طبقات النحويين واللغويين

الزبيدي، أبو بكر

ذخائر العرب 50 طبقات النحويين واللغويين لأبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي الأندلسي تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم الطبعة الثانية دار المعارف مقدمة المحقق

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المؤلف قال أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي -رحمة الله عليه-: الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلَقه وبدأ خلقَ الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، وفضَّله على سائر الحيوان، بما آتاه من حاسة العقل وبيان اللسان، ثم جبل كل أمة من الأمم على لغة أنطقهم بها، ويسرهم لها، وجعل اللسان العربيَّ أعذب الألسنة مخرجًا، وأعدلها منهجًا، وأوضحها بيانًا، وأوسعها افتنانًا، وجعل الإعراب حَلْيًا للسان، وزمامًا وفصلًا لما اختُلف فيه من معانيه. ولم تزل العرب تنطق على سجيَّتها في صدر إسلامها وماضي جاهليتها؛ حتى أظهر الله الإسلام على سائر الأديان، فدخل الناس فيه أفواجًا، وأقبلوا إليه أرسالًا، واجتمعت فيه الألسنة المتفرقة، واللغات المختلفة، ففشا الفساد في اللغة والعربية، واستبان منه في الإعراب الذي هو حَلْيها، والموضِّح لمعانيها؛ فتفطَّن لذلك مَن نافر بطباعه سوء أفهام الناطقين من دخلاء الأمم بغير المتعارَف من كلام العرب، فعظم الإشفاق من فُشُوِّ ذلك وغلَبته؛ حتى دعاهم الحذرُ من ذهاب لغتهم وفساد كلامهم، إلى أن سبَّبوا الأسباب في تقييدها لمن ضاعت عليه، وتثقيفها لمن زاغت عنه. فكان أولَ مَن أصَّل ذلك وأعمل فكره فيه، أبو الأسود ظالم بن عمرو الدُّؤليُّ، ونصر بن عاصم، وعبد الرحمن بن هُرْمز. فوضعوا للنحو أبوابًا، وأصَّلوا له أصولًا؛ فذكروا عوامل الرَّفْع والنصب والخفض والجزم، ووضعوا باب الفاعل

والمفعول والتعجب والمضاف. وكان لأبي الأسود في ذلك فضل السبق وشرف التقدم. ثم وصل ما أصَّلوه من ذلك التَّالون لهم، والآخذون عنهم؛ فكان لكل واحد منهم من الفضل بحسب ما بسط من القول، ومدَّ من القياس، وفتَق من المعاني، وأوضح من الدلائل، وبيَّن من العلل. ولم تزل الأئمة من الصحابة الراشدين ومَن تلاهم من التابعين، يحضُّون على تعلُّم العربية وحفظها، والرعاية لمعانيها؛ إذ هي من الدين بالمكان المعلوم، فبها أنزل الله كتابه المهيمن على سائر كتبه، وبها بلَّغ رسولُه -عليه السلام- وظائفَ طاعته، وشرائع أمره ونهيه. وكذلك كانوا يحضُّون على رواية الشعر الذي هو حكمة العرب في جاهليَّتها وإسلامها، وديوانها الذي أقامته مقام الكتاب لما تقدَّم من مآثرها وأيامها، فكانوا يتناشدونه في مجالسهم، ويتذاكرونه عند محافلهم. ومصداق ذلك ما حدثنا به قاسمُ بن أَصْبَغَ، قال: حدثنا عبد الله بن رَوْحٍ قال: قال المدائنيُّ: حدثنا شَبَابةُ بن سَوَّارٍ قال: حدثنا شعبةُ، عن عاصمٍ، عن أبي عثمان النَّهديِّ؛ سمعته يقول: إن كتاب عمر بن الخطاب أتاهم وهم بأَذْرَبِيجان يأمرهم بأشياء، وذكر فيه: (تعلَّموا العربية).

حدثنا أحمد بن سعيد، قال: حدثنا أبو عثمان العناقي، عن الخُشَنيِّ قال: حدثنا الرِّياشيُّ، حدثنا أبو مَعْمَر، عن عبد الوارث التَّنُّوريِّ، عن أبي مسلم قال: قال عمر بن الخطاب: (تعلَّموا العربية؛ فإنها تُشبِّب العقل، وتزيد في المروءة). ورُوي عن عمر أيضًا أنه قال: (تعلموا الفرائض والسنة واللحن، كما تتعلمون القرآن). ويُروى عن أبانَ بن عثمان أنه قال: اللحن في الرجل السَّريِّ، كالتغيير في الثوب الجديد. وقال مالك بن أنس: الإعراب حَلْي اللسان؛ فلا تمنعوا ألسنتكم حَلْيَها. وقال ابن شُبْرمة: إن الرجل ليلحن وعليه الخز الأدكن، فكأن عليه أخلاقا؛ ويعرب وعليه أخلاق، فكأن عليه الخز الأدكن.

وحدثنا قاسم بن أصبغ قال: حدثنا القاضي إسماعيل بن إسحاق قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال: حدثني أخي، عن سليمان، عن محمد بن أبي عتيق، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أن مَرْوان بن الحكم أخبره: أن عبد الرحمن بن الأسود أخبره: أن أُبيَّ بن كعب أخبره: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً". حدثنا سعيد بن فَحْلونٍ أبو عثمان قال: حدثنا أبو سعيد عبد الرحمن

ابنُ عبيدٍ البصريُّ بالقيروان، قال: سألت النضر بن طاهر -راوية مالك عندنا بالبصرة- فقلتُ له: حدثكم عبد الله بن وهب، عن أبي الزِّناد؟ فقال: يابن أخي، ما تحتاج إلى ابن وهب! حدثنا ابن أبي الزناد، عن هشام بن عُرْوة، عن عائشة، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بنى لحسان بن ثابت منبرًا في المسجد ينشد عليه الشعر. وحدثناه أبو بكر القرشي، عن أبي عبد الرحمن النسائي، في إسنادٍ ذكره. حدثنا قاسمٌ قال: حدثنا ابن أبي خيثمة قال: حدثنا أبو نُعَيم قال: حدثنا عبد الله بن عامر الأسلمي، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد بن المسيِّب قال: بينما حسان بن ثابت ينشد الشعر في مسجد

رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء عمر فقال: يا حسان، تنشد الشعر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال: أنشدتُ فيه وفيه مَن هو خيرٌ منك. وجدتُ بخطِّ أبي رحمه الله: حدثنا العباس بن موسى المكِّيُّ بالمسجد الحرام، قال: حدثنا علي بن حرب قال: حدثنا ابن فُضَيل، عن الوليد بن جميع، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: لم يكن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمتماوتين ولا متحزقين؛ كانوا يتجالسون في مجالسهم، ويتناشدون الأشعار، ويتذاكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد واحد منهم عن شيء من أمر دينه دارت حماليق عينيه كأنه مجنون. حدثنا أحمد بن سعيد قال: حدثنا الأعناقيُّ قال: حدثنا الخُشَني قال: حدثنا نصر بن علي قال: حدثنا الأصمعي، عن أبي الزِّناد قال: قيل لسعيد بن المسيب: إن أناسًا يكرهون إنشاد الشعر. فقال: نَسَكُوا نُسُكًا أعجميًّا. وحدثنا قال: حدثنا أحمد بن خالد قال: حدثنا مَرْوان الفَخَّار قال: حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا محمد بن جعفرٍ ويحيى قالا:

حدثنا شُعبةُ قال: سمعت قَتَادة يحدث عن مُطرِّف بن الشِّخِّير قال: صحبت عمران بن الحُصَين من الكوفة إلى البَصْرة، فما أتى علينا يومٌ إلا أنشدَنا فيه شعرًا. قال محمد: وإنَّ أمير المؤمنين الحَكَم المستنصر بالله -رضي الله عنه- لما اختصه الله به، ومنحه الفضيلة فيه؛ من العناية بضروب العلوم، والإحاطة بصنوف الفنون، أمرني بتأليف كتاب يشتمل على ذكر من سلف مَن النحويين واللغويين في صدر الإسلام، ثم مَن تلاهم مِن بعدُ إلى هَلُمَّ جَرًّا، إلى زماننا هذا، وأن أُطبِّقهم على أزمانهم وبلادهم؛ بحسب مذاهبهم في العلم ومراتبهم، وأذكر مع ذلك موالدهم وأسنانهم ومدد أعمارهم وتاريخ وفاتهم على قدر الإمكان في ذلك، وبحسب الإدراك له، وأجلُب جملة من نتف أخبارهم، وتاريخ وفاتهم، والحكايات المتضمنة لفضائلهم، المشتملة على محاسنهم؛ ليكون ذلك شكرًا لجميل سعيهم، وحميد مقامهم؛ إذ كان ذلك من حقِّهم على مَن أَدَّوْا إليه علمَهم، وأعملوا في صلاحه جُهْدهم. وكان في تقييد أخبارهم، وتخليد مآثرهم، ما يُبقِي لهم لسانَ الصدق الذي هو بدل البقاء والخُلْد؛ وقد قال -عز وجل- حكاية عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ}. ثم قال الأول: فَأَثنُوا علينا لا أبا لأَبيكمُ ... بإحساننا إنَّ الثَّناءَ هو الخلدُ

وإن كان قد جرى فيما جلبْناه حكايات يسيرة، فيما نُسِب إلى بعضِهم من مذهب نُيِزَ به، أو خُلُقٍ عيب عليه. قال محمد: فألَّفتُ هذا الكتاب على الوجه الذي أمرني به أمير المؤمنين أعزه الله، وأقمته على الشكل الذي حده، وأمدني -أبقاه الله- في ذلك بعنايته وعلمه، وأوسعني من روايته وحفظه، إذ هو البحر الذي لا تُعبَر أواذيه، ولا تُدرَك سواحله، ولا يُنزَح غَمْره، ولا تنضِب مادَّته. ونسأل الله بألطف الوسائل الزاكية لديه أن يُوزِعنا -معشر أهل العلم والنظر خاصة، وجماعة المسلمين عامة- شكر ما أنعم به علينا، وأعظم فيه المنَّة لدينا، من بركة أيامه، وسعد خلافته، ويمن دولته التي هي نظام الدنيا والدين، وعصمة الإسلام والمسلمين، وحياة العلم وشرف أهله، وزينة الأدب ونفاق سوقه، وأن يطيل فيها عمره، ويزيد نصره؛ ويظهر فَلْجَه، ويزيده من أفضل عوائده عنده؛ إنه سميع قريب. وصلى الله على محمد خاتم النبيين خاصة، وعلى جماعة النبيين والمرسلين عامة. * * * قال محمد: نبدأ بذكر النحويين على طبقاتهم، واللغويين بعدهم، ونُقدِّم البصريين من كلتا الطبقتين؛ لتقدمهم في علم العربية، وسبقهم إلى التاليف فيها.

النحويون البصريون

النحويون البصريون

الطبقة الأولى

الطبقة الأولى من النحويين البصريين 1 - أَبُو الأَسودِ الدُّؤَلِيُّ هو أبو الأسود ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل بن يَعمر بن حُلَيْس بن نُفاثة بن عدي بن الدِّيل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة. وكان علَوِيَّ الرأي، وكان رجل أهل البصرة. وهو أول من اسس العربية، ونهج سُبُلَها، ووضع قياسها؛ وذلك حين اضطرب كلام العرب، وصار سَراة الناس ووجوههم يلحنون، فوضع باب الفاعل، والمفعول به، والمضاف، وحروف النصب والرفع والجر والجزم. قال أبو علي إسماعيل بن القاسم بن عَيْذون بن هارون القالي، ثم البغدادي: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن السَّري الزَّجَّاج النحوي قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الأزدي قال: أوَّلُ مَن وضع العربية ونقط المصاحف أبو الأسود ظالم بن عمرو. وقال أبو العباس محمد بن يزيد: سئل أبو الأسود الدؤلي عمن فتح له الطريق إلى الوضع في النحو وأرشده إليه، فقال: تلقيتُه من عليِّ بن أبي طالبٍ رحمه الله. وفي حديث آخر قال: ألقى إليَّ عليٌّ أصولًا احتذيتُ عليها. ورُوي أن الذي أوجب عليه الوضعَ في النحو ابنته قعدت معه في يوم قائظٍ شديد الحرِّ، فأرادت التعجب من شدة الحر فقالت: (ما أشدُّ الحرِّ)! فقال أبوها: القيظ، وهو ما نحن فيه يا بنية. جوابًا عن كلامها لأنه استفهام. فتحيَّرت وظهر لها خطؤها، فعلم أبو الأسود أنها أرادت التعجب، فقال لها: قولي يا بنية: ما أشدَّ الحرَّ! فعمل باب التعجب، وباب الفاعل، والمفعول به

وغيرها من الأبواب. وذكر ابن أبي سعد، عن عمر بن شبَّة، عن أبي بكر بن عيَّاش، عن عاصم بن أبي النَّجود قال: أولُ مَن وضع العربية أبو الأسود الدؤلي، جاء إلى زياد بالبصرة، فقال: إني أرى العرب قد خالطت هذه الأعاجم، وتغيرت ألسنتهم، أفتأذن لي أن أضع للعرب كلامًا يقيمون به كلامهم؟ قال: لا. فجاء رجل إلى زياد، فقال: أصلح الله الأمير، توفي أبانا وترك بنون. فقال زياد: تُوفي أبانا وترك بنون!! ادع لي أبا الأسود. فقال: ضع للناس الذي كنتُ نهيتُك أن تضع لهم. وقال أبو الأسود: إني أجد للحن غَمَرًا كغَمَر اللحم. ابن أبي سعد قال: حدثنا علي بن محمد الهاشمي قال: سمعت أبي يذكر، قال: كان بدء ما وضع أبو الأسود الدؤلي النحو أنه مر به سعد -وكان رجلًا فارسيًّا قدم البصرة مع أهله، وهو يقود فرسه- فقال: مالك يا سعد؟ ألا تركب؟ فقال: (فرسي ضالع)، فضحك من حضره. قال أبو الأسود: هؤلاء الموالي قد رغبوا في الإسلام ودخلوا فيه، وصاروا لنا إخوة، فلو علمناهم الكلام! فوضع باب الفاعل والمفعول، لم يزد عليه. قال أبي: فزاد في ذلك الكتاب رجل من بني ليث أبوابًا، ثم نظر فإذا في كلام العرب ما لا يدخل فيه فأقصر عنه، فلما كان عيسى بن عمر قال: أرى أن اضع الكتاب على الأكثر، وأسمِّي الأخرى لغات. فهو أول من بلغ غايته في كتاب النحو.

ويقال: وضع عيسى بن عمر في النحو كتابين: سمى أحدهما "الجامع"، والآخر "المكمل"، فقال الخليل بن أحمد: بطل النحو جميعا كلُّه ... غيرَ ما أحدث عيسى بن عمرْ ذاك "إكمال" وهذا "جامع" ... فهما للناس شمس وقمرْ ورُوي أن أبا الأسود كتب إلى علي بن أبي طالب رحمه الله: أما بعد؛ فإن الله جعلك مُؤتَمَنًا وراعيًا مسؤولًا، وقد بلوتُك -رحمك الله- فوجدتُك عظيمَ الأمانة، ناصحًا للرعية، توفِّر فيئَهم، وتُنزِّه نفسك عن دنياهم، فلا تأكل أموالهم، ولا ترتشي في أحكامهم. وإن ابن عمك ابن عباس قد أكل ما تحت يديه بغير علمك، فلم يسعني كتمانك ذلك، فانظر -رحمك الله- فيما هناك، وتقدَّم إليَّ فيما أحببتَ أتبعْه إن شاء الله. فكتب إليه عليٌّ رحمه الله: أما بعد؛ فإنك ناصح للإمام والأمة، وأنت ممن وَالَى أهل الحق، وبارز أهل الباطل والجوْر. وقد كتبتُ إلى صاحبك فيما كتبتَ فيه إليَّ من أمره، ولم أعلِمْه كتابَك إليَّ، فلا تَدَعْ إعلامي بما يكون بحضرتك مما النظر فيه للأمة صلاح، فإنك بذلك جدير، وهو حق واجب عليك إن شاء الله. وقعد إلى أبي الأسود غلام، فقال له أبو الأسود: ما فعل أبوك؟ فقال: أخذته الحمَّى، ففضختْه فضخًا، وطبخته طبخًا، وفنخته فنخًا، فتركته فرخًا. قال: فما فعلت امرأته التي كانت تُشارُّه، وتُجارُّه، وتُهارُّه، وتُضارُّه، وتُزارُّه؟

قال: طلَّقها، فتزوجت غيره، فرضِيَت وحَظِيَت وبَظِيَتْ. قال أبو الأسود: وما "بَظِيَتْ" يا بني؟ قال الغلام: حرف من اللغة لم يبلغك. قال: يا بني، ما لم يبلغ عمَّك؛ فاستره كما تستر الهرة خُرأها. حدثنا أحمد، حدثنا ابن خالد، حدثنا مروان، حدثنا أبو حاتم، حدثنا الأصمعي، حدثنا عيسى بن عمر قال: قال رجل لأبي الأسود الدؤلي ومعه بعير يبيعه: هلمَّ أقاربْك. فقال: إن لم تقاربْني باعدتك. فقال: أعطِيتُ به كذا وكذا، وهو لك بكذا وكذا. فقال: ما تزال تحدِّث عن خيرٍ قد فات! قال الأصمعي: قال أبو الأسود: ليس للسائل الملحف خيرٌ من المنع الجامس. قال أبو حاتم: يريد الجامد. يقال: أصبح الماء جامسًا، وكذلك السمن. وروى حماد بن سلمة، عن داود بن أبي هند، عن أبي حرب بن أبي الأسود، أن ابن عباس استخلف أبا الأسود على البصرة، والرواة والنُّسَّاب وأصحاب السِّيَر والتاريخ على هذا. وقيل: إنه خرج مع أصحابه إلى الصيد، فلما جلسوا للطعام، جاء أعرابي فقال: السلام عليكم. فقال أبو الاسود: كلمة مقولة! قال الأعرابي: أدخلُ؟ فقال أبو الأسود: وراءَك أوسعُ لك! فقال الأعرابي: إن الرَّمضاء قد أحرقت

رجليَّ. فقال أبو الأسود: بُلْ عليهما. فقال: هل عندك شيء تطعمنيه؟ فقال أبو الأسود: نأكل ونُطعم العيال، فإن فضل شيء فأنت أحقُّ به من الكلب! قال: ما رأيتُ ألأمَ منك. قال أبو الأسود: بلى! ولكنَّك نسيتَ. وبلغني أن أبا الأسود انتبه ليلة ودابَّته تقضم شعيرها. فقال: لا أراكِ تسْرين وأنا نائم. فلما أصبح باعها. حدثنا أحمد بن سعيد قال: حدثنا الطحاوي قال: حدثنا يونس قال: حدثنا أحمد بن الغمر الدمشقي قال: دخل أبو الأسود الدؤلي على الجارود في أخلاق له، فقال له: ما هذا؟ قال: أصلح الله الأمير! رُبَّ مملولٍ لا يُستطاع فراقه! ففطن له الجارود، فبعث إليه بثياب ونفقة، فأنشأ أبو الأسود يقول: كَسَاك ولم نَسْتكسِه فحمِدتَه ... أَخ لك يُعطيك الجزيل وناصرُ وإنَّ أحقَّ الناس -إن كنتَ حامدًا- ... بحمدك مَن أعطاك والعِرض وافرُ حدثنا أحمد بن سعيد قال: حدثنا أحمد بن خالد قال: حدثنا مروان الفخار قال: حدثنا أبو حاتم قال: حدثنا الأصمعي قال: سمعت عيسى بن عمر ينشد قول أبي الاسود: ذكرتُ ابنَ عبَّاسٍ بباب ابنِ عامرٍ ... وما مرَّ من عيشي ذكرت وما فَضَلْ

2 - عبد الرحمن بن هرمز

أميريْن كانا آخيًا لي كلاهما ... فكلًّا جزاه الله عنِّي بما فَعَلْ فإن كان خيرًا كان خيرًا جزاؤه ... وإن كان شرًّا كان شرًّا بما عَمِلْ وتُوفِّي أبو الأسود سنة تسع وستين في طاعون الجارف، وهو ابن خمس وثمانين سنة. 2 - عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزٍ ابن أبي سعد قال: حدثنا أحمد بن سعد بن إبراهيم الزهري قال: حدثنا يحيى بن أبي بكير قال: حدثنا عبد الله بن لهيعة، عن أبي النضر قال: كان عبد الرحمن بن هرمز من أول من وضع العربية، وكان من أعلم الناس بالنحو وأنساب قريش. قال محمد: وابنُ هُرْمز مدنيٌّ، فذكرناه هاهنا لتقدمه. ويُروى أن مالكًا اختلف إلى ابن هرمز عدة سنين في علم ما لم يبثّه في الناس، يَرَوْن أن ذلك من علم أصول الدين، وما يردُّ به مقالة أهل الزيغ والضلالة.

الطبقة الثانية

الطبقة الثانية 3 - نَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ اللَّيْثِيُّ ابن أبي سعد: حدثنا خَلَف بن هشام البزَّاز قال: حدثنا محبوب البصري، عن خالد الحذاء قال: سألت نصر بن عاصم -وهو أول من وضع العربية-: كيف تقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ}؟ فلم يُنوِّن. فأخبرتُه أن عروة ينوِّن، فقال: بئسما قال، وهو للبئس أهل. فأخبرتُ عبدَ الله بن أبي إسحاق بقول نصر بن عاصمٍ، فما زال يقرأ بها حتى مات. وقال عمرو بن دينار: اجتمعتُ أنا والزهري ونصر بن عاصم، فتكلَّم نصرٌ، فقال الزهري: إنه لَيُفلِّق بالعربية تفليقًا. وذكر ابن سلَّام أن نصر بن عاصم أخذ عن يحيى بن يَعْمَر. 4 - يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ هو يحيى بن يَعمُر، رجل من عَدْوان، وكان عِداده في بني ليث، وقد تَدَّعي هُذَيل أن يحيى بن يعمر حليفهم -وكان مأمونًا عالمًا- يُروَى عنه الفقه.

ورَوَى عن ابن عمر، وابن عباس -رحمهما الله-، وغيرِهما. ورَوَى عنه قتادةُ، وإسحاق بن سويد العَدَوي، وغيرُهما من العلماء. وأخذ النحو يحيى بن يعمر عن أبي الأسود. وذكر يونس بن حبيب قال: قال الحجاج لابن يعمر: أَتَسْمَعُنِي ألحنُ على المنبر؟ قال: الأمير أفصح من ذلك. فألحَّ عليه، فقال: حرفًا. قال: أيًّا؟ قال: في القرآن. قال الحجاج: ذلك أشنع له، فما هو؟! قال: تقول: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} إلى قوله عز وجل: {أَحَبَّ}، فتقرؤها: "أَحَبُّ" بالرفع، والوجه أن تُقرأ بالنصب على خبر كان. قال: لا جرم! لا تسمع لي لحنًا أبدًا. فألحقه بخراسان وعليها يزيد بن المهلب. قال: فكتب يزيد إلى الحجاج: "إنَّا لقينا العدوَّ، فمنحَنا اللهُ أكتافهم، فأسرْنا طائفةً، وقتلْنا طائفةً، واضطررناهم إلى عُرْعُرة الجبل، ونحن بحَضِيضه وأثناء الأنهار". فلما قرأ الحجاج الكتابَ قال: ما لابنِ المهلَّب ولهذا الكلام! حسدًا له. قيل له: إنَّ ابنَ يعمرَ هناك. قال: فذاك إذًا. وقال يحيى بن يعمر لرجل خاصمته امرأته: أأنْ سألتْك ثمنَ شَكْرِها وشَبْرِك، أنشأتَ تَطُلُّها وتَضْهَلُها! حدثنا أحمد، حدثنا أحمد قال: قال مروان بن عبد الملك الفخار:

5 - عنبسة الفيل

سمعت أبا حاتم يقول: يحيى بن يعمر العدواني حليف لبني ليث، وكان فصيحًا عالمًا بالغريب، وهو من التابعين، من القراء من أهل البصرة. وحكى ابن دريد: أن يحيى بن يعمر اشترى جارية خُراسانية ضخمة، فدخل عليه أصحابه، فسألوه عنها، فقال: نعم المِطَخَّة. حدثنا الأصمعي قال: حدثنا عيسى بن عمر قال: خاصم رجل رجلًا إلى ابن يعمر، فقال: أصلحك الله، إنه باعني غلامًا بَيَّاقًا. فقال يحيى: لو قلتَ: أَبُوقًا! قال أبو حاتم: كذا الصواب، رجلٌ أَبُوقٌ، وأَبَّاقٌ، وآبِقٌ. يقال: أَبَقَ يَأْبِقُ. والعامَّة تقول: يأبَق، وهو خطأ. وروى خالد الحذاء قال: كان لابن سيرين مصحف منقوط، نقطه يحيى بن يعمر. وتوفي سنة تسع وعشرين ومئة. 5 - عَنْبَسَةُ الْفِيلُ هو عنبسة بن مَعْدان مولى مَهْرَة، وهو المعروف بالفيل. أخذ عن أبي الأسود. وهجاه الفرزدق فقال:

6 - ميمون الأقرن

لقد كان في مَعْدَانَ والفيلِ شاغلٌ ... لِعَنْبَسَةَ الرَّاوي عَلَيَّ القصائدا 6 - مَيْمُونٌ الأَقرنُ هو ميمون الأقرن. أخذ أيضًا عن أبي الأسود، ويقال: عن عنبسة الفيل.

الطبقة الثالثة

الطبقة الثالثة 7 - ابن أبي عقرب حدثنا أحمد بن سعيد قال: حدثنا أحمد بن خالد قال: حدثنا أبو عبد الملك مروان قال: حدثنا أبو حاتم قال: حدثنا الأصمعي قال: حدثني شعبة قال: كنت أختلف إلى ابن أبي عقرب، فأسأله عن الفقه، ويسأله أبو عمرو بن العلاء عن العربية، فنقوم وأنا لا أحفظ حرفًا مما سأله، ولا يحفظ حرفًا مما سألتُه. 8 - عبد الله بن أبي إسحاق هو عبد الله بن أبي إسحاق مولى آل الحضرمي، وهم حُلفاء بني عبد شمس بن عبد مناف. أخذ عن الأقرن. وهو أول من بَعج النحو، ومدَّ القياس، وشرح العلل، وكان مائلًا إلى القياس في النحو. وكان بلال بن أبي بُردة جمع بين ابن أبي إسحاق، وأبي عمرو بن العلاء بالبصرة -وهو يومئذٍ والٍ عليها- عمَّله خالد بن عبد الله القسري زمان أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك -رضي الله عنهما-. قال أبو عمرو: فغلبني ابنُ أبي إسحاق بالهمز يومئذٍ، فنظرتُ فيه بعد ذلك وبالغتُ. قال ابن سلام: سمعت أبي يسأل يونس عن ابن أبي إسحاق وعِلمِه، فقال: هو والبحر سواء. أي هو الغاية. قال: فأين علمُه من علم الناس اليومَ! قال:

لو لم يكن في الناس اليومَ أحد لا يعلم إلا علمه يومئذ لضُحك منه، ولو كان فيهم مَن له ذهنه ونفاذه، ونظر نظرَه؛ لكان أعلمَ الناس. قال ابن سلام: فقلت أنا ليونس: هل سمعت من ابن أبي إسحاق شيئًا؟ قال: نعم، قلتُ له: هل يقول أحدٌ "الصَّوِيق" يعني السويق؟ قال: نعم، عمرو بن تميم تقولها. وما تريد إلى هذا؟ عليك بباب من النحو يطّرد وينقاس. قال: وكان ابن أبي إسحاق، وعيسى بن عمر يَطْعُنان على العرب. قال ابن أبي إسحاق للفرزدق في مديحه لأمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك -رضوان الله عليهما-: مستقبلينَ شمالَ الشام - تضرِبُنا ... بحاصب كنديفِ القُطْن مَنْثُورِ على عمائمنا يُلْقى، وأَرْحُلِنَا ... على زواحف تُزْجَى مُخُّهَا رِيرِ أسأتَ، إنما هو "مُخُّهاريرُ"، وكذلك قياس النَّحو في هذا الموضع. قال يونس: والذي قال جائز حسن. فلما ألحُّوا على الفرزدق قال: * على زواحفَ تُزجيها محاسيرُ * فترك الناس هذا، ورجعوا إلى الأول. وفي ابن أبي إسحاق يقول الفرزدق يهجوه: فلو كان عبدُ الله مولًى هجوتُهُ ... ولكنَّ عبدَ الله مولَى مواليَا

وكان ابنُ أبي إسحاق يقرأ: {يا ليتنا نردُّ ولا نكذبَ بآيات ربنا ونكونَ من المؤمنين} بالنصب. وكان يقرأ: {الزانيةَ والزانيَ}، {والسارقَ والسارقةَ} بالنصب، وهو خلاف ما قرأ به القُرَّاءُ. وأَخَذ على الفرزدق بيتًا في شعره، فقال: أين هذا الذي يَجُرُّ خصييه في المسجد؟ ألا يصلحه! يعني ابن أبي إسحاق. وتُوفِّي ابنُ أبي إسحاق سنةَ سبع عشرة ومئة.

الطبقة الرابعة

الطبقة الرابعة 9 - أبو عمرو بن العلاء اسمه كنيته. وفي بعض الروايات اسمه زبّان بن العلاء بن عمار بن العريان بن عبد الله بن الحصين التيمي المازني. وهو بصري، أخذ عن ابن أبي إسحاق، وكان أوسع علما بكلام العرب ولغاتها وغريبها من عبد الله بن أبي إسحاق. وكان من جِلَّة القراء والموثوق بهم. كان يقرئ الناس القرآن في مسجد البصرة، والحسن بن أبي الحسن حاضر. قال يونس: لو كان أحد ينبغي أن يؤخذ بقوله كله في شيء واحد لكان ينبغي لقول أبي عمرو أن يؤخذ كله. ولكن ليس من أحد إلا وأنت آخذ من قوله وتارك. قال: وكان أبو عمرو يُسلِّم للعرب ولا يطعُن عليها. وفي أبي عمرو بن العلاء يقول الفرزدق: ما زلت أفتح أبوابا وأغلِقها ... حتى أتيتُ أبا عمرو بنَ عَمَّارِ وأخافه الحجاج بن يوسف فكان يتستر. قال: فخرجت في الغَلَس أريد التنقل من الموضع الذي كنت فيه إلى غيره، فسمعت منشدًا يُنشد: ربَّما تكرَه النُّفوس من الأَمْـ ... ـرِ له فَرْجَةٌ كَحَلِّ العِقَالِ وسمعتُ عجوزًا تقول: مات الحجاج. فما أدري بأيهما كنت أسرَّ، أبقول المنشد: "فَرجة" بالفتح، أم بقول العجوز: مات الحجاج؟ قال أبو علي: الفَرْجة في الأمر بالفتح، والفُرْجة بالضم في الحائط وغيره. قال: وسئل أبو عمرو بن العلاء عن اشتقاق الخيل، فلم يعرف، فمرَّ أعرابيٌّ

مُحْرِم، فأراد السائل سؤال الأعرابي، فقال له أبو عمرو: دَعْنِي، فأنا ألطف بسؤاله وأعرف. فسأله، فقال الأعرابي: اشتقاق الاسم من فعل المسمى. فلم يعرف من حضر ما أراد الأعرابي، فسألوا أبا عمرو عن ذلك، فقال: ذهب إلى الخُيلاء التي في الخيل والعُجْب؛ ألا تراها تمشي العِرَضْنة خُيلاءً وتكبُّرًا! وقال الأصمعي: كان لأبي عمرو بن العلاء من غَلَّته كل يوم فَلْسان: فَلْس يشتري به كوزًا، وفَلْس يشتري به ريحانًا، فيشم الريحان يومه، ويشرب في الكوز يومه، فإذا أمسى تصدَّق بالكوز، وأمر الجارية أن تجفِّف الريحان وتدقَّه في الأُشنان. وحدثني أبو علي إسماعيل بن القاسم البغدادي قال: سمع أبو عمرو رجلًا ينشد: * ومَن يَغْوَ لا يَعْدَمْ على الغيِّ لائما * فقال: أُقوِّمُك أم أتركك تتسكع في طُمَّتك؟ فقال: بل قوِّمني. فقال: قل: ومَن يَغْوِ -بكسر الواو-، ألا ترى إلى قول الله عز وجل: {فَغَوَى}! قال أبو علي: ويقال: غَوِي الفصيلُ من لبن أمه إذا تخثَّر، أي بَشِم. وقال: تتسكَّع: تتلوَّث. والطُّمَّة الخُرْأة. قال الأصمعي: وقال أبو عمرو بن العلاء في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "في الجنين غُرَّة عبد أو أَمَة": لولا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أراد بالغُرَّة معنًى لقال: في الجنين عبد أو أَمَة. ولكنه عَنَى البياض، لا يُقبل في الدية إلا غلام أبيض أو جارية بيضاء.

وقال أبو حاتم: حدثني الأصمعي قال: حدثني شعبة قال: كنت أختلف إلى ابن أبي عقرب، فأسأله عن الفقه، ويسأله أبو عمرو عن العربية، فيقوم وأنا لا أحفظ حرفًا مما سأل عنه، ولا يحفظ حرفًا مما سألتُ عنه. وكان أبو عمرو قد زار محمد بن سليمان بن علي الهاشمي واليَ الكوفة سنة أربع وخمسين ومئة. حدثنا أحمد، حدثنا أحمد، حدثنا مروان بن عبد الملك الفخار قال: سمعت عباس بن محمد يقول: سمعت يحيى يقول: أبو عمرو بن العلاء ثقة، وأبو سفيان بن العلاء ومعاذ بن العلاء أخوا أبي عمرو، يروي عنهما وكيع. قال مروان: وحدثنا أبو حاتم، حدثنا الأصمعي قال: قال أبو عمرو: أخذت في طلب العلم قبل أن أُخْتَن. قال الأصمعي: وسمعت أبا عمرو يقول -ولم يقله إن شاء الله بغيًا أو تطاولًا-: ما رأيتُ أحدًا قطُّ أعلمَ منِّي. قال الأصمعي: قال أبو عمرو: ما سمع حمَّادٌ الرَّاويةُ حرفًا قطّ إلا سمعتُه. وكان أسنَّ من حماد. سمعت عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي يقول: حدثني عمي قال: كنت إذا سمعت أبا عمرو بن العلاء يتكلم ظننت أنه لا يحسن شيئًا ولا يَلحَن؛ يتكلم كلامًا سهلًا. أبو حاتم عن الأصمعي قال: كان أبو عمرو بن العلاء يوسّع لي، وربما حلف ألَّا يُخبِرَني بحرف حتى آكل، وكانت ابنته تجيء وتجلس عندنا في مجلسه وقد حَجَمَ الثديُ على نحرها. قال: وعيسى بن عمر وضَرْبُه

إنما كانوا يلقوْنه أيامَ الجُمَع. وقال الأصمعي: سألت الخليل بن أحمد النحوي عن قول الراجز: ختى تحاجزن عن الذواد ... تحاجُزَ الرِّي ولم تَكادِي لِمَ قال: "تكادي" ولم يقل: "ولم تَكَدْ"؟ قال: فطحن يومًا أجمع. قال: وسألت أبا عمرو بن العلاء -وكأنما كان على طرف لسانه- فقال: ولم تكادي أيتها الإبل. حدثنا العباس بن الفرج الرياشي، حدثنا الأصمعي، عن أبي عمرو قال: شهدت عند سوَّار، قال له: كيف تعلم هذا؟ قلت: أعلمه كما أعلم أنك سوار بن عبد الله بن قدامة بن عَنَزة بن نقَب. حدثنا أحمد بن سعيد قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن عبد الله بن سعيد بن عمر بن مهران البصري بفسطاط مصر، قال: حدثنا يزيد بن محمد المهلبي قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: حدثنا أبو عبيدة، عن أبي عمرو قال: كنا عند بلال بن أبي بُردة، فخرج الفرزدق يتخلَّع، فسمعني أُنشِد بيت التَّغلبي: نُعاطي الملوك القِسْط ما قصدوا لنا ... وليس علينا قَتْلُهمْ بمحرَّم فقال الفرزدق: أأرشُدك أم أدعُك؟ قلت: أرشدْني. قال: "ما قصدوا بنا". حدثنا أحمد بن سعيد قال: حدثنا أبو إسحاق الشيزري قال: حكى أبو العباس الأديب، عن الأصمعي، عن أبي عمرو قال: بينا أنا ذات يوم -أحسبه قال: في ضيعتي- سمعتُ قائلًا يقول: وإن امرأً دنياه أكبر همِّه ... لَمُسْتمسك منها بحبْل غرور قال: فكتبت هذا البيت على فَصِّ خاتمي، فكان نقشه هذا. حدثنا أحمد قال: حدثنا أحمد قال: حدثنا مروان قال: حدثنا أبو حاتم

وابن أخي الأصمعي قالا: حدثنا الأصمعي قال: لم أرَ مَسانّ قطّ أذْكرَ من أبي عمرو بن العلاء، وسلَمة بن عياش، وأبي هلال الراسبي، وأبي الأشهب العطاردي. ابن أبي سعد قال: قال أبو عمرو بن العلاء: كانت العرب إذا أرادت أن تنشد قصيدة المتلمِّس توضؤوا لها: تُعيِّرني أُمِّي رجالٌ ولن ترى ... أخا كرمٍ إلَّا بأَنْ يَتكرَّما ابن أبي سعد قال: قال ابن نوفل: سمعتُ أبي يقول لأبي عمرو بن العلاء: أخبرني عما وضعتَ مما سميتَه عربية، أيدخل فيها كلام العرب كله؟ فقال: لا. فقلت: كيف تصنع فيما خالفتك فيه العربُ وهم حُجَّة؟ قال: أعمل على الأكثر، وأسمي ما خالفني لغات. وقال أبو الحسن الباهلي: مر أبو عمرو بن العلاء بعمرو بن عبيد وهو يتكلم في الوعد والوعيد ويثبته، فقال له أبو عمرو: ويلك يا عمرو! إنك أَلْكَن الفهم، ألم تسمع إلى قول القائل: وإنِّي وإن أوعدتُه أو وعدتُهُ ... لمخلفُ إيعادي ومنجز مَوْعِدي

10 - أبو سفيان بن العلاء

إنما أراد أن الله تبارك وتعالى قد وعد وأوعد، وهو قادر على أن يعفو عمن أوعده، وقادر أن ينجز لمن وعده. قال محمد: وفي بعض الروايات أن ابن عبيد قال لأبي عمرو: يا أبا عمرو، شغلك الإعراب عن معرفة الصواب. وأنشد بعضهم بيتًا قبل البيت المذكور: لا يَرْهَبُ ابنُ العم والجارُ صَوْلتِي ... ولا أَختفي من خَشْية المتَهَدِّدِ وقال ابن قتيبة: وكانت وفاة أبي عمرو في طريق الشام، وذلك أنه خرج إليها يجتدي عبد الوهاب بن إبراهيم، فمات سنة أربع وخمسين ومئة، وله عقب بالبصرة. 10 - أبو سفيان بن العلاء هو أخو أبي عمرو، واسمه كنيته، وكان من النحويين، وأصحاب الغريب، والرواة. توفي سنة خمس وستين ومئة. 11 - الأخفش الكبير هو أبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد، أخذ عنه يونس. وروي عن أبي الخطاب أنه قال: لا أقول: "جُثَّة الرجل" إلا لشخصه على سرْج أو رحل، ويكون معمَّمًا. ولم تُسمع من غيره. وحكى ابن دُرَيْدٍ عن أبي الخطاب أنه قال: الخُفْخُوف طائر. قال: ولم يذكره أحدٌ من أصحابنا. 12 - عيسى بن عمر هو مولى خالد بن الوليد المخزومي، نزل في ثَقِيف، وأخذ عن ابن أبي إسحاق

وكان يطعُن على العرب. قال عيسى بن عمر: أساء النابغة في قوله: فبتُّ كأَنِّي ساورتْني ضئيلةٌ ... من الرُّقْشِ في أنيابها السمُّ ناقعُ ويقول: وجهه أن يكون: "السمُّ ناقعًا". وكان عيسى بن عمر يختار "السُّمّ، والشُّهد" بالضم، وهي عُلْوية. وكان يقرأ: {هؤلاء بناتي هنَّ أطهرَ لكم}، وهذا مخالف لما قاله النحويون أجمعون ولِمَا قرأتْ به القَرَأَة، وأنكرها أبو عمرو بن العلاء عليه، فقال: كيف تقول: هؤلاء بَنيّ، هم ماذا؟ فقال: عشرين رجلا. فأنكرها أبو عمرو. وكان عيسى وأبو عمرو يقرآن: {يا جبال أوبي معه والطيرَ} بالنصب، ويختلفان في التأويل؛ كان عيسى يقول: هو على النداء، كما تقول: يا زيد والحارثَ؛ لمَّا لم يمكنْه "ويا الحارث". وقال أبو عمرو: لو كان على النداء لكان رفعًا، ولكنها على إضمار: "وسخَّرنا الطير"؛ لقوله على إثر هذا: {ولسليمان الريحَ}. وكان عيسى بن عمر صاحب تقعير في كلامه واستعمال الغريب فيه وفي قراءته. وضربه عمر بن هبيرة فكان يقول: والله إن كانت إلا أثيَّابًا في أسَيْفاط، قَبَضها عَشَّاروك. قال أبو حاتم: قال الأصمعي: كان عيسى لا يدع الإعراب لشيء. وقال الأصمعي: كان ابن هبيرة اتهم عيسى بن عمر بأن بعض العمال

استودعه مالا، فضربه مقطعا نحوا من ألف سوط فجعل يقول له: ما عندك؟ فيقول: والله ما كانت إلا أثيابا في أسيفاط، قبضها عشاروك، فيقول: إنك لخبيث -وكان دقيق الصوت- قال الأصمعي: ورأيت يده إذ كان ذلك الوقت أجلبت من أثر الجامعة، وكان ظهره متقطعا. حدثنا أحمد قال: حدثنا ابن الأعرابي، قال سمعت الدوري يقول: سمعت ابن معين يقول: عيسى بن عمر بصري، وزاد غير ابن الأعرابي: ثقة. وجمع الحسن بن قحطبة عند مقدمه مدينة السلام الكسائي والأصمعي وعيسى بن عمر، فألقى عيسى على الكسائي هذه المسألة: همك ما أهمك، فذهب الكسائي يقول: يجوز كذا ويجوز كذا، فقال له عيسى: عافاك الله، إنما أريد كلام العرب، وليس هذا الذي تأتي به كلام العرب. قال أبو العباس ثعلب: وليس يقدر أحد أن يخطئ في هذه المسألة؛ لأنه كيف عرب فهو مصيب، وإنما أراد عيسى من الكسائي أن يأتيه باللفظة التي وقعت إليه. وقال أبو عبيدة قال عيسى: كنت وأنا شاب أقعد بالليل، أكتب حتى ينقطع سوائي أي وسطي, وفيه يقول الشاعر: ذهب النحو جميعا كله ** غير ما أحدث عيسى بن عمر وهما بابان صارا حكمة ** وأراحا من قياس ونظر قال أبو الحسن: حدثني أبو القاسم عبيد الله بن محمد بن أبي محمد اليزيدي

قال أخبرني عمي إسماعيل بن أبي محمد قال: حدثنا أبو محمد قال: جاء عيسى بن عمر الثقفي ونحن عند أبي عمرو بن العلاء إلى أبي عمرو فقال: يا ابا عمرو، ما شيء بلغني أنك تجيزه؟ قال: وما هو، قال: بلغني أنك تجيز ليس الطيب إلا المسك بالرفع، قال: فقال أبو عمرو: نمت يا أبا عمر، وأدلج الناس! ليس في الأرض حجازي إلا وهو ينصب وليس في الأرض تميمي إلا وهو يرفع. قال أبو محمد: ثم قال أبو عمرو: تعال يا يحيى وتعال أنت يا خلف -لخلف الأحمر- اذهبا إلى أبي المهدي فلقناه الرفع، فإنه لايرفع، واذهبا إلى المنتجع التميمي فلقناه النصب فإنه لا ينصب، قال: فذهبت أنا وخلف فأتينا أبا المهدي، فإذا هو يصلي - وكان به عارض وإذا هو يقول في الصلاة: اخسأنان عني، قال: ثم قضى صلاته وانفتل إلينا، فقال: ماخطبكما؟ قلنا: جئنا نسألك عن شيء من كلام العرب، فقال: هاتيا، فقال له خلف: تقول: (ليس الطيب إلا المسك)؟ فقال: أتأمرانني بالكذب على كبرة السن! فأين الجادي! وأين كذا وكذا! فقال له خلف: ليس الشراب إلا العسل. قال: فما تصنع سودان هجر؟ ما بعمان شراب إلا هذا التمر. قال أبو محمد: فلما رأيت ذلك منه قلت له: ليس ملاك الأمر إلا طاعةُ الله، والعمل بها، فرفعتُ، فقال: هذا كلام لا دخل فيه، ثم قال: ليس ملاك الأمر إلا طاعةَ الله والعمل بها، فنصب، قال أبو محمد: فقلت له: ليس ملاك الأمر إلا طاعة الله والعمل بها، فرفعت. فقال: ليس هذا من لحني ولا لحن قومي، قال: فكتبنا منه ما سمعنا. قال: فقال: ألا أنشدكما أبياتا قلتها حين سمعت تراطن هذه الأعاجم حولي؟ قلنا: بلى، فأنشدنا:

يقولون لي: "شَنْبِذْ"، ولستُ مُشَنْبِذًا ... طَوَالَ اللَّيَالِي أو يزولَ ثَبِيرُ ولا قائلا "زُوذا" لأُعجِل صاحبِي ... وَ"بِسْتَان" في صدري عليّ كبيرُ ولا تاركًا لَحْنِي لأُحْسِنَ لحنَهم ... ولو دارَ صَرْفُ الدَّهْرِ حيث يدورُ قال: فكتبنا هذه الأبيات، ثم أتينا المنتجع، فأتينا رجلًا يعقل، فقال له خلَف: ليس الطيب إلا المسكُ. قال: فرفع. قال: فلقَّنَّاه النصب وجهِدنا به في ذلك فلم ينصب، وأبى إلا الرفع. قال: فأتينا أبا عمرو فأعلمناه، وعنده عيسى بن عمر لم يَبْرح. قال: فأخرج عيسى بن عمر خاتمه من يده، فقال: لك الخاتم، بهذا والله فُقْت الناس. وأخبرنا أبو الحسن، حدثنا أبو القاسم عبيد الله بن محمد، حدثنا أبو علي عمي، عن محمد بن سلام الجمحي قال: كان أبو المهدي هذا من باهلة، يضرب حنكَه يمينًا وشمالًا، ويقول: اخْسأنانِّ عني، فسألناه عن ذلك فقال: جِنَّان تدْأَمُني -يعني: تركبني-. قال أبو عبد الملك مروان بن عبد الملك: أخبرنا عسى بن إسماعيل، حدثني بكر بن محمد أبو عثمان المازني، حدثنا الأصمعي قال: جاء عيسى بن عمر يومًا إلى أبي عمرو بن العلاء، فقال: مررت بقنطرة قرة، فلقيني بعيران مقرونان في قَرَن، فما شعرت شَعرة حتى وقع قرانهما في عنقي، فَلُبِجَ بي، فافرنقع عني والناس قيامٌ ينظرون. قال: فكاد أبو عمرو ينشق غيظًا من فصاحته. ابن أبي سعد قال: حدثني علي بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن الحارث الهاشمي، عن أبيه قال: كان بعض أَحْبَاء خالد بن عبد الله عند وقوع البلية بخالد وأصحابه استودعه وديعة -يعني عيسى بن عمر- فنُمِي ذلك إلى يوسف بن عمر، فكتب إلى واليه بالبصرة يأمره أن يحمله إليه مُقيَّدًا. فدعا به،

13 - مسلمة بن عبد الله

ودعا بالحداد فأمر بتقييده، فلما عمد قال له الوالي: لا بأس عليك! إنما أرادك الأمير أن تؤدِّب ولده. قال: فما بال القيد إذًا! فبقيت مثلًا بالبصرة، فلما أُتِي به يوسف بن عمر سأله عن الوديعة فأنكر، فأمر به فضُرِب بالسياط، فلما أخذه السوط جزع فقال: أيها الأمير، إنما كانت أثيَّابًا في أسَيْفَاط. فلافع الضرب عنه، ووكَّل به حتى أخذ الوديعة منه. قال محمد: الأحْبَاء: جلساء الأمير، واحدهم: حبا وحبأ، مقصور مهموز. قال علي بن محمد بن سليمان: قال أبي: فرأيته طول دهره يحمل في كمه خِرْقةً فيها سُكّر العُشَر والإجَّاص اليابس. وربما رأيتُه عندي وهو واقف عَلَيَّ، أو سائر، أو عند ولاة البصرة، فتصيبه نَهْكة على فؤاده يَخفِق حتى يكاد يُغْلَب، فيستغيث بإجاصة وسكَّرة يلقيهما في فيه، ثم يمصّهما. فإذا سَرَط من ذلك شيئًا سكن ما به، فسألته عن ذلك، فقال: أصابني هذا من الضرب الذي ضربني يوسف بن عمر، فتعالجتُ له بكل شيء، فلم أجد له شيئًا أصلح من هذا. قال: وقلت له يومًا: خبرني عن هذا الذي وضعتَ، يدخل فيه كلام العرب كله؟ فقال: لا. قال: قلت: فمن تكلم بخلافك، واحتذى على ما كانت العرب تتكلم به، أتراه مخطئًا؟ قال: لا. قلتُ: فما ينفع كتابك! وتوفي عيسى بن عمر سنة تسع وأربعين ومئة، قبل أبي عمرو بن العلاء بخمس سنين أو ست. 13 - مَسْلَمة بن عبد الله هو مَسْلَمة بن عبد الله بن سعد بن محارب الفهري، مولى لهم. وكان ابنُ أبي إسحاق خاله، وكان حَمَّاد بن الزِّبْرقان ويونس يفضلانه.

14 - بكر بن حبيب السهمي

14 - بكر بن حبيب السَّهمي هو بكر بن حبيب السَّهمي، والد عبد الله بن بَكْر المحدث. أخذ عن ابن أبي إسحاق أيضًا. ابن أبي سعد، عن الباهلي قال: أنبأنا الأصمعي، عن أبي عمرو أنه كان عند بلال بن أبي بُردة هو وعيسى بن عمر، فقال عيسى: كتبت سطْرًا. وقال أبو عمرو: كتبت سطَرًا. فأرسلوني إلى بكر بن حبيب السَّهمي، فحكَّموه، فقال: هذا سطر، فخفَّف، وهو أفصحهم. وقال ابن أبي إسحاق لبكر بن حبيب: ما ألحنُ في شيء. فقال: لا. قال: فخذ عليَّ كِلمةً. فقال: هذه، قل: "كَلِمَة". وقَرُبت سِنَّورة، فقال: اخْسَيْ. فقال: أخطأتَ، إنما هو "اخْسَئِي".

الطبقة الخامسة

الطبقة الخامسة 15 - الخليل بن أحمد هو أبو عبد الرحمن بن أحمد بن عمرو بن تميم الفَراهيديُّ. وكان يونس يقول: الفُرْهوديّ مثل فُرْدُوس؛ وهو حيٌّ من الأزد. ولم يُسمَّ أحدٌ بأحمدَ بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل والد الخليل. وكان الخليل ذكيًّا فطنًا شاعرًا، واستنبط من العَرُوض ومن عِلَل النحو ما لم يستنبط أحدٌ، وما لم يسبقه إلى مثله سابق، وهو القائل: اعمل بعلمي، ولا تنظر إلى عَملي ... ينفعك عِلْمي، ولا يضررْك تَقْصيري وكتب إليه سُليمان بن عليٍّ الهاشميُّ يستدعيه إلى صُحبته، وبعث إليه بطُرَفٍ وكُسًا ومال وفاكهة، فقبل الفاكهة، وصرف ما سوى ذلك، وكتب إليه: أَبلغْ سليمانَ أنِّي عنه في سَعَةٍ ... وفي غِنًى غير أنِّي لستُ ذا مال سَخَّى بنفسيَ أنِّي لا أرى أحدًا ... يموت هَزْلًا ولا يَبْقَى على حال فالرزق عن قَدَرٍ لا العجزُ يَنْقُصه ... ولا يَزِيدُك فيه حَوْلُ مُحْتَالِ والفقرُ في النَّفْس لا في المال تعرفه ... ومثلُ ذاك الغِنى في النَّفْس لا المال والمالُ يَغْشَى أُنَاسًا لا أُصول لهمْ ... كما تُغشى أصول الدِّنْدَن البالي قال: ونظر في النجوم فأبعد النظر، ثم لم يرضَ بذلك، فقال: أَبلغا عنِّي المنجِّمَ أنِّي ... كافرٌ بالذي قضتْه الكواكبْ عالم أنَّ ما يكون وما كا ... ن بحتْمٍ من المهيمن واجبْ

شاهدٌ أنَّ مَنْ يفوّض أو يُجْبرُ زارٍ على المقادير كاذبْ وهو القائل -وأكثر الناس يروونه للأخطل-: وإذا افْتَقَرْت إلى الذخائر لم تجدْ ... ذُخْرًا يكونُ كصالح الأعمالِ وقال الخليل: تربَّع الجهلُ بين الحياء والكِبْر في العلم. وقال: نوازع العلم بدائع، وبدائع العلم مسارح العقل، ومَن استغنى بما عنده جَهِل، ومَن ضمَّ إلى علمه علمَ غيره كان من الموصوفين بنعت الرَّبَّانيِّين. وقال الخليل: وجدت في بعض كتب العلماء: من أظهر حياء في التماس العلم، وقعد عنه؛ لَبِس الجهل، وتقنَّع قناع السَّفَه، ومن امتدت له أيامه في غُلَواء جهله حُشِر يوم القيامة أعمى. وقال: إني أدركتُ بعضَ ما أنا فيه من العلم باطِّراح الحِشْمة بيني وبين المعلمين، وبإلقائي الستر بيني وبين الذين كنت ألتمس ما عندهم. ومَن رَقَّ وجهُه عن طلب العلم؛ رقَّ علْمه. ووجدت الرقة في التماس العلم سفَها يدعو إلى سفاهٍ، وكلٌّ يدعو إلى ضلال. قال: حدثنا أحمد قال: حدثنا مَرْوان قال: حدثنا عيسى بن إسماعيل قال: سمعت العُتْبيَّ يقول: قال الخليل: زَلَّة العالِم مَضْروبٌ بها الطَّبْل. وقال المبرّد: جلس رجل إلى الخليل بن أحمد فقال: أحسبني قد ضيَّقْتُ عليك. فقال له: لا تقل ذلك؛ فإن شِبرًا من الأرض لا يَضيق على المتحابَّين، والأرض برُحْبِها لا تَسَعُ متباغضيْن. حدثنا أحمد قال: حدثنا أحمد قال: حدثنا مروان قال: حدثنا العباس بن الفرج، عن الأصمعي قال: كادت الإباضيَّةُ تغلب على الخليل؛ حتى منَّ الله عليه بمجالسة أيوب.

وكان الخليل يقول: القياس باطل. فذكر ذلك للأصمعي، فقال: هذا أخذه عن إياس. ومن قول الخليل في صفة بخيل: كفَّاه لم تُخْلقا للنَّدى ... ولم يكُ بخلُهما بدْعَهْ فكفٌّ عن الخير مقبوضَةٌ ... كما نقصتْ مئةٌ سَبْعَهْ وكفٌّ ثلاثة آلافها ... وتِسْعُ مِئِيها شِرْعَهْ وذكر عن شيوخ البصرة أن ابن المقفع اجتمع مع الخليل بن أحمد، فتذاكرا ليلة تامة، فلما افترقا سئل ابن المقفع عن الخليل، فقال: رأيتُ رجلًا عقلُه أكثرُ من علمِه. وقيل للخليل: كيف رأيتَ ابن المقفع؟ فقال: رأيتُ رجلًا علمُه أكثرُ من عقلِه. وابن المقفع من أهل الأهواز. وقيل: إن ابن المقفع لما برع كان أبوه يقول: ابني هذا علمُه أكثرُ من عقلِه، ويوشك أن يكون ذلك سببًا لهلاكه. فكان قتله بسبب العهد الذي كتبه لعمر بن هبيرة، ثم العهد الذي عمله لعبد الله بن علي. ابن أبي سعد قال: وحدثني عبد الرحمن بن نوح قال: لما صنع إسحاق بن إبراهيم كتابه في النَّغم واللحون عرَضه على إبراهيم بن المهديّ، فقال: أحسنت يا أبا محمد، وكثيرًا ما تُحسنُ. فقال إسحاق: بل أحْسَنَ الخليلُ؛ لأنه جَعَل السبيلَ إلى الإحسان. قال إبراهيم: ما أحسن هذا الكلام! فممن أخذتَه؟ قال: من ابن مُقبِل، إذ سمع حمامة من المطوّقات، فاهتاج لمن يحب، فقال:

فلو قبْل مبكاها بكيتُ صبابةً ... بليلي شفيتُ النَّفْسَ قَبْلَ التَّندُّم ولكنْ بكت قبلي فهاج لِيَ البكا ... بُكَاها فقلتُ: الفضلُ للمتقدم وأنشد أحمد بن سعيد قال: أنشدني أبو إسحاق الشيزري قال: أبو الحسين المعروف بالأصمعي بحمص قال: أنشدني عبد الله بن ثابت للخليل بن أحمد: لا يكون السريُّ مثل الدنـ ... ـيّ، ولا ذو الذكاء مثل العَيِيِّ قيمة المرء كل ما يحسن المرْ ... ءُ، قضاءٌ من الإمام عليِّ أي شيء من اللِّباس على ذي السَّـ ... ـرْو أَبْهى من اللسان البَهيِّ ينظِمُ الحجة الشَّتيتة في السِّلْـ ... ـكِ من القول مثل عِقْد الهَدِيِّ وترى اللَّحن بالحسيب أخي الهيـ ... ـئة مثل الصَّدَى على المشْرَفِيِّ فاطلب النحو للحِجاج ولِلشِّعْـ ... ـرِ مُقيمًا والمسنَد المرْويِّ والخطاب البليغ عند حِوار الْـ ... ـقَوْل يُزْهَى بمثله في النَّدِيِّ وارْفُض القول من طغامٍ جفوا عَنْـ ... ـه فعادَوْه نَصْبَةً للنَّبيِّ قال الأصمعي: كنا عند الخليل بن أحمد، فأنشدتُه أبياتَ اليهوديِّ حتى مررتُ بقوله: ينفع الطَّيِّب القليلُ من الكسب، ولا ينفع الكثير الخَبيثُ فقال: كيف؟ قال: قلت: ليس في كلامهم الثاء. فقال: كيف؟ قال: "الكثير"!

16 - حماد بن سلمة

ويُروى أن ملك اليونانية كتب إلى الخليل كتابًا باليونانية، فخلا بالكتاب شهرًا حتى فهمه، فقيل له في ذلك، فقال: قلتُ: لا بد له من أن يُفتَح الكتاب ببسم الله أو ما أشبهه، فبنيت أول حروفه على ذلك، فاقتاس لي. فكان هذا الأصل الذي عمل له الخليل كتاب المعمَّى. وتوفي الخليل -رحمه الله- سنة سبعين ومئة. وقالوا: سنة خمس وسبعين، وهو ابن أربع وسبعين سنة. 16 - حماد بن سلمة حدثنا أحمد بن سعيد قال: حدثنا العِناقيُّ قال: حدثنا إبراهيم بن محمد، حدثنا أحمد بن سلمة قال: كان حمَّادُ بن سلَمةَ يمرُّ بالحسن البصري في المسجد الجامع، فيدعه ويذهب إلى أصحاب العربية يتعلم منهم. وروى ابن عائشة قال: قال يونس بن حبيب: أول مَن تعلمتُ منه النحو: حماد بن سلمة. 17 - يونس بن حبيب هو أبو عبد الرحمن الضبي، مولًى لهم. وكان من اهل جَبُّل. أخذ عن أبي عمرو. وكان النحو أغلب عليه. قال ابن عائشة: قال يونس بن حبيب: أول مَن تعلمتُ منه النحو: حماد بن سلمة. وعاش ثمانيًا وثمانين سنة. ودخل المسجد وهو يُهادَى بين اثنين من الكِبَر، فقال له رجل كان يتَّهِمه على مودَّته: بلغتَ ما أرى يا أبا عبد الرحمن! قال: هو الذي ترى، فلا بُلِّغْتَه. وقال أبو الخطاب زياد بن يحيى: قال أبو عبيدة: لم يكن عند يونس عِلْم إلَّا ما رآه بعينه. وقال أبو الخطاب: مثل يونس كمثل كوز ضيّق

الرأس، لا يدخله شيء إلَّا بعُسْر؛ فإذا دخله لم يخرج منه - يعني لا ينسى. وقال ابن سلام، عن أبي زيد النحوي: ما رأيتُ أبذلَ لعلمٍ من يونس. وحدثنا أبو علي إسماعيل بن القاسم البغدادي قال: حدثنا أبو بكر بن دريد قال: حدثنا أبو حاتم قال: حدثنا أبو عبيدة، عن يونس قال: كنت عند أبي عمرو بن العلاء، فجاءة شُبَيْل بن عَزْرَةَ الضُّبَعيُّ، فقام إليه أبو عمرو فألقى له لِبْدَ بَغْلَتِه، فجلس عليه، ثم أقبل يحدثه، فقال شبيل: يا أبا عمرو، سألتُ رُؤَيبتكم هذا عن اشتقاق اسمه، فما عرفه. قال يونس: فلم أملك نفسي عند ذكره لرُؤْبَةَ، فزحفتُ إليه ثم قلتُ: لعلك تظن أن معدَّ بنَ عدنانَ أفصحُ من رُؤْبَةَ ومن أبيه! فأنا غلامُ رُؤبة؛ فما الرَّوْبَةُ، والرُّوبَةُ، والرُّوبَةُ، والرُّوبَةُ، والرُّؤْبَةُ؟ فلم يُحِرْ جوابًا، وقام مُغضَبًا. فأقبل عليَّ أبو عمرو وقال: هذا رجل شريف يقصد مجالسنا، ويقضي حقوقنا، وقد أسأتَ فيما واجهتَه به. فقلت له: لم أملك نفسي عند ذكره رؤبة. فقال له أبو عمرو: أَوَسُلِّطتَ على تقويم الناس! ثم فسر لنا يونس فقال: الرَّوْبَةُ خميرة اللبن. والروبة قطعة من الليل. وفلان لا يقوم بروبة أهله؛ أي بما أسندوا إليه من أمورهم. والروبة جمام ماء الفحل. والرؤبة -مهموزة-: القطعة تدخلها في الإناء يشعب بها الإناء. ولما مات سيبويه قيل ليونس: إن سيبويه ألَّف كِتابًا من ألْفِ ورقة في علم الخليل. فقال يونس: ومتى سمع سيبويه من الخليل هذا كله؟ جيئوني بكتابه. فلما نظر في كتابه ورأى ما حكى، قال: يجب أن يكون هذا الرجل قد صدق عن الخليل فيما حكاه، كما صدق فيما حَكى عنِّي. حدثنا أحمد بن سعيد قال: حدثنا المِهرانيّ قال: حدثنا يزيد المهلَّبيّ، عن الموصلي إسحاق، عن ابن سلام، عن يونس قال: ما بكتِ العربُ شيئًا

ما بكت الشباب، وما بلغتْ كُنْهَه. المهراني: حدثنا أبي، حدثنا ابن سلام، عن يونس قال: ليس لحاقن ذكاء. وقال أحمد بن يحيى: يقال: إن يونس جاوز المئة، وكان قد تفدع من الكِبَر، ويقال: قارب المئة. ابن أبي سعد قال: حدثنا محمد بن يحيى القشيري قال: حدثنا أبو بشر قال: قال محمد بن سلَّام: كان يونس يزورني، فأطلب له النبيذ الحلو، فيتهافت فيه الذباب، فيشرب منه القدحَ ثم يقول: قاتله الله! إنه لَيَشْحنُهنّ شَحْنًا. وربَّما أُتِي بالنبيذ الحازِر (أي الحامض الشديد) فيشرب منه قدحًا، ثم يقول: قاتله الله! إنه لَيَقْصعهنَّ قَصْعًا. قال محمد بن سلام: قال يونس: تقول العرب: طَسٌّ وطَسْتٌ، فمَن قال: "طَسّ" قال: "طِساس". ومَن قال: "طَسْت" قال: "طِسَات". وسمعتُه يقول: إنما سُمِّيتِ اللِّمَّةُ لِمَّةً لأنَّها ألمَّتْ بالأذنين. ابن سلام قال: سأل بكّارُ بنُ محمدٍ يونسَ فقال: ما العَجِيزُ مِن الرجال؟ قال: لا أعرفه. قال: فما المليخ؟ قال: أما إذا جئت بالمليخ؛ فالعجيز: الذي لا يأتي النساء، والمليخ: الذي لا يولد له. قال ابن سلام: وتذاكرنا القدر مرة في مجلس يونس، فقالوا: ما تقول يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: لا فكر لي فيه. قال ابن سلام: قلت ليونس: "إيَّاك زيدًا" تُجيزها؟ قال: أجاز ابن أبي إسحاق للفضل بن عبد الرحمن: إيَّاكَ إيَّاكَ المراءَ فإنه ... إلى الشر دعاءٌ وللشرِّ جالبُ وتوفي يونس -رحمه الله- سنة اثنتين وثمانين ومئة.

