالا، وخاصة في الثغور، وكانوا يُجعلون في جناحي الجيش النظامي، فتكون وظيفتهم الإِحاطة بجناحي العدو، دون أن يختلطوا بالجند النظامي المدرب، أو أن يوكل إليهم أن يغيروا على العدو، قبل نشوب الحرب لإزعاجه في قواعده، وعرقلة تجمعاته، وتخريب مدخراته، وقطع مواصلاته، كما قد يوُكل إليهم مهمة مطاردة العدو عند تقهقره. وقد ظهر دور المتطوعة في الثغور جلياً إبّان ضعف الدولة الإِسلامية، الداخلي، وعدم قدرة الخلفاء على تسيير الجيوش أثناء الفتن الداخلية. وكانت أعمالهم كما عبر عنها الذهبي: تسر قلب المسلم3. واستتمت طرسوس أهميتها في عهد المأمون (198، 218هـ) . لما اعتلى "تيوفيل" العرش سأل المأمون الصلح عام 210 هـ، فلم يجب المأمون إذ كانت الدولة البيزنطية تقف إلى جانب البابكية في أذربيجان، فكتب المأمون إلى عمال الثغور ومنها طرسوس فساحوا في بلاد الروم، فأكثروا من القتل فدوّخوها وظفروا ظفرا حسناً إلا أن يقظان بن عبد الأعلى السلميِ أصيب4. وفي عام 215 هـ أخذ المأمون ينفذ خطته في ضرب الدولة البيزنطية مستعيدا خطة الرشيد، فدخل طرسوس في جمادي الأولى في جحافل كثيرة، واتخذها قاعدة للهجوم على الروم، فدخل بلاد الروم وفتح حصن قرة، وخرشنة، وصملة، ثم رجع إلى دمشق5، لمواجهة بعض المشكلات فعدا"تيوفيل" امبراطور الروم على جماعة من المسلمين في أرضِ طرسوس عام

_ 1 ابن تغري- النجوم الزاهرة- 2/ 136 2 سير أعلام النبلاء 13/40. 3 العالم الإسلامي ص 165. 4 فتوح البلدان ص 165/196. 5 الكامل في التاريخ 5/ 219، البداية والنهاية 10/ 269، المعارف ص ا 17.

216 هـ، وقتل نحوا من ألف وستمائة مسلم. وكتب من هناك إلى المأمون كتابا بدأ بنفسه. فعاد المأمون مسرعاً، وانطلق من طرسوس إلى بلاد الروم، وفتح هرقلة في عام 216 هـ1 واعتمد المأمون خطة الفتح المنظم فحاول أن يتقدم بالثغور إلى ما وراء طرسوس في بلاد الروم، وأن ينقل مركز ثقل الجهاد من طرسوس إلى الأمام في محاولة لمد الإِسلام في آسّيا الصغرى، فاستولى على ممرات طوروس ذات الأهمية الاستراتيجية 2، واهتم بتمصير وبناء طوانة عام 218 هـ، وراء طرسوس3 ولكنه توفي بالبندرون خارج طرسوس وعلى بعد أربعة مراحل، قبل أن تتم مشروعاته. فحمله ابنه العباس ونقله إلى طرسوس ودفن بها 4. وقام المعتصم (218-227 هـ) بتخريب ما أمر المأمون ببنائه من طوانة، وحمل ما كان فيها من آلة وسلاح 5. كما أمر بانسحاب الجيوش الإسلامية إلى طرسوس، وأخلت البلاد التي فتحها المأمون وراء جبال طوروس 6. إذ رأى المعتصم أن الظروف غير مناسبة للامتداد المنظم داخل آسيا الصغرى، ونقل المدن الممصّرة إلى داخلها، وخاصة بعد اشتداد حركة بابك الخرمي والتنسيق مع الامبراطورية البيزنطيه7. فبقيت طرسوس هي الثغر المتقدم الذي يقوم بعبء الجهاد، وقاعدة انطلاق الجهاد الإسلامي في آسيا الصغرى وسواحلها. واستغل تيوفيل (215-228هـ- 829 هـ 842 م) امبراطور الروم وفاة المأمون، واشتداد حركة بابك الخرمي، فنسق معه، وهاجم زبطرة، وأوقع بها، وأسر من المسلمات ألف امرأة، ومثل بمن وقع في أسره من المسلمين فقطع آذانهم، وسمل أعينهم8. فهب أهل الثغور من الشام والجزيرة، إلا من لم يكنِ له دابة ولا سلاح، وبلغ ذلك المعتصم، فصاح في قصره النفير!، النفير!، ووجه عجيفاً وطائفة من الأمراء لإعانة الثغور، وتحرك بجحافل إسلامية أمثال الجبال، فقد عُبّئ جيشه تعبئة لم يسمع بمثلها، وقدم بين يديه الأمراء المعروفين بالحرب، وسار على رأسهم، فانتهى في سيره إلى نهر اللامس القريب من طرسوس في رجب عام 223 هـ. وقسم جيشه إلى ثلاث فرق، سيّر إشناس من درب

_ 1 الكامل 5/ 220، البداية والنهاية 10/ 270. 2 الأمبراطورية البيزنطية ص 124، وانظر خطة الفتح واضحة الطبري 8/ 645 اليعقوبي 2/ 465. 3 الذهبي- سير أعلام النبلاء 10/287، المعارف 171 الطبري 8/ 625، اليعقوبي 1/ 496. 4 سير أعلام النبلاء10 / 289، الطبري 8/ 650، الكامل 5/ 227، البداية 10/ 280، القزويني 220، الدول المنقطعة 155، تاريخ بغداد 1/68. 5 الكامل في التاريخ 5/ 231، الأزدي ص 415. 6 الأخبار الطوال ص 401. 7 انظر فتحى عثمان 2/ 195. 8 الفخري في الآداب السلطانية 204- 205.

طرسوس، وأمره بانتظاره في الصفصاف، وانطلق هو على أثره، واستولى المسلمون على أنقرة، ثم تقدموا إلى عمورية (مسقط رأس الأسرة العمورية الحاكمة في بيزنطة (802هـ 867 م) وعلى مسافة سبعة مراحل من أنقرة، وحاصر المعتصم عمورية، واستولى عليها، وأمر بهدمها، وأحرقت. وكان نزوله عليها لسِتٍ خلون من رمضان، وأقام عليها -خمسة وخمسين يوما. ولم يستغل المعتصم انتصاره الكبير هذا، بل رجع إلى طرسوس1، ليصفي حسابه مع المتآمرين في جيشه، ففوت الفرصة على المسلمين في التقدم إلى القسطنطنية، ولكنه أمر بتحصين قالياقلا، وأمر ببناء زبطرة ورمّها وشحنها 2 فعادتا كما كانتا قبل مهاجمة تيوفيل لهما. وكان تيوفيل استنجد بملوك أوربا وأمرائها.. وهذا أيضا من الأسباب التي منعت المعتصم من استثمار ذلك النصر الكبير. وفي عهد الواثق (228- 232 هـ) تم تبادل الأسرى في المحرم من عام 231 هـ على يدي الأمير خاقان الخادم، على ضفاف نهر اللامس، واشترى الواثق من ببغداد وغيرها من أسرى الروم، وعقد لأحمد بن سعد بن مسلم بن قتيبة الباهلي على الثغور والعواصم، وأمره بحضور الفداء مع خاقان. فحضرت مفاوضات الفداء فرقة عباسية عددها سبعون ألفا من حملة الرماح، فكانت فرصة لإظهار قوة المسلمين. وفي العاشر من محرم اجتمع المسلمون ومن معهم من أسرى الروم على النهرِ، وأتت إلى الروم ومن معهم من أسرى المسلمين، والنهر بين الجانبين، وأقام كل منهما جسرا. فكان المسلمون إذا أطلقوا أسيرا، أطلقوا الروم أسيراً مثله، فيلتقيان وسط الجسر، فإذا وصل المسلم كبر المسلمين، وإذا وصل الرومي إلى أصحابه صاحوا صيحة الفرح. وكان عدد من افتدي من المسلمين4460 نفساً، النساء وأزواجهن وأولادهن ثمانمائة، ومن أهل الذمة مائة، كانت الدولة تعطي الطليق فرساً وألف درهم3 وممن أطلق من أسرى المسلمين مسلم بن أبي مسلم الجرمي، وكان من مشاهير أهل الثغور، وعلى معرفة بأهل الروم وأرضهم، وله مصنفات في أخبارهم، وملوكهم، وذوي المراتب منهم4.

_ 1 أنظر الكامل في التاريخ 5/247-249، الأزدي ص 427، اليعقوبي 2/ 475 مروج الذهب4/ 60، الروض المعطار 32، خليفة بق خياط 477، ابن تغري 2/238 زيني دحلان 1/ 286، وذكر ابن كثير أن تيوفيل هاجم ملطية وهذا خطأ فإنه ذكر بعد ذلك بقليل "زبطرة " [البداية والنهاية 10/ 285-287] . 2 فتوح البلدان 176. 3 الطبري 11/ 19- 12، البداية 10/303، الكامل في التاريخ 5/ 275، اليعقوبي 2/217، التنبيه والإشراف ص 162. 4 الطبري 10/ 20.

واستمرت طرسوس تقوم بدورها عى رأس الثغور الشامية في تثبيت الإِسلام على حدود الروم، والدفاع عنه طيلة عهد المتوكل (232- 248 هـ) ، وتم فداء عام 240 عند نهر اللامس، بالقرب من طرسوس، وقام به خاقان الخادم، واستمر تبادل الأسرى مدة أربعة أيام، بدل كل نفس نفس، ثم بقي مع خاقان الخادم جماعة من الروم الأسارى، فأطلقهم للروم، حتى يكون له الفضل عليهم1. وتم فداء آخر عام 241 في بلاد طرسوس، حضره قاضي القضاة جعفر بن عبد الواحد عن إذن الخليفة المتوكل، واستنابة ابن أبي الشوارب. وكانت عدة الأسرى من المسلمين 785 رجلاً ومن النساء 125 امرأة، فقد كانت أم الملك تدورهٍ (تيودوره) قد عرضت النصرانية على من كان في يدها من أسرى المسلمين، وعددهم نحوا من عشرين أيضا، فمن أجابها إلى النصرانية وإلا قتلته. فقتلت اثني عشر ألفاً، وتنصر بعضهم، وبقي منهم هؤلاء الذين فودوا2. وفي عام 245 هـ أصيبت ثغور الشام ومنها طرسوس بزلازل شديدة3، فأثر ذلك على قدرتها، ولكن امكانيات الأمة كانت كبيرة فتجاوزت الأزمة. وتمّ الفداء الثالث في عهد المتوكل عام 246 هـ ففودي نحو أربعة آلاف أسير من المسلمين4. وأمر المتوكل على الله بترتيب المراكب في جميع السواحل، وأن تشحن بالمقاتلة5 فنالت طرسوس خيرا كثيراً بسبب ذلك، وأصبحت قدرتها البحرية كبيرة إلى جانب قدرتها البرية، وتستطيع الاعتماد على نفسها، وأخذ المبادرة في حركة الجهاد بنفسها.

_ 1 البداية والنهاية 10/307. 2 نفسه 10/ 324. 3 الكامل 5/ 299، البداية والنهاية 10/ 346. 4 البداية والنهاية 1/347. 5 فتوح البلدان ص 167.

طرسوس في أوج قوتها- عهد النفوذ المكي 248- 334 هـ:

طرسوس في أوج قوتها- عهد النفوذ المكي 248- 334 هـ: استكملت طرسوس قوتها البرية والبحرية في عهد المتوكل على الله، ولمّا قتله القادة الأتراك عام 248 هـ تنافسوا على السلطة، والتسلط على الخلفاء، فدبت الفوضى في مركز الخلافة في الفترة (248-256 هـ) ففقدت الثغور الإمدادات العسكرية، وقامت بعبء الجهاد معتمدة على نفسها، وتعرّضت لكارثة كبيرة عام 249 هـ، باستشهاد أمير المسلمين في الثغور المجاهد عمر بن الأقطع، ومعه ألف رجل، واستشهاد علي بن يحي الأرمني أمير طائفة أخرى من المجاهدين في الثغور.

