طبقات الشعراء لابن المعتز

ابن المعتز

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله الذي أقحم مصاقع الفصحاء بمعجز كلامه، وأخرس شقاشق البلغاء بترتيبه ونظامه، وبهر العرب العرباء باختراع مفتحه وختامه، الذي لا يرتقي نز الأوهام إلى زلازل كنه جبروته، ولا يستحوذ لهام الأفهام على سبر نقطة من مساحة بيداء ملكوته، ولا تؤمل أفكار الحكماء الراسخين، إدراك لمعة من أثيريات لاهوته. ميز نوع الإنسان عن جنسه بفصل الكلام، وفضلّ منه صنف الملوك فعظمت فضائلهم المشتركة بين الخاص والعام. واختص من خلقه نبينا محمداً عليه أفضل الصلاة والسلام. أحمده حمد معترف بالقصور عن أداء ما يجب منه عليه، وأشكره شكر مغترف من بحور فضله منيباً بكليته إليه. والصلاة والسلام على من اهتزت بأرواح نصرة أعطاف دولة العرب، فماج بها خضم دول الأكاسرة والقياصرة فاضطرب، وخضع من إعمال حسامه ربّ التاج والسرير لصاحب

الشاة والبعير، فعطست العرب فرحاً بأنف العز الشامخ، وجرت مرحاً ذيل الشرف الباذخ الذي أبكى بمولده عيون الكفرة فخمدت نار فارس، وضعضع دعائم الفجرة فأصبح إيوان كسرى وهو طلل دارس، محمد المبعوث لامتطاء العباد جادة الرشاد، المبلغ عن الخالق إلى الخلائق قوانين الصواب والقواعد السداد، وعلى آله الذين شيدوا من بيوت الدين قواعد، وشرفوا بأقدامهم أعواد المنابر وساحات المساجد، وأصحابه أئمة الدين ورؤساء أهل اليقين بدور التمام ومصابيح الظلام، ما لمع البرق وغنّى الحمام، وأضحك الروض بكاء الغمام وبعد: فيقول أفقر العباد إلى الله عبد الله بن المعتز بالله بن المتوكل على الله بن محمد المعتصم بالله بن الرشيد بن هارون بن المهدي محمد بن أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنه: عقد الفكر طرفي ليلة بالنجوم، لوارد ورد عليّ من الهموم، نفض عن عيني كحل الرقاد، وألبس مقلتي حلل السهاد، فتأملت فخطر على الخاطر في بعض الأفكار، أن أذكر في نسخة ما وضعته الشعراء من الأشعار، في مدح الخلفاء والوزراء والأمراء من بني العباس، ليكون مذكوراً عند الناس، متابعاً لما ألفه ابن نجيم قبلي بكتابه المسمى طبقات الشعراء الثقات، مستعيناً بالله المسهل الحاجات، وسميته طبقات الشعراء المتكلمين، من الأدباء المتقدمين.

فكان أول ترجمة ابن نجيم بشار بن برد وما له من الأشعار والآثار فنظرت في ذلك أن أجمعهم في هذا الكتاب، فرأيت الاختصار لأشعارهم عين الصواب، ولو اقتصيت جميع ما لهم من الأشعار لطال الكتاب، وخرج عن حد القصد، فاختصرت ذلك وذكرت ما كان شاذاً من دواوينهم، وما لم يذكر في الكتب من أشعارهم، واقتصرت على ما كان من مطولات قصائدهم، وبالله الاستعانة والتوفيق، وإليه المرجع والمآب، وما توفيقي إلا بالله، وعليه فليتوكل المتوكلون، ومنه يطلب الطالبون، وهو حسبي ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير.

أخبار ابن هرمة

أخبار ابن هرمة هو إبراهيم بن علي بن سلمة بن عامر بن هرمة القرشي، أحد بني قيس بن الحارث بن فهر، ويقال لهم: الخلج. حجازي سكن المدينة، ويكنى أبا إسحاق. قال الأصمعي: ختم الشعر بابن هرمة، فإنه مدح ملوك بني مروان، وبقي إلى آخر أيام المنصور. فمن شعره في عبد الواحد بن سليمان: إذا قيل من خير من يجتدى ... لمعترّ فهرٍ ومحتاجها ومن يعجل الخيل يوم الوغى ... بإلجامها قبل إسراجها أشارت نساء بني مالك ... إليك بها قبل أزواجها وكانت له مدائح في عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب وفي حسن بن زيد عليهما السلام، وكان منقطعاً إليهما، فلما خرج محمد ابن عبد الله علي المنصور قعد عنه وقيل له يوماً، وقد أتهم في التشيع أنت القائل: ومهما ألام على حبّة ... فإني أحبّ بني فاطمة

بشار بن برد

بني بنت من جاء بالمحكما ... ت والدين والسنة القائمة فقال: قائلها من عضَ بظر أمه، فقال له ابنه، يا أبت ألست تقولهما في وقت كذا وكذا؟ فقال: يا بني أيهما خير، أعض بظر أمي، أم يأخذني ابن قحطبة؟ وله في الحكم بن المطلب يمدحه: لا عيب يوجد فيك إلا أنني ... أمسى عليك من المنون شفيقا قال ابن المعتز: ومما يستجاد من شعره قوله: قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه ... خلق وجيب قميصه مرقوع بشار بن برد كان شاعراً مجيداً مفلقاً ظريفاً محسناً، خدم الملوك وحضر مجالس الخلفاء، وأخذ فوائدهم، وكان يمدح المهدي ويخضر مجلسه، وكان يأنس به ويدنيه ويجزل في العطايا، وكان صاحب صوت حسن ومنادمة، وكان حضر المهدي في مجلس مع جواريه بعث إليه لأجل المسامرة والمحادثة وكان بشار يعد من الخطباء البلغاء الفصحاء وله قصائد وأشعار كثيرة، فوشى به بعض من يبغضه إلى المهدي بأنه يدين بدين الخوارج فقتله المهدي. وقيل: بل قيل للمهدي: إنه يهجوك، فقتله والذي صح من الأخبار في قتل بشار أنه كان يمدح المهدي، والمهدي ينعم عليه، فرمي بالزندقة فقتله. وقيل: ضربه سبعين سوطاً فمات؛ وقيل ضرب عنقه. وكانت وفاته سنة سبع، وقيل: ثمان وستين ومائة في أيام المهدي.

ولما توفي تذكره المهدي وحسن معاشرته له. كان أنيس مجلسه وقد كان معجباً به وبشعره، وكان يدنيه، وكان بشار كفيفاً قبل موته بأربعين سنة، ولهذا كان يحضر المجلس والجواري عند المهدي لكونه لا يبصرهن. وحكى أن المهدي لما قتل بشاراً ندم على قتله وأحبّ أن يجد شيئاً يتعلق به، فبعث إلى كتبه، فأحضرها وأمر بتفتيشها طمعاً في أن يجد فيها شيئاً مما حزبه عليه، فلم يجد من ذلك شيئاً، ومرّ بطومار مختوم، فظن أن فيه شيئاً، فأمر بنشره، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، إني أردت أن أهجو آل سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، فذكرت قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله، فمنعني ذلك من هجوهم، ووهبت جرمهم لله عز وجل، وقد قلت بيتين لم أذكر فيهما عرضاً ولم أقدح في دين، وهما: دينار آل سليمان ودرهمهم ... كالبابليين شدّاً بالعفاريت لا يوجدان ولا يرجى لقاؤهما ... كما سمعت بهاروت وماروت فقال: الآن والله صح الندم. وحدثني أبو جعفر قال: قال ابن أبي أفلح: قال رجل لبشار: إن الله عز وجل ما سلب أحداً كريمتيه إلا عوضه عنهما حسن صوت أو ذكاء، فأنت فماذا عوضك من بصرك؟ فقال: عوضني فقدان النظر إلى ابن زانية مثلك منذ أربعين سنة. قال السدري: كان عمي بشار من أفقه الناس وأعلمهم بكتاب الله،

فعاشر قوماً من الحرانيين فخبث دينه. وكان مفتنا بارعاً، وكان من الشعر بمكان لم يكن به أحد غيره، وكان يقول: ما أعلم شيئاً مما عندي أقل من الشعر. حدَّثني ابن أبي أفلح قال: أخبرني أبو حاتم السجستاني قال: سئل أبو عبيدة - وأنا حاضر - عن شعر بشار فقال شذرة ونقرة. قال: ودخل المهدي أيام خلافته على جماعة من جواريه، وهن مجتمعات في حجرة بعضهن، فجلس عندهن يشرب، فقلن له: لو أذنت لبشار في الدخول علينا لنسامره ونحادثه - وكان من أحسن الناس حديثاً وأظرفهم مجلساً، وأكثرهم ملحا - فأمر به فأحضر. واجتمعن عليه فحدثهن، وجعل يسرد عليهن من نوادره وملحه وينشدهن عيون شعره، فسررن بذلك سروراً شديداً، وقلن له: يا بشار، ليتك أبونا فلا نفارقك أبداً. قال: نعم، وأنا على دين كسرى. فضحك منه المهدي، وأمر له بجائزة. واطلع المهدي يوماً على بعض جواريه، وهي عريانة تغتسل، فأحست به، فضمت فخذيها، وسترت متاعها بكفيها، فلم يشملاه، حتى انثنت

فسترته بعكن بطنها، فخرج المهدي ضاحكاً، وبشار في الدار، فقال: أجز هذا البيت. " أبصرت عيني لحيني " فقال بشار على البديهة: ................. ... منظراً وافق شيني سترته إذ رأتني ... تحت بطن الراحتين فبدت منهُ فضول ... لم توار باليدين فانثنت حتى توارت ... بين طيٍّ العكنتين فقال المهدي: والله ما أنت إلاّ ساحر، ولولا أنك أعمى لضربت عنقك، ولقد حكيت الأمر على وجهه حتى كأنك رأيته، ولكني أعلم أن ذلك من فرط ذكائك، وجودة فطنتك. وكان بشار مولى لبنى عقيل. وقال بعضهم: لبنى سدوس، وكان يلقب المرعث. والمرعث: المقرط، والرعاث: القرط. وكان يرمي بالزندقة، وهو القائل: كيف يبكي لمحبس في طلول ... من سيبكي لحبس يوم طويل إنّ في البعث والحساب لشغلا ... عن وقوف برسم دارٍ محيل وهذان البيتان يدلان على صحة إيمانه بالبعث. وكان مطبوعاً جدّاً لا يتكلف، وهو أستاذ المحدثين وسيدهم، ومن لا يقدم عليه، ولا يجارى في ميدانه. والصحيح عند أهل العلم أن المهدي قتله بهجوه يعقوب بن داوود وزيره بقوله:

بني أمية هبوا طال نومكم ... إنّ الخليفة يعقوب بن داوود ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا ... خليفة الله بين الزقّ والعود وقال قوم: بل قتله على قوله: لا يؤيسنك من مخبأة ... قول تغلظه وإن قبحا عسر النساء إلى مياسرة ... والصعب يمكن بعدما جمحا فقال المهدي: رميت جميع نساء العالمين بالفاحشة. والقول الأول أثبت. وكان حماد عجرد يهجو بشاراً ولا يلتفت إليه حتى قال فيه: ويا أقبح من قرد ... إذا ما عمي القرد وما اشتد عليه قوله: لو طليت جلدته عنبرا ... لنتنت جلدته العنبرا أو طليت مسكاً ذكياً إذا ... تحول المسك عليه خرا وكان حماد مفلقاً مجيداً، إلا أن موضعه لم يدان بشاراً ولا يقاربه. ومن جيد شعر بشار كلمته في عمر بن العلاء: إذا نبهتك حروب العداة ... فنبه لها عمراً ثم نم ولولا الذي زعموا لم أكن ... لأمدح ريحانة قبل شمّ وحضر بشار يوماً مجلس عقبة بن سلم الهنائي، وقد حضر عقبة بن رؤبة بن العجاج ينشده أرجوزة، فاستحسنها بشار. فقال عقبة: يا أبا معاذ، هذا طراز لا تحسنه أنت ولا نظراؤك، فغضب بشار فقال: تقول هذا؟ والله إني لأرجز منك ومن أبيك ومن جدك. ثم غدا على عقبة ابن سلم الهنائي بأرجوزته الدالية التي يقول فيها: يا طلل الدار بذات الصمد ... بالله خبر كيف كنت بعدي

وفيها يقول: الحر يلحى والعصا للعبد ... وليس للمحلف مثل الردّ وصاحب كالدمل الممد ... حملته في رقعة في جلد فأعجب به عقبة، وقال لأبن رؤبة: والله ما قلت أنت ولا أبوك ولا جدك مثل هذا. ووصل بشاراً وأجزل له العطية. وكان بشار أستاذ أهل عصره من الشعراء غير مدافع، ويجتمعون إليه وينشدونه ويرضون بحكمه. وتشبيهاته - على أنه أعمى لا يبصر - من كل ما لغيره أحسن. ومن ذلك قوله: كأن مثار النقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوت كواكبه ومن خبيث هجائه قوله: فلا تبخلا بخل ابن قزعة إنه ... مخافة أن يرجي نداه حزين إذا جئته للعرف أغلق بابه ... فلم تلقه إلا وأنت كمين فقل لأبي يحيى: من تبلغ العلا ... وفي كل معروف عليك يمين؟ وفيه يقول: بجدك يا بن قزعة نلت مالاً ... ألا إن اللئام بهم جدود

ومن حذر الزيادة في الهدايا ... أقمت دجاجة فيمن يزيد ومما يستحسن لبشار، لإحكام رصفه، وحسن وصفه كلمته التي يقول فيها بيته الذي ذكرناه في التشبيه، فأولها: جفا جفوة فازور إذ مل صاحبه ... وأزرى به أن لا يزال يصاحبه خليلي لا تستكثرا لوعة الهوى ... ولا لوعة المحزون شطت حبائبه شفى النفس ما يلقى بعبدة مغرماً ... وما كان يلقى قلبه وضرائبه فأقصر عن داعي الفؤاد وإنما ... يميل به أمس الهوى ويطالبه إذا كان ذواقاً أخوك الهوى ... توجّهه في كلّ أوب ركائبه فخّل له وجه الطريق ولا تكن ... مطيّة رحّال كثير مذاهبه أخوك الذي إن ربته قال إنما ... أربت وإن عاتبته لان جانبه إذا كنت في كل الأمور معاتباً ... أخاً لك لم تلق الذي لا تعاتبه فعش واحداً أو صل أخاك فإنه ... مقارف ذنب مرة ومجانبه إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ... ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه؟ من الحيّ قيس قيس عيلان إنها ... عيون الندى منها تروي سحائبه وما زال منها ممسك بمدينة يراقب أو ثغر تخاف مرازبه

إذا الملك الجبار صعر خدّه ... مشينا إليه بالسيوف نعاتبه وكنّا إذا دبّ العدوّ لسخطنا ... وراقبنا في ظاهر لا نراقبه غدونا له جهراً بكلّ مثقف ... وأبيض تستسقي الدماء مضاربه كأن مثار النقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوت كواكبه وأرعن يعشى الشمس لون حديده ... وتخلس أبصار الكماة كتائبه تغص به الأرض الفضاء إذا غدا ... تزاحم أركان الجبال مناكبه تركنا به كلبا وقحطان تبتغي ... مجيراً من الهبل المطلّ مغالبه وكان بشار يعد في الخطباء والبلغاء. ولا أعرف أحداً من أهل العلم والفهم دفع فضله ولا رغب عن شعره. وكان شعره أنقى من الراحة، وأصفى من الزجاجة وأسلس على اللسان من الماء العذب. ومما يستحسن من شعره - وإن كان كله حسناً - قوله: أمن تجنّي حبيب راح غضبانا ... أصبحت في سكرات الموت سكرانا لا تعرف النوم، من شوق إلى شجن ... كأنما لا ترى للناس أشجانا أود من لم ينلني من مودته ... إلا سلاماً يردّ القلب حيرانا يا قوم أذني لبعض الحيّ عاشقة ... والأذن تعشق قبل العين أحيانا

وهذا معنى بديع لم يسبقه إليه أحد. وهذه قصيدة طويلة وقد قدمنا في كتابنا هذا أنا نروم الإيجاز والاختصار. ومما يستحسن من شعره أيضاً وهو المعنى الذي لم يسبق إليه: لم يطل ليلي ولكن لم أنم ... ونفى عني الكرى طيف ألمّ فاهجر الشوق إلى رؤيتها ... أيها المهجور إلا في الحلم حدثني عن كتابٍ جاءني ... منك بالذم وما كنت أذم ومن مستحسن شعره رائيته العجيبة البديعة المعاني الرفيعة المباني: رأيت صحابتي بخناصرات ... حمولا بعد ما متع النّهار فكاد القلب من طرب إليهم ... ومن طول الصّبابة يستطار وفي الحيّ الذين رأيت خود ... خلوب الدل آنسةٌ نوار برود العارضين كأن فاها ... بعيد النوم عانقه عقار كأنّ فؤاده كرةٌ تنزّى ... حذار البين لو نفع الحذار يروّعه السرار بكلّ شيءٍ ... مخافة أن يكون به السّرار وودّا لليل زيد إليه ليلٌ ... ولم يخلق له أبداً نهارُ جفت عيني عن التغميض حتّى ... كأنّ جفونها عنها قصار وبلغني أن مسلم بن الوليد وجماعة، منهم أبو الشيص وأبو نواس وغيرهما، كانوا عند بعض الخلفاء، فسألهم عن ديباج الشعر الذي لا يتفاوت نمطه،

فأنشدوه لجماعة من المتقدمين والمحدثين، فكأنه لم يقع منه بالغرض، وسأل عن أحسن من ذلك، فقال أبو نواس: أنا لها يا أمير المؤمنين. وأنشد هذه الأبيات الرائية لبشار، فاستحسنها جدّاً، وقال: ومما أجاد فيه وأفرط قوله في الافتخار: إذا ما غضبنا غضبة مضريّةٌ ... هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دماً إذا ما أعرنا سيّداً من قبيلة ... ذرى منبر صلّى علينا وسلّما ومما يستحسن له قوله في عقبة بن سلم: حيّيا صاحبيّ أمّ العلاء ... واحذرا طرف عينها الحوراءِ إن في طرفها دواء وداءً ... لمحبّ، والداء قبل الدواء عذبتني بالحب عذبها الل ... هـ بما تشتهي من الأهواء يقع الطير حيث يلتقط الح ... ب وتغشى منازل الكرماء إنما همة الجواد ابن سلم ... في عطاء وموكب أو لقاء ليس يعطيك للرجاء وللخو ... ف ولكن يلذ طعم العطاء ومما يختار من مديحه قوله في ابن العلاء فتى لا يبيت على دمنة ... ولا يلعق الشهد إلا بسمّ ثم يأخذ في الافتخار في قوله منها: ألا أيّها السائلي جاهلاً ... لتعرفني أنا أنف الكرم

نمتني الجياد: بنو عامر ... فروعي وأصلي قريش العجم وإنّي لأغني مقام الفتى ... وأصبي الفتاة ولا تعتصم ومن غزله الطيب الحسن المليح قوله: يا منية القلب إنّي لا أسميك ... أكني بأخرى أسميها وأعنيك يا أطيب الناس ريقاً غير مختبر ... إلاّ شهادة أطراف المساويك قد زرتنا زورة في الدّهر واحدة ... فاثني ولا تجعليها بيضة الديك يا رحمة الله حلّى في منازلنا ... حسبي برائحة الفردوس من فيك ومن بدائعه قوله: وخريدة سودٍ ذوائبها ... قد ضمخت بالمسك والورس أقبلن في رأد الضحاء بها ... فسترن عين الشمس بالشمس وله القصيدة المشهورة التي يقول فيها هذا البيت " يا رحمة الله ... الخ " وقد ضمنه أبو نواس بشعره وهو هذا البيت: يا رحمة الله حلي في منازلنا ... وجاورينا فدتك النفس من جار وأخبار بشار كثيرة ونوادره في الشعر وطرائفه أكثر من أن يتضمنها هذا الكتاب على ما قدمنا فيه من إيثارها الإيجاز والاختصار وقد أتينا بما يستدل على ما سواه.

أخبار السيد الحميري

أخبار السيد الحميري هو إسماعيل ين محمد بن يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري، وكان شاعراً ظريفاً حسن النمط مطبوعاً جدّاً، محكم الشعر مع ذلك، وكان أحذق الناس بسوق الأحاديث والأخبار المناقب في الشعر. لم يترك لعلي بن أبي طالب عليه السلام فضيلة معروفة إلا نقلها إلى الشعر. حدَّثني محمد بن عبد الله السدوسي عن المدائني قال: كان أبو هاشم ينال من هذا الشراب، وولي سليمان بن حبيب بن المهلب الأهواز - وكان للسيد صديقاً - فرحل إليه من الكوفة، فأكرمه ورفع مجلسه ونادمه، وأقام عنده حيناً، وكان سليمان لا يشرب الشراب ويمنع من شربه ويتشدد فيه. فامتنع السيد من شربه فأضر ذلك به وتغير لونه، فقال له يوماً: أراك قد تغيرت عن الحال التي قدمت عليها، فقال: أصدقك أيها الأمير، كنت أنال من هذا الشراب فيمرئ طعامي ويشد عضدي ويقوي بدني، فأمسكت عنه مساعدة للأمير أصلحه الله، فصرت إلى ما ترى. فتبسم سليمان وقال: أحق ما يجب علينا من حق من يمدح آل الرسول صلى الله عليه وآله أن نحتمل له شرب النبيذ، فأصب منه فإنه غذاؤك. ثم كتب إلى عامله بالجبل أن احمل إلى أبي هاشم مائتي دورق ميفختج. ودفع الرقعة إلى السيد فقال: أصلح الله الأمير، البليغ من يوجز الكلام ويختصره، قال سليمان: وما رأيت من العيّ؟ قال: جمعك بين كلمتين مستغني بإحداهما، دع

" مي " وامح فختج فقال: صدقت وحمل إليه ما أراد. وحدثني محمد بن عبد الله قال: قال لي السيد: اختصم رجلان في أبي بكر وعلي فأطالا ثم رضيا بأن يحكم بينهما أول طالع يطلع عليهما. فكنت ذاك - وأنا على بغلة، وهما لا يعرفانني - قال محمد: وكان السيد وسيماً جسيماً - فابتدر إليّ الشيعيّ منهما وقال: أصلحك الله، إنا اختلفنا؟ في شيء ورضينا بأول طالع علينا حكماً فقلت ففي ماذا اختلفتما قال: أنا أقول: إن علياً خير الناس بعد رسول الله. قال: فقلت: فماذا يقول هذا ابن الزانية؟ وحدثني محمد بن عبد الله قال: قال السدري راوية السيد: كان السيد أول زمانه كيسانياً يقول برجعة محمد بن الحنيفة وأنشدني في ذلك: حتى متى؟ وإلى متى؟ ومتى المدى؟ ... يا بن الوصيّ وأنت حيّ ترزق والقصيدة مشهورة. وحدثني محمد بن عبد الله قال: قال السدري: ما زال السيد يقول: بذلك حتى لقي الصادق عليه السلام. بمكة أيام الحج، فناظره وألزمه الحجة فرجع عن ذلك. فذلك قوله في تركه تلك المقالة، ورجوعه عما كان عليه ويذكر الصادق عليه السلام: تجعفرت باسم الله والله أكبر ... وأيقنت أن الله يعفو ويغفر ويثبت مهما شاء ربي بأمره ... ويمحو ويقضي في الأمور ويقدر وقال الأنصاري: قال العتبي: ادعى رجل على رجلٍ مالاً عند سوار

القاضي، فطالبه سوار بالبينة، فلم يكن له شاهد إلا السيد ورجل آخر، فأحضرهما؛ فقال سوار: قد قبلنا شهادة أبي هاشم ولكن زدنا في الشهود، فظن السيد أنه رد الشاهد الآخر، فلما خرجا قال له الرجل: والله ما رد إلا شهادتك ولم يفصح بذلك خوفاً من لسانك وتبين الأمر على ما قال: فغضب السيد على سوار وهجاه وخرقه، وفيه يقول: يا أمين الله يا من ... صور يا خير الولاة إنّ سوار بن عبد الل ... هـ من شر القضاة إن سواراً الأعمى ... من ذوي جهر جناة جملي نعثلي ... لكم غير موات جدّه سارق عنز ... فجرة من فجرات لرسول الله والقا ... ذفه بالمنكرات والذي قام ينادي ... من وراء الحجرات يا هناه أخرج إلينا ... إننا أهل هناة فاكفنيه لا كفاه الل ... هـ شرّ الطارقات فهجوناه ومن نه ... ج يصب بالفاقرات

وبعث هذه الأبيات إلى المنصور. وكتب إليه سوار: يا أمير المؤمنين إن السيد رافضي يقول بالرجعة ويرى المتعة. فكتب إليه المنصور: إن بعثناك قاضياً ولم نبعثك ساعياً. وعزله وأقطع السيد أرضاً بالبصرة من أراضي الحجاج. ومن جيد شعره قصيدته التي تسمى المذهبة وهي التي أولها: ين التطرف بالولاء وبالهوى ... أإلى الكواذب من بروق الخلب إلى أمية؟ أم إلى الشيع التي ... جاءت على الجمل الخدب الشوقب تهوي من البلد الحرام فنبهت ... بعد الهدو كلاب أهل الحوأب وهي قصيدة مشهورة جداً، فاقتصرنا على ما أردناه منها. ومن مستحسن شعره في آل رسول الله صلى الله عليه وآله: أتى حسناً والحسين الرسولُ ... وقد برزا ضحوة يلعبان وضمّهما ثم فدّاهما ... وكان لديه بذاك المكان وطأطأ تحتهما عاتقيه ... فنعم المطية والراكبان

والقصيدة أيضاً مشهورة، فاقتصرنا على ما ذكرناه فقط، وقصائد الجياد كثيرة لو اشتغلنا بذكرها لطال شغلنا، وقد حكوا عن بعضهم أنه قال: رأيت حمالاً عليه حمل ثقيل وقد جهده. فقلت: ما هذا؟ قال: ميميات السيد. وحكى عن السدري، أنه كان له أربع بنات، وأنه كان حفظ. كل واحدة منهن أربعمائة قصيدة من شعره، فحسبك هذا. وحدثني الأنصاري قال: أخبرني المنذري قال: لما احتضر السيد نظر إليه غلامه وبكى، فقال له: ما يبكيك؟ قال: وكيف لا أبكي وأنت تموت وليس لك كفن؟ فقال: إذا أنا قضيت فصر إلى صف الخزازين، فقل ألا أن السيد الحميري مادح آل رسول الله صلى الله عليه وآله قد مات ففعل، فوافاه سبعون كفنا فيها الوشي والدبيقي. فهذا خبره، وكان شعره رحمه الله.

أخبار سديف

أخبار سديف كان سديف شاعراً مفلقاً وأديباً بارعاً وخطيباً مصقعاً، وكان مطبوع الشعر حسنه. حدَّثني العوفي قال: حدَّثني أحمد بن إبراهيم الرياحي قال: سلم سديف بن ميمون على رجل من بني عبد الدار فقال له الرجل: من أنت؟ قال سديف: أصلحك الله أنا أحد أهلك، أنا سديف بن ميمون. قال العبدي: والله ما أعرف في أهلي ميموناً قال سديف ولا مباركاً. وحدثني جعفر بن إبراهيم الجعفري: كان سديف مولى لامرأة من خزاعة وكان لها زوج من اللهبيين وادعى سديف بذلك ولاء بني هاشم، وزعم المدائني أنه مولى بني العباس وشاعرهم. وكان سديف في أيام بني أمية يقول: هو برئ من جورهم وظلمهم وعدوانهم، اللهم صار فيئنا دولة بعد القسمة، وإمارتنا غلبة بعد المشورة

وعهدنا ميراثاً بعد الاختيار للأمة، واشتريت المعازف والملاهي بمال اليتيم والأرملة، وحكم في أبشار المسلمين أهل الذمة، وتولى القيام بأمرهم فاسق كل محلة، فلا ذائد يذود عن هلكة، ولا مشفق ينظر إليهم بعين الرحمة، ولا رادع يردع من أوى إليهم بمظلمة، ولا ذو شفقة يشبع الكبد الحرى من السغب، فهم أهل ضرع وضيعة وحلفاء كآبة وذلة قد استحصد زرع الباطل وبلغ نهايته، واستجمع طريده، واستوسق، وضرب بجرانه. اللهم فأتح له يداً من الحق حاصدة تجتث سنامه، وتهشم سوقه، وتبدد شمله وتفرق كلمته، ليظهر الحق في أحسن صورته، وأتم نوره، وأعظم بركته. اللهم - وقد عرفنا من أنفسنا خلالاً تقعد بنا عن استجابة الدعوة، وأنت المفضل على الخلائق أجمعين، والمتولى الإحسان إلى السائلين - فآت لنا من أمرنا حسب كرمك وجودك وامتنانك، فإنك تقضي ما تشاء، وتفعل ما تريد. حدَّثني جعفر ابن إبراهيم بن ميمون قال: حدَّثني إسحاق بن منصور قال: حدَّثني أبو الخصيب الأسدي قال: لما تناهت أيام بني أمية وانقضت دولتهم وأفضت الخلافة إلى بني العباس، وولى منهم السفاح - وهو ابن الحارثية - اتصل الخبر بسديف وهو إذ ذاك بمكة، فاستوى على راحلته وتوجه نحو أبي العباس - وكان به عارفاً - فلما وصل إليه قال له: من أنت؟ قال: أنا سديف بن ميمون. قال: مولاي سديف؟ نعم يا أمير المؤمنين، ثم هنأه بالخلافة، ودعا له بالبركة، وأنشده قصيدة التي أولها:

أصبح الملك ثابت الآساس ... بالبهاليل من بني العباس لا تقيلن عبد شمس عثاراً ... واقطعن كل رقلة وغِراس ولقد ساءني وساءَ سوائي ... قربهم من منابر وكراسي فاذكروا مصرع الحسين وزيد ... وقتيلاً بجانب المهراس والقتيل الذي بحران أضحى ... رهن رمس وغربة وتناسى ذلهما أظهر التودد منها ... وبها منكم كحز المواسي أنزلوها بحيث أنزلها الل ... هـ بدار الإتعاس والإنكاس فعملت كلمته في أبي العباس وحركت منه، وعنده قوم من بني أمية فقالوا: أعرابي جلف جاف لا يدري ما يخرج من رأسه. فتفرق القوم على ذلك، فلما كان من الغد، وجه أبو العباس إليهم: أن اجتمعوا واغدوا على أمير المؤمنين مع سيدكم سليمان بن هشام ليفرض لكم ويجيزكم - وكان سليمان يكنى أبا الغمر، وكان صديقاً لأبي العباس من قبل أن تفضى إليه الخلافة، يكاتبه ويقضي حوائجه - فلما أصبحوا تهيئوا بأجمعهم، وبكروا إلى أبي العباس مع أبي الغمر، فأذن لهم ورفع مجالسهم، وأجلس أبا الغمر سليمان بن هشام عن يمينه على سريره، وجاء سديف حين سمع باجتماعهم حتى استأذن عليه، فلما مثل بين يديه ونظر إلى مجالسهم كهيئتها بالأمس ورأى أبا الغمر على السرير - وفيهم رجل من كلب من أخوال أبي الغمر، وكان منعه الحاجب وقت دخولهم، فنادى: يا أبا الغمر هذا يمنعني من

الدخول، فقال أبو الغمر: هذا رجل من أخوالي فاتركه، فقال له الحاجب: ويلك ارجع فهو خير لك، فقال لا والله لأدخلن، قال: أنت أعلم - ثم أنشأ سديف يقول: لا يغرنك ما ترى من رجال ... إن تحت الضلوع داءً دوياً فضع السيف وارفع السوط حتى ... لا ترى فوق ظهرها أمويا واستمر في القصيدة حتى أتى على آخرها، وأبو العباس يغتاظ. ويحنق ويتلون. فقال سليمان بن هشام لسديف: يا ابن الفاعلة ألا تسكت؟ فلما قال ذلك اشتد غضب أبي العباس. ونظر إلى رجال خراسان وهم وقوف بالأعمدة فقال لهم بالفارسية: دهيد، يعني اضربوا. فشدخوا رءوسهم بالأعمدة حتى أتوا على آخرهم، ثم نظر إلى سليمان وقال له: يا أبا الغمر مالك في الحياة خير بعد هؤلاء، فقال: أجل، فشدخوا رأسه وجروه برجله حتى ألقوه مع القوم، وصاج الرجل الكلبي فقال: يا أمير المؤمنين أنا رجل من كلب، فقال أبو العباس: ساعدت القوم في سرائهم فساعدهم في ضرائهم، وأومأ أن اضربوه فإذا هو مع القوم، ثم جمعهم وأمر بالأنطاع فبسطت عليهم ثم جلس فوقهم، ودعا بالغداء فتغدى، وإن بعض القوم ليتحرك، وفيهم من يسمع أنينه، فلما فرغ من غدائه قيل له هلا أمرت بهم فدفنوا أو حولوا إلى مكان آخر فإن رائحتهم تؤذيك؟ قال: والله إن هذه الرائحة لأطيب عندي من رائحة المسك والعنبر الآن سكن غليلي. ومما يستحسن من قول سديف في الغزل: أعيب التي أهوى وأطري جواريا ... يرين لها فضلا عليهن بينا

برغمي أطيل الصد عنها إذا بدت ... أحاذر آذاناً عليها وأعينا ومن قول سديف في أمير كان على مكة من بني جمح: وأمير من بني جمح ... طيب الأعراق ممتدح إن أبحناه مدائحنا ... عاضنا منهن بالوضح ولما ظهر إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بالبصرة صار إليه سديف هارباً من المنصور، وأظهر عداوة بني العباس. وصعد يوماً المنبر يخطب فقام سديف مقبلاً عليه بوجهه وقال: إيه أبا إسحاق مليتها ... في صحة منك وعمر طويل اذكر هداك الله ذحل الألى ... يسرى بهم في مصمتات الكبول يعني أباه ومن حمل معه. فلما قتل إبراهيم هرب سديف وتوارى حتى

أخبار مروان بن أبي حفصة

سكنت تلك الفورة ثم كتب إلى المنصور يسأله أن يمن عليه بالعفو وكتب إليه بهذه الأبيات: أيها المنصور يا خير العرب ... خير من ينميه عبد المطلب أنا مولاكم وأرجو عفوكم ... فاعف عني اليوم قبل العطب فوقع المنصور في كتابه بخطه: لم يلدني محمد بن علي ... إن تسميت بعدها بوليّ ثم كتب إلى عبد الصمد بن علي عمه يأمره بقتله فيقال: أنه قطع يديه ورجليه ثم ضرب عنقه، وقيل أيضاً: إنه حمل إلى المنصور فدفنه حياً. وحدثني محمد بن حازم عن النمري الشاعر - وكان كثير الرواية لشعر سديف - قال: ما كان في زمان سديف أشعر منه ولا أطبع منه ولا أقدر على ما يريده من الشعر. وكان النمري ينكر أن يكون المنصور قتله ويقول: ويحكم، ما نزل ببني أمية ما نزل إلا بسديف، وكان يقول: ما فارق سديف أبا العباس ثم من بعده المنصور إلى أن مات. قال: وأشعاره ونوادره كثيرة، ولكن اقتصرنا منه على هذه الجملة. أخبار مروان بن أبي حفصة هو مروان بن سليمان بن يحيى بن أبي حفصة: وكان أبو حفصة مولى لمروان بن الحكم أعتقه يوم الدار لأنه أبلى

يومئذ. والدليل على ذلك قول مروان يذكر عتق أبي حفصة: بنو مروان قوم أعتقوني ... وكل الناس بعدهم عبيد حدَّثني عبد الرحمن بن محمد التميمي عن أبيه محمد بن حنظلة قال: قال شراحيل بن معن بن زائدة: عرضت في طريق مكة ليحيى بن خالد وهو في قبة وعديله يوسف القاضي وهما يريدان الحج، فإني لأسير تحت القبة إذ عرض له رجل من بني أسد في شارة حسنة فأنشده شعراً؛ فقال يحيى في بيت: ألم أقل لك ألا ترجع إلى مثل هذا المعنى؟ ثم قال: يا أخا بني أسد، إذا قلت الشعر فقل كقول الذي يقول: بنو مطر يوم اللقاء كأنهم ... أسودٌ لها في بطن خفّان أشبل همُ يمنعون الجار حتى كأنّما ... لجارهم بين السماكين منزل لهاميم في الإسلام سادوا ولم يكن ... كأوّلهم في الجاهلية أوّل هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا ... أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا وما يستطيع الفاعلون فعالهم ... وإن أحسنوا في النائبات وأجملوا ثلاث بأمثال الجبال حباهم ... وأحلامهم منها لدى الوزن أثقل فقال له أبو يوسف: - وقد أعجبته الأبيات -: من قائل هذه الأبيات يا أبا علي؟ قال يحيى: قائلها مروان بن أبي حفصة يمدح أبا هذا الفتى الذي تحت القبة؛ قال شراحيل: فرمقني أبو يوسف بعينه وأنا على فرسي.

وقال: من أنت يا فتى حياك الله؟ قلت: شراحيل بن معن بن زائدة. قال شراحيل: فوالله ما مرت عليّ ساعة قط. كانت أقر لعيني من تلك الساعة ارتياحاً وسروراً. وكان يحيى بن أبي حفصة تزوج عمرة بنت إبراهيم بن النعمان بن بشير الأنصاري على صداق عشرين ألف درهم، وسير إليها مهرها قبل أن يبنى بها، ولام الناس إبراهيم في ذلك وقالوا: زوجت عبداً وفضحت نفسك وأباك. وأرادوه على انتزاعها فأبى وعظم الأمر في ذلك جداً ففي ذلك يقول إبراهيم: فما تركت عشرون ألفاً لقائل ... مقالاً ولم أحفل مقالة لائم فإن كنت قد زوجت مولى فقد مضت ... به سنّةٌ قبلي وحب الدراهم ويقال: إن أبا حفصة كان يهودياً، فأسلم على يدي عثمان، فأثرى وكثر ماله، وتولى الخزن لبني أمية، وتزوج خولة بنت مقاتل بن طلبة بن قيس بن عاصم، وكان قيس بن عاصم سيد أهل الوبر، فقال في ذلك القلاخ الشاعر يهجو مقاتل بن طلبة: نبئت خولة قالت حين أنكحها ... لطالما كنت منك العار أنتظر أنكحت عبدين ترجو فضل مالهما ... في فيك مما رجوت الترب والحجر لله در جياد أنت قائدها ... برذنتها وبها التحجيل والغرر

ومروان من المجيدين المحككين للشعر ومما يستحسن له مراثيه في معن بن زائدة، ومدائحه أيضاً العجيبة فيه. ويقال: إنه دخل على جعفر ابن يحيى البرمكي، وقد امتدحه بهذه القصيدة، فوقف ينشد: أبر فما يرجو جواد لحاقه ... أبو الفضل سباق اللهاميم جعفر وزير إذا ناب الخليفة حادث ... أشار بما عنه الخليفة يصدر فقال ويحكّ! أنشدني مرثيتك في معن: وكان الناس كلهم لمعن إلى أن زار حفرته عيالا فأنشده إياها حتى فرغ من القصيدة، وجعفر يرسل دموعه، فلما سكن قال: أثابك أحد من ولده وأهله على هذه شيئاً؟ قال: لا. قال جعفر: فلو كان معن حياً ثم سمعها منك، كم كان يثيبك عليها؟ قال: أربعمائة دينار. قال جعفر: لكني أظن أنه كان لا يرضى لك بذاك، وقد أمرنا لك عن معن بضعف ما قلت، وزدنا نحن مثل ذلك، فاقبض من الخازن ألفاً وسبعمائة دينار قبل أن تنصرف إلى رحلك. فقال مروان يذكر ذلك، ويمدح جعفر، وزادها في مرثيته لمعن: نفحت مكارماً عن قبر معن ... لنا ممّا تجود به سجالا فعجلت العطية يا بن يحيى ... بتأدية ولم ترد المطالا فكافي عن صدى معن جواد ... بأجواد راحةٍ بذلت نوالا

بني مالك خالد وأبوك يحيى ... بناء في المكارم لن ينالا كأنّ البرمكي بكلّ مال ... تجود به يداه يفيد مالا ومن قلائده وأمهات قصائده كلمته في معن بن زائده - وهو معن بن زائده بن عبد الله بن زائدة بن مطر بن شريك بن عمرو بن قيس ابن شراحيل بن همام بن مرّة بن ذهل بن شيبان - والقصيدة مختارة أولها: أمسى المشيب من الشباب بديلاً ... ضيفاً أقام فما يريد رحيلاً والشيب إذ طرد السواد بياضه ... كالصبح أحدث للظلام أفولا وقال مروان يفتخر، وليس له فخر قديم ولا حديث غير الشعر، وكان ناصبياَّ معرّضاً في شعره بآل الرسول صلى الله عليه وعليهم: ذهب الفرزدق بالفخار وإنما ... حلو القصيد ومره لجرير ولقد هجا فأمض أخطل تغلب ... وحوى اللها ببيانه المشهور كل الثلاثة قد أبر بمدحه ... وهجاؤه قد سار كل مسير ولقد جريت مع الجياد ففتها ... بعنان لا شبم ولا مبهور ما نالت الشعراء من مستخلف ... ما نلت من جاه وأخذ بدور عزت معاً عند الملوك مقالتيما قال حيهم مع المقبور

ولقد حبيت بألف ألف تثب ... إلا بسيب خليفة وأمير ما زلت آنف أن أؤلف مدحه ... إلا لصاحب منبر وسرير ما ضرني حسد اللئام ولم يزل ... ذو الفضل يحسده ذو والتقصير وتظل للإحسان ضامنة القرى ... من كل تامكة السنام عقيري أروى الظماء بكل حوض مفعم ... جوداً وأترع للسغاب قدوري أعطى اللها متبرعاً عوداً على ... بدءٍ وذاك عليّ غير كثير وإذا أهدرت مع القروم محاضراً ... في موطن فضح القروم هديري ومما يستحسن لمروان قوله: يا من بمطلع شمس ثم مغربها ... إن السخاء عليكم غير مردود قل للعفاة أريحوا العيس من طلب ... ما بعد معن حليف الجود من جود قل للمنية لا تبقي على أحد ... إذ مات معن فما ميت بمفقود والقصيدة مشهورة، وهي طويلة وإنما ذكرت فقراً وعيوناً ومن أراد شعر القوم على الوجه فإن دواوينهم موجودة، ولا سيما هؤلاء المشهورين عند أكثر الناس، فأما من ليس يوجد شعره إلا عند الخواص فسنضمن الكتاب

لهم قطعة صالحة، وصدراً وافراً، ليكون أكمل للفائدة عندنا، وسنورد من شعر مروان وطبقته من المعروفين القصائد التي يقل وجودها عند أكثر الناس، مثل كافيته وما أشبهها من مخزون شعره، والكافية هذه، وأولها: لام في أم مالك عاذلا كا ... ولعمر الإله ما أنصفاكا وكلا عاذليك أصبح مما ... بك خلوا، هواه غير هواكا عذلا في الهوى، ولو جرباه ... أسعدا إذ بكيت أو عذراكا كلما قلت: بعض ذا اللوم قالا ... إن جهلاً بعد المشيب صباكا بثّ في الرأس حرثه الشيب لما ... حان إبان حرثه فعلاكا فاسل عن أم مالك، وأنه قلباً ... طالما في طلابه عنّاكا أصبح الدهر بعد عشر وعشر ... وثلاثين حجة قد رماكا ما ترى البرق نحو قران إلا ... هاج شوقاً عليك فاستبكاكا قد نأتك التي هويت وشطت ... بعد قرب نواهم من نواكا وغدت فيهم أوانس بيض ... كعواطي الظباء تعطوا الأراكا كنت ترعى عهودهن وتعصي ... في هواهن كل لاح لحاكا إذ تلاقي من الصبابة برحا ... وتجيب الهوى إذا ما دعاكا عدّ عن ذكرهن واذكر هماما ... بقوى حبله عقدت قواكا أين لا أين مثل زائدة الخيرات إلا أبوه؟ لا أين ذاكا يا بن معن يفكُّ كلّ أسير ... مسلم لا يبيت يرجو الفكاكا

وبه تفعض الرئيس لدى المو ... ت إذا اصطكت العوالي اصطكاكا مطري أغر تلقاه بالعر ... ف قؤولا وللخنا تراكا من يرم جاره يكن مثل ما را ... م بكفّيه أن ينال السماكا لم تزل عند موطن يا بن معنعن مقام تقومه قدماكا إنّ معناً يحمي الثغور ويعطي ... ما له في العلا وأنت كذاكا لا يضر امرأً إذا نال ودّا ... منك ألا يناله من سواكا ما عدا المجتدي أباك. وما من ... راغب يجتديه إلا اجتداكا ودّ كل امرئ من الناس لو كا ... ن أبوه لدى الفخار أباكا قد وفى البأس والندى لك بالعق ... د، كما قد وفيت إذ حالفاكا وأجاباك إذ دعوت بلبيك كما قد أجبت إذ دعواكا فهما دون من له تخلص الود، وترعى إخاءه أخواكا لست ما عشت والوفاء سناءٌلهما مخفراً ولن يخفراكا رفعت في ذرا المعالي قديماً ... فوق أيدي الملوك طرّاً يداكا وسما الفرع منك في خير أصل ... من نزار فطاب منه ثراكا فبمعن تسمو، وزائدة الخي ... ر، وعبد الإله، كل نماكا زين ما قدموا. ولم تلف صعبا ... في سلاليم مجدهم مرتقاكا

أعصمت منكم نزارٌ بحبل ... لم يريدوا بغيره استمساكا ورأبتم صدوعها بحلومٍ ... راجحات دفعن عنها الهلاكا فأشارت معاً إليكم وقالت ... إنما يرأب الصدوع أولاكا يئس الناس أن ينالوا قديماً ... في المعالي لسعيكم إدراكا إن معنا كما كساه أبوه ... عزة السابق الجواد كساكا كم به عارفاً يخالك أيا ... هـ، وطوراً يخاله إياكا لك من فضل بأسه يعرف البأ ... س، كما من نداه فضل نداكا كل من قد رآه يعرف منه ... نسم الخير فيك حين يراكا سبق الناس إذ جرى ثم صلي ... ت كما من أبيه جاء كذاكا دانياً من مدى أبيه مداه ... مثل ما من مداه أمسى مداكا ماجدا النيل نيل مصر إذا ما ... طم آذيه كبعض جداكا زاد نعمى أبي الوليد تماماً ... فضل ما كان من جدي نعماكا سخطك الحتف حين تسخط، والغنم إذا ما رضيت يوماً رضاكا كل ذي طاعة من الناس يرجو ... ك كما كل مجرمٍ يخشاكا وهذه القصيدة تسمى الغراء أخذ عليها من ابن معن مالاً كثيراً. ويقال

ما أخذ أحدٌ من الشعراء المتقدمين ولا المحدثين ما أخذ مروان بالشعر. كان رسمه على الخلفاء مائة ألف درهم. ومن قلائده وأمهات شعره هذه اللامية: كأن التي يوم الرحيل تعرضت ... لنا من ظباء الرمل أدماء مغزل تصدّ لمكحول المدامع لابنٍ ... إذا خلفته خلفها، الطرف يعمل وأشعاره كثيرة، ونوادره جمة. وحدثني أبو مالك عن أبيه أن عبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله أتى الحسن بن علي فقال: أنا مولاك - وكان قديماً يكتب لعلي بن أبي طالب عليه السلام. فقال فيه مولى لتمام بن العباس بن عبد المطلب: جحدت بني العباس حقٌ أبيهم ... فما كنت في الدعوى كريم العواقب متى كان أولاد البنات كوارث ... يحوز ويدعى والداّ في المناسب فسرق مروان هذا المعنى، وأودعه قصيدته التي يقول فيها: أنّى يكون وليس ذاك بكائن ... لبني البنات وراثة الأعمام؟ فأخذ بهذا البيت مالاً عظيماً. ومما يستحسن من شعره كلمته في معن يرثيه ويذكر فعاله، وذلك قوله: مضى لسبيله معنٌ وأبقى ... مكارم لن تبيد ولن تنالا كأنّ الشمس يوم أصيب معنٌ ... من الإظلام ملبسه جلالا

هو الجبل الذي كانت نزار ... تهد من العدو به جبالا تعطلت الثغور لفقد معنٍ ... وقد يروي بها الأسل النهالا وأظلمت العراق وأورثتها ... مصيبته المجللة اختلالا وظل الشام يرجف جانباه ... لركن العز حين وهى ومالا وكادت من تهامة كل أرض ... ومن نجدٍ تزول غداة زالا فإن يعل البلاد له خشوع ... فقد كانت تطول به اختيالا أصاب الموت يوم أصاب معناً ... من الأحياء أكرمهم فعالا وكان الناس كلهم لمعنٍ ... إلى أن زار حفرته عيالا ولم يك طالب للعرف ينوي ... إلى غير ابن زائدة ارتحالا مضى من كان يحمل كل ثقل ... ويسبق فيض نائلة السؤالا وما عمد الوفود لمثل معن ... ولا حلوا بساحته الرحالا ولا بلغت أكفّ ذوي العطايا ... يميناً من يديه ولا شمالا وما كانت تجف له حياض ... من المعروف مترعة سجالا فليت الشامتين به فدوه ... وليت العمر مدّ له فطالا ولم يك كنزه ذهباً ولكن ... سيوف الهند والحلق الفضالا وذابلة من الخطيّ سمراً ... ترى فيهن ليناً واعتدالا وذخراً من محامد باقياتٍ ... وفضل لهاً به الإفضال نالا

مضى لسبيله من كنت ترجو ... به عثرات دهرك أن تقالا وقائلة رأت جسمي ولوني ... معاً عن عهدها قلبا فحالا أرى مروان عاد كذي نحولٍ ... من الهندي قد فقد الصقالا رأت رجلاً براه الحزن حتى ... أضر به وأورثه خبالاً وأيام المنون لها صروف ... تقلب بالفتى حالا فحالا كأن الليل واصل بعد معنٍ ... ليالي قد قرن به فطالا فلهف أبي عليك إذ العطايا ... جعلن مني كواذب واعتلالا ولهف أبي عليك إذ اليتامى ... غدوا شعثاً كأن بهم سلالا ولهف أبي عليك لكل هيجا ... غدت تلقى حواضنها السمالا ولهف أبي عليك إذ القوافي ... لممتدح بها ذهبت ضلالا أقمنا باليمامة إذ يئسنا ... مقاماً لا نريد له زيالا وقلنا: أين نرحل بعد معن ... وقد ذهب النوال فلا نوالا سيذكرك الخليفة غير قالٍ ... إذا هو بالأمور بلا الرجالا حباك أخو أمية بالمراثي ... مع المدح اللواتي كان قالا أقام وكان نحوك كل عام ... يطيل بواسط الكور اعتقالا وألقى رحلة أسفاً وآلى ... يميناً لا يشد له حبالا وأشعار مروان كثيرة جدّاً، ولو أوردنا عيون شعره لطال بها الكتاب، فليس له إلاّ كل عينٍ، ولسنا نخرج عن الحدّ الذي استنناه من الإيجاز والاختصار.

أخبار أبي دلامة

أخبار أبي دلامة اسمه زند بن الجون، بالنون، وقال بعضهم: زيد بالباء وقد غلط. هكذا رواه العلماء بالنون، وكان أبو دلامة مطبوعاً مفلقاً ظريفاً كثير النوادر في الشعر وكان صاحب بديهة، يداخل الشعراء ويزاحمهم في جميع فنونهم، ينفرد في وصف الشراب والرياض وغير ذلك بما لا يجرون معه، وكان مداحاً للخلفاء. حدَّثنا أبو مالك عبيد الله بن محمد قال: حدَّثنا أبي قال: لما توفي أبو العباس السفاح دخل أبو دلامة على أبي جعفر المنصور والناس عنده تعزيه فأنشأ يقول: أمسيت بالأنبار يا بن محمد ... لا تستطيع إلى البلاد حويلا ويلي عليك وويل أهلي كلهم ... ويلا يكون إلى الممات طويلاً مات الندى إذ مت يا بن محمد ... فجعلته لك في التراب عديلاً أني سألت الناس بعدك كلهم ... فوجدت أسمح من رأيت بخيلا ألشقوتي أخرت بعدك للذي ... يدع السمين من العيال هزيلا فأبكى الناس قوله، فغضب المنصور غضباً شديداً وقال: لئن سمعتك بعدها تنشد هذه القصيدة لأقطعن لسانك. فقال أبو دلامة: إن أبا العباس كان لي مكرماً، وهو الذي جاء بي من البدو، كما جاء الله

يوسف عليه السلام، بإخوته، فقل كما قال: " لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين " فقال له: أقلناك فسل حاجتك. فقال أبو دلامة: قد كان أبو العباس أمر لي بعشرة آلاف درهم وخمسين ثوباً في مرضه، ولم أقبضها، فقال المنصور: ومن يعلم ذلك؟ فقال: هؤلاء وأشار بيده إلى جماعة ممن حضره، فقام سليمان بن مجالد وأبو الجهم فقالا: يا أمير المؤمنين، صدق أبو دلامة ونحن نعلم ذلك. فقال المنصور لأبي أيوب الخازن: يا سليمان أدفعها إليه وأخرجه في هذا الجيش الخارج إلى الطاغية، يعني عبد الله بن علي - وكان قد أظهر الخلاف بالشام ودعا إلى نفسه وجمع جمعاً كثيراً وبقايا أصحاب مروان: خلقاً من أهل الشام. وخاف المنصور أن يتمادى أمره - فوثب أبو دلامة وقال: يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن تخرجني مع هذا العسكر فإن والله مشئوم، فقال المنصور: إن يمني يغلب شؤمك فاخرج مع العسكر فقال أبو دلامة: يا أمير المؤمنين، ما أحب لك أن تجرب ذلك، فإني لا أدري أي المنزلتين تحصل، ولا آمن أن يغلب شؤمي، فقال له: دع عنك هذا، فما لك بد من المسير في الجيش، قال: يا أمير المؤمنين والله لأصدقنك، إني شهدت تسعة عساكر كلها هزمت، فأنا أعيذك بالله أن يكون العاشر. فاستفرغ ضحكاً أبو جعفر، وأمره بالمقام مع عيسى بن موسى بالكوفة. وحدثني محمد بن خالد البصري قال: حدَّثني ابن أبي العوجاء قال: أراد موسى بن داوود بن علي بن عبد الله بن عباس الخروج إلى الحج. فدعا

أبا دلامة وقال تأهب للخروج معي إلى هذا الوجه المبارك، فإنما هو الحج وأعطاه عشرة آلاف درهم وقال: إن كان عليك دينٌ فاقضه وخلف لعيالك ما يكفيهم واخرج - وكان طمع في أن يعادله فيتمتع بفوائده وملحه ونوادره، فإنه كان من أتراب الملوك - فأخذ المال وأجابه إلى ذلك، فلما حضر خروج موسى طلبه فلم يقدر عليه، ففتش عن أمره، فقيل له: إنه بسواد الكوفة يتقلب في حانات الخمارين، وخاف موسى أن يفوته الحج فقال: اتركوه إلى لعنة الله، وخرج فلما شارف القادسية إذا هو بأبي دلامة قد خرج من قرية يريد الحيرة، فقال: ائتوني بعدو الله الفاسق، هرب من الحق إلى الباطل، ومن الحج إلى حانات الخمارين، فجيء به إليه، فقيده وألقاه في بعض المحامل، وساروا، فلما رأى أبو دلامة ذلك أنشأ يقول: يا أيها الناس قولوا أجمعين معاً ... صلّى الإله على موسى بن داوود كأن ديباجي خديه من ذهب ... إذا تشرف في أثوابه السود أما أبوك فعين الجود نعرفه ... وأنت أشبه خلق الله بالجود نبئت أن طريق الحج معطشة ... من الطلاء وما شربي بتصريد والله ما بي من خير فتطلبني ... في المسلمين وما ديني بمحمود إني أعوذ بداوود وتربته ... من أن أحج بكرهٍ يا بن داوود فقال موسى القوه عن المحمل لعنه الله حتى يذهب حيث يشاء، فألقوه عن المحمل ومضى لوجهه، فما زال أبو دلامة في السواد حتى أتلف ذلك المال؛ وانصرف موسى. فدخل أبو دلامة عليه مهنئاً فقال له: يا محارف

ماذا فاتك من تلك المشاهد؟ فقال: يا سيدي والله فاتني أفاضلها، يعني الحانات. حدَّثني ابن داوود قال: حدَّثني العوفي قال: دخل أبو دلامة على المهدي وعنده عيسى بن موسى والعباس بن محمد وناس من بني هاشم، فقال له المهدي: اهج أينا شئت. فنظر إلى القوم وتصفحهم، فكلما مر نظره إلى رجل غمز بعينه: إني على رضاك ولا تفعل. فمكث هنيهة ثم أنشأ يقول: ألا أبلغ لديك أبا دلامة ... فلست من الكرام ولا كرامة جمعت دمامة وجمعت لؤماً ... كذاك اللؤم تتبعه الدمامة فإن تك يا عليج أصبت مالاً ... فيوشك أن تقوم بك القيامة إذا لبس العمامة قلت قرد ... وخنزير إذا وضع العمامة فضحك المهدي وتعجب من حسن ما أتى به من التخلص مما كان دفع إليه، فلم يبق أحد في القوم إلا وصله وأهدى إليه. وخرج أبو دلامة مع روح بن حاتم في بعض الحروب، فلما التقى الجمعان قال أبو دلامة: لو أنّ تحتي فرساً من خيلك، وفي وسطي ألف دينار، لأشجيت عدوك نجدة وإقداما. قال روح: ادفعوا إليه ذلك فلما أخذه أنشأ يقول: إني أعوذ بروح أن يقدمني ... إلى القتال فتشقى بي بنو أسد إن الملهب حب الموت أورثكم ... ولم أرث نجدة في الحرب عن أحد فأجابه روح، وكان شاعراً أديباً بطلا شجاعاً هزبراً ليثاً: هون عليك فلن أريدك في وغى ... لتطاعن وتناوش وضراب كن واقفاً في الجيش آخر آخر ... فإن انهزمت مضيت في الهراب

حدَّثني محمد بن الصلت الكوفي قال: اختصم أبو دلامة مع رجل إلى عافية قاضى أبي جعفر المنصور، فأدعى الرجل عليه، فقال له القاضي: ما تقول؟ قال: اسمع أولاً، وأنشأ يقول: لقد خاصمتني دهاة الرجال ... وخاصمتها سنة وافيه فما أدحض الله لي حجةً ... ولا خيب الله لي قافيه فمن خفت من جوره في القضاء ... فلست أخافك يا عافيه فغضب وقال: لأشكونك إلى أمير المؤمنين. قال أبو دلامة: ولم تشكوني؟ قال: لأنك هجوتني قال: إذن والله يعزلك. قال عافيه: ولم يعزلني؟ قال: لأنك لا تعرف المدح من الهجاء. قال: ومدح أبو دلامة المهدي، فلما أنشده سر بذلك وقال: سل حاجتك. فقال له: يا أمير المؤمنين تأمر لي بكلب صيد، قال المهدي: يا ابن الحمقاء وما تصنع بكلب؟ وأية حاجة هذه؟ قال: يا أمير المؤمنين، الحاجة لي أم لك؟ قال: بل لك. قال: فإني أسألك أن تهب لي كلب صيد. فأمر له بكلب، فقال: يا أمير المؤمنين وإن تهيأ لي أن أخرج إلى الصيد أفاخرج راجلاً؟ فأمر له بدابة قال: ومن يسوس الدابة؟ قال: أعطوه سائس. قال: فمن يطبخ لنا في صيدنا؟ قال: أعطوه طباخاً. قال: وهؤلاء كلهم من يعولهم؟ قال: اكتبوا له بمائتي جريب غامرة قال: فما الغامرة يا أمير المؤمنين؟ قال: التي لا شيء فيها، فأنا أكتب لأمير المؤمنين بمائة ألف جريب من صحراء مزيقيا. قال: فمن أبن تريد أن أجعلها لك؟ قال: هب لي جريباً واحداً من بيت المال،

قال: على ألا تخرج ما فيه، قال: إذن يكون غامراً. فضحك منه وقال: قد جعلناها لك عامرة كلها، قال: يا أمير المؤمنين ناولني يدك أقبلها. قال: أما هذه فدعها. قال: والله ما منعت عيالي شيئاً هو أهون عليهم من هذا. فضحك منه حتى استلقى. وحدث أبو مالك عبيد الله بن محمد عن أبيه قال: أنشد أبو دلامة أبا جعفر المنصور شعراً استحسنه جداً، فجعل من عنده من ندمائه يظهرون استحسانه، فلما أفرطوا قال أبو دلامة: والله يا أمير المؤمنين إنهم لا يعرفون رديئة من جيده، وإنما يستحسن منه باستحسانك، وإن شئت بينت لك ذلك، قال: افعل. فأنشده: أنعت مهراً كاملا في قدره ... مركباً عجانه في ظهره حتى فرغ منها، فاستحسنوها، فقال أبو دلامة: ألم أخبرك يا أمير المؤمنين؟ قال المنصور: صدق والله أبو دلامة، كيف يكون عجانه في ظهره؟ قال الحنفي: خرج أبو دلامة مع المهدي وعلى بن سليمان إلى الصيد - وكان أبو دلامة صاحب نوادر - فرمى المهدي بنشابة فأصاب ظبياً. ورمى علي بن سليمان فأصاب كلب صيد. فضحك المهدي فنظر إلى أبي دلامة فقال: قد وجدت مقالا فقل ولك حكمك. فقال: قد رمى المهدي ظبياً ... شكّ بالسهم فؤاده وعليٌّ بن سليما ... ن رمى كلباً فصاده فهنيئاً لكما كلّ ... امرئٍ يأكل زاده

فاستفرغ المهدي ضحكاً وقال لعلي بن سليمان: لأحكمنك على حكمه، قال: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين. فقال: لا بد من ذلك. قال فإني أحكم أبا دلامة. قال: نعم إذن. وافتدى منه بمال. أخبرنا أبو العباس بن محمد قال: قال لي محمد بن منصور قال لي سعيد بن مسلم: ما رأيت شاعراً أحسن زياً من أبي دلامة، ولا أظهر مروءة منه، ولا أنظف لباساً. ومما يستحسن له مرثيته للمنصور وتهنئة المهدي في قصيدته، يذكر في كل بيت المعنيين. والقصيدة جيدة، وهي التي يقول فيها: عينان: واحدة ترى مسرورة ... بإمامها جذلى وأخرى تذرف تبكي وتضحك مرّة، ويسوءها ... ما أبصرت ويسرها ما تعرف فيسوءها موت الخليفة محرماً ... ويسرها أن قام هذا الأرأف ما إن رأيت ولا سمعت كما أرى ... شعراً أرجله وآخر أنتف هلك الخليفة يا لأمة أحمد ... فأتاكم من بعده من يخلف أهدى لهذا الله فضل خلافة ... ولذاك جنات النعيم تزخرف فابكوا لمصرع خيركم ووليكم ... واستشرفوا لمقام ذا وتشرفوا حدَّثني نصر بن محمد الخزري عن بعض رواة الأخبار قال: كان أبو العباس مولعاً بأبي دلامة، لا يفارقه ليلاً ولا نهاراً لحسن أدبه، وجودة شعره، وكثرة ملحه، ومعرفته بأخبار الناس وأيامهم، وكان أبو دلامة خليعاً ماجنا، وكان يهرب منه، ويأتي حانات الخمارين، فيشرب مع إخوانه. ويكره مجالس الخلفاء لما في ذلك من المشقة والتعب وشدة التوقي،

أبو دلامة يحب أن ينبسط ويتكلم، وكان لا يتهيأ ذلك له في مجلس الخلافة، فهرب، فعاتبه أبو العباس على ذلك وقال: ويحك، أراك تحيد عنا وعن مجالسنا، وتهرب منا. فليت شعري لم ذاك؟ فقال له: يا أمير المؤمنين، ما الخير والشرف والعز والفضل إلا في مجالستك، والوقوف على أبوابكم، ولزوم خدمتكم، ونكره مع ذلك أن تملونا، فنقبض على أنفسنا بعض القبض، ليكون أبقى لحالنا عندكم. قال أبو العباس: ما مللتك قطّ، وما ذاك كما ذكرت، ولكن قد اعتدت حانات الخمارين والخلعاء والمجان. ثم وكل به، وألزمه ألا يبرح حضرته، وكان يصلي معه الصلوات كلها، فأضر ذلك به. ففي ذلك يقول أبو دلامة: ألم تعلمي أن الخليفة لزني ... بمسجده والقصر، مالي وللقصر أصلي به الأولى مع العصر دائباً ... فويلي من الأولى وويلي من العصر ويحبسني عن مجلس استلذه ... أعلل فيه بالسماع وبالخمر ووالله ما بي نية في صلاته ... ولا البر والإحسان والخير من أمري وما ضره والله يصلح أمره ... لو أن ذنوب العالمين على ظهري فلما سمع أبو العباس الأبيات قال: والله ما يفلح هذا أبداً، فذروه وأصحابه. ومن شعر أبي دلامة يهجو عليّ بن صالح وقد كان وعده شيئاً ولم يف له به: لعلي بن صالح بن عليّ ... حسب لو يعينه بسماح ومواعيده الرياح فهل أن ... ت بكفيك قابض للرياح

وبنو صالح كثير ولكن ... مالنا في عديدهم من صلاح غير فضل فإن للفضل فضلاً ... مستبيناً على قريش البطاح ومن السائر الجيد قوله: لو كان يقعد فوق الشمس من كرمٍ ... قوم لقيل اقعدوا يا آل عباس ثم ارتقوا في شعاع الشمس وارتفعوا ... إلى السماء فأنتم سادة الناس ولأبي دلامة في بنية له - يقال لها أم دلام مدلله - يقول فيها ساعة ولدت: فما ولدتك مريم أم عيسى ... ولم يكفلك لقمان الحكيم ولكن قد تضمك أم سوء ... إلى لباتها وأب لئيم ولأبي دلامة كلمته السائرة في أبي مسلم صاحب الدعوة، وكان توعده بالقتل لشيء بلغه عنه. فلما قتله المنصور دخل أبو دلامة، ورأسه في الطست فأنشأ: أبا مجرم ما غير الله نعمة ... على عبده حتى يغيرها العبد أبا مجرم خوفتني القتل فانتحى ... عليك بما خوفتني الأسد الورد أفي دولة المنصور حاولت غدره ... ألا إن أهل الغدر أباؤك الكرد وهو الذي يحكي عن امرأته: ناشدتها بكتاب الله حرمتنا ... ولم تكن بكتاب الله ترتدع فاخر نطمت ثم قالت وهي مغضبةٌ ... أأنت تتلو كتاب الله يا لكع اذهب تبغ لنا نخلا ومزدرعاً ... كما لجيراننا نخل ومزدرع إيت الخليفة فاخدعه بمسألهٍ ... إنّ الخليفة للسؤال ينخدع وأخبار أبي دلامة وشعره كثيرة، وفيما ذكرنا منه كفاية ونهاية.

أخبار أبي نخلية

أخبار أبي نخلية قال أبو إسحاق النوفلي: بني أبو نخلية داراً شراها، ثم جاء إلى خالد ابن صفوان، فقال: أحب أن تصير معي إليها لتنظير إلى بنائها، فجاء معه، فلما دخلها ورآها قال: كيف تجدها يا أبا صفوان؟ قال إن صدقتك يا أبا نخلية غضبت. قال: ما كنت بالذي أفعل. فقال خالد - وكان من أفصح الناس - رأيتك تسأل الناس إلحافاً، وتنفق إسرافاً، فملأت إحدى يديك سلحاً، وجعلت الأخرى سطحاً، وقلت: من لم يعمر سطحي، ملأته بسلحي. نخجل أبو نخيلة ولم يحر جواباً. قال محمد بن إبراهيم الحنظلي، ما مدح أبو نخيلة إلا خليفة أو وزيراً، وكان من أفصح الناس وأشعرهم، وكان مطبوعاً مقتدراً كثير البدائع والمعاني غزيراً جداً، وكان الغالب عليه الرجز ومع ذلك لا يقصر في القصيد. حدثني إبراهيم بن عامر النوفلي عن بعضهم قال: رأيت أبا نخيلة قد خرج من عند الوليد بن يزيد راكباً، وبين يديه رجالة قد تقدموه وقد حمل معه مال كثير كان الوليد قد وصله به، وهو يفرق يميناً وشمالاً ويتصدق، حتى أتى منزلة وقد فرق منه شيئاً كثيراً، ثم دفع إلى الرجالة الذين كانوا بين يديه مائة دينار. وكان الوليد يحبه حبه شديداً وهو الذي علم الوليد الشعر.