18 - يعقوب بن إسحاق الحضرمي

18 - يعقوب بن إسحاق الحضرمي قال مروان بن عبد الملك: سمعت أبا حاتم يقول: يعقوب بن إسحاق بن زيد بن عبد الله بن أبي إسحاق، من أهل بيت العلم بالقرآن، والعربية، وكلام العرب، والرواية الكثيرة للحروف، والفقه. وكان أقرأ القراء. وأُخِذ عنه عامَّةُ حروف القرآن، مُسنَدًا وغير مسند، من قراءة الحرميِّين والعراقيين والشام وغيرهم. قال أبو حاتم: وكان أعلمَ من أدركْنا ورأينا بالحروف، والاختلاف في القرآن وتعليله ومذاهبه، ومذاهب النحو في القرآن، وأروى الناس لحروف القرآن وحديث الفقهاء. وليعقوب كتاب سماه "الجامع"، جمع فيه عامة اختلاف وجوه القرآن، ونسب كل حرف إلى من قرأ به. وتوفي سنة خمس ومئتين. 19 - أبو عاصم النبيل حدثنا أحمد قال: حدثنا أحمد بن خالد قال: حدثنا مروان بن عبد الملك قال: سمعت عباسًا يقول: كان أبو عاصم قد نيَّف على التسعين، وما رأيت أحدًا أذكى منه. وقال لي أبو عاصم: كان دهرَنا الأدب والشعر وأيام العرب، وإنما وقعنا إلى الأحاديث اليوم. سمعت أبا حاتم يذكر عن أبي زيد الأنصاري قال: كان أبو عاصم في حداثته ضعيف العقل، وكان اسمه الضَّحَّاك، وكان يطلب العربية فيقال له: كيف تصغر الضحاك؟ فيقول: "ضُحيْكيك" قال: ثم نسأله فيقول: ولو كان له عقل كفاه مرَّة. قال أبو حاتم: ثم نَبُل، فكان هو يُزرِي على غيره.

الطبقة السادسة

الطبقة السادسة 20 - النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ هو النضر بن شُمَيْل بن خَرَشة بن يزيد بن كلثوم بن عبْدةَ بن زُهَيْر السِّكِّيت الشاعر بن عروة بن حليمةَ بن حُجْر بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم المازني التميمي. من أهل مَرْو. قال أبو عليٍّ: ذكر أبو عبيدة في مثالب أهل البصرة قال: ضاقت المعيشةُ بالنضر بن شميل، فخرج يريد خُرَاسان، فشيَّعه من أهل البصرة نحوُ ثلاثة آلاف رجل، ما فيهم إلا محدِّث، أو لغوي، أو نحوي، أو عروضي، أو أخباري. فلما صار بالمِرْبد جلس، فقال: يا أهل البصرة، تَعِزُّ عليَّ مفارقتُكم، والله لو وجدتُ كلَّ يومٍ كِيلَجَةً من باقلَّا ما فارقتكم. قال: فلم يكن فيهم أحد يتكفل له بذلك، حتى وصل إلى خراسان، فأفاد أموالًا عظيمة. قال أبو علي: وطلب المأمون يومًا -وهو بمرو- رجلا من أهل الأدب يسامره، فخرج الحاجب يسأل عن رجل يصلح لمجالسة المأمون ومسامرته، فقيل له: هاهنا النضر بن شميل، فبعث فيه، فأدخله على المأمون فسامره، فقال المأمون في بعض كلامه: "سَدادٌ مِن عَوَز" بفتح السين، فأنكره النضر ولم يغيِّر عليه، ثم حدثه بأحاديث كثيرة، حتى ذكر هُشَيمًا، فقال: قال هُشَيمٌ -وكان لحَّانًا-: "سَدادٌ مِن عَوَز". فقال له المأمون: يا نضر، وكيف تقول؟ قال: "سِدادٌ مِن عَوَز" بكسر السين، فأمر له بخمسين ألف درهم.

وقال أبو بكر محمد بن يحيى الصولي: حدثنا المسيح بن حاتم العُكليُّ بالبصرة بمِربَدها سنة ثمانين ومئتين، قال: حدثنا النضر بن شميل بن خَرَشة المازني قال: لمَّا قدم المأمون علينا خُرَاسان واستُخلِف، دخلنا عليه، فحدثنا عن هُشَيمٍ، عن مُجالِد، عن الشعبي، عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن تَزوَّجَ امرأةً ذاتَ جمالٍ ومالٍ؛ فقد أصابَ سَدادًا مِن عَوَزٍ". فقلتُ له: يا أمير المؤمنين، حدثنا عوف الأعرابي، عن الحسن، عن علي بن أبي طالب -رحمة الله عليه ورضوانه-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن تَزوَّجَ امرأةً ذاتَ جمالٍ ومالٍ؛ فقد أصابَ سِدادًا مِن عَوَزٍ". فقال: أَتُلَحِّنني يا نضر؟! فقلت: أمير المؤمنين أفصح من ذلك، وهذا لَحْنُ هُشيمٍ، وكان لحَّانًا. فقال: وما حجتك؟ فقلتُ: قول العَرْجيّ: أضاعوني وأيّ فتًى أضاعوا ... ليوم كَريهة وسِداد ثَغْرِ قال: فسكت. قال أبو أحمد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب بن زُرَيق، مولى طلحة بن عبد الله الخزاعي: أخبرنا أبو القاسم إسحاق بن

إبراهيم بن محمد بن غالب بن حمَّاد الكِنَانيّ قال: حدثنا أحمد بن عبد الله الكندي قال: حدثني فورك بن ناصح قال: حدثني النضر بن شُمَيل المازني التميمي المروزي. وروى أحمد بن عمر التميمي، عن أبي بشر الأصبهاني قال: أخبرني النضر بن شميل المازني قال: كنتُ أدخلُ على المأمون في سَمَزه، فدخلتُ يومًا وعليَّ إزارٌ مَرْقوع، فقال لي: يا نضر، ما هذا التقشف؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا شيخ، وحرُّ مَرْوَ كما ترى، فأحببت أن أتبرد بهذه الخُلْقَان. قال النضر: فجرى بنا الحديث في ذكر النساء، فقال المأمون: حدثنا هُشيم بن بشير، حدثنا مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أيما رجل تَزوَّجَ امرأةً لدينها وجمالها؛ كان في ذلك سَدادٌ مِن عَوَزٍ". قلت: يا أمير المؤمنين، صدق هشيم. حدثنا عوف بن أبي جميلة الأعرابي قال: حدثنا الحسن بن علي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أيما رجل تَزوَّجَ امرأةً لدينها وجمالها؛ كان في ذلك سِدادٌ مِن عَوَزٍ". قال: وكان متكئًا فاستوى جالسًا، ثم قال: يا نضرُ، كيف قال هشيم: "سَداد"، ولم يقل: "سِداد"؟ وما الفرق بينهما؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين، السَّداد القصد في الدِّين والسَّبيل، والسِّداد -بالكسر- من الثّغر والثُّلْمة، وكل ما سددت به شيئًا فهو سِداد. قال: وتعرف العرب ذلك؟ قلتُ: نعم، قال الشاعر: أَضاعوني، وأَيَّ فتًى أضاعوا ... ليوم كريهة وسِداد ثَغْرِ كأنِّي لم أكنْ فيهمْ وسيطًا ... ولم تكُ نسبتي في آل عَمْرِو قال: قَبَّحَ اللهُ اللَّحنَ! قلتُ: يا أمير المؤمنين، إنه لحن هشيمٍ، وكان هشيم لحَّانة، فاتَّبع أميرُ المؤمنين لفظَه، وقد تُتْبَعُ أخبارُ الفقهاء. ثم قال: يا نضر، هل تروي من الشعر شيئًا؟ قلتُ: نعم، يا أمير المؤمنين. قال:

فأنشِدْني أخلْبَ بيت قالت العرب. قال: قلتُ: قول حمزة بن بِيض، حيث يقول في الحَكم: تقول لي والعيونُ هاجعةٌ: ... أَقِمْ علينا يومًا، فلم أُقِمِ أيَّ الوجوهِ انتجعتَ؟ قلتُ لها: ... وأين وجهٌ إلَّا إلى الحَكَمِ مَتَى يقلْ صاحبا سُرَادقه: ... هذا ابن بِيضٍ بالباب؛ يبتسمِ قال: أحسن والله ما شاء! قال: فأنشدني أنصف بيت قالت العرب. قال: قول أبي عَروبة المدنيِّ يا أمير المؤمنين، إذ يقول: إني وإن كان ابنُ عمي واغرًا ... لَمُزاحم من خَلْفِهِ وورائِهِ ومُعده نصري وإن كان امرأً ... متباعدًا في أرضه وسمائه وأكون والِيَ سِرِّه وأصونُه ... حتى أصيرَ إلى زمان إخائه وإذا الحوادثُ أَلحقَتْ بسَوامِه ... قُرِنَتْ صحيحتُنا إلى جَرْبائه وإذا دعا باسْمِي ليركب مَرْكَبًا ... صعبًا ركبتُ له على سِيسَائِهِ وإذا رأيتُ عليه بُرْدًا ناضرًا ... لم يُلْفِني متمنِّيًا لردائه قال: أجاد والله ما شاء! فأنشدني أقنع بيت قالته العرب. قال: قلت:

بيت الراعي حيث يقول: أطلبُ ما يطلبُ الكريم من الر ... زق لنفسي فأُجمِلُ الطلبَا وأحلبُ الثَّرَّةَ الصَّفِيّ ولا ... أحلُبُ أَخلاف غيرِها حلَبا إنِّي رأيت الكريمَ وهو إذا ... رغَّبْتَه في صنعية رغِبَا والنَّذْل لا يطلب العلا فهْو لا ... يُعطيك شيئًا إلا إذا رَهِبَا كمثل عَيْرٍ موقّع هُو لا ... يُحْسِن مشيًا إلا إذا ضُرِبا ولم أجد عزة الحياة سوى ذا الد ... ينِ لمّا اختبرت والحسبا قد يُدْرك الخافضُ المقيمُ وما ... شدَّ لعَنْسٍ رَحْلا ولا قَتَبا ويُحرمُ الرزقَ ذو المطيّةِ والرَّ ... حْل ومَنْ لا يزال مُغْترِبا قال: أحسن والله ما شاء! ما مالُك يا نضر؟ قلتُ: فريضة لي بمَرْوالرّوذ أتَضَهَّلُها وأتمَزَّزُ بها. قال: أفلا أفيدُك إلى مالك مالًا؟

قال: قلت: إني إلى ذلك لمحتاج. قال: فتناول الدواةَ والقرطاس وكتب، ولم أدر ما كتب. ثم قال لي: يا نضر، كيف تقول إذا أمرتَ أن تُتْرب كتابًا؟ قال: قلتُ: أَترِبْه. قال: فهو ماذا؟ قلتُ: مُتْرَب. قال: فمن الطين؟ قلتُ: طِنْه. قال: فهو ماذا؟ قلتُ: مطين. قال: قال: فمن السَّحاءة؟ قال: قلتُ: اسحه. قال: فهو ماذا؟ قلتُ: مَسحيٌّ ومسحوٌّ. قال: يا غلامُ، أَترِب واسْحُ وطِنْ. ثم قام فصلى بنا المغرب، ثم قال لغلام فوق رأسه: تبلّغ معه الكتاب إلى الفضل بن سَهْل. قال: فدخلنا عليه، فتناول الكتاب، فقرأه، وقال: يا نضر، إن أمير المؤمنين قد أمر لك بخمسين الف درهم، فما القصة؟ قال: فحدثته الحديث، ولم أكتمه شيئًا، قال: فقال لي: لحَّنتَ أميرَ المؤمنين! قال: قلتُ: كلَّا، إنما لحنَ هشيمٌ -وكان لحَّانة-، فتبع أميرُ المؤمنين لفظَه، وقد تُتَّبَعُ ألفاظ العلماء. فأمر لي بثلاثين ألف درهم، فأخذت بكلمة واحدة استفادها ثمانين ألف درهم. أبو بكر محمد بن يحيى الصولي قال: حدثنا أبو عمر الجرمي البصري قال: حدثني عبد الخالق بن منصور النيسابوري قال: حدثني محمد بن حاتم المؤدب قال: مرض النضر بن شميل بن خرشة المازني، فدخل الناس يعودونه، فقال له رجل من القوم: مَسَحَ اللهُ ما بك. فقال النضر: لا تقل: "مسح الله"، ولكن قل: "مصح"، ألم تنظر إلى قول الأعشى: وإذا ما الخمرُ فيها أَزبدتْ ... أَفَلَ الإِزبادُ فيها فمصَحْ فقال الرجل: لا بأس، السين قد تعاقب الصاد فتقوم مقامها. فقال النضر: إن كان هذا هكذا؛ فينبغي أن تقول لمن اسمه سليمان: "صليمان"، وتقول: "رصول الله"، وتقول لمن يكنى أبا صالح: "أبا سالح"! ثم قال النضر: لا يكون هذا في السين إلا مع أربعة أحرف: الطاء، والخاء، والقاف، والغين.

21 - أبو محمد اليزيدي

فيبدلون السين صادًا في هذه إذا وقعت السين قبلها، وربما أبدلوها بزاي، كما قالوا: سراط، وصراط، وزراط. -قال محمد: مَصَح الظلُّ؛ إذا زال وذهب. وقال: إذا ولَّى لونُ الزَّهر قيلَ: مَصَح يَمْصح مصوحًا-. وأنشد أبو زياد في صفة الهودج: يُكسَيْن رقْم الفارسيّ كأَنَّه ... زَهَرٌ تتابَع لونُه لَمْ يَمْصَح حدثنا أحمد بن سعيد قال: حدثنا أحمد بن خالد قال: حدثنا الخُشنِي، عن محمد بن المغيرة أبي العباس قال: حدثنا ابن أبي رِزْمة قال: سأل رجلٌ النضر بن شميل أن يقرأ عليه ويترسَّل ويزيده في الدَّوْلة، فقال النضر: تسأَلني أم الحسينِ جَمَلا ... يمشي رويدًا ويَكُون أَوَّلا وتوفي بمرو سنة ثلاث ومئتين. وكان عالمًا بفنونٍ من العلم، وكان صدوقًا ثقة. وقد رُوِي عنه الحديث، وكان صاحب حديث، وغريب، وشعر، وفقه، ومعرفة بأيام الناس. وزعم ابن الفراء المصري أنه كان يكنى أبا الحسن. 21 - أبو محمد اليزيدي هو يحيى بن المبارك، مولى بني عدي بن عبد مناة بن تميم. وكان مُعلِّمًا قُبالة دار أبي عمرو بن العلاء دهرًا. وقيل له: "اليزيدي" لأنه أدَّب أولاد يزيد بن منصور الحِمْيَرِيّ. وقال أبو حاتم: اليزيدي هو مولًى لبني عديٍّ، وليس أيضًا منهم، ولكن كذا يقولون، كان نازلًا فيهم، نُسب إلى اليزيد، وكان مُؤدِّبًا ليزيد بن مِزْيد.

وقال أبو حاتم: قال الاصمعي: كان هاهنا مؤدب يقطع الصيف في رداء وَذِرَةٍ، وكان سفيهًا. وكان جارًا لأبي عمرو بن العلاء، وكان لزم قراءة شعيب بن صخر. وقال الفضل بن الحُباب: قال لي محمد بن سلام: ما جالست أحدًا عنده من العلم إلَّا دون ما وجدتُ عند شعيب بن صخر. وقال ابن قتيبة: اسمه عبد الرحمن، والأشهر يحيى. وهو من غلمان أبي عمرو بن العلاء في النحو والغريب والقراءة، وكان مؤدب المأمون، وخرج معه إلى خراسان، وتوفي بها. قال محمد بن عبيد الله بن أبي محمد اليزيدي: أتانا النضر بن شميل بمرو يعزِّينا عن أبينا، فقال: كنتُ مع أبي محمد وأبي زيد الأنصاري في كتَّاب، وهأناذا قد جئتُ أعزّي بأبي محمد، النضرُ واللهِ لاحقٌ به. فلما صِرْنا إلى جرجان جاءنا نعيُه. وكان اليزيدي ظريفًا، حدَّث أبو حنيفة عن أبي الفضل اليزيدي قال: انصرف اليزيدي من كتَّابه يومًا، فقعد المأمون مع غلمانه ومَن يأنس به، وأمر حاجبَه ألَّا يأذن عليه لأحد -وهو صبيٌّ في ذلك الوقت- فبلغ اليزيدي خبرُه، فصار إلى الباب فمُنِع، فكتب إليه: هذا الطفيليُّ علَى البابِ ... يا خيرَ إخواني وأصحابِي فصيِّروني رجلًا منكمُ ... أو أخرِجوا لي بعضَ أَتْرابي فأذن له، فدخل، فانقبض المأمون، فقال: أيها الأمير عُدْ إلى انبساطك، فإني إنما جئت على أن أكون نديمًا لا مُعلِّمًا. ومن قول اليزيدي يعتذر إلى المأمون من شيء تكلَّم به وهو سكران:

أنا المذنبُ الخطَّاءُ، والعَفْوُ واسعٌ ... ولو لم يكنْ ذنبٌ لما عُرِفَ العفوُ سَكِرتُ فأَبدت مِنِّي الكأسُ بعض ما ... كرهتُ، وما إن يستوِي السُّكْرُ والصحوُ ولا سِيَّما إذْ كنتُ عند خليفةٍ ... وفي مجلسٍ ما إن يجوز به اللغوُ فإن تعفُ عني أُلْفِ خطويَ واسعًا ... وإلَّا يكن عفوٌ فقد قَصُرَ الخطوُ ومن قوله يهجو الأصمعيَّ في شعره: ومَنْ أَنت؟ هل أنت إلا امرؤٌ ... -وإن صحَّ أصلُك- من باهلهْ وحسبُك لُؤمُ قبيلٍ به ... لمن هي في كفِّه حاصلهْ فكيف لمن كان ذا دِعْوةٍ ... وكِفّةُ نِسْبَتِهِ شائلهْ حدثني محمد بن العباس الهاشميُّ الحلبيُّ قال: حدَّثنا محمد بن إبراهيم الأنماطيُّ قال: حدثنا محمد بن عبد العزيز قال: حدثنا شاذان بن محمد قال: حدثنا الأصمعي قال: سمعتُ أبا محمد اليزيدي يقول: كنت أؤدب المأمون وهو في حِجْر سعيدٍ الجوهري، فأتيته يومًا، فوجَّهت إليه بعضَ خدمه ليخرج إليّ فأبطأ، فوجهت رسولًا آخر فأبطأ، فقلت لسعيد: إن هذا ربما تأخر واشتغل بالبَطالة. فقال لي سعيد: إذا فعل ذلك؛ فقوِّمه بالأدب. فلما خرج أمرتُ بحمله، فقوَّمتُه بسبع دِرَرٍ، فإنه لَيَدْلُك عينيه بالبكاء إذْ قيل: جعفر بن يحيى بن بَرْمك قد أَقْبَل، فأخذ منديلًا فمَسح عينيه، وقام إلى فراشه مُسرعًا،

فجلس عليه ثم قال: يدخل. فدخل، وقمت عن المجلس إلى فراشه مُسرعًا، وخفتُ أن يشكوَني إليه، فألقى منه ما أكره. قال: فأقبل عليه بوجهه، وحدثه بوجه طَلْق وضحك. فلما همَّ بالحركة قال: يا غلام، دابَّته. وأمر غِلْمانه فمضوْا بين يديه، ثم سأل عني فجئته، فقال: ما حَملك على ما صنعت من خروجك عنا؟ فقلت: أيها الأمير، لقد خفتُ أن تشكوَني إلى جعفرٍ، ولو فعلتَ لنَكَّل بي. فقال: إنَّا لله يا أبا محمد! يغفر الله لك! لقد خطر ببالك ما لا يكون. قال: فكنتُ أهابه بعد ذلك، وأجلُّه. ومن قول أبي محمد اليزيديّ في عِنان جارية الناطفيّ وأبي ثعلب الأعرج، وكان شاعرًا: أبو ثعلبٍ للناطفيّ زَؤُورُ ... على خبئه والناطفيُّ غيورُ وبالبغْلةِ الشهباء رِقَّةُ حافرٍ ... وصاحبنا ماضِي الجَنان جسورُ ولا شك في أن الأعيرج آرها ... وما الناس إلا آيرٌ ومَئِيرُ ومن قوله - أنشدناه المدائنيُّ، ويقال: إنه أنشدهما الكسائي، وكان يماضّه، وقد رثاه اليزيدي بعد موته: يا رجلًا خفَّ عنده الثِّقَلُ ... حتى به صار يُضرَبُ المثلُ ثَقُلت حتى لقد خَفَفْتَ كما ... سَمُجْتَ حتى مَلُخْتَ يا رجُلُ قال إسماعيل بن أبي محمد: كان لأبي شعر كثير في الرشيد وجعفر بن

يحيى وغيرهما، فلما حضره الموت أخذ علينا ألَّا نخرِج له غير المواعظ. ومن قوله قصيدته المشهورة: مَنْ يَلُمِ الدهر ألَا ... فالدهرُ غير مُعْتِبِهْ وفيها أمثال حِسَان وحكمة. وتوفي سنة اثنتين ومئتين، وهي السنة التي خرج فيها المأمون من مرو إلى العراق، ودخل سنة أربع في صفر فيها. * * * قال أبو بكر محمد بن حسن الزبيدي: ووجدتُ بخط المستنصر رحمه الله: وَلَد أبو محمد يحيى بن المبارك اليزيدي: محمدًا، وعبدَ الله أبا عبد الرحمن، وأبا يعقوب إسحاق، وأبا إسحاق إبراهيم، وإسماعيل؛ بني أبي محمد يحيى بن المبارك. فولد محمد بن أبي محمد العباسَ أبا الفضل، والفضل أبا العباس، وعبيد الله أبا القاسم، وأحمد، وجعفرًا. فولد العباس محمدًا، وكان كأعمامه في الآداب. وكلهم أديب عالم. ومِمَّن نَبُلَ مِن أولادهم، وحُمِل عنه: محمد بن عبيد الله بن محمد، وإسحاق بن إبراهيم بن أبي محمد، وأحمد أخوه. قال الفرغاني: توفي أبو عبيد الله محمد بن أبي الفضل العباس بن محمد بن أبي محمد يحيى بن المبارك اليزيدي النحوي في شهر جمادى الآخرة من سنة عشر وثلاثمئة في خلافة المقتدر بالله، وهي السنة التي مات فيها أبو جعفر الطبري -رحمهما الله-، وكان عالمًا بالعربية، حاملًا لعلم سلفه اليزيديين، أديبًا

22 - سيبويه

فاضلًا، قد حدَّث، وكتب الناس عنه علمًا كثيرًا، ومولده للنصف من شهر ربيع الأول سنة ثلاثين ومئتين، وهو الذي ذكر المستنصر أولًا، وأثنى عليه، وألحقه بأعمامه. 22 - سيبويه هو عمرو بن عثمان بن قَنْبَر، مولى بني الحارث بن كعب بن عمرو بن عُلَة بن جَلْد بن مالك بن أُدد. أخذ عن الخليل. قال أبو علي البغدادي: ولد سيبويه بقرية من قرى شيراز، يقال لها: "البيضاء" من عَمَل فارِس، ثم قدم البصرة ليكتب الحديث، فلزم حلقة حماد بن سلمة، فبينا هو يستملي على حماد قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليس مِن أصحابي إلَّا مَن لو شئتُ لأخذتُ عليه ليس أبا الدرداء". فقال سيبويه: "ليس أبو الدرداء". فقال حماد: لحنت يا سيبويه، ليس هذا حيث ذهبت، وإنما "ليس" هاهنا استثناء. فقال: سأطلب علما لا تلحنني فيه. فلزم الخليل فبرع. وقال عبيد الله بن معاذ العنبري البصري: جاء سيبويه إلى حماد بن سلمة، فقال: أحدثك هشام بن عروة، عن أبيه، في رجل رَعُفَ في الصلاة؟ فقال حماد: أخطأتَ، إنما هو "رَعَفَ". فانصرف إلى الخليل، فشكا إليه ما لقيه من حماد، فقال: صدق حماد، ومثل حماد يقول هذا. و"رَعُفَ" لغة ضعيفة، والصحيح "رَعَفَ". وقال أحمد بن معاوية بن بكر العُلَيْمِيّ: ذُكِر سيبويه النحوي عند أبي، فقال: عمرو بن عثمان قد رأيته، وكان حَدَثَ السِّنِّ، كنت أسمع في ذلك

العصر أنه أثبتُ مَن حمل عن الخليل بن أحمد، وقد سمعته يتكلم ويناظر في النحو، وكانت في لسانه حُبسة، ونظرت في كتابه، فعلمه أبلغ من لسانه. وقال ابن قتيبة: حدثني أبو حاتم، عن أبي زيد الأنصاري قال: كان سيبويه غلامًا يأتي مجلسي، له ذؤابتان، فإذا سَمِعتَه يقول: حدَّثني مَن أثق بعربيَّته. فإنما يعنيني. وقال الأخفش سعيد بن مسعدة: كان سيبويه إذا وضع شيئًا من كتابه، عرضه عليَّ، وهو يرى أني أعلم منه، وكان أعلم مني، وأنا اليوم أعلم منه. وذكر محمد بن سلام قال: كان سيبويه النحوي جالسًا في حلقته بالبصرة، فتذاكرنا شيئًا من حديث قتادة، فذكر حديثًا غريبًا وقال: لم يروِ هذا إلا سعيد بن أبي العَروبة. فقال له بعض ولد جعفر بن سليمان: ما هاتان الزائدتان يا أبا بشر؟ فقال: هكذا يقال؛ لأن العروبة هي الجمعة، ومن قال: "عروبة" فقد أخطأ. قال ابن سلام: فذكرت ذلك ليونس، فقال: أصاب، لله دره! قال ابن عائشة: كنا نجلس مع سِيبويهِ النحويِّ في المسجد -وكان شابًّا جميلًا نظيفًا، قد تعلَّق من كل علمٍ بسبَب، وضرب فيه بسهم، مع حداثة سنه، وبراعته في النحو-، فبينا نحن عنده ذات يوم إذ هبَّت ريحٌ أطارت الوَرَق، فقال لبعض أهل الحلْقة: انظر أيُّ ريح هِي؟ وكان على منارة المسجد تمثال فرس من صُفْر - فنظر ثم عاد فقال: ما يثبُتُ الفرس على شيء. فقال سيبويه: العرب تقول في مثل هذا: تَذَاءَبت الريحُ، أي فعلت فعل الذئب لِيخْتِل، فيتوهمَ الناظر أنه عدَّة ذئاب. وقال ابن النطاح: كنت عند الخليل بن أحمد، فأقبل سيبويه، فقال الخليل: مرحبًا بزائر لا يُمَلُّ. قال أبو عمرو المخزومي -وكان كثير المجالسة للخليل-: ما سمعت الخليل يقولها إلا لسيبويه.

حدثنا أحمد قال: حدثنا أحمد قال: حدثنا مروان قال: حدثنا العباس بن الفرج الرياشي قال: كان سيبويه سُنِّيًّا على السُّنَّةِ. حدثنا مروان، حدثنا الرياشي قال: سمعتُ عمرو بن مرزوق يقول: رأيتُ سيبويهِ والأصمعيَّ يتناظران، قال: يقول يونس بن حبيب: الحق مع سيبويه، وقد غلب ذا -يعني الأصمعي- بلسانه. وحكى أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس النحوي المصري قال: قال أحمد بن يحيى ثعلب، ومحمد بن يزيد المبرد: لما ورد سيبويه العراق شقَّ أمرُه على الكِسائي، فأَتَى جعفرَ بن يحيى بن برمك، والفضلَ بنَ يحيى بن برمك وقال: أنا وليُّكما وصاحبُكما، وهذا الرجل إنما قدم ليُذهب محلي. قالا: فَاحْتَلْ لنفسك، فإنَّا سنجمع بينكما. فجُمِعا عند البرامكة، وحضر سيبويه وحده، وحضر الكسائي ومعه الفراء والأحمر وغيرهما من أصحابه. فسألوه: كيف تقول: "كنت أظن العقرب أشدَّ لَسْعَةً من الزُّنبور، فإذا هو هي" أو "هو إيَّاها"؟ قال: أقول: "فإذا هو هي". فأقبل عليه الجميع فقالوا: أخطأتَ ولحنتَ. فقال يحيى بن خالد بن برمك: هذا موضعٌ مُشكِلٌ؛ حتى يُحكَمَ بينكم. فقالوا: هؤلاء الأعراب على الباب. فأُدخِلَ أبو الجراح ومَن وُجد معه ممَّن كان يأخذ منه الكسائي وأصحابه، فقالوا: "فإذا هو إياها". فانصرم المجلس على أنَّ سيبويه قد أخطأ. فأعطاه البرامكة وأخذوا له من الرَّشيد، وبُعِث به إلى بلده، فيقال: إنه ما لبث إلا يسيرًا، ثم مات كمدًا. قال أبو الحسن علي بن سليمان: وأصحاب سيبويه إلى هذه الغاية لا اختلافَ بينهم أن الجواب كما قال سيبويه، وهو: "فإذا هو هي"؛ أي: فإذا هو مثلُها. وهذا موضع الرفع، وليس موضع النصب. فإن قال قائل: فأنت تقول: خرجتُ فإذا زيدٌ قائمٌ وقائمًا، فتنصب "قائمًا". ولم يكن "فإذا هو إياها"؛ لأن "إيَّا" للمنصوب، و"هي" للمرفوع؟ فالجواب في هذا أن "قائمًا" انتصب ثَمَّ على

الحال وهو نكرة، و"إيَّا" مع ما بعدها مما إليه معرفة، والحال لا تكون إلا نكرة، فبطل "إياها" ولم يكن إلا "هي" وهو خبر الابتداء، وخبر الابتداء يكون معرفة ونكرة، والحال لا تكون إلا نكرة، وكيف تقع "إياها" وهي معرفة موضعَ ما لا يكون إلا نكرة وهو موضع الرفع! ويقول أصحاب سيبويه: الأعرابُ الذين شهدوا الكسائي من أعراب الحُطَمة الذين كانوا يقوم بهم الكسائي ويأخذ عنهم. قال: وروى هذه الحكاية الأوارجِيُّ الكاتب بأتمَّ من هذا، وأنا مجتلبُها على حسب ما روى. قال: حدثني أبو جعفر أحمد بن محمد بن رستَم الطبري قال: حدثني أبو عثمان المازنيُّ قال: حدَّثني أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش: أن أبا بشْر عمرو بن عثمان بن قَنْبَر سيبويه لما قدِم على أبي عليٍّ يحيى بن خالد بن بَرْمك سأله عن خَبَره والحال التي وردَ لها. فقال: جئتُ لتجمعَ بيني وبين الكِسائيِّ. فقال له: لا تفعل؛ فإنه شيخ مدينة السلام وقارئُها، ومُؤدِّبُ ولد أمير المؤمنين، وكلُّ مَن في المِصْر له ومعه. فأبى إلا أن يَجمع بينهما، فعرَّف الرشيد خبرَه، فأمر بالجمْع بينهما، فوعده بيوم، فلما كان ذلك اليوم غدا إلى دار الرشيد، فوجد الفرَّاء، والأحمر، وهشام بن معاوية، ومحمد بن سَعْدان قد سبقوه، فسأله الأحمرُ عن مئة مسألة فأجابه عنها، فما أجابه بجواب إلا قال: أخطأتَ يا بصريُّ. فوجَم لذلك سيبويه. ووافى الكسائي ومعه خَلْق من العرب، فلما جَلس قال له: يا بصريُّ، كيف تقول: "خرجتُ فإذا زيدٌ قائمٌ"؟ فقال: "خرجتُ فإذا زيدٌ قائمٌ". فقال له: أيجوز: "فإذا زيدٌ قائمًا"؟ فقال: لا. فقال الكسائي: هذه العرب على باب أمير المؤمنين، وقد حضرتْ فتُسألُ. فقال: سَلْها. فقال لهم الكسائيُّ: كيف تقولون: "قد كنت أَحْسِب أنَّ العقربَ أشدُّ لَسعةً من الزُّنبور، فإذا الزُّنبور إيَّاها بعينها"؟ فقالت طائفة: "فإذا الزُّنبور هِي". وقالت أخرى: "إيَّاها بعينها". فقال: هذا خلافُ ما تقول يا بصريُّ. فقال: أمَّا عربُ بلدنا فلا تعرف إلا "هو

هي". فخطَّأته الجماعةُ وحَصِر، فأعطاه يحيى بن خالد عشرة آلاف درهم وصرفه. قال الأخفش: فلمَّا دخل إلى شاطئ البصرة وجَّه إليَّ فجئتُه، فعرَّفني خبرَه مع البغدادي، وودَّعني ومضى إلى الأهواز. وتزوَّدتُ وجلستُ في سُمَارِيَة حتى وردتُ بغداد، فوافيتُ مسجد الكسائي، فصلَّيتُ خلْفَه الغداةَ، فلمَّا انْفَتَلَ من صلاته، وقَعَد في محرابه، وبين يديه الفراء والأحمر وهشام وابن سَعْدان سألتُه عن مئة مسألة، فأجاب عنها بجوابات خطَّأتُه في جميعها. وأراد أصحابُه الوثوب عليَّ، فمنعهم من ذلك، ولم يقطعْني ما رأيتُهم عليه مما كنتُ فيه. فلما فرغت من مئة مسألة، قال الكسائي: بالله أنت أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش؟! قال: قلتُ: نعم. فقام إليَّ وعانقني وأجلسني إلى جانبه، ثم قال لي: أولادي أُحِبُّ أن يتأدَّبوا بكَ، ويخرَّجوا على يديك، وتكونَ معي غيرَ مفارِق لي. وسألني ذلك فأجبتُه فلما اتَّصلت الأيام بالاجتماع سألني أن أؤلف له كتابًا في "معاني القرآن"، فألَّفتُ كتابي في المعاني، فجعله إمامًا لنفسه وعمل عليه كتابًا في المعاني، وعمل الفرَّاءُ كتابه في المعاني عليهما. فأقام سيبويه مُديْدة في الأهواز، ثمَّ مات من ذَرَبٍ أصابَهُ، وما قتله إلا الغمُّ لما جرى عليه. أحمد بن يحيى قال: حدثني سلَمة قال: قال الفراء: قدم سيبويه على البرامكة، فعزم يحيى بن خالد على الجمع بينه وبين الكسائي، فجعل لذلك يومًا، فلما حضر تقدمتُ أنا والأحمر فدخلنا فإذا بمثال في صدر المجلس، فقعد عليه يحيى بنُ خالد، وقَعد إلى جانب المثال جعفر والفضل ومَنْ حضر بحضورهم، وحضرَ سيبويه فأقبل عليه الأحمرُ فسأله عن مسألة، فأجاب فيها سيبويه، فقال له: أخطأتَ. ثم سأله عن ثانية فأجابه، فقال: أخطأتَ. ثم سأله عن ثالثة فأجاب، فقال: أخطأتَ. فقال سيبويه: هذا سوء أدب. قال: فأقبلتُ عليه فقلت: إن في هذا الرجل جِدًّا وعَجَلة، ولكن ما تقول فيمن قال: هؤلاء أيُّون، ومررت

بأيِّين؟ وكيف تقول على مثال ذلك من وأيت أو أويت؟ فقدَّر وأخطأ، فقلت له: أعد النظر، فقدَّر فأخطأ، فقلت: أعد النظر، فقدَّر فأخطأ، فقلت له: أعد النظر، ثلاث مرات يُجيب ولا يصيب. فلما كَثُر ذلك عليه قال: لستُ أكلِّمكما أو يحضر صاحبكما حتى أناظره. قال: فحضر الكسائيُّ، فأقبل على سيبويه فقال: تسألُني أو أسألُك؟ فقال: لا، بل تسألني أنت. فأقبل عليه الكسائيُّ فقال: ما تقول، أو كيفَ تقول: "قد كنتُ أظنُّ العقربَ أشدَّ لسعةً من الزُّنبور فإذا هو هي"، أو "فإذا هو إيَّاها"؟ قال سيبويه: "فإذا هو هي"، ولا يجوز النصب. فقال له الكسائيُّ: لحنتَ. ثم سأله عن مسائلَ من هذا النوع: "خرجت فإذا عبد الله القائمُ" أو "القائمَ". قال سيبويه في ذلك كلِّه بالرفع دون النصب. فقال الكسائيُّ: ليس هذا كلامَ العرب، العربُ ترفعُ في ذلك كلِّه وتنصب. فدفع سيبويه قولَه. فقال يحيى بن خالد: قد اختلفتما، وأنتما رئيسا بلديكما، فمَن ذا يحكمُ بينكما؟! قال الكسائي: هذه العرب ببابك قد جمعتَهم من كل أوْب، ووفدتْ عليك من كل صُقْع، وهم فُصَحاء الناس، وقد قنع بهم أهل المِصْرين، وسمع أهلُ الكوفة وأهلُ البصرة منهم، فيُحضَرون ويُسألون. فقال يحيى وجعفر: قد أنصفتَ. وأمر بإحضارهم، فدخلوا عليه وفيهم أبو فَقْعَس وأبو دثار وابو الجرَّاح وأبو ثَرْوان، فسُئِلوا عن المسائل التي جرتْ بين الكسائيِّ وسيبويه، فتابعوا الكسائيَّ وقالوا بقوله. فأقبل يحيى على سيبويه فقال: قد تَسْمَع أيها الرجل! قال: فاستكانَ سيبويه، وأقبل الكسائيُّ على يحيى فقال: أصلح الله الوزير! قد وفَد عليك مِن بلده مُؤمِّلًا، فإن رأيتَ ألَّا تردَّه خائبًا. فأمر له بعشرة آلاف درهم، فخرج وصيَّره ووجَّهه إلى فارس، فأقام هناك حتى مات ولم يَعُدْ إلى البصرة. قال: إنما أدخل العماد ونصب. وحكى أحمد أبو جعفر النحاس، أن كِتابَ سيبويه وُجِد بعضُه تحت

23 - أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش

وِسادة الفرَّاء التي كان يجلس عليها. وقال أبو إسحاق الزّجاج: إذا تأمَّلتَ الأمثلة من كتاب سيبويه؛ تبينت أنه أعلمُ الناس باللغة. ورُوي أنه لما اعتلّ سيبويه وضَع رأسه في حِجر أخيه، فبكى أخوه لمَّا رآه لمآبه، فقطرتْ من دمعه قطرةٌ على وجْهه، فرفع سيبويه رأسه إليه فرآه يبكي فقال: أُخَيَّيْن كنَّا فَرَّق الدهر بيننا ... إلى الأَمَدِ الأقصى ومَنْ يأمن الدهرا! وقال أبو سعيد الطُّوال: رأيتُ على قبر سيبويه هذه الأبيات مكتوبة، وهي لسليمان بن يزيد العَدَويّ: ذهب الأَحِبَّةُ بعد طول تَزَاورٍ ... ونأَى المزارُ فأَسلموكَ وأَقْشَعوا تركوك أوْحشَ ما تكونُ بقَفرَةٍ ... لم يُؤنِسوك وكُرْبَةً لم يَدْفعوا قُضِيَ القضاءُ وصِرْتَ صاحبَ حُفْرةٍ ... عنك الأَحِبَّةُ أَعْرَضوا وتَصدَّعوا وحدثني أبو عبد الله بن طاهر العسكريُّ قال: سيبويه اسم فارسي، فالسي ثلاثون، وبويه رائحة، فكأنه في المعنى: ثلاثون رائحة. وكان فيما يقال حسنَ الوجه. وتوفي وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، سنة ثمانين ومئة. 23 - أبو الحسن سعيد بن مَسْعَدة الأخفش هو سعيد بن مَسْعدة المجاشعيّ، مولى بني مُجاشع، يُكنَى أبا الحسن، أخذ عن سيبويه، ويُعرَف بالأخفش الصغير؛ لأن الأخفش الكبير هو

عبد الحميد بن عبد المجيد، ويُكنَى أبا الخطاب. وكان سعيد بن مَسْعَدَةَ أكبرَ من سيبويه، وصحب الخليل قَبْل صُحْبته لسيبويه. وكان مُعلِّمًا لولَد الكسائيِّ، وقرأ عليه الكسائيُّ كتابَ سيبويه، فوهَبَه سبعين دينارًا. حدثنا أحمد، حدثنا أحمد قال: حدثنا مروان، قال أبو حاتم: كان الأخفش قد أخذ كتاب أبي عبيدة في القرآن، فأَسْقَط منه شيئًا، وزاد شيئًا، وأَبْدَل منه شيئًا. قال أبو حاتم: فقلتُ له: أيُّ شيء هذا الذي تصنع؟ مَنْ أَعرفُ بالغريب: أنت، أو أبو عبيدة؟ فقال: أبو عبيدة. فقلت: هذا الذي تَصْنع ليس بشيءٍ. فقال: الكتابُ لِمَن أصلَحه، وليس لِمَن أَفْسَده. قال أبو حاتم: فلم يُلْتَفَتْ إلى كتابه، وصار مَطروحًا. قال أبو حاتم: وكان الأخفشُ يُنسَبُ إلى القَدَر. وقال: كتابُه في المعاني صُوَيلح، إلَّا أن فيه مذاهب سوء في القَدَر. وكان أبو حاتم يَعيب كتابه في القرآن في جمع الواحد. وقال أبو حاتم سَهْل بن السِّجِسْتَاني في كتابه في القراءات حيث ذكر القُرَّاء والعلماء: كان في المدينة عليٌّ الجمل -كان يلقب بالْجَمَل- وضع كتابًا في النحو لم يكن شيئًا فذَهَب، وأظنُّ الأخفش سعيد بن مسعدة وضع كتابه في النَّحو من كتاب الجَمَل؛ ولذلك قال: الزيت رطلان بدرهم. والزيت لا يُذكَر عندنا؛ لأنه ليس بإدامٍ لأهل البَصْرة. وقال الأوَارجيُّ الكاتب: حدثني أحمد بن محمد بن رستم الطبري، عن الْجَرمي، أن الأخفش حدَّثه قال: لما دخلتُ بغداذ أتاني هشامٌ الضَّرير، فسألني عن مسائل عملها وفروع فرَّعها، فلمَّا رأيتُ أنَّ اعتمادَه واعتماد غيره من الكوفيين على المسائل؛ عمِلْتُ كتاب المسائل الكبير، فلم يعرفوا أكثر ما أوردته فيه.

24 - أبو عمر الجرمي

قال: وحدثني أبو بكر محمد بن أحمد الخيَّاط النحوي غلام أبي جعفر أحمد بن محمد بن رستم الطبري، أنه قَصَد يومًا أحمد بن يحيى ثعلبًا، فدقَّ عليه الباب، فخرج وبيده جزء من مسائل الأخفش، فقال له: ويحك! صاحبك هذا مجنون، ويتكلَّم بما لا يُفْهم. فقلتُ: وأيُّ شيء وقفتَ عليه من هذا؟ فقال: كَمْ مني مكان السَّارية رجل. وكم مني مكان السارية ذراع؛ في غير ذلك من المسائل. فقلت له: هذا رجل أشرفَ على بحر، فهو يتكلَّم منه بما يريد. فسكتَ. حدثنا أحمد قال: حدثنا أحمد بن خالد قال: حدثنا مروان قال: سمعت أبا حاتم -وذكر الأخفش- فقال: كان رجل سوء. وكان الأخفش قَدَرِيًّا شِمْرِيًّا؛ يعني صنفًا من القَدَرِيَّة نُسِبوا إلى أبي شِمْر. ولم يكن يغلُو في القَدَر. وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: أول مَن أمْلى غريب كل بيت من الشعر تحته الأخفش، وكان ببغداذ، وكان الطوسيُّ مسْتَمْليه. قال: ولم أدْرِكْه لأنه كان قَبْلَ عصرِنا، وكان يقال له: الأخفش الراوية. وتوفي الأخفشُ سعيد بن مسعدة سنة خمس عشرة ومئتين. 24 - أبو عمر الجرمي هو أبو عمر صالح بن إسحاق البَجَلي، مولى لهم. نزل في جرْم فنُسِب إليهم. أخذ عن أبي الحسن الأخفش. قال أبو حاتم: كان الجرميُّ قد اختلط في آخر أمْره، وكان تَوْأَمًا، ولا يزال مَن خولط في الرَّحم يُصيبه شيءٌ. قال أبو حاتم: قال الجرميُّ: أنا لم أضع كتابًا في النحو؛ إنما اختصرت كتاب سيبويه. فقلتُ له: وذاك لو كنت تحسن تخْتصره.

25 - علي بن نصر الجهضمي

وقال أبو حاتم -وهو يذمُّ مختصر الجَرْمي-: ما أحد يأخذ ذلك الكتاب إلَّا رمى به، وذلك كان يُحسِنُ أن يَضَع كتابًا؟! وقال العباس بن الفرج -وسأله ابنه: أيُّهما أحبُّ إليك: كتاب أبي عمر في النحو، أم كتاب الأخفش؟ فقال: كتاب أبي عمر. أبو بكر بن شقير: حدثني أبو جعفر الطبري قال: سمعت الجرمي يقول: أنا مذ ثلاثون أُفتِي الناس في الفقه من كتاب سيبويه. قال: فحدَّثتُ به محمد بن يزيد على وجه التعجب والإنكار، فقال: أنا سمعتُ الجرميَّ يقول هذا، وأومأ بيده إلى أذنيه، وذلك أن أبا عمر الجرمي كان صاحبَ حديث، فلما علم كتاب سيبويه تفقَّه في الحديث، إذ كان كتاب سيبويه يُتعلَّم منه النظر والتفتيش. قال الجرمي: نظرتُ في كتاب سيبويه، فإذا فيه ألفٌ وخمسون بيتًا، فأما الألف فعرفتُ أسماء قائليها، وأما الخمسون فلم أعرف قائليها. 25 - علي بن نصر الجهضمي هو علي بن نصر الجَهْضَمِي. حدثنا أبو علي إسماعيل بن القاسم البغداذي، عن إبراهيم بن السري، حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال: لما أراد سيبويه أن يؤلف كتابه، قال لأبي: تعال نُحْيِي علم الخليل. قال أبو إسحاق: حدثني القاضي إسماعيل بن إسحاق قال: حدثني نصر بن علي قال: سمعتُ الأخفشَ يقول: نفِذَ من أصحاب الخليل في النحو أربعة: سيبويه، والنضر بن شميل، وعلي بن نصر -وهو أبو نصر بن عليٍّ هذا-، ومُؤرِّج السَّدُوسِيُّ. 26 - مُؤرِّج بن عمرو هو مؤرج بن عمرو السدوسي، كان عالمًا بالعربية، إمامًا في النحويين، وتوفي سنة خمس وتسعين ومئة.

27 - محمد بن أبي محمد اليزيدي

27 - محمد بن أبي محمد اليزيدي هو محمد بن أبي محمد اليزيدي. وكان لأبي محمد أبناء، كلهم عالم شاعر كثير الرواية متَّسع في العلم، منهم: محمد بن أبي محمد، وإبراهيم بن أبي محمد، وإسماعيل، وأبو عبد الرحمن عبد الله بن أبي محمد، وأبو يعقوب إسحاق بن أبي محمد اليزيدي، وكلهم قد روى وألَّف في اللغة والعربية. وكان محمدٌ أسنَّهم، فأدَّب المأمون مع أبيه. قال أبو الحسن علي بن سليمان بن الفضل الأخفش: حدثنا أبو القاسم عبيد الله بن محمد بن أبي محمد قال: أخبرني عمي أبو إسحاق إبراهيم بن أبي محمد قال: كان أخي محمد بن أبي محمد يقرئ المأمون في كل يوم، فلما ثقُل سَمْعُ أخي قال له المأمون: يا محمد، في قراءتي عليك مؤونة عليَّ؛ لأني أحتاج إلى أن أرفع صوتي بأكثر من طاقتي، فمر أخاك إبراهيم وابنك أحمد -وهو أبو جعفر- بأن يحضر كل واحد منهما في يوم لأقرأ عليه، وتكون حاضرًا، فإن شككتُ في شيء سألتك عنه. قال: فقرأ عليَّ في يوم نوبتي سورة مريم، قال: {إنما أنا رسول ربِّك لِيَهَبَ لكِ}، فقال يحيى بن أكثم: لا أحبُّ لك يا أمير المؤمنين أن تقرأ هذه القراءةَ. فقال له المأمون: وَلِمَ؟ قال: لأنها تخالف المصحف. فالتفت إليَّ المأمون فقال: ما تقول يا إبراهيم؟ قلت: يا أمير المؤمنين، هذه قراءة قد قرأ بها غيرُ واحد من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، أَوَّلُهم أبوك عبد الله بن العباس. قال: فالتفت إليَّ أخي محمدٌ فقال: ما أنتم فيه يا إبراهيم؟ قال: قلت: قرأ أمير المؤمنين: {إنما أنا رسول ربِّكِ لِيَهَبَ لكِ}، فقال يحيى: لا أحب أن تقرأ بهذا الحرف. قال: فَلِمَ؟ قال: لأنه مخالف لما في المصحف. فقال أخي للمأمون: ما ليحيى ولهذا! هذا حرف قد قرأ به جماعة من أصحاب

النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن التابعين. أَوَكُلُّ ما في المصحف يُقرَأُ به؟ والله يا أمير المؤمنين لو لم يُقرأ بهذا إلا أن الله -عز وجل- أخبرنا أن الملَك أتاها فقال: إنما أنا رسول ربِّكِ لِيَهَبَ اللهُ لك، ليس لأهب أنا لك؛ لكان ينبغي أن يقرأ به. قال: فسكتَ يحيى وما تكلَّم. ومِن قولِه، أنشده دِعْبل: أَتَظْعَنُ والذي تَهْوَى مقيمُ ... لَعَمْرُك إنَّ ذا خطرٌ عظيمُ إذا ما كنتَ للحدثَان عونًا ... عليك وللهموم فَمَنْ تلومُ! شقِيتُ به فما أنا عنه سالٍ ... ولا هوَ إذْ شقيتُ به رحيمُ وأنشد أبو هَفَّان لمحمد بن أبي محمد اليَزيدي يرثي حماره: أَلا يا حماري كنتَ زَيْني وحِلْيَتِي ... وكنتَ سِرَاجًا في الفِناء المعطَّلِ أأَرحلني منكَ الزمانُ وحِرْفتِي ... وما كان غير الله في الأرض مُرْحِلِي ووجدتُ في كتاب حمَّاد بن إسحاق الموصلي، عن أبيه، عن أيوب، عن أبي شمير قال: خرجت أنا ومحمد بن أبي محمد اليزيدي إلى متنزَّهٍ لنا بمرْو، فبينا نحن نشرب إذ أقبل قُنْفذ يدبُّ، فظنناه جائعًا، فقلنا: لو سقيناه. فوضعنا بين يديه نبيذًا، فشرب. قال محمد: هل لك أن أقول فيه شعرًا، ونغالط به سعيد بن سلْم الباهلي غدًا؟ قلت: شأنَك. فأنشأ يقول:

وطارق ليلٍ جاءَنا بعد هَجْعةٍ ... من اللَّيل إلا ما تحدَّثَ سَامِرُ قَرَيْنَاهُ صَفْو الوُدِّ حتى رأيتُه ... وقد جاء خَفَّاق الحشَا وهو سَادِرُ جميلَ المحيَّا في الرِّضَا فإذا أَبَى ... حمتْه من الضيْمِ الرماحُ الشواجرُ وَلستَ تراهُ واضعًا لسلاحِه ... يَدَ الدهر موتورًا ولا هو وَاتِرُ قال: وأنشد سعيد بن سلْم القصيدة، فاستحسنها، وقال: هكذا والله أشتهي أن يكون الفتى متيقظًا. فضحكنا، فقال: لكما والله قِصَّة، ولا تفارقاني حتى تخبراني بها. فأخبرناه. وأنشدني عبيد الله بن محمد بن يحيى اليزيدي قال: أنشدني أحمد بن محمد أخي قال: أنشدني أبي لنفسه، وأنشدَنيها أبو جعفر أحمد بن إبراهيم لعمه محمد بن أبي محمد: إن شيبًا صلاحُه بالخِضاب ... لعذَابٌ مُوَكَّلٌ بعذاب ولعمرُ الإله لولا هوى البـ ... ـيضِ وأَنْ تشمئزَّ نفسُ الكَعَاب لأَرحْتُ الخديْن من وَضَر الخِطْـ ... ـر وأذعنتُ لانقضاء الشَّبابِ وحدَّث عبيد الله بن محمد بن أبي محمد اليزيدي قال: حدثني أحمد بن محمد أخي، عن أبي قال: ما سرقت من الشعراء إلا بيتين، فإني غلبتُ عليهما، حتى ليس يُنسب معناهما إلَّا إليَّ؛ فقال منصور النَّمَرِيُّ: ذاك ظَبْيٌ تحيرَ الحسنُ في الخد ... ين منه وجَال كلَّ مكان عرضَتْ دونه الحِجَالُ فما يَلْـ ... ـقَاك إلَّا في النَّوْم أو في الأَماني فقلت أنا: يا بعيدَ الدار موصو ... لًا بقلبي ولساني

رُبَّما بَاعَدَكَ الدَّهْـ ... ـرُ فأَدْنَتْكَ الأَمَانِي وحدَّث أبو القاسم اليزيديُّ قال: حدثني أخي أبو جعفر أحمد بن محمد قال: سمعت أبي يقول: كنتُ أُجَالِسُ العباس بن الأحنف كثيرًا، فأقول له: أنت بقيةُ الشعراء، فإذا مِتَّ فقد ذهب الشعر. قال: فقال لي: تقول ذاك، وأنت الذي تقول: يا بعيدَ الدار موصو ... لًا بقلبي وَلساني رُبَّما بَاعَدَكَ الدهْـ ... ـرُ وأَدنتْك الأَماني والله لوَدِدْتُ أني سَبقْتُ إلى هذا المعنى، وأني لم أقلْ شعرًا. قال: قلت: جعلني اللهُ فِدَاك! وأين نحن منك! إنما نحنُ تلاميذك. فقال لي: والله لمَا وهبتَ من الشعر أكثرُ مما قلتُ. قال أبو عبد الله محمد بن أبي محمد: وكنت حين بدأتُ أقول الشعر وأنا [أحـ]ـتشم من ذلك، فإذا سئلتُ عنه قلتُ: هذا للعباس بن الأحنف. قال: قلت: وكيف أهبُ لك جعلني الله فِدَاءك! قال: لَسْت أعدَم أن أدخلَ المجلس، فأسمع جماعة يُنشدون شعرًا، فأقول: لِمَن هذا؟ فيقال لي: لك يا أبا الفضل. فأقول: ومَن أنشدكم؟ فيقال لي: محمد بن أبي محمد. فأقول: ذاك حَدَث يحفظ، وأَنْسَى. قال أبو جعفر: سمعت أخي محمد بن أبي محمد يقول: اسْتَحْسَنَ الناسُ هذا المعنى لي، وإنما أخذتُه من شعر مَنْصُورٍ النَّمَرِيِّ، واستحسنوا لي معنًى آخرَ أخذتُه من شعر أبي، فغلبتُ عليهما حتى سَقَطَ ما قالا، واستحسن الناس ما قلتُ. قال النَّمَرِيُّ: إِنَّ ظبيًا تحيَّرَ الحسنُ في العيـ ... ـنين منه وجَالَ في الأَركان

ضُربتْ دونه الحجالُ فما يَلْـ ... ـقاك إلا في النوم أو في الأَماني وقلت أنا: يا بعيدَ الدار موصو ... لًا بقلبي ولساني رُبَّما باعدَكَ الدهْـ ... ـرُ فأَدْنتكَ الأماني وقال أبو محمد: مَتَى ما تسمعي بقتيل حُبٍّ ... أُصيبَ؛ فإنني ذاك القتيلُ وقلت أنا: أَتَيْتُكِ عائذًا بك منْـ ... ـك لما ضَاقت الحيَلُ وصيَّرَني هواك وبي ... لحيْني يُضربُ المثلُ فإن ظفرتْ بكم نفسي ... فما لاقيتُهُ جَلَلُ قال أبو جعفر: سمعتُ أبي يقول: بعث إليَّ سُليم المغني: عندي مَنْ يشتاقك، وأعلم أنك تَشتاقه، وليس معنا ثالث؛ فبحياتي لَمَا صرتَ إلينا! قال: فصرتُ إليه، فأصبت عنده ابن جامع إسماعيل، فسلَّمتُ عليهما وجلستُ، فقال لي ابنُ جامعٍ: ويحك يا محمد! تعطي شِعرَك هذا المليح هؤلاء المخانيث، فيغنُّون به، وتَدَع شيخَ قريشٍ، ومَنْ يحسن شعرك! قال: قلتُ: جعلني الله فداءك! لم أعلمْ أنك تحبُّ ذاك؛ فأما إذْ علمتُ؛ فإني لا أقول شعرًا إلا عرضتُه عليكَ. قال: فقال لي: نحن في خلْوةٍ، فيمكن أن تعرض عَلَيَّ منه شيئًا.