ووصلت أخبار الكارثة إلى بغداد، فجمع أهل اليسار أموالا كثيرة من أهل بغداد، لتصرف إلى من ينهض إلى ثغور المسلمين لقتال العدو، عوضاً عن من استشهد من المسلمين هناك. فأقبل الناس من نواحي الجبال، وأهواز، وفارس لغزو الروم، ذلك لأن الخليفة والجيش لم ينهضوا لقتال الروم1 فورد طرسوس عدد من المجاهدين رابطوا فيها ومنهم أحمد بن طولون ومعه الخاقاني وكان خصيصاً عنده، وَرَدَها عام 251 هـ2 ورابط بها، وأدمن على الغزو والجهاد. فحصلت نقطة تحول تاريخي، إذ ظهر دور المتطوعة وأهالي الثغور بوضوح في التصدي للروم، وأصبحت طرسوس تظهر بقوة عظيمة، منها تخرج النجدات لأهالي الثغور، ولا يجرؤ الروم على مهاجمتها. وانتعشت الخلافة في عهد المعتمد (256- 279 هـ) على يدي أخيه أبي أحمد الموفق، الذي واجه حركة الزنج بقوة وجرأة. وولي أحمد بن طولون مصر، وكان يؤثر أن يلي طرسوس ليغزو منها أميراً. فكتب إلى أبي أحمد الموفق يطلب ولايتها، فلم يجبه، واستعمل عليها محمد بن هرون التغلبي، فقتل قبل وصوله. فاستعمل عوضه محمد بن علي الأرمني، وأضيف إليه انطاكيا، فوثب به أهل طرسوسِ فقتلوه. فاستعمل عليها أرخوز بن يولغ بن طرخان التركي، فسار إليها، وكان غرّاً جاهلاَ فأساء السيرة، وأخذ عن أهل لؤلؤة أرزاقهم، وميرتهم، فضجوا من ذلك، وكتبوا إلى أهل طرسوس يشكونه ويقولون: "إن لم ترسلوا إلينا أرزاقنا وميرتنا، وإلا سلمنا القلعة إلى الروم ". فأعظم ذلك أهل طرسوس، وجمعوا من بينهم خمسة عشر ألف دينار، ليحملوها إليهم. فأخذها أرخوز، ليحملها إلى لؤلؤة، فأخذها لنفسه. فسلّموا القلعة إلى الروم. فقامت على أهل طرسوس القيامة، لأنها كانت شجاً في حلق الروم، فلم يكن يحرج الروم في برّ أو بحر إلا ردّوه وأنذروا به. واتصل الخبر بالمعتمد، فقلد أحمد بن طولون طرسوس والثغور، واستعمل عليها من يقوم بغزو الروم ويحفظ ذلك الثغر عام 263 هـ3. وقام عبد الله بن رشيد بن كاوس عام 264 هـ في أربعة آلاف من أهل الثغور الشامية بدخول بلاد الروم، فلما عاد عن البدندون خرج عليه بطريق سلوقية، وبطريق قرة كوكب، وخرشنة، فأحدقوا بالمسلمين، وقتلوهم إلا خمسمائة فإنهم حملوا حملة رجل واحد، ونجوا على

_ 1 البداية والنهاية 11/3. 2 ابن تغري 3/5. 3 الكامل في التاريخ 6/ 15.

دوابهم. وأسر عبد الله بن رشيد بعد ضربات أصابته، وحمل إلى ملك الروم أسيراً1. فدخل أحمد بن طولون طرسوس بجيشه، وعزم على المقام بها، وملازمه الغزاة، فغلا فيها السعر، وضاقت عنه وعن عساكره، فركب إليه أهلها، وقالوا له: "ضيقت بلدنا، وأغليت أسعارنا، فإما أقمت في عدد يسير، وإمّا ارتحلت عناية" وأغلظوا له في القول، وشغبوا عليه. وأقنع أحمد أصحابه بالانهزام من الطرسوسيين، والرحيل عن البلد، ليظهر للناس وخاصة العدو أن ابن طولون على بعد صيته، وكثرة عساكره، لم يقدر على أهل طرسوس2. ونجحت خطة ابن طولون، فقد زادت هيبة طرسولس في قلب العدو، وأصبحت تظهر بقوة عظيمة، وتخرج منها النجدات إلى الثغور الشامية والجزرية، تهاجم الروم، ولا يجرؤ الروم على مهاجمتها. وظهر فيها عدد من القادة المسلمين الأفذاذ الذين قادوا حركة الجهاد في الثغور، دون أن يتخلصوا من التنافس، والاختلاف، وتأرجح الولاء لأحمد بن طولون أو للموفق أبي أحمد، ومن هؤلاء القادة: سيما الخادم خليفة أحمد بن طولون على الثغور الشامية، وخلف صاحب أحمد بن طولون، ويازمان الخادم مولى الفتح بن خاقان، وأحمد العجيفي، وراغب مولى الموفق، ومحمد بن موسى بن طولون. ففي عام 266 هـ غزا سيما في ثلاثمائة رجل من أهل طرسوس ووصلوا في غارتهم إلى بلاد هرقلة3. وفي عام 269 هـ وثب خلف صاحب أحمد بن طولون بالثغور الشامية على يازمان الخادم4 مولى الفتح بن خاقان، وحبسه. فوثب به جماعة من أهل طرسوس، واستنقذوا يا زمان، وهرب خلف، وتركوا الدعاء لابن طولون، فسار ابن طولون إِليهم ونزل إذنة، واعتصم أهل طرسوس ومعهم يازمان، ورجع عنهم5 ابن طولون وفقا لخطته الحكيمة، وأرسل إلى يا زمان: "إنني لم أرحل إلا خوفا أن تخترق حرمة هذا الثغر، فيطمع فيه العدو"6 فزادت ثقة أهل طرسوس في أنفسهم، ففي عام 270 هـ خرجت الروم في مائة ألف، ونزلوا على قلمية، وهي على ستة أميال من طرسوس فخرج إليهم يا زمان في أهل طرسوس، وبيّتهم ليلا في ربيع الأول، فقتل فيما قيل سبعين ألفا، وعدداً من البطارقة، وأخذ لهم سبع صلبان

_ 1 نفسه 6/16. 2 نفسه 6/18. 3 الكامل 6/ 25. 4 في الطبري يازمان، وفي الكامل بازمان. 5 الكامل 6/ 50. 6 نفسه 6/56.

من ذهب وفضة، وصليبهم الأعظم من ذهب (صليب الصلبوت) 1 مكلل بالجوهر، وأخذ كثيرا من الغنائم الأخرى2. ولجأ المعتضد بن أبي أحمد الموفق إلى طرطوس عام 271 هـ، بعد معركة الطواحين التي دارت بينه وبين خمارويه بن أحمد بن طالون3. فاشتد الصراع بين الموالين للطولونيين، والموالين لأبي العباس المعضتد، والموالين ليازمان الذين كانوا يريدون بقاء طرسوس على الحياد بين القوى الإسلامية المتصارعة، وملجأ لمن يريد الرباط، والجهاد في سبيل الله. واشتد الخلاف عام272 هـ، بين أبي العباس ويازمان صاحب طرسوس، فثار أهل طرسوس بأبي العباس وأخرجوه منها، فعاد إلى والده ببغداد4. وقام يازمان بالغزو، فوغل في أرض الروم براً، وبحراً، وغنم عدة مراكب5 وجدّد الغزو بأهل طرسوس عام 274 هـ، واستعرض قوة طرسوس، وعاد سالماً غانمًا6. كما شاركت طرسوس في أحداث الفتن التي تجددت عامي 274، و 5 27 هـ بين أبي الساج، وخمارويه، وتأثرت بها7، ولكنها لم تمنع يازمان عن الجهاد، فغزا الروم بحراً عام 275 هـ، ودمّر لهم عدة مراكب8. وسار خمارويه على سياسة والده في تقوية طرسوس، فأمدّ يازمان عام 277 هـ بالسلاح والمال، والذهب الكثير، فمال يازمان إليه9. ودخل عام 278 هـ أحمد العجيفي طرسوس، وغزا مع يازمان الصائفة، فبلغوا سلند. فأصابت يازمان شظية حجر منجنيق في أضلاعه، فارتحل عنها بعد أن أشرف على أخذها، فتوفي في الطريق، وحمل إلى طرسوس فدفن بها. وفقدت مجاهداً كبيراً. فخلفه أحمد العجيفي وكتب إلى خمارويه يخبره بموته، فأقره على ولاية طرسوس، وأمدّه بالخيل والسلاح، والذخائر وغيرها. ثم عزله واستعمل عليها ابن عمه محمد بن موسى بن طولون.

_ 1 الذهبي ـ سير أعلام النبلاء 12/550. 2 الكامل 6/55، البداية 11/45، وفي هذه السنة قضى على حركة خبيث الزنج. 3 انظر: الكامل 6/58 4 الكامل 6/59، البداية والنهاية11/50، ابن تغري 3/67، الطبري8/149 5 الذهبي ـ سير أعلام النبلاء 12/551 6 الكامل 6/ 62، البداية والنهاية 11/ 52 ابن تغري 3/ 71 7 انظر الكامل 6/78. 8 الطبري 8/ 153 التجارية، ابن تغري 3/ 72. 9 الطبري 8/ 55 1، ابن تغري 3/ 76، الكامل 6/67، البداية والنهاية 11/571.

وتوفي أبو أحمد الموفق في العام نفسه (278 هـ) ، وكان له خادم من خواصه يقال له راغب، فاختار الجهاد، وسار إلى طرسوس، على عزم المقام بها. فلما وصل إلى الشام، سير ما معه من دواب، وآلات، وخيام، وغير ذلك إلى طرسوس مع غلامه مكنون، وسار هو جريدة إلى خمارية ليزوره، ويعرفه عزمه. فلما لاقيه بدمشق أكرمه خمارويه وأحبه، وأُسر به، واستحيا راغب أن يطلب منه المسير إلى طرسوس، فطال مقمه عنده: وظن أصحابه أن خمارويه قبض عليه، فأذاعوا ذلك، فاستعظمه أهل طرسوس، وقالوا: يعمد إلى رجل قصد الجهاد معه في سبيل الله فيقبض عليه؟ فثاروا على محمد بن موسى، وقبضوا عليه، ونهبوا داره، وقالوا: لا يزال في الحبس إلى أن يطلق ابن عمك راغبا. وبلغ الخبر خماروية، فأطلع راغباً عليه، وأذن له في المسير إلى طرسوس، فلما وصلها، أطلق أهلها أميرهم. فتركهم وسار عنهم إلى بيت المقدس فأقام بها وعاد العجيفي إلى ولايتها1 وأخذ راغب يلعب دورا في أحداث هذا الثغر الهام، وقام بدور في الجهاد. وتوفي المعتمد عام 279هـ، وولي الخلافة المعتضد (279-289 هـ) حيث واصلت الخلافة العباسية انتعاشها على يديه، وتم الوفاق مع خمارويه حين تزوج المعتضد قطر الندى ابنة خمارويه عام 279 من، فاشتد ساعد طرسوس، إذ أخذت الإمدادات ترد من الجانبين، فدخل أحمد بن أبا طرسوس للغزاة من قبل خمارويه عام 280 هـ، ودخل بعده بدر الحمامي، فغزوا جميعاً مع أحمد العجيفي أمير طرسوس، حتى بلغوا البلقسون (البوسفو) 2 ودخل طغج بن جف طرسوس عام 281 هـ، لغزو الصائفة من قبل خمارويه، فبلغ طرابزون، وفتح بلودية (ملوريا) 3. وقام أحمد بن طغان بالفداء عام 283 هـ على نهر اللامس، ومعه راغب ومواليه، ووجوه طرسوس، والمطوعة، والقواد بأحسن زي. وبعد الفداء انصرف الأمير ومن معه، وخر ج أحمد بن طغان إلى البحر وخلف دميانة على عمله في طرسوس. ثم وجه بعد يوسف بن الباغمردي على طرسوس ولم يرجع هو إليها4. وكان راغب قد ترك الدعاء لهرون بن خمارية ودعا لبدر مولى المعتضد، فأمد أحمد بن طوغان دميانة وقوي أمره وأنكر ما كان يفعله راغب، فوقعت الفتنة في طرسوس بين راغب ودميانة، وظفر راغب عام

_ 1 16/71، وانظر الطبري الذي ومنها بلمحة طرسوس عام 279 هـ 8/163 ـ 164 2 الطبري8/ 67 1، الكامل 6/77، 3 الطبري8/ 69 1، الكامل 6/78، ابن تغري 3/ 86. 4 الطبري 8/ 176.