قال: ومما يستحسن من شعر أبي نخيلة كلمته التي يفتخر فيها ويذكر قومه بني تميم: نحن ضربنا الأزد بالعراق ... والحيّ من ربيعة المراق ضرباً يقيم صعر الأعناق ... بغير أطماع ولا أرزاق إلا بقايا كرم الأعراق وهي طويلة يذكر فيها حرب الأزد وتميم بالبصرة ومما يستحسن من رجزه ويستطرف كلمته التي يقول لها: لما رأيت الدين ديناً يؤفك ... وأمست القبة لا تستمسك ترتج من أرجائها وتهتك ... سرت إلى الباب فسار الدكدك فيها الدجوجي وفيها الأرمك ... كالليل إلا أنها تحرك وهذه الأبيات مشهورة فاقتصرنا على ذكرها. ومما يستحسن من شعره قصيدته التي يمدح فيها مسلمة بن عبد الملك، وهي جيدة فيها معان حسنة، وفيها يقول: أمسلم أني يا ابن خير خليفة ... ويا فارس الدنيا ويا جبل الأرض شكرتك إن الشكر حبل من التقى ... وما كل من أوليته نعمة يقضي وألقيت لما جئت بابك زائراًرواقاً مديداً سامق الطول والعرض وأنبهت لي ذكري وما كان خاملاً ... ولكنّ بعض الذكر أنبه من بعض

ومما سار من رجزه واشتهر في أبي العباس يهنئه بالخلافة وهي قوله: الآن مسّ المنبر القرارا ... وطابت الدنيا وصارت دارا إذا نزل الخليفة الأنبارا ومن أراجيزه المشهورة في أيدي الناس قوله: يا عمرو غم الماء ورد يدهمه ... يوم تلاقي شاؤه ونعمه واختلفت أمراسه وقيمه ... فأبلنا منك بلاء نعلمه فإنما أنت أخ لا نعدمه ... صاحب خلان كريم شيمه مترفٌ كان أبوه يكرمه ... لم يتجشأ من طعام يتخمه ولم تبت حمّى به توصمه ... تدك مدماك الطوى قدمه أيهات من هامته مخدمه

ولأبي نخيلة في طرد عشر نعائم يصفهن: أنعت مهراً سبط القرات ... ورداً طمرا مدمج السراة يغدو بنهد في اللجام عات ... نعائما عشراً مطردات صك العراقيب هجنعات ... فانصاع وانصعن موليات ما كان إلا هاكه وهات ... حتى اجتمعن متناغصات بالسهب والغدر من الحماة ... واختل حضنا هيقة شوشات فانعقرت من آخر الهيقات ... بغير تكبير ولا صلاة كأنهما خالفة السراة وله في الطرد أراجيز كثيرة مشهورة، منها اللامية التي يقول فيها: فانصاع يسعى بالصعيد الهايل ... يلحن من ذي ميعة معاجل

أخبار حماد عجرد

حتى دنا من وهج القساطل ... من ذات زف ساقط الخمايل فاختلفنا تحت جناح المايل ... بضربة حديثه في الصاقل منقوشة الرقين والخصايل ... فهو مقيط كمقاط الفايل وأعاجيب أبي نخيلة في القنص وغيره كثيرة، وفيما أوردنا من ذلك دليل على باقية. وشعره موجود كثير، فمن أراده لم يعوزه ذلك. أخبار حماد عجرد قال أبو العباس المبرد: حدثني أبو يعقوب الباهلي قال: هجا حماد عجرد محمد بن سليمان الهاشمي بقصيدته التي يقول فيها: له جسم برغوث وعقل مكاتب ... وغلمه سنور يبيت. يولول فأهدر محمد بن سليمان دمه، فعلم حماد عجرد أنه لا مقام له بالبصرة، فمضى إلى قبر أبيه سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس مستجيراً به وقال في ذلك: لم أجد لي من الأنام مجيراً ... فاستجرت القبور والأحجارا غير أني جعلت قبر أبي أي ... وب لي من حوادث الدهر جارا وحقيق لمن يجاور ذاك ال ... قبر أن يأمن الرّدى والعثارا حدثني المهدي الشاعر قال: قيل لبشار الأعمى: ما أقبح ما هجاك به حماد عجرد؟ فقال قوله: ويا أقبح من قرد ... إذا ما عمى القرد

وقد قيل: لم يشتد عليه من هجائه إياه شيءٍ كما اشتد عليه هذان البيتان: لو طليت جلدته عنبرا ... لنتنت جلدته العنبرا أو طليت مسكاً ذكياً إذن ... لحول المسك عليه خرا ومما يستسحن لحماد عجرد كلمته التي يقول فيها: كم من أخ لك لست تنكره ... ما دمت من دنياك في يسر متصنع لك في مودته ... يلقاك بالترحيب والبشر يطري الوفاء ويل ... حى الغدر مجتهداً وذا الغدر فإذا عدا والدهر ذو غيردهر عليك عدا مع الدهر فارفض بإهمال أخوة من ... يقلي المقل ويعشق المثري وعليك من حالاه واحدة ... في العسر إما كنت واليسر فلقد خبرت وما استوى رجلٌ ... خبر وآخر غير ذي خبر فوجدت من أحببت متهماً ... متصرفاً لتصرف الدهر إلا القليل قد وجدت ذوي ... عهد وشكر أيما شكر ومما يستحسن لحماد من الشعر ويختار له قوله: ألست بودي واثقاً لك إنني ... بودك مني واثق بي فاعلما أما والذي نادى من الطور عبده ... وكرم بالإنجيل عيسى ابن مريما وخص بآيات القران محمداً ... نبي الهدى صلى عليه وسلما لقد حزت من قلبي مكاناً ممنعاً ... أرى لك فيه أن أريق لك الدما

أخبار الحمادين

أرى ذاك من غنمٍ، ولست أرى الذي ... يرى الناس من غنم المكاسب مغنما سأشرب كأسيك اللتين سقيتني ... وإن كانتا والله صابا وعلقما وأدخل كفي إثر كفك في الذي ... عراك ولو أدخلتها ثقب أرقما أخبار الحمادين حماد عجرد وحماد بن الزبرقان وحماد الراوية، وكانوا في عصر واحد، وكلهم شاعر مفلق وخطيب مبرز. حدثني أحمد بن محمد الثقفي قال: حدثني إبراهيم بن عمر الكوفي قال: كان حماد عجرد مولى لبني سوءة بن عامر بن صعصعة وكان معلماً ثم شهر بالشعر وامتدح الملوك. وكان بالكوفة ثلاثة يقال لهم الحمادون: حماد عجرد وحماد بن الزبرقان وحماد الراوية يتنادمون على الشراب، ويتناشدون الأشعار، ويتعاشرون أجمل عشرة، كانوا كأنهم نفس واحدة، وكانوا جميعاً يرمون بالزنذقة، وإذا رأى الناس واحداً منهم قالوا: زنديق. اقتلوه. وكان حماد بن الزبرقان عتب على حماد الراوية في شيءٍ فهجاه، فقال فيما يهجوه، وينسبه إلى شرب الخمر نعم الفتى لو كان يعرف قدره ... ويقيم وقت صلاته حماد هدلت مشافرة الدنان فأنفه ... مثل القدوم يسنها الحداد وابيض من شرب المدامة وجهه ... وبياضه يوم الحساب سواد وحماد عجرد هو القائل: إن الكريم ليخفي عنك عسرته ... حتى تراه غنياً وهو مجهود

وللبخيل على أمواله عِللٌ ... زرق العيون عليها أوجه سود إذا تكرهت أن تعطى القليل ولم ... تقدر على سعة لم يظهر الجود أورق بخير يرجى للنوال فما ... ترجى الثمار إذا لم يورق العود بث النوال ولا تمنعك قلته ... فكل ما سد فقراً فهو محمود وهو القائل أيضاً وهي مليحة سائرة: حُريث أبو الفضل ذو خبرة ... بما يصلح المعد الفاسده تخوف تخمة أضيافه ... فعودهم أكلة واحده ومما يختار له أيضاً قوله: لست بغضبان ولكنني ... أعرف ما شأنك يا صاحِ لأن تركت الراح جانبتني ... ما كان حبيك على الراحِ قد كنت من قبل وأنت الذي ... يعنيك إمسائي وإصباحي لم تر عيني منك إلا الذي ... أفسدني من بعد إصلاحي أنت من الناس وإن عبتهم ... دونكها مني بإفصاحي ومما يختار لحماد عجرد قصيدته التي يعاتب فيها أبا يزيد ويحيى وهي: قد جفاني أبو يزيد ويحيى ... ولعمري ما خفت أن يجفواني واصلاني فيما مضى فلغير ال ... ود فيما مضى واصلاني غير أني كنت في ظل سلطا ... ن فكان الوصال للسلطان ثم لما حال الزمان بسلطا ... ني حالوا مع احتيال الزمان وقال يمدح محمد بن أبي العباس السفاح وهو والي المنصور على البصرة: أدعوك بعد أبي العباس إذ بانا ... يا أكرم الناس أعراقاً وعيدانا

فأنت أكرم من يمشي على قدم ... وأنضر الناس عند المحل أغصانا لو مج عود على قوم عصارته ... لمج عودك فينا المسك والبانا وهي طويلة. ومما يستحسن من شعر حماد كلمته التي يهجو بها بعض الأمويين: زرتُ امرأً في بيته مرةً ... له حياء وله خِيرُ يكره أن يتخم أضيافه ... إن أذى التخمة محذورُ ويشتهي أن يؤجروا عنده ... بالصوم والصائم مأجورُ حدثني محمد بن عامر الحنفي قال: حدثني اليحصبي قال: شرب حماد عجرد مع أبي دلامة يوماً، فسكرا من الخمر فطلبوهما، فأما أبو دلامة فهرب وأما حماد فأخذ فأُتي به المهدي فقال: استنكهوه. ففعلوا فشموا منه رائحة الخمر، فأحب أن يعبث به، فقال: يا عدو الله أتشرب الخمر وتسكر؟ إني سأقيم عليك الحد ولا تأخذني في الله لومة لائم. وقال: احبسوه حتى يصحو. فمضي به إلى بيت فيه دجاج بعد أن وُجئ عنقه ومزق رداؤه، فكتب إلى المهدي: أمير المؤمنين فدتك نفسي ... علام حبستني وخرقت ساجي أقاد إلى السجون بغير ذنب ... كأني بعض عمال الخراجِ ولو معهم حبست لهان وجدي ... ولكني حبست مع الدجاج أمن صهباء، ريح المسك منها ... ترقرق في الإناء لدى المزاج

أخبار أبي الشيص

عُقارٌ مثل عين الديك صرف ... كأن شعاعها لهب السراج وقد طبخت بنار الله حتى ... لقد كنت من النطف النضاج وقد كانت تحدثني ظنوني ... بأني من عقابك غير ناج على أني وإن لاقيت شراً ... لخيرك بعد ذاك الشر راج فأخرجه ووصله، فلما ولي قال الربيع: أما فهمتَ قوله: وقد طبخت بنار الله حتى ... لقد صارت من النطف النضاج قال: بلى، فما أراد؟ قال: إنما أراد الشمس، وقال المهدي: ردوه. فردوه فقال: ما أردت بقولك: وقد طبخت بنار الله ... تعني بها الشمس؟ قال: لا، ولكن نار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة، وهي على الربيع موصدة، فضحك منه وأمر بإطلاقه. وأشعار حماد كثيرة واسعة، وهو من المشهورين. أخبار أبي الشيص هو محمد بن عبد الله بن رزين الخزاعي، ابن عم دعبل: قال أحمد بن إبراهيم الأسدي: قال لي أبو عَصيدة: اجتمع مسلم ابن الوليد صريع الغواني وأبو فراس وأبو الشيص ودعبل بن علي بن رزين في مجلس على الشراب فقالوا: ينشد كل واحد منكم أجود ما قال. ثم قالوا لمسلم: كأنا بك يا أبا الوليد وقد جئت بقولك:

إذا ما علت منا ذؤابة واحد ... تمشت به مشى المقيد في وحلِ هل العيش إلا أن تروح مع الصبا ... وتغدو صريع الكأس والأعين النُّجْل ومن هنا سمى صريح الغواني، سماه بذلك الرشيد، وله مع ذلك قصة عجيبة سنذكرها في أخباره - ثم قالوا لأبي نواس: كأنا بك يا أبا علي قد جئت بقولك: لا تبكِ ليلى ولا تطرب إلى هند ... واشرب على الورد من حمراء كالوردِ كأساً إذا انحدرت من كف شاربها ... أجدته حمرتها في العين والخد فالكأس ياقوتة والخمر للؤلؤة ... من كفة لؤلؤة ممشوقة القد تسقيك من عينها خمراً ومن يدها ... خمراً فمالك من سكرين من بد لي سكرتان وللندمان واحدة ... شيء خصصت به من بينهم وحدي ثم قالوا لدعبل: كأنك قد جئت بقولك: لا تعجبي يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى ومنها: لا تأخذوا بظلامتي أحداً ... طرفي وقلبي في دمي اشتركا ثم قالوا لأبي الشيص: كأنك قد جئت بقول: حُلي عقال مطيتي لا عن قلى ... وأمضى فإني يا أميمة ماضي اثنان لا تصبو النساءُ إليهما ... ذو شيبة ومحالف الإنفاض قال أبو الشيص: بل أنشدكم أبياتاً قلتها في هذه الأيام. قالوا: هات. فأنشدهم:

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدمُ أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبّاً لذكرك فليلُمني اللومُ وأهنتني فأهنت نفسي جاهداً ... ما مَن يهون عليك ممن يكرم أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ... إذ كان حظي منك حظي منهم قال أبو نواس: أحسنت والله وملحت ولتعلمن أني سآخذ منك هذا المعنى فيشتهر ما أقول ولا يشتهر ما قلت. فأخذه وضمنه قوله في الخصيب: فما جازه جود وما حل دونه ... ولكن يصير الجود حيث يصير فسار هذا لأبي نواس ولم يسر بيت أبي الشيص إلا دون ذلك. وحدثني أبو مالك عبيد الله بن محمد قال: قال ابن الأعمش كان أبو الشيص عند عقبة بن جعفر بن الأشعث الخزاعي وكان من أكرم الناس عليه، لانقطاعه إليه ومدحه إياه، ولما بينهما من العشرة وكان لعقبة بن الأشعث خادم يحبه حباً شديداً، فشرب أبو الشيص ليلة مع عقبة فسكر وبات. فلما كان في بعض الليل دب إلى الخادم، فوجأه الخادم بالسكين فأصاب مقتله، فقال له أبو الشيص: ويحك قتلتني، فأما إذ قد فعلت فلا تفضحني ونفسك. فقال الخادم: وما أصنع؟ قال: هات قراباً فاكسره تحتي لأموت فوقه فيقال: إنه كان سكران فوقع عليه فمات. ففعل ذلك. ومات أبو الشيص من ساعته، فلم يأت على الخادم إلا أيام يسيرة حتى حدث مولاه الحديث فلم يُنَهنِه عقبة أن قتل الخادم. وكان أبو الشيص أحد شعراء الرشيد ممن قد مدحه مدائح كثيرة

ثم لما مات الرشيد رثاه ومدح محمداً الأمين فمما قال في ذلك: جرت جوار بالسعد والنحس ... فنحن في وحشة وفي أنسِ العين تبكي والسن ضاحكة ... فنحن في مأتم وفي عرسِ يضحكنا القائم الأمين ويُب ... كينا وفاةُ الإمام بالأمس بدران: بدر هذا ببغداد في ال ... خلد وبدر بطوس في الرمس ومما يختار من شعره قوله: أبقى الزمان به ندوب عضاض ... ورمى سواد قرونه ببياضِ نفرت به كأس النديم وأغمضت ... عنه الكواعب أيما إغماض ولربما جُعلت محاسن وجهه ... لجفونها غرضاً من الأغراض حسر المشيب قناعه عن رأسه ... فرمينه بالصد والإعراض اثنان لا تصبو النساء إليهما ... ذو شيبة ومحالف الإنفاض فوعودهن إذا وعدنك باطل ... وبروقهن كواذب الإيماض لا تنكري صدى ولا إعراضي ... ليس المقل على الزمان براض حُلّى عِقال مطيتي لا عن قلى ... وأمضى فإني يا أميمة ماض عُوِّضتُ عن برد الشباب ملاءةً ... خَلَقاً وبئس معوضة المعتاض أيام أفراس الشباب جوامحٌ ... تأبى أعنتها على الرواض وركائبٍ صرفت إليك وجوهها ... نكبات دهر للفتى عضاض شدوا بأعواد الرحال مطيهم ... من كل أهوج للحصى رضاض يرمين بالمرء الطريق وتارة ... يَحذفن وجه الأرض بالرضراض

قطعوا إليك رياض كل تنوفة ... ومهامه ملس المتون عراض أكل الوجيف لحومها ولحومهم ... فأتوك أنقاضاً على أنقاض ولقد أتتك على الزمان سواخطاً ... فرجعن عنك وهن عنه رواض إن الأمان من الزمان وريبه ... يا عُقبَ شطا بحرك الفياض بحر يلوذ المعتفون بنيله ... فعم الجداول مُترع الأحواض ثبت المقام إذا التوى بعدوه ... لم يخش من زلل ولا إدحاض غيث توشحت الرياض عهاده ... ليث يطوف بغابة وغياض ومشمرٍ للموت ذيلَ قميصه ... قاني القناة إلى الردى خواض لأبي محمد المرجى راحتا ... ملك إلى أعلى العلا نهاض فيد تدفق بالندى لوليه ... ويد على الأعداء سم قاض وجناح مقصوص وتحيف ريشه ... ريبُ الزمان تحيُّفَ المِقراض أنهضته ووصلت ريش جناحه ... وجبرته يا جابر المنهاض نفسي فداؤك أي ليث كتيبة ... يرمى بها بين القنا المرفاض ومن مختار أبي الشيص قوله: خلع الصبا عن منكبيه مشيبُ ... فطوى الذوائب رأسه المخضوب

نشر البلى في عارضيه عقارباً ... بيضاً لهن على القرون دبيبُ ومما يستحسن له قوله: نهى عن خُلة الخمر ... بياض لاح في الشعرِ وقد أغدو وعين الشم ... س في أثوابها الصفر على جرداء قباء ال ... حشا ملهبة الحضرِ بسيف صارم الحد ... وزق احدب الظهرِ وظبي يعطف الأزرَ ... ويثنيها على الخصر على ألطف ما شدت ... عليه عقد الأزر مهاة ترتمي الألبا ... ب عن قوس السحر لها طرف يشوب الخم ... ر للندمان بالخمر عفيف اللحظ والأعضا ... ء في الصحو وفي السكر على عذراء لم تفتق ... بنار لا ولا قدر عجوز نسج الماء ... لها طوقاً من الشذرِ كأن الذهب الأحم ... ر في حافاتها يجري وليل تركب الركبا ... ن في أجوافه الخضر بأرض تقطع الحير ... ة فيها بالقطا الكدر تمسكت على أهوا ... لها بالله والصبر وإعمال بنات الري ... ح في المهمة والقفر شماليل يصافحن ... متون الصخر بالصخر

بإيجاف يقد اللي ... ل عن ناصية الفجر ومما طار لأبي الشيص في الدنيا وسارت به الركبان هذه: أشاقك والليل ملقى الجران ... غراب ينوح على غصن بان أحمُّ الجناح شديد الصياحِ ... يبكي بعينين لا تهملانِ وفي نعبات الغراب اغترابٌ ... وفي البان بين بعيد التدان لعمري لئن فزعت مقلتاك ... إلى دمعة قطرها غير وان فحق لعينيك ألا تجف ... دموعهما وهما تطرفان ومن كان في الحي بالأمس منك ... قريب المكان بعيد المكان فهل لك يا عيش من رجعة ... بأيامك المونقات الحسان فيا عيشنا، والهوى مورق ... له غصن أخضر العود دانِ لعل الشباب وريعانه ... يسود ما بيض القادمان وهيهات يا عيش من رجعة ... بأغصانك المائلات الدواني لقد صدع الشيب ما بيننا ... وبينك صدع الرداء اليماني عليك السلام فكم ليلة ... جموحٍ وليل خليعِ العنان قصرت بك اللهو في جانبيه ... بقرع الدفوف وعزف القيان وعذراء لم تفترعها السقاة ... ولا استامها الشرب في بيت حان ولا احتلبت درها أرجل ... ولا وسمتها بنار يدان ولكن غذتها بألبانها ... ضروع يحف بها جدولان إلى أن تحول عنها الصبا ... وأهدى الفطام لها المرضعان فلم تزل الشمس مشغولة ... بصبغتها في بطون الدنان

ترشحها للثام الرجال ... إلى أن تصدى لها الساقيان ففضا الخواتيم عن جونة ... صدوف عن الفحل بكر عوان عجوز غذا المسك أصداغها ... مضمخة الجلد بالزعفران يطوف علينا بها أحور ... يداه من الكأس مخضوبتان ليالي تحسب لي من سنيَّ ... ثمان وواحدة واثنتان غلام صغير أخو شرةٍ ... يطير معي للهوى طائران جرور الإزار خليل العذار ... على لعهد الصبا بردتان أصيب الذنوب ولا أتقي ... عقوبة ما يكتب الكاتبان تنافس في عيون الرجال ... وتعثر بي في الحجول الغواني فأقصرت لما نهاني المشيبُ ... وأقصر عن عذلي العاذلان وعافت عيوف وأترابها ... رُنُوي إليها وملت مكاني وراجعت لما أطار الشباب ... غرابان عن مفرقي طائران رأت رجلاً وَسَمَتْه السنون ... بريب المشيب وريب الزمان فصدت وقالت: أخو شيبة ... عديم. ألا بئست الحالتان فقلت: كذلك من عضه ... من الدهر ناباه والمخلبان وعجت إلى جمل بازل ... رحيب رحى الزور فحل هجان سبوح اليدين طموح الجران ... غؤول لأنساعه والبطان فعضيت أعواد رحلي به ... وناباه من زمع يضربان

فلما استقل بأجرانه ... ولان على السير بعض الليان قطعت به من بلاد الشآم ... خروقاً يضل بها الهاديان إلى ملك من بني هاشم ... كريم الضرائب سبط البنان إلى علم البأس، في كفه ... من الجود عينان نضاختان ومما يستحسن من شعره قوله هذه اللامية: ختلته المنون بعد اختيال ... بين صفين من قناً ونصال في رداء من الصفيح صقيل ... وقميص من الحديد مذال لأبي الشيص في الرشيد مرثية عجيبة: غربت في المشرق الشم ... س فقل للعين تدمع ما رأينا قطّ شمساً ... غربت من حيث تطلع وهي طويلة. ولو ذهبنا نسوق قصائد خرج الكتاب عن حدّ قصدناه، وإنما نأتي بالبيت والبيتين دليلاً على قصيدة مشهورة ونتفرق في خلال ذلك القصيدة - في الفرط - إذا كانت رائعة كثيرة الفوائد ليكون أحفظ. للناظر في الكتاب إذا أراد الحفظ. ومن قلائد أبي الشيص كلمته في عقبة بن الأشعث يمتدحه: مرت عينه للشوق فالدمع منسكب ... طلول ديار الحيّ مغترب كسا الدهر برديها البلى ولربما ... لبسنا جديديها وأعلامنا قشب

فغير مغناها ومحت رسومها ... سماء وأرواح ودهر لها عقب تربع في أطلالها بعد أهلها ... زمان يشت الشمل، في صرفه عجب تبدلت الظلمان بعد أنيسها ... وسوداً من الغربان تبكي وتنتحب وعهدي بها غناء مخضرة الربا ... يطيب الهوى فيها ويستحسن اللعب وفي عرصات الحي أظبٍ كأنها ... موائد أغصان تأود في كثب عواتق قد صان النعيم وجوها ... وخفرها خفر الحواضن والحجب عفائف لم يكشفن ستراً لغدرةٍ ... ولم تنتح الأطراف منهن بالريب فأدرجهم طيّ الجديدين فانطووا ... كذاك انصداع الشعب ينأى ويقترب وكأس كسا الساقي لنا بعد هجعة ... حواشيها مامج من ريقه العنب كميت أجادت جمرة الصيف طبخها ... فآبت بلا نار تحش ولا حطب لطيمة مسك فت عنها ختامها ... معتقة صهباء حيرية النسب ربيبة أحقاب جلا الدهر وجههافليس بها إلا تلأ لؤها ندب إذا فرجات الكاس منها تخليت ... تأملت في حافاتها شعل اللهب كأنّ اطراد الماء في جنباتها ... تتبع ماء الدر في سبك الذهب سقاني بها والليل قد شاب رأسهغزال بحناء الزجاجة مختضب يكاد إذا ما ارتج ما في إزاره ... ومالت أعاليه من اللين ينقضب

لطيف الحشى عبل الشوى مدمج القرى ... مريض جفون العين في طيه قبب أميل إذا ما قائد الجهل قادني ... إليه وتلقاني الغواني فتصطحب فورعني بعد الجهالة والصبا ... عن الجهل عهد بالشبيبة قد ذهب وأحداث شيب يفترعن عن البليودهر تهر الناس أيامه كلب فأصبحت قد نكبت عن طرق الصبا ... وجانبت أحداث الزجاجة والطرب يحطان كأساً للنديم إذا جرت ... عليّ وإن كانت حلالاً لمن شرب ولو شئت عاطاني الزجاج أحورٌ ... طويل قناة الصلب منخزل العصب ليالينا بالطف إذ نحن جيرة ... وإذ للهوى فينا وفي وصلنا آزب تخالسني اللذات أيدي عواطل ... وجوف من العيدان تبكي وتصطخب إلى أن رمى بالأربعين مشبها ... ووقرني قرع الحوادث والنكب وكفكف من غربي مشيب وكبرة ... وأحكمني طول التجارب والأدب وبحر يحار الطرف فيه قطعته ... بمهنوءة من غير عر ولا جرب ملاحكة الأضلاع محبوكة القرى ... مداخلة الرايات بالقار والخشب موثقة الألواح لم يدم متنها ... ولا صفحيتها عقد رحل ولا قتب

عريضة زور الصدر دهماء رسلة ... سناد خليع الرأس مزمومة الذنب جموح الصلاة موارة الصدر جسرة ... تكاد من الإغراق في السير تلتهب مجفرة الجنبين جوفاء جونة ... نبيلة مجرى العرض في ظهرها حدب معلمة لا تشتكي الأين والوجي ... ولا تشتكي عض النسوع ولا الدأب ولم يدم من جذب الخشاشة أنفها ... ولا خانها رسم المناسب والنقب مرققة الأخفاف صم عظامها ... شديدة طي الصلب معصوبة العصب يشق حباب الماء حد جرانها ... إذا ما تفرى عن مناكبها الحبب إذا اعتلجت والريح في بطن لجةً ... رأيت عجاج الموت من حولها يثب ترامى بها الخلجان من كل جانب ... إلى متن مقتر المسافة منجذب ومثقوبة الأخفاف تدمي أنوفها ... معرفة الأصلاب مطوية القرب صوادع للشعب الشديد التيامه ... شواعب للصدع الذي ليس ينشعب ومن قلائد أبي الشيص البالغة السائرة في الأرض قوله: يا دار مالك ليس فيك أنيس ... إلا معالم آيهن دروس

الدهر غالك أم عراك من البلى ... بعد النعيم خشونة ويبوس ما كان أخصب عيشنا بك مرة ... أيام ربعك آهل مأنوس فسقاك يا دار البلي متجرف ... فيه الرواعد والبروق هجوس دار جلا عنها النعيم فربعها ... خلق تمر به الرياح يبيس طلل محت آي السماء رسومه ... فكأن باقي محوهن دروس ما استحلبت عينيك إلا دمنة ... ومخرب عنه الشرى منكوس ومخيس في الدار يندب أهله ... رث القلادة في التراب دسيس أنس الوحوش بها فليس بربعها ... إلا النعام تروده وتحوس ربع تربع في جوانبه البلى ... وعفت معالمه فهنّ طموس يدعو الصدى في جوفه فيجيبه ... ربد النعام كأنهن قسوس ولربما جر الصبا لي ذيله ... فيه، وفيه مألف وأنيس من كل ضامرة الحشا مهضومة ... لحبالها بحبالنا تلبيس متسترات بالحياء لوابس ... حلل العفاف عن الفواحش شوس وسبيئةٌ من كرمها حيريةٌ ... عذراء من لمس الرجال شموس لم يفتق النعمان عذرتها ولم ... يرشف مجاجة كأسها قابوس كتب اليهود على خواتم دنها ... يا دن أنت على الزمان حبيس

ذمية صلّى وزمزم حولها ... من آل برمك هربد ومجوس تجلو الكئوس إذا جلت عن وجههاشمساً غذاها الشمس فهي عروس عكفت بها عفر الظباء كأنها ... بأكفهن كواكب وشموس من كل مرتج الروادف أحور ... كسرى أبوه وأمه بلقيس رخو العنان، إذا ابتديت فخادم ... وإذا صبوت إليه فهو جليس يسعى بإبريق كأن فدامه ... من لونها في عصفر مغموس يسقيك ريق سبيئة حيرية ... مما استباه لفصحه القسيس بين الخورنق والسدير محلة ... للهو فيها منزل مطموس فالند من ريحانها متضوعٌ ... والظهر من غزلانها مدحوس نحس الزمان بأهلها فتصدعوا ... إن الزمان بأهله لنحوس كنّا نحل به ونحن بغبطة ... أيام للأيام فيه حسيس فبنى عليه الدهر أبنية البلى ... فعلى رباه كآبة وعبوس وصريع كأس بت أرقبه وقد ... نهشته من أفعى المدام كئوس عقل الزجاج لسانه وتخاذلت ... رجلاه فهو كأنه مطسوس سطت العقار به فراح كأنما ... مجّ الرّدى في كأسه الفاعوس مما يختار له من قصيدته: جلا الصبح أوني الكرى عن جفونه ... وفي صدره مثل السهام القواصد

أخبار والبة بن الحباب

تمكن من غراته الحب فانتحى ... عليه بأيد أيدات حواشد إذا خطرات الشوق قلبن قلبه ... شددن بأنفاس شداد المصاعد يذكره خفض الهوى ونعيمه ... سوالف أيام وليس بعائد وبلغني أن هذه القصيدة أنشدت عند المأمون فأفرط في استحسانها، ثم أنشد في ذلك المجلس لجماعة من حذاق المحدثين، مثل بشار ومسلم ابن الوليد ونظرائهما، فلم يهش لشيء من ذلك، وفضل عليهم أبا الشيص. وأشعاره ونوادره وملحه كثيرة جدّاً، ولكنا لا نخرج من شرط الكتاب، لئلا يمله القارئ إذا طال عليه الفنّ الواحد، وليحفظ هذه النكت والنوادر والملح، وليستريح من أخبار المتقدمين وأشعارهم فإن هذا شيءٍ قد كثرت رواية الناس له فملوه، وقد قيل: لكل جديد لذة، والذي يستعمل في زماننا إنما هو أشعار المحدثين وأخبارهم، فمن ها هنا أخذنا من كل خبر عينه ومن كل قلادة حبتها. أخبار والبة بن الحباب حدَّثني عبد الكريم بن عبد الرحيم الأنباري قال: حدَّثني إسماعيل العمري قال: رأيت الحسن بن هانئ غلاماً مع والبة بن الحباب صغيراً مليحاً نادراً، يخدمه ويتصرف في حوائجه الخفاف. ووالبة هو الذي أدب أبا نواس. وحدثني محمد بن الهيثم الموصلي قال: حدَّثني العامري وإبراهيم بن عقيل قالا:

قال والبة: رأيت إبليس فيما يرى النائم كأنه أتاني فقال لي: ترى غلامك الحسن بن هانئ هذا؟ قلت: ما شأنه؟ قال: إنّ له لشأنا والله لأغوين به أمة محمد عليه السلام، ولألقين محبته في قلوبهم. ومما يستحسن لوالبة: أحسن من در ومرجان ... آثار إنسان بإنسان قد عضه ذو حنق مشفق ... وقلبه ليس بغضبان عاقبني منتقماً جهده ... وقد جزاني كلّ إحسان لو كان يدري أنه محسنٌ ... بدل إحساناً بهجران ولوالبة في المجون والفتك والخلاعة ما ليس لأحد، وإنما أخذ أبو نواس ذلك عنه. ومما روى لوالبة في المجون: شبيه الفاتك العيار مثلي ... نعيم حين يشرب بالبواطي يعاطينا الزجاجة أريحي ... رخيم الدل بورك من معاطي أقول له على طرب ألطني ... ولو بمواجر علج نباطي فإن الخمر ليس تطيب إلاّ ... علي وضر الجنابة باللواط وله أيضاً في ذلك: قد قابلتنا الكئوس ... ودابرتنا النحوس واليوم هرمز روز ... قد عظمته المجوس لم تخطه في حساب ... وذاك مما تسوس

ونحن عند عميد ... قد غاب عنا البسوس نعير كأساً وكأساً ... أوصى بها جالنوس أنا وجي عروس ... والكأس أيضاً عروس يسقي العروس عروساً ... إحداهما الخندريس حتى إذا ما انتشينا ... وهزّنا إبليس رأيت أعجب شيءٍ ... منّا ونحن جلوس هذا يقبّل هذا ... وذاك هذا يبوس وهذا الشعر مما ينحله العامة أبا نواس. وذلك غلط، لأن العامة الحمقى قد لهجت بأن تنسب كل شعر في المجون إلى أبي نواس، وكذلك تصنع في أمر مجنون بني عامر كل شعر فيه ذكر ليلى تنسبه إلى المجنون. وحدثني اليزيدي قال: حدَّثني أبو سلهب الشاعر قال: كان والبة بن الحباب ماجناً خليعاً. ما يبالي ما قال ولا ما صنع. وكان منزله في آخر زقاق لا منفذ له. فكان إذا أتاه السائل يسأله، ويتركه حتى يطيل ويكثر ولا يجيبه، فإذا علم أنه قد انصرف ومشى إلى طرف الزقاق - والزقاق طويل جداً - فتح بابه ثم ناداه، فيجيبه: لبيك لبيك، يظن أنه قد أخرج له شيئاً، ويقبل نحوه، فإذا قرب منه قال: صنع الله لك. وحدثت أن المهدي ذكره ذات يوم فقال: ما أشعره وأملح شعره! وهو مع ذلك أديب واسع الحفظ. فقال له بعض من في مجلسه: ما يمنعك

أخبار صالح بن عبد القدوس

من منادمته؟ قال: يمنعني من ذلك قوله: قلت لساقينا على خلوة ... أدن كذا رأسك من رأسي وادن فضع صدرك لي ساعة ... إني امرؤٌ أنكح جلاسي فتريد أن ينكحنا لا أم لك. أخبار صالح بن عبد القدوس حدثني محمد بن يزيد قال: حدَّثني العوفيّ قال: أخذ صالح بن عبد القدوس في الزندقة، فأدخل على المهدي، فلما خاطبه أعجب به، لغزارة أدبه وعلمه وبراعته، وبما رأى من فصاحته وحسن بيانه وكثرة حكمته، فأمر بتخلية سبيله، فلما ولّى ردّه وقال: ألست القائل: وإن من أدبته في الصبا ... كالعود يسقي الماء في غرسه حتى تراه مورقاً ناضراً ... من بعد ما أبصرت من يبسه والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يواري في ثرى رمسه إذا ارعوى عاد إلى جهله ... كذي الضنا عاد إلى نكسه قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: وأنت تترك أخلاقك؟ ونحن نحكم في نفسك بحكمك. فأمر به فقتل. وحدثت من غير هذا الوجه بما هو عندي أثبت من الأول، وذلك ما رويناه أنه أنهى إلى الرشيد عنه هذه الأبيات، يعرض فيها بالنبي صلى الله عليه وآله: غصب المسكين زوجته ... فجرت عيناه من درره

ما قضى المسكين من وطرٍ ... لا ولا المعشار من وطره عذت بالله اللطيف بنا ... أن يكون الجور من قدره - عليه لعنة الله إن كان قالها - فقال له الرشيد: أنت القائل هذه الأبيات؟ قال: لا، والله يا أمير المؤمنين، ما أشركت بالله طرفة عين، ولا تسفك دمي على الشبهة، فقد قال النبي صلى الله عليه وآله: " ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم " وأخذ يرقق قلبه، ويستنزله عما عزم عليه بفصاحته وبيانه، ويتلو القرآن، حتى رقّ له وأمر بتخلية سبيله، فلما أراد أن يخرج من بين يديه قال: أنشدني قصيدتك السينية فأنشده حتى إذا بلغ قوله: والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يواري في ثرى رمسه قال: يا شيخ، هذا الكلام يشبه هذا الكلام، وهذا الشعر من نمط ذلك الشعر - يعني الأبيات التي نسبت إليه - ونحن نتمثل وصيتك، ثم أمر فضربت عنقه وصلب على الجسر. وحدثني أبو جعفر قال: حدَّثني زياد بن أحمد قال: اجتمع قوم من أهل الأدب في مجلس فيهم صالح بن عبد القدوس، يتناشدون الأشعار، إلى أن حانت الصلاة، فقام القوم إلى ذلك، وقام صالح فتوضأ وأحسن ثم صلى أتم صلاة وأحسنها، فقال بعضهم: أتصلي هذه الصلاة ومذهبك ما تذكر؟ فقال: إنما هو رسم البلد، وعادة الجسد. والله أعلم بتحقيق ذلك. أما الرجل فله في الزهد في الدنيا، والترغيب في الجنة، والحث على الطاعة

لله عز وجل، والأمر بمحاسن الأخلاق، وذكر الموت والقبر، ما ليس لأحد وكان شعره كله أمثالاً وحكماً فمما يستحسن له قوله: تأوبني هم فبت أخاطبه ... وبت أراعي النجم ثم أراقبه لما رابني من ريب دهر أضرني ... فأنيابه يبرينني ومخالبه وأسهرني طول التفكير، إنني ... عجيب لدهر ما تقضي عجائبه أرى عاجزاً يدعى جليداً لغشمه ... ولو كلف التقوى لفلت مضاربه وعفّا يسمى عاجزاً لعفافه ... ولولا التقى ما أعجزته مذاهبه وأحمق مصنوعاً له في أموره ... يسوده إخوانه وأقاربه على غير حزم في الأمور ولا تقى ... ولا نائل جزل تعد مواهبه وليس بعجز المرء إخطاؤه الغنى ... ولا باحتيال أدرك المال كاسبه ولكنه قبض الإله وبسطه ... فلا ذا يجاريه ولا ذا يغالبه إذا كمل الرحمن للمرء عقله ... فقد كملت أخلاقه ومناقبه فيا عجبا كيف يمكن أن يقول زنديق مثل هذا القول؟! وكيف يكون قائله زنديقاً؟ ومما يستحسن له قوله: ألا أحد يبكي لأهل محلةٍ ... مقيمين في الدنيا وقد فارقوا الدنيا كأنهم لم يعرفوا غير دارهم ... ولم يعرفوا غير التضايق والبلوى ومما يختار من شعره قوله: فو حق من سمك السماء بقدرة ... والأرض صير للعباد مهادا إن المصر على الذنوب لهالك ... صدقت قولي أو أردت عنادا

أخبار إبراهيم بن سيابة

وحدثني أحمد بن إبراهيم المعبر قال: رأيت صالح بن عبد القدوس في المنام ضاحكاً مستبشراً، فقلت له: ما فعل الله بك؟ وكيف نجوت مما كنت فيه؟ فقال: إني وردت على رب لا تخفى عليه خافية، فاستقبلني برحمته وقال: قد علمت براءتك مما كنت تعرف به وترمى باعتقاده. وأشعاره كثيرة، إلا أنها موجودة عند جميع الناس مستفيضة فيهم، فاقتصرنا على ما ذكرنا منها أخبار إبراهيم بن سيابة حدَّثني أبن أبي قباذ قال: قال العوفي: كان سيابة حجاماً، وفيه يقول عتبة الأعور يهجوه ويذكر صناعته: أبوك أوهى النجاد عاتقه ... كم من كمي أدمي ومن بطل يأخذ من ماله ومن دمه ... لم يمس من ثأره على وجل ذلت رقاب الملوك خاضعة ... من بين حاف له ومنتعل وكان يرمي بالزندقة وكان المهدي أخذه وأحضر كتبه فلم يوجد فيها شيء من ذلك، فآمنه واستكتبه، وكان يكتب في مجلسه وبين يديه وكان من أبلغ الناس وأفصحهم ثم صح عنده أن فيه شيئاً مما كان اتهم به، فاطرحه وأقصاه، فساءت بعد ذلك حاله، واحتاج إلى مسألة الناس، وكان أحد المطبوعين، وكان محجاجاً منطيقاً. ومما رويناه له قوله: جاء البشير مقدم البشراء ... منه عليّ بأعظم العظماء

أخبار مطيع بن إياس

أبشر أبا إسحاق أدركت الغنى ... والسؤل منه فأعطني بشرائي فطفقت أعطي بالبشارة ما حوت ... كفاي من صفر ومن بيضاء حتى إذا بقيت يدي من ملكها ... صفراً وجدت بجبتي وردائي وبكل ما يدعو ويذكر ذاكر ... وبخاتمي فضلاً على الأشياء ضار الذي أملته ورجوته ... يأساً رهيناً قبضة العنقاء قد كنت قبل اليوم أدعى مسلماً ... واليوم صار الكفر من أسمائي وأشعاره جيدة وأخباره حسنة، وليس يمكن الاستقصاء على ذلك لئلا يخرج الكتاب من حد الاختصار إلى التطويل أخبار مطيع بن إياس حدَّثني محمد بن أحمد الزيادي قال: قال أبو نجد الشاعر: مدح مطيع بن إياس معن بن زائدة بقصيدة فصيحة جيدة، فلما سمعها معن قال: يا ابن إياس، إن شئت أثبناك، وإن شئت مدحناك، فاستحيا مطيع من اختيار الثواب، وكره اختيار المدح وهو محتاج، فكتب إلى معن هذه الأبيات: ثناء من أمير خير كسب ... لصاحب مغنم وأخي ثراء ولكن الزمان برى عظامي ... ومالي كالدراهم من دواء فلما قرأها معن ضحك وقال: صدق، ما مثل الدراهم من دواء، وأمر له بصلة. وحدثني محمد بن أحمد قال: حدَّثني أبو نجد قال: صار مطيع بن إياس إلى صديقه لحماد عجرد يعاتبها له، وقد كانت هاجرته، وكان مطيع صديقاً لحماد، فأنشأ يقول:

أنت معتلة عليه وما زا ... ل مهيناً لنفسه في رضاك فقام حماد بين يدي المرأة وقبل رأسه وقال: جزاك الله خيراً من أخ، أفصحت عما في ضميري، وشفيت غليلي. والمرأة تضحك، وحماد يقول لا عدمت منك هذا البر يا أخي، ثم أنشأ مطيع يقول: فذريه وواصلي ابن إياس ... جعلت نفسه الغداة فداك فغضب حماد وقال: يا ابن الفاعلة ما جئت بك على هذا، الحديث لنفسك لا لي فاستفرغت المرأة ضحكاً، ورابطت مطيعاً، وفارقت حماداً، فكاد حماد يجن جنونا وجعل يشكو مطيعاً إلى الناس. وكان مطيع بن إياس صديقاً ليحيى بن زياد، لا يفارقه ليلاً ولا نهاراً، ويرى كل واحد منهما بصاحبه الدنيا مودة ومحبة، ثم فسد ما بينهما فتهاجرا، ففي ذلك يقول مطيع: كنت ويحي كيدي واحد ... نرمي جميعاً ونرامى معا إن عضني الدهر فقد عضه ... أو موجع نال فقد أوجعا أو نام نامت أعين أربع ... منّا، وإن صم فلن أسمعا حتى إذا ما الشيب في مفرقي ... لاح، وفي عارضه أسرعا سعى سعاة بيننا دائباً ... فكاد حبل الوصل أن يقطعا فكاد أعداء لنا لم تزل ... تطمع في تفريقنا مطمعا حتى إذا استمكن من عثرة ... أوقد نيران القلى مسرعا ومما يستحسن من شعره كلمته التي أولها: فلئن كنت لست تصحب إلا ... صاحباً لا تزل ما عاش نعله

أخبار الخليل بن أحمد

لا تجده ولو جهدت وأني ... بالذي لا يكاد يوجد مثله إنما صاحبي الذي يغفر الذن ... ب ويكفيه من أخيه أقله ليس من يظهر المودة إفكاً ... وإذا قال خالف القول فعله وصله للصديق يومٌ فإن طا ... ل فيومان ثم يصرم حبله ومما يستحسن له من غزله قوله: لقد أحببت جهد الح ... ب ذات الخال والعقد وتحكي بعد غب الن ... وم مطروقاً من الشهد غزال أحور العين ... له خالٌ على الخد كأن البدر ذاك الخا ... ل وافى ليلة السعد ولمطيع بن إياس شعر كثير في جميع الفنون، وهو أحد الخلعاء المجان، وكان صاحب نوادر، ولو استقصينا كل شاعر واستوعبنا شعره زال الكتاب عن الغرض الذي قصدناه. وتوفي مطيع سنة تسع وتسعين ومائة. أخبار الخليل بن أحمد حدَّثني إسحاق بن الصلت الأنباري قال: حدثني المعلى بن جعفر السعدي قال: كان الخليل بن أحمد أعلم الناس بالنحو والغريب، وأكثرهم دقائق في ذلك، وهو أستاذ الناس، وواحد عصره، وأول من اخترع العروض وفتقه، وجعله ميزاناً للشعر، وكان سببه أنه مر في سكة القصارين بالبصرة

فسمع من وقع الكدين أصواتاً مختلفة، ففكر في هذا العلم وقال: لأضعن من هذا أصلاً لم أسبق إليه، فعمل العروض على هذه الأصوات التي في أيدي الناس، وكان ذكياً فطناً عالماً بأيام الناس وأخبارهم، وكان مع ذلك شاعراً مفلقاً، وأديباً بارعاً، وله أيضاً في الألحان والنغم كتاب معروف، وهو صاحب كتاب العين الذي جمع فيه أصول الكلام للعرب كلها. حدثني محمد بن يزيد المبرد قال: حدثني أبان بن رزين البصري قال: زعم يونس النحوي أن الخليل بن أحمد كان يستدل بالعربية على سائر اللغات ذكاء منه وفطنة. وحدثني أبو العباس أحمد بن عبد الله بن محمد بن جعفر قال: حدثني الحسن بن المهلبي قال: كان الخليل بن أحمد منقطعاً إلى الليث بن نصر بن سيار، وكان الليث من أكتب الناس في زمانه، وكان بارع الأدب، بصيراً بالنحو والشعر والغريب، وكان يكتب للبرامكة، ويطير معهم في دولتهم بجناحين، وكانوا معجبين، فارتحل إليه الخليل بن أحمد، فلما عاشره وجده بحراً، فأجزل له وأغناه. وأحب الخليل أن يهدي إليه هدية تليق به، فأقبل وأدبر، وعلم أن المال والأثاث لا يقع منه موقعاً حسناً، لوجود ذلك عنده، وكثرته لديه، وأنه لا يسر بشيء سروره بمعنى لطيف من الأدب، فجهد نفسه في تصنيف كتاب العين، فصنفه لليث بن نصر دون سائر الناس، ونمقه وحبره، وأخرجه في أسرى ظرف وأحسن خط، فوقع منه موقعاً: عظيماً، وسر به سروراً شديداً، فوصله بمائة ألف درهم، واعتذر إليه من

التقصير، وأقبل ينظر فيه ليلاً ونهاراً، ولا يمل منه ولا يفتر، وكان يغدو ويروح على البرامكة، فكأنه على الرضف حتى يرجع إلى الكتاب وينظر فيه، إلى أن حفظ نصف الكتاب. وكانت تحته بنت عم له، وكانت سرية نبيلة موسرة جميلة، وكانت تهوى ابن عمها وتحبه، فاشترى الليث جارية نفيسة فائقة الجمال، بثمن جزيل، فأقعدها في منزل صديق له يتسرى بها، فبلغ ذلك ابنة عمه، فوجدت من ذلك أشد وجد، وحزنت وقالت: والله لأغيظنه ولا أتقي الغاية. وقالت: إن غظته في المال فهو لا يبالي به ولا يكترث له، ولكني أراه مشغوفاً بهذا الكتاب، وقد هجر كل لهو ولذة، وأقبل على النظر فيه، والله لأفجعنه به. ثم عمدت إلى الكتاب بأسره فأحرقته، فلما كان بالعشي، وراح الليث من دار البرامكة، ودخل المنزل، لم يكن له هم إلا الكتاب، فصاح بالغلام أن يحمله إليه، فلم يوجد الكتاب، وكاد يطير طيشاً، وظن أنه سرق، فجمع غلمانه وتهددهم. فقال بعضهم: يا سيدنا أخذته الحرة، فبادر إليها ليترضاها ويسترجع الكتاب، وقال لها: ردي الكتاب والجارية لك، وقد حرمتها على نفسي، فأخذت بيده، وأدخلته البيت الذي أحرقته فيه، فلما نظر إلى رماده وصح عنده أنه احترق، سقط في يديه. وظن أنه أصيب بمال عظيم أو يولد أو أعظم منه، وكان قد حفظ نصف الكتاب، ويبقى عليه نصفه - وقد مات الخليل - فطلبه في الدنيا كلها فأعجزه ذلك، ولم تكن النسخة وقعت إلى أحد، فاستدرك النصف من حفظه وجمع على النصف الباقي علماء أهل زمانه. فقالوا: ما تروم؟ قال: مثلوا عليه، فمثلوا، فلم يلحقوه، ولا شقوا غباره. فأنت ترى ما في أيدي الناس من ذلك، فإذا ما تأملته تراه

نصفين، النصف الأول أتقن وأحكم، والنصف الآخر مقصر عن ذلك. ومما يستحسن للخليل بن أحمد من شعره قوله: وما هي إلا ليلة ثم يومها ... وحول إلى حول وشهر إلى شهر مطايا يقربن الجديد إلى البلى ... ويدنين أشلاء الكريم إلى القبر ويتركن أزواج الغيور لغيره ... ويقسمن ما يحوي الشحيح من الوفر ومما سار له في الدنيا قوله: أبلغا عني المنجم أني ... كافر بالذي قضته الكواكبْ عالم أن ما يكون وما كا ... ن قضاء من المهيمن واجبْ ومن السائر الذي يروي له قوله: لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ... أو كنت تعلم ما تقول عذلتُكا لكن جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنك جاهل فعذرتكا ومما يختار له قوله لسليمان بن قبيصة بن يزيد بن المهلب وقد كتب إليه يستزيره إلى السند وكان والياً عليها: أبلغ سليمان أني عنه في سعة ... وفي غنى غير أني لست ذا مال الرزق عن قدر لا الضعف ينقصه ... ولا يزيدك فيه حول محتال وأهدى إليه سليمان من السند هدية برزة فردها وقال: وخصلة يكثر الشيطان إن ذكرت ... منها التعجب جاءت من سليمانا لا تعجبن لخير زل عن يده ... فالكوكب النحس يسقي الأرض أحيانا وأخبار الخليل وعجائبه كثيرة، وشعره قليل لأن شغله بالعلم كان أكثر منه بقول الشعر، وفيما أوردنا من جملة قصته كفاية.

أخبار سلم الخاسر

أخبار سلم الخاسر وهو سلم بن عمرو حدثني الخاسر خالي. فقلت له: جعلت فداك، لم سمي الخاسر؟ فضحك وقال: سمي الخاسر لأنه تقرَّأ فبقي في تقرئه مدة يسيرة. فرقت حاله فاغتم لذلك، ورجع إلى شيء مما كان عليه من الفسق والمجون، وباع مصحفاً كان ورثه من أبيه، فاشترى بثمنه طنبوراً - وقيل: باع مصحفاً واشترى بثمنه دفتر شِعْر - فشاخ بالناس خبره، فسمي الخاسر بذلك، وقيل له: ويلك، في الدنيا أحد فعل ما فعلت؟ تبيع مصحفاً وتشتري بثمنه طنبوراً فقال: ما تقرب أحد إلى إبليس بمثل ما تقربت إليه، فإني أقررت عينه. وقد قيل: إنما فعل ذلك مجوناً، ولم يكن رديء الدين. وأما الذين زعموا أنه اشترى بثمن المصحف الشعر، فقد رووا في أخباره أنه لما أفاد من الخلفاء والبرامكة بشعره ما أفاد من الأموال الجليلة قال: أنا الرابح ولست بالخاسر. وكان من المطبوعين المجيدين. وكان تلميذاً لبشار بن برد الأعمى، ولما قال بشار بيته هذا: من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيبات الفاتك اللهجُ

أخذ سلم هذا المعنى، وجاء به في أجود من ألفاظه وأفصح وأوجز فقال: من راقب الناس مات غماً ... وفاز باللذة الجَسُورُ وقال بشار - حين قال بيته ذلك -: ما سبقني أحد إلى هذا المعنى ولا يأتي بمثله أحد. فلما قال سَلْمٌ هذا البيت، قال راوية بشار: صرت إليه فقلت: يا أبا معاذ، قد قال سلم بيتاً أجود من بيتك الذي تعجب به. قال: وما هو؟ فأنشدته البيت، فقال: أوخ، ذهب والله بيتي، لوددت أن ولاءه لغير آل أبي بكر الصديق فأقطعه وقومه بهجوي. وهذا مما يدل أن بشارً كان صحيح الدين. ثم نحاه عن نفسه، حتى كلمه فيه بعض إخوانه فرده. وسلم أحد المطبوعين المحسنين وكان كثير البدائع والروائع في شعره وسار بيت سلم الذي ذكرناه، ولم يسر بيت بشار. ومن جيد ما يروى لسلم كلمته في يحيى بن خالد - ويقال: إنه أخذ عليها مالاً عظيماً ويقال: إنه من عمل بما في هذه الأبيات من قصيدته جاز أن يكون وزيراً والأبيات هذه: بقاء الدين والدنيا جميعاً ... إذا بقي الخليفة والوزيرُ يغار على حمى الإسلام يحيى ... إذا ما ضيع الحزم الغيور وليس يقوم بالإسلام إلا ... معار يستجار ويستجير كِلا يوميك من نفع وضر ... يحوط حماهما كرم وخير وما ألهاك عما أنت فيه ... نعيم الملك والوطئ الوثير

إليك سبيلنا من كل وجه ... وكل الأمر أنت به بصير بلوت الناس من عجم وعرب ... فما أحد يسير كما تسير فكل الأمر من قول وفعل ... إذا علقت يداك به صغير وفي كفيك مدرجة المنايا ... ومن جدواهما الغيث المطير وأنت العز في حرب وسلم ... يضاف إلى مناكبك الطهور عرفت الدهر من خير وشر ... فكل الرأي أنت به خبير ولست مجازياً بالضغن ضفنا ... ولو أبدى المظاهرة الظهير فكل الناس بين غنى وعفو ... لديك، كلاهما در درور وما تخفى عليك وأنت طب ... بطون للأمور ولا ظهور سرابيل المحامد ضافيات ... عليك يزينها الوشي الحبير وما نزغتك للدنيا هنات ... إليك أعين الوزراء صور وما إن نال من دين لدنيا ... قليل من هواك ولا كثير وكانت قبلك الوزراء غرقى ... يؤم كبيرهم فيها الصغير وما إن جاء مقطع كل حق ... صعود في هواك ولا حدور تفرجت الأمور ببرمكي ... تضيء له المنابر والسرير حملت فوادح الأعباء عنا ... عن الإسلام إن شكر الشكور منا ملك نعم ووزير ملك ... عليه من لباس الشيب نورُ

بديهته وفكرته سواء ... إذا ما نابه الخطب الكبير وأجزل ما يكون الدهر رأياً ... إذا عمي المشاور والمشير ولا غرس الأمور ولا اجتناها ... كيحيى حين يعزم أو يسير إذا قامت مساعي الفخر يوماً ... على الأقدام أو مدح المرير فما نفع كنفع أبي علي ... ولا أحد يصير كما يصير ومما يستحسن لسلم كلمته في المهدي: حي المنابر بالسلام ... على وداع أو لمام لم يبق منك ومنهم ... غير الجلود على العظام ولقد سكرت من الهوى ... سكر الغوى من المدام فالقلب مضطرب الحشا ... والعين نافرة المنام فإذا عزمت فأمض همّ ... ك بين محمود ودام ودع النوافخ في البري ... يسبحن في بحر الظلام ويخضن أسراب الفلا ... قوداً أعنتها سوام متسربلات بالحميم ... معممات باللغام من كل خرقاء اليدي ... ن على انقضاب وانجذام

يهمسن في همس القطا ... ويخدن في وخد النعام كم قد هتكن من الرجا ... ومضين بين صدى وهام حتى رجعن من السرى ... مثل الأهلة في الحزام لم يبق غير نواظر ... منها وأخفاف دوام يتبعن وخد شملة ... وجناء تفسح في الزمام فمضت تزف أمامه ... ن كما تولى سهم رام وإلى أمير المؤمني ... ن محمد خير الأنام جمع الخلافة والسما ... حة والشجاعة في نظام ملك ضريبة رأيه ... أمضى من السيف الحسام يقضي أمور المؤمني ... ن برأي حزم واعتزام قالت قريش كلها ... وهم الكرام بنو الكرام وخيار من وطئ الحصا ... من بين كهل أو غلام : فضل الملوك محمد ... فضل الحلال على الحرام فاسلم أمير المؤمني ... ن فأنت رهن بالسلام ولك المكارم كلّها ... في دار ظعن أو مقام أمن الحوادث من تعل ... ق ذمة الملك الهمام

يا خير من ضمنت يدا ... هـ كم في يديك من الذمام كم في يديك من الندى ... وضروب ألوان الحمام حوض الخليفة بالندى ... يشفى الغليل من الأوام إن الخليفة في يدي ... هـ سجال عفو وانتقام كان سلم الخاسر يذهب بالمهدي إلى أنه المهدي الذي وصف رسول الله صلى الله عليه وآله. ومما يستحسن من شعره قصيدته في موسى الهادي بن المهدي وهي هذه: سألت الديار وأطلالها ... وما إن تجاوب سؤالها منازل قد أقفرت يعدنا ... وجرت بها الريح أذيالها وصهباء تعمل في الناظرين ... شربت على الريق سلسالها وقد كنت للكأس والغانيات ... إذا هجر القوم وصالها وكم قد رفعت ستور الملوك ... وزاولت بالشعر أزوالها ونلت مجالس مشهورة ... ينال الكرام بمن نالها ولقد جعل الله في راحتيك ... حياة النفوس وآجالها وجدناك في كتب الأولي ... ن محي النفوس وقتالها وموسى شبيه أبي جعفر ... ومعطي الرغائب سؤالها ولولا مكانك من بعده ... لأنكرت العوذ أطفالها

أخبار ابن ميادة

مما يستحسن له كلمته في نجاح الحاجة وهذه الأبيات منها: يدير الأمور مقاديرها ... وللرزق داع إلى أهله إذا أذن الله في حاجة ... أتاك النجاح على رسله إذا قنع المرء نال الغنى ... وعرى المطية من رحله ولا تسأل الناس من فضلهم ... ولكن سل الله من فضله وحدثني، أحمد بن محمد النوفلي قال: ما وفقت إلى شاعر أعرف بأشعار الجاهلية ولا أدري لها من سلم الخاسر، وكان سلم مزاحاً لطيفاً، مداحاً للملوك والأشراف، وكانوا يجزلون له في الثواب والعطية، فيأخذ الكثير وينفقه على إخواته وغيرهم من أهل الأدب. ولما قال أبو العتاهية أبياته التي ذكر فيها سلما وبلغه قوله: تعالى الله يا سلم بن عمرو ... أذل الحرص أعناق الرجال هب الدنيا تساق إليك عفوا ... أليس مصير ذاك إلى الزوال قال سلم: ويلي ابن الفاعلة قد كنز في بيته البدور، وأنا في ثوبي هذين. وليس عندي غيرهما. هو ينسبني إلى الحرص. وأشعاره وافرة كثيرة جداً، وقد أوردنا منها ما فيه الكفاية. أخبار ابن مَيَّادة حدثني ابن الأخوص محمد بن عبد الملك الثقفي قال: أخبرني عمرو ابن أيوب العامري قال: وفد ابن ميادة على الوليد ين يزيد بن يزيد بن عبد الملك فأنشده شعراً له فيه،

فاستحسنه منه أمره بملازمته، ففعل، فلما عنده طويلاً امتدحه بقصيدته التي يقول فيها: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بحرة ليلي حيث ربتني أهلي بلاد بها نيطت علىّ تمائمي ... وقطعن عني حيث أدركني عقلي وهل أسمعن الدهر أصوات هجمة ... تطالعن من هجل حفيٍّ إلى هجل فإن كنت عن تلك المواطن حابسي ... فأسبغ عليّ الرزق واجمع إذن شملي فقال له الوليد: قد أمرنا لك بمائتي ناقة سوداء، ومائتي ناقة حمراء، تضيء هذه من هنا، وتظلم تلك من هنالك، فخذ الكتب بذلك إلى مصدّق كلب يدفعها إليك. فأخذ ابن ميادة الكتب ومضى نحوه، فلما قرأ كتابه قال له: أعفني من الجعودة وقد كان أمر له بها جعادا، فأبي أن يقبلها إلا جعادا كما أمر له، وتماحل هو المصدق في ذلك، وكتب ابن ميادة إلى الوليد يعلمه ذلك، وضمن كتابه هذين البيتين: ألم يبلغك أن الحيّ كلباً ... أرادوا في عطيتك ارتدادا أرادوني بها لونين شتى ... وقد أعطيتها دهماً جعادا فكتب الوليد إلى المصدق يتوعده ويأمره أن يسلمها إليه - كما أمر - برعاتها وأدواتها. فأقبل يسوقها حتى أقبل بها على حيه. واسمه الرماح بن أبرد، وميادة أمه، وكانت أم ولد، وهو من بني

مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان. وكان ابن ميادة يضرب أمه في صباه ويقول: اعر نزمي ... مياد للقوافي يريد أنه سيهجو الناس فيهجونه ويذكرون أمه. وأبوه من ولد ظالم بن الحارث بن ظالم المري وهو القائل يفتخر بذلك: سقتني سقاة من آل ظالم ... بأرشية أطرافها في الكواكب وبقي ابن ميادة حتى أدرك أيام بني العباس. وقد مر على جعفر بن سليمان ابن علي وهو والي البصرة فأنشد: يا جعفر الخيرات يا جعفر ... ليتك لا تنعى ولا تقبر فلما رأى جعفر ركاكة هذا الشعر وخفته قال: يا رماح. قال: لبيك أيها الأمير. قال: أتمدح الوليد بن يزيد الفاسق بمثل ذلك الشعر وتمدحني بمثل هذا؟ قال: أيها الأمير إن مدح الشاعر على قدر العطية. وما علي من فسق الوليد وقد أعطاني أربعمائة ناقة برعاتها وعبيدها وآلاتها؟ والله لا قلت أبداً أنه فاسق ولو ضربت عنقي فإن إحسانه يمنعني عن ذلك، فأعجبه ما رأى من شكره ووفائه للرجل بعد الموت وذهاب الدولة، فأمر له بأربعمائة ناقة، وقال له: قل الآن مثل شعرك الذي تقول فيه، فقال: كنت امرأً أرمى الزوائل مرة ... فأصبحت قد ودعت رمى الزوائل وعطلت قوس اللهو من شرعاتها ... وصارت سهامي بين رثّ وناصل

إذا حل أهلي بالجناب وأهلها ... بمنعرج العلان من ذي أذابل فقل: خلة ضنت عليك بوصلها ... تقطع منها باقيات الوصائل يمنونني منك الوصال وقد أرى ... بأني لا ألقاك من دون قايل وما أنس من الأشياء لا أنس قولها ... وأدمعها يذرين حشو المكاحل تمتع بذا اليوم القصير فإنه ... رهين بأيام الشهور الأطاول وكان ابن ميادة جيد الغزل، ونمطه نمط الأعراب الفصحاء، وكان مطبوعاً، وهو الذي يقول: كأن فؤادي في يد علقت به ... محاذرة أن يقضب الحبل قاضبه وأشفق من وشك الفراق وإنني ... أظن لمحمول عليه فراكبه فوالله ما أدري: أيغلبني الهوى ... إذا جدّ جدّ البين أم أنا غالبه فإن أستطع أغلب وما يغلب الهوى ... فمثل الذي لاقيت يغلب صاحبه فهذه معان وألفاظ يعجز عنها أكثر الشعراء، فإنه قد جمع إلى اقتدار الأعراب وفصاحتهم محاسن المحدثين وملحهم، وهو القائل: أقول لركب قافلين رأيتهم ... ببئر سليم من صراد وأشجع ألا إن بلغتم سالمين فأبلغوا ... تحية مرميّ بسهمين موجع ومما يختار له قوله هاج البكاء وعاق منه صدوح ... خطباء باكية على التفراح

أخبار العماني

تدعو هديلا في ذرا عبرية ... عيناء ليس عيونها بصواح ناحت بما علمت ولست بنائح ... وأبت على دأب الدلال بصاح ومما يستحسن له قوله: سل الله صبراً واعترف بفراق ... عسى بعد بين أن يكون تلاق ألا ليتني قبل الفراق وبعده ... سقاني بكأس للمنية ساق أخبار العماني واسمه محمد بن ذؤيب، وهو من بني نهشل بن دارم من بني فقيم. حدَّثني أبو مالك عبيد الله بن محمد قال: حدثني بن الرياشي قال: قال الأصمعي: مات العماني وهو ابن ثلاثين ومائة سنة، ولم يكن عمانياً، وإنما غلب عليه العماني. وكان السبب في ذلك أن دكيناً الراجز نظر إليه وهو يسقي الإبل ويرتجز، فرآه مصفراً ضريراً فقال: من هذا العماني؟ لصفرة وجهه، فلزمه ذلك. قال الرياشي: قال الأصمعي: دخل العماني على الرشيد لينشده، وعليه قلنسوة طويلة، وخف ساذج، فقال له الرشيد: إياك أن تنشدني إلا وعليك عمامة عظيمة وخفان دلقمان.