قال: فأخذت الدواة، فكتبتُ: عاذلي بِتَّ نائما ... ثم أصبحتَ لائما ولَعمري لو ذقتَ ما ... ذقتُ ما زلت هائما فلْيَهْنِئْكَ أَن شقيـ ... ـتُ وأصبحتَ ناعما يَعْذِر العاشقين مَنْ ... كان بالحبِّ عالما قال: فأخذه فجعل ينظر فيه، ثم دخل إلى حجرة قد أخلِيتْ له ليتهيأ للصلاة، ومعه جَاريتُه الحَوْلاء، فأبطأ هُنيهة، ثم خرج، فقال: اضربي عَلَيَّ. فضربَتْ ثم غنَّى هو. وأنشد أبو القاسم اليزيدي لمحمد بن أبي محمد ممَّا عمله على لسانِ المأمون في عليِّ بن هشام: وصاحبٍ ونديمٍ ذي مُحَافظة ... سَبْط البَنان بشُرْب الراح مفتُونِ ناديتُه ورواقُ الليل مُنْسَدِلٌ ... تحت الظلام دفينًا في الرياحِين فقلتُ خذ قال كفِّي لا تُطَاوعني ... فقلت قُمْ قالَ رِجْلِي لا تُواتِيني إنِّي غفلتُ عن الساقي فصيَّرني ... كما تراني سليبَ العقل والدين قال: وحدَّث أبو العباس، عن أبي صالح بن يزداد قال: كنت في الديوان على باب المأمون، فجاء محمد بن أبي محمد، فقام إليه الحاجب، فقال: قد أخذ أمير المؤمنين دواء، وأمرني ألا أوذِنَه بأحد حتى يخرج من دوائه. قال: والله لقد كنا عنده إلى أن مضى الليل، فما ذكر من ذلك شيئًا. فقال: عزم على ذلك بعد انصرافكم. قال: فقلتُ: أفتوصِّل إليه رقْعة؟ قال: أمَّا هذه فنعم. فصاح: يا عبد الله، هاتِ الدّواةَ. فأتيتُه بالدواة والقرطاس، فكتب وهو راكب:

28 - أبو جعفر أحمد بن محمد بن أبي محمد اليزيدي

هديَّتِيَ التَّحيَّةُ للإِمامِ ... إمامِ العدل والملك الهمامِ لأَني لو بذلْتُ له حياتي ... وما أَحوِي لَقلَّا للإِمامِ أراكَ من الدواء الله نفعًا ... وعافيةً تكون إلى تمامِ وألبسَكَ السلامَةَ مِنه رَبٌّ ... يريكَ سلامةً في كلِّ عَامِ أَتأذنُ في الدخول بلا كلامٍ ... سوى تقبيل كفِّك والسلام! فدخل الحاجب بها، ثم خرج، فقال: ادخُل. قال أبو عبد الله: وكان يقال: ترْك الضحك من العَجب أَعْجَب من الضحك من غير عَجَب. وكان يقال: الناسُ بخير ما تعجَّبوا من العَجَب. وأنشدنا أبو القاسم لأبي عبد الله محمد بن أبي محمد اليزيديِّ: أنا قد جئتُ راغبَا ... بعدما كنتُ عَائبَا ومن الذنب لست أعـ ... ـرفُه جئت تَائبا صرتُ للصُّلْحِ بعدما ... كنتَ إِيَّاهُ طالبا زادني الله من صدو ... دك إن كنت كاذبا لا ترُدَّنَّ خاضِعا ... لك بالرِّقِّ خائبَا 28 - أبو جعفر أحمد بن محمد بن أبي محمد اليزيدي هو أحمد بن محمد بن أبي محمد اليزيدي. كان راويةً شاعرًا متفننًا في العلوم. قال: قال أبو جعفر: أصبحتُ يومًا في غيم ورذَاذ، ففكَّرتُ فيمَنْ أبعث إليه، فخطَر بقلبي أبو جعفر محمد بن الفضل، فأخذتُ الدواةَ لأكتب إليه، فإذا أنا بالغلام قد دخل عليَّ، فقال: أبو جعفر محمد بن الفضل بالباب. فقلتُ: يدخل. فلما دخل قمتُ إليه، والقلم والقِرطاس في يدي. فقلت: هذا والله كتابي إليك، فالحمد لله الذي جاء بك. فقال: ليس والله

أقيم عندَك، ولا تقعدْ من قيامك؛ حتى تُوَافِيَني إلى البيت، ولستُ أنْتظرك؛ فإنّ عندي إنسانًا يشتَاقُك وتشتَاقه، ثم قال: يا غلام، أسْرِج الدابَّة، واذهبْ أنت يا غلام فجئني بثيابه، ثم مَضَى وتركني. فلبِستُ ثيابي ولحقت به. فدخلت وهو قاعد على مصلّى عند باب الرّواق، وبحذاء المصلَّى آخَرُ عليه مخارق، وقد أخْلِيَ لي الصدْر. فلما دخلتُ قام إليَّ مخارق فسلَّم عليَّ، ثم جلس، فأقبلنا نتذاكر أيامنا، فقال محمد بن الفضل: يا غلام، ما عندك من الطعام؟ قال: جَدْي بارد وفراريج وشرائح. قال: آتنا بما حَضَر. ثم بعث إلى الجواري يأمرهنَّ بالغَدَاء، فتغدَّينا، وتغدَّى الجواري، ثم خرجْن إلينا، ومع كلِّ واحدة وصيفة تَحْمِل عودَها، ومعها مِذبَّة. فقعدْن وأخذن عيدانهنَّ، فكان إذا مرَّ بي الصوت أستحسنُه من مخارق استعدتُه وأشرتُ إليهنَّ ليأخذنه، فغنَّى مخارق: يقولُ أُناس لو تبدَّلْتَ غيرَها ... لعلك تَسْلُو إنما الحُبُّ كالحِبِّ فاستحسنتُه واستعدتُه مرَّاتٍ، فقال لي مخارق: يا أبا جعفر، كأنَّه قد دار لك! قلتُ: إي والله. قال: ففيه عيب. قلتُ: وما ذاك يا أبا المهنَّأ؟ قال: هو فَذٌّ. قلتُ: فتحبُّ أن يكون تَوْأَمًا؟ قال: إي والله. فقلتُ: فقلت لهمْ: لو أَنَّ قلبي يُطيعني ... فَعَلْتُ ولكنْ لا يطاوعُني قَلْبي فاستحسنه وغنى فيه ثم قال لي يا أبا جعفر لي صوت عيبه كعيب هذا فقلت وما هو فقال: زرْ آل زينَب أيُّها الوجِعُ ... واسأَلْهُمُ أعطوْك أو مَنَعوا

فقلتُ: واشْف السقَام بأَن تَزُورَهُمُ ... فبقرْب زينب يَذْهَب الوَجع ومن شعر أبي جعفر أحمد بن محمد اليزيدي: فؤاديَ مشتاق وقَلْبيَ تَائقٌ ... إلى ذات دَلٍّ بينُها لِيَ شائقُ بجُمْلٍ صَبَا قلبي كما أنها صبتْ ... متَى تَدْنُ يومًا يأْلَف النومَ عاشقُ مُعَنًّى شكا ما تَشْتَكيه فإنما ... يحنُّ كلانا؛ ذاتُ وجدٍ ووامقُ كئيبٌ تراهُ يُظهر الصبْرَ جُهْدَهُ ... على أن دَمْع العين بالشوق ناطقُ وجُمْلٍ بأَرضٍ لو إليها تخلُّصٌ ... لولَّيتُ أسعى نحوها وأُسَابقُ تَضَنُّ علينا زينبٌ بنَوالها ... وهل إن دنتْ جُمْلٌ بنا لا تفارقُ وليستْ كجمْلٍ زينبٌ، جملُ إِن تُنِبْ ... أنيبُ وإن تَفْسُقْ فإنِّيَ فاسقُ تُثيب إذا أحسنتُ والعذْرُ عندها ... رحيبٌ إذا عاقتْ لديها العوائقُ يؤخذ من أول كل بيت كلمة تامة، فتكون: فؤادي بجُمْلٍ مُعَنًّى كئيبُ ... وجُمْلٌ تَضَنُّ وليست تُثِيبُ وله أيضًا: لَئِنْ بَعُدَتْ عن الأحباب دارُ ... فمالي بعدَ فُرْقَتِهمْ قَرَارُ هنا هُمْ عَيْشُهُمْ، وَصَفَاء عَيْشي ... يُكَدِّرُه حَنينٌ وادِّكَارُ كئيبٌ بالنّهار حليف حُزْن ... أخو ليلٍ إذا ذَهَبَ النهارُ أبيتُ إذا هُمُ باتوا نيامًا ... وبين حَشايَ للهِجْران نارُ أَأشقى يا عبادَ الله عُمْرِي ... ويَسْعَدُ أهلُ وُدِّي حيثُ ساروا يواصلهمْ أُناسٌ بعد ناسِ ... ويلهيهمْ سَمَاعٌ أو عُقارُ

بقيتُ بلا أخٍ إن رمتُ حتَّى ... أصارمَهم وإن قلَّ اصطبارُ علا في المكرُمات وفي المعالي ... سليمان فَتَمَّ له الفَخَارُ سأذكر يا أبا أَيُّوبَ فَضْلًا ... حوتْه لك الجحاجحةُ الكبارُ لَجَارُك في المُلمِّ أَعَزُّ جارٍ ... لأنك خير قَرْمٍ يُستجارُ كأنك حاتمٌ جُودًا وبذْلًا ... إذا أَزَمَتْ وعزَّ بها القُتارُ وله أيضًا: ولقد شجتْني طفلةٌ بَرَزَتْ ضُحًا ... كالشمسِ خَثْماء العظام بِذي غَضَا ومثله: فطلبتُها ومضى الفرزدقُ ظاعنًا ... إذْ ضَجَّ شخصٌ بالمغيثَةِ كهمسا في كل بيت منها حروف: أ، ب، ت، ث. وقال أيضًا: حجّ الزكيّ بخُنث ظاعنًا فطغى ... وضقتُ بالبين صدرًا إذْ هُمُ شسعوا فيه حروف: أ، ب، ت، ث. وقال أيضًا: نفسِي تحدِّثُنِي بأَنك غَادِرُ ... وهوايَ فيكَ على ذُنُوبك سَاترُ تَعِدُ الوفاءَ وأنت تُظهرُ غيرَهُ ... ولقد يَدُلُّ على الضمير الظاهرُ لك مُقْلَةٌ طَمَّاحةٌ مَقسُومَةٌ ... بين الجميع كما يَدُور الدَّائرُ

29 - أبو العباس الفضل بن محمد بن أبي محمد اليزيدي

لو زار بيتَك كلَّ يومٍ عَسْكَرٌ ... أرضاهُمُ لحظٌ بعينك فاترُ ومن البلاء بأنَّ عينك فاتنٌ ... للعالمين وأنَّ وجهَك ساحرُ وإذا برزتِ فكلُّ قلبٍ طائر ... شوقًا إليكِ وكل طَرْفٍ ناظرُ ولديك إسعافٌ لهم وإجابةٌ ... وهو الذي ما زلتُ منك أحاذر في دون هذا للمتيَّم سَلْوَةٌ ... عن إلفه لو أنَّ قَلْبيَ صابرُ ولأهجرنَّك جازعًا أو صابرًا ... إني إذا إِلْفٌ تنكَّرَ هاجرُ 29 - أبو العباس الفضل بن محمد بن أبي محمد اليزيديّ هو الفضل بن محمد بن أبي محمد يحيى بن المبارك. قال أبو بكر محمد بن يحيى بن عبد الله الصولي: حدثنا أبو أحمد عبيد الله بن عبد الله، حدثني فَضْلٌ اليزيديُّ قال: كان محمد بن نصر بن ميمون بن بسام الكاتب أَسْرَى النَّاس منزلًا وآلةً وطعامًا وعَبيدًا، وكان ناقصَ الأدب، وكُنت أختلِف إلى وَلَدِه وولد عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم ليقرؤوا عَلَيَّ الأشعار. وكان عبدُ الله أيضًا سَرِيًّا جاهلًا، فدخلتُ يومًا والستارة مَضرُوبةٌ، وهو وعبد الله يَشْرَبان، وأولادهما بَيْنَ أيديهما، وكانوا قد تَأدَّبُوا وفهموا وظَرُفوا، فغنَّى بشعر جرير: أَلَا حيّ الدِّيارَ بِسُعْدَ إِنِّي ... أُحبُّ لحبِّ فاطمةَ الدِّيارَا قال: فقال عبد الله بن إسحاق لمحمد بن نصر: لولا جهل العرب ما كان معنى ذكر السعد هاهنا. فقال محمد بن نصر: لا تفعلْ يا أخي؛ فإنَّه يُقوِّي مِعدَهم، ويصلِحُ أسنانَهم. قال فضل اليزيدي: فقال لي علي بن محمد بن نصر: بالله يا أستاذ، اصفعهما وابدأ بأبي.

الطبقة السابعة

الطبقة السابعة 30 - أبو عثمان المازني هو أبو عثمان بكر بن محمد بن عثمان المازني، أحد بني مازن بن شيبان بن ذُهْل. ووجدت حكايةً عن الخُشني قال: بكر بن محمد المازني، مولى بني سَدوس، نزل في بني مازن بن شيبان. قرأ على أبي الحسن الأخفش كتاب سيبويه، وعمله على الجَرْميّ. وحدثني أبو عليٍّ إسماعيل بن القاسم البغداذي، حدثنا عبد الله بن جعفر بن دَرَستَوَيه، حدثنا أبو العباس محمد بن يزيد. وقال أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس -يزيد كل واحد منهما على صاحبه، وقد جمعنا روايتَهما-: اشتُرِيت للواثق جارية من البصرة بمئة ألف، فغنَّته يومًا: أَظُليمُ إن مصابكم رجلًا ... أهدى السَّلامَ إليكمُ ظلمُ فقال لها الواثق: قولي: "رجلٌ". فقالت: لا أقول إلا كما علمتُ. فقال للفتح بن خاقان: كيف هو يا فتح؟ فقال: هو خبرُ إِنَّ، كما قال أمير المؤمنين. فقالت الجارية: أخذت هذا الشعر من أعْلَم الناس بالعربية. فقال: ومَن هو؟ قالت: بكر بن عثمان المازني، وكان يُعرِبُ شعرَ غنائي. فأمر الواثق بإشخاصه من البصرة، فأُشْخِص. قال أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل: قال أحمد بن يحيى: فلقيَني يعقوب بن السكيت، فسألني، فأجبتُه بالنصب، قال: فأين خبرُ إِنَّ؟ قلت: "ظُلْم"، ثم أُتِي بالمازني. قال أبو القاسم بن إسماعيل: قال أبو العباس

المبرد: قال المازني: فلما دخلت على الواثق، سأل فقال: باسمُك؟ -وهي لغة بلْحارث بن كعب- فقلتُ: بَكْر، يا أمير المؤمنين. فقال: مَن خَلَّفتَ وراءك من العيْلة عند شخوصك؟ قلت: أخيَّة تَحُلُّ مني محلَّ البنت. قال: فما قالت لك عند فِراقك لها؟ فقال: قالت لي ما قالت ابنةُ الأعشى لأبيها: فيا أَبتا لا ترِمْ عِنْدنا ... فإنا بخيْرٍ إذا لم تَرِمْ ويا أَبتا لا تَزَلْ عندنا ... فإنا نخاف بأَن تُخْتَرَمْ أرانا إذ أَضْمَرتْك البلا ... د نُجْفَى ويُقْطَعُ منَّا الرَّحِمْ فقال الواثق: كأني بك قد قلت لها: تقول بنتي وقد قَرَّبْتُ مرتَحلًا ... يا ربِّ جنِّبْ أبي الأوصابَ والوَجعا عليكِ مثلُ الذي صلّيت فاغتمضي ... نومًا فإنَّ لجنب المرء مُضْطجَعا ثم قال: فما قلت لها عند ذلك؟ قال: قلت ما قال جرير لابنته: ثِقي بالله ليس له شريكٌ ... ومِنْ عندِ الخليفة بالنَّجاح فقال الواثقُ: ثق بالنجاح من عند الله -عزَّ وجلَّ-، ومِن عندنا يا بكْر. ثم سألني عن البيت، فأجبتُ بما قالت الجارية. قال: وأمر لي بِصِلة جَزْلة، وأجرى عليَّ كلَّ شهرٍ مئة دينار؛ فكنتُ بحضرته. قال أبو جعفر أحمد بن محمد: قال المازني: قلتُ لابن قادم -أو لابن سعدان- لمَّا كابرني: كيف تقول: "نفقتك دينارًا أصْلَحُ من درهم"؟ فقال: "دينار" بالرفع. قال: قلت: فكيف تقول: "ضربك زيدًا خيرٌ لك"؟ فنصب زيدًا. فقلت له: فرِّق بينهما. فانقطع. وكان ذلك عند الواثق،

وحضر ابنُ السكيت، فقال له الواثق: سَلْه عن مسألة. فقلت له: ما وزن "نكتل" من الفعل؟ فقال: "نفعل". فقال الواثق: غلِطتَ. ثم قال لي: فسِّره. فقلتُ: "نكتل" تقديره: "نفتعل"، "نكتيل"، فانقلبت الياء ألفًا لفتحة ما قبلها، فصار لفظها "نكتال"، فأسكنت اللام للجزم؛ لأنه جواب الأمر، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين. فقال الواثق: هذا الجواب، لا جوابك يا يعقوب. فلما خرجنا قال لي يعقوب: ما حملك على هذا، وبيني وبينك من المودَّة الخالصة؟! فقلت: والله ما قصدي تخطئتَك، ولم أظن أنه يَعْزُبُ عنك ذلك. قال المازني: وحضرت يومًا آخر، واجتمع جماعة نحويِّي الكوفة، فقال لي الواثق: يا مازني، هاتِ مسألةً. قلتُ: ما تقول في قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} لِمَ لمْ يقل: "بغيَّة" وهي صفة لمؤنث؟ فأجابوا بجوابات غير مرضيَّة. فقال لي: هاتِ. قلت: لو كان "بغيّ" على تقدير "فعيل" بمعنى فاعلة؛ للحقتها الهاء مثل كريمة وظريفة. وإنما تحذف الهاء إذا كانت في معنى مفعولة في نحو امرأة قتيل، وكَفٍّ خضيب. و"بغيّ" هاهنا ليس بفعيل، إنما هو "فَعُول" لا تلحقه الهاء في وصف التأنيث نحو امرأة شكور، وبئر شطون؛ إذا كانت بعيدة الرّشاء. وتقدير "بغيّ": "بغوي" قلبت الواو ياء، ثم أدغمت الواو في الياء، فصارت ياء ثقيلة، نحو سيد وميت. فاستحسن الجواب. قال المازني: فاستأذنتُه في الخروج، قال: هلَّا أقمتَ عندنا؟ قلتُ: لي أخيَّة أُشفِق أن أغيب عنها. فأذِن لي. قال أبو علي إسماعيل بن القاسم: قال المازني: فانصرفتُ إلى البصرة، وكتب إلى عاملها أن يُدِرَّ عليَّ مئة دينار كلَّ شهر. فلما مات الواثق قُطِعت عنِّي. ثُم ذُكِرتُ للمتوكل، فأمر بإشخاصي، فلما دخلتُ عليه، رأيتُ من العُدَّة والسلاح والأتراك ما رَاعني، والفتح بن خاقان بين يديه، وخشيت أني إن سُئِلتُ عن مسألةٍ ألَّا أجيب فيها. فلما مثلتُ بين يديه،

وسلَّمت عليه، قلت: يا أمير المؤمنين، أقول كما قال الأعرابي: لا تَقْلُواها وادْلُوَاها دَلْوَا ... إنَّ مع اليوم أخاه غَدْوَا قال أبو عثمان: فاستُبْردتُ وأخرِجت، ولم يُفهَم عني ما أردتُ. والقلْو أرفع السير، والدلْو أدناه. ثم دعاني بعد ذلك، فقال: أنشِدْني أحسنَ مَرثِيَةٍ للعرب. فأنشدتُه قصيدة أبي ذُؤيبٍ: أَمِنَ المنون ورَيْبِها تتوجَّعُ ... والدَّهرُ ليسَ بِمُعْتبٍ مَن يجزَعُ حتى أتيتُ على آخرِها. فقال: ليست بشيء. فأنشدتُه قصيدة مُتمِّم بن نُوَيرَة: لَعمري وما دَهْري بتأبين هالكٍ ... ولا جَزَعٌ مما أصاب فأَوجعا حتى أتيتُ على آخرها، فقال: ليست بشيء. فأنشدته قصيدةَ كعبٍ الغنوي: تقول سُلَيمى: ما لجسمكَ شاحبًا ... كأَنك يحميكَ الطعامَ طبيبُ قال: ليست بشيء. فأنشدتُه قصيدةَ ابن مناذر في عبد المجيد: كُلُّ حَيٍّ لَاقِي الحِمَامِ فَمُودِي ... ما لَحيٍّ مُؤَمِّلٍ من خُلودِ

حتى أتيتُ على آخرِها، فقال: ليست بشيء. ثم قال: مَن شاعرُكم اليومَ بالبصرةِ؟ فقلتُ: عبد الصَّمد بن المعذّل بن غيْلانَ. قال: فأنشِدْنِي له. فأنشدتُه أبياتًا قالها في قاضينا ابن رياح: أَيا قاضيةَ البَصْرَهْ ... قومِي فارقُصِي قَطْرهْ وَمُرِّي برواشِنْكِ ... فماذا البَرْدُ والفَتْرَهْ أراك قد تثيرين ... عَجاجَ القَصْفِ يَا حُرَّهْ وتخديشك خَدَّيْكِ ... وتجعيدكِ للطُّرَّهْ فاستحسنَها واستطيَبَها، وأمر لي بجائزةٍ، فكنتُ أَتَعَمَّلُ أن أتحفَّظ أمثالَها، وأُنشِده إذا وصلتُ إليه، فيصلُني. وكان أبو عثمان يقول بفضل الواثق، ونَقْص المتوكل. وحدث ابن إسماعيل، وعون بن محمد الكندي، وعبد الواحد بن العباس بن عبد الواحد، والطيّب بن محمد الباهلي -يزيد بعضهم على بعض-، فجئت بما اتفقوا عليه، وما افترقوا فيه، حتى كملت الرواية. قالوا: حدثنا أبو عثمان المازني قال: كان سبب طلب الواثق لي أن مُخارقًا غنَّى في مجلسه: أَظُلَيْمُ إنَّ مصابَكُمْ رجلًا ... أهدى السلامَ إليكمُ ظُلْمُ فغنَّاه مخارق: "إن مصابكم رجلٌ" فشايَعه بعضٌ، وخالفه آخرون. فسأل الواثق عمَّن بقِيَ من رؤساء النحويين، فذُكِرتُ له، فأمر بحمْلي إليه، وإزاحة عُذْري، فلما وصلتُ إليه قال: مِمَّن الرجل؟ قلتُ: من بني مازنٍ. قال: أمِن مازن تميمٍ، أم من مازن قيسٍ، أم مِن مازن ربيعةَ، أم من مازن اليمن؟ قال: قلت: من مازن ربيعةَ. قال لي: باسمُك؟ يريد: ما اسمُك؟

-وهي لغة في قومنا- فقلت على القياس: مَكْر، يا أمير المؤمنين، أي بكر. فضحك وقال: اجلس واطمئن. فجلستُ، فسألني عن البيت، فأنشدته: * أَظُلَيْمُ إنَّ مصابَكُمْ رجلًا * فقال: أين خبرُ إِنَّ؟ قلتُ: "ظُلْمُ" الحرف الذي في آخر البيت. ثم قلتُ: يا أمير المؤمنين، أما ترى البيتَ كأنه مُعلَّق لا معنى له حتى يتمَّ بهذا الحرف؟ وإذا قال: "أَظُلَيْمُ إنَّ مصابَكُمْ رجلًا أَهدَى السَّلامَ إِليكُم"، فكأنَّه ما قال شيئًا حتى يقول: "ظُلْم"؟ قال صدقتَ؛ ألك ولدٌ؟ قال: قلتُ: بُنيَّةٌ لا غير. قال: فما قالتْ حين ودَّعتَها؟ قلتُ: أنشدتْ شعرَ الأعشى: تقولُ ابنتي حينَ جدَّ الرحيلُ ... أرانا سواءً ومَن قد يَتِمْ أَبانا فلا رِمْتَ مِن عِنْدنا ... فإنا بخيْرٍ إذا لم تَرِمْ أرانا إذا أَضْمَرتْكَ البلا ... د نُجْفَى ويُقْطَعُ منَّا الرَّحِمْ قال: فما قلتَ لها؟ قلتُ: ما قال جريرٌ: ثِقي بالله لَيْس له شريكٌ ... ومِنْ عندِ الخليفة بالنَّجاح فقال: ثقْ بالنجاح إن شاء الله؛ إنَّ هاهنا قومًا يختلفون إلى أولادنا، فامتحِنْهم، فمَنْ كان منهم عالمًا يُنتفع به ألزمناه إيَّاهم، ومَن كان بغير هذه الصفة قطعناه عنهم. ثم أمر فجُمِعوا إليَّ، فامتحنتُهم فما وجدتُ طائلًا، وحذروا ناحيتي. فقلتُ: لا بأسَ على أحدٍ. فلما رجعتُ إليه قال: كيف رأيتَهم؟ قلتُ: يفضُل بعضُهم بعضًا في علومٍ يفضلُ الباقون في غيرِها، وكلٌّ يُحتاجُ إليه. قال لي الواثقُ: إنِّي خاطبتُ منهم واحدًا، فكان في نهاية الجهل في خطابه

ونظره. فقلتُ: يا أمير المؤمنين، أكثرُ مَن تقدّم منهم بهذه الصفة، ولقد أنشدتُ فيهم: إن المعلِّم لا يزال مضعَّفًا ... ولو ابتَنى فوقَ السماء بنَاءَ مَنْ علَّم الصبيانَ أَصْبَوا عقلَه ... حتى بَنِي الخُلَفَاء والأمراءَ فقال: لله دَرُّك يا بكر! كيف لي بك يا بكرُ! فقلتُ: يا أمير المؤمنين، إن الغُنْم والفوْز في قربك والنظر إليك، ولكنِّي ألفتُ الوَحْدة، وأنستُ بالانفراد، ولي أهل يُوحشني البعد عنهم، ويضرُّهم ذلك، ومطالبة العادة أشدُّ من مطالبة الطباع. فأمر لي بألف دينار وكسوة وطيب، وقال: لا تقطعنا، وإن لم يأتك أمرنا. فقلتُ: سمعًا وطاعةً. وودَّعتُه وانصرفتُ. قال مروان بن عبد الملك بن مروان: سمعتُ أبا حاتمٍ يقول: كان أبو عثمان المازني مخذولًا في النحو، كان إذا سُئِل فأجاب أخطأ. قال: وسمعتُ أبا حاتمٍ يقولُ: المازنيّ، أيُّ شيء كان يحسن! أو أيُّ شيء كان يُحسِن الرياشيُّ! هل وضعا كتابًا قطّ، أو صنعا شيئًا؟! الزيادي أبو إسحاق قال: صرتُ إلى أبي عمر الجرميِّ أقرأ عليه كتاب سيبويه، ووافيتُ المازنيَّ يقرأ عليه في الجزاء: "هذا بابُ ما يرتفع بين الجزمين"، فكنا نعجب من حِذْقه وجَودةِ ذِهْنه، وكان قد بَلَغ من أول الكتاب إلى هذا الموضع. وقال أبو الحسين بن ولَّاد: يعني أن المازني كان قد بلغ على الأخفش إلى هذا الموضع. وقال ابن الفراء المصري: توفي أبو عثمان المازني سنة تسع وأربعين ومئتين بالبصرة، هكذا ذكر في تاريخه. قال أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن واضح الكاتب: توفي المازني سنة ست وثلاثين ومئتين، كذا قال في تاريخه الكبير.

31 - أبو حاتم

31 - أبو حاتم هو سهل بن محمد بن عثمان بن يزيد الجُشْمي السِّجِسْتَانيّ. قال ابن الغازي: كتب يعقوب الصفَّار والي سِجِسْتان -وكان متغلِّبًا عليها، وكان في مُلكٍ شديدٍ- يسأل أبا حاتم نحوًا مختصرًا، فأراد أن يبعث إليه كُتبَ الأخفشِ. فقيل له: لو أراد كتبَ الأخفش عَلِم مكانَها، وإنما أراد مِن قِبَلك. فبعث إليه كتابه المختصر في النحو المنسوب إليه، وهو على مذهب الأخفش وسيبويه. قال: ورَوَى أبو حاتم عِلْمَ سيبويهِ عن الأخفش عن سيبويه عمرو بن عثمان، قال: وكانتْ تُقرَأ على أبي حاتمٍ كتب الأخفش، فكان يردُّ رَدًّا حسنًا. قال ابن الغازي: ثم رأيتُها تُقرَأ على أبي الفضل الرِّياشيّ، فلا حول ولا قوة إلا بالله! أيّ نَدْف كان ينْدِفُها! فإذا الرياشيّ كان أعلم بها. قال: وسمعتُ أبا حاتم يقول: قال أبو زيدٍ الأنصاريُّ: يقال: تغدَّيتُ وتعشَّيْتُ، ولم أسمع غَدَوْت ولا عَشَوت. وقال أبو عبيدة: قد سمعت غَدَوْت وعَشَوْت. وقال أحمد بن كامل بن خَلَف شجَرة: سمعتُ أبا بكر بن دُرَيد يقول: مات أبو حاتم في آخر سنة خمس وستين ومئتين. قال: وقال لي أبو جعفر الطبري: كان أبو حاتم إذا اكتحل نفضَ من الكُحلِ على لحيته يغيِّرها به، فكان يَسقط الكحل من لحيته على ثوبه وعلى صَدْره، وكان يُتعجَّب من ذلك. قال: ورأيتُ عنده قومًا من أهل البصرة يُعظِّمونه، ويقولون: أنت شيخُنا وأستاذُنا، ونحو ذلك من القول.

أخبرنا أحمد بن سعيد، حدثنا أحمد بن خالد، حدثنا مرْوان بن عبد الملك، سمعت الرياشي يقول ونحن على قبر أبي حاتم لمَّا دفنَّاه وهو يترحَّم عليه: ذُهِب معه بعلمٍ كثير. فقال له بعض أصحابه: كتبُه. فقال العباس: الكتب تؤدي ما فيها، ولكن صدْره. ابن الغازي قال: أخبرني رجل من أهل البصرة قال: قلنا لأبي زيد: عَلَى مَن نقرأ بَعْدَك؟ قال: على سهل بن محمد -يعني أبا حاتم-. قال: وكان يُزَنُّ بنحو ما زُنَّ به أبو عبيدة، ولكن كان بريئًا منه، إلَّا أنه كانت فيه دُعابة، فكان ذلك مما يُوجَد به السبيلُ إليه. وأنشد بعضهم لأبي حاتم: الدمع من عينيّ مُرفَضُّ ... وللهوى في كبدي عَضُّ أخلَقَ وجهي شادنٌ وجهُه ... عندي جديدٌ أبدا غضُّ أُرْعَد إن أبصرتُه مقبلًا ... كأنَّما بي تزحَفُ الأرضُ ورُوِي عن أبي عثمانَ الخُزاعي أنَّه كان قال لأبي حاتم: كنتُ البارحة بين النائمِ واليقظانِ، فرأيتُني في المحراب، إذْ سمعتُ قائلًا يقول: أبو حاتم عالم بالعلومِ ... فأهلُ العلوم له كالخَوَلْ عليكم أبا حاتمٍ إنه ... له بالقراءة عِلْمٌ جَلَلْ فإن تفقدوه فلن تدركوا ... له ما حييتُمْ بعلْمٍ بَدَلْ وأنشد أبو عمرٍو البصري لنفسه فيه: إلى مَن تفزعون إذا فُجعتمْ ... بسهلٍ بعده في كلِّ بابِ ومَن ترجونه من بعد سهلٍ ... إذا أَوْدَى وغُيِّبَ في الترابِ!

وقال يعقوب القارئ: استمع القرآن إذ يقرؤُهُ ... سهلٌ القارئ زينُ القرَأهْ ودخل أعرابيٌّ مسجدَ البصرة، فتفقَّدَ أبا حاتم -وكان مختلفًا إليه- فأُعلِم بموته، فقال: يا بانيَ الدنيا للذَّاتِهِ ... أعظمْ بذكرِ الموت من هادمِ أما تَرَى الإخوان قد سارعوا ... بقادمٍ منهمْ على قادمِ ومرَّ مَن قد كنتَ تُزْهى به ... ولستَ ممَّا ذاق بالسَّالمِ وليس نقص الأرض في جاهلٍ ... كلَّا، ولكن ذاك في عالِمِ أمَّا العراقان فقد أَقْفَرا ... بحادثٍ حَلَّهما قاصِمِ مَنْ كان للخُطبة يُعنَى بها ... وللغريب المُشكِل العاتِم قد ذهب العلم بأَعْلامِهِ ... والنحوُ من بعْدِ أبي حاتِمِ مَنْ للدَّواوين إذا حُصِّلَتْ ... وكتْبِ أَمْلاكِ بني هاشِمِ مفتاح قفل ضَلَّ مفتاحُه ... ولؤلو يبقى بلا ناظمِ يا مسجدَ البصرة لمْ تبْكِهِ ... بواكفٍ من دمْعِك السَّاجِمِ وقرأت في بعض الكتب: توفي أبو حاتم سهل بن محمد بالبصرة سنة خمس وخمسين ومئتين، ودُفن بصُرَّةِ المصلَّى، وصلَّى عليه سليمانُ بن جعفر بن سليمان بن عليِّ بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، وكان يَلِي البصرة يومئذ. قال مروان بن عبد الملك: توفي أبو حاتم في المحرم سنة خمس وخمسين ومئتين.

32 - الرياشي

32 - الرِّياشي هو العباس بن الفرج الرياشي، مولى محمد بن سليمان بن عليٍّ، يُكنَى أبا الفضل. حدثنا أحمد قال: حدثنا أحمد قال: حدثنا مروان بن عبد الملك قال: ولاء العباس بن الفرج الرياشي لبني هاشم، وإنما كان أبوه عبدًا لرجل يقال له: "رِياش"، فباعه من رجل من بني هاشم، فأعتقه الهاشمي. قال: وسمعت العباس بن الفرج يقول: تَحَفَّظتُ كتبَ أبي زيدٍ ودرستُها، إلَّا أني لم أجالسه مجالستي للأصمعيِّ، وأما كتب الأصمعي فإني حفظتُها لكثرة ما كانت تتردَّد على سمعي لطول مجالستي له. قال: وكنتُ أقرأ على أبي زيد، ولعل حفظي كان قريبًا من حفظه. قال: وقال لي يومًا: عمَّن تأخذُ؟ قلتُ له: عن فلان. قال: فاجتمعنا عنده يومًا أنا وذلك، قال: فتناظرْنا عنده، فقال لي: تقول لي: إنَّك تأخذُ عن هذا وأنت أعلمُ منه! قال: وسمعت الرياشي يقول: ما طلبنا هذا حين طلبناه لموضع الأجر. قال مرْوان: وسمعت أبا حاتم قال لي -وليس معنا ثالث-: إنه ليشتدُّ عليَّ أن يذهب هذا العلم على رأسٍ، وتذهب هذه الكتبُ، وما هاهنا إلَّا هذا الرياشيّ، وعلمه قليل، ليس عنده كبير شيء. ثم قال لي: وإنَّ أصحاب الحديث يَدُقُّون عليه، ولقد كتب إليَّ إنسان من أهل خراسان فيه ويدقُّ عليه. فقلت لأبي حاتم: إنه يذهب في هذا الوقت إلى مذهب ابن المعذَّل، حتى صار يذكر فيه رؤيا عن رجل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أمر بالوقف. حدثنا الرياشي قال: حدثنا أبو زيد، عن شعبة قال: كان سِماك بن حرب يقول: إذا كانتْ لك حاجة إلى أميرٍ، قل فيه بيتَيْ شعرٍ. فسمعتُ العباس يقول: وأنا كانت لي حاجة إلى أميرٍ، فقلتُ فيه بيتَيْ شعرٍ، وكانت لحاجة لأبي حاتمٍ. وكان الفضل بن إسحاق الأمير، وكان أبو حاتم رأى أنه واجد عليه، فأتاني أبو حاتم فقال لي: لم أر أحدًا أجيئه غيرَك. قال: واستثنى على أبي حاتم

دعوةً، قيل له: أبو حاتم وَفَى بها. قال: أبو حاتم لا يَفِي بها. وأنشدنا أبو العباس البيتين: أَبتْ لك أَن يخشى عدوُّك صولةً ... عليه إذا ما أمكنتْك مقاتلُهْ شَمائلُ عفوٍ عن أبيكَ ورثتَها ... ومِن خَيْرِ أخلاقِ الرجال شمائلُهْ قال العباس: وما جاءت إلا بتعب. ثم قال: أستغفرُ اللهَ منهما. الخشنيُّ قال: كان المازنيُّ في الإعراب، وأبو حاتم في الشعر والرواية، وكان الرياشي في الجميع. وكان أهل البصرة إذا اختلفوا في شيء قالوا ما قال فيه أبو الفضل، فانقادوا لقوله وروايته. وكان من أهل الفضل، ولا تُخرِج البصرة مثل الرياشي. ابن الغازي، أنشدنا الرياشيُّ: خليليَّ إنْ كانت بِسَامَرَّ مِيتَتِي ... فإيَّاكما في البَرِّ أن تدفنانِيا فإنه حين احتُمل إلى سُرَّ مَن رأى، وكان احتُمل لقضاء البصرة واستعفى منه، وقال شعرًا يمدح المتوكل به، وذكر خلاءَ مسجده، وأنه لا قائم له، فأعطاه وتوسَّع عليه ورده. وقرأ عليه ولد الفتح بن خاقان، وكان صاحب الخلافة في تلك الأيام، وأُعطِيَ مالًا جسيمًا، ورجع إلى البصرة. قال الخُشَنِيُّ: وأَشهدُ لرأيتُ أبا حاتم يكفر بين يدي الرياشي ويعظمه ويجلُّه، وكان أبو حاتم أسنَّ من الرياشي بسَنَةٍ، ولكنه كان يُعطيه الحق لفضله عليه وما هو فيه. وقال الرياشي: الذُّنَابَى ما كان لِذي جَناحٍ خاصة، وربما استعير للفرس. والذّنب لما سوى ذلك. ويقال: عَجَفْتُ للرجل إذا ضربته بالعصا، ويقال للواحد: كَرَوان، وللجمع: كِرْوان. وكذلك وَرَشان ووِرْشان، وظَرِبان وظِرْبان. قال أبو مروان: وسمعت أبا الفضل الرياشي يقول: إنما صار لي ذِكرٌ بهذا

33 - الزيادي

يعني بالغريب والشعر. قال: وسمعته يقول في عقب ذي الحجة من سنة أربع وخمسين ومئتين، وقيل له: كم تعدُّ؟ فقال: أظن سبعًا وسبعين. وخلَّفته بالبصرة في شوال سنة ست وخمسين ومئتين. قال: وناظرَ العباسُ المازنيَّ في كتاب سيبويه، حتى أتى على آخره. قال أبو علي البغداذي: وبلغني أن المازنيَّ قال: قرأ عليَّ الرياشيُّ الكتابَ وهو أعلمُ به مِنِّي. وقتله صاحب الزِّنْج سنة سبع وخمسين ومئتين، في شوال أيام دخوله البصرة. 33 - الزيادي هو أبو إسحاق إبراهيم بن سفيان بن سليمان بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن زياد الزيادي. 34 - التَّوَّزِيُّ هو أبو محمد عبد الله بن محمد التَّوَّزِيُّ مولى قريش، توفي سنة ثلاثين ومئتين. وتَوَّز مدينة. 35 - قُطرُب هو محمد بن المستنير، يعرف بقُطرُب، مولى سَلْم بن زياد. قال محمد بن الجهْم: قال قُطْرب: إذا طلعت الجوزاء حَمِيت المَعْزاء، وكَنَست الظباء، وأوفى في عوده الحِرباء. وقالوا أيضًا: إذا طلعت الجوزاء انتصب العُود في الحِرْباء. يريدون: انتصب الحِرْباء في العود. وقال الله -عز وجل-:

{خُلِقَ الإِنسَانُ مِن عَجَلٍ} المعنى: خلقت العَجَلة منه. وقوله -تقدست أسماؤه-: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتنوءُ بالعُصْبَة} أي: لَتنوءُ العصبة بها؛ لأنهم يقولون: ناء الرَّجل بحِمله؛ إذا نهض به متثاقلًا. ويُروَى أن أبا القاسم الباهلي المهلبي -وكان من تلاميذ قُطرب- جعل له جُعْلًا على أن يقدِّمه على نفسه، ويقرَّ له بالعلم، ويقول في ذلك شعرًا. فأجابه قطرب إلى ذلك، وقال: ذا ما أقرَّ به قُطْربٌ ... على نفسه لأبي القاسمِ وأَشهدَ هودًا وجَهْمًا عليه ... وأشهدَ غَزْوانَ مَعْ عاصِمِ بأن قال قد بذَّني في القياس ... وصيَّرتُ في يده خاتمي وأعلمُ بالنحو من سيبويهِ ... وأجودُ بالمال من حاتمِ بديهتُه عند ردِّ الجوابِ ... تزيد على فطنة العالم فصرت على السنِّ تلميذَه ... وصار أبو قاسمٍ عالمي

الطبقة الثامنة

الطبقة الثامنة 36 - أبو العباس المبرد هو محمد بن يزيد بن عبد الأكبر بن عُمَيْر بن حسان بن سُليم بن سعد بن عبد الله بن يزيد بن مالك بن الحارث بن عامر بن عبد الله بن بلال بن عوف بن أسلم -وهو ثُمالة- بن أحْجن بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزْد بن الغوث. قال عبد الله بن الحسين بن سعد الكاتب، وأبو بكر بن أبي الأزهر: كان أبو العباس محمد بن يزيدَ من العلم وغَزارة الأدب، وكثرة الحفظ، وحسن الإشارة، وفصاحة اللسان، وبراعة البيان، ومُلُوكِيَّة المجالسة، وكَرَم العِشْرة، وبلاغة المكاتبة، وحَلاوة المخاطبة، وجَوْدة الخط، وصحَّة القريحة، وقُرْب الإفهام، ووضوح الشرْح، وعُذوبة المنطق ... على ما ليس عليه أحد ممَّن تقدَّمه أو تأخَّر عنه. سمعت إسماعيل بن إسحاق القاضي يقول: لم يرَ المبرّد مثلَ نفسه ممَّن كان قبلَه، ولا يوفى بعدَه مثلُه. وحدَّثني سهْل بن أبي سهل البَهْزيّ، وإبراهيم بن محمد المِسْمَعيُّ قالا: رأينا محمد بن يزيد، وهو حديث السنِّ، مُتصَدِّرًا في حلْقة أبي عثمان المازني يُقرأ عليه كتابُ سيبويه، وأبو عثمان في تلك الحلقة كأحد مَن فيها. وحدثني اليوسفي الكاتب قال: كنت يومًا عند أبي حاتم السجستاني إذ أتاه شابٌّ من أهلِ نيسابور، فقال له: يا أبا حاتم، إني قدمتُ بلدكم، وهو بلد العلم والعلماء، وأنت شيخ هذه المدينة، وقد أحببتُ أن أقرأ عليك كتاب سيبويه. فقال له: الدِّينُ النَّصيحةُ، إنْ أردتَ أن تنتفع بما تقرأ؛ فاقرأ على هذا الغلام: محمد بن يزيد. فتعجَّبتُ من ذلك. وكان سبب حمله من البصرة، فيما حدثني أحمد بن حرب صاحب الطَّيْلَسان

قال: قرأ المتوكل على الله يومًا، وبحضرته الفتح بن خاقان: {وَمَا يُشعِرُكُم أَنَّها إذا جاءتْ}. فقال له الفتحُ بنُ خاقان: يا سيدي، {إِنَّها إذا جاءتْ} بالكسر. ووقعتِ المُشاجرةُ، فتبايَعا على عشرة آلاف دينارٍ، وتحاكما إلى يزيدَ بن محمدٍ المهلَّبي -وكان صديقًا للمبرد-، فلما وقف يزيد على ذلك خاف أن يَسقُط أحدهما، فقال: والله ما أعرفُ الفرقَ بينهما، وما رأيتُ أعْجَبَ من أن يكون باب أمير المؤمنين يَخْلُو من عالم مُتقدِّم. فقال المتوكل: فليس هاهنا مَن يُسأَلُ عن هذا؟ فقال: ما أعرف أحدًا يتقدم فتًى بالبصرة يعرف بالمبرّد. فقال: ينبغي أن يُشخَص. فنفد الكتاب إلى محمد بن القاسم بن محمد بن سليمان الهاشمي بأن يُشخِصَه مُكرَّمًا. فحدثني محمد بن يزيد قال: وردتُ سُرَّ مَن رأى، فأُدخِلتُ على الفتح بن خاقان، فقال لي: يا بصريُّ، كيف تقرأ هذا الحرف: {وما يُشعِرُكم إِنَّها إذا جاءتْ لا يؤمنون} بالكسرِ، أو {أَنَّها إذا جاءتْ} بالفتحِ؟ فقلتُ: {إِنَّها} بالكسرِ، هذا المختار، وذلك أنَّ أوَّلَ الآية: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها}، قال: {قل إِنَّما الآيات عند الله وما يشعركم}، ثم قال تبارك وتعالى: يا محمد {إِنَّها إذا جاءت لا يؤمنون}، باستئناف جواب الكلام المتقدم. قال: صدقتَ. وركبَ إلى دار أمير المؤمنين، فعرَّفه بقدومي، وطالبه بدفع ما تخاطرا عليه، وتبايعا فيه، فأمر بإحضاري فحضرتُ، فلما وقعتْ عينُ المتوكل عليَّ قال: يا بصريُّ، كيف تقرأ هذه الآية: {وما يشعركما إِنَّها إذا جاءت} بالكسر، أو {أَنَّها إذا جاءت} بالفتح؟ فقلتُ: يا أمير المؤمنين، أكثر الناس يقرؤُها بالفتح. فضحك، وضرب برجله اليسرى، وقال: أحضِرْ يا فتحُ المالَ. فقال: إنه والله يا سيِّدي قال لي خلافَ ما قال لك. فقال: دَعْني مِن هذا، أَحضِر المالَ. وأُخرِجتُ فلم أصلْ إلى الموضع الذي كنت أُنزِلتُه، حتى أتتني رُسُل الفتح، فأتيتُه، فقال لي: يا بصريُّ، أول ما

ابتدأتَنا به الكذب! فقلتُ: ما كذبتُ. فقال: كيف وقد قلتَ لأمير المؤمنين: إن الصواب: {وما يشعركم أَنَّها إذا جاءت} بالفتح؟ فقلت: أيها الوزير، لم أقل هكذا، وإنما قلتُ: أكثر الناس يقرؤُها بالفتح، وأكثرهم على الخطإِ، وإنَّما تخلصتُ من اللائمة، وهو أمير المؤمنين. فقال لي: أحسنتَ. قال أبو العباس: فما رأيتُ أكرمَ كرمًا، ولا أرطب بالخير لسانًا من الفتح. قال أبو العباس: أُحضِرتُ مجلسَ المتوكل يومًا، وقد عمِل فيه النبيذ، وبين يديه أبو عُبَادة الوليد بن عُبيد البحتري، وهو يُنْشد قصيدة يمدح فيها المتوكل، وبالقرب من البُحْتري أبو العنْبس الصَّيْمَرِيّ، فأنشد البحتري قصيدته التي أولها: عنْ أي ثَغْرٍ تَبْتَسِمْ ... وبأيِّ طَرْفٍ تحتكمْ حَسَنٌ يَضَنُّ بِحُسْنِهِ ... والحسنُ أَشْبَهُ بالكَرَمْ حتى بلغ إلى قوله: قُلْ للخليفةِ جعفر بن الـ ... ـمتوكِّل بْنِ المعتصِمْ المرتضَى ابن المجْتَبَى ... والمنعم ابن المنتقِمْ أَمَّا الرَّعية فهي مِنْ ... أَمَنَات عَدْلِك في حَرَمْ نِعَمٌ عليها في بقا ... ئِك فلتَتِمَّ لها النِّعَمْ يا بانيَ المجد الذي ... قد كان قُوِّضَ فانهدمْ اسلَمْ لدين محمدٍ ... فإذا سلمتَ له سَلمْ نِلْنَا الهدى بعد العَمَى ... بك والغِنَى بَعْدَ العَدَمْ فلما انتهى رجع القَهْقَرى للانصراف، فوثب أبو العَنْبَس الصَّيْمريّ فقال: يا سيدي يا أمير المؤمنين، تأمر بردِّه؟ فردَّه. فقال أبو العنبس: قد

عارضتُك في قصيدتك، وكنت بحضرة أمير المؤمنين. ثم اندفع ينشد شيئًا، لولا أنَّها جواب وبها تجب الفائدة لأمسكتُ عنها، قال: في أيِّ سَلْحٍ تَرْتَطِمْ ... وبأيِّ كفٍّ تَلْتَقِمْ أدخلتُ رأْسَ البحتريّ أَبا عُبادة في الرَّحِمْ ووصل ذلك بما أشْبَهه، فضحك المتوكل، وضرب برجله اليسرى، وقال: ادْفعوا إلى أبي العنبس عشرة آلاف. فقال الفتحُ: يا سيدي، فالبحتري الذي هُجِي وأُسمِع المكروهَ ينصرفُ خائبًا؟! قال: وتُدفَع إليه عشرة آلاف درهم. فقال له: يا سيدي، فهذا البصري الذي أَشْخَصناه من بلدِه، لا يشرَكهم فيما حصَّلوه؟ قال: يدفع إليه أيضًا عشرة آلاف درهم. فانصرفنا في شفاعة الهزل، ولم ينفع البحتريَّ جِدُّه واجتهادُه ولا تقدُّمُه. ولم يكن أبو العباس محمد بن يزيد -على رياسته، وتفرُّده بمذهب أصحابه، وإرْبائه عليهم بفطنتهم وصحَّة قريحته- متخلِّفًا في قول الشعر، وكان لا يَنْتَحل ذلك ولا يَعْتَزِي إليه، ولا يرسُم نفسَه به، وله أشعار كثيرة، منها قوله أبيات يمدح بها عُبيدَ الله بن عبد الله. وكان سبب اتصاله بالطاهريْن أنه لما قُتِل الفتح بن خاقان، كتب محمد بن عبد الله في إشخاص محمد بن يزيد، فلم يزلْ مُقيمًا معه، وأرزاقه مسبّبة على أعمال مصر، حَسَب ما كانت أرزاقُ الندامَى تُجرَى عليه، يدلُّ على ذلك ما شاهدتُه منه يومًا، وقد ورد عليه كتاب من طاهر بن الحارث، مع غلام له يقال له: نَصْر، في دَرْجِه كتاب التَّسبيب بأرزاقه إلى مصر، فأجاب عن الكتاب أبياتًا قالها على البديهة، وهي: بنفسي أخٌ شددتُ به أَزْرِي ... فألقيته حرًّا على العُسْر واليسرِ أغيبُ فلي منه ثناءٌ ومدحةٌ ... وأحضرُ منه أحسنَ القول والبِشْر

وما طاهرٌ إلا جمالٌ لصحْبه ... وناصرُ عافيه على كَلَب الدَّهْرِ تفرَّدتَ يا خيرَ الورى فكفيتَني ... مطالبة شنعاء ضاق بها صدري وأحسنُ من هذا الحديث ونشرِه ... كتابٌ أتاني مُدْرجًا بيديْ نَصْرِ سُررتُ به لمَّا أتى ورأيتُني ... غَنيتُ وإن كان الكتاب إلى مصرِ وقلتُ: رَعَاك الله من ذي مودَّةٍ ... فقد فُتَّ إحسانًا وقصَّر بي شكري فهذا على البديهة. ومما كتب به إلى عبيد الله بن عبد الله، بعد أن استبطأه وعاتبه، قوله: يا موئلًا لذوي الهمّات والخَطرِ ... ومَنْ عمَدت لحاجاتي من البَشَر هل أنت راضٍ بأن يُضحِي نزيلُكُمُ ... والمستجيبُ لكم في حالِ مستَترِ صِفرًا من المال إلا من رَجَائِكُمُ ... ولابسًا بعد يُسْرٍ حُلَّةَ العُسُرِ قل للأمير عُبيد الله دام له ... عِزُّ الإمارة في طولٍ من العُمُرِ بدأتَ وعدًا فعد فانْظر لمنتظرٍ ... فإن حقَّ تمام الوِرْدِ للصَّدَرِ وقد بدا عودُ شُكْرِي مُورِقًا فأجِدْ ... سُقْياك أجنيكَ منهُ يانعَ الثَّمَرِ فإنَّما يسمُ الوسميّ مبتدئًا ... وللوليّ نبات الروض والزَّهَرِ والسيف يُجْلَى فإن لم تُسْقَ صفحتُه ... نبا ولم يك كالمشحوذَةِ البُتُرِ وقد تَقَدَّم إحسانٌ إليَّ لكمْ ... لم أُوتَ فيه من الإغراق في الشُّكُرِ وفي بقاء عبيد الله لِي خلَفٌ ... وفيض راحته المغني عن المطرِ قال أبو علي إسماعيل بن القاسم: وقال أبو العباس محمد بن يزيد في أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب: أُقْسِمُ بالمبتَسَم العذْبِ ... ومُشْتكى الصَّبِّ إلى الصَّبِّ لو كَتَب النحو عن الرَّبِّ ... ما زاده إلا عمى قَلْبِ قال أبو عليٍّ: فلما أنشِد أبو العباس أحمد بن يحيى هذين البيتين تمثَّل

بقول الشاعر: أَسْمَعَنِي عبدُ بني مِسْمَعٍ ... فصنتُ عنه النَّفسَ والعِرْضَا ولم أُجِبْه لاحتقارِي به ... ومَن يعضّ الكلبَ إِن عَضَّا! قال الأوارجيُّ الكاتب: حدثني العجْوزي قال: كنت يومًا عند أبي العباس محمد بن يزيد، وأتاه رجل على دابَّة على رأسه فرافقة، وعلى كتفه طَيْلسان أخْضَر، فلما رآه أبو العباس قام إليه فاعتنقه، فأكبر الرجل قيامَه إليه، فقال له: أتقوم إليَّ يا أبا العباس! فقال له أبو العباس: أيُنكَرُ أن أقومَ إذا بَدَا لي ... لأكْرِمه وأعظِمَه هشامُ فلا تعجبْ لإسراعي إليه ... فإنَّ لمثْله ذُخِرَ القيامُ قال وأنشدني أيضًا قال: أنشدني أبو الحسن محمد بن عبدون الكاتب، عن المبرد: لئن قمتُ ما في ذاك منِّي غضاضةٌ ... عَلَيَّ ولكنَّ الكريمَ مذلَّلُ على أنها منِّي لغيرك هُجْنةٌ ... ولكنَّها بيني وبينك تَجْمُلُ قال أبو بكر بن عبد الملك: كان المبرّد من أبخل الناس بكل شيء. قال: وقال أبو عبيدة معمر بن المُثنَّى: لا يكون نحويٌّ شجاعًا. فقيل له: وكيف؟ فقال: ترونه يفرِّق بين الساكن والمتحرك، ولا يفرق بين الموت والحياة! وقال المبرّد: وأنا أقول: إنه لا يكون نحويٌّ جوادًا. فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: ترونه يُفرِّق بين الهمزتينِ، ولا يفرّق بين سبب الغنى والفقر! يريد أن الإمساك سبب من أسباب الغنى، والعطاء سبب من أسباب الفقر.

قال: وأخبرني بعض مَنْ أَثِق به أنه كان يقول: ما وضعتُ بحذاء الدرهم شيئًا قطُّ إلَّا رَجَح الدِّرهمُ في نفسي عليه. هذا مع سَعَة كان فيها ووُجْد. قال: وكان ثعلب على مثل ما كان عليه المبرد في الإمساك، وفوقه في السَّعة، غير أن المبرد كان يَسأل سؤالًا صُراحًا، وكان ثعلب يُعرِّض ولا يُصرِّح. قال: ولولا أني أكره أن أكون عيَّابًا للعلماء خاصة لأخبرتك عنهما من الأخبار التي تزيد على أخبار محمد بن الجهم البرمكي، والكندي، وخالد بن صفوان، والأصمعي في الإمتاع. يقول هذا أبو بكر التاريخي، وهو مَن لم يأكل عند أحد من عصرنا شيئًا قط، ولا رآه أحد يأكل أو يشرب، ولقد كان -عفا الله عنا وعنه- ومعه في المنزل من أقاربه سكَّان، فسألناهم عن خبره في مأكله ومشربه، فذكروا أنه كان إذا أراد الأكل دخل البيت، وأخذ الماء معه، ورد الباب في وجهه، أو طرح السِّتر، فلا يعلم أحد منهم بشيء من أمره. وأنشدنا أبو العباس المبرد لأبي الطَّمَحان: أَضاءَتْ لهم أحسابهمْ ووجوهُهمْ ... دُجَى اللَّيْلِ حَتَّى نظَّم الجَزْع ثاقبُه ويقال للخرَز الجَزْع. ومُنْعَطَف الوادِي جِزْع. قال ابن أبي سعد: قال لنا أبو موسى النحوي -وهو الحامض-: أخبرنا أبو يعقوب الضرير قال: كنا عند عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم المُصعَبي على نبيذ، وحضرَنا محمد بن يزيد، فغنَّتْ قَينة هُناك: يا أيُّها السَّدِمُ الملوِّي رأسَه ... ليقود من أهل الحجاز تَريما

قال ما هذا؟ إنما هو "بريمًا" وهو جيش. وقال: "تريما" جَدٌّ من أجدادي. قال أبو الحرِّ: الجيش من أخلاط، وأصل ذلك الخيط يُفْتَل من ألوانٍ، ويعلَّق في عنق الصبيّ. قال أبو بكر: قال جدي: سمعت محمد بن يزيد يقول: النَّعَم: الإبل خاصة، وإن كان معها بقرٌ أو شاءٌ أو كلاهما، قيل لجميع ذلك: نَعَم؛ لاتصاله بالنَّعَم، فإن أفردت الشاء والبقر لم يُقَلْ لشيء منها نَعَم. وأنشد للأخطل: فيومٌ منك خيرٌ من أُناسٍ ... كثير عندهمْ نَعَمٌ وشَاءُ قال: ونظير ذلك "قوم" إنما يقال ذلك للرجال، فإن كان معهم نساء قلت: "قوم"، وإن انفردن لم يقل لهن: "قوم". قال الله -عز وجل-: {لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكنَّ خيرًا منهنَّ} وأنشد لزهير: وما أَدْري وسوفَ إِخالُ أَدرِي ... أقومٌ آل حِصْنٍ أم نِسَاءُ وذكر التاريخي أنه سمِع ذلك، وأن أبا محمد المغربي حضر، فاستحسن الشرح، وقبَّل رأسَ أبي العباس. وقال أبو بكر: إن يحيى بن علي بن يحيى المنجّم سأل أبا إسحاق الزَّجَّاج في مجلس العباس بن الحسن عن ذلك، فقال كما قال المبرد. قال يحيى بن علي: يقال ذلك للرجال والنساء، واحتجَّ بقول الله -عز وجل-: {كَذَّبَتْ قومُ نوحٍ المرسلين}، وقال كذَّبتِ النساءُ والرجالُ. فقال الزجاج: فلعلَّ زهيرَ بنَ أبي سُلْمى أخطأَ، وأنشد البيت، فضحِك كلُّ مَن كان في المجلس والعباس.

فقال يحيى بن علي: احتججتُ بالقرآن فلم يُقْبَل مِنِّي، واحتج خَصْمي بقول زُهَيرٍ فقُبِل قوله. فقلتُ له: ففي القرآن شاهدٌ أَبْينُ من شاهدِك. فقال: وما هو؟ فقلتُ: {لا يسخر قومٌ من قومٍ عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساءٌ من نساءٍ عسى أن يكنَّ خيرًا منهنَّ}. فقال: نعم. أخبرني إسماعيل من حفظه قال: لما قُتِل المتوكل بسُرَّ مَن رأى رَحَل المبرّد إلى بغداذَ، فقدِم بلدًا لا عهد له بأهله، فاخْتَلَّ، وأدركتْه الحاجةُ، فتوخَّى شهودَ صلاة الجمعة، فلما قُضِيتِ الصلاة أقبل على بعض مَن حَضَره، وسأله أن يُفاتِحه السُّؤال؛ لِيتسبَّب له القولُ، فلم يكن عند مَن حضره علمٌ. فلمَّا رأى ذلك رفع صوته، وطفِق يفسِّر، يُوهم بذلك أنه قد سُئِل، فصارت حوله حَلْقة، وأبو العباس يَصِلُ في ذلك كلامَه. فتشوَّف أبو العباس أحمد بن يحيى إلى الحلْقة، وكان كثيرًا ما يرِدُ الجامعَ قومٌ خراسانيون من ذَوِي النظر، فيتكلَّمون ويجتمع الناسُ حولَهم، فإذا بَصُر بهم ثعلب، أرسل من تلاميذه مَن يُفاتِشُهم، فإذا انقطعوا عن الجواب انفضَّ الناس عنهم. فلما نظر ثعلب إلى مَن حول أبي العباس أمرَ إبراهيم بن السَّرِيَّ الزَّجَّاج وابنَ الحائك بالنهوض، وقال لهما: فُضَّا حَلْقة هذا الرجل. ونَهَضَ معَهما مَن حضر من أصحابه، فلما صارا بين يديه قال له إبراهيم بن السري: أتأذنُ -أعزَّك الله- في المفاتَشة؟ فقال له أبو العباس: سَلْ عما أحببتَ. فسأله عن مسألةٍ، فأجابه فيها بجوابٍ أقنعه. فنظر الزَّجَّاج في وجوهِ أصحابه مُتعجِّبًا من تجويد أبي العباس للجواب. فلما انقضى ذلك قال له أبو العباس: أقنِعْت بالجواب؟ فقال: نعم. قال: فإن قال لك قائل في جوابنا هذا كذا، ما أنت راجع إليه؟ وجعل أبو العباس يُوهِنُ جوابَ المسألة، ويُفسِده، ويَعْتَلُّ فيه. فبقي إبراهيم سَادِرًا لا يُحِير جوابًا. ثم قال: إن رأى الشيخُ -أعزَّه الله- أن يقولَ في ذلك؟ فقال أبو العباس: فإنَّ القولَ على نحو كذا، فصحَّح الجواب الأول، وأوْهن ما كان أفْسده به، فبقي الزَّجَّاجُ مَبْهُوتًا، ثم قال في نفسه: قد يجوزُ أن يتقدَّم له حفظُ هذه المسألة

37 - الباهلي

واتفاق القول فيها، ثم يتفق إذا سأله عنها، فأوردَ عليه مسألةً ثانيةً ففعل [أبو] العباس فيها بنحوِ فعْله في المسألة الأولى، حتى والَى بين أربع عشرة مسألة، يجيب عن كل واحدة منها بما يُقنِع، ثم يفسد الجواب، ثم يعود غلى تصحيح القول الأول. فلما رأى ذلك إبراهيم بن السَّرِيِّ قال لأصحابه: عُودوا إلى الشَّيخ، فلستُ مُفارِقًا هذا الرجلَ، ولا بدَّ لي من ملازمته. فعاتبه أصحابه وقالوا: تأخذ عن مجهول لا تعرف اسمه، وتَدَع مَن قد شُهِر علمُه وانتشر في الآفاق ذكرُه؟! فقال لهم: لستُ أقول بالذكر والخمول، ولكني أقول بالعلم والنظر. قال: فلزم أبا العباس، وسأله عن حاله، فأعلمه برغبته في النظر، وأنه قد حَبَس نفسه على ذلك إلَّا ما يَشْغلُه من صناعة الزُّجَاج في كل خمسة أيام من الشهر، فيتقوَّتُ بذلك الشهر كله. ثم أجْرى عليه في الشهر ثلاثين درهما، وأمره أبو العباس باطراح كتب الكوفيين، ولم يزل ملازمًا له، وآخذًا عنه، حتى برع من بين أصحابه. فكان أبو العباس لا يُقرئ أحدًا كتابَ سيبويه حتى يقرأه على إبراهيم ويصحح به كتابه. فكان ذلك أول رياسة أبي إسحاق. وقرأ أبو العباس ثلث كتاب سيبويه على الجَرْمي، وتوفي الجرمي، فابتدأ قراءته على المازني. وقال أبو علي: وسمع أبو العباس الكتاب من الجرمي، وعمله على المازني. وكان مولد أبي العباس يوم الاثنين في ذي الحجة ليلة الأضحى سنة عشر ومئتين، وتوفي يوم الاثنين لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ست وثمانين ومئتين. 37 - الباهلي هو أبو العلاء محمد بن أبي زُرعة، من أصحاب المازني. وقُتل ابنُ أبي زُرعة يوم دخول الداعي صاحب الزّنج البصرةَ، وذلك في سنة سبع وخمسين ومئتين.