284 هـ، فحمل دميانة إلى بغداد1. فوفد أهل طرسوس على المعتضد، وطلبوا أن يولي عليهم والٍ، فأرسل ابن الإخشيد أميراً على طرسوس من بغداد2، فقاد عملية الجهاد، وغزا بأهلها عام 285 هـ، وفتح الله على يديه3. وقام راغب الخادم بالغزو في البحر4 ولم تدم إمارة ابن الإخشيد طويلا، إذ توفي عام 286 هـ، واستخلف أبا ثابت عليها. ولما خرج المعتضد إلى الرقة، استدعى راغباً من طرسوس، فقدم عليه، فحبسه وأخذ جميع أمواله، ومات بعد أيام من حبسه، وقبض على مكنون غلام راغب وأخذ ماله بطرسوس5 فحنق أهل طرسوس على المعتضد، وكانت حركة القرامطة أيضاً قد اشتدت بهجر عام 287 هـ، فطمعت الروم في ناحية طرسوس، واجتمعت، وحشدت العساكر، ووافت باب قلمية من طرسوس، فنفر أبو ثابت أميرها، فلم يقدر على مقاومتهم، وأسروه، وقتلوا من أصحابه جماعة، وأسروا من أسروا. وكان ابن كلوب غازياً في درب السلامة، فلما عاد جمع مشايخ الثغر، ليتراضوا على أمير، فأجمعوا رأيهم على ابن الأعرابي، فولوه أمرهم6. وتحرك وصيف ضد المعتضد في الثغور، ولحنق أهل طرسوس على المعتضد كاتبوا وصيفاً، فتوجه المعتضد بنفسه إلى الثغور، وهزم وصيفاً، ثم رحل إلى المصيصة، وهناك أحضر رؤساء طرسوس فقبض عليهم، وأمر بإحراق مراكب طرسوس التي كانوا يغزون فيها، وجميع آلاتها، وكان من جملتها نحو خمسين مركباً قديمة قد أنفق عليها من الأموال ما لا يُحصى، ولا يمكن عمل مثلها، فأضر ذلك بالمسلمين، وفتّ في أعضادهم، وأمن الروم أن يُغزوا في البحر. وكان إحراقها بإشارة دميانة غلام يازمان، لشئ كان في نفسه على طرسوس. واستعمل المعتضد على أهل الثغور الحسن بن كوره، وبماد إلى بغداد7، وقد أضرّت سياسته هذه بطرسوس كثيراً وأصبحت تعتمد على جند الخلافة، بدلا من اعتمادها على نفسها في الجهاد، واحتاجت عملية البناء من جديد جهداً ووقتاً وأموالا، وزاد الأمر سوءاً انشغال الخلافة بعد ذلك بحركة القرامطة، وبفتنها الداخلية، فتوجه غلام زرافة إلى طرسوس، بعد تدمير اسطولها، وكان أحد البحارة المسلمين، والمجاهدين الكبار، فجمع

_ 1 الكامل في التاريخ 6/ 85. 2 الطبري 8/ 181، 193. 3 الكامل 6/ 91، البداية والنهاية 11/ 79. 4 الطبري 8/ 194، ابن تغري 3/ 116. 5 الطبري 8/ 196، ابن تغري 3/118، الكامل 6/93 (في الكامل بكنون) . 6 الطبري 8/ 199، الكامل 6/ 94، البداية والنهاية 11/ 83. 7 الطبري 8/203، الكامل 6/ 94، العبر 1/413، سير أعلام النبلاء13/ 466.

أمهر البحارة، وأشدهم بأساً، وأخذ يبني أسطولا جديداً، ويستعد للقيام بغزوات بحرية تعيد لطرسوس هيبتها. كما قام نزار بن محمد عامل الحسن بن علي كوره بغزو الصائفة عام 288 هـ، وأسر عددا من الروم، أدخلهم طرسوس، ثم وجههم إلى بغداد1. وتوفي المعتضد عام 289 هـ، وبويع للمكتفي بالله 2891-295 هـ، وفي عهده اشتد أذى القرامطة، والأعراب، وامتد من هجر إلى الشام2، فأثر ذلك على عملية الجهاد في طرسوس، واتجه أهلها إلى المكتفي بالشكوى من واليهم مظفر بن جناح، فعزله المكتفي عام 290 هـ، وولّى عليهم أبا العشائر أحمد بن نصر3، الذي خرج مع جماعة من المطوعة للغزو، كما حمل الهدايا من المكتفي إلى ملك الروم4. وخرج المكتفي إلى الرقة عام 291 هـ، وأخذ يسرح الجيوش إلى القرمطي، جيشاً بعد جيش، وورده هناك رسول من ملك الروم يسأله الفداء بمن في يده من المسلمين أسرى، ومعهما هدايا، وأسارى من المسلمين، بعث بهم إليه، فأجابه إلى طلبه. وقام أبو العشائر أمير طرسوس بالفداء5. ويظهر أن مهمة رسل الروم كانت للتجسس في الدرجة الأولى، فبعد عودتهم وإتمام عملية الفداء، نهض الروم في عشرة صلبان، مع كل صليب عشرة آلاف، وتوجهوا إلى الثغور، وأغاروا عليها، وخرّبوا، وقتلوا خلقاً، وسبوا نساء وذرية من المسلمين6. وكان غلام زرافة قد أتم استعداداته البحرية، فهاجم بعسكر طرسوس بلاد الروم من الساحل، وفتح مدينة أنطاكية. وهي أتاليا أو انطاليا- من أعظم مدن الروم على ساحل البحر المتوسط، وخلّص من أسارى المسلمين خمسة آلاف أسير، وأخذ للروم ستين مركبا، وغنم شيئا كثيراً، فبلغ نصيب كل واحد من الغزاة ألف دينار7. وعندما أغار "اندرونقس" الرومي على مرعش ونواحيها، نفر أهل المصيصة، وأهل

_ 1 الطبري 8/ 206، الكامل في التاريخ 6/ 99. 2 الطبري 8/213-215، ابن تغري 3/ 29 1- 130. 3 الطبري 8/16، البداية والنهاية 11/ 96. 4 1لطبري 8/217. 5 1لطبري 8/ 225. 6 الطبري 8/232، ابن تغري 3/123، البداية 11/8، العبر 1/419، دول الإسلام 1/176، ابن العبرى ص 154. 7 الطبري 8/ 233، ابن تغري 3/ 13، الكامل 6/ 109، البداية 11/ 98، العبر 1/ 419، التنبيه والإشراف ص 153، سير أعلام النبلاء 13/483.

طرسوس عام 292 هـ، فأصيب أبو الرجال بن أبي بكار، في جماعة من المسلمين، فعزل الخليفة أبو العشائر عن الثّغُور، واستعمل رستم بن بردو والياً على طرسوس، وتم على يديه فداء آخر للأسرى، وكان جملة من فودي من المسلمين 1200 نفس1. وفي عام 294 هـ، قام نائب دمشق أحمد بن كيلغلغ، بغزو بلاد الروم، ومعه رستم بن بردو بأهل طرسوس، فقتل نحواً من أربعة آلاف، وأسر نحواً من خمسين ألفاً، وأسلم بطريق من بطارقة الروم الكبار، وأطلق نحو مائتي أسير من المسلمين كانوا معه، وقد حاول الروم تتبعه، وفشلوا، ودخل بلاد المسلمين وقدم إلى الخليفة، فأكرمه وأحسن إليه، وقد وصل المسلمون في تلك الحملة إلى قونية، ثم عادوا إلى طرسوس2 قاعدة غزوهم. ومن نتائج هذا الغزو الرائع، أرسل إمبراطور الروم إلى المكتفي يطلب الفداء، وقد ضم الوفد الذي أرسله خال ولده اليون، وبسيل الخادم، ومعهم جماعة، وكتاب إلى المكتفي يسأله الفداء، وأن يوجه المكتفي رسولاً إلى بلاد الروم، ليجمع أسرى المسلمين فِى بلاده، وليجتمع هو معه على أمر يتفقان عليه، وتخلف بسيل الخادم بطرسوس، ليجمع الأسرى من الروم في الثغور ليصيرهم مع صاحب السلطان إلى موضع الفداء. وأجيب صاحب الروم إلى ما سأل3. وتم الفداء بالفعل في ذي القعدة من عام 295 حد قبلَ وفاة المكتفي بقليل، وقام به مؤنس الخادم، واستنقذ المسلمون نحواً من ثلاثة آلاف من أسراهم4. وبوفاة المكتفي عام 295 هـ، انتكست الخلافة مرة أخرى، زمن المقتدر [295-320] ، وكان صغير السن، ووقع بين تنافس قادة الأتراك، وألاعيب النساء، ورغم ذلك فقد اهتم المقتدر بالثغور، ففي شعبان من عام 296 هـ خلع على مؤنس الخادم، وأمره بالمسير إلى طرسوس لغزو الصائفة، فخرج في عسكر كثيف، ومعه جماعة من القواد، وغلمان الحجر5، وقام عام 297 هـ بغزو الروم عن طريق ثغر ملطية، ومعه أبو الأغر السلمي، وظفر بالروم، وأسر منهم6، فطلب الروم المفاداة، ففادى مؤنس الأسارى عام 297 هـ7.

_ 1 الطبري 8/ 235، الكامل 6/ 11. 2 الطبري 8/243، الكامل 6/117، البداية 11/ 102. 3 الطبري 8/ 248، 1لكا مل 6/ 117. 4 الطبري 8/ 250، الكامل 6/ 120، البداية 11/103، ابن تغري 3/ 162. 5 الطبري 8/ 252، الكامل 6/ 135، البداية 11/108 6 الطبري 8/ 253، 1لكا مل 6/ 135. 7 يذكر ابن كثير أن اسمه (يونس الخادم) وهذا خطأ [البداية 11/ 110] .