فانصرف عنه في اليوم، فلما كان من الغد غدا على الرشيد وقد تزيا بزي الأعراب، ثم أنشده وقبل يده وقال: يا أمير المؤمنين قد والله أنشدت مروان بن محمد فرأيت وجهه وقبلت يده وأخذت جائزته، ومن قبله يزيد ابن الوليد وإبراهيم بن الوليد، ثم أبا العباس السفاح، مدحته ورأيت وجهه، وقبلت يده وأخذت جائزته، ثم مدحت المنصور ثم المهدي ثم الهادي ثم إلى كثير من أشباه الخلفاء والأمراء والسادة والروساء، والله يا أمير المؤمنين أمير المؤمنين ما رأيت فيهم أبهى منظراً، ولا أحسن وجهاًن ولا أندى راحة منك يا أمير المؤمنين. قال: فأجزل له الجائزة على شعره، وأضعفها على كلامه، وأقبل عليه بوجهه وتبسم له وبسطه، حتى تمنى جميع من حضر من الشعراء والخطباء والبلغاء والوفود الذين عنده أنهم قاموا ذلك المقام. وطار اسم العماني بذلك. وحدثني حيان بن علي البصري قال: حدثني الرياشي عن الأصمعي قال: كان العماني شاعراً قديماً مفلقاً مطبوعاً مفيداًن وكان جيد الرجز والقصيد غير أن الأغلب عليه الرجز، وكان يصف الفرس فيجيد ويحسن. ومن قوله في ذلك: كأن تحت البطن منها أكلبا ... بيضاً صغاراً ينتهشن القبقبا ومما يختار له كلمته في المهدي: الحمد لله الذي بحمده ... من على عباده بعبده مهدينا الهادي الذي برشده ... أصبح بين غوره ونجده

وكل حر يرتجي من رفده ... فضل الذي بمجده يا بن الذي كان نسيج وحده ... أثبت لهاورن مكان ورده بمشرع يشفي الصدى ببرده ... وأشفع لنا موسى به من بعده يا ابن أبيه وشبيه جده ... يعرف منه جده بجده حذو الشراك قده بقده ... إنك إن عضدته بعضده شددت زنده ساعد بزنده ... وقد جرت كواكب بسعده قل للإمام وولي عهده ... رديت موسى بردها فرده خليفة الله بمثل بردهوالحم الأمر له وسده عن واجب من حقه وأده ... وادعم لنا أركان مصلخده بمنكبيه يدفعا عن ضده ... وعن عرا الملك وعن مقوده بالبيض تترى خلقاً من سرده ... والخير لا يعرف ما لم تبده كالسيف لا تعرفه في غمده ... حتى ترى بصائراً من حده ضربا يزيل الهام عن ألده ... وما على الناصح فوق جهده ومما يستحسن له كلمته في الرشيد: لما أتانا خبر كالشهد ... شبت بماء نقرة صلند جاءت به البرد وغير البرد ... ودعت هنداً وقطين هند وكنت في سلوة عيش رغد ... مع الحسان الخفرات الخرد

فجئت من حنظلة وسعد ... اطوي الدياميم بسير أدّ على بنات الأرحبي الوخد ... بكل نشز وبكل وهد إلى امرئ له أباد عندي ... واجبة الحق ولم أود حقوقها ولو جهدت جهدي ... هارون يا فرخ فروع المجد ويا ابن أشياخ الحطيم التلد ... القائمين الليل بعد الرقد لله يرجون جنان الخلد ... أنت الذي عند اصطكاك الورد لما خشيت بغي أهل الحشد ... وكدت كل حاسد صلخد شددت زند ساعد بزند ... ببيعة تشفي غليل الكبد يا بردها للمشتفي بالبرد ... أصبحت للإسلام خير عضد وللمطيع عسلاً بزبد ... لما قدمت ببين باقي الجند في وفد بيت الله خير وفد ... قالت قريش وهي أخت حتد جاء الغنى ووثقوا بالرفد ... عن ملك نائله لا يكدى يعطي الجزيل ويفي بالوعد ... كأنما سيمته في البرد بين كهول هاشم والمرد ... بدر بدا بين نجوم السعد ومما يستحسن له ويختار قوله: لا يستوي منعم بندار ... له قيان وله حمار

مقصص قصصه البيطار ... يطيف في السوق به التجار وعربي برده أطمار ... يظل في الطرف له عثار قد نصلت من رجله الأظفار ... يأوي إلى حصن له أوار أحدب قد مال له الجدار ... لا درهم فيه ولا دينار يأكل هزلي الفار فيه الفار ... في بلدة عال لها الغبار ليس على كهل بها وقار ... مثل الشياطين إذا استثاروا لهم دنان ولهم جرار ... وفاشفارات لها قتار في اليسر لا يطمع فيه الجار ومما يستحسن له هذه الأبيات: يا رب شيخ عرق الجبين ... يغدو ببغذاذ مع الغادين بعارضيه شبه الطحين ... وليس في دنيا ولا لدين وواقف في متواقفين ... بباب كل مخصب بطين في ثوب قوهي وثوب لين ... إذا دعا لجمل سمين وفاشفارات مع الطردين ... حاسر كفين بفارحين هانت عليه حاجة المسكين وله أشياء حسان كثيرة، وكان يوزن بالعجاج ورؤبة، بل كان أطيع

أخبار الحسين بن مطير

منهما. وكان من أقرانهما في السن والزمان، وأقران دكين وأبي النجم العجلي، إلا أنه عاش وبقي حتى أدرك أيام الرشيد، وقد امتدح الحجاج بن يوسف. أخبار الحسين بن مطير حدثني عبد الله بن محمد الخزري قال: حدَّثني التوزي قال: قلت لأبي عبيدة: ما تقول في شعر ابن مطير؟ قال: إنه ليقع من شعره الشيء بعد الشيء فيكثر تعجبي من كثرة بدائعه، فإذا لقيته فأعلمه أن شعره من أعجب الشعر إليّ. ومما قال: كأننا يا سليمى لم نلم بكم ... وتحتنا علسيات ملاجيج ولم نكلمك في الحساد قد حضروا ... وفي الكلام عن الحاجات تلحيج ولم نقل يوم سارت عيسكم عنقاً ... والدوسري بجذب الساج مجروج : سقى سقى الله جيرانا لنا ظعنوا ... لما دنا من رياض الحزن تهييج لم أخش بينهم حتى غدوا حزقاً ... واستوسقت بهم البزل العناجيج فاحتث من خلفهم حاديهم غردا ... وجددت دون من تهوى الهواديج

تلكم دياركم بالقف دارسة ... يستن فيها عجاج الصيف والهوج قفراً خلاء المغاني ما يظل بها ... إلا الظباء وغربان مشاحيج فيها أوار وآثار لعرصتها ... وماثل ناحل في الدار مشجوج دار لناعمة بيضاء، حلتها ... عصب يمان وبرد فيه تدبيج ومورد آجن سدم مناهله ... كأن ريق الدبى فيهن ممجوج زارتك سلمة والظلماء داجية ... والعين هاجعة والروح معروج فمرحباً بك من طيف ألم بنا ... وليس يا سلم بي في السلم تحريج هل يدنينك من سلمى وجيرتها ... قلائص أرحبيات خراجيج هدل المشافر أيديها موثقة ... زج وأرجلها زل، هزاليج قالت: تغيرت عن ودي فقلت لها: ... لا والذي بيته يا سلم محجوج ما أنس لا أنس منكم نظرة سلفت ... في يوم عيد ويوم العيد مخروج فهذا، كما ترى، شعر كأنه الديباج، بل نظم الدر في حسن وصف، وإحكام رصف وهو الذي يقول: نزل المشيب فما يريد براحا ... وقضى لبانته الشباب فراحا لا تبعدن من أليل ذي لذة ... وغضارة تدع المراض صحاحا ما كنت بائعه بشيء يشترى ... أبداً ولو أني أصبت رباحا

فعلى الشباب تحية من زائر ... يغدو ويطرق ليلة وصباحا وبنازل لما أراد إقامة ... أهلاً، أراد مروءة وصلاحا فدع الشباب فقد مضى بسبيله ... وانظر بعينك بارقاً لماحا ما زال يدفعه الصبا دفع الطلا ... من لعلع حتى أضاء ولاحا جون الرباب عصى الرياح على الربا ... متبركا من فوقها إلحاحا فعلى كحيل بني فنان على الذرا ... حوا ودهما يستردن بطاحا وكأن أصوات الحجيج عشية ... يبغون بالصوت الرفيع فلاحا فيه، وأصوات الروائم فارقت ... أولادها فلججن بعد رواحا يغشى الوحوش بمرسل من مائه ... مثل الزقاق ملأتهن رياحا وترى صفوف الوحش في حافاتها ... كثمود يوم رغا الفصيل فصاحا وكأن يثرب إذ علاها وبله ... بلد ثغوت أهلها لبياحا ومما يستحسن له كلمته التي يقول له: لقد كنت جلدا قبل أن يوقد الهوى ... على كبدي ناراً بطيئاً خمودها ولو تركت نار الهوى لتضرمت ... ولكن شوقاً كل يوم وقودها فقد جعلت في حبة القلب والحشا ... عهاد الهوى تولي بشوق يزيدها وقد كنت أرجو أن تموت صبابتي ... إذا قدمت أيامها وعهودها لمرتجة الأرداف هيف خصورها ... عذاب ثناياها عجاف قيودها

وصفر تراقيها وحمر أكفها ... وسود نواصيها وبيض خدودها يمنيننا حتى ترف قلوبنا ... رفيف الخزامى تحت طل يجودها وفيهن مقلاق الوشاح كأنها ... مهاة بسران طوال قدودها مخصرة الأطراف زانت عقودها ... بأحسن مما زينتها عقودها ومما يستحسن له قوله: خليلي من عمرو قفا فتعرفا ... لسهمة دار بين لينة والحبل وفيهن مقلاق الوشاحين طفلة ... مبتلة الأطراف ذات شوى خدل حصان لها لونان جون وواضح ... وخلقان شيء من لطيف ومن عسل وسنتها بيضاء واضحة السنا ... وذروتها مسودة الفرع والأصل فيا عجباً مني ومن حب قاتلي ... كأني أجازيه المودة عن قتلي ومن غنيات الحب أن كان أهلها ... أحب إلى قلبي وعيني من أهلي ومن السائر المجاز لابن مطير كلمته في وصف السحاب والمطر - وكان من أحذق الشعراء بذلك وهي قوله: كثرت لكثرة قطره أطباؤه ... فإذا تحلب فاضت الأطباء وكجوف ضرته التي في جوفه ... جوف السحاب سبحلة جوفاء

وكأن بارقه حريق يلتقي ... ريح عليه عرفج وألاء مستعبر بمدامع مستضحك ... بلوامع لم تمرها الأقذاء وله بلا حزن ولا بمسرة ... ضحك يراوح بينه وبكاء لو كان من لجج السواحل ماؤه ... لم يبق في لجج السواحل ماء وكان سبب هذه القصيدة أن والياً كان على المدينة، دخل عليه ابن مطير - وكان قيل له: هذا أشعر الناس - فأراد أن يختبره، فقال له: قد نشأت سحابة مكفهرة يا ابن مطير، فقل فيها، فقد أرسلت عزاليها فقال هذه القصيدة التي أثبتنا منها هذه الأبيات. ومما يختار له قوله: خليلي هذي زفرة اليوم قد مضت ... فما بعد مي زفرة قد أطلت ومن زفرات لو قصدن قتلنني ... تقض التي تأتي التي قد تولت ومما يستحسن قوله: وكنت أذود العين أن ترد البكا ... فقد وردت ما كنت عنه أذودها خليلي ما في العيش عتب لو أنني ... وجدت لأيام الصبا منن يعيدها وهو من المكثرين المجيدين المعروفين، وحسبنا ما أوردناه من أخباره دليلاً على سائر نمطه.

أخبار ابن مناذر

أخبار ابن مناذر حدَّثني أبو الأسود محمد بن الفضل قال: حدَّثني إسحاق بن عمرو العدوي قال: كان محمد بن مناذر من أهل عدن، وكان وقع إلى البصرة لكثرة العلماء والأدباء بها، فما زال يلزم أهل الفقه وأصحاب الحديث والأدب حتى بلغ من ذلك أقصى مبلغ، وكان على ستر وصلاح وحلم ووقار، إلى أن اشتهر بعبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي ثم خرج إلى مكة بعد موت عبد المجيد وأقام بها. قال إسحاق: فحدثني الحجاج الصواف قال: خرجت إلى مكة، وكان بيني وبين ابن مناذر بالبصرة وصحبة وصداقة، فلما وافيت مكة فسألت عنه فقيل لي هو في المسجد الحرام - قال - فأتيته وحوله أصحاب الشعر والأخبار وأهل النحو والغريب يكتبون عنه، وأنا أظن أن به من الشوق إليّ مثل الذي بي إليه، وأنه إذا عاينني قام إلي وعانقني - قال - فرفع رأسه ونظر إليّ، ثم أقبل على القوم يحادثهم ولا يحفل لي، فقلت في نفسي: تراه ذهبت عنه معرفتي؟ فأقبل أبو الصلت - وكان لنا صديقاً - فلما رآه أقبل عليّ، قال لي: أتعرف هذا؟ قلت: نعم، هذا الذي يقول فيه من قطع الله لسانه: إذا أنت تعلقت ... بحبل من أبي الصلت تعلقت بحبل وا ... هن القوة منبتٍّ

فخذ من ورق الدفلى ... وخذ من ورق القت وخذ من جعد غيلان ... وخذ من أظفار نسخت فأقبل ساعة ثم أقبل على القوم ساعة، ثم رفع رأسه إليّ وقال: من أين أنت؟ قلت: من أهل البصرة قال: أين منزلك بها؟ قلت في ناحية بني عايش بموضع يقال له الصوافين، فقال: فتعرف ابن زانية يقال له الحجاج الصواف؟ قلت: نعم تركته ينيك ابن مناذر. فضحك ثم قام إليّ فعانقني. وحدثني العروضي قال: قال لي أبو إسحاق: قال العتبي: رأيت محمد بن مناذر وقد قام بمكة وقت الموسم ينادي بأعلى صوته: معاشر الناس، مناذر قرية، وأنا ابن مناذر. وحدثني محمد بن يزيد قال: حدثني محمد بن عامر الحنفي قال: كان ابن مناذر مولى لبني يربوع، وكان في أول أمره مستوراً حتى علق عبد المجيد الثقفي فانتهك ستره، فلما مات عبد المجيد خرج إلى مكة فلم يزل بها مجاوراً، وكان يجالس سفيان بن عيينة، وكان سفيان يسأله عن غريب الحديث ومعانيه فيجيبه عند ذلك.

وفي مدح هارون يقول ابن منذر قصيدته التي في نسبيها: هل عندكم رخصة عن الحسن الب ... صري تروي أو ابن سيرينا إنّ سفاهاً بذي الجلالة والشي ... بة ألا يزال مفتونا لبست ثوب الصبا وبارقه ... وقد مضت من سني ستونا لما رأينا هارون صار لنا الل ... يل نهاراً بضوء هارونا فلو سألنا بحسن وجهك يا ... هارون صوب الغمام سقينا وهو القائل في كلمة له: ألا يا قمر المسج ... د هل عندك تنويل شفاني منك لو تول ... تني شم وتقبيل سلا كل فؤاد و ... فؤادي بك مشغول لقد حملت من حب ... ك مالا يحمل الفيل وهو يقول في آخر هذا الشعر: وهذا الشعر في الوزن ... لمن كان له جول مفاعيلن مفاعيلن ... مفاعيلن مفاعيل ومن قول ابن مناذر يهجو خالد بن طليق، وكان على قضاء البصرة وكان كثير الخطإ: قل لأمير المؤمنين الذي ... من هاشم في سرها واللباب

إن كنت للسخطة عاقبتنا ... بخالد فهو أشد العقاب كان قضاة الناس فيما مضى ... من رحمة الله، هذا عذاب يا عجبي من خالد كيف لا ... يغلط فينا مرة بالصواب وله فيه أيضاً: جعل الحاكم يا لل ... ناس من آل طليق ضحكة يحكم في النا ... س برأي الجاثليق أي قاض أنت للنق ... ص وتبطيل الحقوق يا أبا الهيثم ما أن ... ت لهذا بخليق لا ولا أنت لما حم ... لت منه بمطيق ومرثيته في عبد المجيد قد سارت في الدنيا وذكرت في المراثي الطوال الجياد، وهي فحلة محكمة فصيحة جداً، وقد عارض بها أبا زبيد الطائي. ويقال: إنه قال لأبي عبيدة: احكم بين القصيدتين واتق الله ولا تقل: ذاك متقادم الزمان، وهذا محدث متأخر، ولكن انظر إلى الشعر واحكم لأفصحهما وأجودهما. فقال: كل حي لاقى الحمام فمودي ... ما لحى مؤمل من خلود لا تهاب المنون شيئاً ولا تر ... ى على والد ولا مولد يقدح الدهر في شماريخ رضوى ... ويحط الصخور من هبود ولقد تترك الحوادث والأيا ... م وهيا في الصخرة الجلمود بعقل الله ما يشاء فيمضي ... ما لفعل الإله من مردود

فكأنا للموت ركب محث ... ون سراع لمنهل مورود أين رب الحصن الحصين بسورا ... ء ورب القصر المنيف المشيد شاد أركانه وبوبه يا ... بي حديد وحفه بجنود كان يجبي إليه ما بين صنعا ... ء فبصرى فقريتي يبرود فرمى شخصه فأقصده الده ... ر بسهم من المنايا سديد ثم لم ينجه من الموت حصنٌ ... دونه خندق وبابا حديد وملوك من قبله عمروا الأر ... ض أعينوا بالنصر والتأييد وعزيز بالتاج معتصب أشو ... س يحمي الذمار جم العديد ولو أن المنون أخلدن حيا ... لعلاء أخلدن عبد المجيد إن عبد المجيد يوم تولى ... هد ركناً ما كان بالمهدود ما درى نعشه ولا حاملوه ... ما على النعش من عفاف وجود غيبوا في الصعيد حزماً وعزماً ... ولزاز الخصم الألد العنيد ويح أيد حثث عليه وأيد ... غيبته، ما غيبت في الصعيد؟ هد ركني عبد المجيد وقد كنت بركن منه أبوء شديد فبعبد المجيد تأمور نفسي ... عثرت بي بعد انتعاش جدودي وسقاه ماء الشبيبة فاهت ... ز كغصن الأراكة الأملود وسمعت نحوه العيون وما كا ... ن عليه لزائد من مزيد فإذا ما ذكرته عرضت لي ... غصة في اللها وحبل الوريد وكأني أدعوه وهو قريب ... حين أدعوه من مكان بعيد

فلئن كان لا يجيب فقد كا ... ن سميعا هشاً إذا هو نودي يا فتىً كان للمقامات زيناً ... لا أراه في المحفل المشهود خنتك الود لم أمت جزعاً بع ... د فإني عليك حق جليد غير أني أبكيك ما حنت الني ... ب وحثت عيرانةٌ بقيود لو فدى الحيّ ميتاً لفدت نفس ... ك نفسي وطارفي وتليدي فبكرهي كنت المعجل قبلي ... وبرغمي دليت في ملحود كنت لي عصمة وكنت سماء ... بك تحيا أرضي ويخضر عودي تبلس الكاشح العدو على الضغ ... ن وتجزي بضعف ودّ الودود عاد عبد المجيد رزءاً وقد كا ... ن رجاء لريب دهر كنود كان عبد المجيد سم الأعادي ... ملء عين الصديق رغم الحسود وهذه القصيدة طويلة جداً ولكنها موجودة مروية ومما يستحسن من شعره مرثيته هذه في عبد المجيد: يا عين حق لك البكا ... ء لحادث الرزء الجليل فابكى على عبد المجي ... د وأعولي كل العويل وابكن لمبتاع الندى ... والحمد بالثمن الجزيل لا يبعدن ذاك الفتى الف ... ياض ذو الباع الطويل عجل الحمام به فودّ ... عنا وآذن بالرحيل وأحثه يحدو بهحادي الحمام مع الأصيل يحدو بمقتبل الشبا ... ب أغر كالسيف الصقيل كسفت لفقدك شمسنا ... جزعاً وهمت بالأفول

أخبار أبي الشمقمق

لهفي على الثغر المعف ... ر منك والخد الأسيل فاذهب فكل فتى ترا ... هـ سالكا قصد السبيل وله في آل برمك: أتانا بنو الأملاك من آل برمك ... فيا طيب أخبار ويا حسن منظر لهم رحلة في كل عام إلى العدا ... وأخرى إلى البيت العتيق المستر إذا نزلوا بطحاء مكة أشرقت ... بيحيى وبالفضل بن يحيى وجعفر فما خلقت إلا لجود أكفهم ... وأقدامهم إلا لأعود منبر إذا رام يحيى الأمر ذلت صعابه ... وناهيك من داع له ومدبر وهذه القصيدة طويلة جداً: ومما يختار له قوله: رضينا قسمة الرحمن فينا ... لنا حسب وللثقفي مال وما الثقفي إن جادت كساه ... وراعك شخصه إلا خيال وابن مناذر من حذاق المحدثين ومذكوريهم وفحولهم، وإنما نورد دون أمثاله من المشهورين عند الخاصة لا العامة ولن ندع أن نأتي بصدر من شعر صالح لينتفع بذلك قارئ الكتاب ويعرف مكانه؟ أخبار أبي الشمقمق حدثني الخصيب بن محمد الكوفي قال: حدثني ابن العلاف قال: مر أعرابي بأبي الشمقمق الشاعر فقال له: يا أعرابي. قال: ما تشاء؟ قال: أتقول الشعر؟ قال: بعضه، قال: خذ هذا الدرهم واهجني. قال:

فأطرق الأعرابي هنيهة ثم قال: ما رأيت أحداً يشتري الهجو بالثمن غيرك قال: وما أخذ. قال الأعرابي: مررت بأير بغل مسبطر ... فويق الباع كالحبل المطوق فما إن زلت أعركه بكفي ... إلى أن صار كالسهم المفوق فلما أن طغى وربا وأندى ... ضربت به حر أم أبي الشمقمق أزيدك، أم كفاك؟ وذاك أني ... رأيتك في التجارة لم توفق فقال أبو الشمقمق: أعوذ بالله من الشقاء، ما كان أغناني عن هذه التجارة. حدثني محمد بن يزيد قال: جعفر بن إسحاق المهلبي قال: سمعت إسحاق بن إبراهيم الموصلي يقول: ماتت ابنة عم للمنصور، فحضر المنصور دفنها، فلما صار على شفير القبر إذا هو بأبي الشمقمق. فقال له: ما أعددت لهذا الموضع؟ قال: ابنة عم أمير المؤمنين. فضحك المنصور في ذلك الموضع، على أنه قليل الهزل، وقد روى بعض الناس أن هذا الكلام لأبي دلامة مع المنصور. ومما يروي له ويستحسن قوله: عاد الشمقمق في الخسارة ... وصبا وحنّ إلى زراره من بعد ما قيل ارعوي ... وصحا لأبواب الشطارة من قهوة مسكية ... واللون مثل الجلنارة

تدع الحليم بلا نهى ... حيران ليس به إحاره ولربما غنى بها ... يا جارتا ما كنت جاره يا أيها الملك الذي ... جمع الجلالة والوقاره ورث المكارم صالحاً ... والجود منه والعماره إني رأيتك في المنا ... م وعدتني منك الزياره فغدوت نحوك قاصداً ... وعليك تصديق العباره أني أتاني بالندى ... والجود منك إلى البشاره إن العيال تركتهم ... بالمصر خبزهم العصاره وشرابهم بول الحما ... ر مزاجه بول الحماره ضجوا فقلت تصبروا ... فالنجح يقرن بالصباره حتى أزور الهاشم ... ي أخا الغضارة والنضارة ولقد غدوت وليس لي ... إلا مديحك من تجاره وله أيضاً: ما جمع الناس لدنياهم ... أنفع في البيت من الخبز والخبز باللحم إذا نلته ... فأنت في أمن من الترز والقلز من بعد على إثره ... فإنما اللذات في القلز وقد دنا الفطر وصبياننا ... ليسوا بذي تمر ولا أرز وذاك أن الدهر عاداهم ... عداوة الشاهين للوز كانت لهم عنز فأودي بها ... وأجدبوا من لبن العنز

فلو رأوا خبزاً على شاهق ... لأسرعوا للخبز بالجمز ولو أطاقوا القفز ما فاتهم ... وكيف للجائع بالقفز وله أيضاَ: الحمد لله شكراً ... أمشي ويركب غيري قد كنت آمل طرفا ... فصرت أرضى بعير ليت الأيور دواب ... فكنت أركب أيري لم ترض نفسي بهذا ... يا رب منك لخير وله يهجو ابن البختكان، وكان خبيث الهجاء: ومحتجب والناس لا يقربونه ... وقد مات هزلاً من ورا الباب حاجبه إذا قيل: من ذا مقبلاً؟ قيل: لاحدٌ ... وإن قيل: من ذا خلفه؟ قيل كاتبه ومما يستحسن قوله: يبس اليدين فما يسطيع بسطهما ... كأن كفيه شدا بالمسامير عهدي به آنفاً في مربط لهم ... يكسكس الروث عن نقر العصافير وله في بعضهم: وإبطك قابض الأرواح يرمي ... بسهم الموت من تحت الثياب شرابك في الشراب إذا عطشنا ... وخبزك عند منقطع التراب وما روحتنا لتذب عنا ... ولكن خفت مرزئة الذباب

أخبار أبي الينبغي

وله: ذهب الموال فلا موا ... ل وقد فجعنا بالعرب إلا بقايا أصبحوا ... بالمصر من قشر القصب بالقول بذوا حاتماً ... والعقل ريح في القرب وشعر أبي الشمقمق نوادر كله. ولما ولي المأمون خالد بن يزيد بن مزيد الموصل خرج معه أبو الشمقمق، فلما كان وقت دخوله البلد اندق اللواء، فتطير خالد لذلك، واغتم غما شديداً، فقال أبو الشمقمق فيه: ما كان مندق اللواء لريبة ... تخشى ولا سبب يكون مزيلاً لكن رأى صغر الولاية فانثني ... متقصداً لما استقل الموصلا وكتب أصحاب الأخبار بذلك إلى المأمون، فولى خالداً ديار ربيعة كلها، وكتب إليه: هذا الاستقلال لوائك ولاية الموصل. وأحسن إلى أبي الشمقمق، ووصله بعشرة آلاف درهم. وتوفي أبو الشمقمق في حدود الثمانين ومائة. أخبار أبي الينبغي حدثني المالكي عبد الله بن إبراهيم قال: حدثني محمد بن عمران قال: مضيت أنا والوليد وابن الدرقي الشاعر - وهو مولى عبد الله بن مالك ابن يزيد - إلى باب الطاق يوماً من الأيام، فتلقانا أبو الينبغي الشاعر، فمن قبل أن تصل إليه. قال لي ابن الدورقي، هل لك في أن نسخر من

أبي الينبغي ساعة؟ فقلت لا تفعل، فإنه سريع الفحش، جيد البديهة خبيث اللسان. فقال: وما عسى أن يقول؟ الله ما هجاؤه بشيء. ولكن إذا دنونا منه فقل هذين الحرفين: عجوز أبي الينبغي ... عجوز سوء بغي فلما قربنا منه قلت ذلك. فنظر إلى ابن الدورقي نظر مغضب - وقد علم أن ذلك من فعله والبيت من قوله - فقال على بديهته من غير أن يتفكر: وأير أبي الينبغي ... من أمك في المبزغ وأشار بيده إلى أبن الدورقي. قال: فنظرت إليه وقد أصفر لونه. فقلت: ألم أنهك أن تفعل؟ قال: فأين الشقاء؟ ومما يستملح لأبي الينبغي قوله: صبراً على الذل والصغار ... يا خالق الليل والنهار كم من حمار على جواد ... ومن جواد بلا حمار وطار له البيت الثاني في الآفاق ولهج الناس به. فهو ينشد في كل مجلس ومحفل وسوق وطريق. وإنما يرزق البيت من الشعر ذلك إنه كان جيد المعنى، عذب اللفظ، خفيفاً على اللسان. ومما يستملح له هجوه لرجاء بن الضحاك على سخف لفظه - وإنما تعمد ذلك ليسبق إليه العامة والصبيان فيروونه - وفيه يقول: ورجاء الجرجرائي ... لو درى ما حسن رائي لخباني في حر أمه ... وقعد فيمن ورائي

وله في آل برمك: إنما الدنيا كبيض ... عملوه نيمرش فحشاه البرمكيو ... ن وقال الناس كشن ومما سار له في الدنيا ورواه كل أحد لخفته على الأفواه قوله: لا يا ملك الناس ... وخير الناس للناس أتنهاني عن الناس ... فأغنيني عن الناس وإلا فدع الناس ... ودعني أسأل الناس فهل سمعت في الناس ... بشعر كله الناس وكان أبو الينبغي سريعاً إلى أعراض الناس، يهجوهم ويقطعهم. ولما هجا الفضل بن مروان حبسه بعد أن أغرى به الواثق، وأنهى إليه أنه هجاه، فبقي في السجن حتى مات، وكان يجري عليه في السجن أجراً تاماً حسناً. وقال أبو هفان: دخلت على أبي الينبغي وهو محبوس فقلت له: ما كانت قصتك؟ قال: أنا أبو الينبغي، قلت مالا ينبغي، فحبست حيث ينبغي. قال أبو هفان: عرض أبو الينبغي يوماً ليحيى بن خالد في موكبه، والفضل وجعفر عن يمينه وشماله، وفي الموكب وجوه الناس، فقال له رافعاً صوته صحبت البرامك عشراً ولا ... فخبزي شراء وبيتي كرا

أخبار أبي الخطاب البهدلي

قال فنظر يحيى إلى الفضل وجعفر وقال: سوء أبي الينبغي مما يناقش قال: فلما كان من الغد جئته فقلت: ويحك ماذا صنعت بنفسك؟ لوم تعرضت للبلاء؟ فقال لي: اسكت يا عاجز، والله ما أمسيت أمس حتى وافتني من عند الفضل بدرة، ومن عند جعفر أخرى، وقد أجرى لي كل واحد من مطبخه وظيفة. أخبار أبي الخطاب البهدلي حدَّثني أبو غانم قال: حدثني موسى بن سعيد بن مسلم عن أبيه قال: كان موسى الهادي لا يأذن لأحد من الشعراء مدة أيام خلافته، ولا يرغب في الشعر، ولا يلتفت إليه، وقد أنهمك في الشرب والقصف، وكان مشغوفاً بالسماع، فلما قال أبو الخطاب البهدلي رائيته سألني فأوصلتها إليه، فلما سمعها أعجب بها شديداً وقال للحاجب: اخرج إلى الباب فمر من ينادي: أين نسابة الأسد؟ ففعل. فلما سمع أبو الخطاب ذلك علم أن شعره قد وصل وعمل عمله. والشعراء مجتمعون - فقال: هأنذا. وأخذ الحاجب بيده وأدخله البيت. فقال: هات أنشدنا، فأنشده قصيدته الرائية، فاستحسنها موسى وأعجب بها، وأمر في ذلك اليوم ألا يحجب عنه شاعر، وأن يعلموا أن أبا الخطاب كان السبب في ذلك. وأمر لأبي الخطاب بألف دينار وكساه وحمله والقصيدة مشهورة وهي هذه: ماذا يهجيك من دار بمحنية ... كالبرد غير منها الجدة العصر عفت معارفها ريح تنسفها ... حتى كأن بقايا رسمها سطر

أزرى بجدتها بعدي وغيرها ... هوج الرياح التي تغدو وتبتكر دار لواضحة الخدين ناعمة ... غرثى الوشاح لها في دلها خفر كأنها درة أغلى التجار بها ... مكنونة، ربحوا فيها وما خسروا قل للخليفة موسى: إن نائله ... جزل هني وما في سيبه كدر متوج بالهدى، بالحمد ملتحف ... مسربل بالندى، بالمجد متزر موسى الذي بذل المعروف ينهبه ... في الناس، فالجود من كفيه ينهمر أشم تنميه آباء جحاجحه ... شم الأنوف، على ما نابهم صبروا لن يؤمن الناس من لم يؤمنوا أبدا ... والله يؤمن من آووا ومن نصروا لا يكسر الناس ما شدوا جبائره ... وليس يجبر طول الدهر من كسروا أنت الدعامة يا موسى إذا احتدمت ... نيرانها وحماة الحرب تجتزر وإن غضبت فما في الناس من بشر ... إلا على خطر ما مثله خطر ما مخدر خدر مستأسد أسد ... ضبارم خادر ذو صولة زئر غضنفر غضف قرضابة ثقف ... مسترعب لقلوب الناس مصطبر ذو برثن شرث ضخم مزورة ... خبعثن الخلق في أخلاقه زعر جأب الشراسيف رحب الجوف مفترس ... عند التجاول للأقران مهتصر

عفرنس أهرت الشدقين ذو حنق ... للقرن عند لقا الأقران مقتسر جهم المحيا هموس لا ينهنهه ... صوت الرجال ولا للزجر ينزجر في خطمه خنس في أنفه فطسكأنما وجهه من هضبة حجر ذوالة قيسري حين تبرزه ... غشمشي فلا يبقي ولا يذر ببالغ عشر عشر من شجاعته ... إذا تنازلت الأبطال واشتجروا بل أنت أجرأ منه في تقدمه ... وأنت أقدم منه حين يجتئر يا خير من عقدت كفاه حجزته ... وخير من قلدته أمرها مضر إلا النبي رسول الله إن له ... فضلاً وأنت بذاك الفضل تفتخر فهذا - كما ترى - مقتدر على الكلام مجيد للوصف حسن الوصف قد جمع إلى قوة الكلام محاسن المولدين ومعاني المتقدمين. ومما يستحسن له قوله: وقد اغتدى قبل ضوء الصباح ... وقبل ورود الغطاط الحثاث بصاقي الثلاث قصير الثلاث ... طويل الثلاث عريض الثلاث محجل رجلين طلق اليدين ... له غرة مثل ضوء الإراث

إذا احترث القوم ما عندهم ... فإن الجياد تكون احتراثي ومما يستجاد له قوله للفضل بن يحيى بن خالد: تشاغل الناس ببنيانهم ... والفضل في بنا العلا جاهد كل ذوي الرأي أهل النهى ... للفضل في تدبيره حامد ومما سار له قوله: قلت لرجلي وهي عوجاء الخطا ... تشكو إليّ وجعاً من النسا ومن أذى العرق وفي العرق أذى ... مري فهيهاتك من أخذ العصا لا تطمعن في الذي لا يشتهي ... وفي تسعيك الذي لا يرتجى كم بين قول الغانيات: يا فتى ... وقولهن: شاب هذا وانحنى وقد نظرن اليوم من قبح الجلا ... جبين وجه وجبينا في القفا أسره منهن كيما لا يرى ... ولو بدا رمين رأسي بالحصا وأشعار أبي الخطاب كثيرة جيدة، وهو أحد العرجان، وقد ذكره الجاحظ في كتابه. وزعموا أنه بلغ من معرته وخوف الناس بادرة لسانه أن يبعث بعصاه إلى الأبواب في حوائجه، فلا تحجب العصا عن أحد، ولا ينهنه حتى تقضي حوائجه.

أخبار أبي الهندي

أخبار أبي الهندي هو عبد الله بن ربعي بن شبث بن ربعي الرياحي. وقيل: اسمه غالب. من بني رياح بن يربوع بن حنظلة، وكان وقع إلى خراسان، واستوطن آخر عمره سجستان، وهو أحد الدهاة، فصيح جيد البديهة حاضر الجواب، وقد أدرك الدولتين وكان منهوماً بالشراب مستهتراً به، ويقال: إنه كان بخراسان يشرب على قارعة الطريق، فمر به نصر الليثي وإلي خراسان فقال له: ويحك يا أبا الهندي ألا تصون نفسك؟ قال: لو صنت نفسي أنا لما وليت خراسان. حدثني أبو العميثل الشاعر قال: حدثني أبو الخنساء الشاعر قال: بكر أبو الهندي يوماً من الأيام إلى بيت خمار، وكان ينزل في سكة يقال لها كوى زيان، وتفسيرها بالعربية: سكة الخسران - وهي بسجستان، كان يباع فيها الخمر والفواحش، ويقال لها اليوم: سكة العدول والمستورين وأهل الصلاح - فقال أبو الهندي للخمار: " طربت إلى الصبوح فهاب عجل " فأتاه الخمار بعين الشراب وصفوه، فأعجبه حسن الشراب وعجل فسكر وما من أول النهار. ودخل إلى الخمار نفر فرأوا أبا الهندي فقالوا: من

هذا المطروح على وجهه؟ قال: هذا أبو الهندي، اشتهى وأسرع فسكر ونام. فقالوا للخمار هات ما سقيته وعجل حتى نلحق به، وأتاهم به فشربوا حتى سكروا وناموا. فانتبه أبو الهندي عند العصر، فسأل عنهم الخمار: فقال: قوم دخلوا فرأوك مطروحاً، وسألوني عنك فأعلمتهم عن حالك، واشتاقوا إلى مثلها فسقيتهم من الشراب الذي شربته ما أرواهم، حتى صرعوا كما تراهم، قال أبو الهندي: ويحك عجل، قال: ما تشاء؟ قال: ألحقني بهم ولا تسقني إلا المكيال، حتى سكر ونام، فانتبه القوم فقالوا للخمار: هذا بعد نائم ونحن أفقنا؟ فحدثهم حديثه، فقالوا: ويلك ألحقنا به الساعة وأسرع. فجاءهم بالشراب فشربوا حتى سكروا فتجدلوا. وأقاموا كذلك عشرة أيام في حانة ذلك الخمار، لا يلتقون معه، ولا يلتقي معهم، كلما أفاق وجدهم مصروعين، وإذا قاموا وجدوه مصروعاً كذلك. ففي ذلك يقول: ندامى بعد عاشرة تلاقوا ... وضمهم بكوي زيان راح رأوني في الشروق صريع كأس ... معتقة وما متع الصباح فقالوا: أيها الخمار من ذا؟ ... فقال: أخ تخونه اصطباح أدار الراح حتى أقصعته ... فخر كأنه عود شناح فقالوا: قم وألحقنا وعجل ... به إنا لمصرعه نراح وحان تنبهي فسألت عنهم ... فقال: أتى بهم قدر متاح فقلت له: فسرع بي إليهم ... حثيثاً فالسراح هو النجاح فما إن زال ذاك الدأب منا ... إلى عشر نفيق ونستباح

نقيم معاً وليس لنا تلاق ... ببيت ما لنا منه براح وذكر أنه مذ دخل سجستان إلى أن خرج منها ما فارق كوى زيان وفي ذلك يقول: ثبت الناس على راياتهم ... وأبو الهندي في كوى زيان منزل يزري بمن حل به ... تستحل الخمر فيه والزواني إنما العيش فتاة غادة ... وقعودي عاكفاً في بيت خان أشرب الخمر وأعصى من نهى ... عن طلاب الراح والبيض الحسان في حياتي لذة ألهو بها ... فإذا مت فقد أودى زماني وحدثني صالح بن إبراهيم قال: حدثني جعيفران الموسوس الشاعر: قال لي صدقة البكري: شرب أبو الهندي مع قوم في قرية من قرى مرو على سطح ليس لي ستر فسكر، وكان خبيث السكر والنوم، فلما جن الظلام ومضى من الليل ما مضى، وقد سكروا وأرادوا أن يناموا، خشوا على أبي الهندي أن يسقط من السطح، فربطوا في رجله حبلا وأوثقوا، وطولوا الحبل - لسكرهم - وشدوا طرف الحبل إلى شيء في السطح على غير عمد منهم. فقام أبو الهندي في بعض الليل ليبول، فسقط فتدلىّ من السطح وهم لا يشعرون، فلما أصبحوا وجدوه متدلياً ميتاً: وقال صدقة البكري: قرأت على قبر أبي الهندي هذه الأبيات: اجعلوا إن مت يوماً كفني ... ورق الكرم وقبري معصره وادفنوني وادفنوا الراح معي ... واجعلوا الأقداح حول المقبره أنني أرجو من الله غدا ... بعد شرب الراح حسن المغفرة

قال: ورأيت الفتيان يجتمعون عند قبره ويشربون ويصبون نصيبه على قبره. ومما يختار لأبي الهندي كلمته التي تقول فيها: مفدمة قزا كأن رقابها ... رقاب بنات الماء أفزعن بالرعد جلتها الجوالي حين طاب مزاجها ... وطيبنها بالبان والعنبر الوردي تمج سلافاً من قوارير صفقت ... وطاسات صفر كلها حسن القد كميتا ثوت في الدن تسعين حجة ... مشعشعة في شربها واجب الحد عقار إذا ما ذاقها الشيخ أرعشت ... مفاصله وازداد وجداً إلى وجد ويبكي على ما فاته من شبابه ... بكاء أسير في الصفاد وفي القد تضمنها زق أزب كأنه ... كراسيع قطع من جهينة أو نهد إذا أنفدوا ما فيه جاءوا بمثله ... غطارفة أهل السماحة والمجد فيومان يوم للأمير أزوره ... ويوم لقرع الصنج والراح والنرد ومما يستحسن له في الشراب واللهو والغزل: يا لقومي فتنتني جارتي ... بعد ما شبت وأبلاني الكبر وأتت لي سنوات أربع ... بعد ستين تقضت لي أخر بعد ما كنت فتى ذا مرة ... بين غزلان أثارتها البطر شيبة أنكرن حيناً شأنها ... وأنا القرم إذا عدت مضر حبذا الشرب بدارين إذا ... بت أسقاها وقد غاب القمر

عندنا صناجة رقاصة ... وغلام كلما شئنا زمر حسن العرنين ذو قصابة ... زانه شذر وياقوت ودر وإذا قلت له قم فاسقنا ... قام يمشي مشية الليث الهصر وأتانا بشمول قهوة ... نتعاطاها بكاسات الصفر وأباريق تناهت سعة ... والذي في الكف ملثوم أغر مثل فرخ هب في غبطلة ... حذر الصقر فأقعى ونظر أو كظبي اللصب وافى مرقبا ... حذر القانص صبحاً فنفر فعلاً ثم استوى مرتبئاً ... قلة الطود على رأس الحجر ومما يستحسن له، وإن كان شعره حسناً جيداً، ولا سيما إذا قال في الشراب قوله: وفارة مسك من عذار شممتها ... يفوح علينا مسكها وعبيرها سموت إليها بعد ما نام أهلها ... غدواً ولما نلق عنها ستورها سيغني أبا الهندي عن وطب سالم ... أباريق كالغزلان بيض نحورها مفدمة قزا كأن رقابها ... رقاب الكراكي أفزعتها صقورها مصبغة الأعلى كأن سرابها ... ذبائح أنصاب توافت شهورها تلألأ في أيدي السقاة كأنها ... نجوم الثريا زينتها عبورها

يمج سلافاً من زقاق كأنها ... شيوخ بني حام تحنت ظهورها ومن جملة هذه الأبيات: أقبلها فوق الفراش كأنها ... صلاية عطار يفوح زريرها إذا ذاقها من ذاق جاد بماله ... وقد قام ساقي القوم وهناً يديرها خفيفاً مليحاً في قميص مقلص ... وجبة خز لم تشد زرورها وجارية في كفها عود بربط ... يجاوبها عند الترنم زيرها إذا حركته الكف قلت: حمامة ... تجيب على أغصان أيك تصورها تجاوب قمريا أغن مطوقاً ... شقائقه منشورة وشكيرها إذا غردت عند الضحاء حسبتها ... نوائح ثكلى أوجعتها قبورها وكأس كعين الديك، قبل صياحه ... شربت بزهر لم يضرني ضريرها فما ذر قرن الشمس حتى كأنها ... أرى قرية حولي تزلزل دورها ومما يستحسن له قوله: شبت جدي وجدي مؤثر ... لم ينازعني عروق المؤتشب من بني شيبان أصلي ثابت ... وبني يربوع فرسان العرب أجمع المال وما أجمعه ... أطلب اللذة في ماء العنب

وأستبائي الزق من حانوته ... شائل الرجلين معضوب الذنب وإذا صبت لشرب خلتها ... حبشياً قطعت منه الركب ومنها: يا خليلي اسقياني عفوها ... بالبواطي البيض ليست بالعلب من شراب خسرواني إذا ... ذاقه الشيخ تغنى وطرب يترك القوم إذا ما طربوا ... في صياح ومراء وصخب وإذا ما منتش قامت به ... رفعوا الأوصال منه بالخشب ثم ناحوا نوحة ثم بكوا ... ثم ضجوا ضحكاً، يا للعب قال: وكان جماعة مثل أبي نواس والخليع وأبي هفان وطبقتهم إنما اقتدروا على وصف الخمر بما رأوا من شعر أبي الهندي، وبما استبطنوا من معاني شعره ومن هذه القصيدة قوله: وهو منكب على جبهته ... مزبد الشدقين مسترخي العصب رفع الشرب له يافوخه ... بعد لأي ما تولى وانقلب ساعة ثم دعوه باسمه ... فأجاب المرء صوتاً ووثب ينفض الرأس، عليه غبرة ... من تراب ورماد وقتب وأتوه بطهور طيب ... ليصلي فتلكا وقطب أين ما رجله زكرته ... يتوسدها وطنبور طرب

أخبار أبي حية النميري

وسراويل له مرفوعة ... حلق النيفق منها قد ذهب ولأبي الهندي أيضاً: اصبب على كبدك من بردها ... إني أرى الناس يموتونا ودع أناساً كرهوا شربها ... ليسوا بما في الخمر يدرونا لو شربوها فانتشوا مرة ... لأصبحوا بالخمر يهذونا وقد عهدت الناس إذ دهرهمدهر يلوطون ويزنونا أخبار أبي حية النميري حدثني المبرد قال: حدَّثني ابن أبي حبرة قال: أبو حية النميري يروي عن الفرزدق، وهو من أهل البصرة، واسمه الهيثم بن الربيع، وكان من أكذب الناس. قال ابن أبي حبرة: وسمعته يوماً يقول: عن لي ظبي فرميته بسهم، فراغ الظبي عن سهمي، فعارضه السهم، ثم راغ، فراوغه والله السهم حتى قتله. وحدثني صالح بن إبراهيم قال: حدَّثني أبو المهزم الأعرابي قال: كان لأي حية النميري سيف يسميه لعاب المنية. وكانت المغرفة أقطع منه، فدخل بيته كلب ليلة من الليالي من حيث لا يدري به، فلما حسه في البيت توهمه لصاً، فقام في البيت وقال: أيها المغتر بنا، المجترئ علينا، جئت والله إلى خير قليل، وسيف صقيل، ونفس تأبى الضيم وتأنف العار، جارها آمن، وعدوها خائف، أما سمعت بلعاب المنية - ثكلتك أمك - مشهورة ضربته، لا تخاف نبوته، يقرب الأجل. ويبطل الأمل. أما

تخشى - إن كنت أوطأتك نفسك العشوة فينا، وسولت لك ما لا تجده فينا - إن أدع قساً ملأت عليك الأرض خيلاً ورجلاً. فيا طيبها وطيب كثرتها. ما أنت والله ببعيد من بائقتها، والرسوب في لجتها، إن أقمت وثبت على طغيانك، وإن هربت أدركتك. فما زال ذلك دأبه وهو يخاف أن يدخل، وإذا به قد خرج عليه كلب يبصبص فقال له: الحمد لله الذي مسخك كلباً، وكفاني منك حرباً. ثم قعد لا يدخل البيت، فقيل له: ما لك لا تدخل؟ فقال: لعل اللص في البيت وهذا كلبه قد خرج. ومما يستحسن لأبي حية النميري قوله: ألا حي من بعد الحبيب المغانيا ... لبسن البلى مما لبسن اللياليا إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة ... تقاضاه شيء لا يمل التقاضا ويستحسن أيضاً قوله: تجود لك العينان من ذكر ما مضى ... إذا ضن بالدمع العيون الغوارز ألوفان ينهلان من غصص الهوى ... كما انهل شق غيبته الجوارز يهيج لي نوح الحمام صبابة ... ونوح مرنات شجتها الجنائز لتفريق ألاف كأن عيونها ... عيون المها جازت بهن الأماعز أولئك من بعد الهوى ... تصدع شعب بينهم فتمايزوا

تركن بقلبي إذ نأين حزازة ... أبت أن تجلى إذ نجلي الحزائز ومما يستحسن له قوله: غراب ينادي يوم لا القلب عقله ... صحيح ولا الشعب الذي أنصاع ملتقى جزيت غراب البين شراً لطالما ... شجيت بتشحاج الغراب المطوق ومن مختار قوله: زمان الصبا ليت أيامنا ... رجعن لنا الخاليات القصارا ليالي رأسي غراب غداف ... فطيرة الشيب عنّي فطارا ولا يبعد الله ذاك الشباب ... وإن كان لا هو إلا ادكارا فأصبح مونعه ممحلا ... جديباً خراباً يباباً قفارا وإما مشايخ قد أفحشت ... فلا أنا أسطيع منها اعتذارا أجارتنا إن ريب الزما ... ن قبلي أفنى الرجال الخيارا وهازئة إذ رأت كبرةً ... تلفع رأسي بها فاستنارا فإما ترى لمتي هكذا ... فأكثرت مما ترين النفارا فقد اغتدى وهي هم الحسان ... وقد أسلب العطرات الخمارا وقد كنت أسحب ذيل الصبا ... وأرخى على العقبين الإزارا ورقراقة لا تطيق القيا ... م إلا رويداً وإلا ابتهارا خلوت بها نتجارى الحدي ... ث شيئاً علانا وشيئاً سرارا كأن على الشمس منها الخمار ... إذا هي لاثت عليها الخمارا وكان أبو حية تزوج ابنة عم له. فتوفيت عنه. وكاد يخرج عليها من

أخبار خلف الأحمر

الدنيا. وأشعاره الجياد كلها فيها في وصفها في حياتها، ومراثيها بعد مماتها. وما رأيت ذكياً ولا عاقلاً ولا كاتباً ظريفاً إلا وهو يتمثل من شعر أبي حية النميري بشيء. فمن ذلك قوله: فلما أبت إلا اطراقاً بودها ... وتكديرها الشرب الذي كان صافيا شربت برنق من هواها مكدر ... وكيف يعاف الرنق من كان صادياً وله أيضاَ: استبق دمعك لا يود البكاء به ... واكفف بوادر من عينيك تستبق وما الدموع وإن جادت بباقية ... ولا الجفون على هذا ولا الحدق ومن ذلك قوله: وألقت قناعاً دونه الشمس واتقت ... بأحسن موصولين كفّ ومعصم فراح وما يدري أفي طلعة الضحى ... تروح أم داجٍ من الليل مظلم وله شعر جيد ولكن لا نخرج عن الذي رسمناه للكتاب. توفي في حدود العشر والمائتين. أخبار خلف الأحمر حدَّثني محمد بن عبد الأعلى قال: حدَّثني أبو كردين قال: خلف الأحمر يكني أبا محرز، وكان عالماً بالنحو والغريب والنسب وأيام

الناس، شاعراً مطبوعاً مفلقاً كثير الشعر جيده. ولم يكن في نظرائه من أهل العلم والأدب أكثر شعراً منه. حدَّثني أحمد بن محمد بن جعفر بن الهيثم قال: قال أيوب بن إسحاق: قلت لخلف الأحمر: يا أبا محرز أكتبني أبياتاً على أبيات أبي أمامة العبدي. فقال لي: اكتب لفلان، رجل لا أعرفه. أأمام إن الدهر أه ... لك صرفه إرماً وعادا ورمى فأنزل أسعد الخ ... يرات قد جمع العبادا بالبيض والحلق المقد ... ر سرده وحوى التلادا فخطفته والدهر يت ... رك بعد صالحة فسادا وكأن ذلك لم يكن ... إلا التذكر حين بادا أأمام إن القدر لم ... تلعن أباك ولا الرمادا فلما مرض مرضه الذي توفي فيه دخلت عليه أعوده، قال: ليست هذه الأبيات لمن ذكرتها له. وإنما هي لي، وأنا قائلها. وأنا أستغفر الله، وكان قد نسك وترك قول الشعر برهة. وزعم غيره أنه عاد إلى قول الشعر ولم يتركه حتى مات. وقال دعبل: قال لي خلف الأحمر، وقد تجارينا في شعر تأبط شراً وذكرنا قوله: إن بالشعب الذي دون سلع ... لقتيلاً دمه ما يطلّ أنا والله قلتها، ولم يقلها تأبط شراً. وحدثني ابن ثمامة عن إبراهيم بن إسحاق قال: قال أبو الحسن المدائني: لما احتضر خلف الأحمر قيل له: قل: لا إله إلا الله. فسكت. فأعيد عليه فسكت. فأعيد

عليه ثالثاً، فقال: " جف بمقدار ما جرى قلمه " وما زال يرددها حتى مات. حدثني أحمد بن نصر قال: حدثني الرياشي قال: قال لي الأصمعي: كان خلف الأحمر مولى أبي بردة بن أبي موسى، أعتقه وأعتق أبويه. وكان من سبي فرغانة. وفيه يقول أبو نواس: أودي جماع العلم مذ أودى خلف ... من لا يعد العلم إلا ما عرف كنا متى ما ندن منه نغترف ... رواية لا تجتني من الصحف فليذم من العياليم الخسف ومما سار له قوله: سقى حجاجنا نوء الثريا ... على ما كان من منع وبخل هم ضموا النعال فأحرزوها ... وشدوا دونها باباً بقفل فإن أهديت فاكهة وجدياً ... وعشر دجائج بعثوا بنعل ومسواكين طولها ذراع ... وعشراً من رديء المقل خشل أناس تائهون لهم رواء ... تغيم سماؤهم من غير وبل إذا نسبوا فحي من قريش ... ولكن الفعال فعال عكل وهو كثير الشعر مذكور، وشعره موجود في أيدي الناس، ويقال: إنه معلم الأصمعي.

أخبار أبي الغول

أخبار أبي الغول حدثني حاتم بن مطرق قال: حدثني أبو الأبرد العبدي قال: دخل أبو الغول على الرشيد فأنشده مديحاً له، فقال الرشيد: يا أبا الغول. قال: لبيك يا مولانا أمير المؤمنين، قال إن في أنفسنا من شعرك شيئاً، فلو كشفته بشيء تقوله على البديهة؟ قال: والله ما أنصفتني يا أمير المؤمنين. قال: ولم؟ وإنما هذا امتحان. قال: لأنك جمعت هيبة الخلافة وجلالة الملك وحيرة الاقتضاب، على أني أرجو أن أبلغ من ذلك ما تريد، فالتقيت فإذا الأمين قائم عن يمنه، والمأمون عن يساره فأنشأ يقول: بنيت لعبد الله بعد محمد ... ذرا قبة الإسلام فاخضر عودها هما طنباها بارك الله فيهماوأنت أمير المؤمنين عمودها قال الرشيد: وأنت بارك الله فيك، أحسنت وأجدت. فقال: يا أمير المؤمنين امتحني بما شئت ليزول ما بقلبك من الريبة والشك في شعري. فقال: لا حاجة بنا إلى ذلك، أنت شاعر مقتدر، والذي قيل فيك باطل. ثم وصله بعشرة آلاف درهم وخلع عليه. ومما يستحسن له كلمته في داوود ين يزيد بن حاتم المهلبي التي يقول فيها: وقد كان هذا البحر ليس يجوزه ... سوى مشفق من هوله أو مخاطر فصار على مرتاد جودك هيناً ... كأن عليه محكمات القناطر وهذه القصيدة من أشرف ما قيل في داوود. وكان جواداً قد مدحه جماعة

أخبار عمر بن سلمة

ومما يستحسن له قوله: إذا الريح من نحو الحبيب تنسمت ... بعيد صلاة العصر طاب نسيمها وهبت بأحزان لنا، وتذكرت ... بها النفس أشجاناً توالى همومها وظل يدق القلب أن نسمت له ... وفاض لها عين طويل سجومها وحنت بنات القلب مني وأقبلت ... عليّ حديثات الهوى وقديمها وله شعر كثير، وهو من المشهورين الذين يوجد شعرهم بكل مكان. أخبار عمر بن سلمة وهو المعروف بابن أبي السعلاء. حدثني عبيد الله محمد الأنصاري قال: حدثني الخصيب بن محمد قال: اجتمعت الشعراء يوماً بباب الرشيد. فسألوا الإذن، فلم يأذن لهم، ثم بدا له، فقال للحاجب: أخرج إليهم فقل لهم: من اقتدر أن يمدحنا بالدين والدنيا في ألفاظ قليلة فليدخل. فبادر ابن أبي السعلاء فاستأذن. فقال للحاجب: ادخله. فأدخله. فقال له الرشيد: أنشدني قولك: أغيثاً تحمل الناق ... ة تحمل هارونا فقال: أنشدك ما اخترته وشرطته اليوم، فقال: بل أنشدني الأبيات فأنشده: أغيثاً تحمل الناق ... ة أم تحمل هارونا أم الشمس أم البدر ... أم الدنيا أم الدنيا ألا لا بل أرى كل ال ... ذي عددت مقرونا

على مفرق هارون ... فداه الآدميونا قال: فأجزل له في العطاء، فاجتمع عليه الشعراء ففرق عليهم صلته. وكان الرسم في ذلك الزمان إذا وصل الخليفة أحداً من الشعراء وحرم الباقين أن يصلهم ذلك الشاعر ويعطيهم على منازلهم ومراتبهم. وكان ابن أبي السعلاء تصدى لهارون بالمدينة وهو حاج. وقد خرج عنها يريد مكة على راحلة، فارتجل هذه الأبيات التي كتبناها رافعاً بها صوته. وأعطاه عليها مالاً جزيلاً. ومما يروي له في الرشد قصيدته التي يقول فيها - وقد قدم الرشيد قافلاً من غزاته وقد ظفر بهم وغنم: قرت عيون المسلم ... ين بمقدم الملك الرشيد قرت به عين القري ... ب من الرعية والبعيد بين المنابر والمجا ... لس والمدائح والنشيد هارون أنت خليفة ... صورت من كرم وجود الناس من طين وأن ... ت البدر في فلك السعود وهم كأيام الشهو ... ر وأنت فيهم يوم عيد وهي طويلة مشهورة. ومما يستحسن له مرثيته في الرشيد التي يقول فيها: مات الإمام فعم أه ... ل الدين كلهم مصابة عرين منه ركابه ... فتعطلت منه قبابه وتفردت أجناده ... وخلا من الحراس بابه

وأقام في ملحوده ... لا يرتجي منه إيابه في الرمس مقترب المح ... ل لحافه منه ترابه ما هابه القدر الذي ... أودى به غضاً شبابه قد كان كل الناس تر ... جوه وكلهم تهابه فاعتاقه ريب المنو ... ن وحان من أجل كتابه وهي أيضاً طويلة سائرة. ومما يستحسن له مرثيته لهارون: يا ليلة السبت التي ... طلعت كواكبها نحوسا كنت البسوس عليهم ... بل فقت في الشؤم البسوسا قفل الغزاة وخلفوا ... هارون في جدث حبيسا في غربة من أهل طو ... س فليتني فارقت طوسا ترحاً لنا إن لم نقت ... ل عند مصرعه النفوسا وهي أيضاً طويلة سائرة. ومما يختار له قوله في الرشيد يمدحه: قل للإمام الهاشمي الذي ... عليه تاج الملك معقود بلغت بالجود مدى غاية ... قد كان عنها قصر الجود هارون بدر باهر زاهر ... تنجاب عنه، الظلم السود ومما يستملح قوله أيضاً: إن للموكب نوراً ... ساطعاً بغشي العيونا أترون البدر فيه ... أم أمير المؤمنينا وولاة العهد عطفي ... هـ شمالاً ويميناً وأشعاره كثيرة، وهو من فحولة المحدثين المجيدين.

أخبار أبي الهول الحميري حدثني إبراهيم بن محمد قال: حدثني محمد بن عبد السلام قال: غضب الفضل بن يحيى على أبي الهول في شيء وجده عليه - وكان عنده قبل ذلك في حالة رفيعة، وكان الفضل معجباً بشعره، وكان يصله بالصلات السنية - فلما غضب عليه جفاه الناس وتنكروا له، فلم يدر بمن يتحمل عليه ويستشفع حتى يرضى عنه، فلما ضاق به ذرعه قال: سما نحونا من غضبة الفضل عارض ... له زجل فيه الصواعق والرعد وما لي إلى الفضل بن يحيى بن خالد ... من الجرم ما يخشى عليّ به الحقد فجد بالرضى لا أبتغي منك غيره ... ورأيك فيما كنت عودتني بعد فلما قرأ الفضل رقعته وقع فيها: رضاي عنك مقرون بإحساني إليك، فإن أردت أن أفرق بينهما لم أفعل. وحمل إليه صلة، واستغني بالأبيات عن الشفع. مما يستملح له كلمته في العباس بن محمد يرثيه - وكان محسناً إليه: أتحسبني باكرت بعدك لذة ... أبا الفضل أو كشفت عن عاتق سترا أو انتفعت عيناي بعد بنظرة ... وأني من حسناء مرتشف ثغرا جفاني إذن يرمي إلى الليل مؤنسيوأضحت يمني من مكارمها صفرا ولكنني استشعرت ثوب استكانة ... وبت كأن الموت يحفر لي قبرا ومما يستحسن لأبي الهول قوله في الغزل: وواحدة الجمال بلا شريك ... لها صفة تتيه على الصفات

لها خلقان من ملق وتيه ... هما زفا الحياة إلى الممات وقلب لا يجيب إذا دعونا ... وطرف يستجيب لنا مواتي وأحيانا تموتني بصد ... فينشرني التلاحظ بالغداة دعي ذكر الصلاة فإن ذكري ... لوجهك بالصلاة لها قراتي أصلي ساهياً بك لست أدري ... إذا صليت كم كانت صلاتي دهيت على المشيب بحب ريم ... يحاذر ظله حلك الفلاة ومما يستحسن له قوله في الغزل: إن أنل منكم ثلاث خصال ... كنت لو نلتها بأحسن حال لا لماماً ولا لثاماً ولا وع ... داً وإن لم تفز لنا بوصال وأنا العاشق لمتيم المش ... غوف والمستهام أخرى الليالي يا مهني هناك جسم صحيح ... قد براني هواك بري الخلال لو حملن الجبال عشر الذي بي ... من هواكم لأيقنت بزوال ربما تجزع النفوس من الأم ... ر له فرجة كحل العقال ومما يروى له قوله في بعض البرامكة: أصبحت محتاجاَ إلى الضرب ... في طلبي المعروف من كلب قد وقح السب له وجهه ... فصار لا ينحاش للسبّ وأبو الهول من المحدثين المجيدين المشهورين.