الطبقة التاسعة

الطبقة التاسعة أصحاب أبي العباس المبرّد 38 - أبو إسحاق الزجاج هو أبو إسحاق إبراهيم بن السري بن سهل الزَّجَّاج، وكان نديمًا للمكتفي. قال الأوارجي الكاتب: حدثني أبو عبد الله محمد بن أحمد الأسواري، حدثني أبو الحسن محمد بن علي بن بِسْطام قال: حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن السَّرِيِّ الزَّجَّاج: أن أبا القاسم عبيد الله بن سليمان بن وهب سلَّم إليه ابنَه القاسمَ ليُعلِّمه النحوَ، وكان يتشاغلُ عنه باللَّعب والعَبث، فذُكر ذلك لعبيد الله، فاستحضره وقال له: ما منعك أن تُقبِل على ما شرُف به آباؤك؟ فقال له: شغلتَنِي بأشياء. وقال لي: الزمْه. وأخذت بيده ودخلت إلى موضع انفردتُ به معه، فوردَتْ عليه رقعة من أبيه فيها: أبوك كلَّفك الشّأْوَ البعيد كما ... قِدْمًا تكلَّفَه وهب أَبو حَسنِ ولست تُحمَد إن أَدركت غايتَه ... ولستَ تُعذَرُ مسبوقًا فلا تَهِنِ قال: وحدثني بعض أصحابنا أن الزجاج النحوي قال: لازمتُ خِدْمةَ عبيد الله بن سليمان الوزير ملازمةً قطعتْني عن أبي العباس المبرد وعن بِرِّه وعن إجرائي عليه ما كان تَعوَّده مني، ثم مضيتُ إليه يومًا، فقال: هل يقع حسدُ الإنسان إلا مِن نفسِه؟ فقلتُ: لا. قال: فما معنى قول الله سبحانه: {وَدَّ كثيرٌ مِن أهلِ الكتابِ لو يَردُّونَكم مِن بعدِ إيمانِكم كفارًا حسدًا مِن عندِ أنفسِهم}؟ فلم أدرِ ما وجهُ ذلكَ، فقال: ينبغي

39 - محمد بن السراج

أن تعلم أنَّ هاهنا أشياء كثيرة قد بقيتْ عليكَ. فاعتذرتُ ووعدتُه بالرجوع إلى ما تعوَّده مني. ولم يذكر عن المبرّد فيها جوابًا، وسألني عنه فقلتُ: الجوابُ -والله أعلم- أنه يقع الحسدُ مِن نَفْس الإنسان، ومن أجل غيره بأن يبعثَه عليه، ويزيِّنه له. فمعنى قول الله -سبحانه وتعالى- عَلَى أنَّ هذه الطائفة لم يَدْخل عليها الحسدُ من خارج، وإنما هو شيء مِن عند أنفسهم، فقامت الفائدة، وحسن أن يقال: {مِن عندِ أنفسِهم}؛ لئلا يدخل الضرب الآخر فيه، والله أعلم. وتوفي الزجاج ببغداد سنة ست عشرة وثلاثمئة، وقد أناف على الثمانين. 39 - محمد بن السراج هو أبو بكر محمد بن السَّرِيِّ السَّراج، وله كتب في النحو مفيدة، منها كتاب في أصول النحو، هو غاية من الشرف والفائدة، ومنها كتابه في مختصر النحو، اختصر فيه أصول العربية، وجمع مقاييسها. وكان أبو بكر محمد بن السري أديبًا شاعرًا، وكان يُحبُّ أمَّ ولدِه، وكانت في القِيان، فأنفق عليها مالَه، وتهيأ أن قَدِم المكتفي من الرَّقة في الوقت الذي وَلِيَ الخلافة. قال الأوارجي الكاتب: فجلستُ أنا وابن السراج في رَوْشَنٍ، فلما وافى المكتفي به في الماء استحسنَّاه، وكانت هذه الجاريةُ قد جَفَتْ أبا بكر، فقال: قد حضرني شيء، فاكتبه، فكتبته، وهو: قايستُ بين جمالِها وفَعالها ... فإذا الخيانَة بالملاحَةِ لا تَفِي واللهِ لا كلَّمتُها ولو انَّها ... كالشمس أو كالبدر أو كالمكتفي

قال: ومرَّ لهذا زمن طويل. وكان أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن يحيى الكاتب يهوَى قَيْنَةً، فكان يدعوها كل يوم جمعة، وكان لا يحتشِم أن يحدث أبا العباس أحمد بن يحيى بن محمد بن الفرات بحديثه معها. فحدثني زنجيٌّ أنه غدا يوم سبت إليه، فقال له أبو العباس: ما كان خبرُك مع صاحبتك أمس؟ قال: فحدَّثته باجتماعنا، فقال: فما كان صوتُك عليها؟ فقلت: قايستُ بين جمالِها وفَعالها ... فإذا الملاحَة بالخيانَة لا تَفِي واللهِ لا كلَّمتُها ولو انَّها ... كالشمس أو كالبدر أو كالمكتفي قال: فقال: هذا لِمَنْ؟ قلتُ: لعبد الله بن المعتز. وركب إلى القاسم بن عبيد الله فحدثه بهذا، وأنشده إياه، وصار معه إلى الثُّريا، وانصرف عنه. فجلس في ديوانه فلما علم أنه قد قَرُب انصرافه خرج فتلقَّاه عند الحِيرَة، فلما لَقِيَه حدَّثه أنه أنشد المكتفي البيتين، وأنه سأل مَن قائلُ الشعر؟ فقال له: هو لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر. قال: فأمرني أن أحمل إليه ألف دينار، فقلت له: إنما أنشدتك هذا على أنه لعبد الله بن المعتز، فصُرِف إلى ابن طاهر. فقال: لا والله، ما وقع لي إلا أنه لعبيد الله بن طاهر، وهذا رزقٌ رزَقه الله إياه، فأَنفِذْه إليه. قال زنجيٌّ: فلما انصرف أبو العباس حدثني الحديث وقال لي: خذْ أنت هذه الألف الدينار، وصِر بها إلى عبيد الله بن طاهر، وقل له: هذا رزقٌ رزقك الله إياه من حيث لم تحتسِبْه. فأَوصَله إليه، فشكرَ اللهَ تبارك وتعالى، وشكر أبا العباس. فقلت أنا لزنجيٍّ: ما رأيتُ أعجبَ مِن هذا، يعملُ هذا الشعرَ محمدُ بن السَّرِيّ السراج، ثم يكون سبب رزق لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر! فعجب من ذلك، وإنه لعجب!

40 - المبرمان

وأنشدني محمد بن السريّ لنفسه في هذه الجارية: سوف أَبكي على بكائي عليكِ ... وجفونِي إذا نظرتُ إليكِ وزمانٍ لم يخلقِ الله شيئًا ... كانَ فيه أعزَّ من عينيْكِ أَظَنَنْتِ الصبِيَّ يَخْفى عليه ... قُبح ما تحملين في ثوبيْكِ هبْه أَعمى وليس يبصر شيئًا ... أينَ ما قد يفوحُ من إِبطيْكِ! فاطلبي صاحبًا أَصَمَّ ضريرًا ... فعسى أن يكون يَصْبو إليكِ وأنشدني لنفسه لما جُدِر ابن ياسر المغني -وكان من أحسن الناس وجهًا، وكان قد عَلِق به وهويه: لي قمر جُدِّر لمَّا استوى ... فزاده حُسْنًا فزادتْ هُمومي أظُنُّه غنَّى لشمسِ الضّحى ... فنقَّطَتْه طربًا بالنُّجوم 40 - المبرمان هو أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل العسكري. قال أبو علي: قال وَلدُ أبي العباس محمد بن يزيد: في تلاميذ أبي رجلان؛ أحدُهما يسفلُ، والآخر يعلو. فقيل له: مَن هما؟ فقال: المبْرَمان، يقرأ على أبي، ويأخذ عنه كتاب سيبويه، ثم يقول: قال الزَّجاج. والكلابِزِيّ يقرأ عليه، ثم يقول: قال المازني. وكان الكلابِزِيّ قد أدرك المازنيّ. وللمَبرمان كتاب في تفسير كتاب الأخفش (النسخة الوسطى)، حسن. 41 - الفزاري هو أبو زرعة الفزاري.

42 - الأخفش

42 - الأخفش هو أبو الحسن عليّ بن سليْمان بن الفضل، قَدِم مِصرَ سنة سبع وثمانين ومئتين، وخرجَ عنها سنة ثلاثمئة، مَعَ عليّ بن أحمد بن بِسْطام إلى حلب، فأقام معه إلى أن تقلَّد ابنُ بسطام خراج مصر ثانية سنة خمس وثلاثمئة، ففارقه الأخفش، وقدم ابنُ بسطام مصر، وانحدر الأخفشُ إلى بغداذَ؛ فكان مقامه بمصر إلى أن خرج عنها ثلاث عشرة سنة وأشهر. أخبرني أبو الفتح محمود بن الحسين بن السندي بن ساهك الكاتب المعروف بكُشَاجم، أخبرني أبو الحسن علي بن سليمان قال: استهدَى إبراهيم بن المدبّر محمدَ بن يزيد جليسًا يجمع إلى تأديب ولده الإمتاعَ بإيناسه ومُبَاسمته، فندبني إلى ذلك، وكتب معي إليه: قد أنفذتُ إليك -أعزك الله- فلانًا، وجملةُ أمرِه كما قال الشاعر: إذا زرتُ الملوكَ فإنَّ حَسْبي ... شفيعًا عندهم أنْ يَخبُروني وحدَّثني أبو عليٍّ قال: كان عليُّ بن العباس الرومي لا يَدَع التطيُّر والتفاؤل في جميع حركاته وتصرُّفه، وكان عليُّ بن سليمان الأخفش قد أُولع باعتراضه في مخارجه بما يتطيَّر به، فربما صَرَفه بذلك عن وجْهه، وربما دقَّ عليه الباب، فإذا قال: مَنْ أنت؟ قال: الشؤم والبلاءُ. فلا يبرح عليُّ بن العباس يومَه ذلك. فلما شقَّ عليه ذلك هجاه فأقذع في هجائه، فكان الأخفش يستعمل حفظ هجائه، ثم يُمْليه فيما يُمْلِي من الأخبار والأشعار على أصحابه، فلما رأى عليُّ بن العبَّاس أن

43 - ابن درستويه

الأخفش لا يألم لهجائه أقصر عنه. وقدِم أبو الحسن عليُّ بن سليمان مصرَ سنة سبع وثمانين ومئتين، وخرج عنها سنة ثلاثمئة إلى حلَب مع ابن أحمد بن بسطام صاحب الخراج، ولم يَعُد إلى مصر. وتوفي ببغداذ سنة خمس عشرة وثلاثمئة، ويقال: سنة ست عشرة، وهو ابن ثمانين سنة أو نحوها، ودفن في مقبرة قَنْطرة بَردَان. 43 - ابن دَرَسْتَوَيْهِ هو أبو محمد عبد الله بن جعفر بن دَرَسْتَوَيْهِ الفَسَوي. قرأ على المبرّد الكتابَ وبرع، وكان نظَّارًا، له أوضاع، منها تفسيره لكتاب الجرميّ، تفنَّن فيه، وجمع أصول العربية، ومنها كتابه في النحو الذي يُدْعى بكتاب الإرشاد، ومنها كتابه في الهجاء، وهو فائت في معناه، غريب في مغزاه. وتوفي في يوم الاثنين لسبع بقين من صفر سنة سبع وأربعين وثلاثمئة. 44 - أبو بكر بن أبي الأزهر مستملي أبي العباس المبرّد. 45 - أبو بكر محمد بن شقير النحوي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...

46 - ابن الخياط

46 - ابن الخياط هو أبو بكر أحمد بن محمد بن منصور.

الطبقة العاشرة

الطبقة العاشرة أصحاب الزجاج 47 - أبو الفهد البصري كان أبو الفَهْد تلميذًا لأبي بكر أحمد بن محمد بن منصور المعروف بابن الخياط، من أصحاب المبرّد. 48 - أبو القاسم الزجاجي هو عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي، ينسب إليه للزومه إياه. وتوفي بدمشق في رجب سنة سبع وثلاثين وثلاثمئة. أصحاب ابن السراج 49 - أبو سعيد السيرافي هو الحسن بن عبد الله بن المَرْزُبان، وهو الذي فسَّر كتاب سيبويه، وينتحلُ العلمَ بالمجَسْطِي وإقليدس والمنطق، ويتفقَّه بأبي حنيفة، وهو معتزليٌّ من أصحاب الجُبَّائي، وكان ينزل الرُّصافة.

50 - أبو علي الفسوي

50 - أبو علي الفَسَوي كان عند ابن حَمْدان، فاستجلبه الدَّيلميُّ لبني أخيه خُسْرُه يُؤدِّبهم، فأقام ببغداد، ثم توجه إلى شيراز. 51 - علي بن عيسى البغداذي الوراق ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أصحاب الأخفش علي بن سليمان 52 - الميدمي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أصحاب بن دَرَسْتَوَيْهِ 53 - أبو طاهر هو عبد الله بن عمر بن محمد بن أبي هاشم المقرئ، من أهل مدينة

54 - الكرماني

أبي جعفر، قرأ عليه بعضَ الكِتَاب، ولم يُرَ بعد ابن مجاهد مثله، وكان يقرئ في سكة عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن العباس بالمدينة ببغداد. وكان كوفيَّ المذهب. توفي سنة أربع وأربعين وثلاثمئة، يوم الخميس لعشر بقين من شوال. 54 - الكرماني قرأ عليه بعض الكتاب. 55 - أبو علي إسماعيل بن القاسم البغدادي هو أبو علي إسماعيل بن القاسم بن هارون بن عَيْذُون البغداذي. قرأ عليه كتاب سيبويه أجمع، واستفسر جميعه، وناظره فيه، ودقَّق النظر، وكتب عنه تفسيره، وعلَّل العلةَ، وأقام عليها الحجة، وأظهر فَضْل مذهب البصريين على مذهب الكوفيين، ونَصَر مذهب سيبويه على مَنْ خالفه من البصريين أيضًا، وأقام الحجة له. قال أبو علي إسماعيل بن القاسم: وقرأ معي الكتاب أبو جعفر أحمد بن أبي محمد بن دَرَسْتَويه -تعليمًا ورواية- الكتاب أجمع.

النحويون الكوفيون

النحويون الكوفيون

الطبقة الأولى

الطبقة الأولى من النحويين الكوفيين 56 - الرُّؤاسي هو أبو جعفر. وكان أستاذَ أهلِ الكوفة في النحو، وكان أخذ عن عيسى بن عمر. وله كتاب في الجمع والإفراد. 57 - معاذ الهراء هو معاذ بن مُسْلم الهرَّاء، وكان يبيع الهرويَّ من الثياب، وهو القائل: وما كان على الجِيء ... ولا الهِيء امْتِدَاحِيكَا الهِيء: دعاء الحمار للعلف. والجِيء: دعاؤه للماء. وقال الفرَّاء: قال مُعاذٌ الهرَّاء: لقد قيل "سيرة العُمَرين" قبل خلافة عمر بن عبد العزيز، يعني أبا بكر وعمر. 58 - أبو مسلم هو أبو مسلم مؤدب عبد الملك بن مروان، وكان قد نظر في النحو، فلما أحدث الناس التصريف لم يحسنه وأنكره، فهجا أصحاب النحو فقال: قد كان أخذُهُمُ في النحو يُعجِبني ... حتى تعاطَوْا كلام الزّنجِ والرُّومِ

لمَّا سمعتُ كلامًا لستُ أفهمُهُ ... كأنه زَجَل الغِرْبَانِ والبومِ تركتُ نحوَهُمُ والله يعصمني ... من التقحُّم في تلك الجراثيمِ فأجابه معاذٌ الهراء أستاذ الكسائي فقال: عالجتَها أمردَ حتى إذا ... شبتَ ولم تُحسِنْ أبا جادِها سمَّيتَ مَن يعرفها جاهلًا ... يُصدِرُها من بعد إيرادها سهَّل منها كلَّ مُستصعَبٍ ... طَوْدٌ علا القرنَ من أطوادها وكان أبو مسلم يجلس إلى مُعاذ بن مسلم الهراء النحوي، فسمعه يناظر رجلًا في النحو، فقال له معاذ: كيف تقول مِن "تَؤُزُّهُمْ أَزًّا": يا فاعل افعل؟ وصِلها بيا فاعل افعل مِن {وإذا الموؤدة سُئلتْ}. فسمِع أبو مسلم كلامًا لم يعرفْه، فقام عنهم وقال الأبيات. قال: وجواب المسألة: "يا آزّ أزّ"، وإن شئت: "أزِّ"، وإن شئت: "أزُّ"، وإن شئت: "أوزُزْ" فالفتح لأنه أخف الحركات، والكسر لأنه أحقُّ بالتقاء الساكنين، والضمُّ للإتباع، وكذلك: يا وائِد إدْ؛ مثل يا واعدُ عِدْ.

الطبقة الثانية

الطبقة الثانية 59 - الكسائي هو أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي، مَوْلَى بني أسد، من أهل باحَمْشا. أخذ عن الرُّؤَاسيّ، ودخل الكوفةَ وهو غلام، وأدَّب ولدَ الرشيد. قال محمد بن الحسين السمريّ: رأيت الكسائيَّ بالبصرة في مجلس يونس، وهو يناظره مناظرة النظير. وقال أبو عليٍّ إسماعيل بن القاسم البغداذي: سمعت محمد بن السَّرِيّ يقول: حضر الكسائيُّ مجلس يونس فقال: لم صارت "حتَّى" تنصب الأفعال المستقبلة؟ فقال: هكذا خُلِقَتْ! فضحك به. وقال عبد الله بن أبي سعد: حدثني أبو بكر محمد بن عبد الله بن عبيد بن آدم بن جُشَم العبديُّ قال: حدثني الأحمر قال: دخل أبو يوسف على الرشيد والكسائي عنده يمازحه، فقال له أبو يوسف: هذا الكوفي قد استفرعك وغَلب عليك! فقال: يا أبا يوسف، إنه ليأتيني بأشياء يشتمِل عليها قلبي. فأقبل الكسائي على أبي يوسف قال: يا أبا يوسف، هل لك في مسألة؟ قال: نحو أم فقه؟ قال: بل فقه. فضحك الرشيد حتى فحص برجله. ثم قال: تُلْقِي على أبي يوسف فقهًا؟! قال: نعم. قال: يا أبا يوسف، ما تقول في رجل قال لامرأته: "أنت طالق إن دخلتِ الدار"؟ قال: إن دَخَلتِ الدارَ طَلَقَتْ. قال: أخطأت يا أبا يوسف. فضحك الرشيد، ثم قال: كيف الصواب؟ قال: إذا قال: "أَنْ" فقد وجب الفعل، وإذا قال: "إِنْ" فلم يجب، ولم يقع الطلاق. قال: فكان أبو يوسف بعدها لا يدَع أن يأتيَ الكسائيَّ. حدثنا محمد بن العباس الهاشمي الحلبيُّ قال: أخبرنا أحمد بن عثمان،

حدثنا محمد بن عبد العزيز: أخبرني مَنْ أثِقُ به أن الرشيد تلقاه الكسائي في بعض طريقه، فوقف عليه وسأله عن حاله، فقال الكسائيُّ: لو لم أجْتَنِ من ثمرة الأدب إلا ما وَهَبَ الله لي من وقوف أمير المؤمنين عليَّ لكان كافيًا. وقال الأوارجي الكاتب: حدثني العَجْوَزِيُّ أن الكسائيَّ النحويَّ ارتحل إلى حمزةَ الزياتِ، وعليه كِسَاءٌ جيدٌ، فجلس بين يديه فقرأ ثلاثين آية، وكان حمزة أخذ أكثر من ثلاثين آية، فقال له: اقرأ. فقرأ أربعين، ثم قال له: اقرأ إلى أن تتم مئة آية. فقال له: قم. ثم افتقده، فقال: ما صنع صاحبُ الكساءِ الجيدِ؟ فسُمِّيَ الكسائيّ. وقال أحمد بن يحيى ثعلب: قال سَلَمَةُ: صحَّف الكسائيُّ في بيت الجَعْدِيّ: * وكان النكيرُ أن تُضيف وتَجأرَا * قال: "يُضِيف". قال: ولم يبلغني أن الكسائي ولا الفراء قالا شعرًا قطّ. وكان الأحمر يَقْرض الشعر، وله أبيات. قال سلَمة: أنشد الكسائيُّ الرشيدَ بحضرة الأصمعي: أم كيف ينفع ما تُعطَى العَلُوق بِه ... رئمانَ أَنفٍ إذا ما ضُنّ باللَّبنِ

قال الأصمعيُّ: "رئمانُ أنف". فقال الكسائيُّ: "رئمانَ أنف"، و"رئمانَ أنف"، اسكتْ، ليس هذا من صنعتك. قوله: "رئمان أنف" يريد أنها ترأم البوَّ، وهي مع ذلك لا تَدُرُّ اللبن، والعَلُوق التي ترأمُ بأنفها وتمنعُ ضَرْعها. ويقال: العلوق من النُّوق التي تريد الفحل ولا ترأم الولد، ومن النِّساء التي لا تحبُّ غير زوجها. وقال: وبُدِّلتُ من أُمٍّ عليَّ شفيقةٍ ... عَلوقًا، وشرُّ الوالدات عَلوقُها ابن أبي سعد قال: حدثني ابن طهمان قال: سمعت والله الفراء يحيى يقول: مدحني رجل من النحويين فقال: ما اختلافك إلى الكسائيِّ وأنت مثله في العلم؟ قال: وأعجَبَتْنِي نفسي فناظرته وسألته؛ فكأنِّي كنتُ طائرًا يغْرِف من بَحْرٍ. قال الهَرَوي: حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ قال: كان الكِسائيُّ فصيح اللسان، لا يُفْطَن لكماله، ولا يُخيَّل إليك أنه يُعرِب، وهو يُعرِب. وقال أحمد بن أبي الطاهر: حدثني محمد بن عبد الله بن آدم بن جُشَم العَبْدي، حدثني ثابت الغنمي، أخبرني رجل في حلقة الأحمر النَّحويِّ، عن تميم الداري -رجل كان بالرَّي- قال: لما خرج الرشيد إلى طُوس، خرج الكسائيُّ معه، فلمَّا صار إلى الرَّيّ اعتلّ علَّة منكرة، فأتى إليه هارون الرشيد ماشيًا متفزِّعًا، وخرج مِن عِنْده وهو مُغْتَمّ، فقال لأصحابه: ما أظنُّ الكسائيَّ إلَّا ميتًا. وجعل يَسْتَرْجِع. فجعل القوم يعزُّونه ويطيِّبون نفسَه، وجعل يظهر حزنًا. فقالوا: يا أمير المؤمنين، ما الذي قضيت عليه بهذا له! فقال: لأنَّه حدثني أنه لقي أعرابيًّا عالمًا غزيرًا بموضع يقال له: "ذو النَّخْلَتين". فقال الكسائي: فكنت أغدُو عليه وأرُوح، أمْتاح ما عنده، فغدوتُ عليه غُدوةً من الغدوات، وهو ثقيل، فرأيت به علَّة منكرة، فألقى نفسه، وجعل يَنْتَفِضُ ويقول:

قَدَرٌ أحلَّك ذا النُّخَيْل وقد تَرَى ... لولاه مَالَكَ ذو النُّخَيْل بدارِ إلَّا كداركمُ بذي بقَرِ الحِمَى ... أَيْهَاتَ ذو بقرٍ من المُزدار قال الكسائيُّ: فغدوتُ إليه صباحًا، فإذا هو لمآبه، ودخلتُ على الكسائيِّ وهو يُنشد البيتين، فغمَّني ذلك. فمات الكسائي بالرّيّ، وكان كما ظن الرشيد. وتُوفِّي هو ومحمد بن الحسن الفقيه صاحب أبي يوسف، ودفنا في يوم واحد، سنة تسع وثمانين ومئة، فقال الرشيد: دفنَّا الفقه واللغة في الري في يوم واحد. قال محمد بن عبد الملك توفي الكسائي سنة ثلاث وتسعين ومئة. قال ابن أبي سعد: ورثاهما اليزيدي فقال: أَسيتُ على قاضي القضاة محمَّدٍ ... فأَذريتُ دمْعِي والفؤادُ عميدُ وأفزعني موتُ الكسائيِّ بعدَه ... فكادت بيَ الأرض الفضاء تميدُ هما عَلَمانا أَوْديَا وتُخرِّمَا ... فما لهما في العالمينَ نديدُ

الطبقة الثالثة

الطبقة الثالثة 60 - الفراء هو أبو زكرياء يحيى بن زياد بن عبد الله بن منصور الدَّيْلميّ الفراء. وكان أبرعَ الكوفيين في علمهم. وحدَّث محمد بن الجهم قال: حدَّثني ابن المُستنير قُطْرُب قال: دخل الفرَّاء على هارون الرشيد فتكلَّم بكلامٍ لَحَن فيه مرَّاتٍ، قال جعفر بن يحيى: إنه لحن يا أمير المؤمنين. فقال الرشيد للفراء: أتلحَن؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن طباع أهل البدو الإعراب، وطباع أهل الحضَر اللَّحْن؛ فإذا تحفَّظتُ لم ألْحَن، وإذا رجعتُ إلى الطبع لحنتُ. فاستحسن الرشيد قوله. قال أبو العباس أحمد بن يحيى: العربُ تُخرجُ الإعرابَ على اللَّفظ دون المعاني، ولا يفسِد الإعرابُ المعنى، فإذا كان الإعرابُ يُفسد المعنى فليس من كلام العرب. وإنَّما صحَّ قول الفرَّاء لأنه عمل العربية والنحو على كلام العرب، فقال: كلُّ مسألة وافق إعرابُها معناها، ومعناها إعرابَها فهو الصحيح. وإنما لَحِق سيبويه الغلطُ لأنَّه عمل كلامَ العرب على المعاني، وخلَّى عن الألفاظ، ولم يوجدْ في كلام العرب ولا أشعار الفحول إلا ما المعنى فيه مطبِّق للإعراب، والإعراب مطبِّقٌ للمعنى. وما نقله هشام عن الكِسائيِّ فلا مطعَن فيه، وما قاسه فقد لحِقه الغمْز؛ لأنه سلك بعضَ سبيل سيبويه، فعمل العربية على المعاني وتركَ الألفاظ؛ والفرَّاء حمَل العربية على الألفاظ والمعاني فبَرع واستحقَّ التَّقْدِمة، وذلك كقولك: "مات زيد"؛ فلو عاملت المعنى لوجب أن تقول: "مات زيدًا" لأن الله هو الذي أماته؛ ولكنك عاملت اللفظ، فأردتَ: سكنتْ حركاتُ زيد.

قال أبو العباس: وصحَّف الفرَّاء في بيت العجَّاج: * حتى إذا أشرف في جوف حبَا * فقال: "في جوفِ جبَا". قال: وسمعتُ أبا العباس أحمد بن يحيى غيرَ مرة يقول: لولا الفرَّاء ما كانتْ عربية؛ لأنه حصَّنها وضَبطها، ولولا الفرَّاء لسقطتِ العربية؛ لأنها كانت تُتنازع ويدَّعيها كلُّ مَنْ أراد، ويتكلَّم الناس على مقادير عقولهم وقرائحهم فتذهب، وأدركنا العلَماء يردُّون في العلم أقاويلَ العلماء، ثم تكون العِللُ بعد، ثم رأينا الناس بعد ذلك يتكلَّمون في العلم بآرائهم ويقولون: نحنُ نقول. فيأتون بالكلام على طباعهم وبحسب ما يَحْسُن عندهم، وهذا سبب ذهاب العلم وبُطْلانه. قال: وقال أبو العباس: وكان السبب في إملاء الفراء كتابه في القرآن -وهو كتاب لم يعمل قبله ولا بعده مثله، ولم يتهيأ لأحد من الناس جميعًا أن يزيد عليه شيئًا- أنَّ عمرَ بن بكير -وكان من أصحابه، وكان مع الحسن بن سهل- فكتب إليه: إن الأميرَ الحسنَ لا يزالُ يسألني عن أشياءَ من القرآن لا يحضُرُني جوابٌ عنها؛ فإن رأيتَ أن تَجْمَع لي أصولًا، أو تجعل في ذلك كتابًا أرجع إليه فعلتَ. فلما قرأ الكتاب قال لأصحابه: اجتمعوا حتى أُمِلَّ عليكم كتابًا في القرآن. وجعل لهم يومًا، فلما حضروا خرج إليهم -وكان في المسجد رجل يؤذِّن فيه،

61 - القاسم بن معن

وكان من القرَّاء- فقال له: اقرأ. فبدأ بفاتحة الكتاب ففسرها، ثم مرَّ في الكتاب كلِّه على ذلك؛ يقرأ الرَّجل، ويفسِّر الفرَّاء. وكتابه في القرآن نحوٌ من ألف ورقة. قال أبو العباس: قال الخليل: كِلَا اسمٌ. وقال الفراء: هي بين الأسماء والأفعال، فلا أحكمُ عليها بالاسم ولا بالفعل، فلا أقول: إنها اسم؛ لأنها حَشْو في الكلام، ولا تنفرِد كما ينفرد الاسم، وأشبهت الفعل لتغيُّرها في المكنِيِّ والظاهر؛ لأني أقول في الظاهر: رأيتُ كلا الزيدين، ومررت بكلا الزيدين، وكلَّمني كلا الزيدين؛ فلا تتغير. وأقولُ في المكنِيِّ: رأيتهما كليهما، ومررت بهما كليهما، وقام إليَّ كلاهما؛ فأشبهتِ الفعلَ؛ لأني أقولُ: قضى زيدٌ ما عليه، فتظهر الألف مع الظاهر، ثم أقول: قضيت الحقَّ، فتصير الألف ياء مع المكنِيِّ. قال أبو العباس: كُتبُ الفرَّاء لا يوازى بها كتابٌ. وتوفي الفراء في طريق مَكَّة سنة سبع ومئتين. 61 - القاسم بن معن حدثنا أحمد بن سعيد قال: حدثنا أبو مُسْلم صالح بن أحمد بن عبد الملك بن صالح الكوفي قال: أَمْلَى عَلَيَّ أبي رحمه الله قال: القاسم بن مَعْن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قديم الموت، وكان على قضاء الكوفة، وكان لا يُنفِق من رزقه شيئًا، إذا أخذه قسَّمه. وكان عفيفًا صارمًا في قضائه، فقيه البلد، ثقةً جامعًا للعلوم. وكان راويةً للشعر، عالمًا

62 - الأحمر

بالغريب والنحو، وكان قد كَتَب ولم يُشْهَر عنه الحديث. سألت أبي عن القاسم بن معن، فقال: ثِقَة مستور، روى عنه عبد الرحمن بن مهدي، ليس به بأس، وكان على قضاء الكوفة، وكان لا يأخذ على القضاء أجرًا، وكان رجلًا يعقل، وكان صاحب شعر ونحو؛ وذكر خيرًا. قال: وكان مَعْن بن عبد الرحمن أبوه من خيار المسلمين. حدَّثنا ابنُ الأعرابيِّ، حدثنا الدُّوري قال: سمعت يحيى بن معين يقول: كان القاسم بن معن رجلًا نبيلًا. وقال: كان قاضي الكوفة. قال عبد الله بن مسلم بن قُتيبة: القاسم بن مَعن كان على قضاء الكوفة، وكان عالمًا بالفقه والحديث والشعر والنسب وأيام الناس، وكان يقال له: شَعْبِيُّ زمانِه. 62 - الأحمر هو عليُّ بن المبارك الأحمر. وكان مؤدِّب محمد بن هارون الأمين. وروي أن الأحمر قال: قعدتُ مع الأمين ساعةً من نهار، فوصل إليَّ فيها ثلاثمئة ألف درهم، فانصرفت وقد استغنيت. ابن أبي سعد قال: حدثني محمد بن عبد الله العبديُّ قال: سمعتُ الأحمر يقول: يقال للذئب: ذُؤالة ودؤالة؛ لشدة ذَألاته ودَألاته. 63 - هشام بن معاوية الضرير ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...

64 - أبو طالب المكفوف

64 - أبو طالب المكفوف أخذ عن الكسائي، وله كتاب في حدود العوامل والأفعال واختلاف معانيها. 65 - سلمويه أخذ عن الكسائي أيضًا. 66 - إسحاق البغوي أخذ عن الكسائي أيضًا. 67 - أبو مسحل هو عبد الله بن حَرِيش. قال أبو عليٍّ: وحدثني أبو بكر محمد بن القاسم بن محمد بن بشَّار الأنباري قال: كان أبو مِسْحَل يَرْوي عن عليِّ بن المبارك الأحمر أربعين ألف بيت شاهد في النحو. قال: وسمعت أبا العباس أحمد بن يحيى ثعلبًا يقول: ما ندِمتُ على شيء كنَدَمِي على ترْك سماع الأبيات التي كان يَرْويها أبو مِسْحل عن عليِّ بن المبارك الأحمر. 68 - قتيبة النحوي حدثنا محمد بن موسى بن حماد قال: حدثني سليمان بن أبي شيخ الخُزاعيُّ قال: حدثنا أبو سفيان الحميري قال: قال أبو عبيد الله كاتب المهديِّ: "قرًى

عربية"، فنَوَّن، فقال شبيبُ بن شيبة: إنما هي "قُرَى عربيَّةَ" غير مُنوَّنة. فقال أبو عبيد الله لقتيبة النحوي الجُعْفي الكوفي: ما تقول؟ فقال: إن كنتَ أردتَ القُرى التي بالحجاز يقال لها: "قُرَى عربيَّةَ"؛ فإنها لا تنصرف، وإن كنتَ أردتَ قرًى من قرى السواد فهي تنصرف. فقال: إنما أردتُ التي بالحجاز. قال: هو كما قال شبيب.

الطبقة الرابعة

الطبقة الرابعة أصحاب الفراء 69 - سلمة بن عاصم قال أحمد بن يحيى: كان سَلَمَة حافظًا لتأدية ما في الكتب، وكان ابنُ قادم حسَن النظر في العِلَل، وكان الطُّوال حاذقًا بإلقاء العربية. أبو عليٍّ إسماعيل قال: سمعتُ محمد بن القاسم بن محمد الأنباري يقول: ما أسِيتُ على شيءٍ كما أسِيتُ على تركي السماع لكتاب المعاني للفراء من أبي العباس أحمد بن يحيى. وإنما كان يَقْطعُني عنه الحديثُ، وكان يُقرأ بالعَشيَّات على باب داره. قال: وكتاب سلَمة أجودُ الكتب؛ لأنَّ سلمة كان عالمًا، وكان لا يحضر مجلسَ الفرَّاء يوم الإملاء، وكان يأخذ المجالس مِمَّن يحضرُ ويتدبَّرها، فيجد فيها السَّهو، فيناظرُ عليها الفراء، فيرجع عنه. وكان أحمد بن يحيى سمِعه من سلَمة بن عاصم عن الفراء. والحدود في النحو ستُّون حدًّا، سمعها أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب عن سلَمة بن عاصم عن يحيى بن زياد الفراء. 70 - أبو عبد الله الطّوال ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...

71 - محمد بن قادم

71 - محمد بن قادم ويقال: أحمد - هو أبو جعفر أحمد بن عبد الله بن قادم، وهو أستاذ ثعلب. قال الأوارجيُّ الكاتب: حدثنا أبو جعفر أحمد بن إسحاق البُهلوليُّ القاضي الأنباريُّ؛ أنه وأخاه البُهْلول دخلا مدينة السلام في خمس وخمسين ومئتين، فدارا على الحلق يوم الجمعة، فوقفا على حلْقةٍ فيها رجل يتلهَّب ذكاءً، ويجيب عن كل ما يُسأل عنه من مسائل القرآن والنحو والغريب وأبيات المعاني، فقلنا: مَن هذا؟ فقالوا: أحمد بن يحيى ثعلب. فبينا نحن كذلك، إذ ورد شيخ يتوكَّأ على عصًا، فقال لأهل الحلقة: أفْرِجوا. فأَفْرَجوا له حتى جلس إلى جانبه، ثم سأله عن مسألة، فقال: قال أبو جعفر الرُّؤاسي فيها كذا، وقال أبو الحسن الكِسائيُّ فيها كذا، وقال الفراء فيها كذا، وقال هِشامٌ فيها كذا، وقلتُ كذا. فقال له الشيخ: لن تراني أعتقد في هذه المسألة إلا جوابك، فالحمد لله الذي بلَّغني هذه المنزلةَ فيك. فقلنا: مَن هذا الشيخ؟ فقالوا: أستاذُه محمدُ بنُ قادمٍ النَّحويُّ، أستاذ ثعلب. هكذا رُوِي: محمدُ بنُ قادمٍ، وغيره يقول: أحمد بن عبد الله بن قادم. قال أبو بكر بن عبد الملك بن عبدالصمد: قال لي عَمِّي: قال أبو العباس أحمد بن يحيى: حدثني ابنُ قادم -وكان مع إسحاق بن إبراهيم المُصعبيّ- قال أبو العباس: وكان ابن قادم يُشبه الناس في خَلْقه وخُلُقه وعلمه. قال: وجَّه إليَّ إسحاقُ يومًا من الأيام، فأحضرني، فلم أدرِ ما السبب، فلما قَرُبْتُ من مجلسه تلقَّاني ميمون بن إبراهيم كاتبُه على الرسائل، وهو على غاية الهلع والجزع،

72 - ابن سعدان

فقال له بصوت خفيٍّ: إنه إسحاق، ومرَّ غيرَ متلبِّث ولا متوقِّف، حتى رجَع إلى مجلس إسحاق، فراعني ذلك، فلما مَثُلْتُ بين يديه قال لي: كيف يقال: "وهذا المال مالًا"، أو "وهذا المال مالٌ"؟ فعلمتُ ما أراد ميمون، فقلتُ له: الوجهُ: "وهذا المال مالٌ"، ويجوز: "وهذا المال مالًا". فأقبل إسحاق على ميمون بغلظة وفظاظة، ثم قال: الزم الوجهَ في كتبك، ودَعْنا من يجوز ويجوز. ورمى بكتابٍ كان في يده. فسألتُ عن الخبرِ، فإذا ميمون قد كتب إلى المأمون، وهو ببلاد الروم عن إسحاق، وذكر مالًا حمله إليه، وكتب: "وهذا المال مالًا"، فخطَّ المأمونُ على الموضع من الكتاب، ووقَّع بخطِّه في حاشيته: تكاتبني باللَّحْن! فقامت القيامة على إسحاق. فكان ميمون بعد ذلك يقول: ما أدري كيف أشكر ابنَ قادمٍ؛ بقَّى عليَّ روحي ونعمتي. قال أبو العباس: فكان هذا مقدار العلم، وعلى حَسَب ذلك كانت الرغبة في طلبه، والحذر من الزلل. "وهذا المال مالًا" ليس بشيء، ولكن أحسن ابن قادم في التأتِّي بخلاص ميمون. 72 - ابن سعدان هو محمد بن سعدان، كانت وفاته سنة إحدى وثلاثين ومئتين. 73 - محمد بن حبيب قال أبو العباس أحمد بن يحيى: أتيت محمدَ بن حبيب -وقد بلغني أنه يُمِلُّ شعرَ حسَّان بن ثابت- فلما عرَف موضعي قطع الإملاءَ، فانصرفتُ وعدتُ، فترفَّقتُ فأَمَلَّ، وكان لا يقعد في المسجد الجامع، فعذلتُه

على ذلك فأبى، فلم أزل به حتى قعد في جمعةٍ من الجُمَع، واجتمع الناس، فسأله سائلٌ عن هذه الأبيات: أَزُحْنَةَ عنِّي تطردين تبدَّدَتْ ... بلَحْمِك طيرٌ طِرْن كلَّ مطيرِ قفي لا تَزِلِّي زلَّةً ليس بعدها ... جُبُورٌ وزلَّاتُ النساء كثير فإني وإياه كرجلَيْ نعامةٍ ... على كلِّ حالٍ مِنْ غِنًى وفقيرِ ففسَّر ما فيه من اللُّغةِ، فقيل له: كيف نقول: "مِن غِنًى وفقير"، وكان يجب أن نقول: "مِن غِنًى وفقر"؟ فاضطرب، فقلت للسائل: هذه غريبة، وأنا أنوب عنه. وبيَّنتُ العِلَّة، وانصرف، ثم لم يعد للقعود بعد ذلك، فانقطعت عنه. ورجلا النَّعامة لا تنوبُ واحدة عن الأخرى؛ لأنه لا مُخَّ فيها، وسائر الحيوان إذا أعيت إحدى رجليه استعانت بالأخرى، ويقال: هما رجْلا نعامة، والأسماء تُرَدُّ على المصادر، والمصادر تُرَدُّ على الأسماء، لأن المصادر ظهرت لظهور الأسماء وتمكُّنِ الإعراب فيها.

الطبقة الخامسة

الطبقة الخامسة أصحاب سلمة 74 - أحمد بن يحيى ثعلب هو أحمد بن يحيى النحوي بن يزيد، مولى بني شيْبان، المعروف بثعلب. فاق مَن تقدَّم من الكوفيين وأهل عصره منهم، وكان قد ناظر أصحابَ الفرَّاء وساواهم. قال أبو عليٍّ: وحدثني أبو بكر محمد بن القاسم بن محمد بن بشار الأنباري قال: نظر أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب في النحو وله ثمان عشرة سنة، وصنَّف الكتب وله ثلاثٌ وعشرون سنة، وكان ثقةً صدوقًا حافظًا للُّغة عالمًا بالمعاني. قال: وحدثني أبو بكر محمد بن القاسم أيضًا أن الرّياشيّ سئل حين انصرف من بغداذ إلى البصرة عن علماء بغداذ، فقال: ما رأيت منهم أعلمَ من الغلام المنبَّز -يعني ثعلبًا-. وحدثني قال: حدثني أبو العباس قال: قدم علينا الرياشي، فقصدتُ إليه مجلسه، فسألته عن مسائلَ من النحو، فلم يتكلم فيها بشيء، وقال: أنا تارك لهذا. وقال الأوارجي الكاتب: حدثني العَجْوَزِي قال: كان ثعلب من الحفظ، والعلم، وصدق اللهجة، والمعرفة بالغريب، ورواية الشعر القديم، ومعرفة النحو على مذهب الكوفيين ... على ما ليس عليه أحدٌ. وكان يدرسُ كتبَ الفرَّاء وكتب الكسائي درسًا، ولم يكن يعلم مذهب البصريين، ولا مستخرجًا للقياس ولا مطالبًا له. وكان يقول: قال الفراء، وقال الكسائي، فإذا سئل عن الحجة والحقيقة في ذلك لم يغرق في النظر. وكان خَتنه أبو علي الدينوري زوج ابنته يخرج من منزله وهو

جالسٌ على باب دارِه، فيتخطَّى أصحابَه، ويمضي ومعه محبرته ودِفْتَرُه، فيقرأ كتابَ سيبويه على محمد بن يزيد المبرّد، فيعاتبه على ذلك أحمد بن يحيى ويقول: إذا رآك الناس تَمْضي إلى هذا الرجل، وتقرأ عليه، يقولون ماذا! فلم يكن يلتفتُ إلى قوله. وكان أبو عليٍّ هذا حسنَ المعرفة. وسمعتُ إسماعيلَ بن إسحاق بن إبراهيم المصعبي يقول له: يا أبا عليٍّ، كيف صار محمد بن يزيد النحوي أعلمَ بكتاب سيبويه من أحمد بن يحيى ثعلب؟ قال: لأن محمد بن يزيد قرأه على العلماء، وأحمد بن يحيى قرأه على نفسه. ولم يزل أحمد بن يحيى مُقدَّمًا عند العلماء من أيام حداثته، قال: قرأت كتاب أبي نصر الطوسي إلى أبي أحمد من سُرَّ مَن رأى يقول: شككنا في حرف كذا وكذا، فصِرْ إلى أبي العباس فاسأله عنه؛ فإنه كان أحفظَ لِمَا يسمعه منا. وكان ضيِّق النَّفقة مقتّرًا على نفسه، حدثني أخي -وكان صاحبه ووصيَّه- قال: دخلتُ عليه يومًا وقد احتجم وبين يديه طَبق، وفيه ثلاثةُ أرْغِفة وخمسُ بَيْضات وبقْل وخلّ وهو يأكل، فقلتُ: قد احتجمتَ فلو أخذتَ رِطْلًا من لَحْم فأصلحتَ لك منْه قُدَيْرة؛ لكان أصلحَ لك. فقال: رِطْل لحم وثمن التوابل ومثلُه أيضًا للعيال، فَقد اجْتَمع، فما له معنى! وكانت ابنتُه قد استهلكت ألف دينار من ألفي دينار، فطالَبَها بذلك أشدَّ مُطالبة وأغلظَها، وجمعَ أصحابه عليها وناظرَها بحضْرتهم. قال: فحدَّثني أخي قال: كنتُ فيمن خاطبها وهي وراء السّتْر، فقالت: هو أعرفُ بموضع الدنانير، كان ضيِّقًا كما قد علمت، فكان يَخْرُج من عندنا بَكِرًا

فإذا انتصفَ النَّهارُ رَجَع وخَلَع ثيابه، وقال: عندكم شيءٌ نأكله؟ فتُخرج الجارية مائدةً عليها أرغفة سَميذ وقطعة من جَدْي أو دجاجة وفَضْلة من جام حَلْواء، فيأكل ذلك ولا يقول: مِن أَيْن لكم هذا؟ فلا يزالُ هذا دأبه، ولا يسأل عمَّا يُقدَّم إليه، وما يُشتَرى له من الفاكهة والطيبات، فقولوا له: تلك الدنانيرُ ذهبتْ فيما كنتَ تأكلُه ولا تسألُ عنه! فانصرفت وقد أوجبتْ عليه الحجة، ولم يصلْ إلى درهمٍ واحدٍ ممَّا ذهبَ له. وقال: سمعت أحمد بن إسحاق المعروف بابن المدوَّر يقول: كنتُ أرى أبا عبد الله بن الأعرابيِّ يشكُّ في الشيء فيقولُ: ما عندك يا أبا العباس في هذا؟ ثقةً بغزارة حفظه، ولم يكن مع ذلك موصوفًا بالبلاغة، ولا رأيته إذا كتب كتابًا إلى بعض أصحاب السلطان خرج عن طبع العامَّة، فإذا أخذتَه في الشعر والغريب ومذهب الفراء والكسائي؛ رأيتَ مَن لا يفي به أحد، ولا يتهيأ له الطَّعنُ عليه. وكان هو ومحمد بن يزيد عالِمَينِ قد خُتِم بهما تاريخُ الأدباء. قال بعض المُحدَثين: يا طالب العلم لا تَجْهَلَنْ ... وعُذْ بالمبرِّد أو ثعلبِ تجدْ عندَ هذينِ عِلمَ الورى ... فلا تكُ كالجملِ الأجربِ علومُ الخلائقِ مقرونةٌ ... بهذينِ في الشرق والمغربِ قال: وكان محمد بن يزيد يُحِبُّ أن يَجْتَمِع معه ويَستكثِر منه، فكان يمتنع من ذلك، فقلت لخَتَنِه الدِّينَوَرِي: لِمَ يفعلُ ذلك؟ فقال: أبو العباس محمد بن يزيد حَسَن العبارة، حُلو الإشارة، فصيحُ اللسان، ظاهرُ البيان، وأحمد بن يحيى مذهبُه مذهبُ المعلِّمين؛ فإذا اجتمعا في محفِل حُكِم لهذا على الظَّاهر إلى أن يعرف الباطن. وكان إذا تلاقَيَا على ظَهْر الطريق تساءلا وتوافقا، رحمهما الله. قال أبو عمر بن سعد القُطْرَبليّ: سرت إلى أحمد بن يحيى في يوم الأربعاء

وكانت وفاته يوم الجمعة، ومعي مُتطبِّبٌ لنا، فلما دخلت عليه قال: أتيتَ بما في نفسي، كنتُ الساعةَ على أن أكتبَ إليك أسألك البعثةَ به إليَّ، فقد سرَّني أن وقع مجئيه بالاتفاق. فنظر إليه، وجسَّ يدَه، ثم قال له: أنت كأنك الدّرّ، أنت في كلِّ عافية، القوة تامَّة، والنبضُ طبيعيّ، والذي تشكوه من دم. فرأيته وقد اقشعرَّ وجهه وقال: بشَّرك الله بخير! وسنُّه في الوقت تسعون سنة وسبعة أشهر. قال بعضهم: كنَّا عند أحمد بن يحيى نُعزِّيهِ بخَتَنِه أبي عليٍّ -وقد جاء نعيه من مصر يوم الأحد لستٍّ بقين من ذي الحجة سنة ست وثمانين-، فقال في كلام جرى: ما كنتُ في وقت من الأوقات أشدَّ تثبُّتًا في العربية واللغة مني في هذا الوقت؛ لأنِّي كلَّما طاولتها وتبحرتها احتجتُ إلى التثبُّت فيها. ثم قال: وأرى قومًا ينظرون أيامًا يسيرة، ثم يقع لهم أنهم قد بلغوا واكتفوا. قال: وقال أبو العباس: أحسنَ زهير في القول والمعنى ما شاء. وكان يتعصَّب له ويقدِّمه. فقال أبو عمر -وكان يقدِّم الحطيئةَ-: ما أدفع فضل الحطيئة. فقال: وأنا لا أدفع فضل زهير. قال: فمن أين مثل قول زهير: تَهامون نجديُّون كيدًا ونُجْعةً ... لكل أناس من وقائعهم سَجْلُ سعى بعدهمْ قومٌ لكي يدركُوهُمُ ... فلم يفعلُوا ولم يلاموا ولم يألوا قال: فمِنْ أين مثل قول الحطيئة: أولئك قومٌ إن بنوْا أحسنُوا البنا ... وإن عاهدُوا أوفَوْا وإن عَقَدوا شَدُّوا

فإن كانتِ النَّعماء فيهمْ جزَوْا بها ... وإن أَنْعَموا لا كَدَّرُوها ولا كَدُّوا قال: وقال أبو العباس: رأيتُ المأمون لما قَدِم من خُراسان، وذلك سنة أربع ومئتين، وقد خرج من باب الحديد، وهو يُريد قصر الرُّصافة، والناس صفَّان إلى المُصلَّى، وكان أبي قد حَمَلَني على يده، فلمَّا مرَّ المأمون رفعني وقال: هذا المأمون، وهذه سنة أربع. فحفظت ذلك إلى هذه الغاية، وكانت سنُّه يومئذ أربع سنين. وقال أبو عمر: قال لي أبو العباس: إنه ما قال شعرًا قطُّ إلَّا شيئًا لم يَظْهر، البيت والبيتين، وما كان يَرْضى ما يأتيه من ذلك. قال أحمد بن يحيى: دخلتُ يومًا إلى محمد بن عبد الله بن طاهر، وعنده أبو العباس محمد بن يزيد وجماعة من أشباهه وكتابه، وكان محمد بن عيسى وصفَه له، فلما قعدتُ قال لي محمد بن عبد الله: ما تقول في بيت امرئ القيس: لها مَتْنَتَان خَظَاتَا كما ... أَكَبَّ على ساعديْه النَّمِرْ قال: فقلتُ: الغريب أنه يقال: خَظَا بظا؛ إذا كان صُلْبًا مكتنزًا، ووصف فرسًا. وقوله: "كما أكبَّ على ساعديه النَّمِر" أي في صلابةِ ساعِدَيِ النَّمِر إذا اعتمد على يده. والمتْن الطريقة الممتدَّة عن يمين الصُّلْب وشِماله. وما فيه من العربية أنَّه "خظتا"، فلما تحركت التاء أعاد الألف من أجل الحركة والفتحة. قال: فأقبل بوجْهه على محمد بن يزيد، فقال له: أعز الله الأمير، أراد في "خظاتا" الإضافة، أضاف "خظاتا" إلى "كما". فقلتُ له: ما قال هذا أحد. فقال محمد بن يزيد: بل سيبويه يقوله. فقلتُ لمحمد بن عبد الله: لا والله، ما قال هذا سيبويه قط، وهذا كتابه فيحضَر. ثم أقبلتُ على محمد بن

عبد الله فقلت له: وما حاجتُنا إلى كتاب سيبويه؟ أيقال: مررت بالزيديْنِ ظريفيْ عمرو؟ فيضاف نعت الشيء إلى غيره! فقال محمد بن عبد الله بصحة طبعه: لا والله، ما يقال هذا. ونظر إلى محمد بن يزيد، فأمسك ولم يَقُلْ شيئًا، وقمت ونهض المجلس. أبو بكر بن عبد الملك: قال جحظة: أنشدني أبو العباس: فلما رأيتُ النَّسرَ عَزَّ ابن دَايةٍ ... وعشَّش في بُرْجَيْه ضاق به صدري شبَّه شبابه بابن دَايَة وهو الغُراب، وشبَّه الشيب بالنَّسر فقال: لما رأيتُ الشيب قد غلب الشباب وقَهَرَه وعشَّش في بُرْجَيْه أحزنني ذلك، وجاش له صدري. وإنما سمَّي الغراب ابن داية لأنه يأكل ما قد دَوِي من ظهور الإبل. قال أبو العباس: ويقال للطفيليين: لعامظة، وأنشد: لعامِظةٌ بين العصا ولِحَائِها ... أَرقَّاءُ أكَّالون من سقط السّفْرِ قال أبو عمر بن سعد القُطْرَبُّليّ: قال أبو العباس أحمد بن يحيى -وقد تكلم بكلام- فقلت له: إنما أردتَ كيتَ، وعنيتُ ذَيْتَ، قد فطنتُ لعُذْري، وأخذتُ بقطني؛ وذيْت صفة الشيء بعينه، وكيْت صفته بفعله. أخبرني عمّي قال: قال أحمد بن يحيى -وقد سُئِل عن قول امرئ القيس: نَطْعَنُهم سُلْكَى ومخلوجَةً ... كَرّك لأَمَينِ على نابِلِ إن اللأم السَّهم، واللَّأمان السهمان، أي نَطْعَنهم قُدُمًا، ونَطْعَنُهم يَمْنة ويسرة وشأمة، أي نحن حُذَّاقٌ بالطعن. ويقال: الأمر سُلْكَى

وليس بمخلوجة، أي الأمر مستقيم وليس بمعوجٍّ، أي فطعْنُنا في السرعة كما يَكُرُّ هذا فيرمي سَهْمًا في إثر سَهْم. ويقال: كما يُصلح هذا سهامه، فهو لا يؤخّرها بل يستعجلُ فيها. والنَّابل الذي يُعالج النَّبْل ويُصْلِحها، فهو يُقوِّمُها ويغرّيها، ويسرع في ذلك لئلا تَنْفَسد عليه؛ والطَّعْن إنما هو بالإسراع فيه. وقال أبو عمر بن سعد: كنت أسمع أحمد بن محمد بن مدبِّر يقول في كلامه: حديث ذو لِقاح. قال: فسألت أبا العباس أحمد بن يحيى عن ذلك، فقال: كما يقال: حديثٌ ذو شجون؛ وقال: الناقة اللَّقوح التي لها لَبَن، واللَّاقح: الحامل، واللِّقاح: الناقة إذا وضعت، فالمعنى: حديث ينضمُّ إلى حديث كما انضمَّ الولد إلى الأم لما صار في بطنها. وشُجُون الوادي طُرُقه وانعراجاته، فكأنَّ الإنسان يكون في حديثٍ ثمَّ يخرجُ منه إلى غيره، لأنه يتذكر به ما يشبهه ثم يعود إلى حديثه الأول، كالذي يَمْشي في الوادي، فيعرِض له الطريق، فيأخذُ فيه، ثم يؤدِّيه ذلك الطريق إلى الطريق الأول. ويقال: حيٌّ لَقاح إذا كانوا أعزَّاء لا يَدينون للملوك، ولا يُقْدر عليهم؛ كالناقة إذا حملتْ لم يقدر الفحل أن يَدْنُو منها. قال أبو بكر: قال لي عمي: قال أبو العباس: الفرزدق وجرير أشعر من ذي الرُّمَّة، وذو الرُّمَّة أشعر من كُثيِّر، وكُثيِّر أشعر من جَمِيل. أبو عمر بن سعد: قال أبو العباس ثعلب: صحبتُ أحمد بن سعيد بن سَلْم -وكان ظريفًا يُشبِه النَّاس- في سنة ثلاث وعشرين ومئتين، وفارقته في سنة خمس وعشرين ومئتين، وصحبتُ العبَّاسَ بُوكردان إلى سنة ثلاث وأربعين ومئتين، وصحبتُ محمد بن عبد الله بن طاهر في هذه السنة، أول يوم من المحرم، وصحبتُه ثلاث عشرة سنة، إلى أن تُوُفِّيَ رحمه الله. أبو بكر قال: وحدثني عمي قال: سمعت أحمد بن يحيى يقول: في سنة تسع ومئتين طلبتُ اللغة والعربيةَ، وفي سنة ست عشرة ومئتين؛ ابتدأت النظر في حدود الفرَّاء وسنِّي ثمان عشرة سنة، وبلغتُ خمسًا وعشرين سنة وما بقي عليَّ مسألةٌ للفرَّاء إلَّا وأنا أحفظُها وأحفظ موضعها من الكتاب، ولم يبق شيءٌ من كتب الفراء في هذا الوقت إلا وقد حفظته.

قال: وسمعتُ أحمد بن يحيى ثعلبًا يحدِّث أبا عمر بن سعد القُطْربلي -وكان يغشاهم كثيرًا- قال: أقعدني محمد بن عبد الله بن طاهر مع ابنه طاهر، وأفرد لي دارًا في داره، وأقام لنا وَظيفة، وكنتُ أقعد معه إلى أربع ساعات من النهار، ثم أنصرفُ إذا أراد الغَدَاء، فنُمِي ذلك إليه، فوجَّه فكسا البَهْو والأَرْوِقَة والمجالس الخيْشَ، وأضعف ما كان يُعِدُّ من الألوان والثَّلْج والفاكهة والخِوان، فلمَّا حضر وقت الانصراف انصرفتُ، فنُمِي ذلك إليه، فقال للخادم المُوكَّل بطاهر: نُمِيَ إليَّ انصرافُ أحمد بن يحيى في وقت الطعام والقائلة، فظننت أنه استقلَّ ما كان يحضُرُ، وأنه لم يَسْتَطِبِ الموضع، فأضْعَفْنا ما يُقام، وزِدْنا في الخيشِ، ثم نُمِي إليَّ أنه قد انصرف بعد ذلك! فتقول له عن نفسك: بيتُك أبْرَد من بيتنا! أو طعامك أنظف من طعامنا! وتقول له عني: انصرافُك إلى منزلك في وقت الغَدَاء هُجْنَة علينا. فلمَّا عرَّفني الخادم بذلك أقمتُ، فكنتُ على هذا الحال ثلاثَ عشرة سنة، وكان يتغدَّى معنا مَن يحضر من خاصَّته مثل ابن عَوْن وغيره؛ وكان يُقيم لي مع ذلك سبع وظائف من الخبز الخُشْكار، ووظيفة من الخبز السَّميذ، وسبعة أرطال من اللحم؛ وعَلوفة رَأس، وأجْرَى لي في الشهر ألفَ درهم، فكان يتفقد مَن يُجْرَى عليه القوتُ من الخبز واللحم، حتى يصلَ ذلك إليه في وقته ولا يتأخَّر عنه. ولقد جاءت سنة الفتنة، وغلُظ الأمر في الدَّقيق واللَّحم، فكتب إليه كاتبُه على المطبخ يعرِّفه غليظَ ما هو فيه، وعظم ما يُعانيه من المؤونة، ويسأل أن يأمر بإحضار الجريدة التي فيها ثَبَت مَن يُجْرَى عليه الدقيق واللحم، ليقتصر على مَن لا بدَّ منه؛ إذ كانت الجريدة

تشتمل على خَلْق كثير لا يلزمه أمرهم، ولا سيما في مثل هذه الحال وهذا الوقت. قال: فوقَّع إليه: أنفِذْها إلينا. فأنفذها فكانت مشتملة على ثلاثة آلاف وستمئة إنسان. فرأيتُ محمدًا قد زاد فيها بخطه، ثم وقَّع عليها: لستُ أقطعُ عن أحدٍ ما عوَّدتُه، ولا سيَّما مَن قال: أطعِمْني الخبزَ. فأجْرِ الأمرَ على ما في الجريدة، واصبر على هذه المؤونة، فإمَّا عِشنا جميعًا، أو مِتنَا معًا. قال: وقال أبو العباس: زهيرٌ أشعر شعراء الجاهلية، والحُطَيئة بعده، وجرير أشعر شعراء الإسلام، وبعده المرَّار الأسدي، وجرير في صدر الإسلام كزهير في صدر الجاهلية. وقال أبو العباس: أنشدنا أبو عبد الله بن الأعرابيِّ: ومؤلَّق أَنضجتُ كَيَّةَ رَأْسِه ... فتركتُه ذِفرًا كريح الجورب مُتَرَبِّبًا كلبًا فقام يعَضُّه ... يا لَلرِّجال لكلبه المتربِّب كالثور يُضرب أن تَعاف نعاجُه ... وجب العيافُ، ضَربْتَ أو لم يضرِب الذَّفر، يقال للطِّيب والنتن، ومنه مسك أذفر. والأوْلق الجنون؛ أي تركته لا يُلتفت إليه. وكنتُ في فعلي به وإكرامي إياه كالذي ربَّى كلْبًا، فلما كبر عضَّه، فعجب الناس من ذلك. ثم قال: "كالثور" أي وكان في وضعه الأمر في غير موضعه كالثور الذي يوضع ضربُه في غير موضعه؛ لأنه إذا وردَتِ البقرُ فعافتِ الماءَ ولم تَرِدْه، ضُرِب حتى يَرِد، فتتبعه البقر؛ والنعجة البقرة. وقال أبو بكر محمد بن يحيى الصوليُّ: مات أحمد بن يحيى ثعلب يومَ السبت لعشْر خَلَوْن من جُمَادى الأولى سنة إحدى وتسعين ومئتين؛ ودفن في مقابر باب الشام، وأوصى إلى عليِّ بن محمد الكوفيِّ مِن تلاميذه، وتقدَّم إليه في دفْع كتبه إلى أبي بكر أحمد بن إسحاق بن سعد القطربلي،

فقال إبراهيم الزَّجاج للقاسم بن عبد الله: هذه كتب جليلة، فلا تفوتنَّك. فتقدم القاسم إلى عليِّ بن عبيد الله رأس البَغْل أن يقوِّم الكتب ويأخذها له، فأحضر خيران الورَّاق فقوَّم ما يساوي عشرة دنانير بثلاثة دنانير، فبلغت أقل من ثلاثمئة دينار. فلما رأيتُ بعد ذلك -وقد أحضرنا لشراء كتب يبيعها ولد القاسم- ديوان مسائل الأخفش، وعليه بخط خيران أربعة دنانير، وعليه خطُّ أحمد بن يحيى: "كتبتُ إلى أبي حاتم السجستانيِّ أن ينسخ لي مسائل الأخفش كلها في النحو، فوجَّه إليَّ بهذه النسخة، وأعلمني أنه لم يَبْقَ له مسألة إلا وهي في هذا الكتاب" فبلغت الأجزاء، فأخذها بعض ولد القاسم، ولم يمكِّنَّا من شرائها. قال محمد بن أبان بن سيِّد: وهي بخط ذي الرّمة ورّاق أبي حاتم. وقد رأيت هذه النُّسخة بين يدي أمير المؤمنين المستنصر بالله قبل ولايته، أتته من العراق. قال أبو بكر محمد بن أبي الأزهر -واسمه يزيد-: توفي أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب ليلةَ السبت لثلاث عشرة ليلةً خلت من جُمادى الأولى، وكان دفنه صبيحة يوم السبت في حجرةٍ اشتريت له، وكان خلَّف أحدًا وعشرين ألف درهم وألفي دينار، ودكاكين بباب الشام قيمتها ثلاثة آلاف دينار، فرُدَّ مالُه على ابنة ابنته. وقال الأوارجيُّ الكاتب: حدثني العَجْوَزِيّ قال: قال ثعلب: ولدتُ سنةَ مئتين. وتوفي سنة إحدى وتسعين ومئتين، وفيها توفي أبو الحسين القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب وليُّ المدينة، وأبو العباس أحمد بن محمد بن الفرات.