وفي عام 298 هـ، غزا القاسم بن سيما بلاد الروم، ورجع إلى بغداد بأسارى، بأيديهم أعلام عليها صلبان، وحاول الروم أن يقصدوا اللاذقية بحرا1، فردّ رستم أمير الثغور بأن غزا الصائفة ومعه دميانة (غلام زرافة) من ناحية طرسوس، وحصر حصن مليح الأرمني، ثم دخل بلده، وأحرقه2. وفي عام 300 هـ قلّد المقتدر مؤنس الخادم الحرمين والثغور، وولىّ بشر بن أبي الساج الأفشيني طرسوس3، وقام مؤنس بغزو الروم مع بشر، وأوقع بهم بأساً شديداً، وأسر 150 بطريقا- أي أميرا- عام 301 هـ، وفي عام 302 هـ، وصلت الأخبار إلى بغداد بانتصارات مؤنس وبشر، ففرح المسلمون بذلك4، ونال مؤنس لقب المظفر، وأمر المقتدر وزيره علي بن عيسى بالمسير إلى طرسوس، لغزو الصائفة، فسار في ألفي فارس معونة لبشر والي طرسوس، فلم يتيسر لهم غزو الصائفة فغزوا شاتية، وفي برد شديد وثلج5. وانشغل جند المسلمين والثغور بأمر الحسين بن حمدان عام 303 هـ، فاغتنم الروم الفرصة، وسار الغثيط على رأس جيش كبير، وأوقع بغزاة من أهل طرسوس والغزاة، وقتلوا نحو ستمائة فارس. ولم يكن للمسلمين صائفة. وسبي من المسلمين في الثغور حوالي 50 ألفاً. فعظم الأمر على المسلمين، فوجه المقتدر بمال ورجال إلى طرسوس. وارتحل الروم بعد وقعات كثيرة6. وقام مؤنس المظفر بغزو الصائفة عام 304 هـ من ملطية، وكتب إلى أبي القاسم علي بن أحمد بن بسطام أن يغزو من طرسوس في أهلها، ففعل. وأنكى مؤنس الروم، وفتح حصوناً كثيرة، وأثر آثاراً جميلة، وعتب عليه أهل الثغور وقالوا: "لو شاء لفعل أكثر من هذا"، ولكنه عاد إلى بغداد، فأكرمه الخليفة، وخلع عليه7. فوصل وفد من ملك الروم عام 305 هـ إلى بغداد، ومعهم الهدايا، فأكرم المقتدر الوفد، وأدرك مهمة الوفد التجسسية كعادة رسل الروم، فعرض الجيش الإسلامي، عرضا مهيباً رائعاً، وكان يوماً مشهوداً8، وسير مؤنس ومعه 120 ألفاً ليحضر الفداء عام305 هـ9.

_ 1 البداية والنهاية 11/112 2 الطبري 8/ 254، الكامل 6/ 140. 3 الكامل في التاريخ 6/143 4 الطبري 8/257، الكامل6/150، البداية والنهاية 11/ 122. 5 الطبري 8/ 248، الكامل 6/ 148. 6 الكامل 6/ 152ابن عريب ص39. 7 الكامل 6/157. 8 ابن عريب 45، الكامل 6/158، ابن تغري 3/192، البداية 11/127، حول الإسلام 1/ 185 9 الكامل 6/ 158.

وزاد المسلمون من حدة غزواتهم بين عامي 306 و312 هـ، من طرسوس، براً وبحراً. فغزا بشر الإِفشيني عام 306 هـ براً، فافتتح عدة حصون، وغزا ثمال بحرا فغنم وسبى وعاد، ودخل جني الصفواني بلاد الروم، فنهب، وأحرق، وفتح وعاد، وقرئت أخبار الانتصارات على المنابر ببغداد1. وأسهم أهل طرسوس بقيادة ثمل الخادم في انقاذ الإسكندرية من البربر عندما هاجموها، واستغاث المسلمون عام 308 هـ2. ودخلوا بلاد الروم من جهة ملطية عام 310 هـ فظفروا3، وقرئت أخبارهم على منابر بغداد4. وهنا يجب ملاحظة أن معظم أعمال الجهاد هذه، كانت استعراضية، وهدفها الدعاية، ولم تحقق شيئاً من تثبيت الإسلام في آسيا الصغرى، أو مدّه. وكان القادة ينالون التكريم العظيم من الخليفة، ومن الأمة، فكان مؤنس الخادم مثلاً يدخل بغداد قادماً من الجهاد، دخول الفاتحين العظام. كما حدث عام 311 هـ5. وانقلبت الأوضاع في الثغور عام 313 هـ. فقد تأكد للروم ضعف المسلمين وانشغالهم بحركة القرامطة، وقد عاد مؤنس لحربهم. فكتب ملك الروم إلى أهل السواحل والثغور يأمرهم بحمل الخراج إليه، وإلا قصدهم، فقتل الرجال، وسبى الذرية، وقال: "إنني صح عندي ضعف ولاتكم ". ولما لم يفعلوا، هاجمهم الدمستق، ودخل ملطية عام 314 هـ، ومعه مليح الأرمني صاحب الدروب، وعاثوا فساداً، في بلاد الإِسلام، وطلبت ملطية الغوث من بغداد، فلم يغاثوا6. ولكن أهل طرسوس تحركوا للانتقام، فغزوا الصائفة، فغنموا وعادوا7، وأخذت الأنظار تتجه إلى طرسوس لإغاثة الثغور. وعندما هاجم الروم سميساط عام 315 هـ، ودخلوها، واستباحوها، وضربوا الناقوس في الجامع، وأخذوا جميع ما فيها8، هب أهل طرسوس للجهاد، وخرجت سرية منهم إلى بلاد الروم، ولكن الروم استظهروا عليها، وأسروا من المسلمين أربعمائة رجل قتلوهم صبراً. فغزا شمال الصائفة، وانتقم من الروم وعاد سالماً إلى طرسوس9. كما أمر المقتدر مؤنس أن يخرج لقتال

_ 1 نفسه 6/161 2 سير أعلام النبلاء 15/50. 3 الكامل 6/ 172. 4 البداية والنهاية 11/ 145. 5 البداية والنهاية 11/ 145. 6 ابن تغري 3/215، دول الإسلام 1/190، دحلان 1/330، البداية والنهاية 11/531، العبر 1/468. 7 الكامل 6/ 185، البداية 11/153. 8 البداية 11/ 155، العبر 1/ 469، دول الإسلام 1/ 190. 9 الكامل 6/ 189.

الروم، وكان خروجه يوماً مشهوداً إلى بلاد الثغور1، ولكن مؤنساً عاد إلى بغداد قبل أن يصل الثغور، لاشتداد أذى القرامطة، حيث هاجموا بيت الله الحرام، وانتزعوا الحجر الأسود من مكانه عام 317 هـ2 وهكذا بقيت الثغور بدون غوث من الخلافة، فضغط الروم على المسلمين ودخلوا ملطية، وعاشوا فساداً في ثغور أرمينيه3، فعزمت الثغور الجزرية على طاعة ملك الروم، ولكن مفلح الساجي أعاد الثقة إلى النفوس حين التقى مع الدمستق وهزمه عام 317 هـ، ودخل وراءه إلى بلاد الروم4، كما قام ثمل والي طرسوس في ربيع الأول عام 319 هـ، بغزو الروم، فعبر نهراً، ونزل عليهم ثلج إلى صدور الخيل، ولم يثنهم ذلك عن الجهاد، وانتصروا على جمع للروم، فقتلوا ستمائة، وأسروا نحواً من ثلاثة آلاف. وفي رجب من السنة نفسها عاد ثمال إلى طرسوس، ودخل بلاد الروم صائفة في جمع كثير من الفارس والراجل، فبلغوا عمورية، ودخولها وقد انسحب منها الروم، وأوغلوا حتى وصلوا إلى أنقرة، وعادوا إلى طرسوس في رمضان5. فشاع صيت ثمل في بلاد الروم، ورهبوه، ولكنهم تمكنوا من دخول ملطية بعد حصارها وإعطائها الأمان عام 322 هـ. فتمكن الروم من أهلها، وقتلوا خلقاً كثيراً، وأسروا ما لا يحصون كثرة6. في حين استمرت طرسوس تقوم بدورها، وأصبحت زعيمة الثغور جميعاً بحق، وخاصة بعد انشغال الخلافة بمشكلاتها، وقتل الخليفة المقتدر عام 320 هـ. وازداد انتكاس الخلفاء العباسيين. وفي عام 324 هـ تخلّى الخليفة الراضي بالله (322-329) عن كل صلاحياته تقريباً، وسلم مقاليد الدولة لمحمد بن رائق أمير الأمراء7، وأصبح التنافس على هذا المنصب الخطير بين القادة. وضعف أمر الخلافة جداً عام 325 هـ، وصارت البلاد بين خارجي قد تغلب عليها، أو عامل لا يحمل مالا إلى الخلافة، وصارت أشبه بملوك الطوِائف8، وتمتع أهل الثغور عامة، وطرسوس خاصة باحترام جميع المسلمين، حيث وقفوا سدا في وجه أطماع الدولة البيزنطية، تحطمت على صخرتها موجات الصليبية المرة تلو المرة. وخسرت عام

_ 1 البداية 11/155. 2 نفسه 11/ 160، السيوطي 384 3 الكامل 6/ 199. 4 الكامل 6/207، البداية 11/163. 5 الكامل 6/316-317، البداية 11/166، في حين ذكر الذهبي أن والي طرسوس هزم الروم، ثم هزموه عام 319 هـ سير أعلام النبلاء 15/54. 6 البداية والنهاية 11/177. 7 تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 392. 8 السيوطي- تاريخ الخلفاء392.

326 هـ والياً من أشهر رجالها المجاهدين وهو ثمل والي طرسوس. وقد وصف بالشجاعة، وكان شجاعاً، بطلاً عظيم الهيبة، في قلوب النصرانية، كثير الإقدام عليهم، لا يهوله أن يحمل على خمسة آلاف بخمسمائة من المسلمين، وكانت له غزوات مشهورة، فولي الثغر بشرى غلام ثمل1، وتم فداء بين المسلمين والروم في ذي القعدة عام 326 حد قام به ابن ورقاء الشيباني، وكان عدة من فودي من المسلمين 6300 بين ذكر وأنثى على نهر البدندون2. وفي عام 330 هـ قاد الروم هجوماً على الثغور، ونهبوا البلاد، وخربوا، ووصلوا إلى قريب من حلب، وسبوا نحو خمسة عشر ألف إنسان، فدخل بشرى الثملي من ناحية طرسوس إلى بلاد الروم، فقتل وسبى، وعاد سالماً، وقد أسر عدة من بطارقتهم االمشهورين3. وعاد الروم بقوة فهاجموا الثغور الجزرية عام 331 هـ، وأعطى ملك الروم صفة الحرب الصليبية لحروبه، فافتعل قضية المنديل، زعم أن المسيح مسح به وجهه، فارتسمت صورته فيه، وأن هذا المنديل في بيعة الرها، وأرسل إلى المتقي بالله، يطلب هذا المنديل، مقابل جميع من سبى من المسلمين. فأحضر المتقي القضاة، والفقهاء، واستفتاهم، فاختلفوا تسليمه. ثم وافق الخليفة على رأي الوزير علي بن عيسى عندما قال: "إن خلاص المسلمين من الأسر، والضر، والضنك الذي هم فيه، أولى من حفظ هذا المنديل" فأمر بتسليمه إليهم4. فشُحن الصليبيون شحنة دينية حماسية، وجههم بها ملك الروم لمهاجمة الثغور.

_ 1 العيون والحدائق 4 ق 2/ 68. 2 الكامل 6/268، ابن تغري 3/ 262- 263، 3 الكامل 6/ 288، البداية 11/203 4 الكامل 6/ 294، السيوطي- تاريخ الخلفاء 395.

طرسوس ومأساتها 334- 355 هـ:

طرسوس ومأساتها 334- 355 هـ: في عام 334 هـ في عهد الخليفة المستكفي بالله 329- 334 هـ، خضعت الخلافة العباسية لسيطرة البويهين، الذين اهتموا في تثبيت نفوذهم في العراق، وفارس، ولم يلعبوا دوراً في الجهاد الإسلامي، وأحداث العالم الإسلامي. فيروى أنه كان في اصطبلات معز الدولة أحمد بن بويه: "اثنا عشر ألف فرس، أغلاها ثمنا بمائة ألف درهم، وأدناها ثمنا بعشرد آلاف درهم، لم يطرح قط على فرس منها بسرج في سبيل الله… "5

_ 5 الحياري- نهاية الثغور الشامية- مجلة مجمع اللغة العربية الأردني العدد اا-12 ص 23.