أخبار نصيب الأصغر

أخبار نصيب الأصغر ويعرف أبي الحجناء. حدثني عبد الأعلى ين عبد الله الأسدي قال: حدثني الهلالي - وكان صديقاً لأبي الحجناء الشاعر - قال: كان الرشيد ولاه بعض كور الشام، وكان أسود، قال الهلالي: فأفاد من ذلك مالاً جزيلاً وكان الرشيد يقدمه على أكثر شعرائه، وكذلك الفضل بن يحيى، وكانت صلات البرامكة لا تنقطع عنه البتة. قال الهلالي: قلت يوماً للأصمعي: ما تقول في شعر الأسود؟ قال: هو في عصرنا هذا أشعر من عبد الحسحاس في عصره. قلتك فأين شعره من شعر نصيب؟ قال: فما في قرن واحد، لأن نمطهما واحد وكان ذاك متقدم الزمان وهذا محدث. ومما رويناه له واخترناه كلمته في إسحاق بن الصباح الكندي: كأن ابن صباح وكندة حوله ... إذا ما بدا بدر توسط أنجما على أن في البدر المحاق وأنه ... تمام فما يزداد إلا تتمما ترى المنبر الشرقي يهتز تحته ... إذا ما علا أعواده وتكلما فأنت ابن خير الناس إلا نبوة ... ومن قبلها كنت السنام المقدما وهي طويلة جيدة. ومما يختار له أيضاً من شعره كلمته التي طارت له في الآفاق. وقد صارت أبيات من هذه القصيدة فاكهة أهل الأدب، ونقل الملوك في مجالسهم،

لجوده الألفاظ والمعاني التي أوردها، وفيها يقول: عند الملوك مضرة ومنافع ... وأرى البرامك لا تضر، وتنفع إن العروق إذا استسر بها الثرى ... أشر النبات بها وطاب المزرع وإذا جهلت من امرئ أعراقه ... وقديمه فانظر إلى ما يصنع وهي طويلة جيدة. وكان الفضل بن يحيى يقول للشعراء: إذا قلتم قولوا مثل هذه الأبيات. وإذا مدحتم فامدحوا بمثل هذا الشعر. ومما يستحسن قوله يعاتب: أراني إذا استمطرت منك سحابة ... لترويني كانت عجاجاً وسافيا إذا قلت ظلتني سماؤك، يا منت ... شآبيبها أو ياسرت عن شماليا فلا ترج منّي أن تنال مودتي ... إذا كنت عنيّ بالكرامة جافيا لقد كنت أسعى في هواك، وأبتغي ... رضاك، وأرجو منك ما لست لاقيا وشيبتي أن لا تزال ملمة ... تقصر عنيّ أو تحل ورائيا أتجعل فوقي من يقصر رأيه ... ومن ليس يغني عنك مثل غنائيا كلانا غنيّ عن أخيه حياته ... ونحن إذا متنا أشد تغانيا وأدليت دلوي في دلاء كثيرة ... فأين ملاء غير دلوي كما هيا ومما سار في الدنيا قوله في وصف الناقة، وقد أفرط وتجاوز الحد في بيته هذا: هي الريح ما خلتها غير أنها ... تبيت غوادي الريح حيث تقيل وهو القائل أيضاً: لقد سامني طرفي وقد ضر نفسه ... وأظهر ما أكننت بين الجوانح

أخبار ربيعة الرقي

فلم أستطع سيراً لما بي من الهوى ... ولم يخف ما أضمرت والقلب فاضحى فيا بؤس من نتأى عن الإلف داره ... ويا بؤس من في القلب كالمتنازح وأزداد شوقاً حين أدنو توجساً ... لغاد بوشك البين منك ورائح وكان أبو الحجناء يجيد الغزل والمدح والهجو والوصف، ولا يقصر في شيء من ذلك. وهو مخصوص ببني برمك. كانوا يتبجحون به ويقدمونه، واشترى له الفضل داراً تقارب داره بألف دينار. وأشترى له ضيعة تغل غلة كثيرة، وكانوا يجرون عليه يعاشرونه. وكذا كانت عادة آل برمك فيمن يتصل بهم رحمهم الله فما خلفوا بعدهم من شق غبارهم في الجود والكرم والبر والعطاء والإحسان توفي بعد التسعين والمائة. أخبار ربيعة الرقيّ حدَّثني إسماعيل بن عبد الله بن مكرم قال: قال المدائني: امتدح ربيعة العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ابن عبد المطلب بقصيدته، وهي قصيدة نادرة جيدة يقول فيها: لو قيل للعباس يا ابن محمد ... قل لا وأنت مخلد ما قالها ما إن أعد من المكارم خصلة ... إلا وجدتك عمها أو خالها وإذا الملوك تسايروا في بلدة ... كانوا كواكبها وكنت هلالها

إن المكارم لم تزل معقولة ... حتى حللت براحتيك عقالها وكان العباس بخيلاً. فبعث إليه بدينارين - وكان أمل أن يأخذ منه ألفين - فلما وصل إليه ذلك كاد يجن: واغتاظ غيظاً شديداً، وقال للرسول: خذ الدينارين فقد وهبتهما لك، على أن تحمل رقعتي إليه، فتجعلها في دواته من حيث لا يعلم ذلك. فقال له: أفعل. فأخذ الرقعة وكتب فيها: مدحتك مدحة السيف المحلى ... لتجري في الكرام كما جريت فهبها مدحة ذهبت ضياعاً ... كذبت عليك فيها واعتديت ففعل الرسول ذلك، فلما وقف العباس على البيتين غضب، وقام من وقته إلى الرشيد فدخل عليه، وكان عم أبيه، وقد كان هم الرشيد أن يتزوج ابنته، وكان له مكرماً مبجلاً، فرأى الرشيد التغير في وجهه فقال: يا عم، ما شأنك؟ قال: يا أمير المؤمنين هذا ربيعة الرقي قد هجاني. فقال الرشيد: ويلي على ابن اللخناء، يهجو عمي وأعز الناس عليّ؟ وأمر بإحضاره، فأحضر والرشيد يتميز غيظاً عليه، فقال له: يا ابن اللخناء أعليّ تجترئ؟ لقد كان إذن ضرب عنقك. فقال: يا أمير المؤمنين اسمع قصتي معه، فإن وجدت عذراً، وإلا فافعل ما هممت به وأنت من دمي في حل وسعة، ثم أنشده مدحته فيه وقال: يا أمير المؤمنين كيف تراها؟ قال: ما مدح الخلفاء بمثلها حسناً. فقال: يا أمير المؤمنين إنه وصلني عنها بدينارين، فوهبتهما لرسوله وكتبت إليه البيتين. فلما سمع الرشيد ذلك خجل وأطرق، وأحب أن يتأمل القصيدة فقال: ائتني بها. فاستحى العباس وعلم أنه أخطأ،

فقال له الرشيد: سألتك بحقي إلا جئتني بها، فأمر غلامه بحملها إليه فتأملها وأعجب بها وقال العباس. أحقاً أن ك أثبته عليها بدينارين؟ فسكت، فقال لربيعة: ويحك يا رقيّ أصدقني. فقال: يا أمير المؤمنين وحياتك إنه وصلني بدينارين وإني وهبتهما لغلامه. فنظر إلى العباس نظراً منكراً وقال: سوءاً لك، فضحت نفسك وأسلافك. فاستحيا العباس ولم يحر جواباً. فأمر الرشيد لربيعة بثلاثين ألف درهم، وجعله نديماً، وخلع عليه فأعطاه حلتين، فلما أراد الخروج قال له: يا ربيعة. قال: لبيك يا أمير المؤمنين قال: إياك أن تذكره بعدها في شعرك. ومما سار له في الآفاق، وصار مثلاً، قوله يمدح يزيد بن حاتم ويهجو يزيد بن أسلم السلمي: لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد بن سليم الأغر ابن حاتم يزيد سليم سالم المال والفتى ... أخو الأزد للأموال غير مسالم فلا يحسب التمتام أني هجوته ... ولكنني فضلت أهل المكارم فأما شعره في الغزل فإنه يفضل على أشعار هؤلاء من أهل زمانه جميعاً، وعلى كثير ممن قبله، وما أجد أطبع ولا أصح غزلاً من ربيعة، وهو القائل: أنا للرحمن عاصي ... لجنوني برخاص ثم للناس جميعاً ... من أدان وأقاصي ورخاص الكرخ ظبي ... لم أنل منه افتراصي

ولقد طال بأبوا ... ب الخريمي اقتصاصي طمعاً في صيد ظبي ... ذي شماس ملاص صيده أعمر من صي ... د الضواري والقلاص يا رخاصاً يا رخاص الك ... رخ يا ذات العقاص والثنايا الغر كالبر ... ق تلالا في النشاص ثم ردف كنقا الرم ... ل وأحشاء خماص ما أبالي من لحاني ... فيك أو رام انتقاصي ولقد عذبت روحي ... فمتى منك خلاصي فاتقي الرحمن فينا ... واحذري يوم القصاص مشهداً يؤخذ بالأق ... دام فيه والنواصي ونديم أريحي ... واضح الوجه معاصي قرشي من بني عب ... د مناف في العناصي سائلي عن شعراء الن ... اس هل غاصوا مغاصي قلت شعراً ينزل الأع ... صم من رأس الصاصي والغواني مغويات ... مولعات باقتناصي

قد تواصين بحبي ... حبذا ذاك التواصي باذل في الخير لا ين ... ظر منه في ارتخاص مهلك الأموال في الل ... ذات مخشيّ القصاص قد سقتني وسقته ... قينة ذات عقاص قي أباريق لجين ... لا أباريق رصاص ولدينا أدكن الجل ... دة كالزنجي شاصي ذاك من معصية الل ... هـ وهمّي في المعاصي فهذا يستحسن له قوله: صاح إني غير صاحي ... أبداً من حب داح صار قدحاً حب داح ... في فؤادي المستباح جنح القلب إليها ... إن قلبي ذو جناح وعصى في حب داح ... كل لوام ولاحي ليت لي رسلاً من الج ... ن إليها والرياح تبلغ الحاجات عني ... ثم بالنجاح داح حب نصر ... آح من حبك آح أنا والله قتيل ... لك من غير جراح لا بسيف قتلني ... لا ولا سمر الرماح

أنت للناس قتول ... بالهوى لا بالسلاح وبشك وبدل ... وبغنج ومزاح وبعينين صيودي ... ن وثغر كالأقاحي ليتني كنت حماما ... لك مقصوص الجناح أيها الناس ذروني ... لست من أهل الفلاح أنا إنسان معنى ... بهوى المرج الصحاح أنا زير للغواني ... وأخو لهو وراح غير أني لست أغشى ... أبداً باب السفاح إن ربع ابن نصير ... معدن البيض الملاح فيه داح ولما في ... حب داح من جناح وفتاة غير داح ذات لهو ومزاح قد تجشمت إليها ... هول ليل ونباح فخلونا بفتاة ... غادة غرثى الوشاح فلبست العكن البيض ... من الخود الرداح ثم لما صاح ديك ... قبل إبان الصباح قلت: صح يا ديك ألفاً ... ليس ذا وقت البراح أو أرى الصبح وإن كا ... ن لفي الصبح افتضاحي وهذا أطبع ما يكون من الشعر وأسهل ما يكون من الكلام. ومما يستملح له قوله: أعثمة أطلقي العلق الرهينا ... بعيشك وارحمي الصب الحزينا

ربيعة مغرم بك مستهام ... يحن إليك من شوق حنينا تعرض زائراً لك فارحميه ... فقد أورثت زائرك الجنونا رآك وأنت مقبلة فلما ... رأتك العين هجت لنا فتونا وقمت تأودين وعهد عيني ... بحسنك في الحزون تأودينا فلما أن رآك الناس قالوا ... تعالى الله رب العالمينا بدت منك الروادف مشرفات ... روادف لم تدع للناس دينا وقد أعطاك ربك فاشكريه ... جمالاً فوق وصف الواصفينا فما الشمس المضيئة يوم دجنٍ ... بأحسن منك يوم تبذلينا إذا أقبلت رعت الناس حسناً ... وأن أدبرت قيدت العيونا فلو أن الملوك رأوك يوماً ... لخروا من جمالك ساجدينا ولو أن النساء ملكن أمراً ... لكنت إذن أمير المؤمنينا لقد أعطيت أردافاً ونقالاً ... وقد حملت ما لا تحملينا إذا رمت القيام تخال دعصاً ... يمانعك القيام فتقعدينا إذا صليت ثم سجدت قلنا ... ألا يا ليتها سجدت سنينا ومما يستملح له قوله - وإن كان شعره كله مليحاً عذباً مطبوعاً جيداً هينا -: حمامة بلى عني سلاما ... حبيباً لا أطيق له كلاماً وقولي للتي غضبت علينا ... علام وفيم يا سكني علاما أفي هجران بينك تصرميني ... وما رمنا لصرمكم صراما ولم أهجرك مقلية ولكن ... حللت عراقكم وحللت شاما

عديني أن أزورك إن داري ... ودارك لا أرى لهما التياما وإن جميع أهلك عنفوني ... ولاموني ولم أطق الملاما كرام الناس قبلي قد أحبوا ... كرائمهم وأحببن الكراما جميل والكثير قد أحبا ... وعروة من هوى لاقى حماما هم سنوا الهوى والحب قبلي ... وما ألفي لهم في الناس ذاما فيا غنام يا بصري وسمعي ... رسيس هواك أورثني سقاما لقد أقصدت حين رميتِ قلبيبسهم الحب إن له سهاما زجرت القلب عنك فلم يطعني ... ويأبى في الهوى إلا اعتزاما إذا ما قلت أقصر واسل عنها ... أبى من صرمكم إلا انهزاما ولولا فتنتي بك فاعلميهاإذا صلى ربيعة ثم صاما أقام الحب حبك في فؤادي ... وحبي في فؤادك قد أقاما كلانا وامق كلف معنى ... بصاحبه وما يبغي حراما أحب حديثها وتحب قربي ... وما إن نلتقي إلا لماما فيا ليت النهار يكون ليلاً ... وليت الصبح لا يجلو الظلاما ويا ليت الحمام مسخرات ... لنرسل في رسائلنا الحماما لعل حمامة تهدي إلينا ... كتاباً منك نجعله إماما وتبلغك المحبة من محب ... أحبك قلبك قلبه يفعاً غلاما وما ذنبي وحبك هاج هذا ... ولو ترك القطا لغفا وناما ولو أبصرت غنمة ذات يوم ... وقد سفرت وأحدرت اللثاما

ينوط وشاحها بقضيب بانٍ ... ويكسو مرطها دعصاً ركاما إذا ابتسمت حسبت الثغر منها ... تألق بارقٍ يجلو الظلاما جلت ببشامة برداً عذابا ... كأن عليه مسكا أو مداما فلم تزد البشامة فاكِ طيبا ... ولكن أنت طيبت البشاما وما أدماء جؤذرها تراعى ... وتدنو حين يُسمعها بغاما بأحسن منك يوم رحت عنا ... وقد بلَّتْ مدامعك اللثاما وتحتك بغلة زينت برحل ... مواشكة تنازعك اللجاما وكل الحب لغو غير حبي ... فقد أردى الحشا وبرى العظاما ومما يستملح له ويروي بكل أرض عند الخواص - لأن شعر ربيعة لم يكثر في أيدي العوام - قوله: أعلل نفسي منك بالوعد والمنى ... فهلاّ بيأس منك قلبي أُعللُ وموعدك الشهد المصفى حلاوةً ... ودون نجاز الوعد صاب وحنظل وأمنح طرف العين غيرك رقبةً ... حذار العدا والطرف نحوك أميل لكيما يقول الناس: إن أمراً رمى ... ربيعة في ليلى بسوء لمبطلُ لقد كذب الواشون بغياً عليهما ... وما منهما إلا بريء معقل فلو كنت ذا عقل لأجمعت صرمكم ... برأيي ولكني امرو لست أعقل وكيف بصبر القلب لا كيف عنكموباب فؤادي دون صرمك مقفل ومن أين لا من أين يحرم قتلكموقتلى لكم يا أم ليلى محلل أغرك أن لا صبر لي في طلابكم ... وأن ليس لي إلا عليك معول

ولما تبينت الذي بي من الهوى ... وأيقنت أني عنك لا أتحول ظلمت كذئب السوء إذ قال مرةً ... لسخل رأى والذئب غرثان مرمل أأنت الذي في غير جرم شتمتني؟ ... فقال: متى ذا؟ قال: ذا عام أول فقال وُلدت العام بل رمت غدرة ... فدونك كُلني لا هنا لك مأكل أتبكين من قتلي وأنتِ قتلتني ... بحبك قتلاً بينا ليس يُشكل فأنت كذباح العصافير دائباً ... وعيناه من وجد عليهن تهمُلُ فلو كان من رأفٍ بهن ورحمة ... لكف يداً ليست من الذبح تعطلُ فلا تنظري ما تهمل العين وانظري ... إلى الكف ماذا بالعصافير تفعل فهذا كما ترى لا يسمع مثله لشاعر رقةً وغزلاً. ومما يستملح له قوله: دست سعاد رسولاً غير متهم ... وصيفة فأتت إتيان مُنْكتم جاء الرسول بقرطاس بخاتمه ... وفي الصحيفة سحر خُطَّ بالقلم فيه فتون هوى لت تغيبه ... على الجهول وما يخفى على الفهم وقد فهمتُ الذي أخفت فقلت لها ... بُوحي بلا ونعم من بين الكليم قالت: تعال إذا ما شئت مستتراً ... والحكم حكمك يا رقي فاحتكم أقدم ربيعة في رحب وفي سعة ... في غير قمراء، والظلماء فاغتنم فزرتها واقعاً طرفي على قدمي ... وقد تلبستُ جلبابين من ظُلَم فكان ما كان لم يعلم به أحد ... وما جرحتُ وما عللت بالحرم زارتها واقعاً طرفي على قدمي ... وقد تلبست جلبابين من ظلم فكان ما كان لم يعلم به أحد ... وما جرحتُ وما عللت بالحرم زارتك سعدى وسعدى منك نازحة ... فأرقتك وما زارتك من أمم

أهلاً بطيفك يا سعدى الملم بنا ... طيف يسير بلا نجم ولا علم أنت الضجيع إذا ما نمتُ في حلميوالنجم أنت إذا ما العين لم تنم ما أكذب العين والأحلام قاطبةً ... أصادق مرة في وصلها حلمي قولي: نعم، إنها إن قلت نافعةٌ ... ليست عسى، وعسى صبر إلى نعم أنعمت نعمى علينا لست أُنكرها ... حتى أغيّب في ملحودة الرجم قلبي سقيم وداء الحب أسقمه ... ولو أردتِ شفيت القلب من سقم قالت: فؤادك بين البيض مُقتسم ... ما حاجتي في فؤاد منك مُقتسم أنت الملولُ الذي استبدلت بي بدلاً ... قصّرت بي وشريت اللؤم بالكرم قد كنت أقسمتُ أني من هواك فما ... بيني وبينك يا رقي من رحم يا ليت من لامنا في الحب جربه ... فلو يذوق الذي قد ذقت لم يلُم الحب داءٌ عياء لا دواء له ... إلا نسيمُ حبيب طيب النسم أو قبلة من فم نِيلَتْ مخالسة ... وما حرامٌ فمٌ ألصقته بفم هذا حرام لمن قد عده لَمماً ... ولن يعذبنا الرحمن باللمم هام الفؤاد بسعدي من ضلالته ... يا ليت قلبي بكم يا سعد لم يهم أنت التي أورثت قلبي مودتها ... داء دخيلاً وشوقاً غير مُنصرم خُلقتِ من مسكة والناس خَلْقُهُمُ ... من لازب الطين من صلصاله القَتِمِ ما صوَّر الله إنساناً كصورتكم ... من بعد يوسف في عُرْبٍ ولا عجم

أعلاك من صعدةٍ سمرا مقومة ... والمِرط فوق كثيب منك مُرْتكمِ وأنت جنةُ ريحان لها أرجٌ ... أو روضة نضحت بالوبل والديمِ أو بيضة في نَقاً أو درة خرجت ... من زاخر مزبدِ الآذى ملتطم لاقيت عند استلام الركن غانية ... غراء واضحة الخدين كالصنم مرتجة الردف مهضوم شواكلُها ... تمشي الهوينا كمشي الشارب الثلمِ تقول قيناتها، والردف يقعدها ... من خلفها: قد أتيت الركن فاستلمي فاستلمتْ ثم قامت ساعة فدعتْ ... فقمت أدعو ولولا تلك لم أقم حتى إذا انصرفت سلمت فالتفتت ... فقلت: إنك من همي ومن سدمي قالت: ومن أنت؟ قلن التابعات لها ... هذا ربيعة هذا فتنة الأمم هذا المعنى الذي كانت مناسبه ... تأتيك فاستتري بالبرد والقتم شيطان أمته لاقاك محرمة ... فبالإله من الشيطان فاعتصمي قالت: أعوذ بربي منك واستترت ... بغادة رخصة الأطراف كالعنم قلت: الذمام وعهد الله خنت به ... لا عهد للغادر الختار للذمم ألم تقولي: نعم؟ قالت: بلى. وهماً ... مني وهل يُؤخذ الإنسان بالوهم تبنا وصمنا وصلينا لخالقنا ... ولم تتب أنت من ذنب ولم تصم فلمت نفسي على بذلي لها مِقَتي ... وبخلها وقرعت السن من ندم فابعد الله إنساناً وأسحقه ... أدام وُداً لإنسان ولم يُدمِ

ومما يستحسن له قوله: خليلي هذا ربع ليلي فقيدا ... بعيريكما ثم أبكيا وتجلدا قفا أسعداني بارك الله فيكما ... وإن أنتما لم تفعلا ذاك فاقعدا وإلا فسيرا واتركاني وعولتي ... أقل لجنابي دمنة الدار أسعدا فقالا وقد طال الثوى عليهما: لعلك أن تنسى وأن تتجلدا فسر عنك فد عنيتنا وحبستنا ... على دمن الأطلال يوماً مطردا يلوم على ليلى خليلي سفاهة ... وما كنت أهلاً في الهوى أن أفندا لعمري أي ليلى شطت النوى ... بليلي لقد صادت فؤادي معمدا قتول بعينيها صيود بدلها ... وما تقتل الفتيان إلا تعمدا ألا حبذا ليلى وأترابها الألى ... وعدنك من ليلى ومنهن موعدا فأقبلن من شتىً ثلاثاً وأربعا ... وثنتين يمشين الهوينا تأودا يطأن مروط الخز يلحقها الحما ... ويسحبن بالأعطاف ريطاً معمدا فلما التقينا قلن أهلاً ومرحبا ... تبوأ لنا بالأبطح السهل مقعدا ومما يختار لربيعة قوله: يا غنم ردي فؤاد الهائم الكمد ... من قبل أن تطلبي بالعقل والقود تيمتني بدلال منك يقتلني ... وقد رميت فما أخطأت عن كبدي

أخبار علي بن جبلة ويعرف بالعكوك

إن تقتليني كذا ظلماً بلا ترة ... فلست فائتة قومي بني أسد أما الفؤاد فشيء قد ذهبت به ... فما يضرك ألا تسقمي جسدي أنت الهوى ومنى نفسي ومتعتها ... أقول ذاك ولا أخفيه عن أحد نلت الجمال ودلاً رائعاً حسناً ... فما تسمين إلا ظبية البلد وأنت طيبة في القيظ باردة ... وفي الشتاء سخون ليلة الصرد تسقي الضجيع رضابا من مقبلها ... من بارد واضح الأنياب كالبرد يا ليتني قبل موتي قد خلوت بها ... على الحشية بين السجف والنضد قد وسدتني اليد اليمنى ويارقها ... ودملج العضد اليسرى على عضد في كل يوم لنا إلمامة بكم ... وليت دارك من داري على صدد أخبار علي بن جبلة ويعرف بالعكوك حدَّثني محمد بن يزيد المبرد قال: أخبرني علي بن القاسم قال: قال علي بن جبلة: زرت أبا دلف، وكنت لا أدخل عليه إلا تلقاني ببشره، ولا أخرج من عنده إلا أتبعني ببره، فلما كثر ذلك هجرته أياماً حياء منه، فبعث إلي أخاه معقلاً فقال: يقول لك الأمير: لم هجرتنا وقعدت عنا؟ إن كنت رأيت تقصيراً فيما مضى فاعذرنا فإنا نتلافاه فيما استقبل، وأزيد فيما تحب من برك، فكتبت معه إلى أبي دلف بهذه الأبيات: هجرتك لم أهجرك من كفر نعمة ... وهل يرتجى نيل الزيادة بالكفر ولكنني لما أتيتك زائراً ... وأفرطت في بري عجزت عن الشكر

قم الآن لا آتيك إلا مسلماً ... أزورك في الشهرين يوماً أو الشهر فإن زدتني براً تزيدت جفوة ... فلا نلتقي طول الحياة إلى الحشر قال: فلما نظر فيها معقل استحسنها - وكان أديباً شاعراً. يقدم في الأدب على أبي دلف - فقال لي: جودت والله أحسنت. أما إن الأمير سيعجب بهذه المعاني، فلما أوصلها إلى أبي دلف استحسنها وكتب إليّ: ألا رب ضيف طارق قد بسطته ... وآنسته قبل الضيافة بالبشر أتاني يرجيني فما حال دونه ... ودون القرى والعرف من نائلي ستري فلم أعد أن أدنيته وابتدأته ... ببشر وإكرام وبر على بر وزودته مالاً يرجى نفاده ... وزودني مدحاً يقيم على الدهر ووجه إليّ الأبيات مع وصيف وألف دينار، وذلك حيث يقول علي بن جبلة في قصيدته الغراء، التي سارت في العرب والعجم، وهي التي يقول فيها: إنما الدنيا أبو دلف ... بين باديه ومحتضره فإذا ولي أبو دلف ... ولت الدنيا على أثره حدثني ابن أبي جرير بن جبلة قال: كل من في الأرض من عرب ... بين باديه إلى حضره مستعير منك مكرمة ... يكتسيها يوم مفتخره إنما الدنيا أبو دلف ... بين باديه ومحتضره فإذا ولى أبو دلف ... ولت الدنيا على أثره استشاط من ذلك وغضب وقال: ويلي على ابن الفاعلة يزعم أنا لا نعرف مكرمة إلا مستعارة من أبي دلف، وطلبه فهرب إلى الجزيرة. فكتب في طلبه

وأخذه، فحمل إليه، فلما صار بين يديه قال: يا ابن اللخناء، أنت القائل للقاسم بن عيسى: كل من في الأرض من عرب ... بين باديه ومحتضره مستعير منك مكرمة ... يكتسيها يوم مفتخره فقال: يا أمير المؤمنين، عنيت أشكال قاسم وأشباهه من الناس، فأما أنتم فقد أتاكم الله بالفضل عن سائر عباده، لأنه اختصكم بالفضل والنبوة والكتاب والحكمة، وجمع لكم إلى ذلك الخلافة والصلاة والملك. وما زال يستعطفه حتى عفا عنه. وقال بعض الرواة - منهم ابن أبي فنن -: بل قتله. وذلك أنه قال: أما إني لا أستحل دمك بهذا القول. ولكن أستحله بكفرك وجرأتك على الله، إذ تقول في عبد مهين، تسوي بينه وبين رب العالمين، حين تقول: أنت الذي تنزل الأيام منزلها ... وتنقل الدهر من حال إلى حال وما مددت مدى طرف إلى أحد ... إلا قضيت بأرزاق وآجال قال: فأمر فأخرج لسانه من قفاه، ثم قتله. والأولى عندنا أثبت، إنما مات علي بن جبلة حتف أنفه. والقصيدة هذه: ذاد ورد الغي عن صدره ... فارعوى، واللهو من وطره وأبت إلا الوقار له ... ضحكات الشيب في شعره ندمي إن الشباب مضى ... لم أبلغه مدى أشره انقضت أيامه سلما ... لم أهج حربا على غيره

حسرت عني بشاشته ... وذوي اليانع من ثمره وصغت أذني لزاجرها ... ولما تشجي لمزدجره إذ يدي تعصي بقوتها ... لا ترى ثأراً لمثئره والصبا سرح أطيف به ... فأصيب الأنس من نفره ترعوي باسمي مسارحه ... ويلي ليلى بنو سمره وغيور دون حوزته ... حزت خلف الأمن من حذره ودم أهدرت من رشإ ... لم يرد عقلاً على هدره بات يدني لي مقاتله ... ويفديني على نفره فأتت دون الصبا هنةٌ ... قلبت فوقي على وتره جارنا ليس الشباب لمن ... راح محنياً على كبره ذهبت أشياء كنت لها ... صارفاً حلمي إلى صوره طرقت تلحى فقلت لها ... مذهب ما أنت من سوره قدك من موف على أمل ... تحسر الأبصار عن نظره إن من دون الغني جبلاً ... ستكوس العيس في وعره

يتناصلن السرى قذفاً ... قد كساها الميس من قتره كم دجى ليل عسفن به ... يبتعثن الصبح من كسره يتفرى عن مناسمها ... كتفري النار عن شرره دع جدا قحطان أو مضر ... في يمانيه وفي مضره وامتدح من وائل رجلاً ... عصر الآفاق من عصره المنايا في مناقبه ... والعطايا في ذرا حجره هضم الدنيا بنائله ... وأقال الدين من عثره ملك تندى أنامله ... كابتسام الروض عن زهره مستهل عن مواهبه ... كانبلاج النوء عن مطره

عقد الجد الأمور به ... حين لم ينهض بمتعره فكفاها واستقل بها ... لم تصف وهناً قوي مرره جبل عزت مناكبه ... أمنت عدنان في ثغره إنما الدنيا أبو دلف ... بين معراه ومحتضره فإذا ولى أبو دلف ... ولت الدنيا على أًثره لست أدري ما أقول له ... غير أن الأرض في خفره يا دواء الأرض إن فسدت ... ومجير اليسر من عسره رب ضافي الأمن في وزر ... قد أبت الخوف في وزره وابن خوف في حشا خمر ... نشته بالأمن من خمره وزحوف في مواكبه ... كصياح الحشر في أمره قدته والموت مكتمن ... في مذاكيه ومشتجره

فغدا جيلوه عنه وقد ... طوت المنشور من بطره زرته والخيل عابسة ... تحمل البوسي إلى عقره خارجات تحت رايتها ... كخروج الطير من وكره فأبحت الليل عقوته ... وقريت الطير من جزره وعلى النعمان صفوتها ... فأقمت الميل من صعره غمط النعمان صفوتها ... فرددت الصفو في كدره وبقرقور أدرت رحا ... وقعة فلت شبا أشره وتأنيت البقاء له ... فأبى المحتوم من قدره وطغى حتى رفعت له ... خطة شنعاء من ذكره قال أحمد بن محمد المظفر: قال لي شيخ من بني عجل من آل أبي دلف: كان قرقور هذا صعلوكاً، يقطع حوالي عمل أبي دلف، وكان شجاعاً بطلاً، لا يقاومه أحد، وكان قطع على مال جليل كان حمل إلى

أبي دلف من بعض النواحي، وقتل فرساناً كانوا مع ذلك المال، فطلبه أبو دلف فلم يقدر عليه، وذلك أنه لم يكن يقيم في موضع ينسب إليه أو يعرف به إنما كان يصبح بمكان، ويمسي بمكان غيره، فضلت فيه حيلة أبي دلف، وطال عليه أمره، وكان أكثر ما يقطع وحده، وليس معه غير غلامين، وخرج يوماً أبو دلف يتصيد. وانقطع عن أصحابه في وحش طرده، حتى دفع إلى ثنية جبل، فلم يشعر حتى أقبل قرقور على فرس جواد يخرق الأرض خرقاً، فلما نظر إليه أبو دلف سقط في يده، فإنه كان وحده وكان قرقور لا تقوم له فوارس مثل أبي دلف، وعلم أنه إن ولي عنه هلك، فحمل عليه أبو دلف ونادى: يا فتيان، اليمن اليمن. فظن قرقور أن معه خيلاً قد كمنوا له فدهش وولى هارباً، وأتبعه أبو دلف حتى وضع رمحه في ظهره، واعتمد عليه حتى أخرجه من صدره، ثم صرعه، ثم نزل إليه فاحتز رأسه، وأدخله الكرج على رأس رمح. فذلك قول علي بن جبلة: وطغى حتى رفعت له ... خطة شنعاء من ذكره ويقال: إن رمحه حمل بين اثنين حتى أدخل الكرج. ومن القصيدة: أيّ يوميك اعتزيت له ... استضاء المجد من قتره

لو رميت الدهر عن عرض ... ثلمت كفاك من حجره صاغك الله أبا دلف ... صيغة في الخلق من خيره كل من في الأرض من عرب ... بين باديه إلى حضره مسعير منك مكرمة ... يكتسيها يوم مفتخره وقد سارت هذه في أبي دلف مسير الشمس والريح، وأخذ منه بها مالاً جليلاً. قال أبو العباس عبد الله بن المعتز: حدثني ابن رزين قال: ولد علي بن جبلة أعمى. وقال غيره: بل كف بصره وهو صبي. وحدثني أبو حفص البصري قال: لما امتدح علي بن جبلة حميدا الطوسي واستأذن فدخل عليه ينشده قال: وما عسيت أن تقول فينا؟ وهل بقيت لأحد مدحاً بعد قولك في أبي دلف. إنما الدنيا أبو دلف ... بين معراه ومحتضره فإذا ولي حميد ... فعلى الدنيا السلام قال: فتبسم حميد ولم يقل شيئاً. وتعجب كل من حضر المجلس

من جودة بديهته، لأنهم علموا أنه إنما قالهما على البديهة في ذلك الوقت، فأحسن حميد جائزته وأرغد له، وسار بيتاه في أبي دلف بين الخاصة والعامة، ولم يسر بيتاه في حميد حسب ذلك، وإنما يرويهما أهل الأدب وخاصة الناس وأهدى علي بن جبلة إلى حميد الطوسي في يوم نيروز - وأهدي الناس من فنون الهدايا ما بلغ خطراً عظيماً - هذه القصيدة، فسر بها حميد وقال: والله إنها أحب إلي من جميع ما أهدي إلى في هذا اليوم. وهي هذه: دمن الدار دثور ... ليس فيهن مجير بليت منها المغاني ... مثل ما تبلى السطور قسم البين عليه ... ن رواح وبكور وليال ساجيات ... نام عنهن السمير فطوت أخبيه الحي ... كما يطوي الحبير فاستجر بهم فدوت ... من نوى البين جرور وبعينيك حمول ال ... حي والبين الشطير

كذرا النخل أشاعت ... رهوها الريح الدبور خلفت بالدار جور ... وغدت في الظعن حور بدلا ما استبدل الدا ... ئر فيها والمدير نفرٌ مستجفلات ... لم ترببها الخدور وبما أعتسف العي ... س أسدى أنير وأزور الكاعب الخو ... د تواريها الستور إذ عيون الدار صور ... وإذ الجيرة خير اعذلي. إن سفاهاً ... من كبير لكبير ألفت عينك عيني ... فأبى ذاك القتير لم يدع لي ولأخدا ... نك ما يخشى الغيور فارقدي ما وسنت عي ... نال، والنوم غزير قلق الجسرة والرح ... ل عليها والضفور وقران البيد بالبي ... د كما يلوي المرير

وقطاً نازعته المو ... رد والليل كفور لم يذر في نواحي ... هـ من الصبح ذرور بنواج حز منهنّ ... النجاء المستطير لحميد وحميد ... قمر الأرض المنير قال أبو العباس: ما سمعت أحسن من هذا التخلص من النسيب إلى المدح مع جودة هذه المعاني: لو حمى الدنيا حميد ... لم يكن فيها فقير ملك كلتا يديه ... بعطاياه درور وكلا يوميه في الأر ... ض بشير ونذير مستبد الشأو لا يب ... لغ مسعاه الفخور إن من حاول في الأف ... ق اطلاعاً لحسير وكفاه أنه يم ... تساميه البحور أريحي منهب المال ... وبالسيف شتور وركوب ثبح الخط ... ة يخشاها الجسور ضمن الأرض حميد ... فهو للأرض خفير

بيد تنهل خلفي ... ن فتحيي وتبير يغلق المال عليها ... وبها تشجي الدثور صامتي فرع المج ... د وزكته النجور فله الحمد المبدي ... وله الحمد الأخير كدر الناس وصا ... في النيل ما فيه كدور وعجول بعطايا ... وعلى الروع قتور ما أعز الله جاراً ... بسواه يستجير يا أبا غانم الغن ... م على من يستمير وأبا الأمن إذا ضا ... قت من الخوف الصدور بك ركن الأرض يرسو ... ورحي الملك يدور أنت للملك نصير ... ولك الله نصير رب ملتف السرايا ... غرة منك الغرور أبطرته دعة النعم ... ة والعز النمير قدته بالخيل قوداً ... يوم قيد الخيل زور

وخميس تقبض الأر ... ض له، ظل يسير تصل البيض خطاه ... وقنا الخط شجير ويناحي، فيه للمو ... ت أيامي تمور مثل ما لفّ إليه ... قزع المزن الصبير قد تركت الطير سا ... لمة وهو عقير يستهل العلق الصا ... يل منه العتير أنت للصبح ضياء ... ليس للصبح نكير وإلى مجدك ينمي ... كل مجد ويحور وندى كفيك بحرٌ ... منه تنشق البحور كل ذي مجد طويل ... عند مسعاك قصير وقليل من أيادي ... ك على الناس كثير فابق ما عد من الده ... ر سنوه والشهور ومما يستحسن لعلي بن جبلة في الغزل قوله: إني ليقنعني تعهد شكلة ... إن حال دون لقاء شكلة حائل ويزيدني كلفاً بها هجرانها ... ويسرني عنها الحديث الباطل وإذا تلكم عاذل في حبها ... أغرى الفؤاد به وزق العاذل

من أين امتحنت محاسن وجهها ... بهر العيون بها هلال مائل شجيت خلاخلها بساق خدلة ... وشجيت عمداً بالذي هو قائل ومما يختار لعلي بن جبلة قوله: أبيت فما تسعف ... وجرت فما تنصف وتحلف لي بالهوى ... وتنكث ما تحلف حبالك منحلة ... وودك مستطرف وتهجرني واثقاً ... فثق فأنا المدنف سأعطف من حيث لا ... تلين ولا تعطف وأسكت لا أشتكي ... وأعرف ما تعرف تجاوزت أقصى المنى ... فخلقك لا يوصف فما تحته مثقل ... وما فوقه أهيف حميد أبو غانم ... له الشرف الأشرف مكارمه تنتمي ... وأمواله تتلف شحيح على عرضه ... وفي ماله مسرف له كنف ضامن ... على الأرض من يكنف وقحطان تبهى به ... وتبهي به خندف وتضحي به طبيّ ... على غيرها تشرف ومما يختار له قوله في حميد أيضاً: بطاعة الله طلت الناس كلهم ... ونصح هاد أمين الملك مأمون حميد يا قاسم الدنيا بنائلة ... وسيفه بين أهل النكث والدين

أخبار عوف بن محلم الخزاعي

أنت الزمان وقد يجري تصرفه ... على الأنام بتشديد وتليين لو لم تكن كانت الأيام قد فنيت ... بالمكرمات ومات المجد مذ حين طويت كل حشا منها على أمل ... إلى قرينة خوف منك مقرون قال: وتكلم الناس في هذه الأبيات واستجهلوه لأنه جعل للمخلوق قدرة الخالق. إلا أنه قد ابتدأ فقال: بطاعة الله فعلت وصنعت. فكأنه أراد أنك بلغت بالله عز وجل ما بلغت. وهذا صحيح. أخبار عوف بن محلم الخزاعي قال أبو عبد الله: هذا إنما هو من بني سعد، والشيباني غيره. وكان صاحب أخبار ونوادر ومعرفة بأيام الناس، وكان طاهر بن الحسين ابن مصعب قد استخصه واختاره لمنادمته، فكان لا يفارقه في سفر ولا حضر، وكان إذا سافر فهو عديله يحادثه ويسامره، وإذا أقام فهو جليسه يذاكره العلم ويدارسه، وكان طاهراً أديباً شاعراً يحب الأدب وأهله. وكان لا ينفق عنده شيء من متعة الدنيا كما ينفق الأدب، وكان عوف من أهل حران. وقال قوم: من رأس العين. وأقام مع طاهر ثلاثين سنة

لا يفارقه، حتى ليسأله كثيراً أن يأذن له في الإلمام بأهله والخروج إلى وطنه، فلا يجيبه إلى ذلك، وكان يعطيه الجزيل حتى كثرت أمواله، فلما مات طاهر ظن أنه قد تخلص، وأنه يلحق بأهله، ويتمتع بما قد اقتناه ببلده. فلوى عبد الله بن طاهر عليه يده، وتمسك به، وأنزله فوق منزله التي كانت من أبيه - وكان من آدب الناس وأعلمهم بأيام العرب وأجودهم قولاً للشعر - فعاد معه عوف إلى حاله التي كان عليها مع أبيه من الملازمة في الحضر والسفر، واجتهد في التخلص فلم يقدر على ذلك، حتى خروج عبد الله بن طاهر من العراق يريد خراسان، وعوف عديله في قبة يسامره ويحادثه. فلما شارفوا الري، وقد أدلجوا سحرة، إذا بقمري يغرد على سروة. بأشجى صوت وأرق نغمة، فالتفت عبد الله إلى عوف فقال: يا أبا ملحم، أما تسمع هذا الصوت؟ ما أرقه وأشجاه! قاتل الله أبا كبير الهذلي حيث يقول: ألا يا حمام الأيك فرخك حاضر ... وغصنك مياد ففيم تنوح قال عوف: أحسن والله أبو كبير وأجاد أيها الأمير. كان في هذيل أربعون شاعراً مذكوراً محسناً سواء المتوسطين، وكان أبو كبير، من أظهرهم وأقدرهم على القول. قال عبد الله: عزمت عليك إلا أجزت هذا البيت. قال عوف: أصلح الله الأمير، شيخ مسن وأحمل على البديهة، وعلى معارضة مثل أبي كبير، وهو من قد علمت؟ قال عبد الله: عزمت عليك وسألتك بحق طاهر إلا

فعلت. فأنشأ يقول: أفي كل عام غربة ونزوح ... أما للنوى من ونية فتريح لقد طلح البين المشت ركائبي ... فهل أرين البين وهو طليح وأرقني بالري نوح حمامة ... فنحت وذو اللب الحزين ينوح على أنها ناحت فلم تر عبرة ... ونحت وأسراب الدموع سفوح وناحت وفرخاها بحيث تراهما ... ومن دون أفراخي مهامه فيح ألا يا حمام الأيك فرخك حاضر ... وغصنك مياد ففيم تنوح عسى جود عبد الله أن يعكس النوى ... فتضحي عصا التسيار وهي طريح فإن الغني يدني الفتى من صديقه ... وعدم الغني للمعسرين طروح فاستعبر عبد الله ورق له لما سمع من تشوقه إلى أهله وبلده، فقال: يا بن محلم ما أحسن ما تلطفت لحاجتك، واستأذنت في الرجوع إلى أهلك وولدك! وإني بك لضنين، وبقربك لشحيح، ولكن والله لا جاوزت مكانك هذا حتى ترجع إلى أهلك وولدك. وأمر له بثلاثين ألف ردهم نفقة، ورده إلى موضعه ذلك. وذلك حيث يقول: يا بن الذي دان له المشرقان ... وألبس الأمن به المغربان إن الثمانين وبلغتهاقد أحوجت سمعي إلى ترجمان وأبدلتني بالشطاط انحنا ... وكنت كالصعدة تحت السنان وعوضتني من زماع الفتى ... وهمه هم الهجين الهدان

وهمت بالأوطان وجدا بها ... وبالغواني، أين من الغوان فقرباني بأبي أنتمامن وطني قبل اصفرار البنان وقبل منعاي إلى نسوة ... أوطانها حران فالرقمتان سقى قصور الشادياخ الحيا ... من بعد عهدي وقصور الميان فكم وكم من دعوة لي بها ... أن تتخطاها صروف الزمان وهذه القصور التي ذكرها في شعره كلها بمرو ونيسابور، وهي مساكن آل طاهر، وكان عوف قد ألفها لكثرة غشيانه إياها، ومقامه معهم فيها، ولذلك يدعو لها. ثم ودع عبد الله وخرج من عنده على أيسر حال، فلما كان في بعض الطريق عاجلته منيته فلم يصل إلى أهله، واتصل الخبر بعبد الله فاشتد ذلك عليه وجزع له. وفي عبد الله بن طاهر يقول عوف يمدحه: إليك فما حظي لغيري بصائر ... ولا أجلي إن حم عني بقاصر أعف وأستغني وإني لمقتر ... فتستر عفاتي عليّ مفاقري وإني ليأتيني الغنى غير ضارع ... فأدنو به من صاحبي ومجاوري لساني وقلبي شاعران كلاهما ... ولكن وجهي مفحم غير شاعر ولو كان وجهي شاعراً أكسب الغنى ... ولكن وجهي مثل وجه ابن طاهر فتى يختشي أن يخدش الذم عرضه ... ولا يتقي حد السيوف البواتر غليل وقد أوردت دلوي ببحره ... ولا عيب في ورد البحور الزواخر

وقال يذكر عبد الله وأجداده: بنو مصعب للملك في السلم زينة ... وفي الحرب دون الملك بيض بواتر وحول رواق الملك من آل مصعب ... ليوث لأعناق الليوث هواصر فما حال عن ود الخليفة طاهر ... ولا زال حتى غيبته المقابر وخلف عبد الله للملك ناصراً ... وهل مثل عبد الله للملك ناصر فتى لو أسرت نفسه كفر نعمة ... لحاربها حتى تصح الضمائر ومما سار له في الدنيا قوله الطاهر، إذ وقف على الجسر وطاهر في حراقة ينحدر إلى دار السلطان، فقال عوف رافعاً صوته: عجبت لحراقة ابن الحس ... ين كيف تسير ولا تغرق وبحران، من تحتها واحد ... وآخر من فوقها مطبق وأعجب من ذاك عيدانها ... وقد مسها كيف لا تورق وكان عوف بن محلم سخيا على الطعام جداً، صاحب شراب ولهو وخلاعة، وكان له إخوان يتمتع بهم ومعهم، ويعاشرهم ويفضل عليهم، وكان الشعراء الأصاغر يقصدونه ويمدحونه، فيعطيهم ويصلهم، ويتوسلون به إلى طاهر فيشفع لهم ويخرج جوائزهم. وقدم مرة شاعر على عبد الله يقال له روح من البصرة، فامتدح عبد الله بقصيدة، ومدح عوفاً بأبيات، وقد أنزله عنده وأحسن إليه، فلما سمع عوف أبياته وجدها ضعيفة جداً، قال أنشدني ما قلت في الأمير - واستدل

بما سمع على ضعف نمط الرجل - فأنشده. فقال: لا توصلها إليه، فإن الأمير بصير بالشعر، وهو يقول منه الجيد القوي، ومثل هذا الشعر لا يقع منه موقعاً ينفعك، ولكني أقول فيه مدحه، فانتحلها والقه بها. فأبى، وظن أنه يقول ذلك حسداً، وكان الرجل رقيعاً لا يفطن لعيب نفسه، فقال له: فشأنك إذن وما تريد. فأنشد روح قصيدته عبد الله، فقال له: بمثل هذا الشعر يلقى الأمراء والملوك؟ أيقبل مثل هذا حر؟ وردها عليه، فصار إلى عوف وشكا إليه، فقال له: ألم أنصحك؟ ألم أقل لك: إنه لا يقبل مثل هذا الشعر؟ فلما دخل عوف على عبد الله قال: ويحك يا أبا ملحم، أما سمعت شعر هذا القادم علينا فينا؟ قال عوف: بلى، أعز الله الأمير، قد سمعته ونصحت له فلم يقبل. وفي ذلك يقول عوف: أنشدني روح مديحاً له ... فقلت: شعر؟ قال لي: فايش فخلت لما أن بدا منشدا ... كأنني في قبة الخيش فقلت: زدني وتغنمته ... والثلج في الصيف من العيش ومما يستحسن لعوف ويختار له من شعره - على أنه كله مختار ليس فيه بيت ساقط. ولا ناقص -: وكنت إذا صخبت ديار قوم ... صحبتهم ونيتي الوفاء فأحسن حين يحسن محسنوهم ... وأجتنب الإساءة إن أساءوا

وأبصر ما يريبهم بعين ... عليها من عيونهم غطاء ومما يختار له قوله: وصغيرة علقتها ... كانت من الفتن الكبار كالبدر إلا أنها ... تبقي على ضوء النهار قالت غبار قد علا ... ك فقلت ذا غير الغبار هذا الذي نقل الملو ... ك إلى القبور من الديار يا هذه أرأيت لي ... لاً يستنير بلا نهار قالت: ذهبت بحجتي ... عني بحسن الإعتذار ومما يختار له أيضاً قوله: وليلتنا طابت وطاب بها الهوى ... إلى أن بدا أو كاد منسلخ الفجر فما عدلتها ليلة ذات نعمة ... ولا ليلة الأضحى ولا ليلة الفطر إذا هي قيست بالليالي وجدتها ... يكاد يساوي فضلها ليلة القدر تمليتها حتى الصباح بطفلة ... مصورة أبهى من الشمس والبدر قتول بعينيها خلوب بدلها ... سلوب لألباب الرجال وما تدري ومما يروى له ويستحسن قوله: سألت المحبين الذين تجشموا ... تباريح هذا الحب في سالف الدهر فقلت لهم: ما يذهب الحب بعدما ... تنشب ما بين الجوانح والصدر فقالوا: شفاء الحب حب تفيده ... لآخر أو نأى طويل على الهجر

أو اليأس حتى تذهل النفس بعد ما ... رجت طمعاً واليأس عون على الصبر قعيدك من حب أمالك رحمة ... ولا بك عني من توان ولا فتر وقتلتني حيناً وحيناً أعشتني ... فأفنيت عمري بالأمانة والنشر ومما يستحسن له وهو من السائر المشهور له قوله: فما زالت الكأس تغتالها ... وتذهب بالأول الأول إلى أن توافت صلاة العشاء ... ونحن من السكر لم نعقل فمن كان يعرف حق النعيم ... وحق الجليس فلا يجهل وما إن جرت بيننا مزحة ... تهيج مراء على السلسل ومما يختار له أيضاً قوله: وإني لذو حلم على أن سورتي ... إذا هزني قوم حميت بها عرضي وإن طلبوا ودي عطفت عليهم ... ولا خير فيمن لا يئول ولا يغضي وما كل ذي غش يضرك غشه ... ولا كل من يؤتى كرامته يرضي ومعترض في القول غربت قوله ... وقلت له ليس القضاء كما يقضي ركبت به الأهوال حتى تركته ... بمنزل ضنك لا يكد ولا يمضي وإني لأجزي بالكرامة أهلها ... وبالحقد حقداً في الشدائد والخفض ومما يختار له قوله: وإني لمن أحببت حبي دائم ... ولست بذي لونين أسود أبلق

أخبار أبي نواس

مدوف يرى الخلان منه تظرفاً ... له خلق عند البلاء ممزق يخالط إخواناً له بملاقة ... وثر الأخلاء الخئون المملق وإني لأستحيي الصديق وأتقي ... وكل امرئ لا يتقي الدمم أحمق ومما سار له قوله: ما ينزل الله بي أمراً فأكرهه ... إلا سينزل بي من بعده الفرجا يا رب أمرين قد فرجت بينهما ... من بعد ما اشتبكا في الصدر واعتلجا أخبار أبي نواس حدثني علي بن حرب أخو محمد بن حرب بن خالد بن المهزم، قال: حدثني أخي محمد بن حرب - وكان بين الأخوين قريب من خمسين سنة - أن أبا نواس - واسمه الحسن بن هانئ، ويكنى أبا علي - ولد بالأهواز، بالقرب من الجبل المقطوع المعروف براهبان سنة تسع وثلاثين ومائة، ومات ببغداد سنة خمس وتسعين ومائة، وكان عمره خمساً وخمسين سنة، ودفن في مقابر الشونيزي في تل اليهود، ومات في بيت خمارة كان يألفها. وكانت أمه أهوازية يقال لها جلبان من بعض مدن الأهواز

يقال لها نهر بيري وأبوه من جند مروان بن محمد، من أهل دمشق، مولى لآل الحكم بن الجراح من بني سعد العشيرة، وكان قدم الأهواز أيام مروان بن محمد لرباط الخيل، فتزوج جلبان فأولدها عدة، منهم أبو نواس وأخواه أبو محمد وأبو معاذ، وكان أبو معاذ يؤدب ولد فرج الرخجي، ومات والدهم هانئ، وأبو نواس صغير، فنقلته أمه إلى البصرة وهو ابن ست سنين، فأسلمته إلى الكتاب، فلما ترعرع خرج إلى الأهواز، فانقطع إلى والبة بن الحباب الشاعر، وكان والبة يومئذ مقيماً بالأهواز عند ابن عمه النجائي وهو واليها، فأدبه وخرجه. وكان أبو نواس وضيئاً صبيحاً. فعشقه والبة وأعجب به، وعُني بتأديبه حتى خرج منه ما خرج. ولما مات والبة لزم خلفاً الأحمر وكان خلف أشعر أهل وقته وأعلمهم، فحمل عنه علماً كثيراً وأدباً واسعاً، فخرج واحد زمانه في ذلك، وحدثني ناس عن أبي نواس أنه قال: ما ظنكم برجل لم يقل الشعر حتى روى دواوين ستين امرأة من العرب منهن الخنساء وليلى فما ظنكم بالرجال؟ وحدثت عن ابن مرزوق عن أبي هفان قال: كان أبو نواس آدب الناس وأعرفهم بكل شعر، وكان مطبوعاً، لا يستقصي، ولا يحلل شعره، ولا يقوم عليه، ويقوله على السُّكر كثيراً فشعره متفاوت، لذلك يوجد

فيه ما هو في الثريا جودة وحسناً قوة، وما هو في الحضيض ضعفاً وركاكة، وكان مع كثرة أدبه وعلمه خليعاً ماجناً وفتي شاطراً، وهو في جميع ذلك حلو ظريف، وكان يسحر الناس لظرفه وحلاوته وكثرة ملحه، وكان أسخى الناس، لا يحفظ ماله ولا يمسكه، وكان شديد التعصب لقحطان علي عدنان، وله فيهم أشعار كثيرة، يمدحهم ويهجو أعداءهم، وكان يُتهم برأي الخوارج، فمما يروى له في تفضيل اليمن والافتخار بهم قوله: لست لدار عفت وغيرها ... ضربان من قطرها وحاصبها وفي هذه القصيدة يقول: فنحن أرباب ناعط ولنا ... صنعاء والمسك في محاربها ودان أذواؤنا البرية من ... معترها رغبة وراهبها وكان منا الضحاك يعبده ال ... خابل والوحش في مسار بها ونحن إذ فارس تُدافع به ... رام قسطنا على مرازبها حتى جمعنا إليه مملكة ... يجتمع الطرف في مواكبها وفاظ قابوس في سلاسلنا ... سنين سبعاً وفت لحاسبها ويوم ساتيدما ضربنا بني ال ... أصفر والموت في كتائبها فافخر بقحطان غير مكتئب ... فحاتم الجود من مناقبها إذ لاذ برويز عند ذاك بنا ... والحرب تُمرى بكف حالبها يذب عنه بنو قبيصة بال ... خطى والشهب من قواضبها

ولا ترى فارساً كفارسها ... إذ زالت الهام عن مناكبها عمرو وقيس والأشتران وزي ... دُ الخيل أُسْدٌ لدى ملاعبها واهج نزاراً وأفر جلدتها ... وهتك الستر عن مثالبها واحبب قريشاً لحب أحمدها ... واشكر لها الجزل من مواهبها إن قريشاً إذا هي انتسبت ... كان لنا الشطر من مناسبها فأم مهدي هاشم أم مو ... سى الخير منا فافخر وسامِ بها بل مل إلى الصيد من أشاعثها ... والسادة الغر من مهالبها أما تميم فغير راحضة ... ما شلشل العبد في شواربها أول مجد لها وآخرهإن ذكر المجدُ قوس حاجيها وقيس عيلان لا أريد لها ... من المخازي سوى مُحاربها وإن أكل الأيور موبقها ... ومطلق من لسان عائبها وما لبكر بن وائل عصم ... إلا بحمقائها وكاذبها ولم تعف كلبها بنو أسد ... عبيدُ عيرانة وراكبها وتغلب تندب الطلول ولم ... تثأر قتيلاً على ائبها نيكتْ بأدنى المهور أختُهُمُ ... قسراً ولم يدم أنف خاطبها

وأصبحت قاسط وإخوتها ... تدّخر الفَسْوَ في حقائبها قال المؤلف لهذا الكتاب عبد الله بن المعتز: أنشدني المبرد هذه القصيدة وفسر لي هذا التفسير: ناعط. أحد مخاليف اليمن. وقوله: ودان أذواؤنا، أي التبايعة ملوك حمير، مثل ذي يزن وذي كلاع وذي أصبح. وهكذا كثير في حمير، وتجمع على أذواء وذوين ومن ذلك قول الكميت: فلا أعني بذاكم أسفليكم لكني ... أريد به الذوينا وأما قوله: دان أذواونا، فغنه يقال: فلان في دين فلان أي طاعته وقيل: لئن حللت بود في بني أسد ... في دين عمرو وحالت بيننا فدكُ يعني طاعة عمرو. وأما قوله: وكان منا الضحاك. فإن الضحاك كان رجً بعيد الصوت، كثير العجائب، والعجم تدعيه، وذلك حق، وكان اسمه بالفارسية أزدها، ومعناه: الشين لأنه كان شريراً ردياً، فعربته العرب فقالت: الضحاك، وإما كانت أمه قحطانية، فادعته اليمن لذلك، والعرب تزعم والعجم أيضاً أن الجن كانت تطيعه وأن الوحش كانت تألفه وتأنس به، فذلك قوله: وكان منا الضحاك يعبده ال ... خابل والوحش في مساربها يعني بالخابل الجن. وأما قوله: قسطنا على مرازبها، فإنه يقال: قسط، إذا جار. وأقسط: إذا عدل. وإما أراد بذلك قصة بهرام جور، واستعانته بالنعمان حد أبي النعمان الأصغر، حين زَوتِ الفرس عنه الملك لما مات أبوه، وولوا ابن عمه. وقصة ذلك تطول. وليس شرط كتابنا ذلك

إذ قد قدمنا. وقوله: ضربنا بني الأصفر، هم الروم. وقوله: والحرب تمري، يشبهها كما تستدر الناقة والشاة إذا حُلبت ولهذا قصة كانت في أمر أبرويز وملك الروم يطول شرحها، وكان أبرويز استعان بإياس ابن قبيصة الطائي. وأما قوله: فحاتم الجود من مناقبها، يعني حاتماً الطائي وأما فرسانهم الذين ذكرهم فعمرو بن معدي كرب الزبيدي وقيس بن مكشوح المُرادي، والاشتران، فهما مالك بن الحارث الأشتر النخعي صاحب علي بن أبي طالب عليه السلام، وابنه إبراهيم بن الأشتر قاتل عبيد الله بن زياد. وقوله: زيد الخيل فإنه يعني به زيد الخيل الطائي ومهلهلاً أباه، وكانا سيدي قومهما، وأما قوله: وأفر جلدتها فإنه يقال في الفساد: أفريت، وفي الإصلاح: فريت. وقال بعضهم: في الشر والخير جميعاً فريت وأفريت. وأما قوله: فأم مهدي هاشم فإنه يعني أم موسى بنت منصور الحميرية، وهي أم المهدي بن المنصور أمير المؤمنين. وأما قوله الأشاعث فإنه من كندة وهم ولد الأشعث بن قيس ومنزلهم الكوفة. والمهالبة من العتيك ومحلهم البصرة أما قوله: أما تميم فغير راحضة ... ما شلشل العبد في شواربها فإنه أراد أبا سُواج، وخبره مشهور مع صرد بن جمرة، وهو الذي يهجو به عمر بن لجا والأخطل جريراً وقومه. وقال ابن لجا: تُمسح يربوع سبالاً لئيمة ... بها من مني العبد رطب ويابسُ فما ألبس الله امرأ فوق جلده ... من اللؤم إلا ما الكليبي لابسُ عليهم ثياب اللوم لا يخلعونها ... سرابيل في أعناقهم وبرانسُ

وقال الأخطل حين عيره جرير بشرب الخمر: تعيب الخمر وهي شراب كسرى ... ويشرب قومك العجب العجيبا مني العبد عبد أبي سواجٍ ... أحق من المدامة أن تعيبا وقوله: قوس حاجبها يعني. حاجب بن زرارة بن عُدس بن زيد، وكان دفع قوسه تذكرة بذمته إلى حشّ، وهو عامل كسرى على السواد وأطراف بوادي العبر، حين رعت بنو تميم ولفهم السواد، وضمن حاجبٌ لكسرى ألا يعيثوا ففي ذلك يقول حاجب: ربينا ابن ماء المزن وابني مُحرق ... إلى أن بدت منهم لحى وشواربُ ثلاثة أملاك رُبُوا في حجورنا ... على مضر صلنا بهم لا التكاذُبُ وأقسّم حش لا يسالم واحداً ... من الناس حتى يرهم القوس حاجب وأما قوله: سوى محاربها، فإنه محارب بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر، وفيهم ضعة، والعرب تضرب بهم المثل، قال القطامي: فلما تنازعنا الحديث سألتها ... من الحي؟ قالت معشرٌ من محاربِ من المشتوين القِد مما تراهم ... جياعاً وعيش الناس ليس بناضب وأما قوله: وإن أكل الأيور مُوبقها، فهذا شيء يعاب به بنو فزارة، وذلك أن نفراً منهم كانوا في سفر، فجاعوا، وأخذوا غرمول حمارٍ فاشتووه وأكلوه. وأما قوله: لم تعف كلبها بنو أسد. فإن للكلب أيضاً حديثاً مع بني أسد نحو حديث الأير مع بني فزارة، وأما قوله: وما لبكر بن وائل عصم ... إلا بحمقائها وكاذبها

فإنه يريد بالكاذب مسيلمة، وكان من بني حنيفة، والحمقاء هبنقة القيسي من بني قيس بن ثعلبة، وهو رجل منهم، كان يضرب المثل بحمقه، وإنما أراد بأحمقها لأن فعلاء لا يكون إلا للمؤنث. فمنعه الوزن فلحن وله مثل هذا التهجم كثير. وأما قوله: وأصبحت قاسط وإخوتها ... تدخر الفَسْوَ في حقائبها فإن إخوتها عبد القيس، وهي تُسَبُّ بالفساء، قال الشاعر: وعبد القيس مصفر لحاها ... كأن فُسَاءَها قِطع الضبابِ ولهذا الخبر أيضاً حديث يطول، وهذا آخر تفسير هذه القصيدة. وكان أبو نواس لشدة عصبيته لقحطان يقول في هذا المعنى كثيراً وهو القائل: إذا ما تميمي أتاك مفاخراً ... فقل: عد عن ذا كيف أكلك للضب تفاخر أولد الملوك سفاهة ... وبولك يجري فوق ساقك والكعب وهو القائل أيضاً: دع الأطلال تسفيها الجنوب ... وتبلي عهد جدتها الخطوبُ وخل لراكب الوجناء أرضاً ... تخب بها النجيبة والنجيبُ ولا تأخذ عن الأعراب لهواً ... ولا عيشاً فعيشهمُ جديبُ دع الألبان يشربها رجالٌ ... رقيق العيش بيتهم غريبُ بأرض نبتها عشرٌ وطلحٌ ... وأكثر صيدها كلب وذيبُ

إذا راب الحليب فبل عليه ... ولا تحرج فما في ذاك حُبُ فأطيب منه صافيةٌ شَمولٌ ... يطوف بكأسها ساق لبيبُ أعاذلتي خلا رُشدي قديماً ... فشقى الآن جيبك لا أتوب فذاك العيش لا شجر البوادي ... وذاك العيش لا اللبن الحليب فأين البدو من إيوان كسرى ... وأين من الميادين الزروب تُعيرني الذنوب، وأي حُر ... من الفتيان ليس له ذنوب ومما ذكر من خصال أبي نواس المحمودة، ما حدثني به أحمد بن أبي عامر قال: حدثني سلمان شحطة. قال: كان أبو نواس عالماً فقيهاً، عارفاً بالأحكام والفتيا، بصيراً بالاختلاف، صاحب حفظ. ونظر ومعرفة بطرق الحديث، يعرف ناسخ القرآن ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وقد تأدب بالبصرة، وهي يومئذ أكثر بلاد الله علماً وفقهاً وأدباً، وكان أحفظ لأشعار القدماء والمخضرمين وأوائل الإسلاميين والمحدثين. وحدثني محمد بن أحمد القصار قال: حدثني يوسف بن الداية قال: قال لي أبو نواس: أحفظ. سبعمائة أرجوزة، وهي عزيزة في أيدي الناس، سوى المشهورة عندهم، وكان لزم بعد والبة بن الحباب خلفاً الأحمر، وكان خلف نسيج وحده في الشعر، فلما فرغ أبو نواس من إحكام هذه الفنون تفرغ للنوادر والمجون والمُلح، فحفظ منها شيئاً كثيراً حتى صار أغزر الناس، ثم أخذ في قول الشعر، فبرز على أقرانه، وبرع على أهل زمانه. ثم اتصل بالوزراء والأشراف، فجالسهم وعاشرهم، فتعلم منهم الظرف النظافة. فصار مثلاً في الناس، وأحبه الخاصة والعامة، وكان

يهرب من الخلفاء والملوك بجهده ويلام على ذلك فيقول: إنما يصبر على مجالسة هؤلاء الفحول المنقطعون، الذين لا ينبعثون ولا ينطقون إلا بأمرهم، الله لكأني على النار إذا دخلت عليهم، حتى أنصرف إلى إخواني ومن أشاربه، ولأني إذا كنت عندهم فلا أملك من أمري شيئاً. وحدثني إسماعيل بن حرب قال: أخبرني سعد بن خزيم قال: قال جعفر البرمكي لسعيد بن وهب: أين تأدب أبو نواس؟ قال: ببلد البصرة. وحدثني أبو عمرو عن أبي دعامة قال: قال أبو عمرو الشيباني لولا ما أخذ فيه أبو نواس من الرفث لاحتججنا بشعره لنه مُحكم القول. ومن أخبار أبي نواس مع أبانٍ اللاحقي ما حدثني به القاسم بن داوود قال: حدثني ابن أبي المنذر قال: كان اللاحقي شاعراً ظريفاً يمدح البرامكة، وكان مخصوصاً من بينهم بجعفر لا يكاد يفارقه، وكانت البرامكة، إذا أرادوا تفرقة مال على الشعراء ولوه ذلك، فأُمر له بمال يفرقه فيهم، وكان كثيراً له خطر، ففرقه وأمر لأبي نواس بدرهم ناقص، وأرسل إليه: إني قد أعطيت كل شاعر على قدره، وهذا مقدارك. فوجد عليه أبو نواس، فلما قال اللاحقي قصيدته الحائية التي يصف فيها نفسه ويلفق فيها عند جعفر بن يحيى وهي هذه القصيدة: أنا من حاجة الأمير وكنز ... من كنوز الأمير ذو أرباحِ كاتب حاسب أديب خطيب ... ناصح راجح على النصاحِ

شاعر مفلق أخف من الري ... شة مما تكون تحت الجناح لو رآني الأمير عاين مني ... شمريا كالجُلجل الصياح لحية سبطة وأنف طويل ... واتقاد كشعلة المصباح لسنت بالمفرط الطويل ولا بالمُ ... ستكن المجحدر الدحداح أيمن الناس طائراً يوم صيد ... لغدوٍّ دُعيت أم لرواح أبصر الناس بالجوارح والأكلُ ... ب والخرد الصباح الملاح وبلغ أبا نواس هذه القصيدة فقال: والله لأعرفنه نفسه، وأنشأ يقول: إن أولى بخسة الحظ مني ... للمسمى بالجلجل الصياحِ فبلوا منه حين غنى لديهم ... أخرس الصوت غير ذي إفصاح ثم بالريش شبه النفس في الخف ... ة مما يكون تحت الجناح فإذا الشم من شماريخ رضوى ... عنده خفة نوى السباح لم يكن فيك غير شيئين مما ... قلت من بعد خلقك الدحداح لحية سبطة وأنف طويل ... وهباء سواهما في الرياح فيك ما يحمل الملوك على الخُر ... ق ويُزري بالسيد الجحجاح فيك تيه وفيك عُجبٌ شديد ... وطماحٌ يفوق كل طماح باردُ الطرف مظلم الكذب تيا ... هٌ معيد الحديث غث المُزاح

فلما انتهى الشعر إلى اللاحقي سقط في يده، وعلم أنه إن بلغ ذلك البرامكة أُسقط عندهم، وندم على ما كان منه، فبعث إلى أبى نواس: أن لا تذعها ولك حكمك، فبعث إلى أبي نواس: أن لا تُذعها ولك حكمك، فبعث إليه يقول: لو أعطيتني الدنيا ما كان بد من إذاعتها، فاصبر على حرارة كيها، واعرف قدرك، قال: فلما سمع جعفر شعر أبي نواس في اللاحقي قال: والله لقد قرفه بخمس خلال لا تقبله السفلة على واحدة منها، فكيف تقبله الملوك؟ فقيل له: يا سيدنا إنه كذب عليه. فتمثل يقول: قد قيل ذلك إن حقاً وإن كذباً ... فما اعتذارك من شيء إذا قيلا وصار أبان بعد ذلك لبي نواس كالعبد، لا يلقاه ولا يُذكر له إلا يجله وحدثني إبراهيم بن الخصيب قال: أخبرني ابن أبي المنذر قال: إنما نفق شعر أبي نواس على الناس لسهولته وحسن ألفاظه، وهو مع ذلك كثير البدائع، والذي يراد من الشعر هذان. وحدثني محمد بن زياد بن محمد عن أبي هفان قال: قال لي أبو نواس: الشره في الطعام دناءة، وفي الأدب مروءة، وكل من حرص على شيء فاستكثر منه سكن حرصه وقرت عينه غير الأدب، فإنه كلما ازداد منه صاحبه ازداد حرصا عليه وشهوة له ودخولاً فيه. حدثني أحمد بن سلمان قال: حدثني اليؤيؤ قال: سمعت أبا نواس يقول: لا ضيعة على أديب حيث توجه، فإنه يجالس أشراف الناس وملوكهم في كل بلد يرده، وما قُرن شيء إلى شيء أحسن من عقل إلى أدب.

حدثني علي بن إسحاق قال حدثني ابن أبي خلصة قال: رأيت أبا نواس واقفاً بالجسر، ومعه غلام وجارية، لم أر أحسن منهما، وهو على حمار فاره، فقل: يا أبا على ما وقوفك؟ وما هذان معك؟ قال: إن الخصيب حملني على هذا الحمار، ووهب لي هذا الغلام وهذه الجارية، فكيف تراهما: قلت: ما يصلحان إلا للملوك. قال: صدقت ولكنها نعمة فيكشخني فيها، فهل عندك من رأى؟ قلت: تجعل الجارية في منزل الثقات من إخوانك، فتزورها إن شئت. قال: أخاف أن أسترعي الذئب. وافترقنا، ثم التقينا بعد أيام، فقال لي: شاورناك في أمرهما فما فتحت لنا باباً، وإني لما فارقتك ازدحم الرأي على لساني وقلبي. فقلت: ما صنعت؟ قال: زوجت الغلام بالجارية، فصرت أكشخنة فيها. فقلت: إن الشيء كان حلالاً لك فجعلته حراماً. فقال: يا أحمق أفي الحلال شاورناك أم قلنا لك: ما الرأي؟ فقلت: عليك لعنة الله ما أهداك إلى كل آبدةٍ! ومما لأبي نواس من شعره البصريّ: عفا المصلي وأقوت الكُثُبُ ... مني فالمربدان فاللبب والمسجد الجامع المروءة ... والدين عفا فالصحان فالرحب منازلٌ قد عمرتها يفعاً ... حتى بدا في عذارى الشهب في فتيه كالسيوف هزهم ... شرخُ شباب وزانهم أدب ثُمَّت راب الزمانُ فاقتسموا ... أيدي سبا في البلاد فأنشبعوا ويزعم البغداديون أنها من شعره الذي قاله ببغداد، وأخلق به أن يكون

ببغداد يبكي إخوانه أهل البصرة، لنه يقول فيها: لما تيقنت أن روحتهمْ ... ليس لها ما حييت منقلبُ أبليت صبراً لم يبله أحد ... واقتسمتني مآرب شُعب ومن شعره البصري السائر قوله: ودار ندامي عطلوها فأدلجوا ... بها أثر منهم جديد ودارس مساحب من جر الزقاق على الثرى ... وأضغاث ريحان جنى ويابس حبست بها صحبي وجددت عهدهم ... وإني على أمثال هاتيك حابس أقمنا بها يوماً ويوماً وثالثاً ... ويوماً له يوم الترحل خامس تدور علينا الراح في عسجدية ... حبتها بألوان التصاوير فارس قرارتها كسرى وفي جنباتها ... مَهاً تدريها بالقسي الفوارس فللراح مازُرت عليه جيوبها ... وللماء ما دارت عليه القلانس حدثني المنقري عن يوسف بن الداية قال: كنت وأبو نواس وجماعة من إخواننا نطوف في شهر رمضان إذا أفطرنا كل ليلة، فمررنا ليلة بمسجد السلولي وابنه يصلي بالناس التراويح، وكان من أصبح الخلق وأحسنهم وجهاً، فضرب بأبي نواس وقال: لست أبرح حتى يفرغ مجلسنا، وكانت ليلة ختمة، فلما قرأ: أرأيت الذي يكذب بالدين قال أبو نواس: وَفَرَا مُعلناً ليصدع قلبي ... والهوى يصدع الفؤاد العزوما أرأيت الذي يكذب بالدين ... فذاك الذي يدعُ اليتيما

حدثني إبراهيم بن حرب الكوفي قال: حدثني ابن الداية قال: اجتمع أبو نواس ومسلم بن الوليد والخليع وجماعة من العراء في مجلس، فقال بعضهم: أيكم يأتيني ببيت شعر فيه آية من القرآن وله حكمه؟ فأخذوا يفكرون فيه، فبادر أبو نواس فقال: وفتية في مجلس وجوههم ... ريحانهم قد أمِنوا الثقيلا دانية عليهم ظلالها ... وذللت قطوفها تذليلا فتعجبوا وأفحموا ولم يأت أحد منهم بشيء. قال محمد بن عبد الوهاب: فسمعت بعد ذلك بمدة بيتاً لدعبل استحسنته وهو: ويخزهم وينصركم عليهم ... ويشف صدور قوم مؤمنينا حدثني نصر بن محمد قال: أخبرني ابن أبي شقيقة الوراق قال: كان يجتمع الشعراء في دكان أبيه ببغداد وإن أبا العتاهية حضرهم يوماً، فتناول دفتراً ووقع على ظهره ينشد: أيا عجبا كيف يُعصى الإل ... هُ أم كيف يجحده الجاحدُ ولله في كل تحريكة ... وتسكينة أبداً شاهدُ وفي كل شيء له آيةٌ ... تدل على أنه واحد فلما كان من الغد جاء أبو نواس، فجلس فتحدث ساعة، ووقعت عينه على ذلك الدفتر، وقرأ الأبيات. فقال: من صاحبها؟ لوددت أنها لي بجميع شعري: فقلنا، أبو العتاهية، فكتب تحتها سبحان من خلق الخل ... ق من ضعيف مَهين فساقه من قرارٍ ... إلى قرار مَكين

يحول خلقاً فخلقاً ... في الحجب دون العيون فلما كان من الغد جاء أبو العتاهية وقال: لمن هذه الأبيات؟ لوددت أنها لي بجميع شعري، فقلنا: أبو نواس. وتعجبنا من اتفاق قوليهما. وحدثني أبو النجم قال: بلغني أن أبا نواس وهو في الكتاب وكان مليحاً صبيحاً - مرت به صبية وضيئة الوجه، فمازحته ساعة، ثم رمت إليه بتفاحة معضضة وانصرفت فقال: شجر التفاح لا خفت القحل ... لا ولا زلت لغايات المثل تقبل الطيب إذا علت به ... وبها من غير طيب محتمل وعدتني قبلة من سيدي ... فتقاضت سيدي حين فعل ليس ذاك العض من عيب لها ... إنما ذاك سؤال للقبل ويقال أن الذي رغب فيه والبة بن الحباب حتى أخذه غلاماً فأدبه وخرجه هذه الأبيات. وقيل أيضاً: إن الذي بعث أبا نواس على صحبة والبة وأرغبه فيه بيتا والبة وهما همذان: ولها ولا ذنب لها ... حب كأطراف الرماح في القلب يجرح دائماً ... فالقلب مجروح النواحي فإنه استحسنهما وجزلهما ورغب في الشعر. وهذا لعمري كلام دونه السحر.