الطبقة السادسة

الطبقة السادسة أصحاب ثعلب 75 - هارون بن الحائك هو هارون بن الحائك، وكان ضريرًا. قال هارون بن عبد العزيز الأوارجي الكاتب: حضر وليُّ الدولة أبو الحسين القاسم بن عبيد الله، ومحمد بن الحسين، وأبو الأسود الدِّينَوَرِيّ مجلسَ ثعلب، وكان في المجلس رجل مأفون، فاستحضروه وقالوا له: سل الشيخ عن قول الشاعر: ألا يا ديْرَ درمالينْ ... سبيْت النَّفر الباسين فإنَّ له معنى دقيقًا، فقام إلى أبي العباس فقال له: يا أبا العباس، مسألة. فقال: هاتها. قال: ما تقولُ في قول الشاعر: ... ؟ وأنشده البيت، فأعرَض عنه، فأمَره بمعاودته مرَّة أخرى، ففعل ذلك ثلاثَ مرات. ورآهم ثعلب يَضْحكون به، فغَضِب وطردهم من مجلسه، واستخفَّ بهم، وانصرفوا إلى عبيد الله بن سليمان وهو حينئذ منكوب، فأخبروه بما جَرى من الاستخفاف، فأقلقه، واعتقد لأبي العباس ثعلب سوءًا، فلما وَلِيَ الوزارة وجَّه إليه في الاختلاف إلى ولدِه، فأبى، فقال: تُنْفِذُ إليَّ بعضَ أصحابك. فوجَّه إليه بهارون بن الحائك الضَّرير، وكان يُوزَن بميزانِ ثعلبٍ في النحو، واستحضر عبيدُ الله بن سليمان الزَّجاجَ وقال لهما: أريدُ أن أَصطفيَ أفضلَكما في العلم، فتساءلا. فقال الزجاج لهارون: كيف تقولُ: "ضربتُ زيدًا ضربًا"؟ فقال: "ضربتُ زيدًا ضربًا". فقال: كيف تُكنِّي عن زيدٍ وعن الضرب! فأَقْحَمَه ولم يُجِبه وحار في يده، وانقطع انقطاعًا قبيحًا، فوجد عبيدُ الله بغيته، ونال محبَّتَه

76 - أبو موسى الحامض

في ثعلب، وصَرف هارون، واحتبس الزجاج مكايدةً لثعلب، حتى بلَّغه أفضلَ مبالغ النحويين. وجواب هذه المسألة: ضربتُه إيَّاه. وهذا من أول النحو؛ وما كان هارونُ لِيذهبَ عليه ذلك؛ ولكنْ إذا أرادَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- أمرًا فلا بدَّ له؛ وكان سبب مَنِيَّتِه ما جرى له في هذا المجلس. قال: وحضر هارون بن الحائك الضرير يومًا من أيام الجمعة في الجامع الغربيِّ بمدينة السلام، فأتاه ضريرٌ بصريٌّ يسألُه عن مسألةٍ، فأجابه هارون فيها على مذهب أهل الكوفة، فقال له البصريُّ: أخطأتَ. فضربه بعُكَّازِه فأدماه، فاستغاث الضريرُ البصريُّ بالسلطان، فأتاه بشُرطِيٍّ فقبض عليه، وصار به إلى مجلس المُجاشعيِّ صاحب الشرطة، وكان قد استخلف على الشرطة رجلًا من العجم، فقال له: ما تقول؟ فقال: كنتُ جالسًا أُفتِي الناس في علوم القراءات والنحو واللغة، فأتاني ضريرٌ سيِّئُ الأدب، فسألني عن مسألةٍ فأجبتُه عنها، فتجهَّم لي الجوابَ بالتخطئة، فأدَّبتُه مُجازاةً له على سُوءِ فعله. فبينا أنا على حالتي إذْ أتاني آتٍ فقال: السلطان يَدْعوك. فقال له العجميُّ: أنت يابن الزانية ضربتَني مرَّةً! ودعا له بالدّرّة فضربه بها ثلاثين، وحَبَسَه؛ فلما وقف المجاشعيُّ على خبرِه أطلقه، وأنكر على العجميِّ ما كان منه. 76 - أبو موسى الحامض هو أبو موسى محمد بن سليمان. وكان بارعًا في اللغة والنحو على مذهب الكوفيين، وكان في اللغة أبرعَ، وكان ضَيِّق الصَّدر سيِّئَ الخلق. قال أبو عليٍّ إسماعيلُ بن القاسم البغداذيُّ: حدثني بعضُ أصحابنا قال: لمَّا توفي أبو العباس أحمد بن يحيى تقدَّم أبو موسى الحامض ليصلِّيَ عليه، فجذَبه ابنُ الحائك، وقال: أنت رجلٌ شَرِس، ومثلُك لا يصلح أن يُصلِّيَ على أبي العباس.

77 - المعبدي

وتوفي ليلةَ الخميس لسبع بقين من ذي الحجة سنة خمس وثلاثمئة، ودفن بمقبرة باب التِّبْن، وأوصى بدفاتره لابن فاتك المعتضِديِّ ضنًّا بها أن تصير إلى أحد. 77 - المعبديّ هو أحمد بن عبد الله المعبديّ، وهو من ولد مَعْبد بن العباس بن عبد المطلب، وكان بارعًا. 78 - ابن كيسان هو أبو الحسن محمد بن أحمد بن كيْسان، وكان بصريًّا كوفيًّا، يحفظ القولَينِ، ويَعرفُ المذهبين. وكان أخَذَ عن ثعلب والمبرد، وكان ميلُه إلى مذهب البصريين أكثر. قال أبو علي: وحدثني أبو بكر مَبْرَمان قال: قصدتُ ابنَ كيسان لأقرأ عليه كتاب سيبويه، فامتنع وقال: اذهبْ إلى أهلِه. يُشِير بذلك إلى الزَّجَّاج. وكان أبو بكر بن الأنباريِّ شديدَ التَّعصُّب على ابن كيسان والتَّنقُّصِ له، وكان يقول: خلط فلم يَضبِطْ مذهبَ الكوفيين، ولا مذهب البصريين. وكان يُفضِّل الزَّجَّاج عليه. قال أبو علي: وسمعتُ أبا بكر بن مجاهد يقول: كان أبو الحسن بن كيسان أَنْحَى من الشَّيْخَينِ. يعني ثعلبًا والمبرّد. وتوفي أبو الحسن يوم الجمعة لثمانٍ خلوْن من ذي القعدة سنة تسع وتسعين ومئتين. 79 - أبو بكر بن الأنباري هو أبو بكر محمد بن القاسم بن محمد بن بشار بن الحسن الأنباري. قال أبو علي: وكان يحفظ -فيما ذُكِر- ثلاثمئة ألف بيت شاهد في القرآن، وله أوضاع

80 - نفطويه

شتَّى كثيرة، وكان ثقةً دَيِّنًا صدوقًا، وكان أحفظَ مَن تقدَّم من الكوفيين. قال أبو بكر بن عبد الملك: وكان أبو بكر بن الأنباريّ شحيحًا، وكذلك أبو عبد الله نِفْطَويه؛ إلَّا أنه كان يُباشر الناسَ ويحضُر مجالسهم، وكان ابنُ الأنباريِّ لا يفعل ذلك، ويأكلُ في كلِّ يومٍ طَبَاهِجَةً تُصْلَحُ له بلحم أحمر ومُرِّيٍّ، وما أكل له أحدٌ شيئًا قطُّ، وكان في يَسارٍ وحال واسعةٍ، وكان لِنفطويه جَوارٍ منهنَّ قارئةُ الألحانِ، وكانت له بنتٌ، ولم يكن على ابنِ الأنباريِّ عِيال. ووقف على ابن الأنباري يومًا في المسجد الجامع بالمدينة مدينة المنصور أبو يوسف الأقساميُّ فقال له: يا أبا بكر، قد أجمع سبعةُ فراسخَ ناس على شيء -يعني أهل بغداد-، فأَعطِني درهمًا حتى أخرِقَ الإجماعَ. فقال: وما هذا الإجماعُ يا أبا يوسف؟ قال: أجمع أهلُ هذا البلد عن آخرهم على أنك بخيل. فضحِك ولم يُعطِه شيئًا. وتوفي في سنة سبع وعشرين وثلاثمئة. وفي بعض النسخ: توفي ببغداد سنة ثمان وعشرين وثلاثمئة يوم الأضحى. 80 - نفطويه هو أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عَرفة بن سليمان بن المغيرة بن حبيب بن المهلّب بن أبي صُفرة العَتَكِيّ الأزديّ المعروف بنفطويه. وكان أديبًا مُتفنِّنًا في الأدب، حافظًا لنقائض جرير والفرزدق وشعر ذي الرُّمَّة وغيرهم من الشعراء. وكان يَرْوي الحديثَ، وكان ضعيفًا في النحو، وكان يخضِب رأسه ولحيته إلى أن مات. وتوفي ببغداد سنة ثلاث وعشرين وثلاثمئة يوم الأربعاء لخمس خلون من صفر.

اللغويون البصريون

اللُّغويُّون البصريُّون

الطبقة الأولى

الطبقة الأولى من اللغويين البصريين 81 - المنتجع الأعرابي هو من بني نَبْهان من طيِّئٍ. قال الأصمعي: وسألتُ المنتجِعَ عن السَّمَيْدَعِ، فقال: هو السَّيِّدُ المُوطَّأُ الأكْنَاف. 82 - أبو مهدية الأعرابي وكان به عارضٌ من مَسٍّ. وقال أبو عبيدة: كان أبو مهدية يعلِّق عليه صوفًا وقَذَرًا، فنقول له: ما تريد إلى تعليق هذا عليك؟ فيقول: أنجاس، حتى يتنجَّس مني الموت فلا يقدِرُ عليَّ. وكذلك كانت ضَعَفَةُ الأعراب تفعل. وهو معنى قول امرئ القيس: لِيَجْعَل في كفِّهِ كَعْبَها ... حِذَارَ المنِيَّةِ أن يَعْطبا يعني أنه كان يعلِّق عظام الأرنب خوف المنيَّة. وذكر ابن سلَّامٍ أن أبا المهديَّة هذا من باهلة، وكان يضرب حنكيه يمينًا وشمالًا ويقول: اخسأنانِّ عنِّي. فسُئِل عن ذلك، فيقول: جنانٌ تَذْأمُنِي، أي تركبني. 83 - أبو مالكٍ الأعرابيُّ هو أبو مالك عمرو بن بكر الأعرابي، له كتاب في خَلْق الإنسان.

الطبقة الثانية

الطبقة الثانية 84 - أبو عمرو بن العلاء المازني كان أعلمَ باللغة وعلم القرآن والنحو في زمانه، وكان وَرِعًا، وكان يقول: كنتُ رأسًا والحسن بن أبي الحسن حيٌّ. وقد تقدَّم ذكرُه. 85 - هشام بن القاسم أبو مروان بن عبد الملك الفخَّار قال: حدَّثنا أبو حاتم، حدثنا الأصمعي قال: أدركتُ مَن أرضى وفوق الرِّضا: هشام بن القاسم، مولى بني غُبَر. وكان عالمًا بالشعر. 86 - سماك بن حرب بن أبي سعيد قال حماد الكاتب: كنا نأتي سِماك بن حرْب نسألُه عن الشِّعر، ويأتي أصحابُ الحديث؛ فيقبل علينا، ويدَعُهم، ويقول: هؤلاء ثقلاء. 87 - عيسى بن عمر قد مر ذكره.

الطبقة الثالثة

الطبقة الثالثة 88 - عباد بن كسيب ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 89 - خلف الأحمر هو خلف بن حيَّان الأحمر، مولى أبي بُردة بن أبي موسى الأشعريِّ؛ يُكنَى أبا مُحرِزٍ، وكان من أعلم الناس بالشعر وأقدرِهم على قافية. وحدَّثنا أبو عليٍّ قال: خَرج خلفٌ الأحمر يومًا على أصحابه، فأنشدهم قول النَّمِر بن تَوْلَب: أَلَمَّ بصحبتي وهمُ هُجُوعٌ ... خيالٌ طارِقٌ من أمِّ حِصْنِ وقال: لو كان مكان "مِن أُمِّ حِصْن": "مِن أُمِّ حَفْص"، كيف كان يكون قولُه بعده: لها ما تشتهي عَسَلٌ مُصفًّى ... وإن شاءَتْ فحوارَى بسمْنِ فقالوا: لا ندري. فقال: * وإن شاءَتْ فحوارَى بلَمْصِ *

واللَّمْص: الفالوذَج. ثم أنشدهم قول النابغة الجَعْدي في صفة الفرس: كأَن مقطّ شراسِيفهِ ... إلى طرف القُنْبِ فالمَنْقَبِ فقال: لو كان مكان "فالمَنْقَب": "فالقَهْبَلِس" كيف يكون ما بعده: لُطمْنَ بتُرْسٍ شديد الصِّفا ... ق من خشب الجَوْز لم يُثْقَبِ فقالوا: لا ندري. فقال: * من خشب الجَوْز والآبُنُسِ * والقهبلس الذَّكَر. وحكى ابن سلام في طبقات الشعراء قال: كنا إذا سمعنا الشعر من أبي مُحرِزٍ لا نبالي أن نسمعه من قائله. قال أبو علي: وكان يقول القصائد الغُرَّ، ويُدخلها في دواوين الشعراء، فيقال: إنَّ القصيدة المنسوبة إلى الشَّنْفَرى التي أَوَّلُها: أَقيمُوا بني أُمِّي صُدورَ رماحِكم ... فإنِّي إلى أَهلٍ سِوَاكُمْ لَأَمْيَلُ هي له. قال أبو علي: وكنتُ أنا كثيرَ التَّعطُّف للأصمعيِّ، فكنت أسأل أبا بكر بن دُرَيْدٍ كثيرًا عن خَلَفٍ والأصمعيِّ أيّهما أعلم؟ فيقولُ لي: خَلَفٌ،

فلما أكثرتُ عليه، انتهرني وقال: أَيْنَ الثِّمادُ من البحور! وقال الرّياشيّ: سمعتُ الأخفشَ يقول: لم نُدرِكْ هاهنا أحدًا أعلمَ بالشعر من خَلَفٍ والأصمعيِّ. قلتُ: أيّهما كان أعلمَ؟ قال: الأصمعي. قلتُ: لِمَ؟ قال: لأنه كان أعلمَ بالنحو. وقال أبو حاتم: قال الأصمعي: كأنما جُعِل عِلمُ لغة ابنيْ نِزارٍ ومَن كان مِن بني قَحْطان على لغة ابنيْ نزار بين جوانح خَلَفٍ الأحمر بمعانيها. وقال الأصمعيُّ: قال خَلَفٌ: كنتُ أرى أن ليس في الدنيا رُقْيَة أطول من رُقْيَة الحيَّةِ، فإذا رُقية الخُبْزِ أطولُ. يعني ما يتكلَّف الشعراء والخطباء. وقال أبو حاتم: قال الأصمعي: قال خلف: إذا كان الحديث موضوعًا كان على ما يَشْتَهِي الناس، فإذا كان حقًّا كان على ما يشتهون وما يكرهون. قال أبو حاتم: كان من العلماء بالشعر بالبصرة: أبو عمرو بن العلاء، وخلف الأحمر، والأصمعي، وأبو عبيدة، وخلق كثيرٌ رواةٌ مثل أبي خالد النميري، وأبي البيداء. وكان خلف شاعرًا، وكان وَضَع على عبد القيس شعرًا مصنوعًا؛ عبثًا منه، ثم تَقرَّأ فرجع عن ذلك وبيَّنه. وقال أبو حاتم: سمعتُ الأصمعيَّ يقول: سمعت خلفًا الأحمر يقول: أنا وضعتُ على النَّابِغة هذه القصيدة التي يقول فيها: خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ ... تحت القَتام وأُخرى تَعْلُك اللُّجُمَا قال أبو حاتم: وحدثني الأصمعي، عن خلفٍ الأحمرِ قال: قال رجلٌ

من أصحاب الحديث من أهل الكوفة: ما أَفْصِلُ بين أبي ذؤيْب وأبي دُوَاد وأبي زُبَيْد. وكان يُنشِد، فيُقال: لِمَن؟ فيقول: لأحد الثلاثة. قال: وقال خَلَف: وأنا لا أَفصِل بين أبي الدَّرْداء وأبي ذَرٍّ وأبي هُرَيرة. حدثنا الرّياشيّ، حدثنا محمد بن سلَّام قال: سأل كَيْسانُ خَلَفًا -وكان به صَمَم- فقال: يا أبا مُحرِز، عَلْقَمَةُ بنُ عَبَدة جاهليٌّ أو مِن بني ضبَّة؟ فقال: يا مجنون، صحِّح المسألة يُصحَّح لك الجواب. ابن الغازي: حدثنا عيسى بن إسماعيل قال: سمعتُ الأصمعيَّ -وذكر خلفًا الأحمر أبا مُحرِز- فقال: ذهبتْ بشاشةُ الشعر بعد خلف الأحمر. فقيل له: كيف وأنت حَيٌّ؟ فقال: إنَّ خلفًا كان يُحسِن جميعَه، وما أُحسِن منه إلَّا الحواشي. وقال الصُّولِي: حدثني أحمد بن محمد الأموي قال: حدثنا الرِّياشيُّ، حدثنا أبو حاتم، حدثنا محمد بن عبد الوهاب الثقفي قال: دخلتُ على خلف الأحمر أعوده في مرضه الذي توفي منه، وجئته معي بطبيب، فقال لي: مرحبًا بك، لقد كنتُ مشتاقًا إليك. فوصفتُ له الطبيبَ الذي جئتُ به وحِذْقَه، فلم يلتفِت إليه، وقال: {قُل لن يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لنا هُو مَوْلَانَا}. قال محمد: وكان قد حدثتْ فيه عِبَادةٌ في آخر أيامه، حتى لم تكن له سيئة. ورثاه الحسن فقال: لو أنَّ حيًّا وائِلٌ من التَّلَف ... لوأَلتْ شَغْواءُ في رأس شعَفْ أم فُرَيْخٍ أحرَزتْه في لَجَفْ ... مُزَغَّبُ الألغَادِ لم يأكُلْ بِكَف

90 - أبو زيد الأنصاري

كأنَّه مُنتَقَدٌ من الخَزَفْ ... أَوْدَى جميعُ العلم مُذْ أَوْدَى خَلَف مَن لا يُعَدُّ العلمُ إلَّا ما عَرَفْ ... قَلَيْذَمٌ من العَيالِم الخُسُفْ كُنَّا إذا نَشَاءُ منه نَغتَرِفْ ... رِوايةً لا تُجتنَى مِنَ الصُّحُفْ 90 - أبو زيد الأنصاري هو أبو زيدٍ سعيدُ بن أوْس بن ثابت بن العَتيك بن حرام بن محمود بن رِفاعة بن بشر بن الضيف بن الأحمر بن القَيْطوم بن عامر بن ثعلبة بن حارثة الأنصاري. قال ابن الكلبي: أبو زيد صاحب العربية بالبصرة، وهو عمرو بن عزْرة بن عمرو بن أخطب بن محمود بن رفاعة بن بشر بن عبد الله بن الضيف بن الأحمر بن القَيْطوم بن عامر بن ثعلبة بن حارثة بن عمرو بن امرئ القيس بن عمرو بن الحارث بن عامر بن ماء السماء؛ دخلوا في الأنصار. وأجمع الرواةُ أن أبا زيد سعيد بن أوْس بن ثابت، فإما أن يكونَ غَلَطًا، أو هو غير سعيد بن أوس. وقد نسبه غير ابن الكلبي النسبَ الذي تقدم، والله أعلم. قال مروان بن عبد الملك: سمعت أبا داود يقول: أبو زيد الأنصاري كان يرى القَدَر. قال: سمعت أبا حاتم يقول: كان العباس بن الفرج يقول: سمعت الأخفش يقول: أبو زيد أعلم من أبي عمرو. قال: وسمعت أبا حاتم يقول: كان أبو زيد يتَّسع في اللغات، وكان يَعيبُ على يونس اتساعَه في اللغات. قال أبو حاتم: وكُلُّ ما اتسع في اللغات فهو شَرٌّ. قال أبو علي: وكان أنحى من أبي عبيدة والأصمعي، وأغزرَ في اللغات منهما، وله كتب كثيرة، ونوادر في اللغة مشهورة.

قال ابن الغازي: أبو زيد كثير الرواية عن الأعراب، كثير النقل. ويقال: إن بعض أعراب مُضَر مثل عُقَيل وقُشَير نزلوا البصرة من محلٍّ أصابهم، فتعلم عندهم أبو زيد. حدثنا ابن أبي سعد قال: حدثني المازني قال: سمعت أبا زيد يقول للحسن: يا أبا سعيد، أيُدالِكُ الرجلُ امرأتَه؟ فقال: لا بأس إذا كان مُفْلَجًا. والمُفْلَج: المُفلِسُ. والمُدالكة: المماطلة. وتوفي أبو زيد سنة خمس عشرة ومئتين، وله أربع وتسعون سنة.

الطبقة الرابعة

الطبقة الرابعة 91 - الأصمعي هو عبد الملك بن قُرَيب بن علي بن أَصْمَع بن أَعْيَا بن سعد بن عبْد بن غَنْم بن قُتَيبة بن مَعْن بن سعد مَناة الباهليّ. قال: قال أبو عبد الملك مروان بن عبد الملك: قال أبو حاتم: الأصمعيُّ عبدُ الملك بنُ قُرَيب بن عبد الملك بن علي بن أصمع بن مُطَهَّر بن رَبَاح بن عبد شمس بن أَعْيَا بن سعد بن تميم بن قتيبة بن مَعْن بن خالد بن أَعْصُر بن سعد بن قيس بن عَيْلان. وأصيب الأصمع بالأهواز، وكان قد أدرك النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، وكان أبو مُطَهَّر مُسْلمًا؛ دُفِنَ بكاظِمَةَ، قرب البحر طريق اليمامة. قال أبو عبد الملك: قال أبو حاتم: سمعت الأصمعي يقول: ما ركب الرجلَ الدَّيْنُ إلا ذهب من عقله ما لا يرجع إليه أبدًا. قال مروان: وسمعت عيسى بن إسماعيل أبا موسى يقول: إن كان الرجل ليقرأ على الأصمعي، فلا يُغيِّر عليه، فأقول له: مالك لا تُغيِّر عليه؟! فقال: لو علمتُ أنه يُفلِح غيَّرتُ عليه. قال: وقال أبو حاتم: قال الأصمعي: سألني شُعْبَةُ عن التراب الوَذِمَة، فقلت: صحفتَ أو صُحِّفَ لك، إنما هو الوِذَام الترِبة، وهي بعض ما يكون في بطن الشاة، يسقط إلى الأرض، فيُترَّبُ فينفضُه القصَّاب. قال: وسمعت يحيى يقول: قد رَوَى مالك بن أنس عن شيخ يقال له: "عبد الملك بن قُرَيب"، ولكن في كتاب مالك: "عن عبد الملك بن قُرَير"، وهو خطأ، إنما هو الأصمعي. قال: وسمعت عيسى بن إسماعيل يقول: سمعت الأصمعي يقول: أنا ثالث

الإسلام، ما رأيتُ أحدًا ردَّ كُفْئًا إلَّا نزلتْ به بلية ظاهرة، أو خِزيٌ يَسُوؤه. قال: وأخبرني الرياشيُّ عن الأصمعي قال: لم تَنْصُلْ لحيتي حتى بلغت ستين سنة، ولم تنصل لحية ابن الزبير حتى بلغ ستين سنة. قال: وسمعتُه يقول: ربَّ رجلٍ قد أدخله الله جنات النعيم، لا يَدْري من هذا شيئًا. قال: وقال أبو حاتم: قال الأصمعي: حدثنا كردين -واسمه مِسْمَع- قال: قيل لأعرابي: كيف وُضوؤك؟ قال: أتوضأ وأُسبِغ، ولا تَقْطر على الأرض قَطْرة. قال: وقال أبو حاتم: حدثني الأصمعي قال: قال رجل لابنه: يا بني، لا تشترِ دابَّةً؛ فإنك تنام وهي تعمل فيما يسوؤك، ولكن اشترِ أرضًا؛ فإنك تنام وهي تعمل فيما يسرُّك. قال: وقال أبو حاتم: قال الأصمعي: أنا لم أر أحدًا بعد أبي عمرو أعلمَ مني. قال أبو حاتم: قال الأصمعي: وكان كثيرًا ما يقول لي: يا بُنيَّ، إن طَفِئتْ شمعةُ عيني -وربما قال: شحمةُ عينِ عمِّك- لم ترَ مِثْلي. وربما قال: لم تر أحدًا يشفيك من هذا الحرف أو من هذا البيت. قال: وسمعتُ عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي يقول: سمعت عمي يقول: أحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة. وسمعت عمي يقول: أرسل إليَّ هارونُ -يعني الخليفةَ- فدخلتُ عليه، فإذا هو على كرسيٍّ جالسٌ والفضلُ بنُ الربيع على كرسيٍّ، وإذا بِنِطْعٍ مبسوطٍ عليه رجل مقتول، قال: فجلستُ. قال: فقال لي الفضل بن الربيع: يا عبد الملك، هذا جعفر قد أخزاه الله. قال: فسكتُّ. قال:

فقال هارون: قم. فقمتُ. وسمعت عمي يقول: سمعت هارون يقول: ما رأيتُ أَوْفَى مِن الأصمعي بعدُ، ما ذكرتُ جعفرًا لأحدٍ إلَّا دعا عليه أو شتمه، إلَّا الأصمعيَّ. قال أبو عبد الملك: قال العباس بن الفرج: سمعت عمرو بن مرزوق قال: رأيت سيبويه والأصمعي يتناظران، قال: يقول يونس: الحق مع سيبويه، وقد غلب ذا -يعني الأصمعي- بلسانِه. قال: وقال أبو حاتم: حدثنا الأصمعي قال: بلغني عن أعرابي قال: الصمت صيانة للسان وسِتْر للعيّ. قال: وقال أبو حاتم: أخبرنا الأصمعي قال: قيل لأعرابي: ألا أقلّ من الرجاء؟ قال: بلى، اليأسُ المريح أقلُّ منه. قال: وقال أبو حاتم: حدثنا الأصمعي قال: قال رجل لابنه: إنَّ الغالبَ بالشَّرِّ لمغلوبٌ. قال: وقيل لأعرابي: ما العيشُ؟ قال: الأمن والصحة، فإن كان مع ذلك سِداد من عيش فذلك. وكان الأصمعي مِن أَرْوَى الناس للرجز، فزعموا أنه حفظ أربعة عشر ألف أرجوزة، فقيل له: أفيها شيء هو بيت أو بيتان؟ فقال: فيها المئة والمئتان. وكان من أوثق الناس في اللغة، وأسرع الناس جوابًا، وأحضر الناس ذِهنًا. وزعموا أن الرشيد في بعض أسفاره رأى نارًا بالليل من بعيد، فقال للأصمعي والكسائي واليزيدي: أنشدوني في هذه النار. فأنشد الأصمعي عدة أبيات، ولم يذكر اليزيدي والكسائي في الوقت شيئًا، فلما فرغ الأصمعي من إنشاده قالا للرشيد: والله يا أمير المؤمنين ما أنشدك شيئًا إلا وقد عرفناه، ولكنه أحضرُ ذِهنًا مِنَّا. حدثنا قاسم بن أصبغ، حدثنا أحمد بن زهير قال: حدثنا محمد بن

عبد الله بن نُمَير، حدثني إبراهيم بن إسماعيل بن بشر بن سليمان قال: سمعت الأصمعيَّ يقول: سمعتُ مِن سفيانَ الثَّوريِّ ثلاثين ألف حديث. مروان قال: حدثنا أبو حاتم قال: حدثنا الأصمعي قال: قال لي عبدُ العزيز بن أبي سلمة: غضبتُ على نفسي. قلتُ: لم؟ قال: حين لم أعرفك أول ما رأيتُك. قال مروان: سمعتُ العباس بن الفرج الرياشي يقول: كان الأصمعيُّ لا يجيء عبثُه مع ذكر الإسلام، ولكن مع هذه الأحاديث، فكان إذا ذكر أصحاب الأهواء يحوط الإسلام. قال: وكان الأصمعي قليل الحديث بهذه الملاحاة التي فيها الشعر. أبو الحسن المهراني قال: قدمتُ البصرةَ في شعبان سنة إحدى وثمانين ومئتين، فجمعني وأبا اللعيناء مجلس عند رجل من عدول البصرة، فحدَّث أبو العيناء -وكان أديبًا ظريفًا شاعرًا- بحديثٍ من أحاديث البرامكة ذهب عنِّي، وكان المجلس غاصًّا بمن فيه، فلم يُجِبْه أحدٌ ممن كان حاضرًا عن حديثه، فقلتُ أنا: حدثني يزيد بن محمد المهلبي، حدثني عبد الصمد بن المعذّل قال: حدثني الأصمعي قال: قال لي يحيى بن خالد البرمكي: يا أبا سعيد، ألك ولد؟ قلتُ: نعم، أعز الله الأمير. قال: لحرائرَ أم لأمهاتِ أولادٍ؟ قلتُ: لأمهات أولاد. قال: ما أثمانهن؟ قال: قلتُ: ما بين الأربعين إلى الثلاثين. قال: ليس هؤلاء ولد، هؤلاء عبيد، هل لك في جاريةٍ نهبُها لك، فتطلب منها الولد؟ قلتُ: نعم، أعز الله الأمير. قال: قولوا لفلانة تخرج. قال: فطلع القمر يمشي، فقال: يا هذه، إنَّا قد وهبناك لأبي سعيد. فأرسلت

عينها، فرقَّ لها، فقلتُ في نفسي: إما أن تفوتني، وإما أن أفجعه بها. فقال لي: يا أبا سعيد، هل لك في الفداء! قلتُ: نعم، أعز الله الأمير. فقال: هاتوا ألف دينار. قال: فجيء بالمال، فقال لخادم له: احمله مع أبي سعيد. فخرج معي الخادمُ بالمال، فلما صرنا في الدِّهليز قال لي الخادم: يا أبا سعيد، أظننتَ أنَّ الأمير يهب لك الجارية؟ قلت: نعم. قال: إنما أراد أن يفزِّعها بك. الخُشَنِيُّ قال: كان أبو عبيده أكثرَ علمًا من الأصمعيِّ وأكثر أخبارًا وكتبًا، وكان الأصمعي أحضرَ جوابًا، وأرضى عند الناس، ولم يُتَّهم الأصمعيُّ في شيء من دينه، وكان الشعر للأصمعي، والأخبار لأبي عبيدة. ورُوي ذلك عن أبي حاتم. وقال أبو حاتم: قلتُ للأصمعيِّ: إن الناس يحملون عنك أنك تَرْوي أربعة عشر ألف أرجوزة. قال: أنا أروي ستة عشر ألف أرجوزة، إلا أن منها قصارًا وطوالًا. مروان قال: سمعتُ عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي قال: رأيت عبد الرحمن بن مهدي مرَّ بعمِّي فقال: السلام عليك يا أبا سعيد. فقال له عمي: إلى أين يا أبا سعيد؟ قال: أردتُ أبا سعيد. يعني يحيى بن سعيد القطَّان. أبو بكر بن عبد الملك قال: روى أبو العباس محمد بن الحسن الأحول ومحمد بن يزيد المبرد وغيرهما -يزيد بعضهما على بعض وينقص- عن الأصمعي أنه قال: يُقال: قَرَبٌ بَصْباص، وحَذْحَاذ، وحَثْحاث، وحَتْحاتٌ، وجُلْدِيّ، ومُصْعَرٌ، ومُصْعَنْفِرٌ، وفَسْفَاس، إذا كان شديدًا في معنى واحد. قال أبو بكر محمد بن عبد الملك: حدثني أحمد بن عُبَيد، عن الأصمعيِّ قال: يُقال: سكران لا يَبُتّ؛ الياء مفتوحة والباء مضمومة. وأنشدنا الأصمعي: * وقَصْرك أَن يُثْنَى عليك وتُحْمَدَا *

قَصْرُك: أي حَسْبُك. الحسن بن علي العنَزي قال: قلتُ لرجلٍ من بني جَعْدة: ما قول صاحبكم النابغة: زَجْر أبي عُرْوة السِّبَاعَ إذا ... أشفَق أن يختلِطْنَ بالغنمِ قال: كان أبو عُرْوة رجلًا منَّا، يرعى غنمه بجبل العقيق، فربما خالطها الذئب، فيصيح به صيحة، فتنشقُّ مرارتُه، فيوجد ميتًا. قال أبو بكر بن عبد الملك: حدثني أبو العباس، حدثنا الأصمعي، حدثنا منتجِع قال: إذا قيل: حاجة مهمَّة؛ فيراد أنها أخذت بالهمِّ. ومُحِمَّة: أُخِذت بحديث النفسِ. وأنشد الأصمعي لجرير: ألا تَجزِينَنِي وحديث نفسي ... أحاديثٌ بذكرك واحْتِمام أخبرني أبي قال: أخبرني جماعة منهم أبو العباس، عن الأصمعي قال: لا يقال إلا: "فلانة زوج فلان"، ومَن قال: "فلانة زوجة" فقد أخطأ. فقال له السِّدريُّ: أليس قد قال ذو الرُّمَّة: أذو زوجةٍ في المصْر أو ذو خصومة ... أراك لها بالبصرة العامَ ثاويا فقال: ذو الرُّمَّة أكل المالح والبقل في حوانيت البقالين. وقال أبو بكر: قال لي أبو العباس: كان آلُ سَلْم ظرفاءَ، صحبتُهم في سنة نيِّف وعشرين ومئتين، وأقمتُ معهم سنين، وكنَّا نجتمع عند أحمد، ويأتي الفضل بسببِ مصيرِ أبي عبد الله بن الأعرابي إليه، ومقامه عنده. وكان يلزم أحمدَ ويعاشره السِّدريُّ وأبو العالية وعافية، وكانوا أدباء. قال: وقال

أبو العباس: صار أبو محلَّم يومًا إلى أحمد بن سعيد بن سَلْم، وقد وَلِيَ أحمد اليمامة والبحرين وطريق مكة، ومعه أعرابيٌّ، فاستأذن، فقيل له: هو نائم. فعدَل إلينا، وكنتُ مع جماعة بالقرب من بابه، فقال لي: يا أبا العباس، يحجبني صديقُك! فقلت: لا والله، ما خرجت حتى نام. فقال: لا والله، ولكنه كما قال الشاعر: شاهَ الوجوهُ لِبغْثَانٍ على أَمِرٍ ... شيب المفارق أعلى نشئها بالِ لا يصبِرون على خطب ألمَّ بهم ... ولا يفارقهمْ إلَّا أخ قالِ قال: ثمَّ أقبل عليَّ الأعرابيُّ فقال: وكذلك الكذاب -يعني الأصمعيَّ- يقول: الديلمُ الأعداء، ولا والله ما الديلم إلا ماء، وقد وردتُه غير مرة، وهذا الحرف في شعر عنترة: . . . . . . . . . . فأصبَحْت ... زوراءَ تنفِر عن حياضِ الدَّيْلمِ قال الأصمعيُّ: هم الأعداء. وهو اسم ماء، فغلِط الأصمعيُّ. محمد بن علي بن حمزة العلوي، وأبو سعيد السكري قالا: حدثنا الرياشيُّ، عن الأصمعي قال: لما قدم المفضَّل البصرة، أنشد بيت أوس بن حَجَر: وذات هِدْمٍ عارٍ نواشرُها ... تُصْمِتُ بالماء تَوْلَبًا جَذعا

فقال الأصمعي: ما "جَذعا"؟ قال: الصغير؛ كالجذَع من الغنم، قال: إنما هو "جَدِعًا" سيئ الغذاء، وكذلك المُحثَل والمُقَرْبَبُ والضَّاوي والمودَن. قال المفضل: لا يكون إلا "جَذعًا" في هذا الموضع. قال الأصمعي: لو نفخت في شبُّور اليهود، ما كان إلا "جدعًا"، ولا ترويه بعد اليوم إلا "جَدِعًا". وأنشد بعضهم لإسحاق الموصلي في الأصمعي: أليس من العجائب أنَّ قردًا ... أصيمِعَ باهليًّا يَسْتطيلُ ويزعم أنه قد كان يُفْتِي ... أبا عمرٍو ويسأله الخليلُ وتوفي بمرو خراسان. قال ابن أبي خيثمة: توفي الأصمعيُّ سنة ستّ عشرة ومئتين، وهو ابن إحدى وتسعين سنة في صفر. وفي بعض الحكايات: في شهر رمضان. قال أبو علي: وكان ثقةً عند أصحاب الحديث أيضًا، وأنشد بعضهم يرثي الأصمعي: لا دَرَّ دَرُّ خطوبِ الدهر إذْ فَجَعَتْ ... بالأصمعي لقد أبقت لنا أسفا عش ما بدا لك في الدنيا فلست ترى ... ما عشت منه ومن آثاره خَلَفَا قال أبو حاتم: صحَّف الأصمعيُّ في بيت أوسٍ: يا عام لو صادفتَ أرماحنا ... لكان مثوى خدِّك الأحزما يعني بالأحزم، الحزم: الغليظ من الأرض. قال أبو حاتم: والرواة على خلافه، وإنما هو الأخرم -بالراء- وهو طرف أسفل الكتف، أي كنت تقتل فيقطع رأسك على أخرم كتفك.

92 - أبو عبيدة

92 - أبو عبيدة هو أبو عبيدة مَعْمر بن المثنَّى التَّيْمِيُّ، تَيْم قُرَيش مولًى لهم. وكان من أجمع الناس للعلم، وأعلمهم بأيام العرب وأخبارها. وأكثر الناس رواية، وكان يقال: إنه خَارِجِيٌّ. وقال عمرو بن بَحْر الجاحظ: لم يكن في الأرض خارجيّ ولا جَمَاعِيّ أبصرَ بجميع العلوم منه. وقال ابن قتيبة: كان مع عِلْمه ربَّما لم يُقِم البيت إذا أنشده. وقال أبو حاتم: كان ينشد البيت مختلف العروض؛ ومما أنشد: فوالله ما أنساكِ ما هبَّتِ الصَّبَا ... ولَأَبْكِيَنْ في مشهدِي ومسيري وهذا من العَجَب. ويخطئ إذا قرأ القرآن نظرًا، وكان يُبْغِض العرب، وألف كتابًا في مثالبها. وقال مروان بن عبد الملك: قلتُ لأبي حاتم: يقال: إنَّ أبا عبيدة كان يقول بالقَدَر. فقال: لا. وأنكر ذلك. قال: وكان يُثبِتُ القدرَ. وقال أبو حاتم: ما زال أبو عبيدة يُصنِّف حتى مات، وبلغ ثلاثًا وتسعين سنة، ومات سنة تسع ومئتين. قال: وسئل أبو حاتم: أَخَرَجَ أبو عبيدة إلى بغداد؟ فقال: نعم. قيل: لأي شيء خرج؟ قال: يطلب. قال: دخل على جعفر بن يحيى، فقال: مثلك لا يدخل على الخلفاء. قال: قلتُ: لم؟ قال: لأنه فيه توضيع ولثغ، ولا يدخل مثله عليهم. قال: فقال أبو عبيدة لجعفر: فأَرجِعُ خائبًا؟ قال: لا، ولكن نُعطِيك. قال: وكان أبو عبيدة قد خرج إلى فارس، إلى الهلالي موسى بن عبد الرحمن فأعطاه.

قال أبو حاتم: حدثني ابن قاضي شيراز قال: قال الهلالي لغلمانه ولمن يخدمه: احذروا أبا عبيدة؛ فإن كلامه دِبْق. فلما جاءه ودخل وسَّعوا له، قال: فأُتِيَ بالطعام، فجاء غلام بالغضَارة، ولا علم له بأبي عبيدة، فانصبَّت الغضارة على طرف ثوب أبي عبيدة. قال: ففطن الهلالي لذلك فقال لأبي عبيدة: إنه قد أصاب ثوبَك المرق، ولكن سوف أكسوك عشرةَ أثوابٍ. فقال له: لا بأبي، لا تضرّ مرقتُكم، ليس لها وَدَك. قال: فهم يُسَبُّون بذلك إلى اليوم. قال مروان بن عبد الملك: سألت أبا حاتم عن "غريب القرآن" لأبي عبيدة الذي يقال له "المجاز"، فقال لي: إنه لَكِتابٌ ما يحلُّ لأحدٍ أن يكتبه، وما كان شيء أشدَّ عليَّ مِن أن أقرأه قبل اليوم، ولقد كان أن أُضرَب بالسياط أهونَ عليَّ مِن أن أقرأه، ما يجوز لأحد أخذُه. فألححتُ عليه فيه، فقال لي: نعم. ثم كلمته بعد ذلك، فتأبَّى عليَّ فيه، وقال: إنه أخطأ، وفسر القرآن على غير ما ينبغي. قال أبو حاتم: وقال أبو عمر الجرمي: أتيتُ أبا عبيدة بشيء منه، فقلت له: عمَّن أخذتَ هذا يا أبا عبيدة؛ فإن هذا خلاف تفسير الفقهاء؟ فقال لي: هذا تفسير الأعراب البوَّالين على أعقابهم، فإن شئت فخذه، وإن شئت فذره. قال أبو حاتم: وما يحلُّ لأحدٍ أن يقرأه إلا على شرط إذا مرَّ بالخطأ أن يُبيِّنه ويُغيِّره. قال أبو عبد الملك: ثم قرأه أبو حاتم علينا بعد هذا كله، وسمعناه منه. قال: وسمعت أبا حاتم يقول: قال لي أحمد بن المعذّل -وكان يفهم كتاب أبي عبيدة-: تُنكر منه شيئًا؟ فقلت: نعم. فقال لي: فقِفْنِي عليه. فأوقفتُه عليه. قال أبو حاتم: فقلت له: قِفْنِي أنتَ على شيءٍ منه. فرأيته

يقفُ منه على ما يفهم. وقال أبو حاتم مرة أخرى: قال أحمد بن المعذّل: وَقِّفْنِي على خطإ أبي عبيدة في القرآن. قال: فوقفتُه عليه. قال أبو حاتم: وقلتُ له أنا: وقِّفني أنتَ على شيءٍ منه؛ حتى أنظر. فجعل يَقِفني على الخطإ منه ويبصره. قال أبو بكر بن عبد الملك: قال أحمد بن يحيى: قال ابن الأعرابي، وكان يُصغِّر من شأن أبي عبيدة ويقول: ما جالستُه إلَّا مجلسًا واحدًا، فلحن في ثلاثة أحرف؛ قال: شِلْت الحجر. وإنما هو: أشلتُ الحجر. ولم يسمع ذلك إلا في الحجَر فقط. قال: وكان أبو عبيدة غليظَ اللُّغة، إلا أنه قد اجتمع له علم الإسلام والجاهليَّة. وكان ديوان العرب في بيته، وإنما كان مع أصحابه، مثل الأصمعي وأبي زيد وغيرهما نُتَفٌ. وكان مع ذلك وَسِخًا. قال الخشني: أخبرنا أبو حاتم قال: أخبرنا أبو عبيدة قال: دفعت إلى جعفر بن سليمان أمثالًا في الرِّقاع. قيل له: كم كانت؟ قال: أربعة ألف مثل. قال الخشني: وأبو عبيدة لما اجتهد في كتبه جاء بألف مثل. قال أبو عبيدة: وجاءني حاجب الوالي فقال لي: أُمِرتُ أن آخذ منك. فقال: إني قد جمعت جمعًا غفيرًا، وأخذته من أهله. قال ابن الغازي: وكان أبو حاتم يحمل على أبي عبيدة، ويقول: كان يتكتم في أشياء، لو تركها لكان خيرًا له. قال أبو حاتم: وكان الأصمعي إذا أراد أن يدخل المسجد يقول: انظروا لا يكون فيه ذاك -يعني أبا عبيدة-، وكان يتوقعه، وخاف أن يورِد عليه بعضَ ما لا يجدُه عنده. قال الخشني: وكان أبو عبيدة قد مُسَّ ببعض الاعتزال، إلا أنه قد برئ من ذلك بما ظهر في روايته وكتبه. وسمعت الرياشيَّ يقول: سألنا أهل بغداد أن أبا عبيدة كان يشرب؟ فقالوا: لم يزن أبو عبيدة بالشراب، إنما يقال فيه: إنه كان يحب الصبيان؛ وذلك مكذوب عليه، إلا أنه من وقع في الناس لم يسلم عليهم. وكان أبو عبيدة

93 - مؤرج بن عمرو السدوسي

يقع في ابن المناذر -وكان شيخًا كبيرًا شاعرًا- فأقبل إلى مجلس أبي عبيدة وكان يجلس في مسجد يونس النحوي. وكان ابن المناذر قد كتب في قبلة ذلك المسجد: صلى الإله على لوط وطهره ... أبا عبيدة قل بالله: آمينا فضجر من ذلك. وقال أبو عبيدة: من أوْقع هذا هاهنا؟ فأنكروا ذلك، فقال: قد علمت مُوقِعَه، إنما أوقعه ذلك الدَّعِيُّ ابن مناذر، وأعرف أباه منكرًا له، معتزيًا إلى قوم لا يقرُّون بنسبه، وإن أباه كان ينتسب إلى جدِّه، وجدُّه لا يقرُّ به، وإن قبيلته أبت أن تلحق قومه بها. ثم امتنع أبو عبيدة من القعود في المجلس بسبب البيت حولًا كاملًا، فقيل له: قطعت عنا ما كنت تفيدنا، مع ما كنت تنال من ثواب المسجد؟! فقال: لا أدخله حتى تمحوه. فمحوه وقلعوه، فقيل له: قد قلعناه، إلا لوط. فقال: والله لو تركتم الطاء مئة عام ما قعدت فيه. وتوفي سنة عشر ومئتين، أو إحدى ومئتين، وقد قارب المئة؛ كذا قال ابن قتيبة. 93 - مؤرج بن عمرو السدوسي وقد مر ذكره. 94 - أبو سليمان كيسان هو أبو سليمان كيسان بن معرّف بن دهثم. قال أبو عبد الملك مروان بن عبد الملك: أخبرنا أبو عبد الرحمن محمد بن عمرو بن عثمان بن عمرو بن عتبة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عقيل الثقفي قال: حدثنا كيسان أبو سليمان -واسمه معرَّف بن دهثم- قال: سمعتُ أبا حاتم يقول: كَيْسان كان مولًى

95 - النضر بن شميل بن خرشة

لامرأة من بَلْهُجيم، وكان أصله خُراسانيًّا. ولم يحفظ أبو حاتم أي سنة مات كيسان. قال: وأخبرنا العباس بن الفرج قال: حدثنا محمد بن سلام قال: قال لي أبو عبيدة: كَيْسان يزعم أنه من بني العدوية، فإذا فُسِّر فهو من بني الهُجَيم. فلقيتُ كَيْسان، فحكيتُ له ما قال أبو عبيدة، فعاتبه، فلقيني فقال: عرَّضتني لهذا المجنون! قلتُ له: وقد صدقتُه! قال: أفيعلم الغيب؟ قال: وجدتُ في كتابٍ عن العباس قال: حدَّثنا ابنُ سلام قال: قال أبو عبيدة: كيسان يسمع من الناس، فيَعِي غيرَ ما يسمع، ويكتب في الألواح غير ما وعى، ثم ينقله من الألواح في الدَّفتر بغير ما كتب، ثم يقرأ من الدفتر غير ما فيه. 95 - النضر بن شميل بن خرشة وقد مر ذكره.

الطبقة الخامسة

الطبقة الخامسة 96 - محمد بن سلَّام هو محمد بن سلَّام بن عبيد الله بن سالم الجُمَحِيُّ، مولى محمد بن زياد مولى قدامة بن مظعون الجمحيِّ. وتوفي سنة إحدى وثلاثين ومئتين بالبصرة، وكان دون الأربعة: إبراهيم بن سفيان بن بكر الزياديِّ، وقد مرَّ ذكرُه، أبو محمد عبد الله بن محمد التّوّزيّ، وقد مر ذكره، العباس بن الفرج الرياشي، وقد مر ذكره، أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني، وقد تقدم ذكره. 97 - ابن أخي الأصمعي هو عبد الرحمن بن عبد الله، ابن أخي الأصمعي. 98 - أبو نصر هو أحمد بن حاتم، كان يعرف بغلام الأصمعي. أبو عمر بن سعيد القطربلي قال: حدثني أحمد بن يحيى ثعلب قال: كان نصر صاحب الأصمعي يُمِلُّ شعر الشَّمَّاخ، وكنت أحضر مجالسه، وكان يعقوب بن السكيت يحضرها قبلي؛ لأنه كان قد قعد عن مجالسهم، وطلب الرياسةَ، فجاءني إلى منزلي فقال: اذهب بنا إلى أبي نصر حتى نَقِفَه على ما أخطأ فيه وصحَّف من شعر الشماخ، فإنه أخطأ في بيت كذا،

99 - رفيع بن سلمة

وصحَّف في حرف كذا، وأنا ساكتٌ. فقال: ما تقول؟ فقلتُ: ليس يحسُن هذا، بالأمس تُرَى على باب الشيخ تسأله وتكتب عنه، ثم تصير إليه الآن لتُخطِّئه وتُهجِّنه! فقال: لا بد من ذلك. فمضينا فدققنا عليه الباب، فخرج الشيخ فرحب، فأقبل عليه يعقوب فقال: كيف تُنشِد هذا البيت للشَّمَّاخ؟ قال كذا. قال: أخطأتَ! فكيف تقول في هذا الحرف من شعره؟ قال كذا. قال: أخطأت. فلما مرت ثلاث أو أربع مسائل اغتاظ الشيخ، ثم قال: يا مَصَّانُ، تستقبلني بمثل هذا وتقوى نفسُك على هذا، وأنت بالأمس تلزمني حتى يَتَّهِمَني الناسُ بك! ونهض فدخل بيته، ورد بابه في وجوهنا، فاستخذى يعقوب، فأقبلت عليه فقلت: ما كان أغنانا عن هذا! فأمسك فما نطق بحُلْوةٍ ولا مُرَّةٍ. حدثنا قاسم بن أصبغ قال: حدثنا الخشني قال: حدثنا أبو حاتم قال: سمعتُ الأصمعيَّ يقول: ليس يُصدَّق عليَّ أحدٌ إلا أبو نصر. وتوفي أبو نصر سنة إحدى وثلاثين ومئتين. 99 - رُفيع بن سلَمة هو أبو غسَّان رُفيع بن سلمة المعروف بدَمَاذٍ، وكان كاتب أبي عبيدة في الأخبار، وكان أوثق الناس عن أبي عبيدة في الأخبار. وكان أبو حاتم إذا ذوكر في شيء منها قال: عليكم بذلك الشيخ. يعني أبا غسان. ويقال: إن المازني نقل قدميه إلى أبي غسان يسمعُ منه الأخبار.

الطبقة السادسة

الطبقة السادسة 100 - أبو خليفة هو أبو خليفة الفضل بن الحُباب، مولى الجُمَحِيِّين، وكان من أجلَّاء أصحاب الحديث. روى عن محمد بن كثير، وعن الطيالسي وإبراهيم بن مسلم وأمثالهم، وولي قضاء البصرة. وأخبرني أبو عليٍّ قال: كان أبو خليفة من علم اللغة والشعر بمكانٍ عالٍ، وكان أهل الحديث يأتونه يقرؤون عليه، فإذا أتاه أهلُ اللغة تحوَّل إليهم، وترك أهل الحديث وقال: هؤلاء غُثاءٌ. قال: ولما تهاجى أبو بكر بن دُرَيدٍ والباهلي بالبصرة، وتفاقم الأمر بينهما، تنافرا إلى أبي خليفة، فاجتمع لذلك وجوه البصرة، ثم أنشد كلُّ واحدٍ منهما، فكان فيما أنشد الباهلي: أَبِابْنِ دُرَيدٍ يَقِيسُونَنِي ... لَقد ضَربُوني بِسَيفٍ كَهامِ فقال أبو خليفة: أراك قد جعلتَ نفسَك ضريبةً، وجعلتَه سيفًا! ثمَّ غلَّب ابنَ دريد عليه، وانصرف أهل البصرة عن مجلسه وهم يرون أنه قد أصاب الحُكمَ. 101 - سعيد بن هارون الأشنانداني ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...

102 - أبو ذكوان

102 - أبو ذكوان ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 103 - ابن قتيبة هو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قُتَيبة المَرْوَزِيُّ. توفي سنة ست وتسعين ومئتين. 104 - الحسن بن الحسين هو أبو سعيدٍ الحسنُ بن الحسين بن عبد الرحمن بن العلاء بن أبي صُفْرة بن المهلّب بن العلاء بن أبي صُفْرة. قال أبو بكر: حدثنا البيَّانيُّ ظالم بن سرَّاق العَتَكِيُّ المعروف بالسُّكَّريّ. وتوفي سنة تسعين ومئتين، كذا قال الباذنجاني، وعبد الباقي في تاريخه. 105 - الكلابزي هو إبراهيم بن محمد بن العلاء الكلابَزيُّ. توفي سنة ست عشرة وثلاثمئة. 106 - أبو بكر بن دُرَيدٍ هو أبو بكر محمد بن الحسن بن دُرَيد بن عتَاهِيَةَ بن حَنْتَم بن حسين بن حماميّ بن رافع بن وهب بن سلَمة بن حاضر بن أسد بن عدي بن عمرو بن

مالك بن فَهْم بن مالك بن غَنْم بن دَوْس بن عُدْثان بن عبد الله بن زَهران. وكان أعلمَ الناس في زمانه باللغة والشعر وأيام العرب وأنسابها، وله أوضاعٌ جمَّةٌ. قال أبو بكر بن عبد الملك: كان أبو بكر بن دُرَيد -رحمه الله- لا يُمسِك شيئًا، ويُنفِق كلَّ شيءٍ يقع بيده ويتوجَّه إليه. وتوفي سنة إحدى وعشرين وثلاثمئة، وهو ابن ثلاث وتسعين سنة. وقال جحظة يرثيه: فقدتُ بابنِ دُرَيدٍ كلَّ فائدةٍ ... لمَّا غدا ثالثَ الأحجارِ والتُّرَبِ وكنتُ أبكي لفَقْد الجودِ مُنفَرِدًا ... فصِرتُ أبكي لِفَقدِ الجودِ والأدبِ

الطبقة السابعة

الطبقة السابعة أصحاب ابن دريد 107 - أبو الحسن الرَّقَّام هو أبو الحسن محمد بن محمد بن عمران البصري الرَّقَّام. 108 - إسحاق بن الجنيد البزاز ورَّاقُه. 109 - عليُّ بنُ أحمدَ الدُّرَيْدِيُّ أصله من فارس، وإليه صارت كُتب ابنِ دُرَيدٍ. 110 - أبو سعيد السيرافي قد مرَّ ذكرُه. 111 - أبو علي البغداذي هو إسماعيل بن القاسم بن عَيْذون بن هارون القاليُّ ثم البغداذي، وكان أحفظَ أهلِ زمانه للغة، وأرواهم للشعر الجاهلي، وأحفظَهم له، وأعلمَهم بعلل النحو على مذهب البصريين، وأكثرهم تدقيقًا فيه. وعَمِل كتابَ سيبويهِ على عبد الله بن جعفر بن دَرَسْتَويهِ، وسأله عنه حرفًا حرفًا، وعن عِلَلِه. وله أوضاعٌ كثيرةٌ أملاها عن ظهر قلب، منها كتابه في الخبر؛ المعروفُ

بالنَّوادرِ، أملاه ظاهرًا، وارتجل تفسير ما فيه. وهذا الكتاب غايةٌ في معناه، وهو أنفع الكتب؛ لأن فيه الخبر الحسن، والمثل المتصرّف، والشعر الفائت المنتقى في كل معنى، وفيه أبواب من اللغة مستقصاة ليست توجد في شيء من كتب اللغة بكمال ما هي في هذا الكتاب، وفيه الإبدال والقلب مستقصى، وفيه تفسير الإتباع، وهو ما لم يسبقه إليه أحد، إلى فوائد كثيرة فيه. ومنها كتابه في الممدود والمقصور، بناه على التفعيل ومخارج الحروف من الحلق، مستقصى في بابه، لا يشذ عنه شيء من معناه، لم يوضع له نظير. ومنها كتابه في الإبل ونتاجها وما تصرف منها ومعها. ومنها كتابه في حُلَى الإنسان والخيل وشِياتها. ومنها كتابه في "فعلت وأفعلت". ومنها كتابه في "مقاتل الفرسان". ومنها تفسيره للقصائد المعلقات وتفسير إعرابها ومعانيها، إلى كتب كثيرة ارتجل جميعها، وأملاها عن ظهر قلب كلها. وألف كتاب "البارع في اللغة"، فبناه على حروف المعجم، وجمع فيه كتب اللغة، وعزا كلَّ كلمة إلى ناقلها من العلماء، واختصر الإسناد عنهم، وهو يشتمل على خمسة آلاف ورقة، ولا نعلم أحدًا من العلماء المتقدمين والمتأخرين ألَّف نظيره في الإحاطة والاستيعاب. وتوفي قبل أن يُنقِّحه، فاستُخرج بعده من الصُّكوك والرّقاع. سألتُ أبا عليٍّ عن نسبه ومولده، فقال: أنا إسماعيل بن القاسم بن عَيْذون بن هارون بن عيسى بن محمد بن سليمان؛ مولى عبد الملك بن مروان -رحمه الله-. وُلِدتُ بمنَاز جَرْدَ من ديار بَكرٍ سنة ثمانين ومئتين، ورحلتُ إلى بغداذَ سنة ثلاث وثلاثمئة فأقمت بالموصل، وكتبت عن أبى يَعْلَى الموصليِّ وغيره، ثم دخلت بغداذ سنة خمس وثلاثمئة فأقمت بها إلى سنة ثمان وعشرين وثلاثمئة أكتبُ الحديثَ، فممن كتبتُ عنه: أبو بكر عبد الله بن أبي

داودَ السِّجِسْتَانيّ، وأبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد، وأبو عمر محمد بن يوسف بن يعقوب القاضي، وأبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغويّ المعروف بابن بنت منيع، وإبراهيم بن عبد الصمد بن موسى الهاشمي من ولد الإمام، وأحمد بن إسحاق بن البُهلول القاضي، وأبو عبد الله الحسين القاضي، وأبو عبيدٍ أخوه القاسم أبو إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن الضَّبِّيّ المعروف بابن المحامليّ، وأبو بكر محمد بن يوسف بن يعقوب بن بُهلول الأزرق الكاتب، وأبو بكر أحمد بن محمد البُسْتَنْبَان، وابن قطن الإسكافيّ، وأبو سعيدٍ الحُرّ بن علي بن زكريا بن يحيى العَدَويّ. قال: وسمعتُ الأخبارَ واللغة من أبي بكر محمد بن الحسن بن دُرَيد الأزديّ البصريّ، وأبي بكر محمد بن القاسم بن بَشَّار الأنباري، وأبي عبد الله إبراهيم بن محمد بن عَرَفة المعروف بنِفطويه، ومن أبي بكر محمد بن السَّرِيّ السّرّاج النحوي، ومن أبي بكر محمد بن شُقَير النحوي، ومن أبي إسحاق إبراهيم بن السري بن سهل الزجاج النحوي، ومن أبي الحسن علي بن سليمان بن الفضل الأخفش، ومن أبي بكر محمد بن أبي الأزهر، ومن أبي محمد عبد الله بن جعفر بن دَرَسْتَوَيْهِ؛ أخذتُ منه كتاب سيبويه عن المبرد، ومن أبي جعفر أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة؛ أخذتُ منه كُتب أبيه، ومن أبي بكر أحمد بن موسى بن مجاهد المقرئ؛ قرأتُ عليه القرآن بحرْف أبي عمرو بن العلاء غيرَ مرَّةٍ، وأخذتُ كتابه في القراءات السبع وغير ذلك، ومن أبي عمر محمد بن عبد الواحد المطرّز غلام ثعلب؛ حدثنا عن ثعلب، ومن أبي بكر محمد بن عبد الملك التاريخي، ومن أحمد بن يحيى المنجم النَّديم، أخذتُ منه كُتب أبيه، وغير ذلك. ومن الطوسي أبي علي الحسن بن علي بن نصر، أخذت منه كتاب الزبير بن بكار في النسب، ومن الدمشقي أحمد بن سعيد، ذكر لي أنه سمع منه.

قال أبو علي: وخرجت عن بغداذ سنة ثمان وعشرين وثلاثمئة، ثم دخلتُ الأندلس في سنة ثلاثين وثلاثمئة، ثم دخلت إلى قرطبة في شعبان لثلاثٍ بقينَ منه سنة ثلاثين وثلاثمئة. وسألتُ أبا عليٍّ لِمَ قيل له: "القالي"؟ فقال: لمَّا انحدرنا إلى بغداذ كُنَّا في رفقة فيها أهلُ قالي قلا، فكانوا يحافظون لمكانهم من الثَّغْر، فلما دخلتُ بغداذَ انتسبتُ إلى قالي قلا، وهي قرية من منَازجِرْد، ورجوتُ أن أنتفع بذلك عند العلماء، فمضى عليَّ القاليّ. وتوفي في ربيع الآخر سنة ست وخمسين وثلاثمئة، ودُفن بمقبرة مُتعَة، وصلى عليه أبو عُبَيدٍ الجُبَيريّ.

اللغويون الكوفيون

اللغويون الكوفيون

الطبقة الأولى

الطبقة الأولى من اللغويين الكوفيين 112 - حماد بن هرمز ويكنى أبا ليلى. 113 - أبو البلاد الأعمى ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...

الطبقة الثانية

الطبقة الثانية 114 - المفضل الضبي هو المفضل بن محمد بن يعلى بن سالم بن أبي سَلْمى بن ربيعة بن زَبَّان بن عامر بن ثعلبة الضَّبِّيُّ. قال أحمد بن يحيى: قال لنا ابنُ الأعرابيِّ: سألتُ المفضل عن الراعي وذي الرمة أيّهما أشعرُ؟ فزَبَرَني وقال لي: مثلُك يَسألُ عن هذا! يريد أن الراعي أشعر. قال الفراء: صحَّف المُفضَّلُ فقال: "كُلُّ النِّساءِ يَتِيمُ"، وإنما هو "يئيم"، والشعر: أَفَاطِمَ إِنِّي هالكٌ فَتَبَيَّنِي ... ولا تَجْزعي كُلُّ النِّساءِ يَئِيمُ قال أبو حاتم غير مرة: كان المفضل بن محمد الضبي لا يُحسِنُ معنَى بيتٍ ولا يَضبِطُه. قال: وكان الشرقيُّ بن القطامي موهونَ الرواية. 115 - أبو محمد الأموي هو أبو محمد الأموي عبد الله بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاصي، روى عنه أبو عبيد وغيره.

116 - خالد بن كلثوم

116 - خالد بن كلثوم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 117 - محمد بن عبد الأعلى هو محمد بن عبد الأعلى بن كُناسة، توفي بالكوفة سنة سبع ومئتين. 118 - أبو عمرو الشيباني هو أبو عمرو إسحاق بن مرار، من رمادة الكوفة، وجاور شيبان فنُسِب إليهم. قال أبو العباس: كان مع أبي عمرو الشيباني من العلم والسماع عشرة أضعاف ما كان مع أبي عُبيدة، ولم يكن من أهل البصرة مثل أبي عبيدة في السماع والعلم. قال ابن أبي سعد: قال أبو عمرو الشيباني: يُقال: "في صَدْرِه عليَّ حَسيكة وحَسِيفَة"، وكان أبو عبيدة يُصحِّف فيهما: "حَشِيكَة وحَشِيفة". قال أبو عمرو: فأرسلتُ إليه: يا أبا عبيدة، إنَّك تُصحِّف في هذين الحرفين، فارجع عنهما. قال: سمعتُهما جميعًا. وقال أبو عمرو: سألني القاسم بن مَعْن عن بيت ربيع بن ضُبَعٍ الفزاريِّ: وإنَّ كَنَائِني لَنِسَاء صِدْقٍ ... وما أَلَّى بَنِيَّ ولا أساؤوا فقلتُ: أبطؤوا. فقال: ما تدع شيئًا! وهو "فعَّل" مِن "أَلَوْتُ".