وظهرت الدولة الحمدانية، في الجزيرة الفراتية، والإمارة الإخشيدية في مصر، والشام. وتبعت الثغور الجزرية الدولة الحمدانية منذ البداية، في حين أن الثغور الشامية وأهمها طرسوس، تبعت الدولة الإخشيدية أولاً، ثم الحمدانية، وتأثرت بصراع الدولتين. وفي الواقع وقع عبء الجهاد في الثغور على أهلها، وعلى الدولة الحمدانية. وأقامت طرسوس الدعوة لسيف الدولة بن حمدان عام 335 هـ، فأنفذ إليها الخلع والذهب، وأنفذ إليهم آلاف الدنانير للفداء1. وقام نصر الثملي أمير الثغور لسيف الدولة، بالفداء، وكان عدة الأسرى 2480 أسيراً، من ذكر وأنثى، وفضل الروم على المسلمين 23 أسيرا لكثرة من معهم من الأسرى، فوفاهم سيف الدولة2. ووقع الخلاف بين أهل طرسوس، وتأرجحوا في الولاء بين الدولة الحمدانية، والإخشيدية، والبويهية. فأثر ذلك على قوتها، وعندما دخل سيف الدولة بلاد الروم عام 337 هـ، انهزم، وأخذت الروم مرعش، وأوقعوا بأهل طرسوس بأساً شديداً3. ودخل سيف الدولة عام 338 هـ بلاد الروم بنحو ثلاثين. ألفاً، ومعه عسكر طرسوس في أربعة آلاف، وعليهم القاضي أبو حصين4. فوغل في بلاد الروم، وعاد الطرسوسيون والعربان إلى بلادهم. وكانت الروم قد أخذوا على سيف الدولة الدروب والمضايق، فقتلوا عامة من معه، وأسروا بقيتهم، واستردوا ما كان أخذه، ونجا سيف الدولة في عدد يسير5. وحاول الطرسوسيون الانتقام لهزيمته، فغزوا في البر والبحر6. وحاول سيف الدولة الغزو عام 0 34 هـ فحدث له ما حدث عام 338 هـ7. وزاد الأمر سوءاً أن ضربت الزلازل الثغور، فأثر ذلك على طرسوس. وتمكن الروم من انتزاع زمام المبادرة، وسقطت سروج بأيديهم، فسبوا أهلها، وغنموا أموالهم، وأخربوا المساجد8 في الوقت الذي اتصلوا فيه بالدولة الفاطمية العبيدية المغرب لمفاوضتها9

_ 1 ابن تغري 3/ 294. 2 الكامل في التاريخ 6/ 324. 3 الكامل 6/341، البداية 11/ 250، ابن تغري 3/297، دول الإسلام 1/210، العبر 1/51 4 ابن تغري 3/303. 5 الكامل 6/ 334، البداية 11/223. 6 الذهبي دول الإسلام 1/210. 7 ابن تغري 3/ 305. 8 الكامل 6/ 342، البداية 11/ 225، أبو الفداء 3/ 125، حول الإسلام 1/ 212. 9 العيون والحدائق 4 ق 2/ 195، العبر 2/ 262.

وحاول سيف الدولة استعادة هيبته فَكَرَّ على الروم عام 342 هـ1 وعام 343 هـ، وحقق بعض الانتصارات، وقتل خلقا من أصحاب الدمستق، وأسر قسطنطين بن الدمستق ملك الروم، وآخرين من رؤساء البطارقة2. وفي عام 345 هـ، هاجم الروم ميافارقين، وركبوا في البحر إلى طرسوس، فقتلوا من أهلها 1800، وحرقوا قرى كثيرة حولها، وسبوا كثيرًا، في الوقت الذي كان رئيس طرسوس فيه في زيارة لسيف الدولة وهو في طريقه إلى حلب3. وساءت الأحوال الداخلية في العالم الإسلامي، وامتلأ رفضاً، وسباً للصحابة، من بني بويه، وبني حمدان، والفاطميين، والقرامطة، فاشتد ساعد الروم، فأغاروا عام 347 هـ على الثغور الإسلامية، ووصلوا حلب. وهزموا سيف الدولة هزائم متلاحقة4. وغزوا طرسوس والرها عام 348 هـ، وسبوا، وأخذوا الأموال5، فاشتد ضغط المسلمين على ولاتهم، ودعوهم للجهاد، وعمل الخطيب عبد الرحيم بن نباتة خطبه الجهاديات، يحرّض الإسلام على الغزاة6، وكان خطيباً لسيف الدولة7. وقام العالم عبد الرحمن بن محمد اللخمي العسقلاني بحثّ سيف الدولة على الجهاد8. وتحركت العامة في بغداد، وجمعوا الأموال للجهاد، فأخذها معز الدولة البويهي، وأنفقها على لهوه، ولما غضبت العامة عليه، قام بتسكينها، بأن أرسل جيشاً ادّعى أنه تمكن من إحراز بعض الانتصارات. وتحرك سيف الدولة عام 349 هـ، ومعه أهل طرسوس، فغزوا الروم من ناحية طرسوس9، واحرزوا انتصارات، وانتهوا إلى خرشنة. ولما أرادوا العودة، نصح أهل طرسوس سيف الدولة بالعودة معهم، لأنه بلغهم أن الروم ملكوا الدرب خلفه، فرفض وكان معجباً بنفسه، وبرأيه، فرفض النصيحة فأتى عليه الروم قتلاً، وأسراً، وتخلص هو في ثلاثمائة رجل من رجاله وغلمانه، بعد جهد ومشقة10. وسلم أهل طرسوس وقتل من وجوه قادته حامد بن النمس، وموسى بن سياكان، والقاضي أبو حصين- قاضي طرسوس-.

_ 1 البداية 11/227 2 الكامل 6/ 346، ابن تغري 3/ 311، البداية 11/ 227، 228. 3 الكامل 6/ 350، دول الإسلام 1/213، العبر 2/ 69، البداية 11/ 230. 4 ابن تغري 3/ 319، العبر 2/ 75. 5 ابن تغري 3/322، دول الإسلام 1/ 215، البداية 11/ 234. 6 1لعبر 2/78. 7 العبر 2/143، البداية 11/303. 8 الموجز في تاريخ الدول العربية وعهودها في بلادنا فلسطين ص 298. 9 ابن تغري 3/ 324. 10 الكامل 6/ 358.

وأخذت قوة طرسوس تسير إلى انحدار سريع، وقطع الروم عن أهلها إمدادات المسلمين، ففي عام 350 هـ سار قفل عظيم من أنطاكيا إلى طرسوس، ومعهم صاحب أنطاكيا، فخرج عليهم كمين للروم، فأخذ من كان فيها من المسلمين، وقتل كثيراً منهم، وأفلت صاحب أنطاكيا، وبه جراحات1. واتسعت هجمات الروم، وسقطت جزيرة اقريطش (كريت) بأيديهم وقتل ارمانوس بن قسطنطين كثيرا من أهلها، وسبى من بقي، وأخذ الأموال، وأحرق المصاحف، وهدم المساجد2. فاستنجد أهلها بالمعز الفاطمي فأرسل إليهم جيشاً فانتصروا على الفرنج3. وهاجموا منبج في الثغور، وأسروا أبا فراس الحمداني وكان متقلداً لها4. وسقطت بأيديهم عين زربى5. وقد أمن الروم قوة طرسوس التي غرقت في الفوضى من داخلها، إذ تنكرت لسيف الدولة، بسبب ظلمه، وقبضه لوقوف أهل طرسوس، في بلاد حلب، وولاياتها، وكانت مورداً هاماً لأهل الثغر. فقطعوا الدعوة له، وأعلنوها لأنوجور وكافور الإخشيديين، وتزعم ذلك رشيق النسيمي، وضمن لها عمارة الثغر نيابة عنهما. واتفق أهل المدينة، وعلى رأسهم أبو أحمد الهاشمي، ومحمد بن الزيات، على أن يكون الهاشمي وابن الزيات أميري الثغر، وأن يخطب لهما معا. وأرسلوا رسولا إلى مصر ليعلم أنوجور وكافور بالأمر، ولجلب الميرة والمال، لانفاقهما في الثغر. وكان الخليفة المطيع لله (234-263 هـ) قد كتب لأنوجور بن الإخشيد على مصر، والاسكندرية، والشام، وقبرص، على أن يحمل إلى حضرته كل سنة مائة ألف دينار، وولاه أمورها سوى الخطابة والحكومة، على أن يحمل إلى طرسوس في كل سنة خمسة وعشرين ألف دينار، وتفرق في المستحقين ببلاده مائتي ألف دينار6. ولكن أنوجورِ وكافور لم يرسلا شيئاً إلى طرسوس، فقام سيف الدولة بمراسلة الهاشمي وابن الزيات سرا عن رشيق النسيمي، وتم الاتفاق على إعادة الدعوة لسيف الدولة مقابل رد الوقوف المقبوضة، وإرسال مال إليهما لينفقاه بالثغر.

_ 1 نفسه 6/ 360. 2 العيون والحدائق 4 ق 2/ 24، ابن تغري 3/ 327. 3 البداية والنهاية 11/ 241، الكامل 7/5. 4 الكامل 7/ 5، ابن تغري 3/333، البداية 11/241. 5 العيون والحدائق 2 ق 2/218، حول الإسلام 1/217، في حين ذكر ابن الأثير سقوطها عام 351 هـ/ الكامل 7/ 2. 6 أخبار الدول المنقطعة ص 248.

واختلف الهاشمي وابن الزيات، فاعتقل الأول، وسجن مع جماعة من أتباعه ولكنه تمكن من الهرب، ولجأ إلى سيف الدولة، ثم عاد إلى طرسوس في غياب ابن الزيات للجهاد، وحاول أن يخلص أصحابه، فهاجمه عامة الناس، وقبضوا عليه، وسلّمه لابن الزيات عندما عاد، فسجنه. ويقال أن صاحب البحر في طرسوس الذي تولى نقله إلى سجنه، قتله. استغل الروم أحداث طرسوس هذه، ولجأ ملكهم نقفور إلى المكر والخديعة وأظهر لسيف الدولة مقاربته، وراسله لتقرير شروط الهدنة، فركن سيف إلى قوله وراسل أهل طرسوس طالباً منهم الدخول فيما سيعقد مع الروم من شروط. وكان نقفور يصلح أموره، ويجمع رجاله. وأتت عيون ابن الزيات بأخبار مكر الروم، وأن نقفور يجمع بطارقته ومن أمكنه من نصارى أوربا1، وما تأخره في الهجوم إلا انتظارا لتفرّق من قصد طرسوس من الغزاة، وخروج من كان يريد الحج من أهل الثغور. فجمع ابن الزيات أهل طرسوس وأخبرهم، فاختلفت الآراء في خروجه لمقابلة الروم في عين زربة، وخرج من طرسوس بمن تبعه، وهم ألف فارس، ونفر معه أهل المصيصة وكان عددهم قليلاً، حيث كان فرسانهم استشهدوا مع هرون الثملي في فتح الهارونية. وعند المصيصة وردته أخبار تحرك جيش الروم باتجاهه، فأمر من معه أن يخلفوا أثقالهم، وبغالهم بالمصيصة، وتقدم بعدد قليل من رجاله ومن أهل المصيصة (نحو خمسمائة فارس وثلاثمائة وثمانين راجل) . فتوجه لهم الدمستق بأمر نقفور في جيش كبير، وأشار جماعة على ابن الزيات بعدم مواجهة القوات الرومية الكثيرة، والاعتصام منها ببعض الجبال القريبة، لكنه رفض، وأظهر ومن معه من المسلمين بطولة عظيمة، وسقط من الشهداء خمسمائة بين فارس وراجل، بينهم أخو ابن الزيات. وتراجع الباقون إلى مدن الثغور. في حين تقدم الروم وحاصروا عين زربة التي استسلمت للروم، وكان استسلامها كارثة بالفعل وصفها ابن مسكويه2، وصاحب العيون والحدائق3، فقد أطلق نقفور لأصحابه نهب المدينة، ودخل ببطارقته إلى الجامع بخيلهم، ورجاهم، وصعد نقفور على منبرها، وبدل الآذان بضرب الناقوس، ووضعت المصاحف تحت الأقدام، ورفعت فيه الصلبان. وطلب نقفور خمرا في عين زربة، فلم يجد فيها جرعة، لطهارة من حلان يسكنها على حدّ تعبير صاحب العيون والحدائق.