حدَّثني أبو يعقوب إسحاق بن سيار قال: حدَّثني عامة أصحاب أبي نواس منهم عبد الله بن أحمد بن حرب المعروف بأبي هفان قالوا: بني للمخلوع مجلس لم تر العرب والعجم مثله، قد صور فيه كل التصاوير، وذهب سقفه وحيطانه وأبوابه، وعلقت على أبوابه ستور معصفرة مذهبة، وفرش بمثل ذلك الفرش، فلما فرغ من جميع أسبابه، وعرف ذلك، اختار له يوماً، وتقدم بأن يؤمر الندماء والشعراء بالحضور غدوة ذلك اليوم ليصطحبوا معه فيه، فلم يتخلف أحد، وكان فيمن حضر أبو نواس، فدخلوا فرأوا أسا لم يروا مثله قط ولم يسمعوا به، من إيوان مشرف فائح فاسح، يسافر فيه البصر، وجعل كالبيضة بياضاً، ثم ذهب بالإبريز المخالف بينه باللازوردذي أبواب عظام ومصاريع غلاظ تتلألأ فيها مسامير الذهب، قد قمعت رءوسها بالجوهر النفيس، وقد فرش بفرش كأنها صبغ الدم، منقش بتصاوير الذهب وتماثيل العقبان ونضد فيه العنبر الأشهب والكافور المصعد وعجين المسك وصنوف الفاكهة والشمامات والتزايين، فدعوا وأثنوا عليه، وأخذوا مجالسهم على مراتبهم عنده، ومنزلتهم منه، ثم أقبل عليهم فقال: إني أحببت أن أفرغ متعة هذا المجلس معكم، وأصطبح فيه بكم، وقد ترون حسنه، فلا تنغصوني ذلك

بالتكلف، ولا تكدروا سروري بالتحفظ، ولكن انبسطوا وتحدثوا وتبذلوا، فما العيش إلا في ذلك. فقالوا: يا أمير المؤمنين، بالطائر الميمون والكوكب السعدي والجد الصاعد والأمر العالي والظفر والفوز، ووفقت يا أمير المؤمنين، وفقت ولم تزل موفقاً. ثم لما طعموا أتي بالشراب كأنه الزعفران، أصغي من وصال المعشوق، وأطيب ريحاً من نسيم المحبوب، وقام سقاة كالبدور، بكئوس كالنجوم، فطافوا عليهم وعملت الستائر بمزاهرها فشربوا معه من صدر نهارهم إلى آخره، في مذاكرة كقطع الرياض، ونشيد كالدر المفصل بالعقبان، وسماع يحيي النفوس ويزيد الأعمار، فلما كان آخر النهار دعا بعشرة آلاف دينار في صواني، فأمر فنثرت عليهم فانتهبوها، والشراب بعد يدور عليهم بالكبير والصغير، من الصرف والممزوج، وليس يمنع أحد منهم مما يريد، ولا يكره على ما يأباه، وكان جيد الشراب، فصبروا معه إلى أن سكر فنام، ونام جميع من في المجلس عند ذلك إلا أبا نواس فإنه ثبت مكانه فشرب وحده، فلما كان السحر دنا من محمد فقال: يا أمير المؤمنين. قال: لبيك يا خير الندامى. فقال أبو نواس: يا سيد العالمين، أما ترى رقة هذا النسيم، وطيب هذه الشمال، وبرد هذا السحر، وصحة هذا الهواء المعتدل والجو الصافي، وبهيج هذه الأنوار؟ فلما سمع محمد وصفه استوى جالساً وقال: يا أبا نواس، ما بي للشرب موضع، ولا للسهر مكان، وقد بسطتني بمنثور وصفك فنشطني بمنظومه للشرب. فأنشأ يقول: نبه نديمك قد نعس ... يسقيك كأساً في الغلس صرفاً كأن شعاعها في كف شاربها قبس

تذر الفتى وكأنما ... بلسانه منها خرس يدعى فيرفع رأسه ... فإذا استقل به نكس يسقيكها ذو قرطق ... يلهي ويؤذي من حبس خنث الجفون كأنه ... ظبي الرياض إذا نعس أضحى الإمام محمد ... للدين نوراً يقتبس ورث الخلافة خمسة ... وبخير سادسهم سدس تبكي البدور لضحكه ... والسيف يضحك إن عبس فارتاح المخلوع ودعا بالشراب فشرب معه. ومما يختاره أهل الفهم من شعر أبي نواس كثير، كما أن الرديء ينفونه من شعره، ولكن نورد من ذلك ما لم يشتهر عند العوام، وندع ما قد اشتهر، فإن رائيته في الخصيب: أجارة بيتينا أبوك غيور ... وميسور ما يرجى لديك عسير وإن كانت من قلائده موجودة عند كل إنسان، وليست كميميته التي لا تقصر عنها حسناً وجودة، وهي مع ذلك لا يعرفها إلا الخواص وهي هذه: يا دار ما فعلت بك الأيام ... لم تبق فيك بشاشة تستام عرم الزمان على الذين عهدتهم ... بك قاطنين وللزمان عرام أيام لا أغشي لأهلك منزلاً ... إلا مراقبة عليّ ظلام ولقد نهزت مع الغواة بدلوهم ... وأسمت سرح اللهو حيث أساموا

وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه ... وإذا عصارة كل ذاك أثام وتجشمت بي هول كل تنوقه ... هوجاء فيها جرأة إقدام تذر المطي وراءها فكأنها ... صف تقدمهن وهي إمام وإذا المطي بنا بلغن محمداً ... فظهورهن على الرجال حرام قربننا من خير من وطي الحصا ... فلها علينا حرمة وذمام رفع الحجاب لناظري فبدا به ... ملك تقطع دونه الأوهام كالبدر مشتمل بنور خلافة ... لبس الشباب بملكه الإسلام سبط البنان إذا احتبى بنجاده ... غمر الجماجم والسماط قيام ملك إذا اقتسر الأمور مضى به ... رأيٌ يفل السيف وهو حسام داوي به الله القلوب من الجوى ... حتى برئن وما بهن سقام أصبحت يا ابن زبيدة ابنة جعفر ... أملاً لعقد حباله استحكام فبقيت للعلم الذي يهدي به ... وتقاعست عن يومك الأيام ومن ذلك قوله أيضاَ: يا من يبادلني عشقاً بسلوان ... أم من يصير لي شغلاً بإنسان كيما أكون له عبداً يقارضني ... وصلاً بوصل وهجراناً بهجران إذا التقينا لصلح بعد معتبة ... لم نفترق دون موعود يلقيان أقول والعيس تعروري الفلاة بنا ... سعر الأزمة من مثني ووحدان

لذات لوث عفرناه عذافرة ... كأن تضبيرها تضبير بنيان يا ناق لا تسأمي أو تبلغي ملكاً ... تقبيل راحته والركن سيان م خير من يمشي على قدم ... ممن برى الله من إنس ومن جان مقابل بين أملاك تفضله ... ولادتان من المنصور ثنتان مد الإله عليه ظل مملكة ... أضحى القصي بها كالأقرب الداني تنازع الأحمدان الشبه فاشتبها ... خلقاً وخلقاً كما حذ الشراكان إن يمسك القطر لم تمسك مواهبه ... ولي عهد يداه تستهلان هذا الذي قدم الله القضاء به ... ألا يكون له في فضله ثاني هو الذي امتحن الله القلوب به ... عما يجمجمن من كفر وإيمان وإن قوماً رجوا إبطال حقكم ... أمسوا من الله في سخط وعصيان لن يدفعوا حقكم إلا بدفعهم ... ما أنزل الله من آي وقرآن وإن الله سيفاً فوق هامهم ... بكف أبلج لا غمر ولا واني يستيقظ الموت منه عند هزته ... فالموت من نائم فيه ويقظان حدثني محمد بن عبد الأعلى القرشي قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد قال: قال الأصمعي:

ما رأيت أنجب من البرامكة رجالاً وأطفالاً، ولا أشرف منهم أحوالاً، ما أعلم أني حضرت يحيى والفضل وجعفراً إلا انصرفت عنهم ولإخواني بالحباء الجزيل. ثم قال: طرب الفضل بن يحيى إلى مذاكرتي، فأتاني رسوله، وكان يوماً بارداً ذا صر وقر. فقال: أجب الوزير. فمضيت معه، فلما دخلت عليه إذا هو في بهو له. قد فرش بالسمور، وهو في دست منه، وعلى ظهره دواج سمور أشهب، مبطن بخز، وبين يديه كانون فضة، فوقه أثفية ذهب، في وسطها تمثال أسد رابض، في عينيه ياقوتتان تتوقدان، وفوق الصينية إبريق زجاج فرعوني، وكأس كأنها جوهرة محفورة، تسع رطلاً، لا أظنها يفي بها مال كثير، وهو على سرير من عاج، وأنا على ثياب قطن. فسلمت عليه فرد السلام وقال لي: يا أصمعي. ليس هذا من ثياب هذا اليوم. قلت: أصلح الله الوزير. إنما يلبس الرجل ما يجد، فقال: يا غلام ألق عليه شيئاً من الوبر. فأتيت بمثل ما عليه فلبسته حتى الجورب، ثم أتي بخوان لم أدر ما جنسه، غير أني تحيرت في جنسه، وبصفحة مشمسة، فيها لون من مخ الطير، فتناولنا منها. ثم تتابعت الألوان، فأكلت من جميع ما حضر، ألا والذي اصطفى محمداً صلى الله عليه وآله بالرسالة ما عرفت منها لوناً واحداً، إلا أني لم آكل في الدنيا شيئاً يدانيها قط لذة وطيباً عند خليفة ولا ملك. ثم رفع الخوان، وأتينا بألوان من الطيب، فغسلنا أيدينا، وكنت كلما استعملت من لوناً ظننته أطيب ما في الدنيا من عطر فاخر، حتى إذا استعملت غيره زاده عليه طيباً، فلما فرغنا من ذلك إذا غلام قد أقبل معه جام بلور فيه غالية، قد ازرقت بكثرة العنبر، فتناولنا بملعقة من الذهب حتى نضحناه، فصرت كأني جمرة، ثم قال: أسقنا، فسقاه رطلاً وسقاني مثله، فما تجاوز والله لهاتي

حتى كدت أطير فرحاً وسروراً، وصرت في مسلاخ ابن عشرين طرباً. ودبت الشربة فخثرت ما بين الذؤابة والنعل، وكأن دبي الجراد يثب ما بين أحشائي وثباً، فلم أتمالك أن قلت: قاتل الله أبا نواس حيث يقول: إذا ما أتت دون اللهاة من الفتى ... دعا همه صدره برحيل فقال الفضل: هذا البيت له؟ قلت: نعم يا سيدي، قال: وليس إلا هذا البيت الواحد؟ قلت: أعز الله الوزير، هي أبيات، قال: هاتها، فأنشدته: وخيمة ناطور برأس منيفة ... تهم يدا من رامها بزليل حططنا بها الأثقال فل هجيرة ... عبور رية تذكى بغير فتيل نأيت قليلاً ثم فاءت بمزقة ... من الظل في رث الأباء ضئيل كأنا لديها بين عطفي نعامة ... جفا زورها عن مبرك ومقيل حلبت لأصحابي بها درة الصبا ... بصفراء من ماء الكروم شمول إذا ما أتت دون اللهاة من الفتى ... دعا همه صدره برحيل فلما توفي الليل جنحاً من الدجى ... تصابيت واستجملت غير جميل وأصبحت ألحي السكر والسكر محسن ... ألا رب إحسان عليك ثقيل

كفى حزناً أن الجواد مقتر ... عليه ولا معروف عند بخيل سأبغي الغنى إما نديم خليفة ... يقيم سواء، أو مخيف سبيل بكل فتى لا يستطار جنانه ... إذا نوه الزحفان باسم قتيل ليخمس مال الله في كل فاجر ... وذي بطنة للطيبات أكول أم تر أن المال عون على الندى ... وليس جواد معدم كبخيل قال: قاتله الله ما أشعره، يا غلام: أثبتها. ثم قال: أما والله لولا قاله الناس فيه ما فارقني، ولكن إذا فكرت فيه وجدت الرجل ماجناً خليعاً متهتكاً ألوفاً لحانات الخمارين فأترك نفعه لضره. فقلت: أصلح الله الوزير إنه مع ذلك بمكان من الأدب، ولقد جالسته في مجالس كثيرة، قد ضمت ذوي فنون من الأدباء والعلماء، فما تجاروا في شيء من فنونهم إلا جاراهم فيه، ثم برز عليهم، وهو من الشعر بالمحل الذي قد علمته، أليس هو القائل: ذكرتم من الترحال يوماً فغمنا ... فلو قد فعلتم صبح الموت بعضنا زعمتم بأن البين يحزنكم. نعم ... سيحزنكم حزناً ولا مثل حزننا تعالوا نقارعكم ليحقق عندكم ... من أشجى قلوباً أم من أسخن أعينا أطال قصير الليل يا رحم عندكم؟ ... فإن قصير الليل قد طال عندنا ومن يعرف الليل الطويل وهمه ... من الناس إلا من تنجم أو أنا خليون من أوجاعنا يعذلوننا ... يقولون: لو لم يعب بالحب لانثني يقومون في الأقوام يحكون فعلنا ... سفاهة أحلام وسخرية بنا فلو شاء ربي لابتلاهم بمثل ما اب ... تلانا فكانوا لا علينا ولا لنا سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالد ... هواك لعل الفضل يجمع بيننا

أخبار بكر بن النطاح ويكنى أبا وائل

مير رأيت المال في حجراته ... مهيناً ذليل النفس بالضيم موقنا ذا ضن رب المال ثوب جوده ... بحي على مال الأمير وأذنا وللفضل أجرا مقدما من ضبارم ... إذا لبس الدرع الحصينة واكتنى إليك أبا العباس من دون من مشى ... عليها امتطينا الحضرمي الملسنا قلائص لم تعرف كلالاً على الوجى ... ولم تدر ما قرع الفنيق ولا الهنا قال الفضل: قد عرفتك أنه لولا ما هو بسبيله من هذا الفتك ما فاتني قربه ومعاشرته، ثم قال: يا غلام، احمل إليه ألف دينار، فقلت للرسول: أعلمه أن الأصمعي عند الوزير. فتبسم وقال: يا غلام، وإلى بيت أبي سعيد ألف دينار. أخبار بكر بن النطاح ويكنى أبا وائل حدَّثني أبو مالك السعدي قال: حدَّثني سعيد بن المثنى قال: قال يزيد بن مزيد: وجه إلى أمير المؤمنين الرشيد ذات ليلة في وقت يرتاب فيه البريء فذهبت ألبس ثيابي فعاجلني الرسول، فمضيت إليه، فلما مثلت بين يديه قال: يا يزيد، من الذي يقول:

ومن يفتقر منا يعش بحسامه ... ومن يفتقر من سائر الناس يسأل ونحن وصفنا دون كل قبيلة ... بشدة بأس في الكتاب المنزل قلت: والذي أكرمك بالخلافة ما أعرفه. قال: فمن الذي يقول: فإن يك جد القوم فهر بن مالك ... فحسبي فخراً فخر بكر بن وائل ولكنهم فازوا بإرث أبيهم ... وكنا على أمر من الأمر باطل فقلت: لا وحقك يا أمير المؤمنين ما أعرفه. قال: بلى. أتظن يا يزيد أني أوطئك فراشي وبساطي، وأقلدك أمري. وأنا لا أعرف سرائرك ومخباتك؟ والله إن عيوني عليك حتى في فراشك، فلا تجعلن على نفسك سلطانا، هذا جلف من أجلاف ربيعة آويته عندك، ومكنته من مجلسك، فقال ما قال: فأتني به حتى أعرفه نفسه ليعلم أن ربيعة ليست كقريش. قال: فانصرفت وأحضرت بكر بن النطاح، فأعلمته القصة، وأمرت له بألفي درهم. وكان له عندي ديوان فأسقطته، وقلت له: الحق بالجزيرة، فخرج إليها، فلم يزل مستتراً بها حتى مات الرشيد، فرددته وزدت في عطائه ونزله. قال: وحدثت أن بكراً لما ورد على أبي دلف وقد مدحه، دعا به وقال: أنشدني، فأنشده، حتى إذا بلغ الموضع الذي يستمنحه فيه ويسأله قال: فأين ما قلت: ومن يفتقر منّا يعش بحسامه ... ومن يفتقر من سائر الناس يسأل فخجل بكر وأطرق ملياً، ثم قال: يا أيها الأمير، لو كان تحتي فرس من خيلك وفي يدي قناة من رماحك، وتقلدت سيفاً من سيوفك. لما قمت هذا المقام. قال: فدعا بجميع ما ذكره، وهميان فيه خمسمائة دينار ثم قال: امض فصدق قولك بفعلك.

فخرج من بين يديه. وأخذ طريق همذان يريد الجزيرة، فلما كان على مسيرة ثلاث من الكرج، استقبله مال عظيم قد حمل إلى أبي دلف من بعض نواحي أعماله، ومعه فرسان من رجاله، فشد عليهم، فقتل بعضهم، وهزم الباقين، واستولى على المال فذهب به. فلما بلغ الخبر أبا دلف ضحك وقال: لا نلوم إلا أنفسنا. نحن بعثناه على ذلك. ومما يختار من شعره قوله لأبي دلف: فكفك قوس والندى وتر لها ... وسهمك فيه اليسر فارم به عسري وقوله أيضاً: ولقد طلبنا في البلاد فلم نجد ... أحداً سواك إلى المكارم ينسب ومن طريف الشعر وبديعه قوله لأبي دلف: نادي نداك فاتوا هم إذا امرا ... ن يدعوا فاهبا كل مستمع زوروا الأمير وبيت الله تنتفعوا ... فاختار وجهك فينا كل منتفع أراد قول الله عز وجل: " وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً " ومما يستحسن أيضاً له قوله: ليس الفتى بجماله وكماله ... إنّ الجواد بماله يدعى الفتى ويستحسن أيضاً قوله: فتى لا يراعي جاره هفواته ... ولا حكمه في النائبات غريب حليم إذا ما الجهل أذهل أهله ... عن الحلم، مغشي الفناء نجيب

ومما يختار له قوله أيضاً: أهدي إليك نصيحتي ومودتي ... قبل اللقاء شواهد الأرواح وعلى القلوب من القلوب دلائل ... بالود قبل تشاهد الأشباح ومما يختار له أيضاً: لو كان خلفك أو أمامك هائباً ... أحداً سواك لهابك المقدار ومن قلائد وأمهات قصائده قوله: وليلة جمع لم أبت ناسياً لكم ... وحين أفاض الناس من عرفات ولم تنسنيك البيض بالخيف من منيّ ... وقد رحن أرسالاً إلى الجمرات فطوفن بالبيت العتيق لياليا ... وزرن فناء البيت العرصات كأن الدمى أشربن درعاً أوانس ... بدون لنا في العز والحبرات يغيب الدجى ما لم يغبن ويختفي ... إذا كن منه الدهر مختفيات جمعن جمالاً في كمال مبرز ... وسددن سلطانا على النظرات فزودني شوقاً إليك، وحسرة ... عليك إلى ما بي من الحسرات ذهبت بديباج الجمال ووشيه ... وصرن بما خلفت محتفيات تطاول ليلي بالحجاز ولم أزل ... وليلي قصير آمن الغدوات فيا حبذا بر العراق وبحرها ... وما يجتنى فيه من الثمرات

كفى حزناً ما تحمل الأرض دونها ... لنا من ذرا الأجيال والفلوات أبا مريم قيلوا بعسفان ساعة ... وروحوا على اسم الله والبركات ومروا على قبر النبي وأكثروا ... عليه من التسليم والصلوات وتلقاء مجدٍ فاستحثوا ركابكم ... ولا تغفلوا فالحبس في الغفلات إذا الغمرات استقبلتنا وأمعنت ... ففي خوضها المنجى من الغمرات تجاهل عبد الله والعلم ظنه ... على عالم بالمرءذي الجهلات ألست الخليع الجامع الرأس والذي ... يرد الصبا عودا على البدآت وما زال لي إلفاً وأنساً وصاحباً ... أخاً دون إخواني وأهل ثقاتي تناجت بما في قلبه عصيبة ... يمر لها حر على اللهوات نديم ملوك يحملون تدللي ... حنيناً إلى الفتيان والفتيات متى تشتمل بكر على بدارها ... أبت واثقاً بالجود والنجدات وفي أسد والنمر أبناء قاسط ... أمان من الأيام والغيرات وإن ذوي الإقدام والصبر والنهي ... لإخواننا ذهل على اللزبات وإن تشتمل قيس عليّ وتغلب ... أبت واثقاً بالمال والثروات وكم من مقام في ضبيعة معمر ... يضاف إلى الأشراف والسروات

وفي أكلب تلاد وطارف ... بعيد من التقصير والتبرات وما الفتك إلا في ربيعة والغنى ... وذب عن الأحساب والحرمات وقاد زمام الجاهلية منهم ... مناجيب سباقون في الجلبات وقادوا جيوشاً أولا بعد أول ... أقر لها عاد بكثر أداة مفاتيح أبواب الندى بأكفنا ... فسؤالنا يدعون بالشهوات ذا هلك البكري كان تراثه ... سنان وسيفٌ قاضب الشفرات ولم يدعوا من مال كسرى وجنده ... على الأرض شيئاً بعد طول بيات إذا لم يسلطنا القضاء على العدا ... منوا وابتلوا من خوفنا بخفات وكل قتيل من ربيعة ينتمي ... إلى حسب صعب المناكب عات وأول ما اختطوا اليمامة واحتووا ... قصوراً وأنهاراً خلال نبات وعاجت على البحرين منهم عصابة ... حمتها بأعلام لها وسمات وهم منعوا ما بين حلوان غيرة ... إلى الدرب درب الروم ذي الشرقات وأما بنو عيسى فماه ديارهم ... إلى ما حوت جو من القريات بنو حرة أدت أسوداً ضوارياً ... على الحرب وهابين للبدرات

على أعظم بالرايحان ودايه ... مقدسة تحت التراب رفات قفا واسألاها إن أجابت وجربا ... أبا دلف في شأنها الحسنات فتى ما أقل السيف والرمح مخرجعداه من الدنيا بغير بيات هو الفاضل المنصور والراية التي ... أدارت على الأعداء كأس ممات أذاق الردى جلويه في خيل فارس ... ونصراً فصاروا أعظما نخرات وما اعتورت فرسان قحطان قبله ... على أحد في السر والجهرات عدت خيله حمر النحور وخيلهم ... مخضبة الأكفال والربلات وصبح صبحاً عسقلان بعسكر ... بكى منه أهل الروم بالعبرات سعى غير وان عن عقيل وما سلا ... ولم يعد عن حرمان فالسلوات فبيتهم بالنار حتى تفرقوا ... على الحصن بالقتلى أشد بيات وجاس تخومات البلاد مصمماً ... على أهلها بالخيل والغزوات نفى الكرد عن شعبي نهاوند بعدما ... سقى فرض القربان بالرفقات وأورد ماء البشر بالبيض فارتوت ... وعلّ رماحا من دم نهلات ولم يثنه عن شهر زور مصيفها ... وورد أجاج الشرب غير فرات

ومن همذان قارعته كتيبة ... فآبت بطير النحس النكبات وبالحرشان استنزل القوم وحده ... يخرون للأذقان والجبهات ولم ينج منه طالب قبل طالب ... وقد أوسعا في الطعن هاك وهات بدين أمير المؤمنين ورأيه ... ندين وننفي الشك الشبهات فكل قبيل من معد وغيرها ... يرى قاسماً نوراً لدى الظلمات ولو لم يكن موت لكان مكانه ... أبو دلف يأتي على النسمات أبا دلف أوقعت عشرين وقعة ... وأفنيت أهل الأرض في السنوات تركت طريق الموت بالسيف عامراً ... تخرقه القتلى بغير وفاة صبرت لأن الصبر منك سجية ... على غدرات الدهر ذي الغدرات إلى أن رفعت السيف والرمح بعدما ... سموت فنلت النجم بالسموات ولبيت هارون الخليفة إذ دعا ... فألفيته في الله خير موات فأمنت سرباً خائفاً ورددته ... وألفت عجلاً بعد طول شتات أعدت اللحا فوق العصا فجمعتها ... وقد صيروا عجم العصا عبرات وألبست نعماك الفقير وغيره ... وأتبعت براً واصلاً بصلات فعزك مقرون بعلم وسؤدد ... وجودك مقرون بصدق عدات وما افتقدت منك القبائل ساعة ... جواداً يبذ الرمح حلف هبات ومالك ظللتنا منك بالخير نعمة ... جعلت لها أمثالها أخوات بسطت الغنى والفتك والخير والندى ... بشدة إقدام وحسن أناة

أبو دلف أفنى صفاتي مديحه ... وإني ليكفي الناس بعض صفاتي به ارتد ملك كاد يودي وأسبغت ... على آل عيسى أفضل النعمات بني قاسم مجداً رفيعاً بيوته ... وشاد بيوت المجد بالعزمات وأشبه عيسى في نداه وبأسه ... وفي حبّه الإفضال والصدقات وأشبه إدريس الذي حد سيفه ... تشب به النيران في الفلوات كأن جياد المقليين في الوغى ... جهنم ذات الغيظ الزفرات أبوه عمير قاد أبناء وائل ... إلى العز الكشاف للكربات بنو دلف بالفضل أولى لأنهم ... معادن أيقان بما هو آت كأن غمام العز حشو أكفهم ... إذا طبق الآفاق بالديمات هذا البيت أقرت الشعراء قاطبة أنه لا يكون وراءه حسن ولا جودة معنى، على أن القصيدة كلها نمط واحد دونه الديباج. إذا زرتهم في كل عام تباشروا ... ولم يغفلوا الإلطاف والنفحات فكم أصلحوا حالي وأسنوا جوائزي ... وأجروا على البذل والنفقات وإني على ما في يدي من حبائهم ... كمعن ومثلي طلحة الطلحات فمنية قومي أن أخلد فيهم ... ومنية أعدائي نفاد حياتي أنا الشاعر المملي على ألف كاتب ... ويسبق إملائي سريع فرات فأبدي ولا أروي لخلق قصيدة ... وأحسب إبليساً لحسن وراتي

أخبار الرقاشي

أخبار الرقاشي واسمه الفضل بن عبد الصمد الرقاشي، مولى ربيعة. حدَّثني أبو مالك قال: قال الفضل بن الربيع للفضل بن عبد الصمد الرقاشي ويلك يا رقاشي، أردت بوصيتك الخلاف على الصالحين. فقال له: جعلت فداك. لو علمت أني أعافى من علتي وأعيش ما أوصيت، فإنها من الذخائر النفيسة التي تدخر للموت. ووصيته هذه أرجوزة مزدوجة، يأمر فيها باللواط وشرب الخمر والقمار والهراش بين الديكة والكلاب، وهو يزعم - كما ترى - أنها تدخر لوقت الموت، مجوناً وخلاعة. وأولها: أوصى الرقاشي إلى خلانه ... وصية المحمود في إخوانه وهي مشهورة موجودة. حدثني إبراهيم بن تميم قال: حدَّثني المعلى بن حميد قال: الرقاشي من أهل الري من العجم، وفيه يقول أبو نواس يهجوه في موجدة وجدها عليه: وجدت الفضل أكرم من رقاش ... لأن الفضل مولاه الرسول أراد بذلك قول النبي صلى الله عليه وآله " أنا مولى من لا مولى له " حدثني ابن أبي الخنساء قال: حدثني أبي قال:

أخبار أبي العتاهية

لما قال أبو دلف قصيدته التي يقول فيها: ناوليني الدرع قد طا ... ل عن الحرب جمامي قال الرقاشي مجيباً له: جنبيني الدرع قد طا ... ل عن القصف جمامي واكسري البيضة والمط ... رد وابدي بالحسام واقذفي في لجة البح ... ر بقوسي وسهامي وبترسي وبرمحي ... وبسرجي ولجامي واعقري مهري أصاب الل ... هـ مهري بالصدام أنا لا أطلب أن يع ... رف في الحرب مقامي وبحسبي أن تراني ... بين فتيان كرام نهزم الراح إذا ما ... هم قوم بانهزام ونخلي الضرب والطع ... ن لأجساد وهام لشقيّ قال قد طا ... ل عن الحرب جمامي والرقاشي كثير الشعر، قليل الجيد، وكان منقطعاً إلى البرامكة يمدحهم يعيش بهم، فلما زال أمرهم خرج إلى خراسان، واتصل بطاهر بن الحسين، زال بها حتى مات. أخبار أبي العتاهية حدثني أبو الخصيب قال: حدثني المزيدي قال: أبو العتاهية اسمه إسماعيل بن القاسم وكنيته أبو إسحاق وهو مولى لعنزة،

ويرمى بالزندقة مع كثرة أشعاره في الزهد والمواعظ، وذكر الموت والحشر والنار والجنة والذي يصح لي أنه كان ثنوياً. حدَّثني أبو رجاء البصري قال: حدَّثنا علي بن معمر التميمي قال: حدثني شيخ من قدماء الكتاب قال: كنت: آتي أبا العتاهية فأنسخ أشعاره في الزهد وغيره، وكان له بنتان: إحداهما يقال لها بالله، والأخرى لله وكان له ابن زاهد ناسك، وكان مع ذلك شاعراً، إلا أنه قد تخلى من الدنيا. حدثني أبو الأزهر التبان عن أبي العنقاء البصري قال: كان أبو العتاهية أحد المطبوعين، وممن كاد يكون كلامه شعراً كله، وغزله لين جداً مشاكل لكلام النساء، موافق لطباعهن، وكذلك كان عمر بن أبي ربيعة المخزومي، والعباس بن الأحنف، وكان أبو العتاهية يتغزل في عتبة جارية رائطة بنت أبي العباس السفاح ويظهر عشقها، وكان يجيد الوصف. فمما قاله في عتبة قوله: أعلمت عتبة أنني ... منها على شرف مطل وشكوت ما ألقى إلي ... ها والمدامع تستهل حتى إذا برمت بما ... أشكو كما يشكو الأذل قالت: فأي الناس يع ... لم ما تقول فقلت: كل أجمع أهل الأدب أنهم لم يسمعوا قافية أحق بمكانها من قوله

فقلت كل وهي قصيدة مشهورة يغني بها. وحدثني المبرد قال: حدثني محمد بن البصري قال: كان أبو العتاهية، لسهولة شعره وجودة طبعه فيه، ربما قال شعراً موزوناً ليس من الأعاريض المعروفة، وكان يلعب بالشعر لعباً، ويأخذ كيف شاء. وحدثني إبراهيم بن العباس الكاتب عن أبيه قال: قال أبو العتاهية: قال لي المأمون: أنت أشعر أم أبو نواس؟ فقلت: أنا من قد علمت يا أمير المؤمنين، ولوددت أن أبيات أبي نواس لي فأستعلي بها على شعراء أهل الأرض، قال: وما هي؟ قلت قوله: ومستبعد إخوانه بثرائه ... لبست له كبر أبر على الكبر متى ضمني يوماً وإياه مجلس ... رأى جانبي وعراً يزيد على الوعر وقد زادني تيهاً على الناس أنني ... أراني أغناهم وإن كنت ذا فقر قال المأمون: أحسن الرجل أحسن. وحدثني المعروسي الكوفي قال: حدثني محمد بن زياد - كان يروي لأبي العتاهية شعراً كثيراً قال: جلس أبو العتاهية يوماً إلى قصار فسمع صوت الكدين فقال باقتداره شعراً على إيقاعه، منه هذا البيت: المنون مفنيات ... واحداً فواحدا كأنه نظر إلى القصار أخذ ثوباً بعد ثوب، فشبهه بأخذ الموت إنساناً بعد إنسان، وأخذ الوزن من وقع الكدين. ومما سار له قوله: بسطت كفي نحوكم سائلاً ... ماذا تردون على السائل إن لم تنيلوه فقولوا له ... قولاً جميلاً بدل النائل

أو كنتم العام على عسرة ... ويلي فمنوه إلى قابل ولهذا الشعر من قلوب النساء موقع الزلال البارد من الظمآن لرقته، وحدثني أبو البلاد عن الأخوص الأصغر قال: كانت عتبة التي يسبب بها ويظهر عشقها أبو العتاهية جارية لرائطة بنت أبي العباس السفاح، وكان رائطة تحت ابن عمها المهدي بن المنصور أمير المؤمنين، فلما بلغ المهدي إكثاره في شعره من ذكرها ووصفها غضب وقال: ما يجد هذا الجرار أحداً يعبث بحرمة غيرنا؟ وكان أبو العتاهية قديماً يبيع الجرار في سوق الكوفة، ثم تأدب فارتفع بأدبه. قال: فأمر بحبسه، فعمل أبو العتاهية من قبل يزيد بن منصور خال المهدي - وكان أعز الناس إليه - حتى تخلص، فعاد إلى مثل حاله معها، فلما طال هذا دخلت رائطة على المهدي فشكته وقالت: قد شهر بجاريتي بشعره وفضحها، واحفظته عليه، فأحضره وضربه بالسياط في الدواوين بين يديه، وكان ضعيف البنية فغشى عليه، فلما أفاق رفع رأسه فإذا بعتبة واقفة تنظر إليه من سطح فقال: بخ بخ يا عتب من مثلكم ... قد قتل المهدي فيكم قتيل فتعجب المهدي ورق له ورحمه، وأمر بالإحسان إليه، ووعده بالجارية أن يستوهبها من مولاتها ويدفعها إليه، فلما علمت الجارية ذلك، وألح أبو العتاهية على المهدي يقتضيه ما وعده بشعره قالت: يا أمير المؤمنين أستجير في مروءتك وشرفك وما يلزمك من حق خدمتي وصحبتي أن تخرجني من دار النعمة إلى بائع جرار سوقي دنيء النفس، وبعد، فإنما يريد الذكر والشهرة،

وليس بعاشق، فإن أردت أن تعرف ما يقول فمر له بمال له خطر، فإنه سيلهيه عني ويشغله عن ذكري، فأمر له المهدي بمائة ألف، ولم يسم ورقاً ولا عيناً، فأورد أبو العتاهية توقيعة بذلك على الكتاب، فأعطوه مائة ألف درهم على أنه لم يسم شيئاً، فأبى ولم يرض وقال: أنا لا أراه وقع لي بمائة ألف دينار، فإنه لم يكن ليعوضني منها أقل من هذا، فقالوا: حتى نؤامره إذاً في هذا الكتاب، وكان يتردد شهراً يطالب به، فأشرقت عليه عتبة وقالت له: - وقد دخل الدار يقتضي ذلك -: يا صفيق الوجه، لو كنت عاشقاً لشغلك العشق عن المفاضلة بين الدراهم والدنانير. وبلغ كلامها المهدي، فعلم أنها كانت أعرف بقصة الرجل، فأمسك عن أمره. ولأبي العتاهية في الرشيد وكان وجد عليه فحبسه فكتب إليه: تفديك نفسي من كل ما كرهت ... نفسك إن كنت مذنباً فاغفر يا ليت قلبي لديك صور ما ... فيه لتستيقن الذي أضمر فرق له، ووقع في رقعته: لا بأس عليك، فاطمأن إلى ذلك. ثم تمادى مكثه في الحبس فكتب إليه: كأن الخلق ركب فوق روح ... له جسد وأنت عليه رأس أمين الله إن الحبس بأسٌ ... وقد وقعت: ليس عليك باسُ فأمر بإطلاقه. ومما كتب إليه في الحبس أيضاً هذا: إنما أنت رحمة وسلامة ... زادك الله غبطة وكرامة

قيل لي قد رضيت عني فمن لي ... أن أرى لي على رضاك علامه وحقيق ألا يراع بسوء ... من رآك ابتسمت منه ابتسامه لو توجعت لي فروحت عني ... روح الله عنك يوم القيامة وكان الرشيد حين حبسه جعل أمره خادم له يقال له ماهر، وكان يحسن إليه، فهو يقول: كفاني العناية من أمره ... بتشمير ما كان من غرسه وكان الشفيع إلى غيره ... فصار الشفيع إلى نفسه وحدثني بعض أهل الأدب قال: أهدي أبو العتاهية إلى الرشيد نعلاً وكتب إليه: نعل بعثت بها لتلبسها ... قدماً تسير بها إلى المجد لو كان يمكن أن أشركها ... خدي جعلت شراكها خدي وسمع رجل أبا العتاهية ينشد: فانظر بعينك حيث شئ ... ت فلن ترى إلا بخيلا أراد ما في صورة الإسراء " قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتوراً " فقال الرجل: يا أبا العتاهية بخلت بجميع الناس، قال: فأكذبني بواحد. حدثني محمد بن راشد الكاتب عن ابن جبلة البنوي قال: أتى أبو العتاهية باب أحمد بن يوسف كاتب المأمون، فحجب عنه فقال: متى يظفر الغادي بحاجة ... ونصفك محجوب ونصفك نائم

فسار بيته هذا في الأفاق، وجعل الناس يتناشدونه، فاعتذر إليه. ومما يستحسن له في المواعظ والحكمة: وعظتك أجداث صمت ... ونعتك أزمنة خفت وتكلمت عن أوجه ... تبلى وعن صور شتت وأرتك قبرك في القبو ... ر وأنت حيّ لم تمت وله في استبطاء بعض الناس، وما سمع بأحسن منها: ما أنا إلا لمن يراني ... أرى خليلي كما يراني لست أرى ما ملكت أمري ... مكان من لا يرى مكاني من ذا الذي يرتجي الأقاصي ... إن لم ينل خيره الأداني فلي إلى أن أموت رزق ... لو جهد الخلق ما عداني لا يكرم الدهر كل من لا ... يصلح إلا على الهوان واستغن بالله عن فلان ... وعن فلان وعن فلان فالمال من حله صيان ... للوجه والعرض واللسان والفقر بيت عليه قفل ... مفتاحه العجز والتواني ولا تدع مكسباً حلالاً ... تكون منه على بيان ورزق ربي له وجوه ... هن من الله في ضمان سبحان من لم يزل عليا ... ليس له في العلو ثاني قضى على خلقه المنايا ... فكل شيء سواه فاني يا رب لم نبك من زمان ... إلا بكينا على زمان

أخبار مسلم بن الوليد الأنصاري

وهو القائل أيضاً: نعمى نفسي إليّ من الليالي ... تصرفهن حالاً بعد حال فما لي لست مشغولاً بنفسي ... ومالي لا أخاف الموت مالي لقد أيقنت أن غير باق ... ولكني أراني لا أبالي أمالي عبرة في ذكر قوم ... تفانوا ربما خطروا ببالي كأن ممرضي قد قام يسعى ... بنعشي بين أربعة عجال وخلفي نسوة يبكين شجواً ... كأن قلوبهن على المقالي تعالى الله يا سلم بن عمرو ... أذل الحرص أعناق الرجال هب الدنيا تساق إليك عفواً ... أليس مصير ذاك إلى الزوال فما ترجو بشيء ليس يبقى ... وشيكاً ما تغيره الليالي بلوت الناس قرناً بعد قرن ... فلم أر غير خلاب وقالي وذقت مرارة الأشياء جمعاً ... فما شيء أمر من السؤال ولم أر في الأمور أشد هولاً ... وأفظع من معاداة الرجال وأشعار أبي العتاهية كثيرة جداً، إلا أنها مشهورة وموجودة، وفيما أوردناه منها كفاية. أخبار مسلم بن الوليد الأنصاري وهو صريع الغواني. حدثني صالح بن محمد العوفي قال: حدَّثنا إبراهيم بن أبي يحيى المدني الأنصاري قال:

كان مسلم بن الوليد صريع الغواني مداحاً محسناً مجيداً مفلقاً، وهو أول من وسع البديع، لأن بشار بن برد أول من جاء به. ثم جاء مسلم فحشا به شعره، ثم جاء أبو تمام فأفرط فيه وتجاوز المقدار. وجل مدائح مسلم في يزيد بن مزيد، وداود بن مزيد، وفي البرامكة. وقد مدح الخلفاء حدثني ابن المغير قال. كان مسلم بن الوليد مدح الرشيد باللامية السائرة، فلما دخل عليه فأنشده وبلغ قوله:؟ هل العيش إلا أن تروح مع الصبا وتغدو صريع الكأس والأعين النجل قال له: أنت صريع الغواني. فسمي بذلك حتى صار لا يعرف إلا به. ويقال: إن الرشيد كتب شعره بماء الذهب. وأول القصيدة: أديرا الكأس لا تشربا قبلي ... ولا تطلبا من عند قاتلي ذحلي وهي مشهورة سائرة جيدة عجيبة. ومما يستحسن له - على أن شعره كله ديباج حسن لا يدفعه عن ذلك أحد - قوله: فإني وإسماعيل يوم وداعه ... لكالغمد يوم الروع زايله النصل فإن أغش قوماً بعده أو أزرهم ... فكالوحش يدنيها من الأنس المحل وهذا معنى لا يتفق للشاعر مثله في ألف سنة. وهو القائل في يزيد بن مزيد في قصيدة له جيدة طويلة عجيبة. موف على مهج في يوم رهج ... كأنه أجل يسعى إلى أمل

لا يرحل الناس إلا نحو حجرته ... كالبيت يضحى إليه ملتقى السبل يكسو السيوف نفوس الناكثين به ... ويجعل الروس تيجاناً على الذيل قد عود الطير عادات وثقن بها ... فهن يتبعنه في كل مرتحل تراه في الأمن في ردع مضاعفة ... لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل لله من هاشم في أرضه جبل ... وأنت وابنك ركنا ذلك الجبل صدقت ظني وصدقت الظنون به ... وحط جودك جل الرحل عن جملي وأول هذه القصيدة: أجررت حبل خليع في الصبا غزل ... وشمرت همم العذال في العذل وهي كما قلنا مشهورة، فتركناها إلا هذه الأبيات فإنها من عيون القصيدة، وإن كانت القصيدة كلها عينا. ومما سار له من هجوه قوله: يا ضعيف موسى أخي خزيمة صم ... أو فتزود إن كنت لم تصم أطرق لما أتيت ممتدحاً ... فلم يقل لا فضلاً على نعم فخفت إن مات أن أقاد به ... فقمت أبغي النجاة من أمم لو أن كنز البلاد في يده ... لم يدع الإعتلال بالعدم ومما يختار له أيضاً قوله: لن يبطئ الأمر ما أملت أوبته ... إذا أعانك فيه رفق متئد والدهر آخذ ما أعطي مكدر ما ... أصفى ومفسد ما أهوى له بيد فلا يغرك من دهر عطيته ... فليس يترك ما أعطي على أحد

ومما يستملح له قوله: شججتها بلعاب المزن فاغتزلت ... نسجين من بين محلول ومعقود أهلاً بوافدة للشيب واردة ... وإن تراءت بشخص غير مودود لا أجمع الحلم والصهباء قد سكنت ... نفسي إلى الماء عن ماء العناقيد ومما يختار له قوله للفضل بن يحيى أو الفضل بن جعفر بن يحيى: تساقط يمناه الندى وشماله ال ... ردى وعيون القول منطقه الفصل بكف أبي العباس يستمطر الغنى ... وتستنزل النعمى ويسترعف النصل متى شئت رفعت الستور عن الغنى ... إذا أنت زرت الفضل أو أذن الفضل ومن السائر الذي يروي له قوله في السفينة: كشفت أهاويل الدجى عن مهولة ... بجارية محمولة حامل بكر إذا أقبلت راعت بقلة قرهب ... وإن أدبرت راقت بقادمتي نسر أقلت بمجدافين يعتورانها ... وقومها كبح اللجام من الدبر كأن الصبا تحكي بها حين واجهتنسم الصبا مشي العروس إلى الخدر ركبنا إليه البحر في أخرياته ... فأوفت بنا من بعد بحر إلى بحر ومما يستملح له حسن تشبيه وجودة معنى قوله: إبريقنا سلب الغزالة جيدها ... وحكى المدير بمقلتيه فزالا

يسقيك باللحظات كأس صبابة ... ويعيدها من كفه جريالا ومن مختاراته أيضاً قوله: إذا شئتما أن تسقياني مدامة ... فلا تقتلاها، كل ميت محرم خلطنا دماً من كرمة بدمائنا ... فأظهر في الألوان منا الدم الدم ومن بديع ما يروي له قوله: إن كنت تسقين عين الراح فاسقيني ... كأساً ألذ بها من فيك تشفيني عيناك راحي وريحاني حديثك لي ... ولون خديك لون الورد يكفيني ومن بدائعه أيضاً قوله: خفين على ريب المنون وغصت ال ... رين فلم ينطق لها أبداً ححل ولما تلاقينا قضى الليل نحبه ... بوجه كوجه الشمس ما إن له مثل وخال كخال البدر في وجه مثله ... لقينا المنى فيه فحاجزنا البذل وماء كماء الشمس لا يقبل الأذى ... إذا درجت فيه الصبا خلته يغلو من الضحك الغر اللواتي إذا التقت ... تحدث عن أسراره السبل السبل صدغنا به حد الشمول وقد طغت ... فألبسها حلماً وفي حلمها جهل ومما يستحسن من لاميته في الرشيد قوله: ومانحة شرابها الملك قهوة ... يهودية الأصهار مسلمة البعل بعثنا لها منا خطيباً لبضعها ... فجاء بها يمشي العرضنة في مهل

قد استودعت دناّ فهو قائمٌ ... بها شغفاً بين الكروم على رجل شققنا لها في الدن عيناً فأسبلت ... كألسنة الحيات خافت من القتل ويختار من قوله هجوه لسعيد بن سلم: وأحببت من حبها الباخلي ... ن حتى ومقت ابن سلم سعيدا إذا سيل عرفاً كسا وجهه ... ثياباً من اللوم صفرا وسودا ومما السحر معناه رقة وحسناً إذا التقينا منعنا النوم أعيننا ... ولا تلائم غمضاَ حين نفترق أقر بالذنب مني لست أعرفه ... كيما أقول كما قالت فنتفق حبست دمعي على ذنب تجدده ... فكل يوم دموع العين تستبق ومن جيد ما يروى له قوله: فما سلوت الهرى جهلاً بلذته ... ولا عصيت إليه الحلم من خرق يا واشياً أحسنت فينا إساءته ... نجي حذارك إنساني من الغرق ويختار له أيضاً قوله في غلبة اليأس على النفس والرجوع إلى الطمع: أعاود ما قدمته من رجائها ... إذا عاودت باليأس منها المطامع رأتني عمى الطرف عنها فأعرضت ... وهل خفت إلا ما تشير الأصابع وما زينتها النفس لي عن لجاجة ... ولكن جرى فيها الهوى وهو طائع مللت من العذال فيها فأطرقت ... لهم أذن قد صم عنها المسامع فأقسمت أنسى الداعيات إلى الصبا ... وقد فاجأتها العين والستر واقع ومما يستحسن له في الزهد قوله: كم رأينا من أناس هلكوا ... فبكى أحبابهم ثم بكوا

أخبار أبان بن عبد الحميد اللاحقي

تركوا الدنيا لمن بعدهم ... ودهم لو قدموا ما تركوا كم رأينا من ملوك سوقوا ... ورأينا سوقة قد ملكوا وضع الدهر عليهم بركة ... فاستداروا حيث دار الفلك أخبار أبان بن عبد الحميد اللاحقي حدثني عبد الرحيم بن ميمون البصري قال: حدثني أبو هفان قال: كان أبان اللاحقي شاعراً أديباً، عالماً ظريفاً منطقياً، مطبوعاً في الشعر، مقتدراً عليه، يقتضب الخطب، ويرسل الرسائل الجياد، وهو صاحب البرامكة وشاعرهم وصاحب جوائزهم للشعراء، وهو يستخرجها لهم ويفرقها عليهم، وهو الذي نقل كليلة ودمنة شعراً بتلك الألفاظ الحسنة العجيبة، وهي هذه المزدوجة التي في أيدي الناس، وكان الذي استدعى ذلك وأراده يحيى بن خالد بن برمك، وكان قد اختار أبا نواس، فصار إليه أبان اللاحقي فقال كالمنتصح: أنت رجل مغرم بهذا الشراب لا تصبر عنه وعن الاجتماع مع إخوانك عليه، وهو لذتك من الدنيا ومتعتك، وهذا الكتاب مشهور، ولم ينتقل إلى هذا الوقت من المنثور إلى الشعر، وإذا فعل ذلك تداوله الناس وطلبوه ونظروا فيه، فإن أنت توليته مع تشاغلك بلهوك ولذتك لم يتوفر عليه فكرك وخاطرك، ولم يخرج بالغاً في الجودة

أخبار منصور النمري

والحسن، وإن توفرت عليه واهتممت به قطعك ذلك عن لهوك ولذتك ومتعتك. فلا تقدم عليه إلا بعد إنعام النظر في أمرك. فظن أبو نواس أنه قد نصح له، واستقال الأمر فيه، فاستعفى عنه، وتخلى به اللاحقي، ولزم بيته لا يخرج حتى فرغ منه في أربعة أشهر، وهي قريبة من خمسة آلاف بيت، لم يقدر أحد من الناس أن يتعلق عليه بخطإ في نقله، ولا أن يقول: ترك من لفظ الكتاب أو معناه. ثم حمله إلى يحيى بن خالد، فسر به سروراً عظيماً، وأعطاه على ذلك مائة ألف درهم. فحزن أبو نواس وحسده، وتبين له أنه كان احتال عليه. فهذا سبب ما كان بينهما من العداوة. وكان في جميع أحواله أرفع طبقة من أبي نواس. وقد هجاه أبو نواس بشعر كثير. فما سار له فيه شيء على شهرة شعره، ولم يقل في أبي نواس غير ثلاثة أبيات، وقد سارت في الدنيا، وهي هذه: أبو نواس بن هاني ... وأمه جلبان والناس أفطن شيءٍ ... إلى حروف المعاني إن زدت بيتاً على ذي ... ما عشت فاقطع لساني أخبار منصور النمري واسمه منصور بن سلمة بن الزبرقان، وهو من رأس العين. ويكنى أبا الفضل حدثني أبو رجاء الضحاك بن رجاء الكوفي قال: حدثني ابن عبدل قال: مر منصور النمري يوماً بالعتابي - وكان صديقاً له، وكان النمري

يجل العتابي ويعظمه لقناعته وديانته، ولعلمه مع ذلك وسعة أدبه - فسلم عليه فرأى به العتابي كآبة. فقال له النمري إني مغتم بامرأتي فلانة، فإنها تمخض منذ ثلاث وقد عسرت عليها ولادتها، فقال له العتابي: ويحك، فأين تركت الحزم ودواؤها عندك؟ قال: وما هو؟ فقال: تكتب على متاعها: الرشيد، حتى تسهل ولادتها فإنما عسر الولادة من ضيق المسلك. وإذا كتبت الرشيد على فرجها اتسع. فغضب النمري واختلط. وقال ويحك، أشكو إليك مثل هذا الأمر أفتستقبلني بمثل هذا، وتستخف باسم أمير المؤمنين وذكره؟ فقال العتابي: فلا تغضبن فأنت علمتنا هذا. ألست القائل في الرشيد في قصيدتك العينية: إن أخلف القطر لم تخلف مخايله ... أو ضاق أمر ذكرناه فيتسع - وهذه القصيدة عجيبة في المدح فصيحة، وتشبيبها في الشيب لم يقل مثله أحد - فاستحكم غضب النمري وغيظه عليه، ومر من وجهه ذلك إلى الرشيد فأعلمه، وحكى لفظه، ففار كما يفور المرجل غيظاً عليه، وحلف ليقتلنه. وكان جعفر بن يحيى يستخص العتابي ويقربه ويعاشره، فما زال بالرشيد حتى عفا عنه، ورضي وسكنت نفسه. وسكت العتابي على هذه مدة، حتى تمكن من الرشيد بعلمه وغزارة أدبه، فإنه كان بحراً لا ينزف، وحضر مجلسه ليلة يسامره، والنمري غائب بالرقة، فتحدث عنه طويلاً وأجرى الحديث إلى ذِكر الروافض محمداً، ثم أنشده القصيدة التي للنمري وأولها: شاء من الناس رابع هامل ... يعللون النفوس بالباطل

تقتل ذرية النبي وير ... جون خلود الجنات للقاتل ويلك يا قاتل الحسين لقد ... بؤت بحمل ينوء بالحامل أي حباء حبوت أحمد في ... حفرته من حرارة الثاكل بأي وجه تلقى النبي وقد ... دخلت في قتله مع الداخل هلم فاطلب غداً شفاعته ... أو لا فرد حوضه مع الناهل ما الشك عندي في حال قاتله ... لكنني قد أشك في الخاذل نفسي فداء الحسين يوم غدا ... إلى المنايا غدو لا قافل ذلك يوم أخنى بشفرته ... على سنام الإسلام والكاهل حتى متى أنتِ تعجلين: ألا ... تنزل بالقوم نقمة العاجل لا يعجل الله إن عجلت وما ... ربك عما ترين بالغافل وعاذلي أنني أحب بني ... أحمد فالترب في فم العاذل قد دِنت ما دينكم عليه فما ... وصلت من دينكم إلى طائل دينكم جفوة النبي وما ال ... جافي لآل النبي كالواصل فلما بلغ قوله في ذكر فاطمة عليه السلام وأمر فدك، وذكر أبي بكر وعمر، وزعمه أنهما ظلماها في أمر فدك وهو قوله: مظلومة والإله ناصرها ... تُديرُ أرجاء مقلة حافل قال له الرشيد: يا عتابي، من قال هذا؟ قال: عدوك يا أمير المؤمنين الذي تظن أنه وليك. فقال: ويلي على ابن الفاعلة، يحض الناس على الخروج علي، يضمر عداوتي ويظهر من موالاتي ما يظهر، وقد اقتني مني هذه الأموال، ومنزلته هذه المنزلة - وكان منصور يعتزي إلى الرشيد بالخؤولة من جهة نتيلة النمرية أم العباس بن عبد المطلب، وكان يمدح الرشيد بالمدائح

الجياد التي ليس لأحد مثلها، وكان يصله بالصلات الجزيلة، وكان النمري يدين بالإمامة سراً، ويمدح آل الرسول، ويعرض في شعره بالسلف، والرشيد لا يعلم ذلك حتى كثر، وكان ذلك اليوم - ثم أقبل العتابي يحضه، ويذكر مذهبه، وينشد شعره في الطالبيين شيئاً بعد شيءٍ، فدعا الرشيد بأبي عصمة الشيعي وهو من الزيدية في شيعة بني العباس. فقال له: اخرج من ساعتك هذه إلى الرقة، فخذ منصوراً النمري، فسل لسانه من قفاه، واقطع يده ورجله، ثم اضرب عنقه، واحمل إلى رأسه، واصلب هناك بدنه. فخرج أبو عصمة لذلك، فلما صار بباب الرقة، وهو يدخل المدينة، إذا هو بجنازة النمري قد استقبلته فانكفأ راجعاً إلى الرشيد فاعلمه. فقال له: فألا إذ صادفته ميتاً أحرقته بالنار؟ وهو القائل بقصيدته التي يمدح فيها الرشيد: يا بن الأئمة من بعد النبي ويا أب ... ن الأوصياء أقر الناس أم دفعوا لولا عدي وتيم لم تكن وصلت ... إلى أمية تمريها وترتضعُ إن الخلافة كانت إرث والدكم ... من دون تيم وعفو الله متسع وما لآل علي في إمارتكم ... حق وما لهم في إرثكم طمع يا أيها الناس لا تغرب عقولكم ... ولا تضفكم إلى أكنافها البدع العم أولى من ابن العم فاستمعوا ... قول النصيح فإن الحق يستمع وقد أقام القيامة في تشبيب هذه القصيدة بالشباب فالتشبيب منها: أودى الشباب وفاتتني بشرته ... صروف دهر وأيام لها خدع ما كنت أوفي شبابي كنت غرته ... حتى انقضى فإذا الدنيا له تبع

إن كنت لم تطمعي ثكل الشباب ولم ... تشجى بغصته فالعذر لا يقع وأول هذه القصيدة: ما تنقضي حسرة مني ولا جزع ... إذا ذكرت شباباً ليس يرتجع ورووا أنه دخل على الرشيد يوماً فانشده: بني حسن وقل لبني حسينٍ ... عليكم بالسداد من الأمورِ أميطوا عنكم كذب الأماني ... وأحلاماً يعدن عدات زور مننت على ابن عبد الله يحيى ... وكان من الحتوف على شفير ولو جايت ما اقترفت يداه ... دلفت له بقاصمة الظهور يدٌ لك في رقاب بني علي ... ومن ليس بالمن الصغير وإنك حين تبلغهم أذاة وإن ظلموا لمحترق الضمير ألا لله در بني علي ... وزور من مقالتهم كبير يُسمون النبي أباً، ويأبى ... من الأحزاب سطر في سطور يريد قوله عز وجل " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله " قال: فقال الرشيد لما سمع قوله: وإنك حين تبلغهم أذاةوإن ظلموا لمحترق الضمير ويحك، ما هذا؟ شيء كان في نفسي منذ عشرين سنة لم أقدر على إظهاره فأظهرته بهذا البيت. ثم قال للفضل بن الربيع: خذ بيد النمري فأدخله بيت المال، ودعه يأخذ ما شاءَ، فأدخلني وليس فيه إلا سبع وعشرون بدرة، فاحتملتها. وأخذ النمري على شعره في دفعتين ما لم يأخذه شاعر قط: إحداهما

هذه، والأخرى أن الرشيد كان بالرقة، وكان يستحسنها ويستطيبها، فيقيم بها، وأطال المقام بها مرة، فقالت زبيدة للشعراء: من وصف مدينة السلام وطيبها في أبيات يشوق أمير المؤمنين إليها أغنيته. فقال في ذلك جماعة، منهم النمري قال أبياتاً أولها: ماذا ببغداد من طيب أفانين ... ومن عجائب للدنيا وللدين إذا الصبا نفحت والليل معتكر ... فحرشت بين أغصان الرياحين فوقعت أبياته من بين جميع ما قالوا، وانحدر الرشيد إلى بغداد. فوهبت زبيدة للنمري جوهرة. ثم دست إليه من اشتراها، بثلاثمائة ألف درهم. ومن جيد ما قال في آل الرسول عليهم السلام: آل الرسول ومن يحبهم ... يتطامنون مخافة القتلِ أمن النصارى واليهود وهم ... من أمة التوحيد في أزلِ وله الميمية التي يغني بها، يمدح فيها الرشيد وهي جيدة أولها: يا زائرينا من الخيامِ ... حياكما الله بالسلام لم تطرقاني وبي حراك ... إلى حلال ولا حرامِ هيهات للهو والتصابي ... وللغواني وللمدامِ أقصر جهلي وثاب حلمي ... ونهنه الشيب من عرامي لله حبي وترب حبي ... ليلة أعياهما مرامي آذنتاني بطول هجري ... وعدتاني مع السوامِ وانطوتا لي على ملامٍ ... والشيب شر من الملام

أخبار البطين

بورك هارون من إمام ... بطاعة الله ذو اعتصام يسعى على أمة تمنى ... أن لو تقية من الحمام لو استطاعت لقاسمته ... أعمارها قسمة السهام يا خير ماض وخير باقٍ ... بعد النبيين في الأنام وميميته في المأمون وهو ولي عهد عجيبة، قد صارت مثلاً في سائر الناس وأولها: لعل عُذراً وأنت تلومْ ... وكم لائم قد لام وهو مُليم وأشعار النمري في آل الرسول عليهم السلام كثيرة جيدةً، من أجود ما مُدحوا به. وكذلك ما له في المدح والغزل كله جيد. وهو من فحولة المحدثين. وله أخبار كثيرة ونوادر. أخبار البطين حدثني أبو ريحان قال: قال لي سليمان بن علي: كان طول البطين اثني عشر شبراً بأتم ما يكون من أشبار الناس، ولم ير في زمانه أحد أطول منه، وكان يرعب من رآه. وكان مع ذلك قبيح الوجه، فكان إذا أقبل لا يشك من يراه أنه شيطان، حتى يحاوره فيصيب منه آدب الناس وأفصحهم، وكان مع ذلك فاسقاً معلناً بفسقه، وكان أحمق خلق الله مع ذلك الأدب والفصاحة. حدثنا أبو عدنان قال: حدثنا عبد الصمد بن إبراهيم الخزري قال:

عشق البطين جارية من أهل الرملة يهودية، فرام تزوجها، فأبى قومها أن يزوجوه لإسلامه، فلما رأى امتناعهم بذلك السبب تهود، ومكث على اليهودية سنين حتى تزوجها، ثم عاد إلى الإسلام. وفي البطين يقول أبو خالد الغنوي: وإن حراً أدى البطين بزحرةٍ ... ولم تنفتق أقطاره لرحيبُ وإن زماناً أنطق الشعر مثله ... وأدخله في عدنا لعجيب ويحشر يوم البعث أما لسانه ... فعي وأما دُبره فطيب وحدثنا عن الخصيبي قال: قال البطين - وكان من أهل حمص - لما خرج أبو نواس من العراق يريد مصر زائراً للخصيب، وبلغنا أنه يجتاز بنا، لم أزل أترقب وروده حمص، حتى قيل: قد وفد، فمضيت إلى الحان فإذا برجل له هيئة، في إزار مُعصفر، وهو جالس على درجة الحان، في يده جردق من جرادق يفركها ويطرحها للعصافير، فسلمت عليه وقلت: أين نزل أبو نواس؟ قال: ويحك ألا نظرت إلى مظلمة الكفر، فلا تحتاج إن تسأل؟ فمضيت به إلى منزلي، فأقام عندي أياماً ثم شيعته أميالاً. وكان جيد الشعر محكمه، يشبه نمطه نمط الأعراب. وهو القائل: لم أقل عند الكريهة يا ... ليتني في الخفض والدعة بل تسربلتُ الحفاظ على ... ميت، في الصدر لم يمت

وحسام لا يطيق صداً ... كانصباب الكوكب الكفتِ وُصلتْ بالموت هبته ... كاتصال السم بالحمة فهو ما أحببت من وزرٍمطرق ما لم يهج حفتِ يا أبا العباس ليس على ... جمجمات البين من صلتِ مُنيتْ نفسي بواحدة ... منك لم تدرك ولم تفت رعية العهد التي وصلت ... بقواها قوة المقة فأذني من إضاعتها ... إن هذاك من الضعة لم يزل شكريك متصلاً ... بلساني لك والشفة فإذا قابلت معضلة ... كنت مصغاتي وملتفتي وله أيضاً: ذروني وكلباً أنني اليوم إلبها ... كما هي لي في كل نائبة إلبُ ألا لا أبالي عتب من كان عاتبا ... يمر برأسي دون ما رضيت كلبُ ومما يستحسن له قوله: لله قلب سما بحبكم ... لم يألُ في مرتقاه مرتفعا

أخبار أشجع السلمي

لم يضع الحب غير موضعه ... ولا سعى في السلوحين سعى أحببت قلبي لما أحبكم ... وصار أمري لأمره تبعا وهذا معنى بديع قلما يرزق الشاعر مثله، وفيها يقول: شيعت قلبي إلى مشيئته ... متبعاً في الهوى ومتبعا ورب قلب يقول صاحبه ... تعساً لقلبي فبئس ما صنعا يا من تعريتُ من تعطفه ... ومن كساه وتعطفي خلعا ما هبت الريح من بلادكم ... إلا تقطعت إثركم قطعا ولا استقلت من نحو بلدتنا ... إلا تمنيت أن نكون معا ومما يستحسن له قوله أيضاً، وهي أيضاً كأنها أعرابية: رميننا خمسة ورموا نُعيماً ... وكان الموت للفتيان زينا فلما لم ندع ندباً ورمحا ... بركنا للكلاكل فارتمينا فإنك لو رأيت بني أبينا ... وشدتهم وعكرتهم علينا لعمر الباكيات على نعيم ... لقد عزت رزيته علينا فلا تبعد نعيم فكل حي ... سيلقى من صروف الدهر حينا أخبار أشجع السلمي حدثني أبو علي الحسين بن بسطام قال: قال أبو تمام الطائي: كان أشجع السلمي رديء المنظر قبيح الوجه، مصاباً بعين، وكان على قلب الرشيد ثقيلاً من بين الشعراء، فدخل عليه يوماً فقال: يا أمير المؤمنين

إن رأيت أن تأذن لي في إنشادك، فإني إن لم أظفر منك ببغيتي في هذا اليوم فلن أظفر بها. قال: وكيف؟ قال: لأني مدحتك بشعر لا أطمع من نفسي ولا من غيري في أجود منه، فإن أنا لم أهزك في هذا اليوم فقد حرمت منك ذلك إلى آخر الدهر. فقال: هات أذن نسمع، فأنشده قصيدته الميمية التي يقول فيها: وعلى عدوك يا ابن عم محمد ... رصدان ضوء الصبح والإظلام فإذا تنبه رعته وإذا هدا ... سلت عليه سيوفك الأحلام فلما بلغ هذين البيتين اهتز الرشيد وارتاح وقال: هذا والله المدح الجيد والمعنى الصحيح، لا ما عللت به مسامعي هذا اليوم - وكان أنشده في ذلك اليوم جماعة من الشعراء - ثم أنشده قصيدته التي على الجيم وهي قوله: ملك أبوه وأمه من نبعة ... منها سراج الأمة الوهاج شربا بمكة في ذرا بطحائها ... ماء النبوة ليس فيه مزاج فلما سمع هذين البيتين كاد يطير ارتياحاً ثم قال: يا أشجع، لقد دخلت إليّ وأنت أثقل الناس على قلبي، وإنك لتخرج من عندي وأنت أحب الناس إليّ. فقال له: فما الذي أكسبتني هذه المنزلة؟ قال له: الغنى، فاسأل ما بدا لك. قال: ألف ألف درهم. قال: ادفعوا إليه. ومما يستجاد له قوله في الرشيد: قصر عليه تحية وسلام ... نشرت عليه جمالها الأيام فيه اجتلى الدنيا الخليفة والتقت ... للملك فيه سلامة ودوام كانت كنوز مآثر فأثارها ... ملك على آرائه عزام من لي بالعصرين يعتوراني ... والعام يدفع في قفاه العام

أدناك من ظل النبي وسيلة ... وقرابة وشجت بها الأرحام وصلت يداك السيف يوم تعطلت ... أيدي الرجال وزلت الأقدام وهي مختارة يقول فيها: وعلى عدوك يا ابن عم محمد.......... ومختار شعره في الرشيد وف مكة. فمما له في الرشيد قوله، وقد ركب في يوم عيد ركبة لم ير الناس مثلها أحسن هيئة وأتم زينة وأكمل أداة وأكثر قواداً وجنداً: لا زلت تنشر أعياداً وتطويها ... تمضي بها لك أيام وتثنيها مستقبلاً جدة الدنيا وبهجتها ... أيامها لك نظم في لياليها العيد والعيد والأيام بينهما ... موصولة لك، لا تفنى وتفنيها ليهنك النصر والأيام مقبلة ... بالنصر والعز معقود نواصيها والقصيدة طويلة، وهي مشهورة، فاقتصرنا على ذكرها. ولأشجع في محمد بن منصور بن زياد يرثيه بقصيدته التي أولها: أنعى فتى الجود إلى الجود ... ما مثل من أنعى بموجود أنعى فتى أصبح معروفة ... منتشراً في البيض والسود أنعى فتى مص الثرى بعده ... بقية الماء من العود أنعى فتى كان بمعروفه ... يملأ ما بين ذرا البيد قد ثلم الدهر به ثلمة ... جانبها ليس بمسدود فأصبحا بعد تساميهما ... قد جمعا في بطن ملحود

أخبار العباس بن الأحنف

الآن تخشى عثرات الندى ... وعدوة البخل على الجود وأشجع هو القائل في ابن صبيح: له نظر ما يغمض الأمر دونه ... تكاد ستور الغيب عنه تمزق ويختار له مرثيته في أخيه: خليلي لا تستبعدا ما انتظرتما ... فغير بعيد كل ما كان آتيا ألا تريان الليل يطوي نهاره ... وضوء النهار كيف يطوي اللياليا هما الفتيان المرديان إذا انقضت ... شبيبة يوم عاد آخر ناشيا ويمنعني من لذة العيش أنني ... أراه إذا فارقت لهوا برانيا كأن يمني يزم فارقت أحمدا ... أخي وشقيقي فارقتها شماليا وأشجع هو الذي يقول: داء قديم في بني آدم ... صبوة إنسان بإنسان أخبار العباس بن الأحنف حدَّثني إبراهيم بن معلى البصري قال: حدَّثني محمد بن عامر الحنفي قال: كان العباس بن الأحنف من بني حنيفة، وكان شاعراً ظريفاً ومفوهاً منطقياً مطبوعاً، وكان يتعاطي الفتوة على ستر وعفة، وله مع ذلك كرمٌ ومحاسن أخلاق وفضل من نفسه، وكان جواداً لا يليق درهماً ولا يحبس ما يملك، ويكنى أبا الفضل. حدَّثنا جابر بن عمرو الباهلي قال: حدثني ابن أبي العلاء قال:

كان العباس بن الأحنف منشؤه ببغداد وكان من بني حنيفة، ويدلك على ذلك قوله: فإن يقتلوني لا يفوتوا بمهجتي ... مصاليت قومي من حنيفة أو عجل حدَّثني عون بن جعفر عن محمد بن روح قال: وقع بين مسلم بن الوليد صريع الغواني وبين العباس بن الأحنف تهاجٍ في أمر كان بينهما، فقال له مسلم يهجوه: بنو حنيفة لا يرضى الدعي بهم ... فاترك حنيفة واطلب غيرها نسبا اذهب إلى عرب ترضى بنسبهم ... إني أرى لك وجهاً يشبه العربا وحدثني أبو مالك عن الأجلح بن يزيد قال: كان العباس بن الأحنف صاحب غزل، رقيق الشعر، يشبه في عصره بعمر بن أبي ربيعة المخزومي في عصره، ولم يكن يمدح ولا يهجو، إنما كان شعره كله، في الغزل والوصف، وهو الذي يقول: أشكو الذين أذاقوني مودتهم ... حتى إذا أيقظوني في الهوى رقدوا لأخرجن من الدنيا وحبهم ... بين الجوانح لم يشعر به أحد ألقيت بيني وبين الهم معركة ... فليس تنفد حتى ينفد الأبد ومما يستحسن له قوله: لو كنت عاتبة لسكن لوعتي ... أملي رضاك، وزرت غير مراقب لكن مللت فلم تكن لي حيلة ... صد الملول خلاف صد العاتب ما ضر من قطع الرجاء ببخله ... لو كان عللني بوعد كاذب وهذا المعنى يشبه قول الشاعر: أميتني، فهل لك أن تردى ... حياتي من مقالك بالغرور

أرى حبيبك ينمي كل يوم ... وجورك في الهوى عدلا فجوري ومن بديع ما للعباس وطريفه ما ليس لأحد في معناه شيء يدانيه قوله: أحرم منكم بما أقول وقد ... نال به العاشقون من عشقوا صرت كأني ذبالة نصبت ... تضيء للناس وهي تحترق وهو القائل أيضاً: هبوني أغص إذا ما بدت ... وأمنع طرفي ولا أنظر فكيف استتاري إذا ما الدموع ... نطقن فبحن بما أضمر؟ ومن بدائعه المليحة قوله: بكت غير آنسة بالبكاء ... ترى الدمع في مقلتيها غريباً وأسعدها نسوة بالبكاء ... جعلن مغيض الدموع الجيوبا أيا من تعلقته ناشئاً ... وشبت وما آن لي أن أشيبا ويا من دعاني إلى حبه ... فلبيت حين دعاني مجيبا وكم باسطين إلى حبلنا ... أكفهم لم ينالوا نصيبا لعمري لقد كذب الزاعمون ... بأن القلوب تجاري القلوبا ولو كان حقاً كما يزعمون ... لما كان يشكو محب حبيبا وأنت إذا ما وطئت الترا ... ب صار ترابك للناس طيبا وذكر أن الرشيد هجر جاريته ماردة وهي أم المعتصم، وكان يموت من عشقها، فتكبر أن يبدأها بالصلح، وتكبرت هي أيضاً، فصبرا على ذلك بأمر عيش، وكاد الرشيد يتلف. وكان وزيره الفضل بن الربيع، فأحضر

أخبار سعيد بن وهب

الفضل العباس بن الأحنف، وعرفه القصة وقال: في ذلك شيئاً، فقال: العاشقان كلاهما متجنب ... وكلاهما متعتب متغضب صدت مهاجرة وصد مهاجراً ... وكلاهما مما يعالج متعب إن التجانب إن تطاول منهما ... دب السلو له فعز المطلب فبعث إليه الفضل بالأبيات، فسر بها سروراً، ولم يستتم الرشيد قراءتها حتى قال العباس أيضاً بيتين في ذلك هما: لا بد للعاشق من وقفة ... تكون بين الوصل والصرم حتى إذا الهجر تمادى به ... راجع من يهوى على الرغم فاستحسن الرشيد إصابته حالهما، وقال: والله لأصالحنها كما قال. وعرفت ماردة السبب في الشعر. ولم تدر من قائله. فسألت الرشيد فقال: لا أدري من صاحب الشعر. ولكن الفضل بن الربيع بعث به، فأرسلت إلى الفضل تسأله، فأعلمها، فأمرت له بألف دينار، وأمر له الرشيد بألفي دينار، وأمر له الفضل بخمسمائة دينار. ومن بدائعه وصفه تمشي المرآة بالهوينا: كأنها حين تمشي في وصائفها ... تمشي على البيض أو فوق القوارير أخبار سعيد بن وهب حدَّثني ابن البختكان عن أبي بكر بن العلاء البصري قال: سعيد بن وهب الشاعر من أهل البصرة، وهو مولى لربيعة. وحدثني إبراهيم بن ميمون قال: حدثني أحمد بن عبد السلام قال: وجه الرشيد بمسرور الكبير إلى يحيى بن خالد بن برمك، والفضل بن يحيى، وذوي أنسابهم، وهم في الحبس، يتعرف على حالهم، فصار إليهم،

فوجد الفضل بن يحيى ساجداً، فهتف به فلم يجبه، فدنا منه فوجده نائماً يغط، فرجع إلى الرشيد فأعلمه فقال له: ما كان عليه من اللباس؟ قال: كان في ثوب سمل - وكان هذا في الشتاء والبرد الشديد - فقال لمسرور: خذ ذلك الدواج فألقه عليه ولا تنبه؛ ففعل. فلما كان في الغد زاره سعيد بن وهب الشاعر، وكان يألفهم أيام نعمتهم وكانوا إليه محسنين، فكان يرعى لهم - أيام محنتهم - ذلك. فلما دخل عليهم قال: ما هذا الدواج، وقد كنت عندكم أمس ولم أره؟ فأخبروه فقال: نرجو أن يكون هذا سبب الرضا، وجلس يحدثهم، إذ مر إنسان في الشارع ينادي على خشف يبيعه، يدور به على القصور، فلما سمع الفضل ذكر الخشف غشي عليه، وصار كأنه ميت، فنضحوا الماء عليه وغمزوا أطرافه ساعة حتى أفاق، فقالوا له: ما قصتك؟ قال: سمعت ذكر الخشف - يعني جارية كان يهواها، يقال لها خشف - وهي سروري من الدنيا، فظننت أن خبرها قد رفع إلى الرشيد، وأنه عرض لها بسوء، فذهبت نفسي. فقيل له: إنما هو إنسان يبيع خشفاً. فلم يطمئن إلى ذلك حتى دعا السجان فسأله، فدعا الرجل حتى دخل عليه ومعه الخشف، فرآه بعينه فسكنت نفسه، قال لسعيد: أي شيء يشبه خبر هذا من أخبار الناس وأيامهم؟ قال سعيد: قول مجنون بني عامر حيث يقول: وداع دعا إذ نحن بالخيف من منّي ... فهيج أحزان الفؤاد وما يدري دعا باسم ليلى غيرها فكأنما ... أطار بليلى طائراً كان في صدري قال: أحسنت والله وأجدت، هذا وأبيك يشبه ما نحن فيه، فخذ بالله

هذا الدواج. قال سعيد: فقلت: والله لا أخذته على هذه الحالة. فقال: والله لتأخذنه فإن وقع الرضا كان عندنا مثله كثير، وإن لم يكن إلا ما نحن فيه فأنت أحق بذلك، هذا ليس مما تتغير به حال. فقلت له: جعلت فداك، شيء برك به أمير المؤمنين، ولا شك أن السجان يمنعني من إخراجه، قال: فبعث إلى السجان فقال له: إني قد وهبته له فلا تمنعه من إخراجه، فقال السجان أنا لا أمنعه. ولكن اكتب إلى مسرور الخادم فأعلمه، قال: فكتب إليه، فكثر عجبه منه، وأعلم الرشيد بما فعل فأطرق الرشيد ملياً وقال: ما وهبته له وأنا أعترض عليه في شيءٍ يفعله به؛ ليهبه من يشاء. فلما قام سعيد ليخرج من عند الفضل قال له: ها هنا شيء قال: وما هو؟ قال: إنه سيعرض لك، ويذهب لك إلى الرشيد، فيسألك عن السبب، ويقول لك: بأي شيء وهب لك الدواج؟ فإن أنت ذكرت له خشف أهلكتني. قال له سعيد: فما أصنع؟ فقال له الفضل: قل: تحدثنا ببعض أخبارك وملحك، فإذا سألك فقل: حديث كيت وكيت، فوهبه لي. قال سعيد: والله ما أدري ما أحدثه، قال لا بد من ذلك، فتفكر في شيء يكون عندي علامة فأينا سئل عن السبب خبر به، فلم يختلف الخبران قلت: كانت لي دار، ولها باب صغير في زقاق، سوى بابي المعروف الذي إلى الشارع، وكان لا يدخل إليّ من هذا الباب الصغير إلا المرد فقط. فأتى الخادم الموكل بذلك الباب يوماً فقال لي: فتى له لحية يستأذن عليك من هذا الباب الصغير فقلت له: صيره إلى الباب الكبير، فخرج إليه ثم رجع فقال: قلت له فأبى. وزعم أنه لا يدخل إلا من هذا

الباب، فإن رسمه كذلك، فقمت فأطلعت من شق الباب، وإذا حريف لي غاب عن البلدة غيبة فرجع وهو ملتح وجاء للعادة من ذلك الباب، فكتبت إليه: قل لمن رام بجهل ... مدخل الظبي الغرير بعد ما علق في خدي ... هـ مخلاة الشعير انفلت وادخل إذا شئ ... ت من الباب الكبير ووجهت الرقعة إليه، فلما قرأها ضحك وجاء إلى الباب الكبير واستأذن، فأذنت له ودخل. فقال له الفضل: أحسنت والله وملحت وقام فكتب الأبيات على الحائط وقال: امض في حفظ الله: فلما خرج سعيد عرض له: فذهب به إلى الرشيد، قال سعيد بن وهب: فلما دخلت عليه، صاروا بي إلى مجلس كان بيني وبينه سجف فسلمت فرد السلام. ثم قال: يا سعيد، بم حدثت الفضل حتى وهب لك الدواج؟ فقلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني، فإنه كان شيء في أيام الحداثة والجهالة. قال: لا بد منه. قلت: يا أمير المؤمنين، أنت إمام، ولا يجوز أن أحدثك مثل هذا من غير أمان، أفأنا آمنٌ حتى أحدثك؟ قال: تحدث وأنت آمن. قال: فحدثته الحديث، وأنشدته الشعر. فضحك وقال: يا غلام أعط سعيداً ثلاثين ألف درهم. ثم قال: يا سعيد آنس القوم بحديثك، وأكثر من زيارتهم.