119 - اللحياني

حدثني أبو علي من حفظه قال: دخل الأصمعي على أبي عمرو الشيباني في منزله ببغداذ وهو جالس على جُلُودِ فِرَاء، فأوسع له أبو عمرو، فجرَّ الأصمعيُّ يَدَه على الفِرَاء ثم قال: يا أبا عمرو، ما يعني الشاعرُ بقوله: بِضَربٍ كآذان الفِرَاء فُضُولُهُ ... وطَعْنٍ كإِيزاغِ المَخاضِ تَبورُهَا فقال: هي هذه التي تجلسُ عليها يا أبا سعيد. فقال الأصمعي لمن حضر: يا أهل بغداذ، هذا عالمكم! والِفرَاءُ هاهنا جمعُ فَرَأ؛ وهو الحمار الوحشي، وكانت روايةُ أبي عمرٍو: "كآذان الفَرَاء"، فتغفَّله الأصمعي بغير روايته فزلَّ، ويقال: فرأ وفراء بالقصر والمدِّ. 119 - اللِّحْيَانِيُّ هو علي بن حازم، وله كتاب في النوادر شريف. حدثني أبو علي إسماعيل بن القاسم البغداذي قال: كان الفرَّاءُ إذا أَمَلَّ كتابَه في "النَّوَادِر" ودخل اللِّحيانِيُّ أمسك عن الإملاء حتى يخرج، فإذا خرج قال: هذا أحفظُ النَّاسِ للنَّوادر. 120 - محمد بن زياد الأعرابي هو أبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي، مولى العباس بن محمد بن علي بن العباس، وكان أحول، وكان ناسبًا نحويًّا كثير السماع، راوية

لأشعار القبائل، كثير الحفظ، لم يكن في الكوفيين أشبه برواية البصريين منه. وكان يَزْعُمُ أن الأصمعي وأبا عبيدة لا يُحسِنان قليلًا ولا كثيرًا. وقيل لأبي زيد الإقليدسيّ: لِمَ لَمْ تأتِ ابنَ الأعرابي، ولم تقرأ كتبه؟ قال: بلغني أنه يستنقص الشيخين. يعني الأصمعي وأبا عبيدة. ابن الغازي: حدثنا محمد بن الفضل بن سعيد بن سلْم، حدثني أبي قال: كان ابن الأعرابي يُؤدِّبُنا في أيام أبي سعيد بن سلْم، فكان الأصمعيُّ يأتينا مواصلًا، فيُناظِرُه ابنُ الأعرابيِّ فيرتجِلُ ذلك، وكان أعلمَ بالإعراب منه، وكان الأصمعيُّ يفتُر فيه ويُغريه بالشعر، ويُسلِكُه مَسْلكه في جهة المعاني، فإذا وقع هذا البابُ وبَرِئَ من الإعراب الْتَهَمَهُ فلم يَغْتَرِفْ من بحره. قال أبو حاتم: كان الأصمعي يأتي سعيد بن سلْم وابنُ الأعرابي مُؤدِّبٌ لولده، فيفارقُ المجلسَ، ويسألُه سعيد بن سلم الإملاءَ على ولدِه فيفعل، فإذا زال الأصمعي خرج ابن الأعرابي فيقول: اعرضوا عليَّ ما أفادكم الباهليُّ. قال: ثم يكتبه. قال محمد بن الفضل: لم يزل ابنُ الأعرابي عندنا مُرْمِدًا في علمه، غير مفارق للناس، حتى قدِم علينا أعرابٌ من اليمامة، ففاتَحهم الغريب ففتقوا له، وكان علمه الذي حصل في نحو من شهر. حدثنا أحمد بن سعيد قال: حدثنا أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي قال: حدثنا أحمد بن عمران قال: كنتُ عند أبي أيوب أحمد بن محمد بن شجاع، وقد تخلَّف في منزله، فبعث غلامًا من غلمانه إلى أبي عبد الله بن الأعرابيِّ صاحب الغريب، يسأله المجيء إليه، فعادَ إليه الغلامُ فقال: قد سألتُه ذلك فقال لي: عندي قومٌ من الأَعراب، فإذا قضيتُ أَرَبِي معهم أتيتُ. قال الغلامُ: وما رأيتُ عندَه أحدًا، إلا أنَّ بين يديه كُتُبًا ينظر فيها، فينظر في هذا مرةً، وفي هذا مرةً، ثمَّ ما شَعَرْنا حتَّى جاء، فقال له أبو أيوب: يا أبا

121 - أبو توبة

عبد الله، سبحان الله العظيم! تخلَّفتَ عنَّا وحرمتَنا الأنس بك، ولقد قال لي الغلامُ: إنه ما رأى عندك أحدًا. وقد قلتَ له: أنا مع قومٍ من الأعراب، فإذا قضيتُ أَرَبِي معهم أتيتُ. فقال: لنا جلساءُ ما نملُّ حديثَهُم ... ألبَّاءُ مأمونون غَيْبًا ومشهدًا يُفيدوننا من علمِهم مثلَ ما مضى ... وعقلًا وتأديبًا ورأيًا مُسدَّدًا بلا فتنةٍ تُخشَى ولا سوءِ عِشْرَةٍ ... ولا نتَّقي منهم لسانًا ولا يدًا فإن قلتَ أمواتٌ فما أنت كاذبٌ ... وإن قلتَ أحياءٌ فلست مُفنّدًا أبو بكر بن عبد الملك قال: أخبرني جدِّي -رحمه الله-، حدثني أحمد بن يحيى، عن ابن الأعرابي أنه قال: سُمِّي الشَّجَرُ شَجرًا لاختلافِ أغصانه، ومنهُ: اشْتَجَرَتِ الرِّمَاحُ؛ إذا اختلفتْ بالطَّعنِ. وقد شَجَرَ بينهم أمرٌ؛ إذا اختلفَ. قال اللهُ -جلَّ اسمُه-: {حَتَّى يُحكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَينَهُم}. قال ثعلبٌ: كان الأصمعيُّ يقول: "التَّوْم" بغير همز، و"هما تَوْمَانِ"، وكان ابن الأعرابي يقول: "التَّوْأَم" بالهمز، وهما "تَوْأَمَانِ". أنشدني أحمد بن يحيى، عن ابن الأعرابي: إلى اللهِ أشكُو مِن خَليلٍ أَوَدُّهُ ... ثلاثَ خِلَالٍ كلُّها لي غَائِضُ قال: أراد "غَائِظ"، وهو جائز في كلام العرب أن يعاقبوا الظاء بالضاد، و"غائظ" هاهنا ناقص، يريد: كلها يُغيِّرني عمَّا أنا عليه؛ والأول عليه تجري معاني الناس. وتوفي ابن الأعرابي سنة إحدى وثلاثين ومئتين. 121 - أبو توبة وأخوه أبو العباس يروي عنه، اسمه زياد أبو توبة.

122 - محمد بن حبيب

قال أبو العباس: كان أبو توبة مُؤدِّبًا لعمر بن سعيد بن سَلْم، فقدم الأصمعيُّ من البصرة، فنزل على سعيد بن سَلْم، فحضرَ يومًا وأخذ يُسائِلُه، فدعا سعيدٌ بأبي توبة، فجعل أبو توبة إذا مَرَّ شيءٌ من الغريب بادر إليه، فأتى بكل ما في الباب أو أكثره، فشقَّ ذلك على الأصمعيِّ فجعل يعدل إلى المعاني، فسأل أبا توبةَ عنها، فقال سعيدٌ: لا تتبعْه يا أبا توبةَ في هذا الفنِّ؛ فإنَّ هذه صناعتُه. قال: وما عليَّ إذا سألني عمَّا أحسنه أجيبه، وما لم أحسنه تعلمتُه. فجعل الأصمعيُّ يسأله، وأبو توبة يجيبه، حتى سأله عن هذا البيت: واحدةٌ أَعْضَلَكُمْ أَمرُها ... فكيف لو دُرتُ على أربعِ قال: ونهض الأصمعيُّ فدار على أربعٍ، يُلبِّسُ على أبي توبة، فأجابه أبو توبةَ بما يُشاكل ما أوهمه الأصمعيُّ، فضَحِك الأصمعيُّ من جوابه، وقال له سعيدٌ: ألم أقل لك يا أبا توبة! قال: ومعنى البيت: أنه تزوَّج امرأةً واحدةً، فقال: قد شقَّ عليكم أن تزوجتُ واحدةً، فكيف لو تزوجتُ أربعًا! 122 - محمد بن حبيب هو أبو جعفرٍ مولى العباس بن محمد العباسيّ، ورأيتُ مع بعض الكتب محمد بن حبيب بن المحبّر، يروي عن ابن الأعرابي، وله كتبٌ صحيحةٌ، قد مرَّ ذكرُه.

الطبقة الثالثة

الطبقة الثالثة 123 - أبو عُبَيدٍ هو أبو عبيد القاسم بن سلام الخُزاعيّ. حدثنا قاسم بن أصبغ البيانيُّ قال: قال أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة: أبو عبيدٍ القاسمُ بنُ سلَّامٍ مولًى للأزد من أبناء خُراسان، وكان مُؤدِّبًا، وولي قضاء طَرَسُوس أيامَ ثابت بن نصر بن مالك، ولم يزل معه ومع ولده، وحجَّ بعدما قدم من بغداذ، وبعدما صنَّف من كتبه ما صنَّف. قال عمرو بن بحر الجاحظ: ومن المعلمين، ثم الفقهاء والمحدثين، ومن النحويين والعلماء بالكتاب والسنة، والناسخ والمنسوخ، وبغريب الحديث، وإعراب القرآن، وممَّن قد جمع صنوفًا من العلم: أبو عُبيدٍ القاسمُ بنُ سلَّامٍ، وكان مُؤدِّبًا لم يكتب الناسُ أصحَّ من كُتُبه، ولا أكثرَ فائدةً. وحدَّث طاهرُ بنُ عبدِ العزيزِ، عن عليِّ بنِ عبد الوارث الصَّنعانيِّ، عن أحمد بن مقاتلٍ الهرويِّ: قال محمد بن نصر: سمعتُ إسحاقَ بن إبراهيم بن راهويه الحنظليَّ يقول: يحبُّ اللهُ الحقَّ، أبو عبيدٍ أعلمُ منِّي ومِن أحمدَ بنِ حنبل، ومحمدِ بنِ إدريسَ الشافعيِّ. قال البخاري محمد بن إسماعيل: أبو عبيد البغداذيُّ سمع من شريك ويحيى القطان. قال أبو بكر: حدثنا أحمد بن سعيد قال: حدثنا أحمد بن خالد قال: حدثنا مروان قال: سمعتُ الصَّاغانيَّ قال: سمعتُ أبا عبيدٍ يقول: ما كان عليَّ مِن حفظِ خمسين حديثًا مَؤونةٌ. وسمعتُ أبا إسحاق يقول: لم يكن عند أبي عبيد ذلك البيان، إلا أنه إذا وضع وضع. قال مروان: سمعتُ الدُّوريَّ يقول: سمعتُ أبا عبيدٍ -وذاكروه عن رجلٍ

من أهل السُّنَّةِ يقول: هذه الأحاديثُ الَّتي تُروى في الرُّؤية، والكُرسيِّ، وموضعِ القدمين، وضحك ربِّنا من قنوطِ عباده، وإنَّ جهنمَ لتمتلئ ... وأشباهُ هذه الأحاديث. فقالوا: إنَّ فلانًا يقول: يقع في قلوبنا أنَّ هذه الأحاديث حقٌّ. قال أبو عبيد: ضعَّفتم عندي أمرَه، هذه حقٌّ لا شكَّ فيها، رواها الثقاتُ بعضهم عن بعض، إلَّا أنَّا إذا سُئِلنا عن تفسير هذه الأحاديث لم نُفسِّرْها، ولم يدرك أحدٌ تفسيرَها. قال أبو سعيد بن الأعرابي: سمعتُ عبَّاسًا الدُّوريَّ يقول: سمعتُ أبا عبيدٍ يقول: عاشرتُ النَّاس، وكلمتُ أهلَ الكلام، فما رأيتُ قومًا أضعفَ ولا أوسخَ ولا أقذرَ ولا أضعفَ حُجَّةً ولا أحمقَ مِن الرَّافِضةِ!! ولقد وُلِّيتُ قضاءَ الثّغْر، فأخرجتُ منهم ثلاثةً؛ جَهْمِيَّيْنِ وَرَافِضِيًّا، أو رَافِضِيَّيْنِ وَجَهْمِيًّا، وقلتُ: مثلُكم لا يُجاوِرُ الثُّغورَ. حدَّث بذلك أحمد بن خالد، عن مروان الفخَّار، عن عباسٍ الدُّوريِّ وعليِّ بنِ مُغيرةَ الأثرمِ. قال طاهر بن عبد العزيز: سمعتُ عليَّ بنَ عبدِ العزيزِ يقول: تُوُفِّيَ أبو عبيدٍ في المحرم سنة أربع وعشرين ومئتين بمكة، في دور جعفر بن محمد، وعاش ثلاثًا وسبعين سنةً. وروى أحمد بن نصر الفَروِيُّ، عن محمد بن أسامة، عن عليٍّ قال: قدم أبو عبيد مكة حاجًّا، فلما انقضى حجُّه وأراد الانصراف؛ أَكْرَى إلى العراق ليخرجَ صبيحةَ الغدِ، قال أبو عبيد: فرأيتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- في رؤيايَ وهو جالسٌ وعلى رأسه قومٌ يحجبونه، والناسُ يدخلون عليه، ويسلِّمون عليه، ويصافحونه، قال: فكلما دنوتُ أدخل مع الناس مُنِعتُ، فقلتُ لهم: لِمَ لا تُخلُّوا بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا لي: لا والله؛ لا تدخل عليه، ولا تُسلِّم عليه وأنت غدًا خارجٌ إلى العراقِ. قال: فقلتُ لهم: إنِّي لا أخرجُ إِذًا. فأخذوا عهدي، ثمَّ خلُّوا بيني وبين النبي -صلى الله عليه وسلم-، فدخلتُ وسلمتُ وصافحتُ. قال عليٌّ: فلما أصبح أبو عبيد، فَاسَخَ كَريَه، وسكن مكة حتى توفي بها، ودفن فيها.

قال عبد الله بن طاهر: علماء الإسلام أربعةٌ: عبد الله بن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، والقاسم بن معن في زمانه، والقاسم بن سلام في زمانه. ولما أتاه نعيُ أبي عبيدٍ، قال: يا طالبَ العلمِ قد ماتَ ابنُ سلَّامِ ... وكانَ فارسَ علمٍ غيرَ مِحْجَامِ مات الذي كان فيكم ربعَ أربعةٍ ... لم تلقَ مثلَهُمُ إِسْتَارَ أحكامِ خير البرية عبدُ اللهِ أوَّلُهم ... وعامرٌ، ولنعم الثِّنْيُ يا عامِ هما اللَّذان أنافا فوق غيرهما ... والقاسمانِ: ابنُ معنٍ، وابنُ سلَّامِ فازا بقدحٍ متينٍ لا كفاءَ له ... وخلَّفاكم صفوفًا فوق أقدامِ قال عليُّ بنُ عبدِ العزيز: حضرتُ أبا عبيدٍ ببغدادَ، حتى جاءه رجل يخدُم السلطان، فجثا بين يديه وقال: بعثني الأمير طاهر بن عبد الله بن طاهر وبَلَغَه عنكَ عِلَّةٌ، وقد أتيتُكَ بمتطببٍ. فكشف أبو عبيدٍ سراويلَه عن ساقيه وبه قرحٌ، فقال له المتطبب: هذه مِرَّةٌ بين الجلدين، كم أتى عليكَ؟ فقال أبو عبيد: وما في هذا ممَّا يُستفادُ؟ قال: لأحمل الدَّواء على قدر القُوَى. فقال -وعقد بيده-: ثمانيًا وستين. قال لنا عليٌّ: قال أبو عبد الرحمن اللحية -صاحبُ أبي عبيدٍ-، وقد جاوزَ دارَ رجلٍ من أهل الحديث كان يكتبُ عنه الناسُ، وكان يُزَنُّ بشَرٍّ: إنَّ صاحبَ هذه الدارِ يقولُ: أخطأ أبو عبيدٍ في مئتي حرفٍ من المُصنَّفِ. فقال عليٌّ: فحَلُم أبو عبيدٍ ولم يقع في الرجلِ بشيءٍ ممَّا كان يَعرِف مِن عيوبه، وقال: في "المُصنَّفِ" مئة ألف حرف؛ فإن أخطئْ في كلِّ ألفٍ حرفين، فما هذا بكثيرٍ مما أُدرِكَ علينا، ولعلَّ صاحبَنا هذا لو بدا لنا فناظرناه في هذه المئتين بزعمه، لوجدنا لها مخرجًا. وروى ابن النحاس، عن ابن سليمان الأخفش، عن عباسٍ الخياط قال: كنتُ

124 - يعقوب بن السكيت

مع أبي عبيدٍ، فجاز بدار إسحاقَ بنِ إبراهيم الموصلي، فقال: ما أكثر علمَه بالحديث والفقه والشعر، مع عنايته بالعلوم! فقلت: إنَّه يذكرك بضدِّ هذا. قال: وما ذاك؟ قلتُ: ذكر أنك صحَّفتَ في المُصنَّفِ نَيِّفًا وعشرين حرفًا. فقال: ما هذا بكثير، في الكتاب عشرة آلاف حرف مسموعة، فغلط فيها بهذا ليسير، لعلِّي لو نُوظِرتُ عنها لاحتججتُ فيها. ولم يذكر إسحاقَ إلا بخيرٍ. قال أبو بكر محمد بن الحسن الزُّبَيْدِيُّ: ولما اختلفت هاتان الروايتان في العدد، أمرني أمير المؤمنين -رضي الله عنه- بامتحان ذلك، فعددتُ ما تضمَّن الكتابُ من الألفاظ، فألفيتُ فيه سبعة عشر ألف حرف وتسعمئة وسبعين حرفًا. 124 - يَعقوبُ بنُ السِّكِّيتِ هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق السكيت. حدثني أبو عليٍّ إسماعيل بن القاسم البغداذيُّ قال: حدثني أبو بكر محمد بن القاسم بن محمد بن بشار الأنباري، عن أبيه، عن أحمد بن عبيد قال: شاورني أبو يوسف يعقوبُ بن السكيت في منادمة المتوكل، فنهيتُه، فحمل قولي على الحسد، وأجاب إلى ما دُعِي إليه من المنادمة، فبينما هو معه في بعض الأيام إذ مَرَّ ابنانِ للمتوكل، فقال له: يا يعقوب، مَن أحبُّ إليكَ: ابنايَ هذانِ، أمِ الحسنُ والحسينُ؟ فغضَّ مِن ابنيه، وذكر الحسنَ والحسينَ بما هما أهلُه، فأمر الأتراك فدِيسَ بطنُه، فحُمِل وَقيذًا، وعاش يومًا وبعضَ يومٍ. قال عبد الله بن عبد العزيز بن القاسم: نهيتُ يعقوبَ بن السكيت حين شاورني فيما دعاه إليه المتوكل من مُنادمته، فلم يَقْبَلْ قولي، فلما عرضَ له ما عرضَ قلتُ: نهيتُك يا يعقوبُ عن قُرْبِ شادنٍ ... إذا ما سَطَا أَرْبى على أم قَشْعَمِ

فذُقْ واحْسُ ما اسْتَحْسيتَه، لا أقول إذْ ... عثرت: لعا! بل لليدين وللفم قال ابنُ النَّحَّاسِ: كان أول الكلام مُزاحًا، وكان ابنُ السِّكِّيتِ يتشيَّع. قال أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه: حدثنا أبو العباس محمد بن يزيد، عن أبي عثمان المازني قال: اجتمعتُ مع يعقوب بن السكيت عند محمد بن عبد الملك الزيات، فقال محمد بن عبد الملك: سَلْ أبا يوسف عن مسألةٍ. فكرهتُ ذلك، وجعلتُ أتباطأُ وأدافعُ مخافةَ أن أُويِسَهُ؛ لأنه كان لي صديقًا، فألحَّ عليَّ محمدُ بنُ عبد الملكِ، وقال: لِمَ لا تسألُه؟ فاجتهدتُ في اختيار مسألةٍ سهلةٍ؛ لأقارب يعقوبَ، فقلتُ له: ما وزنُ "نَكْتَلْ" مِن الفعل من قول الله عز وجل: {أَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ} فقال: "نَفْعَلْ". فقلتُ له: ينبغي أن يكونَ ماضيه "كَتَلَ"! فقال: لا، ليس هذا وزنه، إنما هو "نَفْتَعِلْ". فقلتُ له: فَنَفْتَعِل كم حرفًا هو؟ قال: خمسة أحرف. فقلتُ له: فَنَكْتَلْ كم حرفًا هو؟ قال: أربعة أحرف. قلتُ: فكيف تكون أربعةُ أحرفٍ بوزنِ خمسةٍ؟! فانقطع وخَجِل وسَكَتَ، فقال محمد بن عبد الملك: فإنما تأخذ كلَّ شهرٍ ألفي درهم على أنك لا تُحسِن ما وزنُ "نَكْتَلْ"!! فلما خرجنا قال لي يعقوب: يا أبا عثمان، هل تدري ما صنعتَ؟ فقلتُ له: والله لقد قاربتُك جهدي، وما لي في هذا ذنب. وقال لي أبو بكر -وقد سئل عن تاريخ أبي يوسف، وسِنِّهِ-: فقال لي: حدثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن نصر الضُّبَعِيُّ -وذكر أمر وفاته فقال: كان سبب ذلك أنه حضر مجلس النِّدام للمتوكل، فدخل عليه ابناه المعتز والمؤيد، فقال له: يا يعقوب، أيُّما خير: الحسين والحسن، أم هذان؟

125 - عمرو بن أبي عمرو الشيباني

فقال له يعقوب: قَنْبرٌ خيرٌ منهما، في كلام جرى قد ذكره أبو جعفر الضُّبَعِيُّ نَدَّ عن حِفظي بعضُ ألفاظِه، فأمر به المتوكل فدِيس بطنُه، وحُمِل ميِّتًا في بساط، ووُجِّه إلى منزلِه، ووَجَّه المتوكلُ إلى ابنه بعشرة آلاف درهم، ولم يكن يعقوبُ بلغ ثمانين. قال أبو العباس: كان سبب قعود يعقوب بن السكيت وقصدهم إياه أنه عمل شعر أبي النجم العِجْلي وجوَّده، فقلتُ: ادفعه إليَّ لأنسخه. فقال: عليَّ يمين يا أبا العباس بالطلاق أنه لا يخرج من يدي، ولكنه بين يديك فانسخه. فقلت له: فأحضر يوم الخميس. فلما وصلتُ عرف أصحابنا فحضروا بحضوري، ثم انتشر ذكر ذلك فحضر الناس. وحكى عليُّ بنُ الفراء المصري: أنه توفي يعقوب بن السكيت في سنة أربع وأربعين ومئتين. 125 - عمرو بن أبي عمرو الشيباني توفي سنة إحدى وثلاثين ومئتين. 126 - أحمد بن عبيد هو أبو جعفر أحمد بن عبيد بن ناصح، يعرف بأبي عَصِيدةَ. 127 - أبو موسى السامري هو أبو موسى هارون بن الحارث السامري.

الطبقة الرابعة

الطبقة الرابعة 128 - أبو محمد ثابت بن أبي ثابت وممن أخذ عن أبي عبيد القاسم بن سلام: أبو محمد ثابت بن أبي ثابت. 129 - الطوسي هو علي بن عبد الله الطوسي، وكان من أعلم أصحاب أبي عبيد. 130 - أبو عبد الرحمن أحمد بن سهل ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 131 - أحمد بن عاصم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 132 - علي بن ثابت بن أبي ثابت ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...

133 - أبو منصور نصر بن داود الصاغاني

133 - أبو منصور نصر بن داود الصاغاني ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 134 - محمد بن وهب المسعري ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 135 - محمد بن سعيد الهروي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 136 - محمد بن المغيرة البغداذي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 137 - عبد الخالق بن منصور النيسابوري ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...

138 - أحمد بن يوسف الثعلبي

138 - أحمد بن يوسف الثعلبي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 139 - أحمد بن القاسم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 140 - إبراهيم بن عبد العزيز بن عبد الرحمن البغوي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 141 - علي بن عبد العزيز ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 142 - أحمد بن يحيى ثعلب ومن هذه الطبقة: أحمد بن يحيى ثعلب، وقد مر ذكره.

143 - محمد بن الحسن الأحول

143 - محمد بن الحسن الأحول كان يورق بالأجرة، وكان قليل الحظ من الناس، وجمع دواوين مئة وعشرين شاعرًا. 144 - بندار الأصبهاني قال أبو علي إسماعيل بن القاسم: سمِع مِن بندارٍ: ابنُ كيسان. قال أبو عليٍّ: حدثني أبو بكر محمد بن القاسم، عن أبيه القاسم قال: كان بندارٌ يحفظ مئة قصيدة أول كل قصيدة: "بانت سعاد". 145 - القاسم بن محمد بن بشار بن الحسن الأنباري والد أبي بكر، كان مُحدِّثًا ثقةً، صاحبَ لغةٍ وعربيَّةٍ، وبرع ابنه وألَّف الكتبَ، وسُمِع عليه في حياتِه؛ لأنَّ أبا بكر كان يُملي سنةَ ثلاثمئة وسنة إحدى وثلاثمئة. وتوفي القاسم ببغداذ، سنة أربع وثلاثمئة. 146 - عبد الله بن رستم مستملي يعقوب. 147 - أبو الفوارس المرورُّوذِيُّ هو داود بن محمد بن صالح أبو الفوارس المرورُّوذِيُّ. توفي بمصر سنة ثلاث وثمانين ومئتين.

الطبقة الخامسة

الطبقة الخامسة 148 - أبو عمر المطرّز وممَّن روى عن ثعلب: أبو عمر المطرّز؛ وهو أبو عمر محمد بن عبد الواحد، يعرف بغلام ثعلب، توفي ببغداذ سنة خمس وأربعين وثلاثمئة. 149 - محمد بن الحسن هو محمد بن الحسن بن يعقوب بن الحسن بن مِقسمٍ العطار المقرئ. 150 - أبو عبد الله الحسين بن أحمد الفزاري ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...

النحويون واللغويون المصريون

النحويون واللغويون المصريون

الطبقة الأولى

الطبقة الأولى من النحويين واللغويين المصريين 151 - ولاد المصادري التميمي هو الوليد بن محمد التميمي المصادري، أصله بصري ونشأ بمصر، ورحل إلى العراق، وسمع بها على العلماء، ولم يكن بمصر كبير شيء من كتب النحو واللغة قبله. حدثني محمد بن يحيى النحوي قال: بلغني أن ولَّادًا كان يأخذ النحو عن رجل من أهل مدينة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يكن المدنيُّ من الحُذَّاقِ بالعربية، فسمع ولادٌ بالخليل بن أحمد، فرحل إليه فلقيه بالبصرة، وسمع منه ولازمه، ثم انصرف إلى مصر، وجعل طريقه على المدينة، فلقي مُعلِّمه فناظره، فلما رأى المَدَنِيُّ تدقيقَ ولاد للمعاني وتعليله في النحو قال: لقد ثقبتَ يا هذا بعدنا الخردل. قال أبو بكر: وقد بلغني أنَّ صاحب هذه القصة هو المهلبيُّ تلميذ الخليل، وهو الذي كان يهاجي عبد الله بن أبي عُيَيْنَةَ. 152 - محمود بن حسان أخذ عنه أبو الحسين محمد بن الوليد. 153 - أبو الحسن الأعز أخذ عن علي بن حمزة الكسائي، ولقيه قوم من أهل الأندلس، وحملوا عنه، وذلك سنة سبع وعشرين ومئتين.

الطبقة الثانية

الطبقة الثانية 154 - الدِّينَوَرِيُّ هو أبو علي أحمد بن جعفر، قدم مصر، وأصله من الدِّينَوَرِ، وقدم البصرة فأخذ عن المازني وحمل عنه كتاب سيبويه، ثم رحل إلى بغداذ فقرأ على أبي العباس المبرد كتاب سيبويه، ثم نزل مصر، وكان خَتَنَ أبي العباس ثعلب زوج ابنته، وكان يخرج من منزل خَتَنِه أبي العباس فيتخطَّى أصحابَه، ويمضي ومعه مِحْبَرَتُه ودفتره فيقرأ كتاب سيبويه على أبي العباس المبرد، فكان يعاتبه أحمد بن يحيى ثعلب على ذلك ويقول: إذا رآك الناس تمضي إلى هذا الرجل وتقرأ عليه، يقولون ماذا!! فلم يكن يلتفتُ إلى قوله. وكان أبو علي حسن المعرفة، ثم قدم مصر وألَّف كتابًا في النحو سماه المُهذَّب، وجلب في صدره اختلاف البصريين والكوفيين، وعزا كل مسألة إلى صاحبها، فلم يعتلَّ لواحد منهم ولا احتج لمقالته، فلما أمعن في الكتاب ترك الاختلاف، ونقل مذهب البصريين، وعول في ذلك على كتاب الأخفش سعيد. وله كتاب مختصر في ضمائر القرآن، استخرجه من كتاب المعاني للفراء. ولما قدم علي بن سليمان الأخفش مصر، خرج عنها أبو علي الدينوري، ثم عاد إليها بعد خروج الأخفش إلى بغداذ. وتوفي أبو علي الدينوري بمصر سنة تسع وثمانين ومئتين، وعنه أخذ أبو الحسين بن ولاد وغيره. 155 - أبو بكر بن المزرّع هو أبو بكر يموت بن المزرّع، وكان سكنه في رحبة الزَّنبرِيّ، ولقي أبا حاتم، والرياشيَّ، وعبدَ الرحمن بن أخي الأصمعي، ورُفَيْعَ بنَ سلَمة؛ وأخذ عن عمرو بن بحر الجاحظ.

156 - أبو زهرة

قال أبو بكر: وحدثني أبو بكر محمد بن معاوية القرشي، حدثنا أبو بكر بن المزرَّع، حدثنا رُفَيع بن سلمة قال: قال أبو عبيدة: كان في مقبرة بني حِصْن مَكَارِيٌّ يقال له: "نابٌ". يحمل النساءَ على حمار له، وكانت به عُجمة، فمر به الفرزدقُ ومعه ابنه لَبَطَة، فقال له: يا نابُ، كم علا ظهرَ هذا الحمار مِن كَعْثَبٍ نفيسٍ! فقال له: نعم يا مولاي، ما زالت النَّوارُ تركبُه. فقال لَبَطَةُ لأبيه: عرَّضتَنا لهذا العِلْج يا أبَهْ! حدثنا يموت بن المزرّع، حدثنا محمد بن حُمَيد، عن أبي عبيدة قال: لما مات الحجاج رثاه الفرزدق فقال: ابكِ على الحجَّاجِ عَولكَ ما دجا ... ليلٌ بظُلْمَتِه ولاحَ نَهَارُ إنَّ القبائلَ من نِزارٍ أصبحتْ ... وقُلُوبُها جَزَعًا عليكَ حِرَارُ لهْفى عليكَ إذا الطِّعَانُ بمأْزِقٍ ... تركَ القَنَا وطوالُهُنَّ قِصارُ إنَّ الرَّزيَّةَ من ثقيفٍ هالِكٌ ... ترك العُيُونَ ونَومُهُنَّ غِرارُ حدثنا يموت، حدثنا الرياشي قال: سمعت الأصمعي يقول: أنشدتُ يونسَ بنَ حبيبٍ يومًا: إنَّ الرِّياحَ لَتُمسي وهي فاترةٌ ... وجُودُ كفِّك قد يُمسِي وما فَتَرَا فقال لي يونسُ: مَن يقولُ هذا؟ فقلتُ: الفرزدقُ. فقال: ويلك! فيمن؟ فقلتُ: في بشرِ بنِ مروانَ. قال: كان واللهِ الفرزدقُ مِن مدَّاحي العربِ. 156 - أبو زهرة هو عبد الله بن فزارة النحوي، توفي سنة اثنتين وثمانين ومئتين.

157 - أبو الحسين

157 - أبو الحسين هو محمد بن الوليد بن ولَّاد التميمي، أخذ عن أبي علي الدينوري، وعن محمود بن حسان، وغيرهما بمصر، ثم رحل إلى العراق وأقام بها ثمانية أعوام، ولقي المبرد وثعلبًا، وكان حسنَ الخطِّ، صالح الضبط، وتزوَّج أبو عليٍّ الدِّينوريُّ أُمَّه. وله في النحو كتابٌ سماه "المُنمَّق" لم يصنع فيه شيئًا، وقرأ على المبرد كتابَ سيبويه. أبو بكر: وحدثنا محمد بن يحيى النحوي الرياحي، حدثنا أبو القاسم بن ولَّادٍ قال: رحل أبي أبو الحسين محمد بن ولَّاد إلى العراق -وفيها أهله- لأخذ كتاب سيبويه عن أبي العباس المبرد، وكان المبرّد لا يُمكِّن أحدًا من نُسخَتِه، وكان يَضَنُّ بها ضَنًّا شديدًا، فكلَّم ابنَه فيه على أن يجعل له في كل كتاب منه جُعلًا قد سمَّاه، فأجابه إلى ذلك، فأكمل نسخَه. ثمَّ إنَّ أبا العباس ظهر على ذلك بعدُ، فسعى بأبي الحسين إلى بعض خدمة السُّلطان ليحبسه له، ويعاقبه في ذلك، فامتنع منه أبو الحسين بصاحب خراج بغداذ فيها يومئذ، وكان فيها أبو الحسين يُؤدِّب ولده، فأجاره منه، ثمَّ إنَّ صاحب الخراج أَلَظَّ بأبي العباس يطلب إليه أن يقرأ عليه أبو الحسين الكتاب، حتى فعل. فقرأتُه أنا على أبي القاسم ابنه، وهو ينظرُ في ذلك الكتاب بعينه، وقال لي: قرأتُه على أبي مرارًا؛ هذا كله في الأولى. وتوفي أبو الحسين سنة ثمان وتسعين ومئتين، وكان قد بلغ الخمسين، وغلب الشيب عليه، وكان يَخْمَع من رجله. 158 - أبو الطاهر هو أحمد بن إسحاق الحميري، ويعرف بالجبر، وتوفي سنة إحدى وثلاثمئة.

الطبقة الثالثة

الطبقة الثالثة 159 - أبو العباس بن ولَّاد هو أحمد بن محمد بن الوليد بن محمد التميمي، وكان بصيرًا بالنحو، أستاذًا فيه، ورحل إلى بغداذ، ولقي أبا إسحاق بن السَّرِيِّ الزَّجَّاج وغيره، وأخذ عنهم. سمعتُ إسماعيل بن القاسم قال: كان أبو إسحاق الزجاج يُفضِّل أبا العباس بنَ ولَّاد ويُقدِّمه على أبي جعفر النحاس، وكانا جميعًا تلميذيه، وكان الزجاج لا يزال يُثني على مَن قَدِم بغداذَ مِن المصريين، ويقول: لي عندكم تلميذٌ؛ من حاله وشأنه ... فيقالُ له: أبو جعفر بن النحاس؟ فيقول: لا، هو أبو العباس بن ولاد. حدثني محمد بن يحيى الرياحي قال: بلغني أن بعض ملوك مصر جمع بين أبي العباس بن ولاد، وبين أبي جعفر بن النحاس، وأمرهما بالمناظرة، فقال ابن النحاس لأبي العباس: كيف تبني مثلَ "افْعَلَوْتُ" مِن "رَميتُ"؟ فقال له أبو العباس: أقول: "ارْمَيَيْت". فخطَّأه أبو جعفر وقال: ليس في كلام العرب "افْعَلَوْت"، ولا "افْعَلَيْت". فقال أبو العباس: إنما سألتَني أن أُمثِّلَ لك بِناءً فَفعلتُ. وإنَّما تغفَّله بذلك أبو جعفر. قال أبو بكر: وأحسنَ أبو العباس بن ولاد في قياسه، حين قلب الواوَ ياءً، وقال في ذلك بالمذهب المعروف؛ لأن الواو تنقلب في المضارعة ياءً لو قيل، ألا ترى أنك كنتَ تقول فيه: "يَرْمِي"، فلذلك قال: "ارْمَيَيْت"، ولم يقل: "ارْمَيَوْت"! والذي ذكره أبو جعفر أنه لا يقال: "افْعَلَيْت" صحيحٌ، فأما "ارْعَوَيْت"، و"اجْأَوَيْت" فهو على مثال "افْعَلَلْت" مثل: "احْمَرَرْت"، وانقلبت الواو الثانية ياءً لانقلابها في المضارعة، أعني "يَرْعَوِي"، ولم يلزمها الإدغام كما لزم "احْمَرَّ"؛ لانقلاب المثل الثاني ألفًا في "ارْعَوَى".

160 - أبو القاسم بن ولاد

وقد بينتُ ذلك في كتابي المؤلَّف في "أبنية الأسماء والأفعال"؛ وقد كان الأخفشُ سعيدٌ يبني من الأمثلة ما مثل له، وسئل أن يبني عليه؛ وإن لم يكن ذلك في كلام العرب؛ وفي ذلك حجة لأبي العباس بن ولاد فيما تغفله فيه أبو جعفر، وإن كان قولًا قد رغب عنه جماعة من النحويين. وتوفي سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمئة. 160 - أبو القاسم بن ولاد هو عبد الله بن محمد بن الوليد، وكان دون أخيه في العلم، وكان عنده كتاب أبي الحسين أبيه الذي انتسخ من أصل المبرد، وكان يُقرأ عليه الكتاب بعد أخيه أبي العباس. 161 - أبو جعفر بن النحاس هو أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل المعروف بالنحاس، أخذ عن أبي إسحاق الزجاج. وكان واسع العلم، غزير الرواية، كثير التأليف؛ ولم تكن له مشاهدة، فإذا خلا بقلمه جود وأحسن. وله كتب في القرآن مفيدة، منها كتاب معاني القرآن، وكتاب إعراب القرآن، جلب فيه الأقاويل، وحشد الوجوه، ولم يذهب في ذلك مذهب الاختيار والتعليل، وكان لا يتكبر أن يسأل الفقهاء وأهل النظر ويفاتشهم عما أشكل عليه في تأليفاته، وكان يحضر حلقة ابن الحداد الشافعي، وكانت لابن الحداد ليلة في كل جمعة يُتكَلَّم فيها عنده في مسائل الفقه على طرائق النحو، فكان لا يدع حضور مجلسه تلك الليلة. وله كتاب في تفسير أسماء الله -عز وجل- أحسن فيه، ونزع في صدره بالاتباع للسنة والانقياد للآثار. وله في ناسخ القرآن ومنسوخه كتاب حسن،

162 - أبو النضر

وكتاب في اختلاف البصريين والكوفيين في النحو، سماه "المُقْنِع"، وكتاب في أخبار الشعراء. حدثني قاضي القضاة منذر بن سعيد قال: أتيتُ ابنَ النحاس في مجلسه، فألفيتُه يملي في أخبار الشعراء شعر قيس بن معاذ المجنون، حيث يقول: خَلِيلَيَّ هَلْ بِالشَّامِ عَينٌ حَزِينةٌ ... تُبَكِّي على نَجدٍ لَعلِّي أعينُها قَدَ اسْلمها الباكون إلَّا حمامةً ... مُطَوَّقَةً باتت وبات قرينُها فلما بلغ هذا الموضع قلتُ: باتا يفعلانِ ماذا، أعزك الله! فقال لي: وكيف تقول أنت يا أندلسي؟ فقلتُ: "بانت وبان قرينها" فسكت. قال القاضي: فما زال يستثقلني بعدها حتى منعني "العَيْنَ"، وكنتُ ذهبتُ إلى الانتساخ من نسخته، فلما قطع بي قيل لي: أين أنتَ مِن أبي العباس بن ولَّادٍ؟ فقصدتُه فوجدتُ رجلًا كاملَ العلم والأدب، حسنَ المروءة، وسألته الكتاب، فأخرجه إليَّ، ثم تقدَّم أبو جعفر النحاس حين بلغه إباحة أبي العباس كتابه إليَّ، وعاد إلى ما كنت أعرفه منه. وكان أبو جعفر لئيمَ النفس، شديدَ التقتير على نفسه، وكان ربما وُهِبت له العمامة، فيقطعها على ثلاث عمائم. وكان يلي شراء حوائجه بنفسه، ويتحامل فيها عن أهل معرفته. وتوفي بمصر سنة سبع وثلاثمئة. 162 - أبو النضر هو محمد بن إسحاق بن أسباط، أخذ عن الزجاج، وله كتاب في النحو سماه كتاب "العيون والنكت"، ذهب فيه إلى حد الاسم والفعل والحرف، وتلا ذلك بذكر شيء من أبواب الياء والواو، ولم يصنع فيه شيئًا.

163 - علان

163 - عَلَّان هو علي بن الحسن. حدثني محمد بن يحيى قال: كان عَلَّان من ذوي النظر والإدقاق في المعاني، وكان قليل الحفظ لأصول النحو، فإذا حفظ الأصل تكلم عليه بكلام حسن، وجود في التعليل، ودقق في القول ما شاء. وتوفي بمصر، في شوال سنة سبع وثلاثين وثلاثمئة.

النحويون واللغويون القرويون

النحويون واللغويون القرويون

الطبقة الأولى

الطبقة الأولى من النحويين واللغويين القرويين 164 - أبو مالك الطِّرِمَّاح هو أمان بن الصّمصامة بن الطِّرِمَّاح بن حكيم، وكان شاعرًا عالمًا باللغة، حافظًا لشعر جدِّه. قال أبو علي الحسن بن أبي سعيد البصري: كانت المهالبة أيام ولايتهم إفريقية تكرم أبا مالك. واطرحه ابن الأغلب إذ صار إليه الأمر؛ لهجاء جده الطِّرِمَّاح بن تميم. وقال له ابن فروخ -وكان يجالسه كثيرًا-: لِم قيل لجدك: "الطِّرِمَّاح"؟ وما "الطِّرِمَّاح" في كلام العرب؟ فقال: أما في كلامنا -معشر طيئ- فإنه الحية الطويل، أنشد أبو عمرو الشيباني في الطِّرِمَّاح: * فهو طِرِمَّاحٌ قليلٌ طَبَعُهْ * * مثلُ الحصان جِيبَ عنه بُرْقُعُهْ * * يُزَعزِع الدَّلْوَ ولا تُزَعْزِعُهْ * وقال أحمد بن أبي الأسود النحوي: حدثني أبو الوليد المهري قال: أبطأتُ عن أبي مالك بن الصَّمْصَامَةِ -وكان مريضًا-، فكتب إليَّ بهذه الأبيات: أبلِغ المهريَّ عنِّي مألُكًا ... أنَّ دائي قد أصار المخَّ ريرا فإذا ما متُّ فانعَم وأقم ... وتَمَلَّ العيشَ في الدُّنيا كثيرا كنتُ في المرضى مريضًا مُلْصَقًا ... فلقد أصبحتُ في المرضى أَميرا

165 - عياض بن عوانة

165 - عياض بن عَوانة هو عياض بن عَوانة بن الحكم بن عوانة الكلبي النحوي؛ وكان جد الحكم بن عوانة، عالمًا بأيام العرب وأنسابها، وكان له قدر وحال، ووَلِي ولاياتٍ كثيرةً، وكان أبوه عوانة عالمًا أديبًا، وكان من أهل الكوفة، وكان إذا أراد أن يسأل الرجل: أعربي هو أم مولى؟ قال له: أصليبة أنت أم من أنفسهم؟ فإن كان عربيًّا قال: "صليبة"، وإن كان مولًى قال: من أنفسهم. وعنه أخذ المهري كثيرًا من النحو والشعر، وكانت المهالبة تكرمه. وروت الرواة عن عياض أنه قال: أقمتُ زمنًا لا عهد لي بصلة رَوْح بن حاتم، حتى أَرملتُ وأملقتُ، فركبتُ يومًا بغلةً، وخرجتُ حتى رقيتُ على الكدية السوداء المطلَّة على القنطرة، وكانتِ العربُ تضع أثقالها في دخولها إفريقية بالقيروان، فسُمِّيت القيروان؛ لأنها الأثقال في كلام العرب، فإني لعلى الكدية إذ أتاني رسولٌ يشتدُّ إليَّ، فقال: أجب يابن عوانة. فمضيتُ وما أحسبُ أن بعثه إليَّ ابتداءً من غير أن أكون توسلتُ للوصول إليه، إلا لأمرٍ نُمِي عني إليه من القول. فلما أتيتُ نزلتُ على بابه، فاستؤذن لي فصعدتُ، فإنه لفي العلو المطل مع جاريته طلة الهندية، فسلمتُ فأحسن الرد، فكأن روعي سكن، ثم قال: ما حالُك؟ فقلتُ: مُقِلّ مُعدِم، أبو عيالٍ ولا مال. قال:

قد بلغتَ الغيثَ فتخيَّم. أي: ألقِ خيمتَك. فقلتُ: الحمد لله، ذلك والله المأمول المرجو من الأمير. قال: ما لك من العيال؟ قلتُ: ثلاثون. قال: وكان أبو هريرة قهرمانه أكرم حضير ومشير، فقال: هم أكثر من ذلك، إلى السبعين بين حُزانة وقرابة وأصهارٍ، وقد اصطموا إليه؛ لما يأملون من رأي الأمير ويرجونه، وما هو بذي ماشية ولا غاشية، ولا بتاجر. قال: قد أمرتُ لك بخمسمئة دينار، فادفعها إليه يا أبا هريرة الساعة، ومن القمح والشعير والتبن والطلاء، والزيت والخل، ما قال: إنه يقوم به إلى رأس الحول. قال: فوزن لي المال، وقال لأصحاب الخراج: احسبوا كم له في هذه السنة مما أمر به. فجعلوا يعدون ويعقدون، وكان السعر قد نزا، فقال لي أبو هريرة: هل لك إلى ما هو أقرب من هذا، تأخذه ثمنًا؟ قلتُ: ما أكره ذلك. فأعطاني خمسمئة دينار أخرى، ومضيتُ. - الحُزانة: أهله الذين يحزن لهم. وما أنسى محضر طلة يومئذ، وقولها: عالم البلد أهل لكل ما أُسدِي إليه! فانصرفتُ بأحسن حال. وكان عياض ممن يقرض الشعر، ويجود فيه.

الطبقة الثانية

الطبقة الثانية 166 - إبراهيم المهري هو إبراهيم بن قَطَن المهري، أخو أبي الوليد عبد الملك. قال أبو علي الحسن بن أبي سعيد: سمعت بعض المشيخة يقول: كان سببُ طلب أبي الوليد المهري للعربية والنحو: أن أخاه إبراهيم رآه يومًا وقد مدَّ يده إلى بعض كتبه يقلبها، فأخذ كتابًا منها فجعل يقرؤه، فجذبه من يده وقال له: ما لك ولهذا! وأسمعه كلامًا وبَّخه به، فغضب أبو الوليد لما قابله به أخوه، فأخذ في الطلب حتى علا عليه، وعلى أهل زمانه كلهم، فاشتهر ذكره وسما قدره، فليس أحد من الخاصة والعامة يجهل أمره، ولا يعرف إبراهيمَ إلا القليلُ من الناس، وكان إبراهيم يرى دين الإباضية. 167 - أبو الوليد المهري هو عبد الملك بن قَطَن المهري، شيخ أهل اللغة والعربية والنحو والرواية، ورئيسهم وعميدهم، والمقدم في عهده وزمانه عليهم. وكان من أحفظ الناس لكلام العرب وأشعارها، ووقائعها وأيامها، وكانت الأشعار المشروحة تُقرأ عليه مجردة من الشرح، فيشرحها ويفسر معانيها، فلما دخلت المشروحات نظر طلبة العربية والنحو فيها وفيما كانوا رووا عنه منها، فلم يجدوا في شرحه خلافًا لما قال أصحاب الشرح، ولا وجدوا عليه في روايته وتفسيره شيئًا من الخطأ. وكان لقي جماعة من العلماء بالعربية والمعروفين بالرواية، منهم: ابن الطرماح، وعياض بن عوانة، وأبو عبد ارحمن المقرئ الكوفي، وقتيبة النحوي، وكثير من الأعراب منهم أبو المنيع الأعرابي. وله كتب كثيرة ألفها، من ذلك: كتاب في تفسير مغازي الواقدي، وكتب

تسمى كتب الألفاظ، وكتاب في اشتقاق الأسماء مما لا يأت به قطرب. وكان شاعرًا خطيبًا بليغًا، وقام بخطبة بين يدي زيادة الله بن محمد بن الأغلب -وهو أمير إفريقية يومئذ- طويلة فصيحة؛ ذهب فيها إلى تقريظه، ووصلها بشعر فيه. وكان المهري مع أدبه وعلمه أحد المبذرين في معيشته، ومن ذوي النهامة والإغراق في مطاعمه، لا قصد له ولا رفق، لا يمسك دينارًا، على كثرة ما يوصل ويجبى، حتى إن بعضهم كان يقول: ينبغي أن يولَّى عليه، واستمر على حاله هذا حتى توفي، وكان يتكل على المفضلين وكثرتهم من أهل الزمان لمعرفتهم بحقه. وكتب رجل من أصحاب المهري إليه كتابًا فأطال وكثر، فلم يأت بحسن، فكتب إليه المهري: "خير من الإطالة السكوت، وفي القصد إلى الحاجة قطع لمسافة الإطالة". قال أبو علي الحسن بن أبي سعيد: أخبرني محمد بن وليد المؤدب قال: أخبرني أحمد بن أبي الأسود النحوي قال: لما ولَّى زيادةُ اللهِ بنُ إبراهيمَ بنِ الأغلبِ ابنَ أخيه أبا الأغلبِ جزيرةَ صقلية -وكان أبو الأغلب غاية في الجود والكرم-، بعث في أبي الوليد المهري فقال له: إن الأمير -أكرمه الله- ولَّاني جزيرةَ صقلية، فاخرج معي صاحبًا لي مؤانسًا. فأبى من ذلك واعتذر إليه، وقال: لا أقدر على ركوب البحر. فقال له: أردتُ غناك، وأراد الله بك خلافَ ذلك، ارفع المنديلَ الذي بين أيدينا. فرفعه، فإذا بدنانير كثيرة، قال: اختر منها مئة دينار، وانصرِفْ. ففعل، وبعث في ابن غورك فعرض عليه صحبته، فسارع إلى ذلك، فأغناه وأغنى عقبه. ويروى عن المهري قال: قال لي محمد بن يزيد، وكان من أفصح حجازي قدم علينا، وقد أتيته بكتب ينظر فيها، فقال: ماذا بكتبك من الطرافة؟

كيف قولك للشعر؟ قلت: إني لأرثي فأجيد المراثيَ. فقال: الرثاء أشد الشعر على قائله. ومدها. وقال المهري: دخل علينا أعرابي من اليمن يقال له: "أبو هلاك". ثم خرج إلى تَاهَرْت، ثم إلى بلد السودان، فأتى عليه يوم له وَهَج وحَرٌّ شديد وسمم في تلك الرمال، فنظر إلى الشمس مُصْحرة راكدة على قمم الرؤوس وقد صَمَحتِ الناسَ، فقال مُشيرًا إلى الشمس: أما والله لئن غرزتِ في هذه الرمال لطالما رأيتُكِ ليلة دليلة بتَاهَرْت. يعني كثرة أندائها ورِهامها وأمطارها. وحدثنا أبو عبد الله الداروني قال: حدثني حمدون النعجة النحوي قال: كنا عند المهري يومًا، فقال: اخرجوا بنا إلى مأجل مهوية نتفرج. وكانت داره بالقرب من باب سوق الأحد، فخرجنا وجلسنا حوله، إلى أن مر بنا نحو عشرين بغلًا أو أكثر، ومعها رجل راكب، فلما رأى المهري عدل إليه ونزل، ثم قال له: يقرأ عليك مولاي السلام، ووجه إليك بهذه الدواب، وهي محملة طعامًا وعسلًا وخلًّا وزيتًا، وبهذه العشرين دينارًا فاقبضها، فقبضها منه تكرهًا، ثم دمع فقال: ذهب الناس، إنا لله وإنا إليه راجعون! أبو علي بن حميد يوجه إليَّ بهذا! قال حمدون: فقلت له: احمد الله واشكره؛ فإن هذا لكثير. قال: فنظر إليَّ وهو مغضب، ثم قال: هو كثير لك ولمثالك، وأما لي فلا! وحدثني الداروني قال: مر المهري بناحية القيسارية عند الصيارفة، فقام إليه فتًى كان يختلف إليه ويسمع منه، فقال له: إلى أين أصلحك الله

168 - محمد بن صدقة

يا أبا الوليد؟ قال: إلى سوق الطعام، أشتري بهذين الدينارين قمحًا. فمد يده إلى صرَّة كانت في كمه، فدفعها إليه وقال: استعن بهذا -أصلحك الله- على شرائك للقمح. فأخذها ثم مضى غير بعيد وهو يظن أنها دراهم، ففتحها فإذا بها خمسون دينارًا، فانصرف إليه، فلما رآه تلقاه، فأخرج المهري الصرة فقال: أخافُ أن تكون غلِطتَ؛ إنها دنانير! فقال: ما غلِطتُ -أصلحك الله-، والله إني محتشم من التقصير. وقال الداروني: ومشيتُ مع أبي الوليد المهري إلى أن مررنا بالجزارين، فقام إليه رجل منهم فقال: يا أبا الوليد، أضررتَ بي؛ لأن بضاعتي كلها عندك، ولا بد من قبض مالي قِبَلك. فاعتذر إليه، وسأله الصبر عليه، فأبى؛ ومر بنا رجل فقال للجزار: كم لك على الشيخ؟ فقال: عشرة دنانير. فقال: هي عليَّ، مُرَّ حتى أدفعها إليك. فمضى معه، وظننتُ أنه من إخوان المهري، وظن المهري أنه من أجلي فعل له ذلك. فلما صرنا إلى داره قال لي: مَن الرجل الذي ودى عني هذه الدنانير؟ قلت: ما أعرف، وما كنت أظن إلا أنك عارف به. قال: فسل عنه. فسألت، فإذا هو رُومِيٌّ مِن أهل العطارين، وكان الناس من تعظيم الأدب والعلم على خلاف ما هم اليوم. وعُمِّر المهري عمرًا طويلًا، وتوفي يوم الجمعة لعشر خلون من رمضان سنة ثلاث وخمسين ومئتين. 168 - محمد بن صدقة هو محمد بن صدقة المرادي الأطرابلسي. كان عالمًا باللغة، وكان يتقعر في كلامه ويتشادق. ودخل يومًا على أبي الأغلب بن أبي العباس بن إبراهيم بن الأغلب، وهو أمير أطرابُلُس، فتكلم وأغرب وجاوز المقدار، فقال له أبو الأغلب: أكان أبوك يتكلم بمثل هذا الكلام؟ فقال: نعم، أعز الله الأمير، وأُمِّيَه! يريد: وأُمِّي أيضًا كانت تتكلم بمثل هذا. فقال أبو الأغلب: ما ننكر لله أن يُخرِجَ بغيضًا من بغيضين! وكان يقرض الشعر.

169 - أبو سعيد بن غورك

169 - أبو سعيد بن غورك هو أبو سعيد بن حرب بن غَوْرك. قال الحسن بن أبي سعيد البصري: كان يقال: إنه أعلم من المهري بالقرآن وبحدود النحو، وكان المهري أوسع منه رواية، وأعلم باللغة والشعر، وكان كثير الوقار، قليل الكلام؛ وكان يُنسَب من أجل ذلك إلى الكِبْر، وكان لا يُتبسَّم في مجلسه فضلًا عن أن يُضْحك. حدثنا إسحاق بن خُنَيس قال: بينما نحن مع ابن غَوْرك في مجلسه، إذ أقبل إليه رجل زعم أنه أقبل من المشرق، فقال له: حركات الإعراب كم هي؟ فقال ابن غورك: ثلاث: الرفع، والنصب، والحفض. قال: بقي عليك، بل هي أربع. فقال له: وما الرابعة؟ قال: الخَضْخَضة. فقال له ابن غورك: ارفع زيدًا. قال: زيدٌ. قال: انصب زيدًا. قال: زيدًا. قال: اخفض زيدًا. قال: زيدٍ. قال: خَضْخِضْ زيدًا. قال: زَزَيْدٌ. فضحك وضحكنا، ثم ضحكنا كثيرًا، ولم يَنْهَنَا عن ذلك. وكانت له أشعار كثيرة فصيحة. 170 - أحمد بن أبي الأسود هو أحمد بن أبي الأسود النحوي، وكان غاية في علم النحو واللغة؛ وهو من أصحاب أبي الوليد المهري، وله أوضاع في النحو والغريب، ومؤلفات حسان. وكان شاعرًا مجيدًا، وكان قد عتب على ابن الزيدي بعد مودة وتواصل، فركب إليه ابن الزيدي، وسأله الرجعة إلى ما كان عليه، فلم يُجِبه، وكاتبه مرارًا. وجاء مرة رسوله ببطاقة، وعنده جماعة من طلاب الأدب، فلما قرأها مدَّ يده إلى القلم فأخذه وكتب إليه: أما بعد؛ فإن طول السواد يورث الملال، وقلة غشيان الناس أفضلُ؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا". وللقلوب نَبْوة، فإن أكرِهَتْ لم يكن لما يتولَّد منها لذّة،

171 - حسان الجاحظ

ولا بد من استجمامها إلى غايتها. أسأل الله أن يجعلها منا عَزْمة، ومنك سَلْوة، والملتقى -إن شاء الله- في داره وجواره؛ حيث لا تحاسُب ولا تصاحُب. 171 - حسان الجاحظ أخذ عنه الطَّرْزِيُّ.

الطبقة الثالثة

الطبقة الثالثة 172 - حمدون النحوي المعروف بالنَّعجة؛ وهو أبو عبد الله حَمْدون بن إسماعيل؛ وكان مُقدَّمًا بعد المهري في اللغة والنحو، وكان يقال: إنه أعلم بالنحو خاصة من المهري؛ لأنه كان يحفظ كتاب سيبويه، وله كتب في النحو، وأوضاع في اللغة؛ وكان أحد المتشادقين في كلامه، والمتقعِّرين في خطابه، وكان مُعلِّمُه المهري على خلاف ذلك، وكان المهري من عقلاء العلماء، ولم يكن حمدون موصوفًا بالعقل، وكان في شعره تكلُّف وضعف، وهو في العربية والغريب والنحو الغاية التي لا بعدها. وقال أبو إسحاق بن نيَّار: أخبرنا حمدون النعجة قال: كنتُ جالسًا عند أبي الوليد المهري، فأردت شرب ماء، وكانت له جاريةٌ تُسمَّى: "سَلَّامَة"، وربما سمَّاها: "سلْ لئيمة" إذا غضب عليها، فقلتُ: يا سلَّامة، اسقيني ماءً. فأبطأتْ، فقلت: * أرى "سَلْ لَئيمةَ" قد أبطأتْ * فقال المهري: * وعِلَّةُ إبطائها في الكسلْ * فلا تُعْلمنْ نظرًا في الكتاب ... وما شئت من علم نحوٍ فسلْ فقلتُ: فإنك بحرٌ لنا زاخرٌ ... يَظَلُّ وأمواجُه تَرْتَكلْ

173 - أبو محمد المكفوف

فقال المهري: كريمُ النِّجار إذا جئتَه ... تلقَّاك بالبِشْر لا بالزَّلَلْ فإنْ يكُ حَمْدونُ ذا فطنةٍ ... فقد كان فيما مضى قد غَفَلْ فقلت أنا: فأنت بفضلِك أحييتَه ... وكان قديمًا به قد جَهِلْ وتوفي النَّعجةُ بعد المئتين. 173 - أبو محمد المكفوف هو عبد الله بن محمود المكفوف النحوي. كان من أعلم خَلْق الله بالعربية والغريب والشعر وتفسير المشروحات وأيام العرب وأخبارها ووقائعها، وأدرك المهريَّ وأخذ عنه، ثم صحب من بعده حمدونًا المعروف بالنَّعجةِ، فكان لا يُبارحه، ولم يمتْ حمدون حتى علا المكفوف عليه، وفَضَل في أشياء. وله كتب كثيرة أملاها في اللغة والعربية والغريب، وله كتاب في العروض يفضله أهل العلم على سائر الكتب المؤلفة فيها؛ لما بين فيه وقرب، وعليه قرأ الناس المشروحات، وإليه كانت الرحلة من جميع إفريقيَّةَ والمغرب، وكان يجلس مع حمدون في مكتبه، فربما استعار بعضُ الصبيان كتابًا فيه شعر أو غريب أو شيء من أخبار العرب، فيقتضيه صاحبُه فيه، فإذا ألحَّ عليه أعلم بذلك أبا محمد المكفوف، فيقول له: اقرأه عليَّ. فإذا فعل قال: أَعِدْهُ ثانيةً. ثم يقول: ردَّه على صاحبه، ومتى شئتَ فتعال حتى أمليَه عليك. وأبطأ عنه أبو القاسم بن عثمان الوزَّان النحوي أيامًا كثيرةً، ثم أتاه فلامه على تخلُّفه عنه، وقال له: يا أبا القاسم، نحن كنا سبب ما أنت فيه من العلم، علمتَ كيف كنت أخصك وأوثرك على غيرك؛ فلما صرتَ إلى هذه الحال قطعتنا! فقال له: أصلحك الله! اعذر فقد كان لي شغل. قال: وما هو؟

174 - المدني

قال: لي اليوم أكثر من شهرٍ أختلف إلى رقَّادة، إلى دار فلان -وذكر بعض السلاطين- أشْكُل له كُتبًا وأُصحِّحها. فقال: سَرَرْتَنِي والله. قال: بماذا سررتُك؟ قال: بما يكون من برِّه ومكافأته على اختلافك إليه وتصحيحك لكتبه. فضحك وقال: والله ما هو إلا أن أكترِيَ دابَّةً إذا مضيتُ، وكذلك إذا رجعتُ من مالي. فعجب من ذلك وقال: تدري كم وصل إليَّ من ابن الصائغ صاحب البريد؟ قال: لا. قال: نحو من خمسمئة دينار، سوى الخِلَع وقضاء الحوائج والبر والإكرام، ولا كان يسألني عن شيء إلا إذا أكل يوم الجمعة بعث في طلبي دابَّته وابنه، وأحضر مائدته. وكان أبو محمد المكفوف من أهل سُرت، وهجاه إسحاق بن خُنَيس فقال: ألا لُعِنتْ سُرتٌ وما جاء من سُرتِ ... فقد حل من أكنافها جَبَلُ المقت في شعر له طويل، فقال فيه المكفوف: إنَّ الخُنَيسيَّ يهجوني لأرفعه ... اخسأ خُنَيس فإني غير هاجيكا لم تَبْق مثلبة تُحْصى إذا جُمعت ... من المثالب إلا كلُّها فيكا وله أشعار فصيحة، وأراجيز عربية، وله كتاب في شرح صفة أبي زُبَيد الطائي للأسد؛ جود فيه وحسنه. وتوفي المكفوف سنة ثمان وثلاثمئة. 174 - المدني هو أحمد بن محمد، من أهل تونس، وكان عروضيًّا نحويًّا يؤدب الصبيان ويثقفهم على حدود العربية، وكانت له أشعار حسان. 175 - خلف الأطرابُلُسي هو خلف بن مختار الأطرابُلُسي، وكان صاحب نحو ولغة، وكان

176 - الطرزي

يبخل بعلمه. أخبرني إبراهيم بن زياد النحوي قال: أخبرني أبو عثمان سعيد بن إسحاق الشَّمْخيّ قال: سألت خلف بن مختار أن أقرأ عليه قصيدة النابغة: "يا دار مية بالعلياء فالسَّنَدِ". فقال: افعلْ. فأنشدتُه حتى انتهيتُ إلى قوله: فظل يَعْجُم أعلى الروْق مُنقبضًا ... في حالك اللون صَدْقٍ غيرِ ذي أَوَدِ فقال لي ليختبرني -وقد علمتُ ما أراد-: ما الصَّدْق؟ قلت: لا أعلم. قال: فما الصِّدق، بالكسر؟ قلتُ: الصِّدق من القول. قال لي: فيجب عليك أن تروي ما تعرف، وتدع ما لا تعرف. فأنشدتها بالكسر لأعلم ما يكون منه، فرأيته يبتسم، وكان إنشاديها ليلًا في المسجد الجامع، وكنتُ أحفظها، فقلتُ له: لم تبسَّمت؟ الصَّدْق: الصُّلْب، وكذلك الرواية؛ ولكن تجاهلتُ لك لأعلم ما يكون منك. فخجل من ذلك وقال: أنشِد ما أحببتَ؛ فإني لا أُخفي عنك شيئًا. فكان بعد تلك الليلة كما وعد. وكان ممَّن يقرِض الشعر، ويجيد المعاني. وكان مولده سنة خمس عشرة ومئتين، وتوفى سنة تسعين ومئتين. 176 - الطَّرْزِيُّ هو موسى بن عبد الله، كان يؤدب أولاد السلاطين، وكان شاعرًا مُجيدًا عفيفًا صالحًا، وهو من تلاميذ حسان الجاحظ. طَرْزة: مدينة من مدائن إفريقيَّةَ.