_ 1 العيون والحدائق 4 ق 2/ 218، ابن تغري 3/ 332. 2 تجارب الأمم وانظر دول الإسلام 1/217، ابن تغري 3/ 132. 3 ج 4 ق 218/2-233.

وعاد ابن الزيات إلى طرسوس، وأخبر أهلها بما حدث. فخاطبه ابن بلوطة وكان يتعصب لسيف الدولة قائلاً: "هذا أمر لا يقوم به إلا ملك، مثل الملك الذي قصدنا، فلو كُفينا أمرك، صار إلى بلدنا من يحميه ". ولم يردّ أحد عليه، ولا أنكر. فقام ابن الزيات مغيظاً، وقد طوى يومين لم يطعم فيها طعاما ولا شراباً، وقال: "أنا أكفيكم نفسي، حتى يجيء ملك يقوم بالأمر لكم". واعتزل، وكتب وصية بما خلفه من مال المسلمين، وفرق دوابه على غلمانه، وأخيه، وأعطى لكل غلام نفقة، وتقدم إلى أخيه، وإلي أبي الحسن بن رشيق النسيمي، أن يطوفوا ليلتهم بالبلد، ودخل بيتاً على نهر بردان، وقد أدركه الليل، وأغلقه عليه، وتهيأ للصلاة، وتطيّب، وقام يصلي ليله، ويدعو، ويستغفر، ولما هدأت العيون، نزل إلى النهر، فرمى نفسه فيه، وعليه سلاحه، فغاص في الماء، ولم يقف أحد على ما فعله، إلى أن رأت امرأة عمامته على رأس الماء، فأنذرت بذلك، فغاصوا، فأخرجوه، وانقلبت طرسوس، ووجدوه على حاله لم يتغير منه شيء، ولا انفتح له جوف، ولا أثر السمك شيء منه، وكثر البكاء والعويل عليه، من الرجال والنساء، وصلي عليه، ودفن في مقابر المسلمي 1. وجاء رسل المصيصة يدعون ابن الزيات إليهم فوجدوه قد مات. واجتمع أهل طرسوس على تعيين أبي الحسن بن رشيق النسيمي، فأقام الدعوة لسيف الدولة، واستمر في ولاية طرسوس والثغور الشامية إلى أن استسلمت طرسوس للروم2. وفي أثناء هذه الأحداث انشغل البويهيون بحرب الحمدانين في الجزيرة الفراتية، وبالخارجين عليهم، وابتعد سيف الدولة إلى ميافارقين هرباً من حلب التي تعرضت لهجمات الروم، واتهم كافور الإخشيدي بالتهاون في أمر الثغور3. وأرسل أهل طرسوس الوفود إلى مصر، والعراق، وبقية بلدان العالم الإسلامي، يحملون الاستغاثة، وعاد اغلب الرسل دون الحصول على مساعدة تذكر من الجهات الرسمية. وتنادى الناس للجهاد، ووصل المطوعة إلى طرسوس. ولكن الأمر زاد سوءاً بانتشار الوباء والغلاء في طرسوس وبقية الثغور الشامية، حتى اضطر الناس إلى أكل دوابهم، وأكل الميتة4 وراسل أهل بغراس الدمستق، وبذلوا له

_ 1 هذا الوصف لصعب العيون والحدائق ج 4 ق 2/218-223. وانظر تجارب الأمم 2/191، والكامل 7/ 2-3. 2 العيون والحدائق ص 223. 3 الدر المنتخب في تاريخ مملكة حلب ص 183. 4 زبدة الحلب 1/ 142، تاريخ يحي بن سعيد ص 121- 122، البداية والنهاية 11/ 255، الكامل في التاريخ 7/13

الأموال، فأقرهم، وتركهم1. وتوجه الروم في مائتي ألف إلى حلب. وفيهم ثلاثون ألفاً بالجواشن، وثلاثون ألفاً للهدم، وإصلاح الطرق من الثلج، وتمكن الروم من دخولها، وفر سيف الدولة إلى ميافارقين فقد كان قليل الصبر2. ولم ينجُ إلا قلعه حلب، وبقي فيها الروم تسعة أيام، عاثوا فيها فساداً، وقتلوا حتى كلّوا، وملّوا، وأحرقوا المساجد، وقتلوا جميع أسرى المسلمين، وقدر عدد القتلى بمائة وخمسين ألفاً بحلب3 واستنجد سيف بأهل الشام، فسار إليه جيش من دمشق على رأسه ظالم بن السلال العقيلي واليها من جهة الدولة الإخشيدية4، كما وصل إلى طرسوس كثير من المجاهدين. فانسحب الروم من حلب. وسيّر سيف حاجبه في جيش من أهل طرسوس إلى بلاد الروم، فحققوا بعض لانتصارات5. وضعف أمر سيف الدولة بعد كائنة حلب، وأصيب بفالج عام 352 هـ في يده، ورجله6. ولكن أهل طرسوس تابعوا الجهاد، فدخلوا بلاد الروم غازين مرة أخرى، كما دخلها نجا غلام سيف الدولة من درب آخر، وأوغل أهل طرسوس في غزوهم حتى وصلوا إلى قونية، وعادوا7. واضطرب أمر بني حمدان، بسبب خلافات هبة الله بن ناصر الدولة بن حمدان مع عمه سيف الدولة8. وكان الروم يرقبون ذلك فرحين، وهدفهم إضعاف طرسوس واستنزافها، فقاموا بحملات مكثفة على ما تبقى من الثغور الشامية، على رأسهم نقفور نفسه، الذي عسكر على مقربة من إذنة. فخرج أهلِ طرسوس لمساعدة أهلها عام 353 هـ، وكانت كارثة فقد قتل من المسلمين خمسة عشر ألفا، وأقام نقفور خمسة عشر يوماً في بلاد الإسلام، لم يقصده أحد لقتاله. وعاد لغلاء الأسعار، وقلة الأقوات. بعد أن أرسل الدمستق إلى أهل المصيصة، وإذنة، وطرسوس قائلا: "إني منصرف عنكم، لا لعجز ولكن لضيق العلوفة، وشدة الغلاء، وأنا عائد إليكم، فمن انتقل منكم نجا، ومن وجدته بعد

_ 1 الكامل 7/3. 2 البداية والنهاية 11/ 239، ابن تغري 3/ 332. 3 ابن تغري 3/332، دول الإسلام 1/217، العبر 2/87. 4 زبدة الحلب 391. 5 الكامل 7/ 705، البداية 11/ 241، ابن تغري 3/ 335- 336. 6 ابن تغري 3/ 335. 7 الكامل 7/ 7، المنتظم لابن الجوزي حوادث 352 هـ. 8 الكامل 7/ 7.

عودي قتلته". ففرّ من أذنة أكثر من خمسين ألفاً من المسلمين، في حين أظهر أهل طرسوس من الشجاعة وشدة البلاء الشيء الكثير، وأسروا بطريقاً كبيراً من بطارقة الروم1. وبني نقفور مدينة قيسارية، وعسكر فيها، ليقرب من بلاد الإسلام2، وقد عزم على أن يستحوذ على البلاد الإسلامية بعد أن طمع فيها لفساد حكامها، وفساد عقائدهم في الصحابة3. وأدرك أهل المصيصة وطرسوس عجز البلاد الإسلامية، عن نجدتهم. فأرسلوا إلى نقفور، يبذلون له أتاوة، ويطلبون منه أن ينفذ إليهم بعض أصحابه، يقيم عندهم، ولكنه أدرك عجزهم، واشتداد الغلاء، وقد أكلوا السباع والميتة، وفتك فيهم الوباء، فكان يموت في طرسوس كل يوم نحو ثلاثمائة نفس، فأحضر نقفور الرسول، وأحرق الكتاب على رأسه، واحترقت لحيته، وقال لهم: "أنتم كالحية في الشتاء تخدر، وتذبل، حتى تكاد تموت، فإن أخذها إنسان، وأحسن إليها، وأدفأها، انقضّت ونهشته"4. وفي ظل هذه الأوضاع المحزنة توجه نقفور بجيوشه الجرارة عام 353 هـ، فاحتل إذنة بسهولة، وكان قد هجرها أهلها. ودخل المصيصة عنوة في 13 رجب بعد حصار طويل، ووضع السيف في أهلها، فقتل منهم مقتلة عظيمة، ثم رفع السيف ونقل كل من بها إلى بلد الروم، وكانوا نحو مائتي ألف إنسان5. واستولى بعد ذلك على كَفَرْبَيّا، وأسر كثيرا من المسلمين. وكَفَرْبَيّا مدينة بإزاء المصيصة على شاطئ جيحان6. وجاء دور طرسوس آخر معقل من معاقل الثغور الشامية، وقد نهكتها الحروب، وملاحم الجهاد، وتوجه إليها نقفور بقواته الهائلة، ولما وصل إلى أسوارها، أمر بأن يُساق من أسر من أهل المصيصة وكفربيا أمام أهل طرسوس الذين كانوا ينظرون من فوق الأسوار، وأمر بضرب أعناق مائة من أعيان المدينتن، بهدف إضعاف معنويات أهل طرسوس فكان أن أخرج أهل طرسوس أسرى الروم الذين عندهم، وضربوا أعناقهم على باب المدينة7.

_ 1 الكامل 7/9-11، البداية 11/253، زبدة الحلب 1/ 141 ابن تغري 3/337، تاريخ يحي بن سعيد ص 122. 2 مسكويه- تجارب الأمم 2/ 210، السيوطي- تاريخ الخلفاء ص ا 40. 3 البداية 11/253. 4 البداية 11/ 255، الكامل 7/13. 5 البداية 11/ 255، الكامل 7/ 14، تجارب الأمم 208- 210. 6 ياقوت- معجم البلدان 4/468. 7 تجارب الأمم 2/ 211، تاريخ يحي بن سعيد 123.