وكان سعيد يرمي بالأبنة، وكان شاعراً مفلقاً، يناضل أبا الصلت الشاعر، وفي سعيد يقول أبو الصلت: قولاً لفضل يا بن الأولى ملكوا ال ... أرض على رغم من ينازعها بابن وهب داء يعالجه ... أدم ظباء نجل مدامعها يغدو على صيدها وليس له ... إلا ذكور الظباء يافعها وهو بروس الظباء يهتف في النا ... س وإضماره أكارعها ومما يستحسن من شعر ابن وهب قوله: كنت يوم العيد عبداً ... لبني أم أبيها هائماً أبتعهم أو ... كنت بالعبد شبيها فلعمر الله ما ذ ... لك من حب بنيها لا ولكن لغزال ... هو مولى لأخيها وفي مجونه يقول: وقل لمن كان أمرداً يضع ال ... معروف من قبل آفة الشعر كأنهم بعد بهجة درست ... ركب عليهم عمائم السفر وصرت بعد بهجة بهم ... أصرف عنهم إذا بدوا بصري وله أيضاً صبحك الرحمن يا سيدي ... ما عشت بالخير ومساكا أحمل الدهر وأوقاته ... كل البلايا غير شكواكا خبرني من كنت ساءلته ... عن حال ممساك وحماكا بكل ما أهوى ولكنه ... قطع قلبي عند ذكراكا

أخبار العتابي

لا خير في الدنيا إذا لم أكن ... أسمع فيها حسن نجواكا كان سعيد من المجيدين، وقد مدح الخلفاء والوزراء: وكان ذا مروءة وقدر. أخبار العتابي واسمه كلثوم بن عمرو، وهو من بني تغلب، من ولد عمرو بن كلثوم التغلبي قاتل عمر بن هند. ويكنى أبا عمرو، من أهل قنسرين. حدَّثني ابن أبي الخوصاء قال: حدثني عمي قال: حدَّثني أبو الهذيل قال: دخل العتابي على المأمول فكلمه بكلام أحسن فيه وأوجز. قلت: وما ذاك الكلام يا أبا هذيل؟ فإن كلاماً استحسنه لحسن، قال: قال له المأمون: يا عتابي تلكم، فقال: يا أمير المؤمنين الإيناس قبل الإبساس إن المرء لا يحمد أول أمره على صواب، ولا يذم على خطإ، لأنه بين حالين: من كلام قد سواه أو حصر تعناه، ولكن يبسط بالمؤانسة، ويبحث بالمناقشة. فأعجب المأمون بكلامه. وحدثني إبراهيم بن عمرو الأسدي الموصلي عن ابن جابر الكاتب قال: كتب العتابي لأبي يوسف القاضي: أما بعد، فخف الله الذي أنعم عليك بتلاوة كتابه، واحذر أن يكون لسانك عدة للفتنة، وعملك ردءا

للمعتدين، فإن أئمة الجور إنما يكيدون الصالحين باستصحاب أهل العلم. وحدثني ورقاء بن محمد العجلي قال: حدثني أبو صاعد قال: كان العتابي مجيداً مقتدراً على الشعر عذب الكلام، وكاتباً جيد الرسائل حاذقاً، وقلما يجتمع هذا لأحد، ولما اشخصه المأمون إليه دخل عليه قال له المأمون: بلغتني وفاتك فساءتني ثم بلغتني وفادتك فسرتني. فقال: يا أمير المؤمنين. لو قسمت هذه الكلمة على أهل الأرض لوسعتهم، وذلك أنه لا دين إلا بك، ولا دنيا إلا معك. فسر المأمون بكلامه وقال له: سلني. قال: يا أمير المؤمنين، يدك بالعطية أطلق من لساني بالمسألة. وحدثني جعفر المالكي قال: ما سمعت كلاماً قط. لأحد من المتكلمين أحسن من كلام العتابي. وما رأيت كاتباً تقلد الشعر مع الكتابة إلا وجدته ضعيف الشعر غيره، فإنه كان فحل الشعر جيد الكلام. ومما يستحسن له من شعره قوله: ردت إليك ندامتي أملي ... وثني إليك عنانة شكري وجعلت عتبك عتب موعظة ... ورجاء عفوك منتهى عذري ومما يستحسن تجنب دار العامرية إنها ... تكلفه عهد الصبا والكواعب منازل لم تنظر بها العين نظرة ... فتقلع إلا عن دموع سواكب ولا وصل إلا أن تعاج مطية ... على دارس الأعلام عافي الملاعب

ومن بديع ما روي له أيضاً قوله: ماذا عسى قائل يثني عليك وقد ... ناجاك في الوحي تقديس وتطهير فت المدائح إلا أن ألسننا ... مستنطقات بما تخفي الضمائير ويستحسن له أيضاً قوله: ماذا شجاك بحوارين من طلل ... ودمنة حسرت عنها الأعاصير شجاك حتى ضمير القلب مشترك ... والعين إنسانها بالماء مغمور لبست أردية النوار من طلل ... وزلت أخضر تعلوك الأزاهير ومما يستحسن له قوله: عرفت مصيفاً من سليمى ومربعاً ... بذروة نمود فأكناف بلتعا بلادٌ تشتاها الوحوش وترتعي ... قواماً من البهمي وجاراً مدعدعا ترود بها الأدم المتالي وربما ... تراها محلاً من أناس ومجمعا وله أيضاً: صدت نوار فصد واجتنبا ... وطوت فأعرض دونها السببا فكأنما وصلت بمقلته ... تمثالها من حيث ما ذهبا وله أيضاً: رمى القلب يأسٌ من سليمى فاقصدا ... وكان بها هيامة القلب مهندا وهي قصيدة مشهورة جيدة، وأشعار العتابي كلها عيون ليست فيها بيت ساقط.

أخبار دعبل بن علي الخزاعي

أخبار دعبل بن علي الخزاعي حدَّثني أبو العباس المبرد قال: كنت منحدراً من سر من رأى، فأدركني المساء فأمرت الملاح أن يقرب الزروق مظلل قد قرب من الشط لنبيت هناك. وكان عند غروب الشمس، فإذا أنا بزورق مظلل قد قرب من الشط، فلما صار إلى الشط خرج منه خادم معه قوس بندق، قم خرج آخر معه خريطة بندق، ثم خرج بعدهم شيخ بهيّ وضيء الوجه قد انحنى على خادم، فلما رأيته قلت في نفسي: ما أشك أن هذا الرجل من أهل النعمة. وقل ما يكون من النعمة إلا أديب وإما وحيد فتبعته وقد أخذ قوس بندق، فرمى عصفوراً فأخطأ. ثم رمى فأخطأ، ثم رمى ثالثاً فأخطأ، فناول القوس بعض الخدم وقال: " نرمي العصافير فنخطيهنّ " قال المبرد: فقلت على البديهة: رمياً ضعيفاً ليس يوذيهن فقال الشيخ: من هذا الذي يجيز عليّ؟ فقلت: أنا - جعلت فداك - المبرد، فمن أنت يا سيدي؟ قال: أنا دعبل. فأسرعت إليه وقبلت يده، ولم أزل أوانسه حتى دخل بغداد، فلما أردت أن أنصرف عنه إلى منزلي منعني وقال: فبمن أسر إذا انصرفت؟ فقلت: جعلت فداك، إن مفارقتك لتشق عليّ، ولكن أنا معذور هذا الوقت، وأعود بعد فنستأنس. فأذن لي. حدَّثني اليزيدي قال: قال رجل لابن الزيات: لم لا تجيب دعبلا عن

قصيدته التي هجاك فيها؟ قال: إن دعبلاً قد نحت خشبته وجعلها على عنقه، يدور بها يطلب من يصلبه بها منذ ثلاثين سنة وهو لا يبالي ما قال هؤلاء وما فعل له. وحدثني إبراهيم بن محمد قال: كان دعبل يخرج إلى خراسان والمأمون بها، والرضا عليه السلام معه هناك، فيمدحها فيجزلان له العطية، وكان يجتاز بقم فيقيم عند شيعتها فيسقطون له في كل سنة خمسين ألف درهم، وكان بقم إنسان يتعاطى الشعر، يقول شيئاً ضعيفاً يضحك منه. وأنشد دعبل شيئاً من شعره، فقال للمنشد، أمسك فإن استماع هذا يصدأ منه السمع. فبلغ الرجل ذلك فصار إليه وقال له: أنت الذي رذلت شعري؟ قد قلت فيك أبياتاً. فقال له: هات، فقال: في است دعبل بلابل ... ليس يشفى لقابل ليس يشفيه إلا ... أير بغل بكابل قال: فسقط في يده وقال: والله ليسرن شعر هذا الجيفة على ألسنة العامة الصبيان، وقال: أعطيك شيئاً وتكتم هذه الأبيات ولا ترويها؟ قال: وما أريد غير ذلك، وكان خفيف الحال، فقال: أعطوه مائة درهم، فقال: والله لا أخذت إلا ألفاًن فقبضه وخرج، فقلنا له: ما صنعت؟ هذا يدفع إليه من درهم إلى درهمين وقد كان يرضيه منك خمسة دراهم، فقال: دعوني من هذا، والله لو احتكم على الخمسين الألف التي قسمت لي بقم لدفعتها إليه. ثم خرج دعبل، وشاع ذلك في البلاد، فهتف به الغوغاء، والسفل

والعبيد، واحتاج أن يدع البلد بعد ذلك ولا يدخله. وقصد إلى دعبل شاعر فقال: إني مدحتك، فقال: أوتعرفني؟ قال: نعم، أنت دعبل. قال: إذن فإنشد. فأنشده: لقائل قلت وقد قال ليأكرم من تسأله دعبل أيطلب السائل من سائل؟ ... فقال لي: السائل لا يبخل لبئس ما قدر في نفسه ... أن يسأل الناس ولا يسأل قال: فوصله وأكرمه. ومما يستملح لدعبل أرجوزته في المأمون وهي فصيحة سهلة يقول فيها: يا سلم ذات الوضح العذاب ... وربة المعصم ذي الخضاب والكفل الرجراج في الحقاب ... والفاحم الأسود كالغراب بحق تلك القبل في الحقاب ... بعد التجني منك والعتاب إلا كشفت اليوم عني ما بي ومما يستحسن له قوله: وبدل ضيفي في الظلام على القري ... إشراق ناري أو نباح كلابي حتى إذا واجهته ولقينه ... حيينه ببصابص الأذناب فتكاد من عرفان ما قد عودت ... من ذاك أن يفحصن بالترحاب وله في أبي سعد المخزومي: إن أبا سعد على مجونه ... ورقة في عقله ودينه

يبترك الدهر على جبينه ... لحية تنساب في تسعينه يزرع قثا جاره في تينه ولدعبل في القرى: عللاني بسماع وطلا ... وبضيف طارق يبغي القرى نغمات الضيف أحلى عندنا ... من رغاء الشاء في ذات الرغا ننزل الضيف إذا ما حل في ... حبة القلب وألواذ الحشا رب ضيف تاجر أخسرته ... بعته المطعم وابتعت الثنا أبغض المال إذا جمعته ... إن بغض المال من حب العلا إنما العيش خلال خمسة ... حبذا تلك خلالا حبذا خدمة الضيف، وكأس لذة ... ونديم، وفتاة، وغنا وإذا فاتك منها واحد ... نقص العيش بنقصان الهوى وهو صاحب القصيدة التائية في آل الرسول صلوات الله عليه وسلم، وهي التي أولها: مدارس آيات خلت من تلاوة ... ومنزل وحي مقفر العرصات وهي أشهر من الشمس، ولا حاجة بنا إلى تضمينها ولا تضمين شيء منها. وهو صاحب التائية الأخرى التي أولها: طرقتك طارقة المني ببيات ... لا تظهري جزعاً فأنت بدات في حب آل المصطفى ووصيه ... شغل عن اللذات والقينات إن النشيد بحب آل محمد ... أزكى وأنفع لي من القنيات

أخبار الحسين بن الضحاك الباهلي

فاحش القصيد بهم فرغ فيهم ... قلباً حشوت هواه باللذات واقطع حباله من يريد سواهم ... في حبه تحلل بدار نجاة وهي أيضاً طويلة مشهورة فتركنا أيرادها. أخبار الحسين بن الضحاك الباهلي حدَّثني أبو منصور الخزري قال: حدَّثني النوفلي قال: قال محمد بن عباد المهلبي: قال لي المأمون، وقد قدمت من البصرة: كيف خلفت ظريف مصركم، ومن بدار أبي علي حكميكم - يعني أبا نواس - قلت: ومن يعني أمير المؤمنين؟ قال: من أنت عارف به ذاك الحسين ابن الضحاك الشاعر، أليس هو القائل: رأى الله عبد الله خير عباده ... فملكه والله أعلم بالعبد ثم قال: اكتب إليه واستقدمه. قلت: يا أمير المؤمنين، إن علته تمنعه من ذلك. قال: فخذ كتابنا إلى عاملنا بالبصرة بألف دينار يدفعه إليه. وقال الحسين بن الضحاك: كنت يوماً من أيام الشتاء بالمسجد الجامع بالبصرة، إذ جاء أبو نواس وعليه جبة خز سرية جيدة جداً، وما كنت عهدت أنها له، فقلت: يا أبا علي، من أين لك هذه؟ قال: وما عليك

من حيث جاءت منه. فأفكرت في أمره، فوقع لي أنه أخذها في تلك الساعة من مويس بن عمران، لأني كنت رأيته أقبل من باب بني تميم، فقمت كأني أريد، وخرجت من المسجد، فإذا بمويس، قد لبس جبة أسرى من تلك الجبة فقلت: كيف أصبحت يا أبا عمران قال بخير صبحك الله به. قلت: يا كريم الإخاء للإخوان قال: أسمعك الله خيراً يا أخي. قلت: إن لي حاجة فرأيك فيها ... أنا فيها وأنت لي سيان قال: هاتها على اسم الله. قلت: جبة من جبابك الخز كيما ... لا يراني الشتاء حيث يراني فضم يده إلى صدره وقال: خذها على بركة الله، فخلعتها عنه ولبستها، وجئت وأبو نواس مكانه بعد، فلما رآها على قال: من أين جاءتك هذه الجبة؟ قلت: من حيث جاءت تلك. أعني ما عليه. ومما يستحسن من شعره قوله في المجون: وشاطري اللسان مختلق التكري ... هـ شاب المجون بالنسك بات بغمي يرتاد صالية النا ... ر ويكني عن أبيت الملك

دسست صفراء كالشعاع له ... من كف علج يدين بالإفك يحلف في طبخها بملته ... ودين موسى ومنشئ الفلك حتى إذا رنحته سورتها ... وأبدلته السكون بالحرك كشفت عن عجنة مزعفرة ... في لين صينية من الفنك فكان ما كان لا أبوح به ... في الناس من هاتك ومنتهك وقد نسب العوام هذا أبي نواس، وذلك منحول، إنما هو للحسين ابن الضحاك. ومما يستحسن له قوله: محب نال مكتتما مناه ... وأسعده الحبيب على هواه فأصبح لا يلام بما جناه ... من التقصير إنسان سواه أسر ندامة الكسعي لما ... رأت عيناه ما فعلت يداه وله في بعض الملوك: سيبقى فيك ما يهدي لساني ... إذا فنيت هدايا المهرجان قصائد تملأ الآفاق مما ... أحل الله من بسط اللسان بها ينفي الكرى السارون عنهم ... ويلهو الشرب عن وتر القيان وله أشعار كثيرة، وهو أحد المفتنين في الشعر، جيد المدح، جيد

أخبار إبراهيم بن سيار النظام

الغزل، جيد الهجو، كثير المجون، صاحب جد وهزل، وهو عندهم في بحار أبي نواس، بل هو شعراً وأقل تخليطاً منه، وهو غلام أستاذه والبة بن الحباب. أخبار إبراهيم بن سيار النظام حدَّثنا أحمد بن محمد الحنظلي قال: حدثني عمرو بن بحر الجاحظ قال: انصرف إلينا غلام إبراهيم بن سيار النظام يوماً وهو متعجب، فقلنا له: ما القصة؟ قال: سألني غلام من الصابئين مسألة، فزاد عليّ زيادة قطعني فيها أقبح قطع، قال لي: ما العلة في تحريم الخمر؟ قلت: إزالتها للعقل. قال: فينبغي أن يكون النوم حراماً، فإنه يزيل العقل. قلت: إن النوم قوت البدن. قال لي: فحرم منه ما فضل عن القوت. فقطعني. وحدثني إبراهيم بن محمد المدائني عن الجاحظ قال: أنشد إبراهيم النظام أبا الهذيل أبياتاً فيها هذا البيت: رق فلو بزت سرابيله ... علقه الجو من اللطف فقال أبو الهذيل: يا أبا إسحاق، لمن هذا البيت؟ قال: لي. قال: فيجب على هذا القياس أن ييناك بأير من خاطر. وحدثني ابن الكوفي قال: كان مذهب إبراهيم النظام في أول أمره الشعر، وانتقل إلى الكلام ومذهب أبي نواس الكلام وانتقل إلى الشعر.

أخبار أبي محمد اليزيدي

ومما يستحسن من شعر النظام قوله: ألا يا خير من رأت العيون ... نظيرك لا يحس ولا يكون وفضلك لا يحد ولا يجاري ... ولا تحوي حيازته الظنون خلقت بلا مشاكلة لشيءٍ ... وأنت الفوق والثقلان دون كأن الملك لم يك قبل شيئاً ... إلى أن قام بالملك الأمين وهذا إبراهيم النظام هو القائل: ما زلت آخذ روح الدن في لطف ... وأستبيح دماً من غير مذبوح حتى انثنيت ولي روحان في جسدي ... والزق مطرح جسم بلا روح وشعره قليل، وكان يستقي الشعر من الكلام والجدل. أخبار أبي محمد اليزيدي حدَّثني أحمد الخليل عن محمد بن هارون بن سليمان قال: اجتمع يوماً من الأيام عند عيسى بن عمر أبو محمد اليزيدي وسلم الخاسر، فقال سلم لليزيدي: اهجني على روى امرئ القيس: رب رام من بني ثعل ... مخرج كفيه من ستره فقال له أبو محمد - وكان عفيفاً تقياً -: مالك ولهذا؟ قال سلم: كذا أريد. قال اليزيدي: ما أغناك عن التعرض للشر. فلتسعك العافية: - وأراد سلم أن يوهم عيسى أنه عييّ مفحم لا يقدر على الشعر - قال سلم:

إنك لتحتجز مني غاية الاحتجاز. وهاجه، قال عيسى: بالله يا أبا محمد إلا فعلت: فأخذ نعله وقبلها وكتب تحتها: رب مغموم بعافية ... غمط النعماء من أشره وامرئٍ طالت سلامته ... فرماه الدهر من غيره بسهام غير مشوية ... نقضت منه عرا مرره وكذاك الدهر منقلب ... بالفتى حالين في عصره يخلط العسر بميسرة ... ويسار المرء في عسره عق سلم أمه سفهاً ... وأبا سلم على كبره كل يوم خلفه رجل ... رامح يسعى على أثره يولج الغرمول سبته ... كولوج الضب في جحره قال سلم: هكذا يكون والله استدعاء الشر، ما كان أغناني عن هذا! فقال له عيسى بن عمر: لا أبعد الله غيرك، ولا أتعس إلا جدك. قد كان الرجل يستعفيك ويحتجز منك إبقاء على مروءته، فأبيت إلا أن يدخلك في حر أمك. ومما يستحسن له من شعره: مرضت فأمرضت شكواك قلبي ... وكنت أنام فاستعصى منامي ولو كان المريض يزيد حسناً ... كما تزداد أنت على السقام

لما عيد المريض إذن، وعدت ... له الشكوى من النعم العظام وقال وقد انصرف من مكة سالماً: يا فرحتا إذ صرفنا أوجه الإبل ... نحو الأحبة بالإزعاج والعجل نحثهن وما يرمين من دأب ... لكن للشوق حثاً ليس للإبل وله في الأصمعي يهجوه: رأيت قريباً أبا الأصمعي ... كثيراً فواضحه شامله إذا قام يعثر في شمله ... وتقتاده أذن مائله وما أنت هل أنت إلا امرؤ إذا صح أصلك من باهله وله في غزله وكان لا يرغب فيه: حبيبي لا يزور ولا يزار ... وفيه عن مواصلتي نفار وعيني لا تجف لها دموع ... معاقبة سواكبها غزار على وجه تطيف به صفاتي ... فتغرق في المحاسن أو تحار كأن الخمر يغذو وجنتيه ... وحسبك ما تزينه العقار كليل الطرف يجرحه إذا ما ... تحير فوق وجنته احمرار قضيب البان قامته، ويخطو ... بدعص نقاً يغص به الإزار وحدثني أبو عبد الله التنوردي قال: حدَّثنا محمد بن الأشعث

أخبار الحارثي

المكي قال: قدم علينا اليزيدي مكة في رجب فأقبل على العبادة والاجتهاد والصوم والصدقة. وكان أصحابنا من أهل الأدب مجتمعون له ليؤانسوه فيقول: ما شيء أحب إلي من مشاهدتكم ومحادثتكم، ولكن هذا بلد يتقرب فيه إلى الله بالأعمال الصالحة، وإنما أقيم شهراً أو شهرين ثم انصرف إلى بلدي، فإن رأيتم ألا تجروا في مجلسي رفثاً ولا خناً ولا هجاءً في شعر ولا غيره فافعلوا. وقال بمكة أشعاراً كثيرة في الموعظة والحكمة، ولا يتعدى ذلك إلى غيره. وأشعاره كثيرة، وهو مؤدب المأمون. أخبار الحارثي واسمه عبد الملك بن عبد الرحيم. حدَّثنا أبو مالك الأنصاري قال: حدَّثني أبو الأسود الشاعر قال: كان الحارثي شاعراً مفلقاً مفوهاً مقتدراً مطبوعاً، وكان لا يشبه بشعره شعر المحدثني الحضريين. وكان نمطه نمط الأعراب. ولما قال قصيدته المعروفة العجيبة انقاد الشعراء وأذعنوا. وهو أحد من نسخ شعره بماء الذهب، والقصيدة التي ذكرناها هي هذه: هأنذا يا طالبي ساعي ... محتضر بزي إلى الداعي أحمي حمى من غاب من مذحجٍ ... ويحمد الشاهد إيقاعي

لا هلع في الحرب هاع إذا ... ريق فيها كل هلواع قد باضت الحرب على هامتي ... وصممتني أذني واعي واستودعتني مقلتي أرق ... لا يضع الجنب لتهجاع مستحصد المرة ذي همة ... ضرار أقوام ونفاع لا توجد الغرة منه وإن ... هيج به هيج بمنصاع أشوس ينضو الدرع عن منكب ... مثل سنان الرمح شعشاع كما ترى أفطح ذا رقطة ... تنجاب عنه هبوة القاع فاجتمعت الشعراء والأدباء على أن هذه الأبيات ليست من نمط عصره، وأن لا أحد يطمع في مثلها، ولعمري إنه لكلام مع فصاحته وقوته يقدر من يسمعه أنه سيأتي بمثله، فإذا رامه وجده أبعد من الثريا، وكذلك الشعر المتناهي الذي ليس قبله في الجودة غاية، وقد سئل بعض العلماء فقيل له ما الشعر عندك؟ قال: السهل الممتنع. وللحارثي قصيدة يرثي فيها أخاه سعيد بن عبد الرحيم ليست بدون قصيدة

متمم التي يرثي أخاه مالكاً، وهي على روي تلك، يقول فيها: فما أم خشف أودعته قراره ... من الأرض وانساحت لترعى وتهجعا خليس كلون الأيهقان ابن ليلة ... أمر قواه أن ينوء فيركعا ويهتز في الممشي القريب كأنه ... قضيب من البان التوى فترعرعا فظلت بمستن الصبا من أمامه ... تنغم في المرعى إليه ليسمعا إذا أغفلت نادت وإن ناب نبأة ... على سامعها تذكر طلاها فتربعا فخالفها عاري النواهق شاسب ... أخو قفرة أضحى وأمسى مجوعا فأنهل منه بعد عل ولم يدع ... لملتمس إلا شريحاً مذعذعا فجاء برياه نسيم من الصبا ... صباحاً ودر جر ثكلاً فأرجعا وهذا كلام يعجز الشعراء ويفضحهم، وفيها يقول: وأبيض وضاح الجبين كأنه ... سنا قمر أوفى على العشر أربعا ولولا خروجنا من شرط الكتاب لكان إثبات هذه القصيدة خيراً من تركها، وإن كنا قد كتبنا في بعض المواضع القصائد الطوال، وإنما نشبت منها ما لم يكن موجوداً عند أكثر الناس، وأما الموجود المشهور فلا نورد ما طال منه،

وإنما نقتصر من كل قصيدة على هذه الأبيات اليسيرة، بل ربما اقتصرنا على ذكر القصيدة وبيت واحد منها فقط، كما صنعنا في أخبار السيد ونظرائه، وإنما سمينا أمهات قصائد. ومما يستحسن له أيضاً كلمته في أخيه وهي التي يقول فيها: إن سليما وإن ظرفاً ... وإن جريالة شمولا نعيم دنيا وكل دنيا ... مصيرها عنه أن تزولا إذا أرت فرحة أخاها ... مالت إلى ترحة بديلا وكل خير وكل شرّ ... فيها قمين بأن يحولا إن سعيداً شقيق نفسي ... أبقى لنفسي جوىً دخيلا ومن جيد شعره وإن كان كل شعره جيداً: أتى دون حلو الوعد من تكتم المطل ... وأيّ هوىً يبقي إذا لم يكن بذل فقالت وأبدي الوجد ما دون صدرها ... فلم يبق باب دون سر ولا قفل أأشعرت بي أهلي عشية زرتنا ... جهاراً، وما عذري رقد شعر الأهل فقلت فذا قد كان ما ليس راجعاً ... فهل عندكم إلا التحفظ. والعذل فقالت وما أزرى بنا من تحفظ ... علينا وقولي في عواقبه الذحل

أخبار محمد بن يسير الرياشي

فقلت لها ما زرتكم قاصداً لكم ... وإن كان ما في الناس لي ولكم مثل وما جئتكم عمداً ولكن ذا الهوى ... إلى حيث يهوي القلب تهوي به الرجل والحارثي هو القائل: ولا يستخص القدر من دون جاره ... ليشبع والجيران يمشون جوعا أناف بإبقاء على العرض مالهفأنجح إذ أكدى البخيل وأوضعا له راحةٌ فيها الحبا لصديقه ... وأخرى لمن عادى بها السم منقعا أجل عن العور الهواجر سمعه ... ونزهة من أن يقال فيسمعا إذا نال من أقصى عرا المجد غاية ... سما طالباً من تلك أسنى وأرفعا هذا البيت سجدة للشعراء، ولو لم يكن في كتابنا إلا شعراً الحارثي لكان جليلا. أخبار محمد بن يسير الرياشي حدَّثني جعفر بن إبراهيم بن نصير قال: حدثني محمد بن عامر الحنفي قال:

كان بين أحمد بن يوسف الكاتب وبين محمد بن يسير مودة، فكتب إليه يوماً يستزيره ليتآنسا ويتمتعا، فأجابه ابن يسير: أجيء على شرط فإن كنت فاعلاً ... وإلا فإني راجع لا أناظر ليسرج لي البرذون في وقت دلجتي ... وأنت بدلجاتي مع الصبح خابر فأقضى عليه حاجتي ثم أنثنى ... إليك وحجام إذا جئت حاضر يقصر من شعري ويحتف شاربي ... ومن بعد حمام معد وجامر ودستيجة مملوءة بختامها ... يزودنيها طائعاً لا يعاسر فكتب إليه أحمد بن يوسف مجيباً له: تشرط لما جاء حتى كأنه ... مغن مجيد أو غلام مواجز وأقسم لولا حرمة هي بيننا ... لقفد بشار قفاه وياسر وحدثني إبراهيم بن منصور النحوي قال: حدثني ابن أبي العلاء قال: فاخر رجل من الجلة يوماً ابن يسير، فقال له الرجل: يا هذا أتفاخرني وقد ركب جدي إلى الصيد في أربعة آلاف جارية، على أربعة آلاف برذون أشهب، على يد كل جارية بازي أبيض يصطاد الطواويس من أفرخة الزعفران؟ قال ابن يسير: " ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذه إلا اختلاق ". فحمله الرجل على برذون أشهب فاره، وأمر

له بجارية حسنة، وكساه ثوب خز طاووسي، وحمله معه سلة زعفران. ثم قال: إن كان ما قلته باطلاً فما فعلته حق. قال ابن يسير: ما قلت أيضاً حق. ومما يستحسن لابن يسير وسار له في العرب والعجم قوله: لولا البنية لم أجزع من العدم ... ولم أجب في الليالي حندس الظلم وزادني رغبة في العيش معرفتي ... ذل اليتيمة يجفوها ذوو الرحم أخشى فظاظة عم أو جفاء أخٍ ... وكنت أخشى عليها من أذى الكلم إذا تذكرت بنتي حين تندبني ... جرت لعبرة بنتي عبرتي بدم تهوى بقائي وأهوى موتها شفقاً ... والموت أكرم نزال على الحرم وهذه ألفاظ كما سمعت في عذوبة الماء الزلال، ومعان أرق من السحر الحلال. ومما يستحسن له قوله: تخلى بهم في الفواد دخيل ... وأقلقه عزم النوى برحيل وأبدى له وجه المنية يغتةً ... صدود حبيب وانحراف خليل وساوره سقم وأسهره هوىً ... وروحه واش وابتكار عذول وأسلمه صبر وبان عزاؤه ... فصودف حياً في عيان قتيل يرى لا طراد الدمع في صحن خده ... أخاديد شقت باستنان همول على بدعة لما يرى الله خلقه ... فصوره فرداً بغير مثيل

أخبار أبي تمام بن أوس الطائي

تبدي كبدر لم يمر ببرجه ... كسوف ولم يكدر غداة أفول أمات قلوباً واستمال بأنفس ... تكشفن منه عن ذهاب عقول خليلي إني قد رضيت قليله ... وإن كنت لا أرضى له بقليل خليلي جثماني بكف نحوله ... ينادمه قلبي بكأس عليل وهذا نمط كما تراه إنما هو السحر الحلال. ومما يستحسن له قوله: وصاحب السوء كالداء العياء إذا ... ما ارفض في الخد يجري من هنا وهنا يبدي ويخبر عن عوراء صاحبه ... وما يرى عنده من صالح دفنا فإن يكن ذا فكن عنه بمعزلة ... أو مات هذا فلا تشهد له خبنا ولمحمد بن يسير حكم كثيرة، ومواعظ حسنة، وهو أنعت الناس للحيوان والطير والشاء، وما أشبه ذلك وله مرثية طويلة في بستان أكلته الشاء، ويقال أنه بستانه كان ذراعاً في ذراع، وقال بعضهم: بل كان شعيراً تحت جرة ماء فهلك. ولم نذكرها خوف الإطالة. أخبار أبي تمام بن أوس الطائي حدثني أبو الأسود الموصلي قال: قال الحسن بن رجاء الضحاك: كنا مع أمير المؤمنين المؤمنين المعتصم بالرقة فجاء أبو تمام، وأنا في حراقتي، فجعل ينشدني ويلتفت إلى الخدم والغلمان

الوقوف بين يدي، ويلاعبهم ويغامزهم - وكان الطائي من أكثر الناس عبثاً ومزاحاً - فقلت له: يا طائي قد ظننت أنك ستصير إلى أمير المؤمنين مع الذي أرى من جودة شعرك، فانظر: إنك إن وصلت إليه لا تمازح غلاماً ولا تلتفت إليه، فإنه من أشد الناس غيرة، وإني لا آمن إن وقف منك على شيء أن يأمر غلمانه فيصفعك كل واحد منهم مائة صفعة. فقال: إذاً أخرج من عنده ببدر مملوءة صفعاً. وحدثني عبد الصمد الراوي قال: حدثني محمد بن حسان الضبي قال: قدمت بأبي تمام معي من الشام إلى العراق، وكان معي في سفينتي منجم قد حملته في حملتي، فكان الطائي قد أولع به يضربه ويخرق ثيابه، فكنت ألومه على ذلك وأعذله، وأقول: ويحك، رجل قد صحبنا، ووجب حقه علينا، لم تفعل به مثل هذا؟ والله ما هذا فعل الكرام، ولا من شأن أهل الأدب. وكان من جوابه لي أن قال: هذا من عض بظر أمه، لو كان منجماً، وكان يعلم شيئاً كما يزعم، لما ركب معنا هذه السفينة، وأنا أضربه هذا الضرب وأوذيه هذا الأذى. وحدثني أبو الغصن محمد بن قدامة قال: دخلت على حبيب بن أوس بقزوين وحواليه من الدفاتر ما غرق فيه فما يكاد يرى، فوقفت ساعة لا يعلم بمكاني لما هو فيه، ثم رفع رأسه فنظر إلي فسلم علي، فقلت له: يا أبا تمام إنك لتنظر إلى الكتب كثيراً وتدمن الدرس فما أصيرك عليها! فقال: والله ما لي إلف غيرها ولا لذة سواها، وإني لخليق إن اتفقدها أن أحسن.

وإذا بحزمتين: واحدة عن يمينه وواحدة عن شماله، وهو منهمك ينظر فيهما ويميزهما من دون سائر الكتب، فقلت: فما هذا الذي أرى من عنايتك به أؤكد من غيره؟ قال: أما التي عن يميني فاللات، وأما التي عن يساري فالعزى، أعبدهما من عشرين سنة. فإذا عن يمينه شعر مسلم بن الوليد صريع الغواني، وعن يساره شعر أبي نواس. ومما يستملح من شعره - وشعره كله حسن - داليته في المأمون التي أولها: " كشف الغطاء فأوقدي أو أخمدي " وهي أشهر من الفرس الأبلق، وكذلك كل ما نذكر من قصائد ها هنا، فإنا نقتصر على ذكر أوائلها نحو قوله: " وأبي المنازل إنها لشجون " وقوله: " سرت تستجير الدمع خوف نوى غد " وقوله: " متى أنت عن ذهلية القوم ذاهل " وقوله: " أصغى إلى البين معتزاً فلا جرما " وقوله: " دمن ألم بها فقال سلام "

وقوله: " بدلت عبرة من الإيماض " وقوله: " الحق أبلج والسيوف عواري " وقوله: " السيف أصدق أنباء من الكتب " وقوله: " نسج المشيب له قناعاً مغدفا " وقوله: " خشنت عليه أخت بني خشين " وقوله: " خذي عبرات عينك من زماعي " وقوله: " يوم الفراق لقد خلقت طويلاً " لو استقصينا ذكر أوائل قصائد الجياد التي هي عيون شعره لشغلنا قطعة من كتابنا هذا بذلك وإن لم نذكر منها إلا مصراعاً، لأن الرجل كثير الشعر جداً، ويقال إن له ستمائة قصيدة وثمانمائة مقطوعة، وأكثر ماله

جيد، والرديء الذي له إنما هو شيء يستغلق لفظه فقط. فأما أن يكون في شعره شيء يخلو من المعاني اللطيفة والمحاسن والبدع الكثيرة فلا، وقد أنصف البحتري لما سئل عنه وعن نفسه فقال: جيد خير من جيدي، ورديي خير من رديه، وذلك أن البحتري لا يكاد يغلظ لفظ هـ، إنما ألفاظه كالعسل حلاوة، فأما أن يشق غبار الطائي في الحذق بالمعاني والمحاسن فهيهات، بل يغرق في بحره. على أن للبحتري المعاني الغزيرة، ولكن أكثرها مأخوذ من أبي تمام، ومسروق من شعره. وأبو تمام هو الذي يقول: يا لابساً ثوب الملاحة أبله ... فلأنت أولى لابسيه بلبسه لم يعطيك الله الذي أعطاكه ... حتى استخف ببدره وبشمسه رشأ إذا ما كان يطلق طرفه ... في فتكه أمر الحياء بحبسه وأنا الذي أعطيته عض الهوى ... وضممته فأخذت عذرة أنسه وغرسته فلئن جنيت ثماره ... ما كنت أول مجتنٍ من غرسه مولاك، يا مولاي، صاحب لوعة ... في يومه وصبابة في أمسه وهو القائل: محمد بن حميد أخلقت رممه ... هريق ماء المعالي مذ هريق دمه تنبهت لبنى نبهان يوم ثوىيد الزمان فعاثت فيهم وفمه رأيته بنجاد السيف محتبياً ... كالبدر لما جلت عن وجهه ظلمه في روضة قد كسا أطرافها زهر ... أيقنت عند انتباهي أنها نعمة فقلت والدمع من حزن ومن فرح ... في اليوم قد أخضل الخدين منسجمه ألم تمت يا شقيق النفس مذ زمن ... فقال لي: لم يمت من لم يمت كرمه

أخبار أبي العميثل

أخبار أبي العميثل حدَّثني ابن أبي شبرمة قال: دخل أبو العميثل على طاهر بن الحسين وقد جلس للناس فقبل يده، فقال طاهر: ما أخشن شاربك يا أبا العميثل! فقال: أيها الأمير، إن شوك القنفذ لا يضر ببرثن الأسد. فضحك طاهر وقال: هذه الكلمة أعجب إليّ من قصيدتك. وأعطاه ألف درهم على قصيدته، وثلاثة ألف درهم على كلمته. وحدثني محمد بن أبي يونس قال: كان أبو العميثل أحد شعراء طاهر، وكان يقدمه ويؤثره، وأنه وجد عليه في شيء فجفاه وتركه، فقال: سأترك هذا الباب ما دام إذنه ... على ما أرى حتى تلين قليلا إذا لم أجد يوماً إلى الإذن سلماً ... وجدت إلى ترك المجيء سبيلا فرجع إليه طاهر، ولم يزل محسناً ما عاش. ومما يستحسن من شعر أبي العميثل قوله في الفضل والحسن ابني سهل يذكرهما معاً: كأن أشكال وجه الحزم بينهما ... ظل تلاقي عليه الشمس والقمر وله أيضاً: قد جار والله على جاره ... والله قد أوصاه بالجار حتى متى يا سيدي أنت لي ... تمزج إقبالا بإدبار يا من رأى فيمن رأى قبله ال ... دينار في راحة الدينار وهذه أبيات فيها من خفر الوزن ما ترى.

أخبار أبي عيينة بن محمد بن أبي عيينة المهلبي وهو من ولد المهلب بن أبي صفرة، ويزعم آل المهلب أن أبا عيينة اسم. وقال لي شيخ منهم: كل من كان من المهالبة يدعى أبا عيينة، وكنيته أبو المنهال، وكذلك يقول بنو سدوس: إن أبا رهم هو اسم، وكثير فيهم. حدثني إبراهيم بن سعيد قال: أخبرني أبو هاشم العبيد قال: أبو عيينة ابن محمد بن أبي عيينة هو الذي كان يهجو ابن عمه خالد بن يزيد بن حاتم المهلبي، وأخوه عبد الله بن محمد هو الذي صاحب طاهر بن الحسين فلم يرض صحبته وهجاه، وأخوه داوود بن محمد هو الذي يقول فيه وفي آل سليمان بن علي: قوم إذا أكلوا أخفوا كلامهم ... واستوثقوا من رتاج الباب في الدار لا يقبس الجار منهم فضل نارهم ... ولا تكف يد عن حرمة الجار فهؤلاء الثلاثة كلهم بنو محمد شعراء. وحدثني أبو عبد الرحمن قال: أخبرني محمد بن المظفر قال: دخل أبو عيينة يوماً على المأمون فقال له: يا أبا عيينة. هجوت ابن عمك بألف بيت ما عرضت له بمحرم ولا تجاورته إلا في بيت واجد، وددت إنك ما قلته. قال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: قولك: ولأوذينك فوق ما آذيتني ... ولأوسدن على نعاجك ذيبي

فقال: يا أمير المؤمنين، فإني أدرت بالنعاج بنيه لا غيرهم، فسرى عن المأمون. وهو القائل في خالد: بح بما قد كنت تخفي ... هـ وصرح لا خفاء ما على هذا عزاء ... غلب الصبر العزاء وبدا الأمر المغطى ... كاشفاً عنه الغطاء خالد كلفني جر ... جان ظلماً واعتداء خطة ما نلت منها ... طائلاً إلا العناء خالد لولا أبوه ... كان والكلب سواء لو كما ينقص يزدا ... د إذن نال السماء وهو القائل: يا حفص عاط أخاك عاطه ... كأساً تهيج من نشاطه صرفاً تعود بشربها ... كالظبي أطلق من رباطه جزع المخنث خالدٌ ... لما وقعت على نماطه وهي طويلة جداً. وشعر أبي عيينة أنقى من الراحة، ليس فيه عيب، فلا بيت يسقط. وهو القائل: داوود محمود وأنت مذمم ... عجباً لذاك وأنتما من عود فلرب عود قد يشق: لمسجد ... نصفٌ، وسائره لحش يهود والحش أنت له، وذاك المسجد ... كم بين موضع مسلح وسجود

داوود يفتح كل باب مغلق ... بندي يديه وأنت قفل حديد وأبو عيينة أحد المطبوعين الأربعة الذين لم ير في الجاهلية والإسلام أطبع منهم: وهم بشار وأبو العتاهية والسيد وأبو عيينة. وحدثني خلف بن إسحاق الكوفي قال: حدَّثنا بعض أهل العلم: أن رجلاً من أهل البصرة تاق إلى الخروج إلى داوود بن يزيد بن حاتم بن قبيصة ابن المهلب بن أبي صفرة زائراً له بالسند هو واليها، فتخير له كتباً من إخوانه وأهل بيته، ثم أتى عبد الله بن محمد أخا أبي عيينة فقال له: جعلت فداك، تكتب إلى ابن عمك داوود بن يزيد، فكتب إليه كتاباً لطيفاً ودفعه إليه، وقال له: إذا أوصلت إليه ما معك من الكتب وقرأها فادفع إليه كتابي. فلما وصل ودفع إليه الكتب وقرأها قال له: أصلحك الله، إن معي من أبي جعفر عبد الله بن محمد كتاباً إليك. قال: هات كتاب أبي جعفر، ولم أخرته؟ قال: بذلك أوصاني. ودفعه إليه ففضه فإذا فيه: إن امرأ قصدت إليك به ... في البحر بعض مراكب البحر تجري الرياح به فتحمله ... وتكف أحباناً فلا تجري ويرى المنية كلما عصفت ... ريح له للخوف والذعر للمستحق بأن تزوده ... كنت الأمان له من الفقر قال داوود: لا جرم لا تترك حتى ترجع إليه غنياً. فأعطاه ألف دينار وخمسة آلاف درهم.

أخبار إسحاق بن خلف

ولعبد الله يعاتب طاهرا: يا ذا اليمنين ما شيء إقامته ... على الإطالة إقصاء وتقصير وما شهاب منير قد أضر به ... هم بنارك حتى ما له نور وله أيضاً: أيا ذوا اليمنين إن العتا ... ب يشفي صدوراً ويغري صدورا وكنت أرى أن ترك العتا ... ب خير وأجدر ألا يضيرا إلى أن ظننت بأن قد ظنن ... ت أني لنفسي أرضى الحقيرا ثم هجاه بعد ذلك: وما طاهر إلا سفاه تحركت ... برائحة الفضل بن يحيى فمرت فأغنت بريح الفضل كل غنائها ... بالفضل ساءت حين ساءت وسرت أخبار إسحاق بن خلف حدثني المبرد قال: حدثني أبو عصمة قال: كان إسحاق بن خلف أحد الشطار الذين يحملون السكاكين، ويظهرون التجلد للضرب. أخبرني غير المبرد أنه وجأ غلاماً من بني نهشل من ساكني مكة فقتله، وأنه حبس بذلك السبب، فما فارق الحبس حتى مات. ومما رويناه واخترناه قوله يذكر الفرس: كم كم تجرعه المنون فسلم ... لو يستطيع شكا إليك له الفم

في كل منبت من جسمه ... خط ينمنمه الحسام المخذم فكأنما عقد السراة بطرفه ... وكأنه بعرا المجرة ملجم وله في ابن كوستيذ الأصفهاني: أترضى أن تناك وأنت مولى ... ولا ترضى بأن يزني الغلام كأن نكاحه إياك حل ... ونيك سواك من سيما حرام كمثل البغل يسرج ليس يأبى ... ويابي أن يغص به اللجام إذا ما ناك مولاه غلام ... فليس على سوى المولى ملام وله أيضاً: موهت وصلك حتى ... إذا كتبت كتابي تقول هجري صواب ... والهجر غير صواب أما ترى بك وجدي ... أما رحمت انتحابي أما رأيت حمامي ... في الحب بعد العتاب وله في الشيب: وذي حيلة للشيب ظل يحوطه ... فيخضبه طوراً وطوراً ينتف وما لطفت للشيب حيلة عالم ... على الدهر إلا حيلة الشيب ألطف

أخبار أبي يعقوب الخريمي

أخبار أبي يعقوب الخريمي وكان من نسل الأتراك. حدثني إبراهيم بن منصور عن إبراهيم بن الحكم قال: قلت لأبي يعقوب: مديحك لأبي الهيذام ولمحمد بن منصور بن زياد في حياتهما أجود أم مراثيك لهما بعد وفاتها؟ فقال: يا مجنون، أين يقع شعر الندم والرعاية من شعر المودة إذا صادفت الرغبة. وحدثني المبرد قال: كان الخريمي شاعراً مفلقاً مقتدراً على الشعر، وكان يمدح الخلفاء والوزراء والأشراف فيعطي الكثير، وله في الغزل ملح كثيرة، ومحاسن جمة، وهو القائل يفتخر: ثقي بجميل الصبر مني على الدهر ... ولا تثقي بالصبر مني على الهجر أصابت فؤادي بعد خمسين حجة ... عيون الظباء العفر بالبلد القفر ومنها: ولست بنظار إلى جانب الغنى ... إذا كانت العلياء من جانب الفقر ولكنني مر العداوة واتر ... كثير ذنوب الشعر والأسل السمر رميت بها أركان قيس بن جحدر ... فطحطتها قذف المجانيق بالصخر

أخبار أبي سعد المخزومي

وما ظلم الغوثي بل أنا ظالم ... وهل كان فرخ الماء يثبت للصقر ألا إنما أبكي على الشعر أنني ... أرى كل وطواط يزاحم في الشعر ومن دونه بحر وليل يلفه ... فما ظنه بالليل في لجة البحر إليكم إليكم عن لؤي بن غالب ... فإن لؤياً لا تبيت على الوتر دعوا الحية النضناض لا تعرضوا لها ... فإن المنايا بين أنيابها الخضر وقد روى قوم هذه القصيدة لأي سعد قوصرة، وليست بشيء، وإنما هي للخريمي. ومما يستحسن له قوله: أرض لي سوء ظنوني ... وحرارات أنيني أنت ما تصنع بالهج ... ر كفى سوء ظنوني أو ما يكفيك أني ... بك مقطوع القرين وهذا الخريمي من المحسنين المجيدين للشعر، وهو من المشهورين. أخبار أبي سعد المخزومي حدثني إدريس بن محمد قال: لما قال أبو سعد دعي بني مخزوم في الأشعث بن جعفر الخزاعي: أتيت بابك مرات لتأذن لي ... فصار عني إذن الباب محجوبا

إن كنت تحجبنا بالذئب مزدهياً ... فقد لعمري أبوكم كلم الذيبا فكيف لو كلم الليث الهصور؟ إذا ... تركتم الناس مأكولا ومشروبا هذا السنيدي لا تخفى دمامته ... يكلم الفيل تصعيداً وتصويبا أني امرؤ من قريش في أرومتها ... لا يستطيع لي الأعداء تكذيبا ولا مصاهرة الحبشان من شيمي ... ولا ترى لو وجهي الدهر غربيبا اذهب إليك، فلن آتي عليك ولن ... ألفي ببابك طلابا ومطلوبا فأخذه الأشعث فضربه مائتي سوط، فعوقب في ذلك فقال: إني لم أضربه للهجاء، ولكن ضربته لكذبه في الشعر وجهله، إنه جعل كلام الذئب لأبي السندي، هذا مثل ذاك؟ وحدثني بعض أصحابنا عن النوفلي قال: ادعى أبو سعد في بني مخزوم. ولم يكن منهم، ولا عرف بهم قط. وقال أبو البرق مولى خثعم وشاكر المدائني في أبي سعد: وما تاه على الناس ... شريف يا أبا سعد فته ما شئت إذ كنت ... بلا أصل ولا جد

وإذا حظك في الأشبا ... هـ بين الحر والعبد وإذ قاذفك المفح ... ش في أمن من الحد وقد روى بعضهم أن هذه الأبيات لدعبل في أبي سعد، والأبيات التي قبلها لابن وهيب في الأشعث. ومن جيد يا يروي لأبي سعد قوله لمحمد بن منصور: أظنك أطغاك الغنى ونسيتني ... ونفسك والدنيا الدنية ما تنسي وحدثني ابن رومان الكاتب عن أبيه قال: كنت عند المطلب بن عبد الله ابن مالك الخزاعي وعنده أبو سعد، إذ أقبل دعبل، فالتفت المطلب إلى أبي سعد فقال له: حرك لي دعبلا - وكان المطلب حقد على دعبل قوله: تنوط مصر بك المخزيات ... وتبصق في وجهك الموصل - فقال أبو سعد: كفيتك. فلما دنا دعبل من المجلس أنشأ أبو سعد يقول: لدعبل نعمة نمت بها ... ليست له ما حييت أنساها أدخلنا بيته وأكرمنا ... ودس إمراته فنكناها فغضب دعبل وقال على البديهة: يا أبا سعد قوصرة ... زاني الأخت والمره لو تراه وقد جثا ... خلته عقد قنطره أو ترى الأير في أسته ... قلت: بيت بمقطره أو تراه يلوكه ... قلت: زبد بسكره

أو تراه يشمه ... قلت مسك بعنبره أجج العبد ناره ... وهو للنار كندره أبد الدهر خلفه ... فارس في مؤخره وحدثني يعقوب بن ناصح البردعي قال: لما قال دعبل هذه الأبيات، وخرج من عند المطلب، جعل يفرق على صبيان الكتاب الزبيب والنبق ويقول لهم: إذا مر بكم أبو سعد فصيحوا: يا أبا سعد قوصرة ... زاني الأخت والمره ففعلوا، فطال عليهم، فهرب من بغداد إلى الري، وأقام بها حتى مات. وحدثني أبو جعفر قال: أبو سعد يأخذ نفسه بآلات الأشراف وكان دعياً، وبآلات الشجعاء وكان جباناً، وربما جلس على مزرد. ولكن كان جيد الشعر وهو القائل لدعبل: ولولا معد وأيامها ... وأنهم السنخ والمنصل لضاق الفضاء على أهله ... ولم يك ناس ولا منزل وزلزت الأرض زلزالها ... وأدخل في أست أمه دعبل وهو كثر الشعر جيده.