177 - علي بن الحضرمي

177 - علي بن الحضرمي كان نحويًّا شاعرًا أديبًا، وكان ربما علَّم. وهو من أهل الساحل، وكان بقربه رجل قد نظر في النحو أيضًا، فكانا يتراسلان بالمسائل في النحو، ومما كتب إليه عليٌّ: لما أتاني كتابٌ واضح حَسَنٌ ... في النحو منك أبا إسحاق قد صُنِعا كيما تُغلِّطَني فيه وتُفْحِمَني ... ولستُ بالنحو ممن يبتغي الشَّنَعَا أمسكتُ خلف وراء لست تحمله ... علمًا ولم أكُ عنه ممسكًا فزعَا 178 - محمد المعروف بالعقعق هو محمد بن سالم، من أهل أطرابُلس؛ كان مُتَرَسِّلًا شاعرًا صاحب نحو ولغة، مع علم بالجدل ونظرٍ فيه، وكان معتزليًّا. 179 - ابن الحداد قال أبو بكر: هو أبو عثمان سعيد بن محمد الغسَّاني، كان أستاذًا في غير ما فنٍّ، عالمًا بالعربيَّةِ واللُّغةِ، وكان الجدَل أغلبَ الفنون عليه، وكان دقيقَ النظر جدًّا، ثابت الحجة، شديد العارضة، حاضر الجواب، صحيح الخاطر. وله كتب كثيرة، منها: كتاب توضيح المشكل في القرآن، وكتاب المقالات؛ ردَّ فيه على أهل المذاهب أجمعين، وكتاب الاستيعاب، وكتاب الأمالي، وكتاب عصمة المسلمين، وكتاب العبادة الكبرى والصغرى، وكتاب الاستواء، إلى كتب كثيرة جملتها في الاحتجاج على الملحدين.

حدثني بعض أهل القيروان قال: بعث أبو عبد الله المعلم إلى سعيد بن الحداد -وقد وصف بالبراعة في الفنون- فأدناه ومشى معه في بعض البساتين، فنزع أبو عبد الله بآية من القرآن فقال: {فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون}، فقال ابن الحداد: {وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال}. وله مع أبي عبد الله وأبي العباس مسائل برَّز بها، وظهرت حجته فيها، ثم أملاها سعيد على أصحابه، وسماها المجالس. وكان العراقيون يوجهون إليه من تلاميذهم من يعنِّته ويسأله. فحدثني بعض أهل القيروان قال: أتوْه يومًا فألفوْه في الحمام، فتلقَّوْه وهو خارج عنه، فقالوا له: أعزَّك الله! كيف وجدتَ الحمام؟ فقال: غايةً في الطيب. فقالوا: أمِن جهة الذوق وجدتَ طِيبَهُ أصلحك الله! فقال لهم: يا حُثالة الزنادقة، وإخوان المدابير، وتلاميذ الملحدين، أرأيتم قول الله عز وجل: {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة} أمِن قِبل الذَّوق وُجِد طيب الريح؟! وكانت لسعيد بن محمد بالقيروان في أول دخول الشيعة -لعنهم الله- مقامات محمودة، ناضل فيها عن الدين، وذب عن السنن؛ حتى مثَّله أهلُ القيروان في حاله تلك بأحمد بن حنبل أيام المحنة، وذلك أنهم -لعنهم الله- لمَّا ملكوا البلد أظهروا تبديل الشرائع، وإحالة السنن، وبَدَروا إلى رجلين كبيرين من أصحاب سُحنون فقتلوهما، وعرَّوْا أجسادَهما، ثم نودي عليهما: هذا جزاء مَنْ ذهب مذهبَ مالك. فارتاع جُملة أهل السنة، وتجمَّعوا إلى سعيد، فسألوه التَّقيَّةَ -وكان أبو عبد الله المعلم يبعث إليهم للمناظرة،

180 - الطلاء المنجم

وكان سعيد المعتمد عليه فيها- فأبى سعيد من التَّقِيَّة، وقال: إني قد أربيتُ على التسعين، وما بي إلى العيش من حاجة، وقتيل الخوارج خير القتلى، ولا بد لي من المناضلة عن الدين، وأن أبلِغ ذلك عذرًا. ففعل ذلك، وصدق، ونصح -رحمه الله-. 180 - الطَّلَّاء المُنجِّم هو إسماعيل بن يوسف، وكان من ذوي العلم بالعربية، وكان غايةً في علم النِّجامة، وهو أولُ مَن أدخل الطّلاء العراقيّ القيروان، وتلطَّف في علمه بالعراق. قال أبو بكر: أخبرني بعض القرويين قال: كان أهل العلم بصناعة الطلاء بالعراق يضِنُّون بصناعتهم، وكان إسماعيل بن يوسف قد لازمهم وخدمهم، فكانوا يُخرِجون إليه وإلى أصحابه من التلاميذ العقاقير للدّق مختلطة، فتحيَّل إسماعيلُ بن يوسف للمبيت في خِزانة العقاقير، وأعد فَرَسْطونًا صغيرًا، فبات ليلته تلك يزنُ كلَّ عقِّير هنالك، فلما كان من الغد أُخرِجت إليهم العقاقير للدّق والطّلاء، واستعملوا ذلك، ثم رجع إسماعيل بن يوسف من الليلة القابلة، فعاود وزن عقاقير الخِزانة، فعرف ما نقص كلّ عِقِّير منها، فعلم أنه المأخوذ للاستعمال في ذلك النهار، فكتب ذلك كلّه، ثم استعمله، فقامت له الصناعة. وغزا مع إبراهيم بن الأغلب غزو المجّان، وشهد حرب طَبَرْمين،

181 - السبخي

وأقام الطالع يوم فتحها، وقد انصرف إبراهيم عن حربها منتصف النهار، فأعلمه أنه يفتحها للوقت، ونظر إبراهيم أيضًا في ذلك فوافقه، وكان إبراهيم ينتحل علم النّجامة، فعاود الحرب، ففتحها للوقت، ووهب للطَّلَّاء ثمانية عشر رأسًا من السَّبْي، ومات بالأندلس هاربًا من صاحب دار الضَّرْب، وكان اتُّهم بعمل الدَّنانير والدراهم، وكان يُرْمَى بالخروج عن الملة. 181 - السبخي هو أبو علي المكفوف، من تلاميذ أبي محمد المكفوف، وطال عمره، وكان قد أدرك رجال سُحنون وأخذ عنهم.

الطبقة الرابعة

الطبقة الرابعة 182 - أبو السميدع هو أحمد بن شُريس، جد بني أبي ثور النجار لأمِّهم، وكان ذا علم بالعربية واللغة والأخبار، وكان من أصحاب حمدون النعجة وتلاميذه. وتوفي سنة سبع وتسعين ومئتين. 183 - القَيَّاسُ الجُهَنِيُّ هو عبد الله بن عبد الله النَّحويُّ القيَّاسُ، كان نحويًّا قيَّاسًا، وأصلُه من الأندلس، وكان سريَّ الأخلاق، قليل الضرّ، كثير المصادقة لمن صحب، وله أشعار حسنة، وكان مَن يحسده يقول: إنها من أشعار الأندلسيين. وكان مُتَّصِلًا بابن أبي جعفر المرُّوذِيّ، ومادحًا لأبيه كثيرًا. 184 - الخَروفي هو علي بن الحسين التَّنُوخِيُّ، المعروف بالخَرُوفي، وكان مُعلِّمًا يؤدب بعض أولاد السلاطين، وكان حافظًا للأشعار، وكانت صنعة الشعر تسهُل عليه جدًّا. 185 - ابن أبي عاصم اللؤلئي هو أبو بكر بن إبراهيم بن أبي عاصم، كان من العلماء النُّقَّاد في العربية والغريب والنحو، والحفظ لذلك، والقيام بأكثر دواوين العرب، وكان كثير الملازمة لأبي محمد المكفوف النحوي، وعنه أخذ، وكان صادقًا في علمه، حسن البيان لما يُسأل عنه، وألَّف كتابًا في الضاد والظاء حسَّنه وبيَّنه. وكان الشعر سهلًا عليه، وكان يحتذي في كثير من صنعته على أشعار

186 - زنجي بن مثنى

العرب ومعانيها، وكان أبوه موسرًا، فلم يَكُ يمدح أحدًا لمجازاته، وترك صنعةَ الشعر في آخر عمره، وأقبل على طلب الحديث والفقه، وهو القائل: أيا طَلَل الحيِّ الذين تَحَمَّلوا ... بوادِي الغَضَا، كيف الأحِبَّةُ والحالُ! وكيف قضيب البان والقمر الذي ... بوجنته ماء الملاحة يختالُ كأن لم تَدُرْ ما بيننا ذهبيَّةٌ ... عبيريَّة الأنفاس عَذْرَاءُ سَلْسَالُ ولم أتوَسَّدْ ناعمًا بطنُ كفِّه ... ولم يَحْوِ جِسْمَيْنَا مع الليل سِرْبَالُ فبانت به عنِّي ولم أدر بغتةً ... طوارقُ هذا البين، والبَيْنُ قَتَّال فلما استقلَّت ظُعْنُهُمْ وحُدُوجُهم ... دعوتُ ودمعُ العين في الخدِّ هطَّال سُقيتُ نجيعَ السّمِّ إِن كانَ ذا الذي ... تَحدّثه الواشون عنِّي كما قالوا والقائل: لا تَقْتُلِ الصَّبَّ فما حَلَّ لك ... يا مالكًا أسرف فيما مَلَكْ مات سنة ثماني عشرة وثلاثمئة، وله ست وأربعون سنة. 186 - زنجي بن مثنى قال أبو علي بن أبي سعيد: كان زنجي بن مثنى من رجال السلطان، عالمًا بالعربية واللغة. 187 - الخياري هو أبو محمد صيغون.

188 - الداروني

188 - الداروني هو أبو محمد حسين بن محمد التميمي العنبري، ويعرف بابن أخت العاهة. والدَّارون منزلٌ لهم بعمل القيروان، وكان إمامًا في اللغة والعلم بالشعر، وقرئ عليه وسُمِع منه في حياة أبي محمد المكفوف النحوي، وكان مشغوفًا بديوان ذي الرُّمَّةِ، وكان أعلمَ الناس به وبغيره من دواوين الشعر، إلى معرفته بأخبار العرب وأنسابها وأيامها، وكان يتفقه بفقه الكوفيين، وكان معجبًا بعلمه ونسبه، شديدَ الافتخار به، يتجاوزُ فيه الحدَّ، ولا يحضرُ مجلسًا إلا فخر فيه بتميمٍ، ويُسرِف في ذلك حتى يُمَلَّ ويُنسَب إلى السُّخف. أخبرني بعضُ مَن كان يُجالِسُه قال: كنتُ يومًا جالسًا معه في المسجد الذي يجلس فيه، وقوم يقرؤون عليه، إلى أن دخل رجل فسلَّم وسأله عن حاله، فذكر أنه قدِم من المشرق، فقال: أين بلغتَ؟ قال: البصرة. قال: كيف بنو تميمٍ هناك؟ قال: قومٌ حالُهم مثلُ حالِ غيرِهم، منهم قومٌ في البادية، ومَن كان بالبصرة فواحدٌ تاجر، وآخر صِنْعٌ، وبيَّاع، وعمَّال، وغير ذلك. فساءه ذلك وغمَّه وقال: إنا لله! صارت بنو تميم إلى هذه الحال! ووجم، وأمر الذين يقرؤون عليه أن ينصرفوا، ولم يُسمِعْهم ذلك اليوم شيئًا من الغمِّ مما أخبره. وكان له بنات، فخطب إليه جماعةٌ من التجار وممن يتحرَّف، فامتنع من تزويجهن، وكان يمضي إلى البادية، فإذا وجد رجلًا غريبًا لا حُرْمَةَ له زوَّجه على أنه لا يعمل بيده شيئًا؛ لا يحرث، ولا يحصد، ويضمنُ القيام بمعيشته؛ حتى زوَّجهنَّ كلَّهنَّ على ذلك، فكثر عياله، وساءت حاله؛ لقيامه ببناته وأزواجهنَّ وأولادهنَّ، ولم يزل على ذلك حتى مات. قال أبو علي: أتاني يومًا، فسألتُه عن حاله، فجعل يحدِّثني، وكأنه

مشغول القلب، فقلتُ له: ما بالك؟ فقال: ابني تميم، جاء معي. فقلتُ: يدخل. وأمرتُ الغلامَ بإدخاله، فلم يجدْه، فتبسَّم وقال: أنفسُ بني تميم! لما دخلتُ وتركتُه، غضب. وكان الداروني شاعرًا مجيدًا، غزير الشعر، جيد الطبع، مقتدرًا على المعاني. وحدثني أبو إسحاق القرشي المعروف بالقَدَري -وكان كثير الملازمة للدَّارُوني- قال: أملقَ الدَّارُونيُّ يومًا، فكتب إلى أبي جعفرٍ المروذي -وكان يخدم الشيعة-: كتمتُ إِعساري وأخفيتُه ... خوفًا بأن أشكُو إلى مُعسِرِ وأن يقولَ النَّاسُ: إِنِّي فتًى ... لم أَصُنِ العِرضَ ولم أصبرِ فإن تكنْ في حاجةٍ شاكيًا ... فاشكُ إلى مثلِ أبي جعفرِ فهو لما أمَّلتَه أهلُه ... وما أراهُ اليومَ بالموسرِ فأجابه وقال: أفضلُ ما يذكرُه ذاكرٌ ... إغاثةُ الملهوفِ والمقترِ لا سيَّما شكوى حسينٍ لما ... مضَّ به قلبَ أبا جعفرِ فلو حباه كلّ ما يحتوي ... لم يكُ في ذلك بالمكثرِ لكنَّه صادف أحوالَهُ ... منظرُها يشهد بالمَخْبَرِ فوجه التَّافه من قوتِه ... نزرًا ولو أكثر لم يُكثِرِ ودخل الداروني يومًا على خليلٍ، وكان يومئذٍ يُجهِّز بعثًا لبعض ملوك الشيعة، فدخل عليه وهو يكتب أسماءهم، فسأل الداروني إسقاط ثلاثة نفر من أوليائه، فتأبى عليه خليل، واعتذر له، واحتج له في المنع، فوجم الداروني، فلما رأى ذلك قال: حُجَّتي يا تميميُّ صحيحةٌ. فأجابه الداروني وقال: اقض حاجاتي ودَعْ ... ـنِي من قوافيك المليحَهْ

189 - ابن الوزان النحوي

إنما يُحمَد حسن الفعـ ... ـل لا حسن القريحه فأجابه الخليل فقال: مَنْ تعاطاك فقد عـ ... ـرض بالنفس الفضيحه أنت أولى رجل جا ... دت له النفس الشحيحه فقضى حاجته؛ وكان هذا منهما في مجلس على البديهة. وتوفي سنة ثلاث وأربعين وثلاثمئة. 189 - ابن الوزان النحوي قال أبو علي: هو أبو القاسم إبراهيم بن عثمان، وكان أبوه يتفقه بفقه العراقيين، وكان كبير السماع من ابن عيذون، وكان يقدمه ويكرمه، وقرأ عليه شرح غريب الحديث لأبي عبيد، وهو يعد إمام الناس في النحو، وكبيرهم في اللغة، وعظيمهم في العربية والعروض، مع قلة ادعاء، وصدق لهجة، وخفض جَناح، وصحة وُدٍّ، ونقاء صدر. وانتهى من علم النحو في حداثته إلى أن كان أبو محمد عبد الله بن محمد الأموي المكفوف إذا وردت عليه مسائل من النحو سأله الإجابة عنها، وأقر له بالتقدم في ذلك، وانتهى من اللغة والعربية إلى ما لعله لم يبلغه أحد قبله، وأما في زمانه فما يشك فيه؛ يحفظ كتاب الخليل بن أحمد في العين، وكتاب أبي عبيد في المصنف، وكتاب ابن السكيت، وغيرها من كتب اللغة، وحفظ قبل ذلك كتاب سيبويه، ثم كتب الفراء، وكان يميل إلى قول أهل البصرة، مع علمه بقول الكوفيين، وكان يفضل المازني في النحو، وابن السكيت في اللغة. قال أبو علي بن أبي سعيد: لو أن قائلًا قال: إنه أعلم من المبرد وثعلب؛ لصدقه من وقف على علمه ونفاذه. قال أبو علي: وسمعت جماعة ممن جالس ابن النحاس المصري من

أهل بلدنا وأهل المشرق، ثم جالس أبا القاسم يزعمزن أنه أعلم من ابن النحاس وأكمل نظرًا، وكان من أضبط خلق الله، وهو مع ذلك حسن الاستخراج والقياس، وقلما اجتمع الحفظ وحسن الاستخراج، ولقد كان يستخرج من مسائل النحو والعربية أمورًا لم يتقدمه فيها أحد، وأمره في هذا يفوق كل أمر. وكان غاية في استخراج المعمى، وكان مقصرًا في صناعة الشعر، ولم يتعرضه، وربما أتى منه بشيء ولا يحب أن يوسم به، وإنما صنعه في آخر عمره، وله أوضاع في النحو واللغة، وسأله رجل عن هذا البيت وتفعيله: رجل بمكَّةَ قتل رجُلًا وسُرْ ... رِق الّذِ كَان في عِمامة يوسفا فقال: يُتَفَعَّل من الطويل والكامل، فتفعيله من الطويل على هذا التقطيع: رَجُلُنْ بمكننٍ قَتَرْرَ جُلَنوسُرْ ... ر قَلَّلَ ذِكا نَفي عِمامَ تيوسُفَا ومن الكامل: رَجُلُنْبِمَكْ كَتِنْقترْرَ جُلَنوسُرْ ... قَلْلَذِكا نَفِيعما ميتوسفا والعرب تقول: رجُل ورجْلٌ، وهي لغة بني تميم وربيعة، قال شاعرهم: وأحفظ من أخي ما حفْظَ مِنِّي ... ويكفيني البلاء إذا بلوتُ

وعلى هذا جاء "سُرْقَ" واللام تدغم في الراء، وقال أكثر القَرَأَة: "قُرَّبِّي" لأنهما من حافة اللسان متقاربتان، ولا تدغم الراء في اللام؛ لأن الراء فيها تكرير. قال: و"الَّذِي" فيه خمسُ لغاتٍ: "الَّذِي" بياء خفيفة، و"الَّذِيّ" بالتشديد، و"الَّذِ" بحذف الياء وكسر الذال، و"اللذْ" بإسكان الذال، ويرد في حال الرفع والجر والنصب. ومما أملى علينا -وقد سألته عما أخذ على الشافعي في قول الله عز وجل: {ذلك أدنى ألا تعولوا}، قال الشافعي: "ألَّا يكثر عيالكم". فقال: أخطأ، يقال: عال يعيل؛ إذا افتقر. وأعال؛ إذا كثر عياله. وعال يعول عولًا؛ إذا جار، ومنه قول الله جل ذكره: {ألَّا تعولوا}. وعال الشيء يعول عولًا؛ إذا زاد، ومنه: عالتِ الفريضةُ، وعالني الشيء يعولني؛ إذا أثقلني، ومنه قول الخنساء: * وَيَكْفِي العَشيرةَ ما عالها * ويقال: عال يعيل عولًا؛ إذا تبختر. قال: وجاء فعِل يفعِل في ثلاثة أحرف؛ قالوا: حسِب يحسِب، وبئِس يبئِس ويبِس ييبِس، ويجوز فيهما الفتح في المضارع. وجاء في ثمانية أحرف من المعتل الفاء: وَرِم يَرِم، ووَرِي الزَّندُ يَرِي، وورِث يرِث، وورِع يرِع، وولِيَ يلِي، وومِق يمِق، ووثِق يثِق، ووفِق يفِق، وولِه يلِه ويَوْلَه، ووهِل يهِل ويَوْهل. ولقد مات بموت أبي القاسم علم واسع وأدب بارع، وتوفي -رحمه الله- في يوم عاشوراء من المحرم سنة ست وأربعين وثلاثمئة.

190 - عامر بن إبراهيم الفزاري

190 - عامر بن إبراهيم الفزاري هو عامر بن إبراهيم الفزاري، وكان شاعرًا بصيرًا باللغة، مع خبث وإقدام ورأي ومكر، وكان قد هرب بخراج جباية بالساحل حتى لحق بمصر -ومال الخراج معه-، ولذلك يقول محمد التونسي لأبي القاسم ولده: دَعِيُّ فزارةَ مِن لؤمِه ... إلى طلعة اللوم ما أسبَقَهْ! أَبٌ هاربٌ بخراج الإمام ... وجدٌّ قتيل على الزندقه وكان ينتسب إلى حَمَل بن بدر حتى أعلَمَه أبو بكر الحسن بن أحمد بن ناقد أنَّ حمل بن بدر لم يُعقِب، وأراه ذلك في بعض الكتب، فخلى عن ذلك وقال: نحن من ولد عُيَيْنَة بن حِصْن. وكان ابنه أبو القاسم بصيرًا بالأدب، وله أشعار كثيرة في هجاء الشيعة، وكان يزعم أنه من ولد أسماء بن خارجة. 191 - قاسم بن حبيب النحوي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... تمَّ تطبيق نحويِّي القيروان بتمام الجزء، والله محمود بعونه.

النحويون واللغويون الأندلسيون

النحويون واللغويون الأندلسيون

الطبقة الأولى

الطبقة الأولى من اللغوين والنحويين من أهل الأندلس 192 - أبو موسى الهواري هو من أهل الفقه في الدين، وأول من جمع الفقه في الدين وعلم العرب بالأندلس، ورحل في أول خلافة الإمام عبد الرحمن بن معاوية -رضي الله عنه-، فلقي مالكًا ونظراءه من الأئمة، ولقي الأصمعي وأبا زيد الأنصاري ونظراءهما، وداخل الأعراب في محالها. ولما صدر عن سفره عطب بنحو تُدمير، فذهبت كتبه. أخبرني محمد بن عمر بن عبد العزيز، عن بعض المشيخة قال: قصد شيوخ أهل إستجة أبا موسى؛ يهنئونه بقدومه، ويعزونه بذهاب كتبه، فقال لهم: ذهب الخُرْج، وبقي ما في الدُّرْج؛ أنا شَعبِيُّ زماني، فليسألْني من شاء. قال: وحدثنا ابن لبابة، حدثنا العتبي قال: كان أبو موسى إذا قدم قرطبة لم يُفْتِ عيسى، ولا سعيدُ بن حسان حتى يرحل عنها. وكان

193 - الغازي بن قيس

مسكنه بقرية من قرى مورور. ولما وقع الاختلاف بين العرب والموَلَّدِين بإسْتجةَ بسبب تحريش قَعْنب، وكان سبب ذلك إباية المولَّدين من الصلاة خلف الإمام العربي، وكانت الخلفاء -رضي الله عنهم- لا يقدمون للصلاة إلا العرب، فترافعوا إلى السلطان يومئذٍ، فقال لهم الوزراء: أترضون بأبي موسى الهواري؟ فأجمع الفريقان على الرضا به، فوجَّهوا فيه وحضوه على إصلاح ذات البين، فأجاب إلى أن يصلي بلا رزق يُجرَى عليه، فكان يركب من باديته كلَّ جُمعةٍ، فيأتي إستجة فيصلي بأهلها، ثم ثقل في آخر عمره، فاحتاج إلى شراء دار على مقربة من الجامع، فسكنها إلى أن تُوُفِّيَ. وكان له كتاب في القراءات، وكتاب في تفسير القرآن؛ كان ابن لبابة يرويه عن العتبي عنه، وكانت العبادة أغلب عليه من العلم. 193 - الغازي بن قيس كان ملتزمًا للتأديب بقرطبة أيام دخول الإمام عبد الرحمن بن معاوية رضي الله عنه بالأندلس، ثم رحل إلى المشرق، وشهد تأليف مالك للموطأ، وهو أول من أدخله الأندلس، وأدرك نافع بن أبي نعيم وقرأ عليه، وهو أول من أدخل قراءته. وكان الخليفة عبد الرحمن رضي الله عنه له مُجِلًّا مُعظِّمًا، وكان يأتيه ويصله في منزله. وذكروا أنه عرض عليه القضاء فأباه، وذلك عند موت يحيى بن يزيد

التُّجِيبي، فولي حينئذٍ معاوية بن صالح الحمصي. وأدرك من رجال اللغة الأصمعي ونظراءه، واستأدبه هشام والحكم لأبنائهما، وأظنه أدب ولد عبد الرحمن بن معاوية -رضي الله عنهم-. أخبرني محمد بن عمر قال: حدثني عُفَير بن مسعود، وأحمد بن بشر قالا: أخبرنا محمد بن عبد الله بن الغازي، عن أبيه، عن جده الغازي بن قيس أنه قال: قال لي يومًا عبد الرحمن بن معاوية -رضي الله عنه-: أَضبِطُ مِن أمرِ الشَّامِ أنِّي كنتُ بين يدي جدي هشام -رضي الله عنه-، وأنا صبيٌّ غيرُ مُتمشٍّ، حتى دخل الحاجب فقال: أبو سعيد مسلمة بالباب. فأذن له، فلما رآه جدي داخلًا قال لفتيانه: أرسلوا الصبيَّ. فوقعت عينُ مسلمةَ -رحمه الله- عليَّ، فقال: يا أمير المؤمنين، يتيمُ أبي المغيرةِ رحمه الله؟ فقال له: نعم. فقال: يُعاد إليَّ. فأمر بإعادتي إليه، فضمَّني إلى صدره وبكى، فما أنسى وقوع الدموع عليَّ مِن عينيه، فقال له جدِّي -رضي الله عنه-: ما بال البكاء يا أبا سعيد؟ فقال له: يا أمير المؤمنين، قرُب والله أمرُنا، وهذا يأوي فلَّنا والناجيَ مِنَّا. قال عبد الرحمن: فلم أزل أعرف لي مزيَّةً عند جدي من يومئذٍ. وكان مسلمة قد أخذ علم الحدثان عن خالد بن يزيد بن معاوية -رحمهم الله-، عن كعب الأحبار. قال غازي بن قيس: وأخبرني أيضًا عبد الرحمن بن معاوية -رحمه الله- أنه كان بين يدي جدِّه هشامٍ أمير المؤمنين -رضي الله عنه-، بعد وفاة أبيه معاوية إلى أن تبادر الخَدَمَةُ إليه، فقالوا له: الكُمَيت بن زيد مُتعوِّذٌ بقبر وَلِيّ

194 - جودي النحوي

العهد -رضي الله عنه-، فأخذتْ جدِّي رِقَّةٌ، فبكى حتى أخضل لحيته ثم قال: قد أمَّنه اللهُ، قد أمَّنه اللهُ؛ فدخل عليه وأنشده: فالآنَ صِرتُ إلى أُمَيَّـ ... ـةَ، والأمورُ إلى المصايِرْ فحباه وكساه ووصله. وذكر محمد بن عمر بن لبابة أن رجلًا حَاكَرَ بعضَ المؤدبين في الحَذْقَةِ، فمنعها المؤدبَ، فناظره في ذلك وتعصَّب له المؤدِّبون بقرطبة، وأشفقوا أن ينفتح عليهم في ذلك بابُ منعٍ، فأتوا غازيَ بنَ قيسٍ فقالوا: يا سيِّدَنا -تعريضًا له بالتأديب- عَرَضَ غَرَضٌ لنا كَيْتَ وكَيْتَ، فقال: يغرمها صاغرًا قميئًا. وقضى لهم بذلك؛ إذ هو مما جرى عليه أمرُ الناس. وتوفي الغازي بن قيس سنة تسع وتسعين ومئة. 194 - جودي النحوي هو جودي بن عثمان، مولًى لآل طلحةَ العَنْبَسِيِّين من أهل مَوْرُور، ورحل إلى المشرق فلقي الكسائي والفراء وغيرهما، وهو أول من أدخل كتاب الكسائي، وله تأليف في النحو، وسكن قرطبة بعد قدومه من المشرق، وفي حلقته أُنكِر على عباس بن ناصح قولُه: يشهدُ بالإخلاص نُوتيُّها ... للهِ فيها وهو نصراني فلُحِّن حين لم يُشدِّد ياءَ النسب، وكان بالحضرة رجل من أصحاب عباس بن ناصح، فساءه ذلك، فقصد إلى عباس -وكان مسكنه الجزيرة-

195 - الأحدب

فلما طلع على عباس قال له: ما أقدمك -أعزك الله- في هذا الأوان! قال: أقدمني لحنُك. قال عباس: وكيف ذلك؟ فأعلمه بما جرى من القول في البيت، قال: فهلا أنشدتهم بيت عمران بن حطان: يومًا يمانٍ إذا لاقيتُ ذا يمنٍ ... وإن لقيتُ مَعدِّيًّا فعدناني قال: فلما سمع البيتَ كرَّ راجعًا، فقال له عباس: لو نزلتَ فأقمتَ عندنا! فقال: ما بي إلى ذلك من حاجة. ثم قدم قرطبة، فاجتمع بجوديٍّ وأصحابه فأعلمهم. وتوفي جوديٌّ سنة ثمان وتسعين ومئة. 195 - الأحدب هو أبو الغَمْر عبد الواحد بن سلام، وكان من أهل العلم بالنحو والتأديب، وتوفي سنة تسع ومئتين. 196 - سوَّار بن طارق هو مُعتَق الخليفة هشام بن عبد الرحمن بن معاوية -رضي الله عنهما-، وأدَّب ولدَهُ وولدَ الحكم. وتوفي بعد الهيْج. 197 - الشمر بن نمير هو أبو عبد الله الشاعر، نديم الأمير عبد الرحمن رحمه الله. كان من أهل العلم بالعربية واللغة، ورحل من قرطبة بعد التأديب بها إلى المشرق،

فلقي رجالًا من أهل الحديث، منهم: حسين بن أبي ضُمَيرة، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستوطن مصر، وروى عنه عبد الله بن وهب وغيره من نظرائه، وتوفي هنالك، وبقي له بالأندلس ابنٌ يسمى عبد الرحمن، وكان يؤدب بني أبي عَبْدة واتصل بالأمير عبد الرحمن بن الحكم -رضي الله عنهما- قبل أن يلي الخلافة، فلما ولي قربه من خاصته وأنَّسه، وكان من ألطف الناس محلًّا، وكان شاعرًا مُفلقًا. ورُوِي أنَّ عبد الرحمن بن الحكم -رضي الله عنه- أجنب في بعض غزواته، فلما قضى طُهْرَه بعث في عبد الرحمن بن الشمرِ، فدخل والوصيفُ يُجفِّف شعرَه، فقال له: يابن الشمر: شاقك من قُرطبةَ الساري ... في الليل لم يَدْرِ به دارِ فأجابه بديهة فقال: زار فحيَّا في ظلام الدُّجَى ... أهلًا به من زائرٍ سارِ فانصرف عبد الرحمن من غزاته، واستقود على الجيش من قدِم به إلى جلِّيقيَه.

الطبقة الثانية

الطبقة الثانية 198 - أبو حرشن هو عبد الله بن رافع مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان عالمًا باللغة والعربية، وأخذ عن جوديٍّ النحوي، وكان الناس إذا استفصحوا رجلًا قالوا: ما هذا إلا أبو حَرْشَن. 199 - خَصِيبٌ الكلبيُّ وهو ابن عم الكلبيين الساكنين بالمدينة، وكان خَصِيبٌ ساكنًا بمَوْرُور، ومنها أصول الكلبيين، وكانت المشيخة من أهل مَوْرُور يذكرون أن الفُرانِقَ كان يأتي من قرطبة من الخليفة محمد -رضي الله عنه- إلى خصيب يستفتي في الكلمة من اللغة والمسألة من العربية تحدث عنهم. وكان له كتاب مصنف في اللغة نحو مصنف أبي عبيد. 200 - عبد الله بن الغازي بن قيس كان من أهل العلم بالعربية والشعر واللغة، والتأدية لقراءة نافع بن أبي نُعَيم. وتوفي سنة ثلاثين ومئتين. 201 - ابن أبي غزالة هارون بن أبي غزالة السبائي. أخذ عنه جابر بن غيث، وله كتاب ألفه في العربية.

202 - عبد الله بن سوار بن طارق

202 - عبد الله بن سوار بن طارق كان من أهل العلم باللغة، متفننًا في علم الأدب، ورحل ابنه محمد إلى المشرق، ولقي أبا حاتم والرياشي وغيرهما. وكانا رفيقين، وشهدا بالبصرة دخول صاحب الزنج سنة سبع وخمسين ومئتين. وتوفي عبد الله في جمادى الآخرة سنة خمس وسبعين ومئتين. وتوفي ابنه في ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثمئة. 203 - عبد الملك بن حبيب السلمي كان عبد الملك قد جمع إلى علم الفقه والحديث علمَ الإعراب واللغة والتصرف في فنون الأدب، وله أوضاع جمة في أكثر الفنون، منها كتابه في إعراب القرآن، وفي شرح الحديث؛ إلى غير ذلك من دواوين الفقه والحديث والأخبار. ورُوي عن سُحنون بن سعيد أنه قيل له: مات عبد الملك بن حبيب الأندلسي. فقال: مات عالم الأندلس، بل والله عالم الدنيا. وقال محمد بن عمر بن لُبابة: فقيه الأندلس عيسى بن دينار، وعالمها عبد الملك بن حبيب، وعاقلها يحيى بن يحيى. وكان عبد الملك ممن يقرض الشعر؛ أنشدني بعض الأدباء له: صلاحُ أمري والذي أبتغي ... هَيْنٌ على الرحمن في قُدرَتِهْ ألفٌ من البِيض فأَقلِلْ بها ... لعالمٍ أزرى على بغيتِهْ

204 - بكر الكناني

زِريابُ قد يأخذُها قَفْلَةً ... وصنعتي أشرفُ من صنعتِهْ وكتب عبد الملك إلى محمد بن سعيد الزَّجَّالي رسالة وصلها بهذه الأبيات: كيف يُطيقُ الشِّعر مَن أصبحتْ ... حالتُهُ اليومَ كحالِ الغَرِقْ إذا قرضتُ الشِّعرَ أو رُمْتُهُ ... حالتْ همومي دونَه فانفلَقْ والشِّعرُ لا يَسْلَسُ إلَّا على ... فراغِ قلبٍ واتساعِ الخُلُقْ واقنعْ بهذا القولِ مِن شاعرٍ ... يرضى من الحُضْرِ بأدنى العَنَقْ أَمَّا ذِمامُ الرَّدِّ مِنِّي لكُمْ ... فهْوَ من المحتومِ فيما سَبَقْ ما حُلْتُ عن عهدِكَ لا والَّذِي ... يجودُ بالرِّزقِ على مَن خَلَقْ 204 - بكر الكناني كان من أهل العلم واللغة، وكان الغاية في الفصاحة، حتى ضُرب به المثلُ فقيل: أفصحُ مِن بكرٍ الكناني. وكان شاعرًا مُجيدًا. 205 - سعيد الرشاش كان من أهل الرواية للشعر والحفظ لِلُّغة، وكان يُضرَبُ أيضًا به المثلُ في الفصاحة، فيقال: أفصحُ مِن الرَّشَّاش. وليس بالرَّشَّاش الذي جرى التكسيرُ بذراعه.

206 - عباس بن ناصح الجزيري

206 - عباس بن ناصح الجزيري كان من أهل العلم باللغة والعربية، ومن ذوي الفصاحة في لسانه وشعره. ومذهبه في شعره مذاهب العرب الأُوَل في أشعارهم، وولي قضاء شَذُونة والجزيرة، ووليها ابنه عبد الوهاب بن عباس، ثم ابن ابنه محمد بن عبد الوهاب. أخبرني محمد بن عمر بن عبد العزيز، أخبرني عُفَير بن مسعود، أخبرني عبد الوهاب بن عباس بن ناصح قال: كان أبي لا يَقْدَم من المشرق قادمٌ إلا كشفَه عمن نجم في الشعر بعد بن هَرْمة؛ حتى أتاه رجل من التجار، فأعلمه بظهور حسن بن هانئ وارتحاله من البصرة إلى بغداذ، والمحل الذي حله من الأمين وبني برمك، فأتاه من شعره بقصيدتين؛ إحداهما قوله: * جَرَيتُ معَ الصِّبَا طلْقَ الجُموحِ * والثانية: * أما ترى الشمس حلَّت الحَمَلَا * فقال أبي: هذا أشعرُ الجنِّ والإنسِ، والله لا حبسني عنه حابسٌ. فتجهز إلى المشرق. قال: فأخبرني قال: لما حللتُ بغداذَ نزلتُ منزلة المسافرين، ثم كشفتُ عن منازل الحَسَن، فأُرشِدتُ إليه، فإذا بقصر على بابه حَفَدَةٌ وخُدَّامٌ، فدخلتُ مع الداخلين، فوجدت الحسنَ جالسًا في

مقعد نبيل، وحوله أكثر متأدبي بغداذ، يجري بينهم المثلُ والتمثل والكلام في المعاني، فسلَّمتُ وجلستُ حيث انتهى بي المجلس، وأنا في هيئة السَّفرِ، فلما كاد المجلس أن ينقضي قال لي: مَن الرجلُ؟ قلت: باغي أدب. قال: أهلًا وسهلًا، مِن أين تكونُ؟ قلتُ: من المغرب الأقصى. وانتسبتُ له إلى قرطبةَ. فقال لي: دارُ القومِ؟ قلتُ: نعم. قال لي: أتروي من شعر أبي المخشي شيئًا الذي قاله عندكم؟ قلتُ له: نعم. قال: فأنشدني. فأنشدته شعره في العمى، فلما بلغتُ: كنت أبا للدرى إلَّا الدُّرا ... مافقأتْ عينيَّ إلَّا الدُّنا قال: هذا الذي طلبتْه الشعراءُ فأضَلَّتْه. ثم قال: أنشدني لأبي الأجرب. فأنشدته، ثم قال: أنشدني لبكرٍ الكناني. فأنشدته، قال: شاعرُ البلدِ اليومَ عباسُ بنُ ناصحٍ؟ قلتُ: نعم. قال: فأنشدني له. فأنشدته: * فأدتُ القريضَ ومَن ذا فأد * قال لي: أنت عباسٌ؟ قلتُ: نعم. فنهض إليَّ فتلقَّيتُه، فاعتنقني إلى نفسه، وانحرف لي عن مجلسه، فقال له مَن حضر المجلسَ: مِن أين عرفتَه -أصلحك الله- في قسيم بيت؟ قال: إني تأملتُه عند إنشاده لغيره، فرأيتُه لا يبالي ما حدث في الشعر من استحسان أو استقباح، فلما أنشدني لنفسه استبنتُ عليه وَجْمةً، فقلتُ: إنَّه صاحبُ الشعرِ. قال عباسٌ: ثم أتممتُ الشعرَ، فقال: هذا شعر الغَربِ. ثم نقلني إلى نفسه، فكنتُ في ضيافته عامًا، ثم قدمَ عباسٌ الأندلسَ، فتكرر على الحكم بن هشام بالمديح، ثم تعرض للخدمة، فاستقضاه على الجزيرة.

الطبقة الثالثة

الطبقة الثالثة 207 - حَرْشن بن أبي حرشن كان من أهل العلم بالعربية واللغة، وكان شديد التعصب للقحطانية، ودارتْ بينه وبين أحمد بن نُعَيم السلمي في ذلك أهاجٍ. 208 - أحمد بن نعيم كان ذا علمٍ بالعربية، وكان مقدّمًا في صناعة الشعر، وله حظٌّ من البلاغة، وأدَّب بجيَّانَ وطُلَيْطُلَة. 209 - عبد الملك بن مختار رحل إلى قرطبة وسكنها، وأخذ عن أبي حرشن. وأخبر عن بعض الشيوخ أنه نبتت سِنٌّ لبعض ولد الأمير عبد الرحمن بن الحكم -رحمه الله-، فأحدِثَ فيها ما يَحْدُثُ عند نبات أسنان الصبيان، فقال الأمير للوزراء: هذا الذي يسميه الناس بالعجمية "الذّنتينة"، هل رُوي للعرب فيه شيء؟ فسئل غير واحد من المنتسبين إلى العلم بقرطبة، فلم يوجد عندهم في ذلك علم، حتى انتهت المسألة إلى ابن مختار، قال: أخبرني ابنُ حَرْشنٍ، عن أبي موسى الهواري: أن العرب تسميها "السّنينة". قال الزبيدي: وهذا اسمٌ ما سمعتُه قطّ؛ وإنما موَّه بهذا.

210 - عثمان بن المثنى

210 - عثمان بن المثنى يكنى أبا عبد الملك، رحل إلى المشرق، فلقي حبيب بن أوس، فقرأ عليه شعره، وأدخله الأندلس، ولقي جماعة هنالك منهم ابن الأعرابي. وكان له فضل وشجاعة تامة، وتكرر بالغزو في النغور، وأدب أولاد عبد الرحمن بن الحكم، وأولاد محمد -رحمهم الله-. وتوفي سنة ثلاث وسبعين ومئتين، بعد موت الإمام محمد -رحمه الله-، وهو ابن تسع وتسعين سنة. 211 - أحمد بن بتري كان فقيهًا ونحويًّا لغويًّا. وأخذ عن ابن حَرْشنٍ، وكان من ساكني قرْمونِيَة. 212 - عثمان بن شَنّ كان ذا علمٍ بالفرائض، وكان من كورة مَوْرور. 213 - ابن القمُلّهْ هو بكر بن عبد الله الكَلاعي، كان من ذوي العلم والأدب والمعرفة بالشعر. 214، 215 - جابر بن غيث، وعبد الرحمن أخوه كان جابر وأخوه عبد الرحمن عالمينِ بالعربية والشعر وضروب الأدب، وكانا مشهورينِ بالفضل والدين، ولما شبَّ لهاشم بن عبد العزيز بنون شاور أصحابه ممن يتصرف في العمالات بالكُوَر فيمن يستأدبه لبنيه، فأُشير له إلى

216 - محمد بن عبد الله بن الغازي

عبد الرحمن وأخيه، فاستجلبهما من كُورَة لَبْلة -وكانت وطنَهما-، فتعاصى عليه عبد الرحمن، وأجابه جابر، فكان ذلك سبب سكناه قرطبة. وكان من أحدِّ الناس في التأديب، فقل من تأدَّب عنده إلَّا وتعلق من العلم بمُسْكة. وكان جابر يكنى أبا مالك، وتوفي سنة تسع وتسعين ومئتين. 216 - محمد بن عبد الله بن الغازي رحل إلى المشرق، فلقي الرياشي، وأبا حاتم، وإبراهيم بن خداش، ولقي جماعة من أصحاب الحديث، من أصحاب ابن عيينة وغيرهم. وجلب إلى الأندلس علمًا كثيرًا من الشعر والعربية والأخبار، وعنه روى المشايخ الأشعار المشروحات كلها، ثم خرج عن الأندلس يريد الحج، فتوفي بطنجة بعد أن سكنها لتعذر المسير عليه. وذكر يحيى بن أبي صوفة الجزيري قال: كان عندنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الغازي سنة خمس وتسعين ومئتين، وأملى علينا: الحمد لله، ثم الحمد لله ... كم ذا عن الموت من ساه ومن لاه يا ذا الذي هو في لهو وفي لعب ... طوبى لعبد منيب القلب أواه إن لم يكن لك ناه في عجائب ما ... يأتي به الدهر لم تقدر على ناه ماذا يعاين ذو العينين من عجب ... عند الخروج من الدنيا إلى الله قال ابن أبي صوفة: وخرج عنا إلى طنجة، فمات بها بعد سنة أو نحوها؛ وكانت كتبه عند أقوام بطنجة ماتوا.

217 - الخشني

217 - الخشني هو محمد بن عبد السلام، من أهل كورة جَيَّان، وانتقل إلى قرطبة فسكنها، إلى أن توفي بها. وكان فصيح اللسان، بصيرًا بكلام العرب، ورحل إلى المشرق فلقي المازني وأبا حاتم والرياشي، وكتب عن رجال الحديث: أبي موسى الزمن، وبندار، وعبيدة، ويوسف بن عدي، وغيرهم من العراقيين، وله تأليف في شرح الحديث، فيه من الغريب علم كثير، وكان خَيِّرًا دَيِّنًا، وكان يُزنُّ بتعصُّبه للعرب. وأنشد بعضهم للخشني: كأنْ لم يكن بَيْنٌ ولم تك فُرقةٌ ... إذا كان مِن بعد الفِراقِ تَلَاقِ كأنْ لم تُؤَرّقْ بالعراقينِ مُقلتي ... ولم تَمْرِ كفُّ الشوقِ ماءَ مآقي ولم أزر الأعراب في خبت أرضهم ... بجنب اللوى من رامة وبراق ولم أَصطَبِحْ في البيدِ من قهوةِ النَّوى ... بكأسٍ سقانيها الحِمامُ دِهَاقِ بلى، وكأنَّ الموتَ قد ضاف مَضْجَعِي ... فحوَّل منِّي النَّفْسَ بينَ تراقِ تزوَّدْ أخي من قبل أن تسكُنَ الثَّرى ... وتلتفّ ساقٌ للنُّشور بساقِ 218 - عباس بن فرناس هو عباس بن فرناس بن ورداس، كان متصرفًا في ضروب من الآداب، وكان من أهل الذكاء والتقحُّم على المعاني الدقيقة، والصناعة اللطيفة، وكان الشعر أغلبَ أدواته عليه. وأخبرني محمد بن عمر بن عبد العزيز قال: أخبرني ابن لبابة قال: جلب بعض التجار كتاب المثال من العروض، فصار إلى الأمير

عبد الرحمن، فأخبرني أبو الفرج الفتي -وكان من خيار فتيانهم- قال: كان ذلك الكتاب يتلاهى به في القصر، حتى إن بعض الجواري كان يقول لبعض: صيَّر الله عقلك كعقل الذي ملأ كتابه من "ممَا، ممَّا"؛ فبلغ الخبر ابن فرناس، فرفع إلى الأمير يسأله إخراج الكتاب إليه، ففعل فأدرك منه علم العروض، وقال: هذا كتاب قبله ما يفسره. فوجه به الأمير إلى المشرق في ذلك، فأتى بكتاب الفرش، فوصله بثلاثمئة دينار وكساه. وكان مع ذلك يحسن علم الموسيقى، ويضرب العود، ويغني عليه. وذكر قاسم بن وليد الكلبي وغيره من شيوخ أهل شَذُونة، قال: كان محمود بن أبي جميل عندنا غلامًا جوادًا، وكان عاملًا في أخريات أيام الأمير عبد الرحمن بن الحكم، فعمل قبة أدم بلغت النفقة فيها وفي وطائها خمسمئة دينار، فلما كملت ضربها على وادي لكة، وصنع صنيعًا جمع له أشراف الكورة، ووافق ذلك اطلاع عبد الملك بن جهور أو يوسف بن بخت ضياعه بشذونة، فاستجلبه محمود مع بياض الكورة، فشهد وشهدوا. فلما تقضى طعامهم، وصاروا إلى المؤانسة وعندهم أحد بني زرياب المغني، طلع عليهم عباس بن فرناس زائرًا لمحمود، فقام محمود إليه والتزمه، وسُرَّ جميعهم بوروده، ثم عرض عليه الطعام فطعم، ثم صار إلى المؤانسة، ودفع ابن زرياب يغني: ولو لم يَشُقني الظَّاعِنون لشَاقَني ... حَمَامٌ تداعَتْ في الدِّيَار وُقوعُ تَدَاعَيْنَ فَاسْتَبْكَيْنَ مَن كانَ ذا هوًى ... نوائحُ ما تجري لهنَّ دُموعُ فاستعادوه الصوت إعجابًا، فأعاده. فلما تقضَّى غناءُ ابن زرياب مدَّ عباسٌ يده إلى العود، وغنَّى البيتينِ، ووصلهما من عنده بديهة، فقال: شددتُ بمحمودٍ يدًا حينَ خَانَها ... زمانٌ لأسبابِ الرجاءِ قطوعُ

219 - أبو عبد الله محمد بن عبد الله

بَنَى لمساعي الجود والمجدِ قبَّةً ... إليها جميعُ الأَجْوَدِينَ ركوعُ وكان محمودٌ جوادًا، فقال له: يا أبا القاسم، أعزُّ ما يحضرني من مالي القبةُ، وهي لك بما فيها من كسوتي هذه، ونكون في ضيافتك بقية يومنا. ودعا بكسوةٍ فلبسها، ودفع إليه كسوته، وكانوا يومهم كذلك، فلما حان الافتراق قال له عبد الملك بن جهور: يا أبا القاسم، هذه القبة لا تصلح لك، ولا بد من بيعها، وهي عندي بخمسمئة دينار. فقال عباس: هي لك. 219 - أبو عبد الله محمد بن عبد الله كانت له رحلة، وقرأ القرآن على عثمان بن سعيد المعروف بورش صاحب نافع؛ واستأدبه الأمير الحكم بن هشام لبنيه، وولي ابنه محمد الخزانة، وتصرف بنوه في الخطط إلى أيام عبد الرحمن الناصر لدين الله -رضي الله عنه-. وكان عالمًا بالقرآن، بصيرًا بالعربية، وذا حظ من الزهد، ولم يغير حالته التي كان عليها قبل اتصاله بالسلطان.

الطبقة الرابعة

الطبقة الرابعة 220 - يزيد بن طلحة هو يزيد بن طلحة العبسي، ويعرف بيزيد الفصيح، أخذ عن خصيب الكلبي والخشني ومحمد بن غاز. وكان أستاذًا في علم العربية واللغة، مقدمًا مشهورًا بالفضل، شائع الذكر، وكان ذا حظ من البلاغة. وكتب إلى أهل قرمونية يحضهم على الطاعة: (إنَّ أحقَّ ما رجع إليه الغالون، ولحق به التالون، وآثره المؤمنون، وتعاطاه بينهم المسلمون، ممَّا ساء وسرَّ، ونفع وضرَّ؛ ما أصبح به الشمل ملتئمًا، والأمر منتظمًا، والسيف مغمودًا، ورواق الأمن ممدودًا؛ وليس من ذلك أولى بإحراز الثواب ولا أحرى من الدخول في الطاعة، وترك الشذوذ عن الأئمة، فإلى الله نرغب في المعونة على أحسن بصائرنا في وَهْيٍ يَرْقَعُه، وشعبٍ يلأمه، وسلك ينظمه، وأن يجعل ما حضضناكم عليه من اجتماع الإلف، والدخول في الطاعة اختبارًا يصل لنا به خير الدارين، ويحمل عنا فيه حق الخلافة المرضية، التي هي من الله صلاح لهذه الأمة، وسنة متبعة جامعة لتأليف الشمل، وحقن الدماء، وتحصين الفروج والأموال). ويزيد القائل: فألبسني قُمْصًا من الفضل والنَّدى ... وألبستُه قُمْصَ البديع من الشِّعرِ رياضًا وحَلْيًا لا يزال لباسه ... من اللؤلؤ المكنون والسُّنْدس الخُضْر كأنَّ دقيقَ السِّحر بعضُ نشيدها ... ولكنَّها دقَّتْ فجلَّتْ عن السِّحْرِ تفضَّلَ بالفضل الَّذي هو أهلُه ... وأدركَ ماءَ الوجهِ من قَبْل أن يَجْري أخبرني محمد بن عمر، أخبرني غير واحد ممن شهد إبراهيم بن حجاج، وقد قال له أبو محمد الأعرابي العامري شاكرًا على شيءٍ اصطنعه إليه:

221 - أبو صالح المعافري

تالله ما سيَّدتك العربُ إلَّا بحقِّك. فقال أبو الكوثر الخولاني -وكان حاضرًا-: يا أبا محمد، العلماء عندنا بالعربية يقولون: "سَوَّدتك". فقال: السَّواد: السُّخام، يخطئون ويصحفون! فانتهره إبراهيم وقال: تتسوَّر على الأعراب في لغاتهم! فكتب أبو الكوثر إلى يزيد بن طلحة بالخبر، فأجابه: المعروف: "سوَّدتك" بالواو، ولعلَّ ما ذكر أبو محمد لغةٌ لبني عامر. فلما وردتِ السِّحاءةُ على أبي الكوثر قال: يا أبا محمد، أنكر الأستاذُ ما ذكرتَ. وحكى له قوله، فصاح الأعرابي وهاج، وبعث إبراهيم في يزيد، فلما حضر خرج عليه فقال له: أتتسوَّر على الرجل في كلامه! فقال له ابن طلحة: إنَّ العلم ليس من جهة المغالبة، ولكن من جهة الإنصاف والحقيقة، فليُجِبْني أبو محمد عما أسأله عنه. فقال له: سل. فقال يزيد: كيف تقول العرب: ساد يسود، أو ساد يسيد؟ قال الأعرابي: ساد يسود. فقال يزيد: هذه الواو معنا في الفعل، فكيف تقول العرب: السُّودَدُ، أوِ السِّيدَدُ؟ فقال: السُّودَدُ. فقال يزيد: هذه الواو ثابتة في الاسم. ثم قال: أي منزلة عندكم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- من الفصاحة؟ فقال الأعرابي: فوق كل منزلة. قال يزيد: فقد ثبت عندنا أنه قال: (تَفَقَّهُوا قَبلَ أَن تُسَوَّدُوا)، وهذا حديث لم يطعن فيه أحد من علماء اللغة، كما صنعوا في سائر الأحاديث التي وقع فيها الغلط. فلج الأعرابي وقال: يا أهل الأمصار، ماذا صنعتم بالكلام! 221 - أبو صالح المعافري هو أيوب بن سليمان المعافري، وكان فقيهًا على مذهب مالك -رحمه الله-، وكان مُتفنِّنًا في النحو والشعر والعروض وضروب الآداب. حدثني محمد بن عمر، حدثني أبو هارون فقيهُ نكور قال: قدم عليَّ أبو جعفر أحمد بن محمد بن هارون البغداذي عند دخوله الأندلس،

222 - طاهر بن عبد العزيز

ثم قدم عليَّ عند خروجه عنها، فقلت له: كيف تركتَ الأندلس؟ فقال لي: والله لقد رأيتُ بها ما لم أتوهم أن أراه مع نأي دارها؛ لقد رأيتُ فقهاء، وشعراء، ونحويين، وأدباء، ولقد رأيتُ رجلًا لو حُدِّثتُ أن في الأرض مثله ما صَدَّقتُ. فبادرتُه فقلتُ: أيوب بن سليمان؟ فقال لي: نعم. فقلتُ له: من أين نظرتَ إليه من هذه العين؟ فقال لي: نعم، الناس عندنا كل ذي فن منفرد بفنه، وهذا رجل يتكلم مع أهل الفنون كلهم في فنونهم. وكان أصله من جيَّان. وتوفي أبو صالح يوم الخميس لتسع بقين من المحرم سنة اثنتين وثلاثمئة. وهو القائل: وَمَن تحلَّى بغَيْر طَبْعٍ ... يُرَدُّ قسْرًا إلى الطَّبيعَهْ كخاضِبِ الشيْبِ في ثلاثٍ ... تهْتِكُ أستَارَه الطَّلِيعَهْ 222 - طاهر بن عبد العزيز كان من أهل العلم باللغة والغريب، والرواية للحديث، وأدرك علي بن عبد العزيز، وحمل عنه علم أبي عبيد. 223 - ابن خاطب هو أبو بكر بن خاطب المكفوف، كان ذا علم بالعربية والعروض والحساب، وله تأليف في النحو. 224 - البغل هو أبو الحسن مُفرّج بن مالك النحوي، كان ذا صلاح وفضل ونية في تأديب المتعلمين، وأنجب على يده أكثر أهل زمانه، وله كتاب في شرح كتاب الكسائي.