واشتد حصار الروم لطرسوس، ولم يتحرك أحد من المسلمين لإنقاذها، وكانت تعاني من قلة الأقوات، ومن الغلاء، وانتشار الوباء، فأسقط في أيدي أهلها، وطلبوا من نقفور الأمان، وعرضوا رفع الحصار، مقابل ثلاثمائة ألف دينار، وإطلاق ما عندهم من الأسرى. وأبى نقفور، وخّيرهم بين الخروج من المدينة بالأمان، أو البقاء فيها مع الدخول في طاعة الروم، وتخريب أسوار المدينة1. واستمرت المفاوضات إلى أن تم الاتفاق على تسليم المدينة للروم بالأمان لأهلها، على أن من أراد أن يخرج من المدينة فله أن يحمل من ماله، ورحله، ما يطيق حمله. وأن من أراد البقاء على الذمة، أو الجزية، أو النصرانية، فله ذلك أيضاً. واشترط نقفور تخريب الجامع والمساجد. ودخل نقفور وعامة عسكره طرسوس في منتصف شهر شعبان عام 354 هـ، فأخذ كل واحد من الروم دار رجل من المسلمين بما فيها، ثم يتوكل ببابها، ولا يطلق لصاحبها إلا حمل الخفّ، فإن رآه قد تجاوز منعه، حتى إذا خرج منها صاحبها دخلها النصراني، فاحتوى على ما فيها. ونصب نقفور علمين، علم يشير إلى الإسلام، وعلم يشير إلى النصرانية، وطلب من أهل المدينة أن من أراد الخروج إلى بلاد الإسلام، فليقف تحت العلم الأول، ومن اختار البقاء تحت حكم الروم فليقف تحت الثاني. وقد قدر عدد الذين خرجوا بمائة ألف ما بين رجل وامرأة وصبي. وحدث أثناء الخروج من المواقف المحزنة الكثير. فقد تقاعد بالمسلمين أمهات أولادهم لما رأين أهاليهن، وقالت: أنا الآن حرّة، لا حاجة لي في صحبتك، فمنهن من رمت بولدها على أبيه، ومنهن من منعت الأب من ولده، فنشأ نصرانيا. فكان الإنسان يجيء إلى عسكر الروم، فيودع ولده، ويبكي، ويصرخ، وينصرف على أقبح صورة2. وقام نقفور بإحراق المصاحف، وتخريب المساجد، وأخذ من خزائن السلاح ما لم يسمع بمثله، مما كان جُمع من أيام بني أمية إلى هذه الغاية. وصعد نقفور منبر المدينة وخاطب من حوله: "أين أنا؟ " فقالوا: "على منبر طرسوس". فقال: "لا، ولكنني على منبر بيت المقدس، وهذه كانت تمنعكم من تلك"3. وأمر بنقل أبواب مدينة طرسوس إلى القسطنطينية، كما أمر بنبش قبر المأمون، فأخذ سلاحه، وأعاد القبر كما كان. وجعل المسجد الجامع اصطبلا لدوابه، ثم أحرق البلد.

_ 1 تجارب الأمم 2/ 213. 2 ياقوت- معجم البلدان 4/ 28، الكامل 7/ 13- 4 1. 3 زبدة الحلب ص 133.

كل ذلك يُشير إلى الروح الصليبية التي كانت تحرّك نقفور، وهذا وسيف الدولة حي يرزق بميافارقين، والملوك من المسلمين كل واحد مشغول بمحاربة جاره من المسلمين، وعطّلوا فرض الجهاد كما قال ياقوت1 وابن كثير2. ولم تغب أهمية طرسوس عن نقفور، فعزم على المقام بها وعمرها، ليكون أقرب إلى بلاد المسلمين ثم بدا له فعاد إلى عاصمته القسطنطينية3. وبقيت طرسوس قاعدة للروم للغارة على بلاد الإسلام براً وبحراً. ولما سقطت طرسوس اضطربت بلاد الشام، وقام أهل أنطاكيا بطرد نائب سيف الدولة، وعينوا مكانه رشيقا النسيمي الذي خرج من طرسوس. وأعلنوا أنه لا مقام لهم بعد طرسوس. فقام الأمير رشيق بمكاتبة الروم، ودفع لهم 400 ألف دينار في السنة. واستمرت أنطاكيا تعاني المأساة إلى أن سقطت أيضا في كارثة إسلامية أخرى عام 359 هـ بيد الروم4. وكذلك سقطت في العام نفسه ملازكرد في آسيا الصغرى. وخاف المسلمون الروم في أقطار البلاد، وأصبحت كلها سائبة، لا تمتنع عليهم يقصدون أيها شاءوا5. ومن أثر سقوط طرسوس أيضا أن قوي أمر أبي عبد الله بن الداعي ببلاد الديلم. وكتب إلى الآفاق حتى إلى بغداد، يدعو إلى الجهاد في سبيل الله لمن سبَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم6. فوجدت دعوته صدىً. وبسقوط طرسوس انطوت صفحة رائعة من صفحات الجهاد الإسلامي في آسيا الصغرى، وبقيت طرسوس بيد الروم، إلى أن عادت إلى تبعية البلاد الإسلامية علي يد مليح بن ليون الأرمني عام 568 هـ الذي خدم نور الدين زنكي7. ثم أخذت وضعها الإسلامي الصحيح علي يد العثمانيين، الذين أعادوا المدّ الإسلامي إلى بلاد الأناضول. وأصبحت آسيا الصغرى على أيديهم من أهم بلاد الإسلام.

_ 1 معجم البلدان 4/ 29. 2 البداية والنهاية 11/ 255. 3 الكامل 7/13-14، البداية 11/ 255. 4 الكامل 7/ 36، 0 2. تجارب الأمم 2/212. 5 الكامل 7/ 37. 6 البداية 11/ 260. 7 الكامل 9/ 119.

طرسوس بلد العلم والرباط:

طرسوس بلد العلم والرباط: كانت طرسوس كسائر الأمصار الإسلامية تعج بدور العلم التي لها صلة قوية بالجهاد، حيث اتخذ بعض العلماء داره الخاصة مكاناً للتعليم، وقدم إليها عدد من التابعين، واستوطنوها منذ تأسيسها، وحدّثوا فيها، وشاركوا في الرباط، والجهاد، وسمع عليهم عدد من أهل طرسوس، ورووا عنهم، ثم تناقلته الأجيال. ورحل إليها عدد من العلماء وطلاب الحديث من شتى أنحاء العالم الإسلامي لسماع الحديث من مشايخها، أو نقله إلى طلابها. وانتقل بعض علمائها إلى بغداد، أو دمشق أو غيرهما من أمصار العالم الإسلامي. وكان الإمام أحمد بن حنبل يخرج ماشياً إلى طرسوس، وشارك في الرباط والجهاد1. ومشى إليها أبو حاتم الرازي الحنظلي الغطفاني في طلب الحديث2. وكان يحدث بها محمد بن سعيد- أبو بكر البغدادي3، ومحمد بن عبد الله القطان رحل من بغداد، كان أحمد بن حنبل يكرمه، ومات بطرسوس4. ومحمد بن عبد الله أبو بكر المقرئ البغدادي، سكن طرسوس، ثم قدم إلى دمشق عام 340 هـ، وحدث بها5. ووردها النسائي أحمد بن شعيب الخراساني صاحب السنن وعبد الله بن أحمد بن حنبل وكيلجة وهو محمد بن صالح البغدادي أبو بكر الأنماطي6. وانتقل زهير بن محمد بن قمير- أبو محمد المروزى- من بغداد إلى طرسوس فرابط بها إلى أن مات عام 258 هـ7. ووردها الأصم- محمد بن يعقوب بن يوسف، وسمع بها الحديث من أبي أمية الطرسوسي8. وسكنها المحدث محمد بن إبراهيم بن أمية الطرسوسي9 ونسب إليها. وابن الخشاب- أبو الفرج أحمد بن القاسم البغدادي، وكان قد حدث بدمشق وغيرها10 وسكنها محمد بن العباس أحد المحدثين، وقد حدّث ببغداد11.

_ 1 سير أعلام النبلاء 11/210، 211، 311 2 نفسه 13/255. 3 تاريخ بغداد 5/ 311. 4 نفسه 5/416. 5 نفسه 5/452 6 سير أعلام النبلاء 14/ 130. 7 سير أعلام النبلاء 12/ 361 تاريخ بغداد 8/ 485، 486. 8 نفسه 15/456. 9 نفسه 17/ 415، 13/ 91، 92، 1/ 395، 396، ياقوت- معجم البلدان 4/ 29 10 نفسه 16/151، 156 11 تاريخ بغداد 12/ 590.

وأبو ثوبة- الربيع بن نافع الحلبي نزيلها1. وأبو معاوية الأسود وقد حج من طرسوس2. ومن علمائها المشاهر: إبراهيم بن محمد بن الصباح الطرسوسي الذي سمع أبا عبد الله الصيدلاني البغدادي3. كما توفي فيها عباد بن موسى الختلي4، ونزلها أبو القاسم بن محمد الكرماني5 وقدمها عمر بن محمد بن أبي خيثمة للغزاة، وحدث بها6، وأبو الآذان عمر بن إبراهيم7 وقدمها يحي بن عبد الباقي الثغري- أبو القاسم- من أهل أذنة. وكان قد قدم بغداد وحدث بها. وتوفي بطرسوس عام 293 هـ8. ونزلها إبراهيم بن الحارث من نسل عبادة بن الصامت رضي الله عنه- أبو اسحق العبادي- وكتب عنه تلاميذه بها، وبأنطاكيا9. وحدث بها أحمد بن محمد ين الحجاج المروزي10 ومحمد بن مصعب القرقساني11، وعلي بن إسماعيل الذي امتدح قمع المتوكل لفتنة خلق القرآن12، وسعيد بن مسلم13. وسكنها حامد بن أحمد الزيدي [أبو أحمد المروزي] ورابط بها وكان له عناية بحديث زيد بن أبي أنيسة، وجمعه، وطلبه، فنسب إليه. ثم قدم بغداد وحدّث بها14. وعاش فيها محمد بن أحمد بن موسى [أبو بكر العصفري] ، وهو بغدادي سكن طرسوس وحدّث بها15. ونزلها محمد بن مسعود بن يوسف أبو جعفر النيسابوري [ابن العجمي] ورابط في طرسوس، وتوفي بها16، وأحمد بن الصقر [أبو سعيد البصري] كان أصله من طرسوس،

_ 1 سير أعلام النبلاء10/653، 654. 2 نفسحه 9/ 79. 3 تاريخ بغداد 3/ 26. 4 نفسه 11/108 5 سير أعلام النبلاء 13/ 245. 6 تاريخ بغداد 11/235. 7 نفسه 11/215 8 نفسه 4 1/228. 9 نفسه 6/55. 10 نفسه 6/214، 7/319. 11 نفسه 7/170. 12 تاريخ بغداد 7/ 170. 13 نفسه 9/165. 14 تاريخ بغداد 8/ 171، سير أعلام النبلاء5 1/369. 15 نفسه 1/375. 16 نفسه 3/310، العبر 1/354.

وسكن بغداد، وحدّث بها1. وقدمها المحدّث أحمد بن محمد أبو بكر الدرهمي، وقدم منها إلى بغداد2. وتوفي بها مسلم بن أبي مسلم الجرمي، وكان ممن حدّث ببغداد3، ومحمد بن إسماعيل بن أبي سمينة البصري المحدث. وكان غزاءً من شجعان الناس4. واشتهرت طرسوس كسائر أمصار الإسلام بالربط، وكانت تتخذ ملجأ للفقراء، والزهاد، ومنازل للعلماء، والطلاب الراحلين لطلب العلم أو نشره، ومكاناً لتعليم القرآن الكريم، والحديث، والوعظ. وتخرج الدعاة والمجاهدين. وقد عجّت المدينة بالمرابطين الغزاة والصالحين، الذين وردوها محتسبين لله، وتحملوا عبء الجهاد، وحملوا شرفه إلى جانب أهل طرسوس المرابطين. اذكر منهم إلى جانب من ذكرنا: ابن القاصّ الطبري- أبو العباس أحمد بن أبي أحمد، فقيه طبرستان، صنف كتباً كثيرة صغيرة الحجم، كثيرة الفائدة. وكان يعظ الناس، وضرب بنفسه المثل، فسافر إلى طرسوس، وأصبح فقيهها، وتوفي مرابطاً بها. وكان يملي الحديث على تلاميذه، بالمسجد الجامع5. ووردها إبراهيم بن أدهم الزاهد المعروف6. وعبد الله بن المبارك الذي كان كثير الاختلاف إلى طرسوس7 وأظهر فيها من ضروب الشجاعة في الجهاد، وأملى عام 177 هـ قصيدته المشهورة بطرسوس على محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة، وأنفذها معه إلى الفضيل بن عياض وفيها: ياعابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضّب أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب والقرآن أتانا من مقال نبيّنا قول صحيح صادق لا يكذب

_ 1 تاريخ بغداد 4/206 2 نفسه 4/426 3 نفسه 13/100 4 نفسه 2/ 4، سير أعلام النبلاء10/ 694. 5 سير أعلام النبلاء 15/372، تاريخ بغداد 1/353، ابن خلكان ا/ 68، 8/7 30. 6 سير أعلام النبلاء 7/ 389 7 سير أعلام النبلاء 8/ 386،408، 412، تاريخ بغداد 4/ 6 1 4.