أخبار مخلد بن بكار الموصلي

أخبار مخلد بن بكار الموصلي حدثني أبو الأزهر الخرزي العوفي قال: قدم مخلد على أبي تمام فقال له: هلك لك في دخول الحمام - وكان في داره حمام، وكان بيتاً واحداً طوله أربعة أذرع، وكان يوقد بسرقين حمار مريسي كان عنده، فلا يحتاج إلى غيره - فدخل فلم يلبث شيئاً أن خرج، فقال له أبو تمام: لم تلبث حتى تعرق؟ فقال مخلد: يا بن البظراء، القعود في الشتاء في السرداب يورث البواسير. ومما رويناه له قوله: سائلي عن كنه أمري لا تسل ... أنا عن تفسير شأني في شغل كنت موصولا بأسباب القلى ... يدريني الهجر عن قوس الملل فجرت تفاحة معضوضة ... بين من أهوى وبيني فوصل لطفت لي حمرة في جنبها ... حين أومى لوصالي بالخجل جاد لي بعد جماح فبدت ... لي في خديه آثار القبل يا رسولا أوصل الصب به ... عش نضير الغصن يا مولى الرسل وكان مخلد خرج إلى العراق، وبها شعراء الناس، فاجتمعوا بباب

أخبار أبي الأصبغ الحصني

المعتصم، فأذن لهم، فجعلوا ينشدون فيعطي كل واحد منهم ما بين الألف والألفين، ولم يزد واحداً منهم، وفيهم مخلد، وكان قد قدم تلك السنة، ولم يعرفه أحد من الشعراء، فأنشد المعتصم في ذلك اليوم شعراً. استحسنه، فقال له: من أنت؟ قال: أنا مخلد. قال: الموصلي؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين قال قد أثبتنا كلمتك قبل خروجك إلينا. وأمر له بثلاثة آلاف درهم. أخبار أبي الأصبغ الحصني هو محمد بن يزيد، من أهل حصن مسلمة، وهو من ولد مسلمة ابن عبد الملك بن مروان. حدثني عبد القدوس بن إبراهيم الشامي قال: حدثني ابن أبي فنن قال: لما قال عبد الله بن طاهر قصيدته التي يفتخر فيها بأبيه طاهر ويذكر شجاعته ويفتخر بأجداده مصعب ورزيق وغيرهما وهي التي يقول فيها: وأبي من لا كفاء له ... من يسامي مجده؟ قولوا طحن المخلوع كلكله ... وحواليه المقاويل قطعت عنه تمائمه ... وهو مرهوب ومأمول قال أبو الأصبغ الحصني: لا يرعك القال والقيل ... كل ما بلغت تحميل

إن عددت العذل فيّ، إذن ... أنا فيك الدهر معذول أيها البادي بنسبته ... ما لما قد قلت تحصيل قاتل المخلوع مقتول ... ودم القاتل مطلول بأخي المخلوع طلت يدا ... لم يكن في باعها طول وبنعماه التي كفرت ... فعلت تلك الأفاعيل يا ابن بنت النار يوقدها ... ما لحاذيه سراويل من حسين من أبوه ومن ... طاهر غالتهم غول من رزيق إذ تعدده ... نسب في الخلق مجهول تلك دعوى لا يناسبها ... لك آباء أراذيل ما جرى في عود أثلتهم ... ماء مجد فهو مدخول قدحت منه أسافله ... وأعاليه مهازيل فبلغت القصيدة عبد الله بن طاهر، فلما خرج إلى الشام جعل طريقه على حصن مسلمة عمداً، ثم مضى مع نفر من إخوانه إلى أبي الأصبغ متنكراً من حيث لا يعرفه، فلما رآه قال له: أنت أبو الأصبغ؟ قال: نعم، قال: ما حملك على ما قلت في جواب عبد الله؟ قال: وما قلت؟ قال: عبد الله: قولك: من حسين من أبوه ومن ... طاهر غالتهم غول

أخبار أحمد بن الحجاج

من رزيق إذ تعدده ... نسب والله مجهول ففطن له الحصني وعلم أنه عبد الله فقال: أنت حملتني على ذلك يقول: وأبي من لا كفاء له ... من يسامي مجده؟ قولوا فلما قلت: قولوا. لم نجد بدا من أن نقول. فتبسم عبد الله وقال: صدقت، وقد عذرناك، وأمرنا لك بألف دينار، ولكن لا يغرك حلمي فتعاود هجو الأمراء، فإنك لا تدري كيف يقع، لعله يتفق لك من لا يحلم عليك. فأفرغ بعد ذلك الحصني شعره في مدح آل طاهر. أخبار أحمد بن الحجاج هو من موالي المنصور. حدثني أبو جعفر محمد بن ميمون المصيصي قال: أخبرني دعبل بن على الشاعر قال: لما خرجت من بغداد أريد المطلب بن عبد الله الخزاعي بمصر، فوافينا الأنبار، نزلت في بعض الخانات، فصادفت رجلاً رث الحال، في أطمار خلقان، وهو في زاوية من الخان فقلت له: من أين أنت؟ قال: من أهل بغداد. قلت: فأين تريد، قال: مصر إن شاء الله. قلت: وما تبغي بها؟ قال أريد قرابة لي هناك. قلت: معك شيء تركبه؟ قال: ما سوى رجلي. قلت فإن المضرب بعيد. فهل لك أن تلزم رحلنا فأعطيك بغلا من بغال الثقل، تركبه، وتتولى شراء الحوائج في هذا الطريق إلى أن ترد مصر؟ فإني أرجو ألا تذم صحبتنا. قال: ذلك لك أصلحك الله. فدفعت إليه بغلاً فركبه، وكنت معه في الطريق في عافية. لا يبقي غاية فيما يجد إليه السبيل من الاحتياط فيما يشتريه، والاسترحاض وأداء الأمانة، حتى وصلنا مصر. فقلت له يوماً

من الأيام: سل حاجتك فقد وجب حقك، فقال لي: أسألك أن توصلني إلى هذا الأمير، فقلت سألت شيئاً سهلا، قال: ما أريد إلا ذاك، قلت: إذا كان في غد فتأهب لذاك حتى تدخل معنا إليه. فلما كان من الغد أخذت بيده بعد أن دخلت الباب، فأقعدته في مكان قد قعد فيه الشعراء الزوار، فجعل المطلب يدعو بواحد واحد، فمن كان زائر ذكر له وسيلة، ومن كان شاعراً أنشده شعره، حتى إذا أتى على القوم كلهم وبقي صاحبي قال له المطلب: أيها الرجل، إن كانت لك حاجة فاذكرها وإلا فانصرف، فنهض والله صاحبنا وأنشأ يقول: ما زرت مطلباً إلا بمطلب ... وهمة بلغت بي غاية الرتب أفردته ببياتي أن يشاركه ... في الرسائل أو ألقاه بالكتب رحلت عنسي إلى البيت الحرام على ... ما كان من تعب فيها ومن دأب أرمي بها وبوجهي كل هاجرة ... تكاد تقدح بين الجلد والعصب حتى إذا ما انقضى نسكي عطفت لها ... ثني الزمام فأمت سيد العرب إني اعتصمت بإستارين مستلماً ... ركنين مطلباً والبيت ذا الحجب

أخبار الصيني شاعر طاهر بن الحسين

فالبيت للآجل المرجو آجله ... وأنت للعاجل المرجو للرغب يا بعد ما طلبت من غير ما سبب ... يا قرب ما أملت من جود مطلب هذا رجائي وهذي مصر سانحة ... وأنت أنت وقد ناديت من كثب فقال المطلب: لبيك لبيك، من أنت؟ قال: أنا أحمد بن الحجاج مولى المنصور. قال: مرحباً بك وأهلاً، قد أمرت لك بمثل ما أمرت به لجميع الشعراء، فإذا شئت فاقبض ذلك. قال دعبل: فبقيت متحيراً من جودة شعره وقوة نمطه وحسن تأتيه، فلما أن حمل معه المال وخرجنا قلت: ما أحسنت فيما بيني وبينك، أخفيت عني أمرك وأخفيته حتى أحللتك ذلك المحل، وقصرت فيما يجب من حق مثلك: فقال والله لقد أحسنت إلى العشرة والصحبة وكرهت أن أعلمك أمري فيجيء التحاسد. فقلت: سبحان الله ولم أحسدك؟ فقال: دعني يا أبا علي من هذا، فإن القاص لا يحب القاص. فاستفرغت ضحكاً، ثم افترقنا. وأحمد بن الحجاج هو القائل: أما الذي حج الحجيج لبيته ... على العيس تحدي في الفجاج السباسب لقد منع الجفنان أن يتصافحا ... ووكل إنسان برعي الكواكب أخبار الصيني شاعر طاهر بن الحسين حدثني إبراهيم بن الخصيب قال: حدثني عبد الله بن جعفر الأصم قال: كان الصيني في جملة طاهر، لا يمدح سواه منذ اتصل به، وكان مطبوعاً

أخبار القصافي التميمي

مقتدراً، وغضب طاهر عليه فأمر بحبسه، فبلغ ذلك المأمون، فقال لطاهر: ما فعل شاعرك الصيني؟ قال: هو محبوس يا أمير المؤمنين. قال: ولم ذاك؟ قال: لموجدة وجدتها عليه، فقال: أيستحق من زعم أن الخلافة ما استقامت دارها إلا بمقامك تحت ظلال السيوف أن يساء إليه؟ ولكن إذا فعلت ما فعلت فما أحد يطلبه بحقي غيري، ليعلم كيف يقول بعدها والله لئن أخرجته من الحبس لأضربن عنقه، قال: فعلم طاهر أنه أخطأ وقابله بغير الجميل. فكان طاهر يجري عليه في محبسه الكثير ولا يستجريء على إخراجه خوفاً من المأمون. والصيني هو الذي يقول: زعموا أن من تشاغل باللذ ... ات عمن يحبه يتسلى كذبوا والذي تساق له البد ... ن ومن لاذ بالطواف وصلى لرسيس الهوى أحر من الجم ... ر على قلب عاشق يتقلى وأخبار الصيني قليلة جداً، وكان لا يوجد إلا بمدينة السلام. أخبار القصافي التميمي حدثني ابن أبي المنذر قال: قال لي الحسين بن دعبل: سمعت أبي دعبل بن علي بن رزين يقول: عمرو القصافي مولى

لبني ربيعة بن كلب بن زيد بن تميم. وقال الحسين: سمعت أبي يقول: كان عمرو القصافي يقول الشعر ستين سنة، ولم يقل شيئاً جيداً غير بيت واحد، وهو قوله: خوص نواج إذا حث الحداة بها ... رأيت أرجلها قدام أيديها ومما يستحسن له من غزله قوله في قصيدة طويلة: إن الخليفة عدل في حكومته ... فامضي إلى بابه أني موافيك وأرجعي لي فؤاداً قد ذهبت به ... يا أبين الناس ظلماً في تباريك لقد ظلمت أخا جود ومكرمة ... وقد مريت فتى ما كان يمريك أراك يا زينة الدنيا وبهجتها ... تنسين من ليس في حال بناسيك كأن راحا وتفاحاً يخالطه ... حب القرنفل بعد النوم في فيك للناس دين، ودنيا يشغلون بها ... وما لنفسي شغل غير ذكرك وله أيضاً: يا شبيه القضيب حسناً وقدا ... وبديعاً أخدى إلى الصب وجدا أنت في الحسن والملاحة والغن ... ج وكل البهاء قد صرت فردا أنا أصبحت يا مناي وسؤلي ... روجائي لحسن وجهك عبدا فأجرني من القلى واعف عني ... واسقني من رضاب ريقك شهدا

أخبار الخاركي

أخبار الخاركي واسمه أحمد بن إسحاق لا يعرف إلا بالخاركي حدثني أبو جعفر محمد بن عمر قال: حدثني ابن الداية قال: قال لي أبو نواس: ما مجنت ولا خلعت العذار حتى عاشرت الخاركي فجاهر بذلك ولم يحتشم فامتثلنا نحن ما أتى به وسلكنا مسلكه، ونحن ومن يذهب مذهبنا عيال عليه. ومن شعره السائر قوله: لما أتوني بنار من شرابهم ... يدعى الطلاء صليباً غير خوار أظهرت نسكا وقلت الخمر أكرهها ... والله يعلم أن الخمر إضماري آلي زعيمهم بالله: قد طبخت ... يريد مدحتها بالشين والعار فقلت من ذا الذي بالنار عذبها ... لا زحزح الله عنه كية النار وله أيضاً: ذهب في ذهب را ... ح بها غصن لجين

أخبار محمد بن حازم الباهلي

فأتت قرة عين ... في ندى قرة عيني مرحباً بالراح والرا ... ئح من ريحانتين ألفا إلفين شكلي ... ن معاً مؤتلفين لا جرى بيني ولا بي ... نهما طائر بين بل غنينا ما بقينا ... أبداً معتنقين في صبوح وغبوق ... لم نبع نقداً بدين ومما يستملح له أيضاً: يضحك محلول بمربوط ... ضحك رخي البال مغبوط يضحك من شجو فتى عاشقٍ ... صب بريح الحب مقموط دلهه حب رشاً أحورٍ ... أحوى غضيض الطرف محطوط يقول للبلوى إذا أقبلت ... برأس من يعشقني خوطي أخبار محمد بن حازم الباهلي حدثني محمد بن الصقر الموصلي قال: أخبرني دعامة قال: سمعت محمد بن حازم يقول: وجه إليّ عبد الله بن طاهر بجارية حسناء وضيئة، فلم أتمالك أن وقعت عليها، فوجدتها من السعة والبرد فوق الصفة، مفازة مكة عندها ثقب عفصة، وثلج همذان عندها الحمام فأحببت أن

أعرف عبد الله أمرها فكتبت إليه: لله جوهرة يرو ... ق للعين حسن صفائها أبصرتها فحمدتها ... من قبل حين جلائها فندمت إلا كنت قد ... تركتها بغطائها ورضيت واستمتعت م ... نها زهرها برواتها فلما وصلت الأبيات إليه بعث بأخرى ظاهرها كباطنها، فبعث الأولى بخمسمائة دينار. وحدثني أبو الأسود المكي قال: حدثني ابن أبي عون المديني - وكان المديني فقيها - قال: كان محمد الباهلي من ألحف الناس إذا سال، وألحهم إذا استماح، مع كثرة ذكره للقناعة بشعره، وهو أحد جماعة كانوا يصفون أنفسهم بضد ما هم عليه حتى اشتهروا بذلك، منهم أبو نواس، كان يكثر ذكر اللواط ويتحلى به وهو أزنى من قرد. وأبو حكيمة كان يصف نفسه بالعنة والعجز عن النكاح وكان يقال له: إنه يقصر عن التيس. وجحشويه كان يصف نفسه القناعة والنزاهة وكان أحرص من الكلب، كان يركب النيل في ردهم واحد فضلاً عن غيره. وهو أجود الشعراء لفظاً وألطفهم معنى، وهو القائل: إن الأمور إذا سدت مسالكها ... فالصبر يفتق منها كل ما ارتتجا لا تيأسن وإن طالت مطالبه ... إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا اطلب لرجلك قبل الخطو موضعها ... فمن علا زلقاً عن غرة زلجا

وذكر على خلاف ما وصفنا من حرصه وكلبه فعل عجيب يدل على كبر الهمة وشرف النفس، وهو أنه كان ألح على محمد بن حميد بن قحطبة يهجوه الهجاء المؤلم الذي يؤذيه، فكان يتلافى الأمر معه بكل حيلة ولا ينجع فيه، فعمد إلى بدرة فيها عشرة آلاف درهم، وتخت فاخر من الثياب، وفرس عتيق، ووصيف رائع، فوجه إليه بجميع ذلك مع ثقة له، وكتب إليه رقعة يحلف فيها أنه ما يعلم بذلك غيره وغير رسوله، ويقول له فيها: أما لك أن تقبل هذه وتكفيني أمرك وتكف عني؟ قال: فرد جميع ذلك وكتب له في ظهر رقعته: وفعلت فعل ابن المهلب إذ ... كعم الفرزدق بالندى الغمر لا أقبل المعروف من رجل ... ألبسته عاراً على الدهر وبعثت بالأموال ترغبني ... كلا ورب الحشر والنشر وكتب تحت الأبيات: ولكني والله لا عدت بعدها إلى ذكرك بسوء فأمسك عنه فما هجاه بعد ذلك. وهذا عجيب من مثله، فإنه حدثني أبو إبراهيم الجرجاني قال: حدثني إسحاق بن شيبة قال: أخبرني ربيعة الرازي قال: رأيت محمد بن حازم يطلب من إسحاق بن حميد بن نهيك تِكَّةً فمنعه، فقال له ابن حازم: يا أبا يعقوب إن لم يمكنك تكة ففرد نيفق أو ليس بعجيب أن يفعل مثل تلك الفعلة وهو بهذا الحد من الجشع؟

أخبار محمد بن وهيب

أخبار محمد بن وهيب حدثني أحمد بن الهيثم قال: حدثني العرمزي قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: قال ابن وهيب الشاعر: والله لأحدثنك حديثاً ما مر بمسامعك مثله، إن أنت جعلته أمانة وكتمته علي، قلت: حدثني، قال: إنه ليس مما سمعت قط، قلت: كم هذا التعقد بالأمانة، حدثني ولا أخبر به أحداً ما دمت حياً، قال: بينا أنا بمكة أيام الموسم معها صبي يبكي، وهين تسكته ويأبى ولا يسكت، فأخرجت من فيها شق درهم فناولته الصبي فسكت، فتأملتها فإذا هي ذات وجه جميل وشكل رطب وظرف ليس بعده شيء، فقلت لها: أفارغة أنت أم مشغولة؟ قالت: بل مشغولة، وزوجي رجل من بني مخزوم، ولكني عندي فارغة ذات حر ضيق ووجه حسن وثبج كبير، أجمع لك هذا كله بأصفر سليم، قلت وما أصفر سليم؟ قالت: دينار، قلت: ليست هذه من شرائط الدنيا. هذه من شرائط الجنة، قالت: فهات إذن الشرط. فدفعت إليها فأخذته، وأخرجت آخر فقلت: اصرفي هذا في الطيب، قالت: إنها لا تمس الطيب للرجال، قلت: فاصرفيه في غيره، ثم مضت ودخلت زقاق العطارين فصعدت غرفة وقالت: اصعد، فصعدت، وصفقت بيدها لجارية لها فقالت: قولي لفلانة عجلي ولا تبطئي، فأقبلت جارية كأنها الشمس.

وقالت: قولي لأبي الحسن وأبي الحسين ليحضرا: فقلت: هذا نعت علي بن أبي طالب عليه السلام. ثم جعلت أنظر إلى حسن وجه صاحبتها وحلاوة صورتها فكت أجن. وقالت لي صاحبتي: هذا التي ذكرت لك، وقالت للجارية: إني قد ذكرتك لهذا الفتى، وهو على ما ترين من الهيئة والجمال والنظافة والظرف، قالت: حياه الله وقربه، قالت: وقد بذل لك من الصداق دينارين، فقالت: يا أماه، أخبرته بشرطي؟ قالت: إني والله نسيت، فنظرت إليّ وقالت: إنها والله أشجع من عمرو بن معد كرب، وأكثر زهواً من ربيعة بن مكدم، ولست تصل إليها حتى تسكر، فإذا سكرت ففيها مطمع فقلت: هذا هين. فإذا شيخان قد أقبلا، فخطب أحدهما وأجاب الآخر، فزوجاني ثم انصرفا، وأتينا بطعام فأكلنا، ثم أحضرت شراباً فشربت وسقتني. فلما دب فينا الشراب غنت بهذا الصوت راحوا يصيدون الظباء وإنني ... لأرى تصيدها عليّ حراما أشبهن منك سوالفاً ومدامعاً ... فأرى لهن بذا ذماما وهي توقع بقضيب على دواة. فوالله إني لأنتاب القيان منذ ثلاثين سنة إن كنت سمعت قط أحسن من صوتها، ولا غناء أحسن من غنائها، فكدت أطير طرباً وقلت: يا سيدة النساء ما سمعت بهذا الصوت قط، ولا عرفت هذا الشعر، قالت: بلى ولكن قام لمعبد فيه صوتان قلت: جعلت فداكن وليس إلا ما قلت؟ قالت: بلى ولكن ليس هذا وقته. فلما أمسينا قامت فصلت، وقمت فصليت. والله ما أدري كم صليت، حرصاً وطمعاً، وعدنا

إلى شرابنا فشربت وناولتني، فلما مضت ساعة من الليل قلت لها: جعلت فداك أتأذنين لي في الدنو منك؟ قالت: قم أولا فتجرد وأمش مقبلاً ومدبراً حتى أراك. فقمت وتجردت ومشيت وأنا منعظ، ولا أدري ما يراد بي، ثم وقعت بالقضيب على الدواة وغنت بأحسن صوت وأصنع غناء كأني بالمجرد قد علته ... نعال القوم والخشب السواري فلم افطن للحين الذي يراد بي، وقلت: جعلت فداك، أوليس لهذا البيت ثان؟ قالت: بلى، وسوف تسمعه بعد ساعة ثم قالت: امش حتى أراك بين يدي، ومشيت فقالت: توسط المجلس واقرب مني ففعلت، وهناك خرق إلى أسفل قد غطي ببواري ولا أعلم. فما وضعت رجلي عليه إذا أنا في سوق العطاري قائم، وإذا الشيخان قد كمنا لي بنعالهما، فضرباني حتى كدت أموت وأنا عريان، وإذا الصوت من الغرفة: ولو علم المجرد ما أردنا ... لحاصرنا في الصحارى فوالله يا أبا محمد لقد وقع على قفاي من النعال خفاف وثقال حتى رضضت، وإذا رجل يقول: ويلك رحلك لا ينذورا بك السلطان فنقع في بلية، فقمت وأنا مرضوض عريان متجرد حتى صرت إلى رحلي، فلما أصبحت وتهيأت للخروج مع أصحابي جعلت طريقي على سوق العطاري فنظرت فإذا الجارية في الغرفة فقالت لي: يا فتى هل لك في العود؟

أخبار أبي خالد المهلبي

قلت: أما على تلك الشرائط فلا. فسألت عنها فقيل: جارية من آل أبي لهب. ومما يستحسن له من شعره قوله: مات الثلاثة لما مات مطلبُ ... مات الحياء ومات الرغب والرهب لله أربعة قد ضمهم كفن ... أضحى يعزى به الإسلام والعرب يا يوم مطلب أبكيت أعيننا ... بعد الدموع دماً ما دامت الحقب فاذهب ذهاب غوادي المزن ما سفحتْ ... صوباً على الأرض أو ما اخضرت العشب أخبار أبي خالد المهلبي اسمه يزيد بن محمد، وهو من ولد المهلب بن أبي صفرة. وكان ينزل الشام ثم انتقل إلى مدينة السلام. حدثني ابن هامان قال: حدثني أبو الأخوص الكوفي قال: عن بعض الكتاب قال: قال لي أبو خالد المهلبي: دخلت يوماً على صديق لي من أهل بغداد أسلم عليه، وعنده، وعنده ابنان له شابان، وإذا هما أرقع خلق الله، وأخذا يتكلمان بكل حماقة وكل محال. وأبوهما ينظر إليهما ويتعجب منهما، فأردت أن أسرى عنه فقلت: سبحان الله ما أطيب كلامكما! فقال الأب: إن كنت كاذباً فرزقك الله مثلهما. قال أبو العباس: كان أبو خالد هذا من فحولة المحدثين ومجيديهم، وشعره قليل جداً، ومما رويناه له هذه:

أخبار العتبي

قالوا تمن، فقلت: القوتَ في دَعة ... ببطن مرة لا وحل ولا سهك بطن إذا افترش المسكين تربته ... رأيت أنظف فرش يفرش الملك لي حرة من عباد الله صالحة ... لا الجار تؤذي ولا الإسلام تنتهكُ والصقر والكلب إما كنت ذا جلدٍ ... وإن ضعفت فريشي الدبق والشبك وطائرات على برج مطوقة ... كأنما ريشها السمور والفنك وإن يفاجئك أضاف أتاك لهم ... مقلو بسر به البرني ينعلك في منزل لم يكن من مكسب سحت ... لا يخاف به من عامل درك تسلم النسك للنساك خلوته ... ويستر الفتك من قوم إذا فتكوا يا منزلاً لم يساعدني الزمان به ... ولم يدر لي بأن أحيا به الفلك لقد تمنيت عيشاً ليس يعرفه ... إلا بصير بطيب العيش محتنك أخبار العتبي حدثني ابن القرشي قال: حدثني أبو عبد الله الأموي قال: قال العتبي: بينا أنا أمر في شارع المربد يوماً إذ أنا بامرأة جميلة، فتبعتها وقلت:

يا أمة اله، هل لك زوج؟ قالت: لا، قلت: فما رأيك في؟ فدنت مني وقالت: إن رأسي أشمط. فوليت عنها، فلما بعدت نادتني، يا فتى ارجع، فرجعت، فكشفت قناعها، فإذا أنا بشعر كالغراب، فبقيت متعجباً، فقالت: كرهنا منك ما كرهته منا. ومما روينا في هذا المعنى للعتبي: رأين الغواني الشيب لاح بعارضي ... فأعرضن عني بالخدود النواضر وكن متى أبصرنني أو سمعن بي ... سعين فرقعن الكوى بالمحاجر فإن عطفت عني أعنة أعين ... نظرن بأحداق المها والجآذر فإني من قوم كريم ثناؤهم ... لأقدامهم صيغت رؤوس المنابر ومما يستحسن له قوله: ولما رأيتك لا فاسقاً ... قوياً ولا أنت بالزاهد وليس عدوك بالمتقى ... وليس صديقك بالحامد أقمتك في السوق سوق الرقيق ... وناديت: هل فيك من زائد على رجل غادر بالصديق ... كفور لنعمائه جاحد فما جاءني رجل واحد ... يزيد على درهم واحد سوى رجل خانه عقله ... وحلت به دعوة الوالد فبعتك منه بلا شاهدٍ ... مخافة ردك بالشاهد

أخبار عمارة بن عقيل

وأبت حميداً إلى منزلي ... وحل البلاء على الناقد وله أيضاً: ليس احتيال ولا عقل ولا أدب ... يجدي عليك إذا لم يسعد القدر ولا توان ولا عجز يضر إذا ... جاء القضاء بما فيه له الخير ما قدر الله لا يعييك مطلبه ... والسعي في نيل ما لم يقضه عسر وما عرتني من الأيام معضلة ... إلا صبرت لها، والحر مصطبر إني على عسري بالله ذو ثقةورب قوم إذا ما أعسروا كفروا كم مانع نفسه لذاتها حذراً ... للفقر ليس له من ماله ذخر إن كان إمساكه للفقر يحذره ... فقد تعجل فقراً قبل يفتقر أخبار عمارة بن عقيل هو عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير بن عطية. حدثني مسلم بن رياح الجريري قال: حدثني أبو رياح بن عمرو قال: قدم عمارة من البادية إلى الحضر حين اتصل بالناس شعره، وكان أشعر أهل زمانه، وكان ينحو نحو أبيه وجده، ولا يأخذ في معنى من المعاني إلا استغرقه، وكان نقي الشعر، محكم الرصف جيد الوصف، من أهل بيت الشعر، وكان مداحاً للخلفاء والوزراء والأشراف والملوك، فكسب مالاً عظيماً وانصرف إلى البادية. حدثني عمر: قال: قدم عمارة بن عقيل من البادية إلى الحضر، وهو

أفصح الناس، وأحسنهم هدياً وقصداً، صحيح الدين، ليس عنده من المجون والسخف شيءٌ، فما رجع إلى البادية وهو مؤمن بحرف من كتاب الله، وذلك أنه وقع إلى قوم يقولون بالدهر، فعاشرهم فأفسدوا عليه دينه، فكان بعد ذلك لا يرجع إلى شيء من أمر الدين. ومما يستجاد لعمارة بن عقيل: عناء القلب من سلمى عناءُ ... وما أبداً له منها عزاءُ تكلفني هواها النفس جهلاً ... وخير نصيبها منها الرجاء رقيقة مرشف المسواك، فيها ... مع الدل الملاحة والبهاء غذاها عيش مرغدة وشيب ... تمدحها، وتعسفها النساء تطببها له بصدود عمرو ... فأعيانا التطبب والدواء وشر جزاء ذي نعمى نجرنا ... بنو عمرو إذا احتمل الجزاء منعناهم بني سعد وعمروعبيد عصاً لسعد أو إماءُ ومما يختار له أيضاً: ويرفع المال أقواماً وإن خملوا ... ويزري الفقر أقواماً وإن كرموا وقد رأيت رجالاً إذ رأيتهمُ ... خلو مواريثهم للناس واخترموا

لم يحملوا بالذي خلوا وراءهمُ ... ولم يحوزا به إلا الذي اجترموا عُمار إن أحق الناس كلهم ... بأن تزور إمام الأمة الحكم الواهب الألف والمخشى صولته ... والمحكم العقد لما خانت الأمم والقائد الخيل نحو الثغر معلمة ... شعثاً تصلصل في أفواهها اللجم وله أيضاً: طرقت أميمة والعيون نيام ... شعثاً وأطلاحاً بهن أوام أوقعن تحليل اليمين بقفرة ... يهماء طامسة بها الأعلام جبن الدجى وجشمن كل تنوفة ... حتى كأن صحاحهن سقام حيا الإله خيالها من زائر ... ومع التحية خيرة وسلام أأميم إنك لو بليت خلائقي ... لعلمت أني ماجد بسام شهاد أندية الكرام مزور ... وفر التلاد ملوم لوام أشبهت آبائي فجئت كمثلهم ... كانوا الأُلى قدم لها وإمام ومما يستحسن له قوله - والمرثية في أخيه -: أخي يوم أحجار الثمام بكيته ... ولو حم يومي قبله لبكاني

أخبار علي بن الجهم السامي

تداعت له أيامه فاخترمنه ... وأبقين لي شجواً بكل مكان فليت الذي يبكي بعثمان غدوة ... دعا عند قبري مثلها فنعاني فلو قسمت في الجن والإنس عبرتي ... عليه بكى من حرها الثقلان أخبار علي بن الجهم السامي حدثني الشيرازي قال: حدثني ابن أبي طاهر قال: سمعت أبا عبد الله ابن محمد يسأل الجهم بن بدر - معلم علي - أن يحبسه في المكتب لشيء وجد عليه، فحبسه إلى الظهر، وضاق صدره، فأخذ شق لوح وكتب فيه إلى أمه، وبعث به مع بعض الصبيان إليها من حيث لا يعلم أبوه: يا أمنا أفديك من أم ... أشكو إليك فظاظة الجهم قد سرح الصبيان كلهم ... وبقيت محصوراً بلا جرم فلما قرأت الأم البيتين وثبت إلى لحية الجهم فنتفت أكثرها، فذهب الجهم بنفسه حتى أطلقه. وحدثني أبو العباس الشاعر قال: حدثني ابن أبي عروبة قال: كان علي بن الجهم شاعراً مفلقاً مطبوعاً، يضع لسانه حيث يشاء، وكان هجاء، فأولع بآل طاهر يهجوهم وينسبهم إلى الرفض. فمما عرض به قوله وهو محبوس:

تضافرت الروافض والنصارى ... وأهل الإعتزال على هجائي وعابوني وما نبي إليهم ... سوى بصري بأولاد الزناءِ وإنما عني بالروافض الطاهريين. وبأهل الاعتزال بني داود، وبالنصارى بختيشوع بن جبريل، فإنه كان يعاديه. ووجد عليه طاهر من ذلك، فما زالوا يكاتبون المتوكل في أمره ويحتالون، حتى أخرج إلى خراسان، فلما وقع في أيديهم صلبوه بباب الشاذياخ، فاجتمع الناس ينظرون إليه وقد صلب عرياناً، فقال وهو على خشبته: لم ينصبوا بالشاذياخ صبيحة ال ... إثنين مغموزاً ولا مجهولا نصبوا بحمد الله ملءَ عيونهمْ ... حُسناً وملءَ قلوبهم تبجيلا ما ضره أن بز عنه لباسه ... فالسيف أهول ما يرى مسلولا فاتصلت الأبيات بالقوم فأنزلوه وأكرموه. ومن خبيث هجائه: بني متيم هل تدرون ما الخبر ... وكيف يستر أمر ليس يستتر حاجيتكم: من أبوكم يا بني عصبٍ ... شتى ولكنما للعاهر الحجرُ قد كان شيخكم شيخاً له خطرٌ ... لكن أمكم في أمرها نظر فلم تكن أمكم والله يكلؤهامحجوبة دونا الأبواب والستر كانت مغنية الفتيان إن شروا ... وغير محجوبة عنهم إذا سكروا وكان إخوانه غراً جحاجحة ... لا يمكن الشيخ أن يعصى إذا أمروا قوم أعَفّاء إلا في بيوتكم ... فإن في مثلها قد تخلع العذر

قوم إذا نسبوا فالأم واحدة ... والله أعلم بالآباء إذ كثروا حدثني ابن أبي فنن قال: حدثني أبو عبد الله اليحصبي قال: لما قال علي بن الجهم وهو محبوس كلمته التي يخاطب فيها المتوكل: قالت: حُبست فقلت ليس بضائري ... حبسي، وأي مهند لا يغمدُ ثم قال حين صلب: ما ضره أن بز عنه لباسه ... فالسيف أهول ما يرى مسلولا حكموا له بأنه أشعر الناس، فأذعنت له الشعراء وهابته الأمراء. ومما يختار له قوله: هي النفس ما حملتها تتحملُ ... وللدهر أيام تجور وتعدلُ ولا عار أن زالت عن الحر نعمة ... ولكن عاراً أن يزول التجمل وعاقبة الصبر الجميل جميلة ... وأفضل أخلاق الرجال التفضلُ وله: أقلني أقالك من لم يزل ... يقيك ويصرف عنك الردى وأعلاك حتى لو أن السما ... تنال لجاوزتها مصعدا فما بين ربك جل اسمه ... وبينك إلا نبي الهدى وأنت بسنته مقتد ... وفيها نجاؤك منه غدا ويستحسن له أيضاً قوله من رائيته في المتوكل: إذا نحن شبهناك بالبدر طالعاً ... وبالشمس قالوا حق للشمس والبدر ولو قُرنت بالبحر سبعة أبحر ... لما بلغت جدوى أناملك العشر

أخبار عبد الله بن أبي أمية

وله: إذا نحن شبهناك بالبدر طالعاً ... بخسناك حظاً أنت أبهى وأكمل ونظلم إن قسناك بالليث في الوغى ... فإنك أحمى للذمار وأبسلُ فلا عرف إلا قد تجاوزت حده ... ولا بحر إلا سيب كفك أفضل وهو ممن شهر بشعره، ووجد عند الخاصة والعامة، وليس قصدنا الاستقصاء، وفيما ذكرناه كفاية. أخبار عبد الله بن أبي أمية حدثني أحمد بن علي البصري قال: حدثني أبو خالد الخزري قال: ذكر دعبل بن علي الشاعر أن هذا البيت أهل بيت شعر، وأن محمد ابن أبي أمية وابنه عبد الله بن أبي أمية، وابنه العباس بن أبي أمية وابن ابنه محمد بن علي ابن عبد الله بن أبي أمية وهو أبو حشيشة كلهم شعراء، وأشعرهم عبد الله بن أبي أمية وهو القائل: هذي الزقاق لدى الفراق ملأتها ... بالجد في طوعي وفي إكراهي ضحك الفراق بكاء صب مدنفٍ ... وبكاؤه ضحك الضعيف الواهي وله: دعْ دارسات الطلولِ ... وكل ربع محيلِ ولا تصف دار سلمى ... ذرها لكل جهول لا تقل: آل ليلى ... قد آذنوا برحيل

أخبار خالد النجار

حسبي بحب مهنا ... عمن غدا في الحمول بذي دلال وجيد ... لدى محب بخيل صعب العنان شموس ... بالمقلتين قتول كغصن بان تثنى ... على كثيب مهيل وشامخ الأنف يزهى ... بحسن قد أسيل ونخوة وازورار ... وكسر طرف كحيل أغراه بالهجر وجدي ... وما رأى من نحول وحاسدٌ لي أتاه ... عني بقالٍ وقيل وما وصفتُ مهنا ... بوصف خل وصولِ ولم أقل: فزت يوماً ... بلذة التقبيلِ ففيم يا من تعدى ... على الأسير الذليل ما لي لديك ثقيلا ... وتستخف رسولي لا كنت إن كان هذا ... هذا لبعض دخيل أخبار خالد النجار حدثني عبد الوهاب بن محمد البصري قال: حدثنا: مسلم بن عقبة قال: قال لي خالد النجار: رأيت جارية مولدة بالبصرة ومعها تور فيه نورة

فقلت: يا جارية يكفي ما في هذا التور حرين؟ قالت: نعم إذا كانا صغيرين. قال: وكان خالد النجار شاعراً متقلبا، إلا أنه كان خبيث اللسان سريعاً إلى أعراض الناس، وشعره في غير هذا المعنى وهو القائل: أنا النجار أنجر كل أير ... غليظ الأصل منتفخ الوريدِ سأنجر إن بقيت بغير فأس ... فياشل صلبةً مثل الحديد وأجعل بعضها باعاً وبعضاً ... دُوين الباع ذا أشر شديد وأهديها لطيبة تتخذها ... مطاياها إلى السفر البعيد وتحمل إبنها أيضاً عليها ... إذا طلب الركوب مع العبيد فيا حسن العقيلة حين تعلو ... على متن الأشج أبي الوليد بلا سرج هناك ولا لجام ... ولا تبن ولا علف عتيد تسير بليلة عشرين ميلاً ... وترحل غير مرتحل الوفود وما كان الوليد لذاك أهلاً ... ولو بذل الطريف مع التليد أبا العباس دونك فارتبطه ... فما هو بالعنود ولا البليد فإني قد طلبت الأجر فيه ... وفي حمل العجوز على البريد

أخبار خالد القناص

أخبار خالد القناص قال: مما يستحسن من شعر خالد القناص كلمته التي هي سائرة في الناس: عوجوا على طلل بالقفص خلاني ... أقوى، فقطانه أرآل هيقان قد غيرت آيه ريح شآمية ... ووبل مثعنجر بالسيل مرنان أمسى خلاء وأمسى أهله شحطت ... نواهم حيث أموا أرض نجران ومنها: دار لجارية بيضاء لاهية ... كالشمس ضاحية في خلق جنان بيضاء خرعبة خود مطيبةٍ ... للعين معجبة نفي لأحزان ثم طرد أبياته كلها على هذا النمط وقال في آخرها: حتى إذا ثملوا من طول ما نهلوا ... مالوا وما عقلوا تميال وسنان قتلى وما قتلوا جهلي وما جهلوا ... سكرى وما انتقلوا من حكم لقمان درات قواقزهم لانت مغامزهم ... ذلت غرائزهم من نقر عيدان قال: زعم مرداس بن محمد أن من رواها ثم لم يقل الشعر فلا ترجُ

أخبار عيسى بن زينب

خيره. قال ابن المعتز: وأنا أقول أيضاً: إن من روى هذه ثم لم يقل الشعر فأبعده الله وأسحقه. أخبار عيسى بن زينب أخبرني محمد بن القاسم عن أبي ماجد الكوفي قال: قال عيسى بن زينب: كان لي غلام من أكسل خلق الله، وكنت لا أبعثه في حاجة إلا أذهب نهاره كله فيها، ثم ربما رجع ولم يقضها، قال: فكنت أضربه كثيراً وأقول له: يا ابن الفاعلة، لو كنت كيساً كنت إذا بعثتك في حاجة واحدة قضيت ثنتين. ورجعت سريعاً. قال: فاعتللت عقيب هذا علة خفيفة لا يخاف من مثلها على أحد، وكان لي صديق متطبب، فقلت للغلام: اذهب إليه فقل له: تعال إلينا، وكان منزله بعيداً من منزلي جداً، فما شككت في أنه لا يعود إلى آخر النهار. لما أعرف من عادته. فوالله ما غاب عن بصري حتى وافاني بالطبيب ومعه رجل آخر لا أعرفه، فقلت في نفسي: لقد أسرع جداً، ومن أخرى: قد آن له أن يفلح، وقلت له: يا فلان، هذا الطبيب قد عرفته فمن هذا الرجل؟ قال: الغاسل. قلت: ومن أمرك أن تدعو الغاسل؟ قال: ألست كنت قلت لي: لو كنت

أخبار محمد اليزيدي

إنساناً كيساً كان إذا بعثتك في حاجة قضيت ثنتين؟ وقد فعلت، وكان أخوك قد استقبلني فأردت أن أجيء به، ولكن كان مشغولا بحاجة فلم يفعل. قلت: وأخي لم أردت أن تجيء به؟ قال: ليصلى عليك. وعيسى بن زينب يعرف بالمراكبي. زعم الأثرم أنه من موالي بني أمية. وكان محسناً مفلقاً. وأحد من يجيد في الخمر، ويشربها ولا يفتر عنها، وهو القائل: حي الصبابة ميت الصبر ... قامت عليه قيامة الهجرِ متحير سدت مذاهبه ... لهفان حيث غرامه يغرى لو كان يسبق ميتٌ أجلا ... لسكنت قبل منيتي قبري من حب من فاقت محاسنه ... لولا مشابهة من البدر وله: سبى فؤادي بمقلتيه وقد ... أمسى فؤادي سبته عيناه حتى حبست العمى فيدركني ... فأغمض الطرف للذي راه يهتز كالغصن في غضارته ... زينه بالرحيق مولاه أسفله كالكثيب تحسبه ... وكالقضيب الرشيق أعلاه أخبار محمد اليزيدي حدثني محمد بن إسرائيل. قال: حدثني جعفر بن غياث الموصلي قال: قال أيوب بن أبي سفيان: كنت أنا ومحمد بن أبي محمد اليزيدي

نتحدث على شراب لنا في بعض المتنزهات. غذ أقبل قنفذ أبيض يدب مكانه فظنناه جائعاً، فألقينا له كسرة، فأكلها، ثم قلنا: لو سقيناه. فوضعنا له نبيذاً في قدح واسع، فقلت لمحمد: هل لك أن تقول فيه شيئاً نُغالط به سعيد بن مسلم غداً؟ قال: نعم. ثم أنشد: وطارق ليلٍ جاءنا بعد هجعة ... من الليل إلا ما تحدث سامر قريناه صفو الراح إذ جاء صارقاً ... على الزاد لم يشعر بنا وهو سادر جميل المحيا في الرضا. فإذا أبى ... حمته من الضيم الرماح الشواجر ولست تراه واضعاً لسلاحه ... من الدهر موتوراً ولا هو واتر ثم لقينا سعيداً فأنشدناه الأبيات فاستحسنها، وقال: هكذا والله أحب الفتى متيقظاً. فضحكنا. فقال: لكما والله قصة، لا تفارقاني أو تخبراني. فأخبرناه، فضحك ثم قال: لا يعلم الغيب إلا الله فكنا بعد ذلك لا نأتيه إلا تبسم في وجوهنا. ومما يستحسن له قوله: أتظن والذي تهوى مقيمُ ... لعمرك إن ذا خطر عظيمُ إذا ما كنت للحدثان عوناً ... عليك مع الزمان فمن تلومُ شقيت به فما أنا عنه سال ... ولا هو إذ شقيت به رحيم وله: يا قمر الكرخ إن عبدكم ... غريق شوق صريع أسقامِ لم يخط سهمُ الفراق مهجته ... شلت يمين الفراق من رام

أخبار أبي هلال الأحدب

وهمّنيك اشتياق ذي فكر ... مثلكم في اعتراض أوهام ومحمد هذا من المشهورين، وشعره موجود كثير. أخبار أبي هلال الأحدب حدثني أبو النجد قال: حدثني الأثرم قال: اسم أبي هلال عصين بن براق، وكان أعرابياً هاجر إلى بغداد، وكان شاعراً مفلقاً مطبوعاً، وله ببغداد بنون، وكان بعض بنيه يقول الشعر ويجيد، وليس كأبيه، ومما رويناه لبي هلال واخترناه: أروح ولم أحدث لليلى زيارة ... لبئس إذاً راعي المودة والوصل تراب لأهلي، لا ولا نعمة لهم ... لشد إذا ما تقد تعبدني أهلي ومما استحسناه قوله: أقول يا فاتن والحب لا ... يبقي على مهجة محزونِ عندك يا فاتن من حيلة ... فإن حادي الموت يحدوني يا فاتني إن الذي ضمنت ... نفسي شيء ليس بالدون يا سادتي ظبيكم قاتلي ... ظلماً وما قتلي بالدين ما زال عن قوس الهوى طرفه ... فوق لي سهماً ويرميني حتى إذا أقصدني سهمه ... حط، وأدنى ذاك يكفيني يا ذا الذي أسقمني ليس لي ... غيرك من خلق يداويني ولست والله إذا رمته ... منك على قلبي بمامون

أخبار أبي الأسد الثعلبي

لكنني أقنع يا سيدي ... دون وصال أن تمنيني تعلتي فيك بطيب المنى ... دهراً، فعيشي عيش كمون وهذا من جملة شعره المستحسن المستجاد. أخبار أبي الأسد الثعلبي حدثني جعفر بن جندب. قال: حدثني أبو زرعة الرقي قال: كان أبو الأسد الشاعر يشبه الأخطل في أيامه لجودة شعره، وكان دعبل هجا الحسن بن مرة فغضب أبو الأسد للحسن بن مرة فكتب إلى دعبل هذه الأبيات: يا دعبل بن علي أنت في حسن ... كالكلب ينبح من بعد على الأسد فاكفف لسانك عما قلت في حسن ... فقد رأيت له مثلي من العدد فكتب إليه دعبل: لا أعود. واتصل الخبر بالحسن فبعث بخمسين ثوباً إلى أبي الأسد. ومما رويناه واخترناه: روحي مقيم بين أثوابي ... مستوفز عن جسدي نابِ نَحُفتُ حتى ما بقي مسلك ... في جسدي مجرى لأوصاب لم يبق إلا حركات الهوى ... مني وعين ذات تسكاب من يرني يحسبني لم أمتأرده في شك مرتاب

أخبار ابن شادة المعروف بالمخنث

أي سقام وهوى فادحٍوأي ضر حل أثوابي لو لمسوني ملء أيديهم ... لم يجدوا غير أسلابي حدثني أحمد بن مروان الخزري قال: حدثني عبد الوارث بن عمرو من أهل الجزيرة قال: كان أبو الأسد الثعلبي حين ترعرع أخذ في قول الشعر، وكان أصحابنا يقولون: يخرج والله أبو الأسد خروجاً يتحدث به، لأنه كان غواصاً، وما زال كذلك حتى سمي الأخطل الصغير. ثم لم يبق إلا يسيراً حتى لحق بالعسكر، ومدح الملوك، وأجزلوا له. فكان يقدم القدمة ومعه من الورق الكثير، والحملان والطرف ما يعلمه الله، حتى اعتقد ضياعاً بالجزيرة، وكان من أيسر أهلها. أخبار ابن شادة المعروف بالمخنث تذاكرنا يوما الطبائع الأربع وتكلمنا فيها، وابن شادة حاضر، فقال: أكثرتم القول في الطبائع، وما حقيقتها عندي إلا أن تأكل وتشرب وتنيك. فقلنا: هذه ثلاث، والطبائع أربع، قال: صدقتم، والغلط كان مني، الطبائع أن تأكل وتشرب وتنيك وتناك. ومما روينا: حدثني عمر بن عبد الرحمن قال: حدثني باذنجانة وهو أحد أولاد الفضل بن ربيع قال: بالله يا مُنية حتى متى ... يرتفع الحب وينحط وكيف منجاتي إذا صرت في ... بحر هوى ليس له شطُّ يا أقدر الناس على علتي ... ما إن أتى الناس بها قط قد صرت نصواً فوق فرش الهوى ... كأنني من دقتي خط

وهو صاحب بديع رفيق. ومما استملحنا له قوله: ها أنا ذا يسقطني للبلى ... عن فرشي أنفاس عوادي لو حسد الساك على دقة ... خلقاً لأمسى بعض حسادي وله أيضاً: قل للغزال أقمت يا ... سكني على قلبي القيامة لما رأيتك لا عدم ... تُ رؤاك تخطر في العمامة كالشمس يزهو نورها ... إما تبدت من غمامه نظري إليك بما لكم ... في القلب يعطيك ألوَلامه والجسم فيه شواهد ... بالحب يشهد لي قسامه وحلفت أنك قاتلي ... والفتك يعقبك الندامه بجمال وجهك شج لي ... كأس الهوان من الكرامه فلقد أميل إلى هوا ... ك وقد أغصص بالملامه ولقد شربت مدامة ... فذكرت ريقك بالمدامه ولقد يئست من الحيا ... ة كما يئست من السلامه ولم يكن ابن شادة مخنثاً، إنما كان لا يهجو أحداً ولا يعرض له، فسمي بذلك مخنثاً على التلقيب، وكان آدب الناس.

أخبار المعلى الطائي

أخبار المعلى الطائي حدثني ابن أبي فنن قال: كان المعلى الطائي يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، وكان من أقنع الناس. وقال يوماً: يكفيني في كل سنة خمسون درهماً فضة، فتعجب من ذلك بنوه. وكان لا يغتاب أحداً ولا يتكلم فيه، وكان أعف الناس فرجا وأصدقهم لساناً، وكان من قبل هذه الحال يتعاطى الفتوة والشطارة، ويطلب ويعبث ويفسد ويقطع ويشرب الخمر، ثم تاب وصار بالصفة التي وصفناها. ومما رويناه له قبل التوبة ولكن كان كف عن الفساد الفاحش قوله في مدح المطلب بن عبد الله الخزاعي: يا شاهر السيف إلى فتنه ... يؤوب مسعاها إلى فوتِ اخطُبْ إلى مطلبٍ ضربةً ... إن كنت مشتاقاً إلى الموتِ ترى فتى يروي القنا من دمٍ ... يكسوك منها خلعة الفوت إذا انتضى أسيافه سخطة ... عجّلن عن سوف وعن ليت وله أيضاً: لقد سعدت عيني بوجه كريمةٍ ... وإن كان في غب السرور بها حتفي فإن مت من شوق إلى عودِ نظرة ... فحسبي من دنياي ما ناله طرفي إذا سمعت أذناي منطق عودها ... وأفصحت الأوتار عنها بما تخفي

أخبار درست المعلم

وغنت كصوت الصنج تحت لهاتها ... تجاوبه النايات في نغم الأنف فيجمع بين الرجز والشج حذقها ... وتسكت من غنجٍ على مقطع الحرف موردة الخدين مهضومة الحشى ... معقربة الصدغين فاترة الطرف تقمَّص أثواب الرجال تمرداً ... وتأنف من لبس القلادة والشنف وهو حسن الشعر مليحه، ولما تاب ترك الشعر، وكان يقال له: لم لا تقوله وأنت نسيج وحدك؟ فيقول: قد أبدلني الله تلاوة كتابه. وما قال بعد ذلك شعراً حتى مات. أخبار درست المعلِّم وقد أحتج الجاحظ بشعره. حدثني أبو حاتم الأسدي قال: حدثني أبو حاتم الأحول قال: كان درست المعلم أقصر من رأيت وأضعفه بدنا، وكان مع ذلك يقول: لولا أنني معلم، والمعلم عند الناس أحمق، وأنا مولى. وليس بالمولى كالصريح، لما دعا الناس إلى بغض هذه الدولة - يعني دولة بني العباس -، أو حي يقال له: درست. وكان يرى رأى الخوارج ويرى الدار دار كفر، ويقول: قد عطلوا الأحكام وغيروها. وقد قال الله: " ومن لم يحكم بما أنزل الله

فأولئك هم الكافرون " وكان مع هذا أرقع خلق الله، إلا أنه كان فصيحاً جيداً لقول الشعر. حدثنا أبو نزار الخارجي قال: حدثني من رأى درست المعلم يناظر في مسجد البصرة صنوف أهل العلم فيغلبهم، لأنه كان عمل في الكلام وجود، وكان ذا بيان وشدة عارضة. ومما رويناه له في جيرانه: لي جيران ثقال كلهم ... وخفيف فيهم مثل الرصاص قلت لما قيل لي: قد غضبوا: غضب الخيل على اللجم الدلاص ومما سار له في الدنيا لجودة معناه قوله: لنا صاحب مولع بالخلاف ... كثير الخطا وقليل الصوابْ ألجُّ لجاجاً من الخنفساء ... وأزهى إذا ما مشى من غراب ومما يستملح من غزله قوله: أما والخال في الخد الأصيل ... وطرف فاتر غنج كحيلِ وقد مائل يحكيه غصن ... على دعص من الردف الثقيلِ أنا المقتول من بين الأساري ... فهل ترثى لمحزون نحيل لقد أبدى هواك لنا سيوفاً ... فكم بسيوف حبك من قتيلِ ألا يا عين قبل البين جودي ... بدمع وَاكِفٍ هَمِلٍ هَطُولِ على جسم براه هجر حب ... أراه سوف يؤدي عن قليل

أخبار محمد بن الدورقي

أخبار محمد بن الدورقي هو مولى عبد الله بن مالك الخزاعي. حدثني أبو العنبس الصيمري قال: أخبرني ابن أبي الذلفاء قال: قدم محمد بن الدورقي على يحيى بن عبد الله بن مالك الخزاعي وهو على أصبهان فقصر في بره، وشغل عنه، فلما كان بعد أيام ضجر من المقام على الجفاء وكان هناك رجل من ولد هرثمة فوهب له مالا فقال: تنقلت كي أطلب المرحمه ... وأرفع عن نفسي المغرمة وقد كنت مولى بني مالك ... فأصبحتُ مولى بني هرثمة فأخذه يحيى فحبسه في حبس بأصبهان، يقال له الدليج. فاحتال حتى تخلص، ثم هجاه بكل قبيح، ولم يُبق غاية في مكروهه. ومما قال فيه: يقول جليساه إذا خَلَو به ... تنفس يحيى ويحه أم تغوطا وهي طويلة. إلا أنها فاحشة فتركناها. فلما صرف يحيى، وورد بغداد أهدى إليه طرائف كثيرة، وبره ووصله، ثم ولي قزوين. فبعث إلى ابن الدورقي أن يتأهب للخروج معه، ووعده كل إحسان وخير، فجاءه وقال: يا سيدي، كم تدفع إلي إذا خرجت معك؟ قال: عشرة آلاف درهم. قال: أحسنت والله وجودت، إنما تدفع إلي ديتي، وما أحسبني أجوز النهروان حتى تقتلني، ولن يراني الله فاعلا ذلك أبداً، ولو أعطيتني

أخبار ابن عائشة القرشي

مائة ألف درهم بعد ما قلت فيك ما قلت. فقال له يحيى: إن الكرام والأشراف لا يفعلون ما تقول، وإنما عاداتهم اصفح والعفو والإحسان والزيادة، يريدون بذلك جميل الذكر. فقال: يا سيدي، دعني من هذا، فإني أرى الموت عياناً إن خرجت معك. فأعطاه العشرة الآلاف معجلة وقال: والله لئن خرجت لأفعلن لك ولأصنعن لك. فقال: إني لا أستجرئ على ذلك، وأخاف أن تسكر وتدعوني وتضرب عنقي. وهو القائل في هاشم بن عبد الله بن مالك يرثيه: مضى من هاشم مالاً يعود ... وولى والزمان به حميدُ فتى كانت به الأيام تزهى ... ودنيانا به أبداً تزيد أخبار ابن عائشة القرشي واسمه عبد الرحمن بن عبيد الله. وعائشة أمه هي أم محمد بنت عبد الله بن عبيد الله من تيم قريش، يكنى أبا سعيد، وكانت سمية أم زياد بن أبي سفيان إحدى جداته، وهو مع ذلك يتسع في هذا المعنى ويقول: أيا أسفي على إسعاف دهرٍ ... وحظ من حظوظ بني الزواني

أخبار إسماعيل بن يوسف البصري

على أني أمت إلى الليالي ... بعرق من سمية غير واني وقال يهجو ابن أبي داود، أولها: أنت امرؤ غث الصنيعة رثها ... لا تحسن النعمى إلى أمثالي نعماك لا تدعوك إلا لامرئ ... في مثل مثلك من ذوي الأشكال إذا نظرت إلى صنيعك لم تجد ... حراً سموت به إلى الإفضال فاسلم لغير صنيعة ترجى لها ... إلا لسدك حالي لا السؤال الملحفُ وهل: لما رأيت الدهر دهر الجاهلِ ... ولم أر المعروف عند العاقلِ رحلت عنساً من خمور بابل ... وبت من عقلي على مراحلِ وقال يحكي من مصعب بن الزبير: من يكن إبطه كآباط ذا الخَلْ ... ق فإبطاي في عداد الفقاحِ لي إبطان يرميان جليسي ... بشبيه السلاح أو بالسلاح وهذا من أحسن الهجو، وله أشياء كلها حسنة. أخبار إسماعيل بن يوسف البصري حدثني حامد بن محمد العدوي عن أبي علي المكي قال: اجتمع أبو السفاح الأنصاري وعبد اله ب رضا وإسماعيل بن يوسف،

وكانوا خلعاءَ مجاناً فقالوا: نتفق على أن نقول في صفة الخمر لا نتعدى ذلك إلى غيره، فبقوا على ذلك إلى أن ماتوا. فمما رويناه لإسماعيل قوله: يا رُبَّ خمّارة بالقفص حانتها ... عادية ذات أطمارٍ مهاريتِ نبهتها سحراً والنجم منكدرٌ ... والديك يمزج تصفيقاً بتصويت فأوجست خيفة مني وما علمت ... أني طريق لربات الحوانيت فقلت: عندك خمر تمتعين بها ... صحبي؟ وحظك عندي كل ماشيت قالت: أصبت المنى من عانس عُصرت ... في العهد من صاحب اليقطين والحوت وقتل لما رأيت الكأس ساطعة ... تجلو الظلام: ألا يا خمر حُييت فقلت ما نالها غيري فكيف بها ... قالت فأنت لها قلنا لها إيتي ولم أزل أتحساها مصفقةً ... مع كل مدرعٍ بالحكم سكيت ترى وجوههم منها إذا خضعوا ... للسكر تلمع كالبيض المصاليت ينقضّ منها شرار كلما مُزجت ... كالشهب تنقض في إثر العفاريت ترى لها في أعالي كأسها حدقاً ... من الحباب كأحداق المباهيت كأنها حين حل الماء يرثمها ... شيبت بمسك ذكي الريح مفتوت

أخبار أبي العجل

1 فكم لها من صريع فارس بطل ... قد كان يُرهب يوم الروع مسبوت ومما يستحسن له قوله: نور تحدر من فم الإبريقِ ... في ريح كافورٍ ولون خلوق صبغ الظلام شعاعها لما رمت ... أقطاره بصواعق وبروق فكأنه سبج زها بسواده ... ثم ارتدى منها بثوب عقيق وكأنها وشرارها متطايرٌ ... والماء يخمدها ضرام حريق أخبار أبي العجل حدثني محمد بن حبيب قال: قال لي أبو العجل: تزوجت امرأة بحران، فولدت بعد أربعين يوماً، فقلت: يا هذه قد كذب من يزعم أن المرأة تلد لتسعة أشهر. قالت: وكيف ذلك؟ قلت: لأنك ولدت لأربعين يوماً، قالت: ليس كما ظننت. قلت: يا قرة العين، فكيف ذاك؟ قالت: بنيت جدارك على أساس غيرك. وكان أبو العجل ينحو نحو أبي العِبر، ويتحامق كثيراً في شعره. ومما رويناه: أيا عاذلي في الحمق دعني من العذل ... فإني رخيّ البال من كثرة الشغلِ وأصبحت لا أدري وإني لشاهد ... أفي سفر أصبحت أم أنا في الأهل فمُرني بما أحببتَ آتِ خلافه ... فإن جئتني بالجد جئتك بالهزل وإن قلت لي: لم كان ذاك؟ جوابه ... لأني قد استكثرت من قلة العقل

فأصبحت في الحمقى أميراً مُؤَمَّراً ... وما أحد في الناس يمكنه عزلي وصيّر لي حمقي بغالاً وغلمة ... وكنت زمان العقل ممتطياً رِجلي وقال أيضاً عذلوني على الحماقة جهلاً ... وهي محمد نعقلهم ألذ وأحلى لو لقوا ما لقيت من حُرفة العق ... ل لساروا إلى الحماقة رَسْلا أذعن الناس لي جميعاً وقالوا ... يا أبا العجل مرحبين وسهلا فبها لا عدمتها صرت فيهمسيداً أُتَّقى ورأساً ورِجلا وله أيضاً: اكفف ملامك محسناً ... أو مُجملاً متطولا أعَلَى الحماقة لمتني ... قد كنت مثلك أولا فدخلت مصر وأرضها ... والشام ثم الموصلا وقرى الجزيرة لم أدع ... فيها لحى منزلا إلا حللت فِناءه ... بالعقل كي أتمولا وإذا التعاقل حرفةٌ ... فعزمت أن أتحولا فانظر إلى أما ترى ... حال الحماقة أجملا من ذا عليه مؤنبي ... حتى أعود فأعقلا وحماقات أبي العجل ومجاناته كثيرة.

أخبار أبي العبر

أخبار أبي العبر واسمه أحمد بن محمد وهو هاشمي من بني العباس. حدثني غيلان بن مران قال: أخبرني منصور الماهاني قال: لما بلغ إسحاق بن إبراهيم الطاهري ما فيه أبو العبر من الخلاعة والمجانة وإظهار الحماقة أمر بحبسه، فكتب إليه رقة يكر فيها أنه تائب، ويسأله أن يخرجه من الحبس حتى يعلمه بأنه يعرف رقية العقرب فيعلمه إياها. وأنه ليس في الدنيا مثلها. فأحضره وقال له: هات علِّمنا رقيتك. قال: على أن توثق أنك لا تعرض لي بعدها. فوثق له بذلك. فقال له: إذا رأيت العقرب فتناول النعل واضربها ضربة شديدة فإنها لا تعود تتحرك. قال إسحاق: خلوا عنه فإنه لا يفلح أبداً حدثني الفيض بن محمد عن أبي روح قال: كان أبو العبر يزيد كنيته كل سنة حرفاً، وكان في الأول: أبو العبر، فما زال يزيد حتى صار: أبو العبر طرذرز لو حمق مق. وكان من آدب الناس، إلا أنه لما نظر إلى الحماقة والهزل أنفق على أهل عصره أخذ منها وترك العقل، فصار في الرقاعة رأساً. حدثني أحمد بن أبي الهيثم عن محمد بن رجاء قال: نشطت يوماً لأبي العبر فصرت إليه، فإذا هو قاعد في تغار فيه ماء،

في أشد ما يكون من الحر، وعلى رأسه سمورية، وحواليه جماعة يكتبون عنه. وقام المستملي بين القوم فجلست أسمع، فقال له واحد: يا أبا العبر، لم صار دجلة أعرض من الفرات، والقطن أبيض من الكمْأة؟ فقال لأن الشاة ليس لها منقار، وذنب الطاووس أربعة أشبار. وقال له آخر: لم صار العطار يبيع اللبد وصاحب السقط يبيع اللبن؟ قال لأن المطر يجيء في الشتاء، والمنخل لا يقوم به الماء. وقال آخر: لم صار كل خصي أمرد، والماء في حزيران لا يبرد؟ فقال لأن السفينة تجنح. والحمار يرمح. ومر له في مثل هذا من الجهالات ما لا يعلمه إلا الله. وكان يمدح الخلفاء ويهجو الملوك بمثل هذه الركاكة وكان يُؤَمَّر على الحمقى فيشاورونه في أمورهم كأبي السواق وأبي الغول وأبي الصبارة وطبقتهم من أهل الرقاعة. وهو القائل: أنا أنا أنت أنا ... أنا أبو العبرنَّهْ أنا الغني الحمقوقوا ... أنا أخو المجَنَّه أنا أحرر شعري ... وقد يجي بردَنَّه فلو سمعت بشعري ... في الدس والوترنه لسقر قر سقرنفر ... وما تارنّه لكنت تضحك حتى ... تمسك البططنه وله عجائب كثيرة من هذا الشأن لا حاجة بنا إلى استقصائها إذا كان

أخبار منصور الأصبهاني

لا نفع فيها، وإنما أحببنا أن لا نترك شيئاً مما ذكره أحدٌ مَدَح في هذه الدولة خليفة وذكر في الشعراء، وكفى ما أوردناه ونوادره. أخبار منصور الأصبهاني حدثني إسحاق بن إبراهيم الكرخي: حدثني ابن عوف قال: تزوج أبو دلف سعاد بن باذان أخت منصور، فبلغ ذلك منصوراً فكرهه، وعلم أنه سيخرجها عن قريب فقال عمداً ليطلقها أبو دلف: ومما رويناه من شعره واخترناه من قوله: ألا سقني الصهباء إن كنت ساقيا ... وروّح من الراح الرؤوس الصواديا رءوساً تراها في الرجاء مصونة ... وعند التحام الحرب تلقى الدواهيا فطوراً ترى فيها أكفاً نواعماً ... وطوراً ترى فيها الرماح المداريا وله في ابن أبي نوفل: خوانك يا ابن أبي نوفلِ ... كما زعموا فلكةُ المغزلِ وكبرى قصاعك مخروطة من البخل من أصغر الخردل وله: يا نفس لا تجزعي من التلف ... فإن في الله أعظم الخلفِ

فإن تجتزي بالقليل تغتبطي ... ويغنك الله عن أبي دلف إني إذا النفس راودت طمعاً ... يقصر عن نيله ذوو الشرف وحاولت خطة تقصر بي ... كبحتها بالحياء والأنف حتى أتاني الذي أؤمله ... بالرفق من حيلتي ومن لَطَفي وله أيضاً: أبا دُلَفٍ ما الحبس عندي بعينه ... سوى رجل يرجو نداك ونائله رأيتك لا تهدي من الفكر ضلة ... وشحَّا على الشيء الذي أنت آكله وأنت كطبل فارع الصوت فارغ ... خلاءٍ من الخيرات قفر مداخله ومن أعجب الأشياء تسليم إمرة ... عليك على طنزٍ وإنك قابله ومن مختاراته في أبي دلف يمدحه: إذا حدثته النفس أمضى حديثها ... وهان عليها ما يرى في العواقبِ فما إن تراه الدهر إلا معززاً ... بنفس أبت إلا صعاب المطالب يعاف من الكسب الذي ليس دونه ... حمام المنايا أو قراع الكتائب إذا فاجأته الخيل لم ينتظر لها ... لحاق رجال واجتماع مقانب ولكنه يرمي الصفوف بنخوة ... إذا جشأت نفس الجبان المواربِ

يكون، إذا قالوا: البراز، أمامها ... ويلفى إذا ولت حمى كل هارب ولست تراه الدهر إلا مغامساً ... بِخوض رماح لاكتساب الرغائب فأحر بهذا إن توق حمامه ... إذا كان يستدعيه من كل جانب ومن قارع الأبطال أوشك أن يرى ... منيته بين القنا والقواضب وله: كفى حزناً أن النوى قذفت بنا ... بعيداً وأن النأي أعيت مطالبه فلو أننا إذ فرق الدهر بيننا ... عسى واحد منا تمول صاحبه ولكننا من دهرنا في مؤونة ... يكالبنا طوراً وطوراً نكالبه ومن طلب الدنيا على ما يريده ... أصاب ثراء أو أرنت حبائبه فدونك هذا الصبر إني وجدته ... معيناً على الأمر الذي عز جانبه فلا تحسب المقدور فات وقوعه ... فإن قضاء الله لا بد طالبه ومما يستحسن له قوله أيضاً: فدهري دؤوب بين حل ورحلة ... يطوف بي ما عشت أرضاً إلى أرضِ كأني، بتعبير البلاد موكَّل ... لأَبلغ منها مبلغ الطول والعرض فإن يقض لي يوماً رجوع فإننيسأكفر بالديوان والقرض والفرض وأبعد نفسي عن أمور تشينها ... وألزم بيتي وافر الدين والعرض فإن دام لي عز القناعة سرني ... وإلا فبعض الشر أهون من بعض

وله في أخيه خثنام: دلس لي خثنام برذونه ... وكان دهراً طالما دلسا كان يناوي دهره موسرا ... فكيف باليائس إذ أفلسا لما فشا في الناس إفلاسه ... ولم يجز تمويهه غطسا فلا تغرنك قعاقيعه ... ما عنده شيء وإن دخمسا لم يبق إلا شبح ماثل ... يا ويحه في الفقر ما أفرسا قرطس في الإفلاس من غلوة ... ولو رمى من فرسخ قرطسا وله في آل الفيض: لا تعجبوا جهلاً بأحسابكم ... فتوقعوا أنفسكم في الحتوف متى غزوناكم فأفلتم ... بعفو أو بقتل عنيف فكم أقمنا بينكم مأتماً ... بطعنة من قيل شريف يلجأ في الروع إلى نفسه ... ما إن يعاف الموت بين الصفوف يصونها في الأمن لكنه ... يهينها تحت ظلال السيوف وله أيضاً ليتك أدبتني بواحدة ... أولها آخر لدى العدد تحلف ألا تبرني أبداً ... فإن فيها برداً على كبدي اشف فؤادي مني فإن به ... علي قرحاً نكأته بيدي

أبعدني الله حيث تحملني ... نفسي على مثل ذا من الأود عهدي بنفسي وليس يبعثها ... هذا الذي قد نعت من أحد فكيف أخطأت لا أصبت ولا ... نهضت من عثرة إلى سدد إن كان رزقي إليك فارم به ... في ناظري حية على الرصد أصبحت فيما رضيت منك به ... أدعى أبا الكلب لا أبا الأسد وقد رويت هذه الأبيات لأبي الأسد وهي لمنصور أثبت: وله أيضاً: يا ذا الذي ذم دهره ... من أجل أن حط قدره لا تأسفن لشيءٍ ... ففي المغيرة عِبره لو نيل رزق بعقل ... لم يعطه الله بعره أو لم يكن منه جود ... كفته ما عاش كسره وله فيه أيضاً فضيحة جاءت على ... غفلة يبلى الجديدان ولا تبلى مغيرة بن الفيض في بيته ... جارية من غيره حبلى وله فيه أيضاً: وجه المغيرة كله أنفُ ... موف عليه كأنه سقف رجل كوجه البغل طلعته ... ما ينقضي من قبحه الوصف من حيث ما تأتيه تبصره ... من أجل ذاك أمامه خلف

حصن له من كل نائبة ... وعلى بنيه بعده وقْف جفت المدائح عن خلائقه ... ولقد يليق بوجهه القذف ولمنصور أيضاً في المغيرة: ثكلتك أمك لم تذد عنك الذي ... سيرت فيك من الهجاء السائر حتى أتيت مشاتماً لتكفني ... عن شتم فاجرة ونغلٍ فاجر زعم المغيرة أنه بي آمر ... إن كان يكذب نكت أم الآمر ومما يستحسن له في آل سلم: أن مستيقن رضاك ولكن ... ليس يخفيه منك طرف حقود حُدث عني وصرت تنظر شزرا ... نظراً دونه يكون الوعيد وله في أخيه وكان خطيب البلد: أقول غداة العيد والناس شُهدٌ ... ومنبرنا العالي البناء رفيع لعمري لئن أضحى رفيعاً فإنه ... بمن يرتقي أعواده لوضيع أقول إذا ما قام ينهق فوقه ... أتبلغ هذا المرتقى وأضيع ومن عجب الدنيا صعودك منبراً ... وحولك ألف سامع ومطيع

وما كنت أخشى مثلها البوم نكبة ... أذل لها، والمسلمون جميع وله فيه أيضاً: قلت لخثنام على بخله ... يا بأبي يا ذا القرون الطوال لو تملك الأرض بأقطارها ... لكنت كشخاناً على كل حال فهمة الأنذال في بخله ... وهم من في البيت جمش الرجال ولمنصور في رجل يرميه بأنه كان حجّاماً: يا ذا الذي صار يعمل القلما ... قد كنت دهراً تقعقع الجلما عشت زماناً وأنت تعمله ... أحذق من يمشي ومن حجما فإن تكن بالقريض مشتغلاً ... فرب يوم سفكت فيه دما كم من كريم سفعت نقرته ... فطأطأ الرأس منك ما انتقما وكم رقاب جرحت خاضعة ... وإن يرمها سواك كن حمى بسيف شيخ قد كان فارسه ... ومن حكى شيخه فما ظلما حتى إذا هزه ليعمله ... شفى بذاك الصداع والألما فإن يكن بالجبال منكتما ... فإنه بالعراق على كسائي

أصيرتم كسائي قهرماناً ... تكفل بالغداء وبالعشاء فكيف سلبت من بين الندامى ... ألم يحضر غداءكم سوائي فردوا قد نصحت لكم كسائيولا تجلو إلى كشف الغطاء فإني إن هجوتكم ببيت ... كشفت الستر عن باب النساء وله أيضاً: أأترك الخمر لان حرمت ... وأسأل الأنذال شرب الحلال آليت لا أتركها طائعاً ... قد آذنت توبتنا بارتحالِ وله أيضاً: غيرك الدهر بعد ود ... ما أقبح الغدر يا غزالُ داريت فيك العدو دهراً ... حتى إذا أمكن الوصال وصار ما أرتجي خلالاً ... وطاب فيه لنا المقال أعرضت عني فليس ود ... ولا حرام ولا حلال وله: أنا محلول الحرام ... مثل عيسى بن هشام وعلي الهدى والمش ... يُ إلى بيت الحرام إن رأى عيسى لعبد ال ... قيس وجهاً في المنام وله: لا تكثري اللوم فيما ليس ينفعني ... إليك عني جرى المقدور بالقلم سأتلف المال في عسر وفي يسر ... إن الجواد الذي يعطى على العدم كم قد قضيت حقوقاً كان أهملها ... غيري، وقد أخذ الإفلاس بالكظم

ولمنصور في محمد بن وهيب الشاعر: أني احتجبت وذاك منك عجيب ... أجهلت ما يأتي وأنت أديبُ أو ما علمت بأن ذلك منكرٌ ... من فع من قرض القريض عجيب من ذا الذي يأتيك إلا مكرهاً ... وهو الخبير بأنه مغلوب فدع الحجاب لمن يليق ببابه ... فمن الكبائر شاعر محجوب وله في علي بن المهلب: عجبت لجسمك ما أصغره ... ومما تلقم ما أكبره أراك تطفل طول الحياة ... ويأمن خبزك أن تكسره وتلفي لعودك مستبطنا ... تدير على زيره الحنجره فليتك وريتني بعضه ... وكثر ربي بك المقبره وبكت المزعفر في خده ... وملت إلى النار من زعفره فقد كان يحرمه نفسه ... وكل نعيم مع المقتره إذا ما بدا لك فوق الحمار ... فقنبرة فوقها قنبره تحرم في بيتك المشربات ... وفي بيت غيرك ما أكثره فطوراً تجرجرها نخبةً ... وطوراً تجرجرها تذكره

وله أيضاً: له وجه خنزير وخيشوم بغلة ... وصدرة ملاح وتقطيع حائك شكا فسوه جن البلاد وإنسها ... وقد خفت أن يؤذي خيار الملائكِ فلو كان في أهل الجحيم لَوَلْوَلُوا ... إلى ربهم من فسوه المتدارك وقالوا: العذاب الضعف أهون عندنا ... وكلهم مستصرخ نحو مالك وله أيضاً: قل للذي جاء من الحج ... يا أحوج الناس إلى العفجِ لم تهد لي نعلاً ولا مقلة ... كأنما جئت من البرج تهت بأن جئت بحجامة ... ونعفة من نعف الزنج لو نلت ملكاً ناله طاهر ... لكنت مقطوع الايرطنج كيف انكباب يا أبا جعفر ... تقدم اللبد مع السرج فلست تلفي بعده مفلحا ... ما أطلع الحجاج من فجّ وله في عقبة بن مالك: يا خطبة ضيعها مالك ... أضيع منها المنبر الهالكُ يا آل بكر قبلوا قاسما ... صار على شرطته مالك عضادة المنبر في كفه ... أير حمار أسود حالك وكان أبو دلف يقول: ما رأيت أحداً فوق منبر، وعضادة المنبر في كفه

أخبار العنبري الأصبهاني

إلا ذكرت قول منصور بن باذان فكدت أضحك. وكان منصور من المجيدين لا سيما للهجو فإنه كان أهجى الناس. أخبار العنبري الأصبهاني حدثني وائل بن يشكر قال: حدثنا خشنام بن أحمد قال: لما قال علي بن عاصم العنبري أرجوزته التي يهجو فيها أهل الماهيات، وأنشدها أبا دلف: لقد أتتكم وائل بعير ... يحملن أوقاراً من الأيور أيرين أيرين على بعير ... أعيت على البغال والحمير فلما بلغ المنشد هذا البيت: مرت على الكرج ولم تعرج قال: اسكتوا حتى يجوزكم. وكان علي بن عاصم هذا من الشعراء المجيدين. وكان يسكن الجبل. وكان قد دخل العراق ومدح ملوكها. ولو أقام بها لخضعت له رقاب الشعراء، فإنه كان محاسن شعر من مسلم وأبي الشيص وطبقتهما، وهو صاحب القصيدة اللامية التي ليس لأحد مثلها: نُحِرَتْ جمالكم على الأطلال ... كم تتبعوني وقفة الأحمالِ كم تعذلوني قد حشوت مسامعي ... فسددتها عن نغمة العذال كم تعنفون على الذين صدورهم ... طويت على الزفرات والبلبال مطرت خدودهم سحاب شئونهم ... فعفت طلولهم مع الأطلال