الطبقة الخامسة

الطبقة الخامسة 225 - عُفير بن مسعود هو أبو الحزم عُفير بن مسعود بن عُفير بن بشر بن فضالة بن عبد الله الغساني. وكان من أهل العلم باللغة، وأخبار العرب، ووقائعها وأيامها، ومشاهد النبوة؛ وأرواهم للشعر، وكان من أهل مَوْرُور، ثم انتقل إلى إشبيلية، وخرج عنها عند حدوث الفتنة بها إلى قرطبة، فلم يزل ساكنًا بها حتى مات. ولما قدم العجلي من العراق منع كتبه وضن بها، واستدعى الناسَ إلى أن يُملِيَ عليهم، فتسارب الناسُ إليه، وانجفلوا إلى مجلسه، فخلا مجلس الخشني. قال عفير: فقال لي الخشني: ما لك لا تسرع إلى ما أسرع الناس إليه؟ فقلت له: لست أبغي بك بدلًا. فقال: أحب أن تأتي الرجل وتشهد مجلسه. فغدوتُ إلى العجلي، فحضرتُه يملي: المِرَّةُ العداوةُ، وجمعُها مِرَرٌ. وكان أحدُ من يكتب بين يديه زيدٌ الجيَّاني، فقلت: يرحمك الله! قال أبو عبيد في "المصنف": المِئْرَةُ العداوةُ، وجمعُها مِئَرٌ. قال: فكأني أنظر إلى زيدٍ قد محا ما كتب، وقال: هذا الحق. ثمَّ رددتُ عليه كلمةً ثانيةً، وثالثةً في المجلس، فانفض الناسُ عنه، ولم يعد إليه بعدها أحد. وبدر الخبرُ إلى الخشني، فلما أتيتُه استدناني، وقبَّل بين عيني، وقال لي: نِعمَ مستودَع العلم أنت! وكان أحمد بن بشر بن الأغبس، وعبد الملك بن شُهَيْد قد تمالآ

226 - ابن أزهر الإستجي

على عُفَير، واستخرجا من كتاب "العين" حروفًا مهملة، ونسخا من ذلك دفترًا ضخمًا، ولقيا عفيرًا بالكتاب، وأغربا به عليه، فأبطل جميع ذلك وأسقطه، ودفع أن يكون من كلام العرب، فقال له عبد الملك بعد أن نهض إليه فقبل يده: قبح الله بلدًا ضاع فيه مثلُك. وكان عفير قد أسنَّ وبلغ المئة، فكان أبناء الملوك يتغفلونه، ويخبرونه عن الجن بأخبار يصنعونها له، فيتقبل ذلك منهم. وتوفي في ربيع الآخر سنة سبع عشرة وثلاثمئة. 226 - ابن أزهر الإستجي هو موسى بن أزهر؛ كان عالمًا باللغة، حافظًا لها، متقدمًا فيها، يُقرأ عليه شرحُ الحديث، والغريبُ المصنفُ ظاهرًا. 227 - صالح بن معافى كان من ذوي العلم بالعربية والرواية للشعر، وكان يؤدب عند بني فُطَيس، وكان ذا خيرٍ وفضلٍ في الدين، وكان محمد بن يحيى القلفاط قد كايده، وأراه أنه ممن يبتغي النظرَ عنده، وانتسب له إلى البادية، فأظهر له صالح بن معافى الاجتهاد في تأديبه وتبصيره، فاختلف القلفاط في ذلك إليه أيامًا، إلى أن أُعلم صالحٌ بخبره، فأمر تلاميذه بضمِّه إلى بعض سواري المسجد، ثم تناول ضربه، وأمر التلاميذ أن يتداولوه بالضرب؛ حتى كادوا يأتون عليه. 228 - الحكيم هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل؛ كان الغاية في علم العربية والحساب وحد المنطق، وكان دقيق النظر، لطيف الاستخراج، صحيح الخاطر، ولم

يكن أحدٌ من أهل زمانه يتقدمه في علمه ونظره، وأنجب على يديه جملة من المؤدبين والشعراء والكتاب، وكان بكيَّ اللفظ، عيًّا بالمخاطبات، ثقيلًا في إملاء النحو، فإذا أخذ في إثارة المعاني اللطيفة، والمسائل الدقيقة لم يتعاطه أحد من أهل زمانه في ذلك، بل كان ألحظهم في الفهم عنه، والتلقن لما يورد. وأخذ عن محمد بن الغازي ما جلبه من الأشعار المشروحة رواية عنه، وسماعًا عليه، ولم يكن له في قرض الشعر كبير حظ، ولا رُوِي له في ذلك غير ما أذكره الآن له. أخبرنا بعض المتأدبين أن محمد بن يحيى القلفاط بات عنده ليلة، فسَهِرا صدرَ ليلتِهما، ثمَّ ناما بقيَّتَها حتى تبلَّجَ الصُّبحُ، وكادت الشمسُ تطلُع عليهما، فانتبه القلفاطُ فقال للحكيم: يا ديكُ ما لكَ لم تَصْرُخْ فتنبِهَنا ... لقد أسأتَ بنا، ديكَ الدَّجاجاتِ يا آكلًا للقَذَى يا سَالِحًا عَبَثًا ... على الحَصير بَهيميَّ البَهيماتِ فأجابه الحكيم فقال: لقد صرختُ مرارًا جمَّةً عددًا ... قبلَ الصَّباحِ وبعدَ الصُّبْحِ تاراتِ لكن علمتُك نوَّامًا وذا كسلٍ ... قليلَ ذكرٍ لجبَّارِ السَّماواتِ وأنشدني بعضهم له: سَلْ تَقِيًّا باللهِ يابنَ تقيِّ ... هل ترى قتلَ مُستهامٍ شجيّ كُلَّما جنَّ ليلُهُ بات يَرْعَى ... أنجمًا هائمًا بطرفٍ خفيّ يا سَمِيَّ النَّبيِّ حسبُكَ ما بي ... لا تزدْني جوًى بحقِّ النَّبيِّ قال محمد: شدَّد الحكيمُ ياءَ "شجيّ"، وهو جائزٌ، وإن كان علماء النحو قد حظروا ذلك، وزعموا أنَّ الياءَ من "الشجي" مخففة، ومن "الخلي" مثقلة، والقياس ما ذكرنا، قد جاء بالتشديد لأبي دواد الإيادي:

229 - القلفاط

مَن لِعينٍ بدمعِها مَوْليَّهْ ... ولنفْس بما عراها شجيَّهْ فبناها لى "فعيلة". وعاش الحكيمُ حتَّى بلغ ثمانين سنة، وأدَّب أميرَ المؤمنين الحكمَ المستنصر بالله -رضي الله عنه-، وأعقبه ابنًا قدَّمه أميرُ المؤمنين -رحمه الله- إلى خزانة المال. وتوفي لعشر خلون من ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين وثلاثمئة. 229 - القلفاط هو أبو عبد الله محمد بن يحيى بن زكريا، وكان بارعًا في علم العربية، حافظًا لها مقدمًا فيها، ولم يكن أحد يقارن الحكيمَ في علمه وثقابة ذهنه في نظره غيره؛ إلا أن الحكيم كان يفوق الجميع بما قدمنا ذكره من لطيف النظر. وكان حافظًا للغة بصيرًا بها، وكان شاعرًا مُجوِّدًا مطبوعًا، وكان يُقصِّدُ فيطيل ويُحسن. أخبرني أبو إسحاق إبراهيم بن معاذ -وكان أديبًا صدوقًا- قال: أخبرني بعض من دخل العراق من الأدباء قال: استنشدني المعوَّج ببغداذ لأهل بلدنا، فأنشدته لأحمد بن محمد بن عبد ربه قصيدةً، وثانية، فلم يستحسن شيئًا مما أنشدته، فأنشدته لمحمد بن يحيى: يا غَزَالًا عَنَّ لي فابـ ... ـتَزَّ قلبي ثمَّ وَلَّى أنتَ مِنِّي بفُؤادِي ... يا مُنَى نَفْسِيَ أَوْلَى حتى أتيت على آخر الشعر، فقال: هذا الشعرُ بختْمِهِ، لا ما أنشدتني به آنفًا. حدثني محمد بن عمر بن عبد العزيز، أخبرني بعض الشيوخ أنه شهِد

عبيد الله بن يحيى وهو يُحدِّث ببعض القُطعان، إلى أن حدَّث بحديثٍ ذكر فيه: "لا يُسَجّي المسلم في عرض أخيه"، وكان في المجلس أحمد بن بشر بن الأغبس، وزيد البارد، ومحمد بن أرقم، فبدر ابن أرقم فقال: سبحان الله! هذا لا ينتسب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه أمر بالتَّسجية والسّتْرة. فخجل الشيخ والتفت إلى ابن الأغبس، فقال: ما تقول يا أبا القاسم؟ فقلت: أنا وإن كنت أَتقدَّمُهما في السِّنِّ فهما يتقدمانني في العلم، ولستُ أتكلم بمحضرهما. فقال لهما عبيد الله: اطلبا للكلمة مخرجًا، دون أن تغيرا خطَّها. فقالا: يمكن أن يكون "لا يَسْحي المسلم في عرض أخيه". قال: وما "يسحي"؟ قالا: يقشِر، يقال: سحوت القرطاس، وسحيت السَّحَاءة، وسَحَتِ المطرةُ الأرضَ. واستشهدا ببيتٍ من الشعر: أصابَ الأرضَ من نَوْء الثُّريَّا ... بساحيةٍ فأخطأت الطّلالَا قال المحدِّثُ: فخرجتُ عن المجلس بعدما انفضَّ أهلُه، فلما أتيتُ باب العطارين إذا محمد بن يحيى القلفاط، فقال لي: مِن أين؟ قلتُ: من عند الشيخ أبي مروان. فقال: حفظ الله الشيخ، شيخ المسلمين وابن شيخهم، وسيدهم وابن سيدهم، فهل من خبر فيما هنالك؟ قلتُ: نعم، حدَّث الشيخُ بكذا، فقال عائذًا بالله أن يُنسَب هذا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فقلتُ له: بدر ابنُ أرقم قال كذا. فقال: ابن الأرقم لقد ارتقى مرتقًى صعبًا، أَوَقَدْ يتكلَّمُ في مجالس العلماء! فما قال ابن بشر؟ قال: تابعه على مقالته. قال: فما قال زيدٌ؟ قلتُ: قال كذا وكذا. قال: نعم حمار الطاحونة. ثم أطرق عني ساعة ثم قال: ليس كما قالا، والصواب: "لا يشْحَى المسلم في عرض أخيه". قلتُ: وما "يشحَى"؟ قال: يفتح فاه بسبِّه،

يقال: شَحَا الحمارُ فاه بالنهيق. قال: فصابحت المجلس من الغد، فألفيتُ ابن أرقم جالسًا، فقصصتُ له القصةَ، فقال ابن الأغبس: هذا والله الصواب، وصدق أبو عبد الله. وكان محمد بن يحيى كثير الثَّلْب لأعراض الناس، شديدَ التعرُّض لهم، كثيرَ المهاجاة للأدباء، وكأنه شأنُه التَّهكُّم بالمؤدِّبين، يتطرَّق عليهم، ويتنكَّر لهم، وقد ذكرنا قصَّته مع صالح بن معافى. وكان مع ذلك وسخَ الثيابِ، رَذْلَ الهيئةِ، نَزْرَ المروءةِ. حدثني أبو العباس الطَّبِيخيُّ قال: لما كثَّر محمدُ بن يحيى بهجاءِ حُرقُوص، وكان سبب هجائه أنَّ حرقوصًا وعده بالخروج معه إلى كرْمٍ له بالجبلِ، فشُغِل عن أن يفِيَ له بما وعده، فلجَّ محمدُ بنُ يحيى في هجاء حُرقوصٍ، فبلغ ذلك والدَ حرقوص، فدارى محمد بن يحيى ولاطفه، واستركبه إلى الكرم، وجنى له منه ما حمله إلى منزله، فلم يرجع محمد بن يحيى عن هجائه، فاستخار اللهَ حرقوصٌ في الفتك به، فتوخَّى وقتًا يخلو فيه محمد بن يحيى في داره، وأعدَّ معه سكينًا، ثم تسوَّر عليه في داره، فلما بصُر به محمدٌ أيقنَ بالشر، واستقبل القبلة ودخل في الصلاة، فأمسك عنه حرقوص، فقال: يا فاسق، واللهِ لولا أنك عذتَ بالله؛ للقيتُ الله بدمائِك؛ فإنك زنديق حلال الدم. وحرقوص هذا غير صاحب الطبقات، وأنشد بعض الأدباء لمحمد بن يحيى: يا سائلي عن وزن مُسْحَنْكِك ... مِن آن أَيْنًا وأَنَى يَأْنِي تقديرُه مِن آنَ "مؤينِّينٌ" ... ومن أنى قولك: "مؤينِّي" فهكذا تقديره منهما ... ليسَ على ذي بصرٍ يُعْيي ثم الكسائي وتصغيرُه ... أسهلُ شيءٍ أيها الملقي تصغيرُهُ لا شكَّ فيه كسـ ... ـلّيٌ فمنْ في مثل ذا يُخطي! أربعُ ياءاتٍ وأنت امرؤٌ ... نقصتَه ياءً ولم تدرِ

230 - الأقشتيق

وبعدَ هذا فَعِيَنْ واسمَعَنْ ... فإنَّني إيَّاك مُسْتَفْتِي عن وزنِ فَيْعُول وعن وز ... ن فعلول جميعًا من طوى يطوي وعن فَعُولٍ من قويٍّ ومَفْـ ... ـعول أجب واعْجَلْ ولا تُبْطِي وكيف تصغيرُ مَطايا اسم إِنْـ ... ـسان وما الحرف الذي تُلْقِي منه فإنْ كنتَ به جاهلًا ... فلست تُحْلِي لا ولا تُمْري وعن خطايا اسمًا تَسَمَّى به ... إن كنتَ تصغيرًا له تَدرِي هل ياؤُهُ قلْ بَدَلٌ لازمٌ ... أنت لها لا بدَّ مُسْتَبْقِي أم هل تعودُ الياءُ مهموزةً ... فَسِّر لنا تفسيرَ مُستقْصِي إن كان تصغيرُ مطايا كتصـ ... ـغير خطايا قُلْ ولا تُخْطِي فإن تُصِبْ هذا فأنت امـ ... ـرؤٌ أعلمُ من خليلٍ النَّحْوِي قال محمد بن حسن: لم يصنع شيئًا في قوله: "آن أَيْنًا"، وفي قوله: "مُؤْيَنِّي"، والصواب: "آن يئينُ أَوْنًا"، وتقدير "مُسْحَنْكك" منه: "مُؤْوَنِّنٌ"؛ لأنَّ اشتقاقَ "يَئِينُ" من الأوان. فإن قال قائل: كيف يكون "فَعَلَ يَفْعِلُ" مِن ذوات الواو، وقد حَظَرَ ذلك جماعةُ النحويين؟ قيل له: إن "يئين" على مثال "فَعَلَ يَفْعِلُ" مثل: حَسِبَ يَحْسِبُ، وكذلك زعم سيبويهِ نصًّا. وقد ذكر القُتبيُّ أنَّ "آن يئين" مقلوبٌ مِن "أنا نأنى" وذلك أيضًا غلطٌ؛ لما قد بيَّنَّاه، فأما "أنا يأنى" فمن ذوات الياء، ومنه اشتُقَّ الإني والإناء لواحد الآنية، وكذلك قوله: "ولا تُمْرِي" إنما هو: "ولا تُمِرّ"، والذي قاله من كلام العامة. 230 - الأقشتيق هو محمد بن موسى بن هاشم بن زيد، مولى المنذر -رضي الله عنه-.

231 - ابن الأغبس

وكان متصرفًا في علم الأدب والخبر، ورحل إلى المشرق، فلقيَ أبا جعفرٍ الدِّينَوَرِيَّ، وانتسخ كتاب سيبويه من نسخته، وأخذه عنه روايةً، وأخذه عن المازني، وروى كتب ابن قتيبة عن إبراهيم بن جميل الأندلسي، أخذها عنه بمصر، وله كتب مؤلفة في الأدب، منها: شواهد الحكم، وكتاب طبقات الكتَّاب. وتوفي في رجب سنة سبع وثلاثمئة. 231 - ابن الأغبس هو أحمد بن بشر بن محمد بن إسماعيل التُّجيبيّ. كان فقيهًا على مذهب الشافعي، ومائلًا إلى الحديث، وكان لحق بأهل الشورى، وكان يتفقه في مجلسه للشافعي، فإذا شهد مجلس الشورى قال بقول أصحابه. وكان عالمًا بكتب القرآن، قد أتقن كل ما قاله فيه قائل من جهة التفسير والعربية، كثير الرواية، جيد الخط، ضابطًا للكتب؛ وأخذ عن العجلي، والخشني، وابن الغازي، وطاهر بن عبد العزيز. وتوفي سنة ست وعشرين وثلاثمئة. 232 - ابن أرقم هو محمد بن محمد بن أرقم، وكان من أهل العلم بالعربية واللغة والكلام في معاني الشعر، وكان مؤدبًا لأمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر -رضي الله عنه-، وكان أبوه يؤدب أبناء الخلفاء -رضي الله عنهم-. ولما أمر أمير المؤمنين عبد الرحمن -رضي الله عنه- بانتساخ شعر حبيب؛ أحضره وأحضر جماعةً

من الأدباء، منهم: موسى بن محمد الحاجب، ومحمد بن يحيى القلفاط، وابن فرج المعروف بالبيساري. وكان ابن فرج من أهل العلم بالعربية، وكان لا يناظر الحكيم والقلفاط من أهل الزمان غيره، فشاورهم: أي القصائد يقدم في صدر الكتاب؟ فقال ابن أرقم: إنما يفضل الشعر ويقدم لغرابته وحسن معناه؛ وشعره الذي فيه وصف القلم لم يتقدمه عليه متقدم، ولا لحقه فيه متأخر. فدفعوا جميعًا عليه، وقالوا: الوضيع يتعصب للوضيع -يعنون ابن الزيات- فأخجلوه، فبينا هم كذلك إذا استؤذِن لأبي عبد الله الغابي، فأذن له، فلما استوى في المقعد سئل عما جرى من القول، فقال: أخبرني أبو الحسين المغني: أن أهل بغداذ لا يفضلون على شعره اللامي الذي ذكر فيه القلم شيئًا؛ لغرابة معناه. والغابي يعلم شيئًا من اختلافهم في ذلك، وإنما سئل عما يجب تقديمه. فاستطال ابن أرقم على أصحابه، فقال: مَثَلي مع هؤلاء ما قاله حبيبٌ:

233 - زيد البارد

كلاب أغارتْ في فريسة ضَيْغَمٍ ... طروقًا وهامٌ أُطعِمَتْ صَيْدَ أَجْدَلَا وإنما يغمُّني أن أكون في بلدٍ يتحكَّم عليَّ فيه مَن لا يعرف ما أقول. 233 - زيد البارد هو زيد بن الربيع بن سليمان الحَجَري، وكان له حظ من العربية واللغة، وكان حسن الضبط للكتب، متقنًا لها، وهو الذي جمع بين الأبواب في كتاب الأخفش، فاقتدى الناس به، وكانت الأبواب متفرقة، رأيت النسخة الأولى، فرأيت أبوابها مفترقة. وتوفي في صفر سنة ثلاثمئة. 234 - أبو الوليد الغافقي هو هشام بن الوليد بن محمد بن عبد الجبار، وكان علمُ العَرُوض أغلبَ، وكان قصير الباع في العربية، وأدب أمير المؤمنين عبد الرحمن -رضي الله عنه-، وأدب الحكم أمير المؤمنين -رحمه الله-. وتوفي سنة سبع عشرة وثلاثمئة. 235 - أبو الفتح سعدان كان ذا علم باللغة والعربية. 236، 237 - ثابت بن عبد العزيز السرقسطي، وابنه قاسم كانا من أهل العلم بالعربية، والحفظ للغة، والتفتن في ضروب العلم؛ من علم الدين وغيره، ورحلا إلى المشرق، فلقيا رجال الحديث ورجال اللغة، وجمعا هنالك علمًا كثيرًا، وهما أول من أدخل كتاب العين بالأندلس. وألف قاسم كتابًا في شرح الحديث سماه كتاب "الدلائل"، وبلغ فيه

238 - الجرفي

الغايتين: الإتقان، والتجويد؛ حتى حُسِد عليه، وذكر الطاعنون أنه من تأليف غيره من أهل المشرق، فمات قبل إكماله، فأكمله أبوه ثابت بن عبد العزيز. سمعت إسماعيل بن القاسم البغداذي يقول: لم يُؤلَّف بالأندلس كتاب أكمل من كتاب ثابت في شرح الحديث، وقد طالعت كتبًا أُلِّفت فيما لديكم، ورأيت كتاب الخشني في شرح الحديث وطالعتُه، فما رأيته صنع شيئًا، وكذلك كتاب عبد الملك بن حبيب. قال محمد بن حسن: ولو قال إسماعيل: إنه لم ير بالمشرق كتابًا أكمل من كتاب قاسم في معناه؛ لما رددتُ مقالته، على أن لأبي عبيد في هذا الفن فضل السبق عليه. وقال إسماعيل: أخذتُ كتاب الدلائل على ولد قاسمٍ إعجابًا مني بالكتاب، وما كان ولده أهلًا للأخذ عنه. قال محمد بن حسن: وكان ابنه مُضعَّفًا، وكان ثابتٌ وقاسمٌ من أهل الفضل والورع والعبادة. 238 - الجرفي هو محمد بن سليمان الأنصاري المكفوف، وكان ذا فضل وعبادة، وكان حسن الإفهام، مجتهدًا في التأديب، وأنجب على يديه خلق كثير، وكان مُقرئًا، وقرأ القرآن على ابن الرَّفَّاء، وقرأ ابنُ الرَّفَّاء على ابن خيرون، وعلى ابنة صاحب الفرن ببغداذ، وكانت لا نظير لها في القراءة. وتوفي في رجب سنة ست وعشرين وثلاثمئة. 239 - المنذر بن عبد الرحمن هو أبو الحكم المنذر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن المنذر بن الإمام عبد الرحمن بن معاوية -رضي الله عنه-، ويُعرف بالمذاكرة؛ لأنه كان إذا

لقِيَ رجلًا من إخوانه قال له: هل لك في مذاكرة باب من النحو؟ فلهج بهذه الكلمة، وأكثر منها، حتى نُبِز بها. وكان له القدر النبيل، والحظ الموفور في العربية وعلم الأدب، مع التصاون والنزاهة وحسن السمت، وكان قريب المكان من الوزير القائد أحمد بن محمد بن أبي عبدة، كثير اللزوم له والتكرر عليه؛ إذ كان ممن نشأ معه، وجمعه التأدب به. وحكى بعض الأدباء عن محمد بن عبد الرحمن بن زياد قال: استأذن أبو الحكم على أحمد بن أبي عبدة في بعض الأيام وأنا عنده، وقد غصَّ المجلس بعِلية الرجال وأعلامهم من مواصل وطالب حاجة، فأذن له وأوسع له في مقعده، ومال إليه بوجهه، وأقبل على محادثته. وكان أحمد قد دعا بسيفه للركوب إلى القصر، فوُضِع بين يديه، فلما انقضى ما بينهما من الحديث مدَّ أحمدُ بن محمد بن أبي عبدة يدَه إلى السيف فأقلَّه، وأقبل على أبي الحكم فقال له علانيةً: يا سيدي، إن سمَّيتَ هذا السَّيفَ من أعلاه إلى أسفله بما سمته العرب؛ فهو لك. فمد أبو الحكم يده إلى السيف، فأخذه والحياء بادٍ على وجهه، ثم وضع يده اليمنى على قائمه، فذكر ما فيه ما سمَّته العربُ به، وانتقل إلى التسمية إلى جميع ما فيه، حتى وصل إلى ذلك بأسفله، ثم لفَّه بحمائله، ووضعه بين يدي أحمد بن محمد بن أبي عبدة، فعجب جميعُ مَن شَهِد المجلسَ مِن سعةِ علمِه، وصحة حفظه، وحضور ذهنه، وأمر ابنُ أبي عبدة الخادمَ بين يديه أن يخرج بالسيف إلى غلام أبي الحكم ويدفعَه إليه، فاستعفاه أبو الحكم، فأقسم أحمد بن محمد أن لا بد من ذلك، وأمر بإحضار سيف آخر فركب به. وحدثني بعض الأدباء قال: سأل المنذرُ بن عبد الرحمن محمدَ بن مُبشّر الوزير في بعض مجالسه: كيف تأمُر المرأةَ، بالنون الثقيلة، مِن "غَزَا يَغْزُو"؟ فأجال ابن مبشر فيها فِكرَهُ، فلم يتجه له جوابها، فقال له: يا أبا الحكم، ما رأيتُ أشنعَ من مسألتك! اللهُ يأمرُها أن تقرَّ في بيتها، وأنت تُريد أن تأمرها بالغزو! وكان ممن اتصل بأمير المؤمنين -رضي الله عنه- في أيام جدِّه رحمه الله،

240 - بجنين

وهنَّأه بالخلافة عند مصيرها إليه بأشعارٍ ذكر فيها تأميلَه له، وصَغْوَه نحوه. وهجا أبو الحكم محمد بن عبد الجبار؛ فتخلَّص مِن أبُوَّته؛ وبلغ في هجوه إلى إرادته، فقال: لَئِنْ كَرُمَتْ عُرُوقُك مِن قُريشٍ ... لقد خَبُثَتْ فُرُوعُكَ مِن نَوارِ فنِصفُكَ كاملٌ من كُلِّ مَجْدٍ ... ونِصفُكَ كاملٌ مِن كُلِّ عَارِ 240 - بجنين هو أبو محمد عبد الله بن حرب بن إبراهيم بن عبد الملك بن يحيى بن إدريس الكلابي المعروف ببجنين. كان من أهل العلم بالنحو، دقيق النظر فيه، صحيح القياس على مسائله. وكان مُنجِبًا في المُتأدِّبين عنده. وتوفي في شهر رمضان سنة أربع وثلاثين وثلاثمئة. 241 - أبو عمرو بن حجاج هو قاسم بن محمد بن حجاج بن حبيب بن عُمَير؛ كان من أهل العلم بالنحو واللغة والحفظ لأيام العرب، وكان مُتقدِّمًا في علم العروض وعلم النحو. حدثني ابنه محمد بن قاسم، حدثني أبي قال: كنتُ كثيرَ المنازعة لأبي محمدٍ الأعرابي العامري أيام وُرودِه علينا، وكان قليلَ الالتفات إلى أهل العلم بالعربية، مُظهِرًا للغنى عنهم، فقال لي يومًا: يا أبا عمرو، تقولُ للمرأةِ: أنتِ تَوَدِّينَ كذا؛ فكيف تقولُ للنِّسوةِ، فقد اختلط عليَّ ذلك بسبب دخولي أمصاركم ومخالطتي لكم؟ فقلتُ في نفسي: الحمد لله الذي

242 - حرقوص

أحوجَه إليَّ. ثم قلتُ: يا أبا محمد، في ذلك لغاتٌ للعرب؛ تقول للنسوة: أَنْتُنَّ تَوْدَدْنَ، وتَادَدْنَ، وتَيْدَدْنَ، وتِيدَدْنَ؛ كلُّ ذلك تقولُه العربُ. وكان أبو عمرو مستعملًا للغريب في كلامه، شديد التقعر في لفظه. حدثني أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الأشعث -وكان شيخًا حافظًا للأخبار- قال: دخل أبو عمرو يومًا على عمه إبراهيم بن حجاج، فقال له: ما الذي حبسك عنَّا، وبطأ بك عن مجلسنا؟ فقال له: أصلحك الله! أوجعني ظُنبوبي. قال: وما الظُّنبوبُ؟ قال: مُقدَّم عظمِ الساق. وكان بين يديه طبقٌ فيه سَفَرْجَلٌ جليلٌ، فأمر مَن حضر من الخدمة أن يبطحوه على ظهره، وقال: تناولوا هذا السَّفَرْجَلَ، فأوجعوا به ظُنبوبَه. وكانت روايته عن يزيد بن طلحة، ومحمد بن الغازي، وغيرهما من العلماء؛ وكان من حاضرة إشبيلية، وتوفي بها. 242 - حُرقُوص هو عثمان بن سعيد الكناني، مولى لهم، من أهل جيَّان. وكان راويةً للحديث، حافظًا للأخبار، بليغَ اللِّسان، مُترسِّلًا، وكان يتفنن في علم الأدب، وله كتاب في طبقات الشعراء بالأندلس، جلب فيها أخبارهم. 243 - أحمد بن عبد الكريم كان من أهل جيَّان، ويُنبَز بالرّنُوك، وكان له حظ من علم العربية والشعر، وكان يؤدب بالمدينة. 244 - محمد بن أصبغ المجدّر هو أبو مروان محمد بن أصبغ بن ناصح المرادي، ويعرف بالناعورة، وكان ذا علم بالعربية، وبصر بمعاني الشعر، حسن التأدية له.

245 - ابن حجاج

245 - ابن حجاج هو محمد بن أيوب بن سليمان بن حجاج، ويعرف بالبكك، وكان من أهل العلم باللغة، والحفظ لها، ومن ذوي الإتقان في خطه وضبطه، وكان له حظ من فقه، وولي قضاء كورة تُدمِير. 246 - محمد بن سيد هو محمد بن أحمد بن سيد بن عمر بن حبيب بن عمير، كان نحويًّا لغويًّا، وشاعرًا مطبوعًا، وأخذ عن ابن الغازي وغيره من العلماء، وكان من حاضرة إشبيلية، وأشراف جندها، وتوفي سنة ثلاثمئة. 247 - أبو العباس بحوَم كان ذكيًّا في معاني الشعر، حسن التقريب لها، وكان له حظ من إعراب ولغة. 248 - يحيى بن السمينة كان متقدمًا في ضروب من العلم، متفننًا في الأدب، حافظًا للأخبار القديمة، وذا حظ من علم الفقه، وكان يقول بالاستطاعة ويعلن بها. 249 - عمير بن عمر بن حبيب بن عمير كانت له رحلة إلى الشرق، وسماع ورواية للفقه واللغة، وكان ساكنًا بحاضرة إشبيلية.

250 - ابن وقاص القرشي

250 - ابن وقاص القرشي هو أبو عبيدة وقاص، وكان من ذوي الفصاحة والعلم باللغة، وكان مطبوع الشعر، غزير القول، وكان من أهل مَوْرُور، ويسكن إشبيلية. 251 - محمد بن إسماعيل كان بصيرًا باللغة والشعر، وكان يؤدب بمسجد متْعَة. 252 - مذحج المؤدب كان من ذوي العلم بالشعر، وكان ذا حظ صالح من العربية، وكان يقرض الشعر. 253 - الأذيني هو محمد بن غانم، وكان من ذوي الفصاحة والعلم باللغة، والقرض للشعر، وكان من أهل أشُونة. 254 - أبو عبد الله الغابي كان من أحفظ الناس لأخبار أهل الأندلس، وأشعار شعرائهم، وما دار بينهم من نتف أخبارهم وفكاهاتهم، وكان ذا فهم بارع، وخلق نبيل، ومنظر جميل، وكان يُقرأ عليه شعر حبيب، وعنه أخذ أبو العباس الطبيخي، وكان من ذوي التقدم في صناعة الشعر، وله بديهة عند أمير المؤمنين الناصر -رضي الله عنه- في أول خَرجة خرجها إلى المدَوَّر إثر احتباس الغيث، فلما استقر بالمدور انسكب الغيث، ووافق ذلك مرور الغابي من باديته، فوقعت

255 - المروكي

عينه عليه، وأمر بصرفه، فلما صار بين يديه أمره بالقول في خروجه -وكانت أول خرجة خرجها- ويذكر الغيث، فقال بين يديه على البديهة بعد أبيات من النشيد: بدا الغَيْثُ لمَّا تبدَّى الإمامُ ... فلم يُدْرَ أيُّهما المغْدِقُ هُمَا رحمةُ اللهِ، هذا ندا ... هـ يهمِي، وذاكَ ندًى يَفْهَقُ ترى الناسَ يزهاهُمُ مَخرجٌ ... لمولاهُمُ معجِبٌ مُونِقُ في شعرٍ طويلٍ، فوصله عليه وحباه وكساه. 255 - المرْوكي هو عبد الله بن مؤمن بن عُذَافر التُّجيبيّ، ويكنى أبا محمد، وكان عالمًا بالنحو والشعر والحساب والعروض، حافظًا للقرآن، كثير التلاوة له، وكان على مذهبٍ جميلٍ، وطريقةٍ قويمةٍ، وله أشعار في الزهد، وكان من ساكني إشبيلية، وكتب إلى سعيد بن السليم -وكان أُنزل عليه فارسٌ من فرسانه- بقصيدة أولها: أعلى المؤدب ينزل الفرسان ... وقرى المؤدب ضيفه القرآن 256 - ابن أبي جرثومة هو أبو الأصبغ عيسى بن أبي جرثومة الخولاني، وكان يؤدب بالنحو والحساب والعروض والقرآن، وكان ذا خير وفضل في الدين، وكان مطبوع الشعر غزيره، وله قصائد في سعيد بن السليم، منها قوله: كيفَ بالدَّينِ القديمِ ... لكَ مِن أُمِّ تَميمِ! ولقد كان شفاءً ... مِن جَوَى القلبِ السَّقيمِ

257 - المقصدر

يُشرِقُ الحسنُ عليها ... في دجَى اللَّيلِ البهيمِ خِلتُه بين العَذارَى ... قمرًا بين النجوم وفيها: أصبحَ المُلكُ سليمًا ... بسعيد بن السّليم 257 - المقصدر هو أبو بكر بهلول الخثعمي، وكان مؤدبًا بالنحو والشعر، وكان حسن الخط جيد الضبط، وسكن إشبيلية حتى توفي بها. وقيل: إنه كان قديمًا من قرطبة، وله أشعار صالحة، ومن شعره: اسْلم ومُلِّيت فينا أيُّها الملكُ ... ما دار بالشُّهُبِ الدُّرِّيَّةِ الفلكُ أنت الهُمامُ الَّذِي ما في بديهتِه ... ولا رَوِيَّتِه أَفْنٌ ولا دَرَكُ تَبْأَى بك الصَّافناتُ السابِحاتُ كما ... يَبْأَى على ظهرك السنجابُ والفَنَكُ 258 - طاهر كان بصيرًا بالنحو والشعر والعروض، وكان يؤدب بني هاشم وبني حُدَير. 259 - عبد الصمد كان من أهل التأديب بالعربية، وكان ذا حظ من اللغة. 260 - ضياء بن أبي الضوء كان من أهل العلم بالعربية والشعر، والحفظ لأيام العرب.

261 - أبو عمرو الموروري

261 - أبو عمرٍو المَوْرُورِيُّ هو عثمان بن عمرو، وكان مؤدبًا بالعربية في حاضرة إشبيلية، وكان ذا سمت ووقار ومذهب جميل، وكان له ابنان؛ برع أحدهما في علم الحساب، ورحل إلى المشرق، فظهر هنالك فضله، ونظر الآخر في علم الأدب، فأخذ منه بحظ جزيل، وأدب بعد أبيه.

الطبقة السادسة

الطبقة السادسة 262 - منذر بن سعيد القاضي هو المعروف بالبلوطي، مصنف الغريب، يكنى أبا القاسم، وكان متفننًا في ضروب العلوم، وكانت له رحلة لقي فيها جماعة من علماء اللغة والفقه، وجلب كتاب الإشراف في اختلاف العلماء رواية عن المؤلف محمد بن المنذر، وكتاب العين رواية عن أبي العباس بن ولاد، وكان يتفقه بفقه أبي سليمان داود القياسي الأصبهاني، ويؤثر مذهبه، ويحتج لمقالته، وكان جامعًا لكتبه، فإذا جلس مجلس الحكم قضى بمذهب مالك وأصحابه -رحمهم الله-. وكان ذا علم بالقرآن، حافظًا لما قالت العلماء في تفسيره وأحكامه ووجوهه في حلاله وحرامه، كثير التلاوة له، حاضر الشاهد بآياته، له فيه كتب مفيدة؛ منها: كتاب الأحكام، وكتاب الناسخ والمنسوخ ... إلى سائر تآليفه في الفقه، والرد على أهل المذاهب. وكان ذا علم بالجدل، حاذقًا فيه، شديد العارضة، حاضر الجواب، ثابت الحجة، وكان أخطب أهل زمانه غير مدافع، مع ثبات جنان، وجهارة صوت، وحسن ترسل، وكان ذا منظر نبيل، وخلق حميد، وتواضع لأهل الطلب، وانحطاط إليهم، وإقبال عليهم، وكانت فيه دعابة حسنة، وله خطب عجيبة، ورسائل بينة، وأشعار مطبوعة. وقام بين يدي أمير المؤمنين الناصر لدين الله -رضي الله عنه- عند دخول رسول طاغية الروم عليه، والمجلس محتفل بأهل الخدمة وهم قيام على أقدامهم، فارتجل خطبة عجيبة، وذكر فيها حق الخلافة وفرض الطاعة، ووصلها بهذه الأبيات:

263 - أبو وهب بن عبد الرؤوف

مقالٌ كحدِّ السيف وسْط المحافلِ ... فَرَقْتَ به ما بين حقٍّ وباطلِ بقلب ذكيٍّ ترتمي جَنباته ... كبارق رعدٍ غير رعْشِ الأناملِ لخير إمام كان أوْ هو كائنٌ ... لمقتَبِلٍ أو في العصور الأوائل ترى الناسَ أفواجًا يؤُمُّون فضله ... وكلّهمُ ما بين راضٍ وآملِ وفود ملوك الروم وسْط فِنائه ... مخافة بأس، أو رجاءً لنائلِ فعِشْ سالمًا أقصى حياة معمَّرٍ ... فأنت غياث كلِّ حافٍ وناعلِ ستملكها ما بينَ شرق ومغربٍ ... إلى أرض قُسْطَنْطِين أو درب بابلِ وولي قضاء الجماعة بقرطبة، فلبث قاضيًا إلى أن توفي، فما حفظ له جور في قضية، ولا هوادة بسبب غاية، وهو القائل: هذا المقال الذي ما عابه فَنَدُ ... لكنَّ قائله أزرى به البلدُ لو كنت فيهم غريبًا كنت مُطّرحًا ... لكنني منهم فاغتالني النَّكَدُ لولا الخلافة أبقى الله بهجتَها ... ما كنت أبقى بأرضٍ ما بها أحدُ 263 - أبو وهب بن عبد الرؤوف هو أبو وهب عبد الوهاب بن محمد بن عبد الوهاب بن عبد الرؤوف، وكان بصيرًا بالعربية حاذقًا فيها، وكان قد طالع كتاب سيبويه ونظر فيه، وكان له حظ في قرض الشعر، وهو القائل وكان سِناطًا: ليس لمن ليست له لحيةٌ ... بأسٌ إذا حصَّلتَه لَيْسَا وصاحبُ اللحيةِ مُستقبَحٌ ... يشبهُ في طلَعْتِه التَّيْسَا

إِنْ هَبَّتِ الريح تلاهتْ به ... وماستِ الريحُ به مَيْسَا ودخل يومًا على عبد الملك بن جهْوَر، فأقعده إلى جنبه، ومال إليه يحدثه، ثم دخل الخروبي فأقعده فوقه، فخرج أبو وهب مُغضبًا، وكتب إليه: بلوتُك أسنى العالمين وأفضلا ... وأهذبَ في التحصيلِ رأيًا وأجملا فقل لي: ما الأمر الذي صار مُخمِلي ... لديكَ، فأضحى مُسقِطًا لي مُخمِلا تُقدِّمُ مَن أضحى تقدَّم لومُه ... لقد ظلَّ هذا مِن فعالِكَ مُشكِلَا وما كنتُ أرضى -يعلمُ اللهُ- أنَّني ... مُساوِيه في الفردوسِ دارًا ومَنزِلَا فإن كنتَ قد قصَّرتَ بي عن مَحِلَّتِي ... صبرتُ، وما زال التَّصبُّرُ أجملَا ورحتُ على الدهر المُلِمِّ ألومُه ... فقد هِيضَ أعلاه وغودر أسفلا وكنت حَذيرًا خائفًا لك أن ترى ... لمثلي نصيبًا من ودادك أجزلا عذرتُك إلا أنَّ فَرْطَ محبتي ... وإخلاصَ وُدِّي سَهَّلا لي التَّذلُّلا فأجابه عبد الملك: ظلمتُك فيما كان مني مجمَلا ... على غير تحصيلٍ وعاتبتَ مُجمِلا تقربتَ من قلبي وإن كنتَ آخرًا ... وأُخِّر عن قلبي وإن كان أَوَّلَا ومتّ إلى غيري بعصرٍ تتابعت ... أياديه فيه فاستطال تذلُّلَا وإن كان رَبْعي كله لك مَقْعَدًا ... تبوَّأُ منه حيثُ أحببتَ مَنزِلَا وما أجهلُ القدرَ الذي أنت أهلُه ... ولا سرنا أضحى عليك مُظلِّلَا وما لي لا أرعى حقوقَك كلها ... وأشكر عذبًا من هواك مُعسَّلَا

264 - يوسف بن سليمان الكاتب

وأنت أخ لي في القرابة والهوى ... وإِلْفي إذا أعيا الأليفُ وأعضلا وما ليَ من عُذرٍ يفي بجنايتي ... ولا خُطَّةٍ أُضحِي عليها مُعوِّلَا فإنْ عنَّ تقصيري بغيرِ تعمُّدٍ ... فغطِّ عليه مُنعِمًا مُتطوِّلَا وكان ذا كِبرٍ عظيمٍ، وبأوٍ مفرطٍ، ويُظهِر مع ذلك زهدًا! وولي الوزارة، وكان لا يزال يورد على أصحابه من الوزارة مسائلَ من عويص النحو، حتى برِموا منه، واستعفوه من ذلك. 264 - يوسف بن سليمان الكاتب كان من أهل العلم بالعربية، حافظًا لها، حسن القياس، لطيف النظر، وكان كاتبًا بليغًا عالمًا بحدود الكتابة، بصيرًا بأعمالها، ووَلِي خُطَّة الخزانة والمخزون. 265 - يوسف البلوطي هو أبو عمر يوسف بن محمد بن يوسف بن سعيد بن سعد بن سراج بن طريف. أخذ عن طاهر بن عبد العزيز، وابن الأغبس، وكان حافظًا للغة، وذا حظ من العربية، وأدب عند الحديريين، وكان يُقرأ عليه كتاب الأدب، وكتاب يعقوب في إصلاح المنطق، ونحو ذلك من كتب اللغة. وتوفي سنة أربع وثلاثين وثلاثمئة. 266 - درود هو عبد الله بن سليمان بن المنذر بن عبد الله بن سالم المكفوف. وكان له حظ جزيل من العربية، وكان يَقْرِض الشعر، ويمدح الملوك، وله في ذلك قصائد حسان، واستأدبه أمير المؤمنين الناصر لدين الله -رضي الله عنه- لولده. وتوفي سنة أربع وعشرين وثلاثمئة.

267 - سعيد بن قدامة البلوطي

267 - سعيد بن قدامة البلوطي كان مؤدبًا عالمًا بالعربية، وكان يميل إلى مذهب الكوفيين، وكان ذا سمت ووقار. 268 - الذهن هو أيوب مصوَّر، كان ذا علم بالعربية، ومؤدبًا بها، وأدب ولد أمير المؤمنين الناصر لدين الله -رضي الله عنه-. 269 - أحمد بن محمد الأعرج هو أبو عمر أحمد بن محمد بن هاشم بن خلف بن عمرو بن سعيد بن عثمان بن سليمان الغازي القيسي الأعرج. وكان قد سمع الحديث، ورواه عن محمد بن عمر بن لبابة، والقاضي أسلم بن عبد العزيز، وأحمد بن خالد، وغيرهم، ثم مال إلى النحو فغلب عليه، وقيل: إنه طلب النحو ليستعين به على علم الحديث والفقه، فأدركه بعض الاختلال عند اتخاذه العيال، فجعل التأديب عونًا على ما لزم من مؤونتهم، إلى أن توفي. وكان مهيبًا في تأديبه، وكان لا يجترئ أحد ممن تأدب عنده أن يظهر غير الجد، وكان هو يلقب بالقاضي. وتوفي سنة خمس وأربعين وثلاثمئة. 270 - أحمد بن يوسف هو أحمد بن يوسف بن حجاج بن عمير بن حبيب بن عمير، كان من أعلم الناس بالنحو، وأحفظهم لمسائله، وكان كتاب سيبويه بين يديه، لا يني عن مطالعته في حال فراغه وشغله وصحته وسقمه، وكان من أحذق

271 - أبو أيوب بن حجاج

الناس بعلم العروض، وأحفظهم له، وكان شاعرًا مجودًا، وكان له حظ من علم الموسيقى، وبسبب ذلك كان يصغي إلى الملاهي. وتوفي سنة ست وثلاثين وثلاثمئة. 271 - أبو أيوب بن حجاج هو سليمان بن سليمان بن حجاج بن عمير، وكان شاعرًا مجودًا، وخطيبًا بليغًا، حافظًا للأخبار القديمة، جيد الاقتصاص لها، وكان له حظ من العربية واللغة، وقال الشعر بعدما أسن فأحسن وجود، وهو القائل في ابن عمه أحمد بن يوسف -وكان بينهما تباعد-: قريبُ رِحْمٍ، بعيدُ مَرْحمةٍ ... ما نالني من أذًى فمنه وبه وله قصائد حسان جيدة المعاني حلوة الألفاظ، منها قصيدته الكافية التي يقول في أولها: كنتُ حُرًّا فصِرتُ عبدًا ومِلْكًا ... لظلومٍ لا أرتجي منه فَكّا وقصيدته التي أولها: أَقِلِّي من اللَّومِ أو أكثِري ... سواءٌ على قلبِ مُستهترِ وفيها: يروحُ ويغدُو على وَصْلِهِ ... بجهرٍ مُريبٍ وسرٍّ بَرِي ولمَّا نُبِش قبرُ عمه إبراهيم بعد ثلاثين عامًا من دفنه، اتَّهم بعضَ مَن

272 - ابن الجرز

كان يناوئهم، فقال: لئن شَمِتَ الواشون بالحادثِ الذي ... عَرَا الجدَثَ المحبوبَ مِن نَبْشِ طارِقِ بليلٍ سرى والليلُ يكتم أهلَه ... فهلَّا أتاه عامدًا صُبْحَ شارق! فما نَبشُوا إلَّا المكارمَ والعُلَا ... وما إن رأينا خالدًا في المهارق وفيها يقول: وإلَّا فقولوا: نحنُ أربابُ نبشِه ... فيدرون إنْ كان الوعيدُ بصادقِ وأخذ عن ابن الغازي وغيره من العلماء. وتوفي سنة ثمان وثلاثين وثلاثمئة. 272 - ابن الجرز هو عمر بن عثمان بن محمد بن عمر بن حبيب بن عمير، كان من أهل البلاغة والشعر، وكان ذا حظ من اللغة والنحو، وله رسالة ناقض فيها عبد الله بن المقفع في "اليتيمة"، فظهر فضله فيها، وهو القائل في أمير المؤمنين الناصر لدين الله -رضي الله عنه-: يابن الخلائف أنت الغيث مُنْسكبًا ... والليثُ في مُلتظَى الحربِ الهزَبْرِيُّ والثامنُ المرتجى للمَشرِقَينِ معًا ... يدينُ حُبَّك شرقيٌّ وغربيُّ ويرتجيك شآميٌّ يزيديٌّ ... ويتَّقيك عراقيٌّ حُسَينيُّ ولو رآكَ بنو العباس ما اختلفتْ ... علومهم أنك الهادي الهشاميُّ وأنت المقتضي تلك الحقوق وما ... للملك غيرُك منصورٌ ومهديُّ وكتب إلى أمير المؤمنين المستنصر بالله -رضي الله عنه- وقد تأخر الإذنُ عنه بعد وصول غيره:

273 - الرازي

يا لبابَ اللبابِ مِن عبد شمسِ ... ومحلَّ الحياة من كلِّ نفسِ إن يكن مُبعِدِي قماءَةُ شخصي ... ورُوائي ففي حديثيَ أُنسِي 273 - الرازي هو أحمد بن موسى، كان نحويًّا لغويًّا، وكاتبًا بليغًا، غزير الرواية، حافظًا للأخبار، وله كتاب في أخبار أهل الأندلس، وتواريخ دول الملوك فيها، بلغ فيه الغاية من الإيعاب والتقصي. وتوفي في رجب سنة أربع وأربعين وثلاثمئة، وكان مولده يوم الاثنين في عشر ذي الحجة سنة أربع وسبعين ومئتين. 274 - الرَّيِّي هو قاسم بن سعدان، كان فقيهًا بصيرًا بالحديث، حافظًا للمسائل، عالمًا بالرجال، واسع الرواية، جيد الخط، غاية في الضبط والتصحيح، وكان جمَّاعةً للكتب متقنًا لها، متفوقًا فيها، وكان له بصرٌ تامٌّ بالنحو واللغة. وتوفي سنة سبع وأربعين وثلاثمئة. 275 - الحكيم الأزدي هو عبد الله بن عبيد الله، وكان ذا حظ من علم اللغة، وحفظ الأخبار والأنساب. وكان يقرض الشعر الحسن، وكان ذا تعصب شديد للقحطانية. وتوفي منتصف شهر رمضان سنة إحدى وأربعين وثلاثمئة.

276 - ملحان

276 - مِلْحان هو مِلْحان بن عبيد الله بن مِلْحان بن سالم، مولى مسلمة بن عبيد الرحمن، وكان له حظ من علم العربية، وكان مؤدبًا بها، وكان له نظرٌ في حد المنطق، ومطالعة لكتب الفلسفة، واستأدبه أمير المؤمنين -رضي الله عنه- لولده. وتوفي في سنة أربعين وثلاثمئة. 277 - ابن الأصفر هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله المكفوف القرشي، مولى لهم. كان مؤدبًا بالقرآن والشعر والحديث والنحو، وكان له حظ من علم النحو، واحتجاج في مذاهب المتكلمين، وبصر بمعاني شعر حبيب وغيره من أشعار المحدثين، وكان يقرض الشعر، وله في أمير المؤمنين الناصر -رضي الله عنه- قصيدة تائية سأله فيها صرف حانُوت كان اغتصبه إياه إبراهيم بن حجاج، أولها: شَتَّتَ دَمعي شَتًّا أيَّ تشتيتِ ... بما بِلَحْظِكَ من بَادي التَّماويتِ وفيها: وكنتُ صاحبَ حانوت فصيَّره ... جَوْرُ ابن حجاج في جمِّ الحوانيت وكتب إلى عبد الله بن بدر بأبيات، كان سببُها أنه كان مَعْنِيًّا بثلاثة شخوص عُورِ العيون كواسج، وكانوا يعتمرون له ضَيْعة، وهي قوله: لله أنت فقد أحسنت ما شينا ... أعطيتنا كرمًا أقصى أمانينا إن الكواسجة العورَ العيونِ أتوْا ... وأنت ترغبُ عنهم حين يأتونا وإنهم لمساكينٌ سواسيةٌ ... واللهُ أوصاك أن تُعطي المساكينا أدَّوْا عُشُورَك واستبقَوْا على وجَلٍ ... وليس عندهمُ شيء يُؤدُّونَا

278 - الغافقي الوراق

وكان بذيء اللسان، شديد النيل من الأعراض، وله في جَهْور بن عبد الله: وإني امرؤٌ أستغفر الله كلما ... هجوت امرأً إلا أبا الحزم جَهْوَرا وكان ساكنًا في حاضرة إشبيلية، ثم رحل إلى قرطبة، فسكنها حتى توفِّي بها. 278 - الغافقي الوراق هو أبو القاسم محمد بن حمدون، أصله من كُورة مَوْرور، وسكن إشبيلية، ثم رحل إلى قرطبة، وروى عن أحمد بن خالد ونظرائه، وعُنِي بكتب اللغة وحفظها، وكان له حظ من الفقه. 279 - الطبيخي هو أبو العباس وليدُ بن عيسى بن حارث بن سالم بن موسى. ذكر محمد ابنه أنَّ وليدًا كان يقول: إنه من ولد رشيد، مولى الوليد بن عبد الملك، وكان ذا علم باللغة والشعر، وكان له حظ من علم العربية، وكان بصيرًا بمعاني الشعر، حسن التلقين، لم يتبلد فهمه عنها، وكان يُقرِّبُها ويضرب الأمثال فيها، حتى عرف بذلك، وتنافسه الملوك، فلم يؤدب إلا عند الجِلَّة، وكان خيِّرًا ديِّنًا، وله شروح في شعر حبيب وصريع قريبة مبسوطة. وتوفي في شوال سنة اثنتين وخمسين وثلاثمئة. 280 - المكلفخي أبو عبد الله، كان عالمًا بالعربية، رواية للشعر، وأدَّب بعضَ ولدِ أمير المؤمنين -رضي الله عنه-.

281 - الخيطي

281 - الخيْطي هو أبو حفص عمر بن يوسف. كان من أهل العلم بمعاني الشعر، حسن التكلم فيه، وكان يتعصب للبحتري، وكان له حظ من علم العربية، وكان شاعرًا مطبوعًا مجودًا، وامتدح أمير المؤمنين الناصر لدين الله -رضي الله عنه- بجملة قصائد. وأصله من كورة إشبيلية، ورحل إلى قرطبة فسكنها حتى توفي فيها، وذلك في سنة ثمان وثلاثين وثلاثمئة. 282 - أبو القاسم عبد الوهاب بن يونس كان مؤدبًا بالعربية، حافظًا جيد القياس فيها، وكان ذا ورع وفضل في الدين، وتوفي في سنة ... وثلاثمئة. 283 - أصبغ المؤدب يكنى أبا القاسم، وكان من أهل الحذق بالعربية، والعلم بمعاني الشعر. وكان ذا سمت ووقار ومذهب جميل، واستأدبه أمير المؤمنين الناصر لدين الله لابنه المغيرة، فأحمد في تأديبه. 284 - ابن الحصار هو أبو عمر أحمد بن مضاء، كان نحويًّا ذكيًّا، حسن القياس، جيد التلقين، وكانت له أوضاع في النحو زل في كثير منها، وذلك أنه كان قليل الدراسة لكتب النحويين، تاركًا لمطالعتها، وكان يعول على قياسه وتعليله، فكان كثيرًا ما يعلل المسألة فيخطئ في اعتلاله، وكان في بدء أمره ذا حالة قويمة ظاهرها الزهد والورع، ثم انتقل عن ذلك إلى ضده عند دخوله في حد

285 - ابن عثمان الأصم

الاجتهاد، فلم يزل على ذلك إلى أن أدركته وفاته، ونعوذ بالله من الحور بعد الكور. 285 - ابن عثمان الأصم هو أبو المطرف عبد الرحمن بن محمد بن عثمان بن أبي إسماعيل الأسدي الأطروش، كان نحويًّا لغويًّا، فصيح اللسان، شاعرًا مجودًا، وأكثر أشعاره على مذاهب العرب، وله أراجيز فصيحة، وكان أصم أصلخ، فإذا أحب المرء إخباره كتب له في الهواء، أو رمز له بشفتيه، فيفهم ويكتفي بذلك منه، وكانت له رحلة سنة أربع وثلاثمئة لقي فيها أبا الخضيب الفارسي المكي النحوي، ولقي الخيزراني. وتوفي سنة خمس وثلاثين وثلاثمئة. 286 - إدريس بن ميثم كان نحويًّا دقيق النظر، بصيرًا بحد المنطق، كثير المطالعة لكتب الأوائل، حاذقًا بعلم الحساب والتنجيم، وكان شاعرًا مجودًا، وكان مع ذلك ثقيلًا عند المفاوضة، ولا يدل ظاهره على كثير علم، فإذا فوتح في أكثر الفنون برز واستبان فضله، وكان يرمى بالخروج عن الملة، وكان أصله من كورة إشبيلية، فرحل إلى قرطبة، ورأس على منتحلي الكلام فيها، وله قصائد تدل على علمه، وتنبئ عن جودة طبعه، وتأتِّي الكلام له، منها قصيدته التي أولها: في طُروقِ الخيالِ نحو الملمّ ... بُلغةٌ من وِصالِ مَن لا أُسمِّي

287 - المعافري

وفيها يقول: ومِنَ الجوْر أن يكون زَماني ... ماضيًا فيَّ حُكمُه وهو خَصْمي وقصيدته التي أولها: هل على ذي صَبابةٍ ورسيسِ ... حرجٌ بالبُكَا برسمٍ دَريسِ أرِجِ النفس بالدموعِ ففيها ... مِن جوى الشَّوْقِ راحةٌ للنُّفوسِ وقِفِ العِيسَ تقضِ حقَّ المغاني ... إنَّ مِن حقِّها وقوف العيسِ وفيها: وقريضٍ يفضُّ من زهَر الرَّوْ ... ضِ ويُزري على حُلِيِّ العَروس ظلَّ إدريسُ شاكرًا فيه نُعْمَى ... أُسدِيتْ آنِفًا إلى إدريسِ ساسهُ سائقُ القوافي المعمّى ... برياضاتِ صعبِها والشّمُوسِ 287 - المعافري هو أبو إسحاق إبراهيم بن عبيد الله. كان ذا رواية للحديث وكتب اللغة، حافظًا لها، وأخذ الحديث عن أحمد بن خالد، وابن فطيس الإلبيري، ونظرائهما، وكتب الفقه عن أحمد بن بشر بن الأغبس، وكان شاعرًا مجودًا مطبوعًا، ثم أجبل في آخر عمره، ورحل عن حاضرة إشبيلية إلى بادية له بقربها، فسكنها في بذاذة هيئة، وتقتير في عيشه، مع مجد وسعة يد. وتوفي سنة اثنتين وستين وثلاثمئة.

288 - ابن أصبغ الكاتب

288 - ابن أصبغ الكاتب هو أبو بكر محمد بن أصبغ. كان من أهل العلم باللغة والشعر، وله حظ من العربية، وكان جيد الخط حسن التقييد، وكان شاعرًا مطبوعًا، سهل الكلام، سبط اللفظ، وكان مسكنه حاضرة إشبيلية، ومما حفظ له عند وفاته قوله: إِنِّي دُعِيتُ لِوردٍ ما له صَدَرُ ... وجاء ما كنتُ أخشاه وأنتظرُ وأقبل الموتُ نحوي في عساكره ... فالنفسُ سائلةٌ والجسمُ يَنفطِرُ لو كان يُغنِي فرارٌ منه أو وَزَرٌ ... لكان عندي مفرٌّ منه أو وَزَرُ لكنَّه أجلٌ قد خطَّه قلمٌ ... في اللَّوح يحفره الميقات والقدَرُ اللهُ حسبي لا ربَّ سواه ولا ... لي مَوْئِل غيره أرجو وأعتصِرُ فهو الذي إذْ تسمَّى في البديِّ بأسـ ... ـماءٍ مُعظَّمةٍ يعفو ويغتفِرُ يا ربِّ إنَّك ذو عفوٍ وذو كرمٍ ... فارحمْ مُسيئًا ضعيفًا ليس يعتذِرُ 289 - ابن قرلمان هو فرح أبو محمد، كان مؤدبًا بالعربية، وكان الأغلب عليه علم النجم، وكان شاعرًا مطبوعًا، وسكن إشبيلية. 290 - البرشقيري هو أبو الأصبغ عثمان بن إبراهيم، كان عالمًا بالعربية والحساب، مؤدبًا بهما، وكان حاذقًا بالنجامة، شاعرًا صالح الشعر، وكان مهيبًا في تلاميذه، ذا وقار وسمتٍ، وله تأليف في النحو، وسكن حاضرة إشبيلية.

291 - إسحاق بن إبراهيم بن محمد

291 - إسحاق بن إبراهيم بن محمد كان ذا علم باللغة والعربية، وحفظ للمسائل، ورواية للحديث، وكان شاعرًا مطبوعًا، وله حظ من بلاغة، وكان من أهل كورة باجة. 292 - ابن عبد الرؤوف هو أبو عبد الله محمد بن عبد الرؤوف، كان متفننًا في ضروب الآداب، كثير المطالعة لكتب الأخبار، حافظًا للُّغة، وكان له حظ من الجدل والاحتجاج على أهل المذاهب، وكان بليغًا مترسلًا، وألف في الأخبار والتواريخ، وطبقات الشعراء بالأندلس، فجود في ذلك، وبلغ الغاية في الإتقان. 293 - عافي المكفوف هو أبو عبد الله عافي بن سعيد، مولى بني سيد، كان حافظًا للعربية، كثير الشاهد في مسائلها، وكان له حظ من علم الحساب، وكان بصيرًا بمجادلة أهل الكتاب، مطالعًا لكتبهم، ومستشرفًا على مذاهبهم. 294 - ابن زيد هو أبو عبد الله محمد بن زيد، مولى الإمام عبد الرحمن بن الحكم -رضي الله عنهما-، كان عالمًا بالعربية، صحيح الرواية للشعر، وأخذ عن الحكيم محمد بن إسماعيل. 295 - ابن عروس هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عروس، من أهل مورور، كان

296 - محمد بن يحيى الرباحي

دقيق النظر في العربية، ذكيًّا فهمًا، بصيرًا بالعروض، حاذقًا بعلم الحساب. وتوفي حَدَثًا ابن اثنتين وعشرين سنة، وذلك سنة ثمان وثلاثين وثلاثمئة. 296 - محمد بن يحيى الرباحي هو أبو عبد الله محمد بن يحيى بن عبد السلام الأزدي، كان ينتمي إلى يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، وأصله من جيان، وهنالك نزالة جده الداخل أبي العوجاء المنسوب إليه الفحص المعروف بفحص أبي العوجاء، وانتقل أبوه أو جده إلى قلعة رباح فسكنها فنسب إليها، وكان حاذقًا بعلم العربية، دقيق النظر فيها، لطيف المسلك في معانيها، غاية في الإبداع والاستنباط، ولم يكن ظاهره ينبئ عن كثير علم، فإذا فوتش ونوظر لم يُصْطَلَ بناره، ولم يشقَّ أحدٌ غُبارَه، وكان قد طالع كتب أهل الكلام، وتفنن فيها، ونظر في المنطقيات فأحكمها، إلا أنه لا يتقلد مذهبًا من مذاهب المتكلمين، ولا يعول أصلًا من أصولهم، إنما يعول على ما يميل إليه في الوقت، ويؤثره بالحضرة، ولو أنه تناول الباطل البحت، والمحال المحض، لما استطيع صرفه عنه، ولا قطع حجته فيه، وربما ناظر أهل الفقه على مذهب الاحتجاج والتعليل، وأهل الطب والتنجيم في دقائق معانيهم ولطائف مسائلهم، مناظرة من عني الدهر الطويل بعلمهم، وشغل نفسه بمدارسة كتبهم، فيقطعهم ويستشرف عليهم؛ وذلك للطف حسه، وصحة خاطره، وحذقه بإعمال القياس على أصله، وكان قليل المعاناة لدراسة الكتب ومطالعة المسائل، إنما دأبه الغوص على دقيقة يستخرجها، ولطيفة يثيرها، وقياس يمده، وأصل يفرعه، فربما اختل في حفظه، وأدرك في سواد كتابه.

ورحل إلى المشرق، فلقي أبا جعفر النحاس، فحمل عنه كتاب سيبويه رواية، ولازم علَّان وناظره، وكان يذكر من دقة نظره وجودة قياسه. وقدم قرطبة فلزم التأديب بها في داره، فانجفل الناس إليه، ثم انتقل إلى أحد الحُدَيْرِيِّين فمكث عنده مدة، وقرئ عليه كتاب سيبويه، وأخذ عنه رواية، وعقد للمناظرة فيه مجلسًا في كل جمعة. ولم يكن عند مؤدبي العربية ولا عند غيرهم من عني بالنحو كبير علم، حتى ورد محمد بن يحيى عليهم، وذلك أن المؤدبين إنما كانوا يعانون إقامة الصناعة في تلقين تلاميذهم العوامل وما شاكلها، وتقريب المعاني لهم في ذلك، ولم يأخذوا أنفسهم بعلم دقائق العربية وغوامضها، والاعتلال لمسائلها، ثم كانوا لا ينظرون في إمالة ولا إدغام ولا تصريف ولا أبنية، ولا يجيبون في شيء منها، حتى نهج لهم سبيل النظر، وأعلمهم بما عليه أهل هذا الشأن في الشرق، من استقصاء الفن بوجوهه، واستيفائه على حدوده؛ وإنهم بذلك استحقوا اسم الرياسة. وكان من ذلك ذا وقار وسمت وصيانة، وتزاهة نفس، وكريم خليقة، وصحة نية، وسلامة باطن، إلى عفاف وحياء ودين، وكان له من قرض الشعر حظ صالح، وكان سريع الاستخراج للمُعمَّى، جيد الفطنة فيه، وكتب إليَّ بأبياتٍ طيَّر فيها بيتًا من الشعر -وقلَّما رأيتُ التطييرَ موزونًا-: اسمع ورُدَّ الجوابَ عما ... فيه أُحاجيك بالمعمَّى بيتًا من الشعر ذا حدود ... تدْعَى حروفًا وهنَّ أَسما يبدأ فيها سُمٌ عجيب ... ما إنْ يرى تحته مُسمَّى وبعدَه اسمُ الرئيس فيها ... أميرها والمطاع حكْمَا مكرَّرٌ فيه وهو فَرد ... في غَيْر إِذْ تخطُّ رسْمَا والنَّسْر يتلوه وهْو فيه ... أَقْصَى حروفِ الذي يُعَمَّى ثم الشقَرّاق وابن ماء ... وبالحُبَارى يُجِدُّ عَزْمَا والدّيك والصقْر والقَمارِي ... مع الحُبارَى، فقَدْكَ عِلْمَا

والصَّقْر قد علّق الحبارى ... في موطن للحِمام حُمَّا وبعدَ ذاك الكَرى الملقِّي ... عِقالُه اليومَ حيثُ أَمَّا ثم ابن ماءٍ وببَّغاه ... مر القمارِيّ وهْوَ لَمَّا يتمّ إلا بلفظ اسمٍ ... معدوم معنًى إذا يسمَّى وبعدَه الببَّغا وما قد ... حواه بيت الكرى وضمَّا وبعده للغراب حرفٌ ... والباز ثم الظَّليم ثَمَّا حرفٌ به تمَّت المعاني ... اسمٌ صحيح وليس جِسْمَا فهاكها يا فتى المعاني ... مثل اللآلي نُظِمْنَ نَظْمَا وافْخَر بإخراجِك المُعمَّى ... فيها على مُخْرِجي المعمَّى فأجبتُه فقلتُ: يا ألطفَ العالمين علما ... وأعظمَ الأحلَمِين حِلْمَا أغْرقتني في بحورِ فكرٍ ... فكدتُ منها أموتُ غَمَّا كلَّفتَني غامضًا عويصًا ... أرجُم فيه الظنونَ رجمَا بيتًا من الشعر ذا رسوم ... لم أك منها عهدت رسمَا تصدُّ إِذْ رُمته بنبْلٍ ... حتى إذا ما يئستُ أَوما ما زلت أَسْرو السجوفَ عنه ... كأنَّني كاشفٌ لِظَلْمَا أقرُبُ من نيْله وأنأَى ... مستبصرًا تارةً وأعمى حتى بدا مُشرقَ المحيَّا ... كالبدر لمَّا اعتلى وتمَّا لله من منطق وجيزٍ ... قد جلَّ قدرًا ودقَّ فهمَا أخلصتَ لله فيه قولًا ... سَلَّمتَ لله فيه حُكمَا إذ قلتُ قولَ امرئٍ حكيمٍ ... مُرَاقِبٍ للإلهِ عِلمَا الله ربِّي وليُّ نفسي ... في كُلِّ بُوسَى وكُلِّ نُعْمَى

وكتب إليَّ، وإلى عبد الله بن حمود الزُّبيدي بقصيدة مطولة، أولها: خليليَّ من فرْعَيْ زُبَيْدِ بن مَذْحِجٍ ... قفا واسمعا قد يسعِد الشَّجنَ الشَّجِي ألم تعلما أني أرِقتُ وشاقني ... خيال سَرى وهْنًا ولما يُعَرِّجِ وقصيدة أولها: يا خليليَّ عرِّجا بمحبٍّ ... هيضَ سقمًا فما يريم الفِراشا فأجبناه عن قصيدته بأربع قصائد مطولات، وكان قد غَبَر مدةً لا يستفيد له من الشعر إلا ما يُرغَب فيه، ثم ناقَلَنَا الشعرَ، فحسنَ شعره، وسَلس طبعه. وله قصيدة رثى بها أحمد بن موسى بن حدير بناها على مذاهب العرب، وخرج فيها عن مذاهب المحدثين، فلم يرضها العامة. وكان أبو إسماعيل بن القاسم شديد الإعجاب بها، كثير الثناء عليها، وهي التي أولها: إحدى الرَّزيَّات ولا أُعطِي السَّوَى ... رُزْءًا به دَهْري ولو عزَّ العَزَا وفيها يقول: سائل بطسمٍ والذين قبلَهم ... والحضْر والحَيّ الحِلَال من سَبَا وصنعت له أبياتًا أومأت فيها إلى اسم حددته بوصف مخارج حروفه حدًّا لا يشركُ فيه الحرفَ غيرُه، وناولتُه إيَّاها، فما زاد على التماحها، حتى ظهر له الاسم، والأبيات: قُلْ لِمَن صارَ مُسمًّى ... بأَغنٍّ شفَهيِّ بَيّنِ الجَمر شديدٍ ... غير رِخوٍ نَفسِيِّ

مُشرَبٍ لم يجِدِ المَنْـ ... ـفَذ في غير المضيِّ زائد جاءَ لمعنًى ... ما لهُ حرف بسيِّ قبل حرف لَيِّنٍ في الحـ ... ـس مهموس قصيّ سادس السِّتة من مخـ ... ـرجها العدل السَّطِيِّ إن تقف منه فبالسَّفـ ... ـحِ بلا جَرْسٍ قويِّ بعده مثلُ الَّذِي من ... قبله سِيًّا بِسِيِّ ليس بالزائد لا بل ... ليس منه ببريِّ بعده يُفضي إلى حر ... فٍ شديد قَطَعيِّ قَلِقٍ أُشْبعَ جهرًا ... صَغَطيٍّ جدَلِيّ واستأدبه أمير المؤمنين الناصر -رضي الله عنه- لولده المغيرة، ثم صار بعد ذلك إلى خدمة أمير المؤمنين المستنصر بالله -رضي الله عنه- في مقابلة الدواوين والنظر فيها، وتوسَّع له -رحمه الله- في النُّزُلِ والجراية. ولم يزل لديه أثيرًا، وعند طبقات الملوك مُعظَّمًا مُبجَّلًا حتى توفِّي على أجمل طريقةٍ وأحمدِ مذهبٍ؛ وذلك في شهر رمضان سنة ثمانٍ وخمسينَ وثلاثمئة.

§1/1