لا يستوي وغبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب1 هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب ولما وصل كتابه إلى الفضيل في الحرم المكي، قرأه وبكى، ثمّ قال: صدق أبو عبد الرحمن ونصح. والأبيات تصور حياة طرسوس المجاهدة أجمل تصوير. وسمع بعضهم ابن المبارك وهوينشد على سورطرسوس2: ومن البلاء وللبلاء علامة أن لا يرى لك عن هواك نزوع العبد عبد النفس في شهواتها والحرّ يشبع مرة ويجوع وقدم طرسوس علي بن عثام العامري الكوفي نزيل نيسابور، وخرج من نيسابور عام 225 هـ، وحج، وذهب إلى طرسوس، فأقام بها وتوفى بها مرابطاً3. وقدمها وكيع بن الجراح- أبو سفيان الرؤاسي الكوفي، وحسن أخو زيدان4. ومحمد بن أحمد بن الريحاني البغدادي، وسكن طرسوس5. وسماك بن عبد الصمد الأنصاري في عام 282 هـ6. ونزلها للغزو أحمد بن سعيد أبو الحسن الصولي ومات بها7. وأحمد بن محمد الضراب الدينوري8، والمحدث أحمد بن محمد بن أبي عثمان الغازي، خرج إليها غازيا ومات بها9 وأبو الخير التيناتي الأقطع- ويقال اسمه حماد، سكن تينات من أعمال حلب، وسكن جبل لبنان مدة، ثم سكن ثغر طرسوس وجاهد هناك10. وابن الحيري الحافظ أبوسعيد أحمد بن أبي بكر النيسابوري الشهيد، استشهد بطرسوس عام 353 هـ، وله خمس وستون سنة11.

_ 1 يشر إلى الحديث الذي أخرجه أحمد 2/ 256، 242، 441، والنسائي، والحاكم، والبيهقي "لا يجتمع غبار في سبيل الله، ودخان جهنم في جوف عبد أبداً " "ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً" سير أعلام النبلاء- الحاشية 8/ 412. 2 سير أعلام النبلاء 8/417. 3 نفسه 10/571، العبر 1/317. 4 نفسه 9/145. 5 تاريخ بغداد 1/320. 6 تاريخ بغداد 9/217. 7 نفسه 4/172. 8 نفسه 4/427. 9 نفسه 5/23. 10 سير أعلام النبلاء 16/23. 11 نفسه 16/296.

وأحمد بن محمد بن ثابت بن النعمان الخزاعي المروزي- ابن شبويه- توفي بطرسوس1 وأبو حمزة البغدادي- محمد بن إبراهيم، وكان كثير الرباط والغزو2. وأبو بكر محمد بن الإمام ابن أبي عثمان سعيد بن إسماعيل النيسابوري الحيري. وكان من كبار الغزاة في سبيل الله، ورابط بطرسوس3. وكان الذي يذهب في الجهاد في الثغور يحظى باحترام الناس، ويكون موضع تقديرهم، وعطفهم، فاستغل بعض ضعاف النفوس ذلك، وقد سجل لنا التاريخ قصة أحد أعوان الحلاج، الذي تظاهر بالعمى، ثم أبرأه الحلاج، فضرب للناس على وتر الجهاد بالخروج إلى طرسوس، وكان ببلاد الجبل. فقال للناس: "إن من حق الله عندي، ورده جوارحي علي، أن أنفرد بالعبادة انفراداً أكثر من هذا، وأن يكون مقامي في الغزو، وقد عملت على الخروج إلى طرسوس، فمن كانت له حاجة تحمّلتها". فأخرج هذا ألف درهم. وقال: "أغز بهذه عني"، وأخرج هذا مائة دينار وقال: "أخرج بها غزاة من هناك". وأعطاه كل أحد شيئا، فاجتمع له ألوف دنانير، ودراهم. فلحق بالحلاج، وقاسمه عليها4. وقد أوردت هذا الخبر ليعرف القارئ مقدار ما كان الجهاد في طرسوس من أهمية كبيرة في قلوب المسلمين، باعتبارها الثغر المتقدم للإسلام في مواجهة الروم. وقد ذكرنا كثيراً من قادة المسلمين ومشاهيرهم وخلفائهم ممن وردها، وأضيف هنا: عمرو بن مسعدة بن سعيد بن صول الكاتب- أبو الفضل- أحد وزراء المأمون. وورد إذنة وتوفي بها عام 217 هـ5. والقاضي جعفر بن عبد الواحد- أبو عبد الله- وتوفي بطرسوس عام 258 هـ6. والقاضي أبو عبيد القاسم بن سلام، الذي كان فاضلاً في دينه، وعلمه، متفنناً في أصناف علوم الإسلام، من القراءات، والفقه، والعربية، والأخبار، وأشهر من فسّر غريب الحديث، ولي قضاء طرسوس ثماني عشرة سنة7 أثناء ولاية ثابت بن نصر بن

_ 1 نفسه 11/8 2 نفسه 13/166. 3 نفسه 15/251. 4 ابن خلكان 2/143، تاريخ بغداد 8/ 122- 123. 5 ابن خلكان 3/ 476. 6 نفسه 6/165. 7 ابن خلكان 4/ 61، 62، سير أعلام النبلاء10/ 492، 501، تاريخ بغداد 412/413.

مالك الخزاعي الذي ولي طرسوس ثماني عشرة سنة1. وولي قضاءها صالح بن أحمد بن حنبل2، وموسى بن داود الضبي الخلقاني، وتوفي بها عام 216 هـ. وكان يوصف بأنه قاضي طرسوس وعالمها3. من هذا العرض تظهر صلة طرسوس القوية بأمصار الإسلام، وتتبنّ مظاهر الاحترام والتقدير، الذي حظيت به طرسوس في قلوب المسلمين، من مختلف طبقاتهم، الحكام والوزراء، والأمراء، والعلماء، وقادة الجيوش، وأرباب الجهاد، والعامة. فكانت تظهر فيها عظمة الإسلام والمسلمين، فكان يقال: "من محاسن الإسلام يوم الجمعة ببغداد، وصلاة التراويح بمكة، ويوم العيد بطرسوس"4 إذ كانت تظهر في طرسوس الأبهة الإسلامية بأجلى معانيها، لغيظ الكفار، وإلقاء الرعب في قلويهم في العيدين، فكانت تسطع فيها الأنوار، في ليالي العيد، وتتجاوب أصوات المسلمين بالتهليل، والتكبير، وتزدحم الأنهار بالزوارق المزينة بأبهى الزينات، وتسطع من جوانبها أنوار القناديل، ويخرج الناس بأسلحتهم ودراعاتهم بدل دروعهم، وعليها يكتب: "فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم". وسقطت طرسوس، وبقيت مسيرة الإسلام بين مدّ وجزر، وفتحت صفحات أخرى من الجهاد وفي ثغور أخرى. وتبقى المسيرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ويبقى التزام المسلمين بإسلامهم هو سبب عزتهم. وبدونه تكون لهم المذلة.

_ 1 تاريخ بغداد 12/ 415. 2 نفسه 9/318 3 نفسه 1/33، سير أعلام النبلاء0 1/ 36 1. 4 انظر تاريخ بغداد 1/ 47، المدور- حضارة الإسلام في دار السلام ص 22، حسن إبراهيم- تاريخ الإسلام 2/ 435، المسالك والممالك ...

مصادر ومراجع

مصادر ومراجع ... المصادر والمراجع 1- ابن الأثير- الكامل في التاريخ- دار الكتاب العربي- بيروت ط 4/ 1403 هـ-983 1 م. 2- أحمد عبد القادر اليوسف- الأمبراطورية البيزنطية- صيدا- ببيروت 1966 م. 3- البلاذري- فتوح البلدان- دار الكتب العلمية- بيروت- 1403هـ- 1983م. 4- ابن تغري بردي- أبو المحاسن- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة- المؤسسة المصرية القاهرة/1383 هـ/1963 م. 5- حسن إبراهيم حسن- تاريخ الإسلام- مكتبة النهضة المصرية- ط/ 1964 م. 6- حسن أحمد محمود، وأحمد إبراهيم الشريف- العالم الإسلامي في العصر العباسي - دار الفكر العربي- القاهرة ط 4/ 1980 م. 7- أبو حنيفة الدينوري- الأخبار الطوال- تحقيق عبد المنعم عامر- دار إحياء الكتب القاهرة ط 1/160م. 8- ابن حوقل- مسالك الممالك- ليدن 1899. 9- الحياري- مصطفى- نهاية الثغور الشامية- بحث في مجلة مجمع اللغة العربية الأردني العدد 11/ 12. 10- ابن خرداذبة- المسالك والممالك، تحقيق دي خويه- طبع الأوفست- مكتبة المثنى ببغداد ط إبريل 1889 م. 11- الخطيب البغدادي- تاريخ بغداد- دار الكتب العلمية- بيروت- مغفل السنة. 12- ابن خلكان- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان- دار صادر- بيروت مغفل السنة 13- الذهبي- سير أعلام النبلاء- مؤسسة الرسالة ط 2 / 1402هـ- 1982 م. 14- الذهبي- العبر في خبر من غبر- دار الكتب العلمية- بيروت ط1. 1405هـ/1985م. 15- الأزدي- الشيخ أبو زكريا يزيد بن محمد- تاريخ الموصل- تحقيق دي خويه. إحياء التراث الإسلامي. القاهرة 1383 هـ/1967م. 16- الأزدي- أخبار الدول المنقطعة- تاريخ الدولة العباسية- مكتبة الدار بالمدينة المنورة 1408هـ/ 1988 م.

17- السيوطي- تاريخ الخلفاء- المكتبة التجارية- مصر. ط 1389. هـ/1969م. 18- ابن الشحنة- الدر المنتخب في تاريخ مملكة حلب- بيروت. ط2. 19580م. 19- الطبري- تاريخ الأمم والملوك- دار المعارف بمصر. ط2. 1971م. والطبعة التجارية. 20- ابن العبري- مختصر تاريخ الدول- المطبعة الكاثوليكية. بيروت. 21- ابن عبد ربه- العقد الفريد- دار الكتب العلمية- بيروت. ط1. 1404هـ/1983 م. 22- قدامة بن جعفر- الخراج وصناعة الكتابة- دار الرشيد- العراق 1981 م. 23- القزويني- آثار البلاد وأخبار العباد- دار صادر- بيروت. مهمل السنة. 24- ابن كثير- البداية والنهاية- دار الفكر العربي- الجيزة. مهمل السنة. 25- كي لسترنج- بلدان الخلافة الشرقية- ترجمة بشيرفرنسيس، وكوركيس عواد، مؤسسة الرسالة. ط2. 1405 هـ/ 1985م. 26- مجهول- العيون والحدائق في أخبار الحقائق- تحقيق نبيلة عبد المنعم داود، مطبعة الإرشاد. بغداد 1973 م. 27- المسعودي- مروج الذهب ومعادن الجوهر- دار الأندلس- بيروت ط 1. 1385هـ/1965 م. 28- المسعودي- التنبيه والإِشراف- دار التراث- بيروت 388 1 هـ/ 1968م. 29- موريس لومبارد- الجغرافيا التاريخية للعالم الإسلامي- ترجمة عبد الرحمن حميدة- دار الفكر دمشق. 1399 هـ/1979م. 30- ياقوت الحموي- معجم البلدان- دار صادر- بيروت- 1404هـ/1984م. 31- يحي بن سعيد- تاريخ- مطبعة الأباء اليسوعيين- بيروت 1905 م. 32- اليعقوبي- تاريخ- دار صادر- بيروت- 1960 م.

§1/1