فتكاد تبدؤهم لطول وقوفهم ... في المنزل الأطلال بالتسآل بعث الرحيل بصبره أيدي سبا ... حين الحسان برزن للترحال زم العزاء غداة زم مطيهم ... فحدا الحداة به مع الأجمال بيض سلبن مها الصريم عيوها ... ومن الصريم مآكم الأكفال قضب على كثب تقل أهلّة ... تركت أهلتنا بغير جمال أخذت لنا أهب البعاد وقربت ... آجالنا بمحاجر الآجال من كل بهكنة يريك سفورها ... قرن الغزالة فوق جيد غزال غصت خلاخلها وجال نطاقها ... ونطاقها فأقل من خلخال قطع الحوادث وصلهن بريبها ... فكأنما قطعن من أوصالي سقيا لأيام مضين سوالفا ... قصر الحبائب طولها بوصال ما كان طول سرورها لما انقضتإلا اكتحال متيم بخيال والحادثات متى فغرن لغصتي ... ألقمتهن شجى بوخد جمال ونضوت سربال المفارز بالسرى ... وجعلت أردية الدجى سربالي ونشرت من حبر القصائد يمنة ... نجمت أهلتها على ابن هلال فالشعر ليس بنافع أو يرتدي ... ألي وألّ مطيتي بالآل

والنجع في كنف الدروب مقيله ... لا في مقيلك عن بني الأقبال قطع التنائف وصل ما أملته ... فصل الغدو بها إلى الآصال بأبي معاذ فاستعذ بل جوده ... لك عوذة من لزبة الإمحال رد لجة المعروف ترو بفيضه ... حتام أنت تحوم في الأوشال قل يا عبيد الله يا بن هلاله ... تزل الحوادث عنك كل مزال ملك ترى الأملاك عنه إذا بدا ... خولاً من الإعظام والإجلال مغناه مصرع أجمل وأيانق ... وذراه مطرح أحلس ورحال ونداه معروف تدفق حوله ... لجج من الإنعام والإفضال وإذا الكماة تخالسوا مهجاتهم ... ضرباً بكل مهند قصال وحسبت غمغمة الفوارس في الوغى ... زأر الأسود زأرن في الأغيال صنعت بأرواح العداة سيوفه ... ما كان يصنع جوده في المال نفسي فداؤك أي ليث كريهة ... ندعو به والمعلمون: مَزَال والخيل قاصدة على قصد الفتى ... نحو الحتوف كأنهن متالي مدت سنابكها عليه سرادقاً ... نسجت مضاربه من القسطال في حومة ما إن يبين من الوغىإلا: هلا في زجرهن وهال

ليل من الغمرات أنت سراجه ... ونجومه هندية وعوالي بيض وسمر إن عرين تسربلت ... بدل الجفون جماجم الأبطال أوردتهن تواضعاً لجج الردى ... فصدرن في قمص من الجريال أضحكت سن الدين بعد عبوسه ... في فرسجين وقيعة الضلال غادر أيام الضلال ليالياً ... ولياليَ الإسلام غير ليال والدين متزراً بثوب جماله ... والكفر متزراً بثوب نكال كان كماتهم لديك عانة ... لعبت بهن براثن الرئبال شبهت يومك يوم حجر وصنوه ... عمرو صبيحة ليلة الأجبال ما ضر دارم يوم قمت بمجدها ... أن لا تقوم مجاشع بجلال بأبي وأمي أنتم من معشر ... بكم الملاذة ساعة الزلزال من يعتصم بقراه في مثلها ... يلقِ العصا بمعاقل الأوعال أُسدٌ متى ندبت ليوم كريهة ... أدرْن في غيل من الآسال وإذا الكماة تنازلوا ألفيتهم ... كالأُسدِ حانية على الأشبال لولا محاسن من علاهم لم تسر ... في الخافقين محاسن الأمثال يا من تكفل بأسهم وسماحه ... للناس بالإكثار والإقلال

أخبار ابن العلاف النهرواني

لما خلعت أعنة الأموال ... عطفت عليك أعنة الآمال أين المحيص لحازم أو عازم ... عند النوائب عنك يا ابن هلال وجناب دارك مسكن الآمال ... وغرار سيفك مسكن الآجال ومما يستحسن من شعر العنبري كلمته: سببت لي من حاجتي سبباً ... بجميل رأيك يا أخا البذلِ حتى إذا وطأت أوعرها ... ومن أخرى: دفعتها في الموضع السهل أرجأتها فكأنها وقعت ... مكسورة الرجلين في الوحل وشعر علي بن عاصم أكثره مختار. وهو أحد المعدودين. أخبار ابن العلاف النهرواني حدثني مضرس بن أحمد قال: حدثني ابن السدرسي قال: كان ابن العلاف من قرى النهروان. وكان مصاباً بعين، وزعم خالد بن يزيد الكاتب أن أباه كان يبيع القت في قنطرة بردان. ومما اخترناه قوله: يتلقّى الندى بوجه حيي ... وصدور القنا بوجه وقاحِ هكذا هكذا تكون المعالي ... طرق الجد غير طرف المزاح وله أيضاً: تزينك خلات من الله أربعٌ ... فثنتان للدنيا وثنتان للدينِ سماح أخي طيٍّ ويأس ابن ظالمٍ ... وصدق أبي ذر ونسك ابن سيرينِ

أخبار إسحاق بن إبراهيم الموصلي

ومما يستحسن له أيضاً قوله: أداري بضحكي عن هواك وربما ... سهرت فتبدي ما أجن المدامعُ وأمنع طرفي وهو ظمآن ورده ... وأخفي الذي تحنو عليه الأضالعُ عجبت لطرفي كيف يبقي على الهوى ... وليس لقلبي من ضميرك شافع أذوب وأبلي من رسيس هواكم ... وتسهر عيني والعيون هواجع بكيت وما أبكي لما قد خبرته ... ولكنني أبكي لما هو واقع ومما يستحسن قوله: نم فقد وكلت بي الأرقا ... لاهياً بعدي بمن عشقا إنما أبقيت من بدني ... شبحاً غير الذي خُلقا وفتى ناداك من كربٍ ... أشعلت أحشاؤه حرقا ولابن العلاف أشعار كثيرة، وهو أحد المجيدين، وهو رواية للشعر القديم والحديث. أخبار إسحاق بن إبراهيم الموصلي حدثني محمد بن حبيب البصري قال: حدثني إبراهيم بن حيان قال: كان إسحاق بن إبراهيم الموصلي فقيراً، ثم إنه كثر ماله واشترى بالبصرة شيئاً كثيراً من أرض النخل، وتحول إليها. وخد خمسة من الخلفاء بظرفه وأدبه وبراعته في صناعته، فلما أفضت الوزارة إلى علي بن هشام

كتب إليه كتاباً لطيفاً يسأله اللحاق به، فلما قرأ إسحاق الكتاب ساءه ذلك، لأنه كان قد ضعف عن الخدمة، واشتغل بما فيه من المال، فكتب إليه: قدم إلي - أيدك الله - أبو نصر بكتاب منك، يرتفع عن قدري، ويقصر عنه شكري، فلولا ما عرفت من معانيه، لقلت: غلط بي فيه، فما لنا ولك يا أبا عبد الله، تركتنا حتى إذا نسينا الدنيا وأبغضناها، وأقبلنا على الِآخرة وآثرناها، ورجونا السلامة منها، أفسدت علينا قلوبنا، وعلقت بها أنفسنا وزينتها في أعيننا، وحببتها إلينا بما تجدده من أياديك التي يقصر عنها كل عيش ورخاء نعمة، ويكدر مع شرورها كل سرور، فبم هذا - أيدك الله - وأما ما ذكرت من شوقك إلينا، فلولا أنك حلفت عليه لقلنا: يا من شكا عبثاً إلينا شوقه ... شكوى المحب وليس بالمشتاقِ لو كنت مشتاقاً إلي تريدني ... ما طبت نفساً ساعةً بفراقي وحفظتن حفظ الخليل خليله ... ووفيت لي بالعهد والميثاق هيهات، قد حدثت أمور بعدنا ... وشغلت باللذات عن إسحاق وقد تركت - أدام الله عزك، وأطال بقاءَك - ما كرهت من العتاب وغيره، وقلت أبياتاً لا أزال أخرج بها إلى ظهر المربد وأتنسم أرواحكم فيه ثم يكون، الله أعلم بنا. وهي هذه. ألا قد أرى أن الثوى قليل ... وأن ليس يبقى للخليل خليلُ وإني وإن مليت في العيش حقبة ... كذي سفر قد حان منه رحيلُ

أخبار ابن أبي حكيم

فهل لي إلى أن تنظر العين نظرةًإلى ابن هشام في الحياة سبيل فقد كدت ألقى المنايا بحسرة ... وفي النفس منه حاجة وغليل وأما بعد، فإني أعلم أنك وإن لم تَسَلْ عن حالي تحب أن تعلمها، وأن تأتيك عني سلامة، وأنا يوم كتبت إليك سالم النفس مريض القلب. وكان في الكتاب رقة فيها: أنا في صنعة كتاب مليح ظريف، فيه تسمية القوم وأنسابهم وبلادهم وأزمنتهم وطبقاتهم وبعض أحاديثهم، وأحاديث قِيان الحجاز والكوفة والبصرة المعروفات بها، المذكورات، وما قيل فيهن من الأشعار، ولمن كن، وإلى من صرن ومن كان يغشاهن، ومن كان يُرَخِّص في لاغناء من الفقهاء والأشراف، فأعلمني رأيكما تشتهي لأعمل على قدره إن شاء الله تعالى. أخبار ابن أبي حكيم هو مولى لبني مخزوم. حدثني الأشجعي قال: أخبرني الصلت بن إبراهيم الكوفي قال: كان ابن أبي حكيم الشاعر يحلق لحيته كلها، وذّكر أنه كان يُرمى بالأُبنة، وكان هاجي أبا تمام، وأنشدتُ فيه لأبي تمام: والعير يُقدم من ذُعرٍ على الأسد

ومما رويناه له واخترناه قوله في الفتح بن خاقان: أما الثنايا فيحكى لونها البرد ... أما لرضاب فيحكى طعمه الشهدُ أما الخدود فتفاح على شجر ... جلاه طل ولم تبسطْ إليه يدُ أما الثدايا فرمان الجنان سقى ... أصوله صخبُ الآذى مطردُ أما الخصور فلولا عز بارئها ... لكن من ثقل الأرداف تنحصد يا من إذا قلت إن البدر يشبهه ... قالوا صدقت فلا لوم ولا فندُ ومما يختار له قوله: طول اشتياق وضعف مصطبر ... يذوبان الفؤاد بالفكرِ والحب داء عليه معتكر ... والقلب في ميتة على خطر يبتعث الشوق من مباركه ... وجه زها حسنه على القمر كأنما الله حين صوره ... جمع فيه محاسن الصور فالحسن منه ولا شريك لهفُرّق فيمن ترى من البشر قضيب بانٍ كثيب أندية ... في لين عطف وجِذل محتضر

أخبار العتاهية بن أبي العتاهية

في حُسن قد لم يُؤت من قصر ... ولم يزد طوله على القدر مر وقد جرحت محاسنهمشتعل الوجنتين بالنظر وله أيضاً: إذا كنت تدعوني لأدعو من غدٍ ... وكيسك فياض وكيسي جازرُ فهجرك خيرٌ من وصالك إنني ... لكل امرئ يبغي المكافئات هاجر أخبار العتاهية بن أبي العتاهية حدثني علي بن إسحاق عن الفضل بن المبارك قال: كان العتاهية بن أبي العتاهية شاعراً مطبوعاً قادراً على الكلام، وكان أبوه خبيث الدين يذهب مذهب التنوية، إلا أنه كان ناسك الظاهر، وكان العتاهية صحيح الدين ورعاً، وولي القضاء برهة، وكان محمود السيرة حسن الصفة، وكان جمع مع الشعر الفقه. ومما يستحسن له: أراعك شيب في السواد يلوحُ ... يبث بأسباب البلا ويبوحُ وما شبت إلا للخطوب ومرها ... لعمرك تغدو مرة وتروح تمر خطوب مفصحات بنطقها ... فتزور أحياناً وهن جنوح وكم جسد يهتز بالخفض ناعماً ... سيصبح مفقوداً ويذهب روح

أخبار عبد الله بن أبي الشيص

تغيرت عن عهد الشباب وطيبه ... وكان، وطيب العيش منه يفوح إذا شئت فاستدع المشيب خضابه ... فرأسه يبكي للبلا وينوح وله أيضا: قد سلم الساكت الصموت ... كلام واعي الكلام قوتُ ما كل لفظ له جواب ... جواب ما يحذر السكوت يا عجباً لامرئٍ ضحوك ... مستيقن أنه يموت ومما يستحسن له أيضا قوله: صبرت وإني يا عليُّ جزوعُ ... على كربٍ ممن هويت تروعُ خضعتُ له حتى سجدت لعبده ... ولم يدنني شيئاً إليه خضوع وأبطأتُ عنه بالإساءة إنه ... إلى كل أمرْ شائن لسريع أبا حسنٍ أشكو إليك من الجوى ... بكيتُ، وإني بالبكاء ولوع أخبار عبد الله بن أبي الشيص حدثني النوفلي قال: كنا بواسط ومعنا ابن أبي الشيص، فتجارينا أمر الشعراء، ففضلنا بعضاً على بعض. فقال ابن أبي الشيص: أنا أشعر الناس، وكان أشعر مني أبي ونمن جميع من مضى ومن بقي، فقلت له: كذبت في نفسك خاصةً، فأما أبوك فلعمري إنه كان أشعر أهل زمانه - وكانت بابن

أبي الشيص لوثة، لأن السوداء غلبت عليه - فاختلط واشتاط وخرق ثيابه، ثم زج نفسه في دجلة وكان فينا جماعة يسبحون فأخرجناه وهو لا يعقل لما به من البرد - وكان يوم شديد البرد - فدثرناه حتى تماسك وقوي قليلاً، فلما أصبح مات. ومما يستحسن له: أظن الدهر قد آلى فبراً ... بأن لا يُكسب الأموال حراً كأن صفائح الأحرار أردت ... أباه فحارب الأبرار طُرا وأمكن من رقاب المال قوماً ... وملَّكهم بها نفعاً وضرا وأصبح كل ذي شرف ركوباً ... لأعناق الدجى بحراً وبرا يهتك جيب درع الليل عنه ... إذا ما جيب درع الليل ذرا يراقب للغنى ونجهاً ضحوكا ... ووجهاً للمنية مكفهرا ليكسب من أقاصي الأرض مالا ... يحل به المحل المشمخرا ومن جعل الظلام له قعودا ... أصاب به الدجى خيراً وشرا وله أيضاً: كفى حزناً أني أرى من أحبه ... لدي صريعاً لا أطيق له نفعا سوى أنني أدعو له الله مخلصاً ... وأُذري على خدي بمصرعه دمعا

أخبار محمود الوراق

أخبار محمود الوراق حدثني القاسم بن داوود قال: أخبرني الحسن العلويّ قال: كان سكن جارية محمود الوراق من أحسن خلق الله وجهاً، وأكثرهم أدباً، وأطيبهم غناء، وكانت تقول الشعر فتأتي بالمعاني الجياد والألفاظ الحسان، وكان محمود قد رقت حاله في بعض الدهر، واختلت اختلالا شديداً، فقال لجاريته سكن: قد ترين يا سكن ما أنا فيه من فساد الحال، وصعوبة الزمان، وليس بي وجلال الله ما ألقاه في نفسي ولكن ما أراه فيك، فإني أحب أن أراك بأنعم حال وأخفض عيش، فإن آثرت أن أعرضك على البيع فعلتُ، لعل الله عز وجل أن يخرجك من هذا الضيق إلى السعة، ومن هذا الفقر إلى الغنى. قالت الجارية: ذلك إليك. فعرضها، فتنافس الناس ورغبوا في اقتنائها، وكان أحد من بذل فيها أحد الطاهريين مائة ألف درهم، وأحضر المال، فلما رأى محمود تلك البِدَر سَلِس وانقاد ومال إلى البيع، وقال: يا سكن البسي ثيابك واخرجي. فلبست ثيابها وخرجت على القوم كأنها البدر الطالع، وكان محمود - وهي كذلك - معها، فقالت سكن وأذرت دمعها: يا محمود، هذا كان آخر أمري وأمرك أن اخترت علي مائة ألف درهم؟ قال محمود: فتجلسين على الفقر والخسف؟ قالت: نعم، أصبر أنا وتضجر أنت، فقال محمود:

أخبار عبد الصمد وأحمد ابني المعذل

أُشهدكم إنها حرة لوجه الله، وأني قد أصدقتها داري وهي ما أملك، وقد قامت علي بخمسين ألفاً. خذوا مالكم بارك الله لكم فيه، قال الطاهري: أما إذ فعلت ما فعلت فالمال لكما، ووالله لا رددته إلى ملكي. فأخذ محمود المال وعاش مع سكن بأغبط عيش. وشعر محمود كثير، وأكثره أمثال وحكم ومواعظ وأدب، وليس يقصر بهذا الفن عن صالح بن عبد القدوس وسابق البربري. ومن قوله: يُثمل ذو الحزم في نفسه ... مصائبه قبل أن تنزلا فإن نزلت بغتة لم ترعه ... لما كان في نفسه مثلا رأى الهم يُفضي إلى آخرٍ ... فصير آخره أولا وذو الجهل يأمن أيامه ... وينسى مصارع من قد خلا فإن بدهته صروف الزمان ... ببعض مصائبه أعولا ولو قدم الحزم في نفسه ... لعلمه الصبر عند البلا توفي محمود الوراق في حدود المائتين والثلاثين. أخبار عبد الصمد وأحمد ابني المعذل حدثني أحمد بن عبد الله البكري عن ابن سنان البصري قال: كان أحمد بن المعذل لي صديقاً، وكنت أغشاه كثيراً، فلما قدم

من سر من رأى، من عند أمير المؤمنين صرت إليه، ورأيت جلة أهل البصرة عنده، وقد كان الخليفة أكرمه، وخلع عليه ووصله بمال كثير، فلم أر أخاه عبد الصمد عنده فيمن أراه، فقلت: ما لي لا أرى أبا القاسم عندك؟ فقال: إن أبا القاسم أعزه الله وافتنى هديته في هذه الليلة التي قدمت فيها بما يكون من الأخ البار بأخيه، فإن أحببتم أريتكم ذلك، قلنا له: قد أحببنا، أصلحك الله، فمثله من بر، ومثله من وصل وأكرم أخاه. فرفع ثِنى وسادته وأخرج رقعة وإذا فيها: وغاب وخصيتاه كأكرتين ... وآب وخصيتاه كنصف دُبّهْ ولما أن أتته دريهمات ... من السلطان باع بهن ربه وكان يذمهم في كل يوم ... يشي بالجهل والهذيان خُطبه كسبت أبا الفضول لنا معاباً ... وعاراً قد شملت به وسبه ولم نر مالكاً أجدى عليه ... كما أجدى على النرسي شعبه ثم قال: هذا بره وإكرامه إياي. قلنا: بئس والله ما أهدى. وقبحنا فعله. فقال: إن لم يكن مع هذا غيره فنحن بخير، قلنا: وما عسى أن يكون؟ فقال: هيهات، أنا أعرف أبا القاسم أعزه الله. ومما يستحسن له قوله: ناديته وظلام الليل معتكر ... تحت الرواق دفينا في الرياحينِ فقلت: قم. قال: رجلي لا تطاوعني ... فقلت: خذ. قال: كفى لا تواتيني إنى غفلت عن الساقي فصيرني ... كما تراني سليب العقل والدين

وله أيضاً: لما رأيت البدر في ... أُفق السماء وقد تعلى ورأيت قرن الشمس في ... أفق الغروب وقد تدلى شبهت ذاك وهذه ... وأرى شبيههما أجلا وجه الحبيب إذا بدا ... وقفا الحبيب إذا تولى وهذا معنى ما سبقه إليه أحد: تشبيه الوجه مقبلا بالبدر، وتشبيه القفا مولياً بالشمس ليلة المقابلة ولكنه أخذه من كلام مشهور لأبي نواس ومسلم بن الوليد، كانا واقفين في الشماسية إذ أقبل غلام كأن خوط بانٍ، بوجه كالبدر، بهاء، فقال مسلم لأبي نواس: ويحك يا أبا علي أماترى هذا؟ قال: رأيته، فتبارك الله رب العاملين وخالق هذا، ثم ولي الغلام فإذا قفاه مستدير لم ير الناس مثله في الدنيا فتحيرا فيه فقال مسلم: الوجه بدر والقفا شمس. فقال أبو نواس: ووجه ذابح.

أخبار الحمدوني باعث الطيلسان

أخبار الحمدوني باعث الطيلسان حدثني إسحاق بن إبراهيم النصيبي قال: قال الحمدوني: مررت ببعض الأسواق ببغداد يوماً والزحام كثير، وإذا ببغاء، قد لزق بي في الزحمة يمس متاعي ويؤذيني، وإذا بلوطي خلفي قد ظنني أمرد، فهو يتعرض فقحتي ويسدد متاعه على جحري، فما رأيت أني قد ضُغطت من خلفي ومن قدامي أخذت يد البغاء فوضعتها على متاع اللوطي وخرجت من بينهما في عافية. وكان الحمدوني من أملح الناس شعراً وأقدرهم على الوصف، وكان عامة شعره في طيلسان ابن حرب وهو القائل فيه: يا ابن حرب كسوتني طيلساناً ... مل من صحبة الزمان وصدا فحسبنا نسج العناكب لو قِي ... س إلى ضعف طيلسانك سداً إن تنفست فيه ينشق شقاً ... أو تنحنحت فيه ينقدُّ قدا طال ترداده إلى الرفو حتى ... لو بعثناه وحده لتهدى وله: يا ابن حرب أطلت فقري برفوي ... طيلساناً قد كنت عنه غنياً فهو في الرفو آل فرعون في العر ... ض على النار بكرة وعشيا وله: فيما كسانيه ابن حرب معتبر ... فأنظر إليه فإنه إحدى أنكبر

أخبار الجماز البصري

قد كان أبيض ثم ما زلنا به ... نرفوه حتى اسود من صدإ الإبر وله فيه قريب من مائتي بيت في خمسين قطعة تفتن معانيها. وله في ابن أبي خزرة: ألم تر في ابن أبي خزرة ... يحب عجاباً كما قد زعمْ وليس بكافيه من حبها ... سوى أن يدلك أو يحتلم إذا بات سكران من حبها ... وأصبح من جوعه متخم فيالك من عاشق مفلس ... أخي صبوة موسر من عدم ونبئته زارها ليلة ... تُبيل الحمار من القُرّ دَمْ عليه قميص له واحد ... يقص عليك حديث الأمم فغنت فآثرها بالقميص ... وغودر عُريان كالمستحم وغنى وقد ضربته الشمالوأصبح من بردها قد صُدم أخذت بريدي فأعريتني ... وأورثتِ جسمي طول السقم أخبار الجماز البصري حدثني ابن أبي عرفة قال: كان الجماز رجلاً من موالي قريش يكنى أبا عبد الله من ساكني

البصرة، وكان شاعراً مفلقاً مفوهاً مطبوعاً. حدثني أبو الأسود البصري قال: مر جعفر بن القاسم الهاشمي ليلةً ببعض ضواحي البصرة، فإذا هو بالجماز في بعض السكك مع غلام أمرد، وكان الجماز صديقاً لجعفر، فقال له: يا آبا عبد الله، في مثل هذا الوقت وهذا الليل المدلهم. أنت في غير منزلك؟ قم بنا حتى أردك إلى أهلك، قال: أصلح الله الأمير. وأشار بيده إلى الغلام. قال: فاستفرغ ضحكا. وحدثني ابن أبي الدرهم قال: خرج أبو عثمان المازني في بعض الأيام إلى المصلى بالبصرة، فنظر إلى الجماز مع غلام أمرد، فقال: يا أبا عبد الله، ما تصنع ها هنا؟ قال: يا بغيض، أكتري سفينة. وحدثني محمد بن مصعب قال: كان الجماز ببغداد عند يحيى بن عبد الرحمن البختكاني، ومر الغلام بصحفة، فقطرت على ثوبه قطرة من المرق، فاغتم الجماز، فقال له: يا أبا عبد الله لا تغتم فلك عندنا قميص بل أقمصة. فقال: ما اغتممت أصلحك الله فإن مرقكم لا يغير الثياب - أي ليس فيه دسم - فضحك البختكاني حتى استلقى على قفاه. وحدثني أبو شراعة قال: كان الجماز يوماً مع قثم بن جعفر الهاشمي، فوقف عليه رجل يستسقي، فقاله له قثم: ادخل الدهليز، وأمر الغلمان أن يسقوه، فدخل غلام

ثم خرج مسرعاً. فقال له قثم: أين الماء؟ قال الغلام: قالت لي أمك: هات علامة. فضحك القوم وتشور قثم. وحدثني أحمد بن خصيب البصري قال: اجتمع الجماز مع قوم يشربون، وعندهم جارية تغني. فبينا هي في بعض أمرها إذ ضرطت ضرطة خفيفة لم يسمعها إلا الجماز، وكان قريب المجلس منها. فظنت الجارية أنه لم يسمعها، وأن أحداً غيره لم يسمعها إن كان هو لم يسمعها، فقالت له لما صار القدح إليه: أي صوت تحب أن أغني لك يا أبا عبد الله؟ فقال: غني: " يا ريح ما تصنعين بالدمن " فضحكت الجارية وقالت: اكتم علي. ومما اخترناه من شعره قوله: إن جعلتك يا محمد مفزعاً ... في حاجتي وتشوقي لقضائها من كان في هدم المكارم شغله ... فمحمد متشاغل ببنائها وفي الحسين بن الضحاك وأبي جعفر أخيه: أبو علي وأبو جعفرِ ... أصغر من يُعرف بالعسكر كلاهما طفل بلا دايةٍ ... عُلل باللوز وبالسكر وله في جفاءٍ كان من جعفر بن القاسم قوله:

أخبار أبي شراعة

قد جفاني الأمير حين تقرّا ... فتقرأت مكرهاً لرضائه ما طلاق لمكره بطلاق ... قد رواه الأمير عن فقهائه والذي انطوى عليه المعاصي ... علم الله ذاك لي من سمائه أخبار أبي شُراعة تحدثني أبو جعفر محمد بن القاسم قال: قلت لأبي شراعة: كم أتى عليك من السنين؟ وكان مُسناً. قال: ثنتان وتسعون سنة. قلت: فأي شيء بقى منك الدهر؟ قال: قد فقدت ما كنت فيه من لذيذ العيش، وذلك أني كنت أروم ما كنت مائلاً إليه فيمتنع علي امتناع المهر الصعب، إلا ما أرومه من هؤلاء الكساحات فإني ما هممت بهن قط. إلا وجدتني في حدة كابن عشرين. قلت: - جعلني الله فداك - هذه فائدة قد عجز والله عن مثلها أبقراط الحكيم، قال فخذها بشكر. قال: فحدثت المأمون بهذا الحديث فقال: بُرى هذا هو حق؟ قال: قلت: لا ولكن هكذا سمعته. قال: ثم جربته أنا من دون المأمون فوجدته والله أفضل مما قال. وعاش أبو شراعة بعد ذلك دهراً طويلاً، وكان جيد الشعر مليح المعاني صاحب نظر، وعاش إلى أيام المتوكل، وكان قد مدح المهدي بن المنصور. وكان المتوكل يحسن إليه ويقول: هذا مدح آبائي وأسلافي.

أخبار أبي فرعون الساسي

وهو القائل فيه: ما بال سعدى، أخلفت ميعادي ... وتيسرت لقطيعتي وبعادي أسعادُ هل ذنبٌ سوى أني امرؤ ... شغلت محبتكم علي فؤادي ولقد دنوتِ وكنت غير بخيلة ... حتى إذا أطمعت في الميعاد برقت بوارقُ من نوالك خُلبٌ ... كذب العداة صواعق الإيعاد أخبار أبي فرعون الساسي حدثني أبو محرز الكوفي قال: أتى أبو فرعون الساسي أبا كهمس التاجر فسأله، فأعطاه رغيفاً من الخبز الحواري كبيراً، فصار إلى حلقة بني عديٌ، فوقف عليهم وهم مجتمعون، فأخرج الرغيف من جرابه، وألقاه في وسط المجلس وقال: يابني عدي استفحلوا هذا الرغيف، فإنه أنبل نِتاج على وجه الأرض، قالوا: وما ذاك؟ فأخبرهم، فاجتمعوا إلى آبى كهمس التاجر فقالوا: عرضتنا لأبي فرعون وقد مزقنا كل ممزق. ومما يستملح له - وكان من أفصح الناس وأجودهم شعراً، وأكثرهم نادرة، ولكنه لا يصبر عن الكدية - قوله:

رأيت في النوم بختي ... في زي شيخ أرتِّ أعمى أصم ضئيلا ... أبا بنين وبنت فقلت: حُييت رزقي ... فقال رزقك باستي فكيف لي بدواءٍ ... يلين لي بطن بختي؟ وهو القائل أيضاً: ليس إغلاقي لبابي أن لي ... فيه ما أخشى عليه السرقا إنما أغلقه كي لا يرى ... سوء حالي من يجوب الطرقا منزلٌ أوطنه الفقر فلو ... دخل السارق فيه سُرقا لا تراني كاذباً في وصفه ... لو تراه قلت لي: قد صدقا وله أيضاً: وصبية مثل فراخ الذر ... سود الوجوه كسواد القدرِ جاء الشتاءُ وهم بِشَرِّ ... بغير ٌُمص وبغير أُزر حتى إذا لاح عمود الفجر ... وجاءني الصبح غدوت أسري وبعضهم ملتصق بصدري ... وبعضهم منحجر بحجري أسبقهم إلى أصول الجدرِ ... هذا جميع قصتي وأمري فارحم عيالي وتول أمري ... كنيت نفسي كنية في شعري أنا أبو الفقر وأم الفقر

وهذه القصيدة من خيارها: والذي أخذ فيه طريق الجد كلمته في الحسن بن سهل وقد أجمع الناس على حسنها وفصاحتها وهي قوله: سُقياً لحى باللوى عهدتهم ... منذ زمان ثم هذا عهدهم عهدتهم والعيش فيه غرة ... ولم يناو الحدثان شعبهم ولم يبينوا لنوى قذافة ... تقطع من وصل حبالي حبلهم فليت شعري هل لهم من مطلب ... أو أجدن ذات يوم بدلهم الناس أشباهٌ كما قد مثلوا ... وفيهم خير وأنت خيرهم حاشا أمير المؤمنين إنه ... خليفة الله وأنت صهرهم فأحسنوا التدبير لما ناصحوا ... وأمنوا العتب فطال نصحهم إليك أشكو صبية وأمهم ... لا يشبعون وأبوهم مثلهم قد أكلوا اللحم ولم يشبعهم ... وشربوا الماء فطال شربهم وامتذقوا المذق فما أغناهم ... والمضغ إن نالوه فهو عُرسهم لا يعرفون الخبز إلا باسمه ... والتمر هيهات فليس عندهم وما رأوا فاكهة في سوقها ... وما رأوها وهي تنحو نحوهم زعر الرءوس قرعت هاماتهم ... من البلا واستك منهم سمعهم

أخبار أبي الفضة البصري

كأنهم جناب أرض مجدب ... محل فلو يعطون أوجي سهمهم بل لو تراهم لعلمت أنهم ... قوم قليل ريهم وشبعهم وجحشهم أجرب منقور القرى ... ومثل أعواد الشكاعي كلبهم كأنهم كانوا وإن وليتهمطراً موالي وكنت عبدهم مجتهداً بالنصح لا آلوهم ... أدعو لهم يا رب سلم أمهم أخبار أبي الفضة البصري حدثني محمد بن الأشعث قال: كان أبو الفضة من أولاد موالي زبيدة. وكان يبيع الخمر وكان نظيفاً ظريفاً. وكان يناضل ابن أبي خالد. وابن أبي خالد أشعر منه. وابن أبي خالد هو الذي يقول في يحيى بن أكثم: قاض يرى الحد في الزناء ولا ... يرى على من يلوط من باس أميرنا يرتشي وحاكمنا ... يلوط والراس شر ما راس لا أحسب الجور ينقضي وعلى ... الأمة والٍ من آل عباس وكان أبو الفضة عفيفاً. حدثني أبو الأعمش قال: كان أبو الفضة في محلة كان تعرف في القديم بمحلة العتاة، وكان فيهم قوم مُجّان، يُكرِهون كل من يمر بهم

أخبار أبي الشبل

على الفسق والفجور وشرب الخمر، فمر بهم أبو الفضة. فأخذوه وأدخلوه داراً، وجاءوا بامرأة وقالوا: لتباشرنها أو لنقتلنك. فقال لهم: يا قوم اتقوا الله، فهذا شيء لا أفعله ولا عهد لي به، فحلفوا لئن لم يفعل ليقتلنه فلما رأى ذلك دخل، فإذا صبية صبيحة الوجه مليحة، وأغلقوا عليهما الباب. فقال أبو الفضة للجارية: هل لك في خير؟ قالت: وما هو؟ قال: أنت والله مُنية المتمني. ولكني أكره أن أفتح على نفسي هذا الباب، فتقربي إلى الله بأن تخلصيني من هؤلاء القوم وتقولي: إنه قد فعل. فقالت الجارية: أيها الرجل، استحييت لك على قلة الدين، أتأمرني أن أكذب في يوم جمعة؟ ولأبي الفضة مرثية في جارية له جيدةٌ، قد أدخلوها في المراثي الطوال التي جمعوها وأولها هذا: أجد بِخُلَّتك المُبكرونَ ... إلى دمنة المنزل الموحشِ وهذه قصيدة مشهورة موجودة في أيدي الناس. أخبار أبي الشبل حدثني أبو الأزهر الكوفي قال: قال أبو الشبل الكوفي: صرت أنا ومحمود الوراق إلى قُرطبل، فدعونا الخمار وقلنا: هات لنا من عين الراح العتيق التي قد أنضجها الهجير، فجاء بها، فقلنا: اجلس اشرب واسقنا. فنظر إلينا شزراً

وقال: أنا مسلم - وكان يهودياً واسلم - أتأمرونني أن اشرب الخمر؟ قال أبو الشبل: فنظر إلي محمود الوراق وقال: قوم، منهم الخمار مسلم متحرج، أترى لله فيهم حاجة؟ قلت: لا لعمر الله. وحدثني أبو الأغر الأسدي قال: مدح أبو الشبل مالك بن طوق بقصيدة عجيبة وأمل بها ألف درهم، فأعطاه مائة دينار في صرة، فلم يفتحها وردها مع رقعة فيها هذان البيتان: ألا ليت ما جادت به كف مالكٍ ... ومالك مدسوسان في است أم مالك ويُترك مدسوساً إلى يوم حشره ... فأهون مفقود وأيسر هالك وكان مالك يومئذ أميراً على الأهواز، فلما قرأ البيتين أمر بإحضاره فأُحضر، فقال: يا هذا، بم استحققنا منك هذا؟ فقال: إني مدحتك بقصيدة أملت فيها ألف درهم فوصلتني بمائة. فقال: افتح الصرة ففتحها، فإذا فيها مائة دينار. فاستحيا وقال، أقلني أيها الأمير، قال: قد أقلتك. وحدثني عبد الرحمن بن محمد الخزري قال: حدثني أبو محرز قال: قال أبو الشبل: كان فينا رجل فقيه حسن الدين، وكان له ابن شاب لا يزال يحبل الجارية الظريفة من جواري الناس، فإذا ولدت سأله أن يشتري الولد، فإذا رأى الشيخ شبه ابنه فيه رق قلبه له، فيشتريه

أخبار جعيفران الموسوس

ويربيه ويحسن إليه، فلما طال هذا على الشيخ قال له يوماً: يا بني. إني أعظك وأزجرك وما ينجع فيك ولا ينفع، فإن كنت لا بد فاعلاً فاعزل: قال: يا أبت بلغني أن العزل يُكره. قال له أبوه: يا قرة عين الشامتين، تركت الزنا وتتحرج في العزل. أخبار جُعَيفران المُوسوس حدثني أحمد بن إبراهيم القُمّي عن أحمد بن يوسف الكاتب قال: كنت عند أبي دُلف إذ دخل آذنه فقال: جعيفران الموسوس بالباب، فقال أبو دلف: وما لنا وللمجانين؟ أَوَقد فرغنا من الأصحاء؟ قال أحمد: فقلت: هو والله ظريف حلو الشعر. قال: فليدخل إذن. فدخل، لما وقف بين يديه أنشأ يقول: يا أكرم الأمة موجودا ... وأفجع الأمة مفقودا لما سألت الناس عن واحد ... أصبح في العالم محمودا قالوا جميعاً: إنه قاسم ... أشبه آباء له صيدا قال أحمد: فنظر إلي أبو دلف وقال: صدقت والله. ليت أصحاب الشعر قالوا مثل هذا. فأمر له بألف دره وخلعة. قال جعيفران: أما الخلقة فأخرج بها، وأما الألف فتأمر القهرمان أن يعطيني كلما جئت خمسة، فإني أخاف أن يُسرق مني أو أطرحه. قال: يا فلان، اقبِض من الخازن ألفاً، وادفع إليه كلما جاءك خمسة، فإذن نَفِد الألفُ فاقبض مثله وأجرِه على الرسم في الخمسة التي يأخذها كلما جاءك، لا تقطعها عنه حتى

أخبار ماني المجنون

يقطع بيننا وبينه الموت، فنظر إلى أحمد فقال: يموت هذا الفتى تراه ... وكل شيء له نفادُ لو كان شيء له خلود ... خُلِّدَ ذا المُفضل الجواد قال: فأُعجب أبو دلف بقوله وقال لأحمد بن يوسف: أنت كنت أعرف بصاحبك. قال: ووقف جعيفران يوماً بالكوفة ونادى: أضيفونا. فلم يُجبْه أحد، قال: فأخرج خمسة دراهم وقال لرجل: ابتع لي تمراً وهات لي جرة ماء وبارية ففعل الرجل فقال له: ابسط البارية واطرح عليها التمر وضع الماء. ونادى جعيفران يقول: يا أهل الكوفة سألتكم القِرى فلم تقروني فهلموا الآن فاطعموا، وأنشأ جعيفران يقول: لو نازل الله خلقاً في بريته ... نازلت ربي في الخلق الذين أرى وقلت من عجبي مما أرى بهمُ ... لأي شيء إلهي يصلحون أولا أخبار ماني المجنون أخبرني أحمد بن عاصم بن قدامة الضميري قال: رأيت ماني المجنون يوماً بباب الكرخ ببغداد وهو عريان بيده قصبة،

وهو كأنه ملهوف. وهو يقول ولا يزيد عليه شيئاً: تخرج من زقاقِ ... لها إلى زقاقِ كأنها عروس ... فرت من الطلاق فقلت له: من تعني؟ قال: الناقة. وإذا هو قاعد، فإذا أقبلت الجمال النقالة قام في أثرها يتبعها ساعة، ثم يرجع إلى موضعه، ولا يزال ذلك دأبه عامة نهاره. حدثني أبو شجرة قال: كان ماني المجنون من أشعر الناس وهو القائل: نُجْل العيون قواصد النبلِ ... قتَّلنا بعيونها النُّجْلِ كَحَلَ الجمال جفون أعينها ... تفتر عن كحلٍ بلا كُحلِ وكأنهن إذا أردن خطاً ... يقلعن أرجلهن من وحل وهو القائل: عدمت جهالتي وفقدت حمقي ... لقد أخطأت وجه طريق عشقي كذبت على لساني في مزاح ... فقلت له ولم أنطق بحق أنا الصب المسهد في هواكم ... وجنبت المقالة محض صدق فبادر حين ملتُ إلى اعتناقي ... بوجه عظاية ونهاح سِلْق وساقي صعوةٍ وبخطم قرد ... وريح كنائف وبنتن شدق ترى ما أخفتا شفتاه نحوي ... كأن لثاته عُلت بدبق

أخبار أبي حيان الموسوس

أخبار أبي حيان الموسوس حدثني طاهر بن محمد الأهوازي قال: رأيت أبا حيان الموسوس وقد قدم من البصرة إلى بغداد، ولم يكن له همة دون أن أشتري جرة مدارية كبيرة، ثم جاء إلى دجلة فملأها ثم صار إلى الصراة فصب الجرة فيها، ثم حمل أيضاً من الصراة ماء فصبه في دجلة، ثم لزم ذلك طول مقامه ببغداد إلى أن مات، وما له شغل ولا عمل غيره، وكان إذا جنه الليل وضع الجرة وجلس يبكي عليها ويقول: اللهم فرّج عني وخفف علي هذا العمل الذي أنا فيه. وحدثني مسلم بن عبد الله قال: رأيت أبا حيان الموسوس حين قدم من البصرة وقد أولع بصب الماء، يحمله من محلة إلى محلة أخرى فيصبه، فيقال له في ذلك فيقول: لو لم أفعل ذلك في كل يوم متّ. ومما رويناه لأبي حيان قوله: لا تبكِ هنداً ولا المواعيسا ... ولا لربع عهدت مأنوسا وقف بقطربل ونزهتها ... واحبس بها عن مسيرك العيسا وانزل لشيخ بالدير مسكنه ... يدعوه أهل الكتاب قِسيسا لم يَقْنُ وفراً له فيملكه ... إلا صليباً له وناقوسا

أخبار مصعب الموسوس

فجاء بالزق فوق عاتقه ... يحمل حظاً إلى منقوسا أتيته فاشمأز لي ذعراً ... فقلت موسى فقال بل عيسى فصب في الكوب صوب صافية ... لم يفترس عود كرمها السوسا وكان أبو حيان موسوساً آخر عمره، وكان يخلط في الكلام، ولا يخلط في الشعر أصلا، وهكذا هؤلاء الشعراء الذين خولطوا بعد قولهم الشعر، يوجد في كلامهم تفاوت كثير شديد، فإذا جاءوا إلى الشعر مروا على رءوسهم ورسمهم المعهود قبل أن يوسوسوا. أخبار مُصْعَب الموسوس حدثني جعفر بن عبد الله الخريمي قال: مر مصعب الموسوس بدرب الثلج ببغداد، فنر إلى عين شاة من شباك روشنٍ إلى الطريق، لبعض التجار، فظن أنها عين جارية، فعشقها وتردد إلى ذا المكان شهراً، ثم لزمه، فكان لا يبرح منه، وكان مربط الشاة في ذلك المكان من الجناح، فكان ربما اتفق أن يرى عينها ولا يراها، فاستحكم هذا عليه ولزم موضعه، وكان إذا وجد خلوة من الناس كلمها شكا إليها وبكى، وهو لا يشك أنها تسمع، وربما رمى إليها بالتفاحة المنقشة المطيبة، والأُترجة المفلقة، والشمامة، والتحفة الحسنة من

المناديل وما أشبهها، فانكسرت الشبكة يوماً، فنظر فإذا عين شاة، وفطن له الصبيان، فجعلوا يقولون: يا عاشق الشاة. فغضب، وتفاقم الأمر عليه في ذلك، فكان سبب وسواس مصعب. حدثني ابن بكار قال: قال مصعب الموسوس: العلوم عشرة: ثلاثة كِسروية، وثلاثة يونانية، وثلاثة عربية، وواحد عفى على الجميع. أما الكسروية فالعود والشطرنج والصولجان، وأما اليونانية فالهندسة والطب والنجوم، وأما العربية فالنحو والفقه والشعر. وأما الذي عفى على الجميع فأخبار المحدثين وأيامهم. وحدثني ابن بكار قال: قال لي مصعب، قلت لصبي رأيته قد خرج من الديوان: أي كُتَّاب ديوانكم أكتب؟ قال: أجودهم برياً للقلم. ومما يستحسن من شعر مصعب الموسوس: وذي نخوة قد براني هوا ... هـ يزداد في الحب إن هِبت عزا فما زلت بالمكر حتى اطمأن ... وقد كان من قبل ذاك اشمأزا وأقبلت بالكأس أغتاله ... وكنت لأمثاله مستفزا وقال عبد الله: الأبيات التي يرويها الناس لعلي بن محمد بن نصر بن بسام هي لمصعب الموسوس وهي هذه: خبيصة تُعمل من سكره ... وبُرمة تطبخ من قنبرة عند فتى، من حسن تدبيره ... ينصب قدرين على مجمره وليس ذا في كل أحواله ... هذا له في الدعوة المنكرة

أخبار جحشويه

في يوم قصف هائل ريقه ... كثيرة اللذات والخرخرة وله شعر كثير جيد. أخبار جحشويه حدثني يقظان بن محمد الخزري قال: قال جحشويه: دخلت يوماً إلى داري فإذا غلام ينيك حماراً، فلما رآني استحيا وحار وذهب يهرب، فحلت بينه وبين ذلك وقلت: يا ابن الفاعلة ما حملك على هذا؟ قال: يا سيدي، الله الله، فإن متاعي كان قائماً، فلما رأيتك قعد - وكان أعجمياً - فأعجبتني كلمته وتركته. وحدثني أبو نصر مولى البجليين قال: كان جحشويه من ألوط الناس وأبعدهم مما يرمى به نفسه، وكان ينسب نفسه إلى البغا، وله في هذا تملح على غير حقيقة. من ذلك قوله: أحسنُ من جارية دعجاء ... معدودة خمصانة فرعاءِ ذات وشاح طفلة بيضاء ... ومن عُقارٍ مُزجت بماءٍ ومن وقوف الرجل البَكّاء ... في منزل أقفر من قباء أير الغلام الأمرد السَّقَّاء ... ذي القربة الحلوة والقباء

يختال في قطيفة حمراء ... بفيشة كالهامة الصلعاء كأنها جمرة من الجماء ومما يستحسن له في ابن الجهم قوله: تماري ندى ابن الجهم يوماً وبأسه ... وقالا رضينا في المحاكمة الفخرا فقال الندى: يا فخر، أنهبت ماله ... ولكنني عوضته الحمد والأجرا فقال له البأس: انتضيت سيوفه ... فأوردتها بيضاً وأصدرتها حمرا فقال مجيباً: شدتما قبة العلا ... وأوطنها فلتعمراها، به الدهرا ومما يستحسن له قوله: لو مضى ابن الجهم قِيس يد ... مضت الدنيا له تبعا غير أني لا أرى أحداً ... دون راجي عُرفه انتفعا لا أرى من دون راحتهلامرئٍ وافاه مُنتجعا لو يرد الطرف لحظته ... في صفاة ماؤها نبعا وجحشويه من المجيدين المشهورين.

أخبار أبي حكيمة

أخبار أبي حكيمة هو راشد بن إسحاق حدثني محمد بن علي البصري قال: كان بين ابن الزيات وبين أبي حكيمة مودة عجيبة وأنس كثير، فقدم ابن الزيات من مكة، فجعل الناس يحضرونه للتهنئة ويقولون: أين صديقك أبو حكيمة؟ إذ جاءت رقعة وفيها: لا تنسَ عهدي ولا مودتيه ... واشتق إلى طلعتي ورؤيتيه إن غبت عنكم فلم تغب كثرة ال ... ذكر ولا تغفلن هديتيه التمر والمُقل والمساويك والفلع ... ة للنعل وهي منيتيه فإن تجاوزت ما ذكرتُ إلى العص ... ب فذاك المأمول منك لِيَهْ وكتب إليه محمد بن عبد الملك: إنك مني بحيث ما يطرف الن ... اظرُ قرباً من تحت دمعتيه لا والذي زادني وفضلني ... على صحابي بطول صحبتيه ما خنت عهداً ولا نسيتك في ... يوم دعائي ولا هديتيه

أخبار أبي نعامة الدنقعي

وأبو حكيمة هو الذي رثى متاعه بما لم يجئ أحد بمثله فقال: أيها الأير تنبه ... خلع الخشف إزاره ما اعتذاري عنده في ... ك وقد صرت شعاره يا ثقيل الرأس يُغفى ... طول ليل ونهاره جاعلاً جلدة خصيي ... هـ من القر دثاره ليس ينحاش بخير ... لمدير إن أداره إن نوم الأير ذلٌّ ... فاحذر الذل وعاره قلما تهوى الغواني ... حِلم أير ووقاره إنما يزهدان فيه ... حين يعرفن انكساره ويواطئن عليه ... حين يحمدان اختباره أين ما كنت عليه ... من نشاط وحراره فلعهدي بك دهراً قائماً مثل المناره ما يراك الناس إلا ... من حديد أو حجاره وله في هذا الشأن شعر كثير مشهرو في أيدي الناس. أخبار أبي نعامة الدنقعي حدثني إسحاق بن محمد المديني قال: قال محمد بن العباس الهاشمي: دخلت حماماً بباب عمار في المحرم فإذا بأبي نعامة في ريبة مع الحمامي فضيحة قبيحة فقلت: ما هذا يا أبا نعامة؟ فأنشدني هذين البيتين:

أخبار ابن أبي حفصة الأصغر وهو مروان

رأيت أبا نعامة لا يصلي ... ولا يدري متى وقت السجودِ فلا يضع الجبين الدهر إلا ... إذا أهوى لإدخال العمود وهو القائل: تولى زمان بني المحصناتِ ... وهذا زمان بني الزانية وكان سبب موت أبي نعامة أن مفلحاً دخل بغداد وهو يريد صاحب البصرة فقيل له: إن أبا نعامة يميل إلى علي وولده، فضربه بالسيف فتلفت نفسه، فسمع بذلك علي بن محمد بن صاحب البصرة فقال: إن كان ضربه لحبه عليهاً وأهل بيته فما يفلح بعدها والله مفلح، فلم يمض إلا شهر حتى قتله العلوي بالبصرة. ومما يستحسن قوله من شعر أبي نعامة كلمته في أبي السمط الأصغر، وهو مروان بن أبي حفصة بن مروان بن أبي حفصة وفيها يقول: رأينا البرد مشتداً ... فساءلنا عن القصه فقالوا: منشد ينش ... د شعر ابن أبي حفصه فتى من شهوة النيكِ ... بحلقوم استه غُصّه أخبار ابن أبي حفصة الأصغر وهو مروان حدثنا الدعبلي قال: كان علي بن الجهم يساجل مروان بن أبي حفصة. الأصغر - وهو أبو السمط - ويناضله ويهاجيه، فخاض الناس في أمرهما،

فقال فريق: علي أشعر. وقال أكثر الناس: مروان أشعر. حتى قال مروان بيتيه هذين: لعمرك ما جهم بن بدر بشاعر ... وهذا علي إبنه يدعي الشعرا ولكن أبي قد كان جاراً لأمه ... فلما روى الأشعار أوهمني أمرا فأجابه علي بن الجهم بهذين البيتين: بلاءٌ ليس يشبهه بلاءٌ ... عداوة غير ذي حسب ودينِ يبيحك منه عرضاً لم يصنه ... ويقدح منك في عرض مصونِ فحكم الناس جميعاً لمروان أنه أشعر، وأن الذي قال علي ليس بجواب. إنما هو استخذاء. ومما يستحسن له: إن الشباب طريق الشيب والكبر ... وما يدوم لحي جدة الشعر شمس الشباب علي اليوم طالعةٌ ... وسوف تغرب، إن الدهر ذو غير أنا ابن عشرين مازادت وما نقصت ... أنا ابن عشرين من شيب على خطر إذا الشباب مضت عنا بشاشته ... فما نبالي متى صرنا إلى الحفر لنا من الشوق أكباد مصدعة ... وأعين كحلت بالدمع والسهر سقياً ورعياً لأظعان مولية ... فيها خرائد كالغزلان والبقر يمسي ويصبح قلبي من تذكرها ... كأنه بين نابي حية ذكر ودعتهن وداعاً زادني كمداً ... ما كان إلا كورد الطائر الحذر

أخبار البحتري

يا رُبّ خرق كأن الله قال له ... إذا طوتك ركابُ القوم فانتشر تمشى به النعجة الحوراء آمنة ... مشى الخريدة ذات الدل والخفر وكان أبو السمط هذا ناصبياً. فإن كان هذا حقاً فلعنه الله عليه. أخبار البحتري واسمه الوليد بن عبيد ويكنى أبا عبادة. حدثني علان بن محمد قال: هجا البحتري أبا الفضل بن الحسن بن سهل، فتركه أياما وأظهر قلة المبالاة والإهمال لهجائه، ولم يظهر الموجدة بذلك. وحضره يوماً فقال له: يا أبا عبادة. تبيعني غلامك نسيماً؟ فقال: كيف أبيعك من لو فارقته ساعة فارقتني روحي؟ فقال: أعطيك به رغيبة فقال: وكم تعطيني؟ قال: أعطيك ألف دينار. قال: لا أفعل. قال: أعطيك ألفي دينار، فقال له: أحضر المال. فباعه وتسلمه أبو الفضل. فما مر للبحتري يوم حتى قامت قيامته، وندم، فواصل غدوه برواحه إلى باب أبي الفضل يسأله الإقالة وهو يأبى عليه، فلما عيل صبره كتب إليه: أبا الفضل في تسع وتسعين نعجةً ... غنى لك عن ظبي بساحتنا فرد أتأخذه مني وقد أخذ الهوى ... فؤادي له فيما أسرّ وما أبدي

أخبار العطوي ويكنى أبا عبد الرحمن

وتغدو عليه صبوتي وصبابتي ... ولم يعده وجدي ولم يأله جهدي وقلت: اسلُ عنه، والمنية دونه ... وكيف سلو ابن المفرغ عن بُرد وابن المفرغ شاعر كان له غلام اسمه برد فباعه وندم. وله فيه أشعار كثيرة - فقال أبو الفضل: أبيعكه بجميع ما تملك، فقال له: أفعل. فباعه بجميع ملكه وأشهد عليه ورد الغلام إليه، فلما كان من الغد، رد عليه الكتاب وأقاله من جميع ذلك، وحمل إليه صلة وقال له: إياك أن تهجو الأحرار، فإن لهم مكايد يضل فيها هجوك ومدحك. أخبار العطوي ويكنى أبا عبد الرحمن حدثني أبو جعفر محمد بن أحمد بن الحباب البصري قال: كان العطوي يذهب مهب الحسين النجار، وكان الإسكافي يقول: العطوي أحد المتكلمين المتقدمين، وكان إذا حضر مجلساً غلب عليه ببراعته وفصاحته. ومما اخترنا له قوله: وما لبس العشاق ثوباً من الهوى ... ولا خلعوا إلا الثياب التي أُبلي ولا شربوا كأساً من الحب حلوةً ... ولا مرةً إلا وشربهُمُ فضلي وهذا العطوي هو الذي يقول: يا أيها الجامع علماً جماً ... امض إلى الحرفة قدماً قدما لأجهدن أن يكون خصما قال: وكان صديقاً لعلي بن القاسم بن الحسين، فولد لعلي غلام،

فكتب إليه بهذه القصيدة: عليُّ أيا ابن الشفيع المطاعِ ... ويا ابن المصابيح يا ابن الغررْ ويا ابن الشريعة وابن الكتا ... ب وابن الرواية وابن الأثرْ ويا ابن المشاعر وابن المقام ... وزمزم والركن وابن الحجر مناسب، ليست بمجهولة ... ببدو البلاد ولا بالحضر مهذبة من جميع الجها ... ت من كل شانئة أو كدر أتيتك جذلان مستبشراً ... ببشراك لما أتاني الخبر أتاني البشير فكم ساء ما ... أتاني به من أُناس وسر أتاني يذكر أن قد رزقت ... غلاماً فأبهجني ما ذكر وأنك والرشد فيما فعل ... ت سميته باسم خير البشر فعمرك الله حتى تراه ... وقد قارب الخطو منه الكبر وحتى يرى حوله من بنيه ... وأخوته وبنيهم زمر وحتى يروم الأمور الجسام ... ويرجى لخير ويخشى لشر فأوزعك الله شكر العطاء ... فإن المزيد لعبدٍ شكر وصلى على سلف الصالح ... ين منكم وبارك فيمن غبر

أخبارابن أبي فنن

أخبارابن أبي فنن حدثني عبد الله بن صالح المقرئ قال: كان ابن آبى فنن وكنيته أبو عبد الله أحمد، شاعراً مفلقاً مطبوعاً، وكانت له ضيعة في قطيعة لمحمد بن عبد الله بن طاهر فكان الحاشر يصير له كثيراً فيؤذيه، وربما أشخصه، فكتب إلى محمد يذكر له ذلك: أبني حسين إنني ... أصبحت في كنف الأميرِ ولنا معاش في قطي ... عته على الماء النمير وبنيت بيتاً عنده ... سميته بيت السرور وإذا حضرت فناءه ... وشرت من حلب العصير فكأنني في نعمتي ... رب الخورنق والسدير لولا تردد حاشرٍ ... كالكلب في اليوم المطير غادٍ علي ورائح ... يصل الرواح إلى البكور فإذا بدا لي وجهه ... أُخرجت صغراً من سروري فهل الأمير بفضله ... من قبح طلعته مجيري فلما قرأ محمد بن عبد الله الأبيات وقع تحتها: قد أجرناك يا أبا عبد الله. وأمرنا لك باحتمال خراجك - وكان في كل سنة ستة آلاف درهم - وحمل إليه صلة. وحلف ليقضين الخراج عنه، وإنما حلف لأنه رجل لا يمدح أحداً ولا يستميح ولا يضع نفسه موضعاً يقبل فيه براً لأحد. قال أبو عبد الله

أخبار أبي علي البصير

فلما أتاني التوقيع مع الصلة، وقد حلف عليها بالغموس لأقبلنها، لم أجد بداً من ذلك، فأنا اشكر له بالشعر ما صنع، واحتجت إلى أن أمدحه في كل عام بقصيدة، فصرت بذلك السبب شاعراً. أخبار أبي علي البصير حدثني ابن دعامة قال: كان أبو علي البصير واقفاً بباب الجوسق، وكانت المواكب تمر فيسأل عن أصحابها فيقال: هذا فلان التركي وهذا فلان الخزري، وهذا فلان الفرغاني وهذا فلان الديلمي، ولا يذكر له أحد من العرب المذكورين، ولا من أبناء المهاجرين والأنصار، فيقول: يا بني النعمة اصبروا لهم كما صبروا لكم. وكان أبو علي كاتباً رسالياً. ليس له في زمانه ثان، شاعراً جيد الشعر، وقد قلنا في أخبار العتابي: إن هذا قلما يتفق للرجل الواحد، لأن الشعر الذي للكتاب ضعيف جداً، وكتابة الشعراء ضعيفة جداً، فإذا اجتمعا في الواحد فهو المنقطع القرين وهو القائل: رائدات الهوى سلبن فؤادي ... فتبدلت ترحةً باغتباطِ ملكت نظرتي فصار فؤادي ... غرض كف لشادن قباط فثنته طوعاً إليه ومدت ... منه كف الهوى لشد رباط أهيف أوطف أغر غرير ... مازجٌ لي سقامه باختلاط

أخبار عصابة الجرجرائي

لا وصول ولا هجور ولكن ... ذو انقباض وتارة ذو انبساط ربما قلت: وصله ليس عنه ... مدفع من قلىً فيحيا نشاطي فأنا الدهر في رجاء ويأس ... من حبيبي وفي رضاً أو سخاط فإذا رمته فلمس الثريا ... دونه أو لقاؤه في الصراط وكساني هواه من خلع السق ... مِ رياطاً فأنحلتني رياطي ورسائله وشعره كثير مشهور معروف أخبار عصابة الجرجرائي واسمه محمد بن عب بن إسماعيل الكوفي. قال غيره: اسم عصابة الجرجرائي إسماعيل بن محمد وكنيته أبو إسحاق، ولقبه عصابة. وحدثني محمد بن منصور قال: قال لي عصابة الجرجرائي: بعث إلي الحسن بن رجاء حاجبه وقال: أجب الأمير لتنادمه، فسألته أن يُعفيني من منادمته، وأن يحتال لي في ذلك، وأضمن له شيئاً فلم يفعل فركبت ومضيت معه، فصار بي إلى حجرة معتزلة. وجاءني بطعام فأكلت ثم أدخلني إلى الحسن بن رجاء، فقمت من بعيد، فما زال يدنيني حتى أجلسني بين يديه، وقال لي: هذا يوم لذة وسرور وغبطة، فساعدني على أمري، وانبسط ولا تحتشم. ثم

قال: يا غلام اسقني رطلاً، فسقاه، ثم قال: اسق أبا إسحاق، فسقاني رطلاً خثر ما بين الذؤابة والنعل. ثم تذاكرنا فقال: أنشدني خمسمائة بيت من شعرك وشعر غيرك، فأنشدته قريباً من ذلك، إلى أن قال أنت والله كثير الحفظ، جيد الشعر، واندفعت أنشد والنبيذ يعمل عمله، إلى أن قال: يا غلام اسقني وعصابة رطلا، فجاء الخادم برطل، فصب نصفه في قدحه ونصفه في قدحي، فنظرت إلى الغلام متأملاً، فإذا بعينيه قد دارتا في رأسه كالعلقتين. وإذا هو يومئ أن خذ رأسه، فوثبت قائماً وقلت: أيها الأمير ما أردت سوءاً، فأقلن أقالك الله. وأكببت على البساط أقبله وأتضرع إليه، فقال لي: قد أقلتك على ألا تقيم بفارس أصلاً. قلت: أصلحك الله ولا ما والاها من المدن. قال: فانج بنفسك. فخرجت وأنا لا أعقل لما تداخلني من الرعب. فارتحلت من ساعتي بمن معي من العيال والحاشية، فلا صرت على فرسخين من شيراز إذا أنا بفارس يركض ورائي وبيد شيء، فلما وافاني قال لي: يقول لك الأمير: هذه العشرة الآلاف درهم اصرفها في نفقتك. فدعوت بقرطاس ودواة وكتبت إليه: لا يخضبون عوالي المران ... إلا من العلق النجيع القاني يمشون والرايات فوق رؤوسهم ... وكأنهن كواسر العقبان والخيل تعترض القنا بصدورها ... وكأنهن نوازع الأشطان اقرَ السلام على الأمير وقل له ... إن المدام هي الرضاع الثاني إن المنادمة التي نادمتني ... رفعت عناني فوق كل عنان

ونقضت مني بنيتي فبنيتني ... بيديك أحسن بنية البنيان وعليك تقويمي إذا ما نالني ... أود لأنك كنت أنت الباني قال: ودفعت الأبيات إلى الرسول الذي حمل المال، فمضى وسرت أنا على سنني فلما صرت على عشرة فراسخ إذا أنا بجماعة يغذون السير خلفي حتى لحقوني وقالوا: يا هذا قتلتنا وقتلت دوابنا. ودفع أحدهم إلي كتاباً. فإذا هو كتابي الذي كتبت فيه الأبيات، وإذا هو قد كتب إلي تحت هذين البيتين: أبلغ أبا إسحاق أن محله ... مني بحيث الرأس والعينان فليفرخ الروع الذي روعته ... إن المحل محل كل أمان فلت للفرسان: قد أغذذتم السير وحملتم على أنفسكم، فانزلوا واعملوا الليلة على المقام تستريحوا وتريحوا دوابكم. قالوا: والله لو قطعتنا ما أقدمنا على ذلك، إما أن ترد الجواب أو تُردّ معنا. قلت: فوجهزا بفارس يتقدمكم ويعلمه أنا غداً عنده. قالوا: أما هذا فنعم، وبادروا إليه بفارس يركض الليل أجمع حتى وافاه وأعلمه أنه لحقوني بموضع كذا وكذا، وأنهم غداً عنده. فطابت نفسه. فلما كان من الغد ارتحلنا وقد استراحت دوابنا ووافينا بابه واستأذنا، فأذن لنا، فلما قمنا بين يديه وسلمت رد أحسن رد ومد يديه معاً إلي فناولينهما وضمني إليه، وأقعدني

أخبار أبي سلهب

بين يديه، فنادمته يومي ذلك إلى الليل، وظهر منه من السرور برجوعي إليه غير قليل. فلما أردت الانصراف آمر لي بألف دينار وحملني وخلع علي، ولم أزل عنده بعد ذلك بأجلِّ محلٍّ وأخصّ مكان أخبار أبي سلهب حدثنا أبو الحسن علي بن أحمد القُمي قال: قدم بعض تجار البصرة فصار إلى أبى حاتم السجستاني فقال له: من أي بلد آنت؟ قال: من أهل فارس، فقال له: ما فعل شاعر عندكم، لو كان بالبصرة ما قيل: إن بها شاعراً غيره؟ قال له الرجل: ومن هو أصلحك الله؟ قال: الذي يكنى أبا سلهب. قال الرجل: ما هو عندنا بهذا المحل. قال: لعمري ذلك مبلغهم من العلم، والله لقد أنشدوني من شعره ما لم أسمعه لأحد من أهل عصره، فإذا لقيته فاقرأ عليه السلام عني وقل له: هل لك في أن تنحدر إلى ناحيتنا حتى أردك إلى بلدك بألف دينار؟ فقال: أفعل ذلك. قال الرجل: فلما قدمت أتيته فقصصت عليه الخبر، فما مكث إلا قليلا حتى لحق بأبي حاتم، وانصرف إلينا بعد مدة وقد أفاد ضعف ما قال، وكان يحدث عن غزارة أبي حاتم وسعة علمه، وعن حسن قيامه له حتى أفاد ذلك المال، ثم لم يزل صديقاً له يتكاتبان إلى أن توفي أبو حاتم السجستاني. ومما روينا لأبي سلهب في الحسن بن علي بن أبي سويد يهجوه:

أخبار إسماعيل الفتاك

يا دار دار أبي سويد حاولتْ ... طير الأشائم فيك ما يتحذرُ ورميت عن قوس الزمان بمحنة ... نكباتها تبقى ولا تتغيرُ دار أبيحت للخنا تباً لها ... والنازلون بها أتب وأخسر بتر المناسب ليس بعد أبيهم ... حسب يعد ولا قديم يذكر دنست من اللؤم القديم جلودهم ... فثيابهم بجلودهم تتقذر يا فارساً لا تصطلى شداته ... عند اللقاء إذا الحروب تسعرُ قد سد ثغراً ما حمى ماسده ... عمرو ولا أسد الفوارس عنترُ والرستمان ولا المعادي ربه ... شوبين إذ يفصي الكماة ويهصر وحمى كليب يوم يحمى ما حمى ... وبعزة فينا ربيعة تفخر ما كان يحمي ما حميت له الحمى ... عند الطعام إذا رغيفك يحضُر أخبار إسماعيل الفتاك حدثني السدوسي البصري قال: كان إسماعيل الفتاك صديقاً لأبي الهيذام، بينهما من الأمر ما ليس بين اثنين، وكانا لا يفترقان وقتاً من الأوقات، فتوفي أبو الهيذام، فكان أهل مودته يزورون قبره، وكان إسماعيل لا يقربه. فقلت له يوماً: قد ظننت تلك الثقة التي كنت تظهرها أيام حياته نفاقاً. فقال: كلا، إنه ليس كما ظننت، ولكن ليس في ذلك نفع عاجل ولا آجل، ولا هو

أخبار محمد بن القاسم الدمشقي

يحسه ولا يعلمه، وإنما خلق من أخلاق العامة ولقد أحسن القائل: لألفينَّك بعد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زودتني زادي وإن مذهبي فيه ما يقول أخو بني أسد: وإني لأستحييك والترب بيننا ... كما كنت أستحيي وأنت تراني ومما روينا للفتاك قوله: يشكي فهل أنت له راحمإليك أم أنت به عالمُ متى يُعرَّ الثوبُ عن جسمه ... فليس إلا شبح قائم أحلف بالله وآلائه ... أنك لي يا قاتلي ظالم أفواه أكمامك محصورة ... والجيب فيه سعة لازم وله: ويحبس جعسه في البطن شهراً ... مخافة أن يجوع إذا خريه ويبكي إذ خرى أيضا عليه ... كما يبكي اليتيم على أبيه أخبار محمد بن القاسم الدمشقي حدثني أبو طيبة قال: قلت لمحمد بن القاسم الدمشقي: كيف محبة جابر بن مصعب لك؟ - وكان يموت من عشقه - فقال هو والله أعشق من جميل بن معمر

أخبار خالد بن يزيد الكاتب

لبثينة. ولكنه لا يهب لي شيئاً. وكان محمد بن القاسم هذا من أظرف الناس وأنبلهم وآدبهم وأحفظهم للأيام والأخبار، لا يمل حديثه ومجلسه، وكان مع ذلك شاعراً محسناً مجيداً وهو القائل: اعتُ بهجري وصد ما شيتا ... واجعل نصيبي من الكرى قوتا تقدر أن تمنع الفؤاد من ال ... حب وطرفي إليك مبهوتا؟ أم هل تذود المنى إذا غلب الش ... وق على الصب إن تمنيتا؟ هذان أمران لست تدفعني ... عن ذا ولا ذا فافعل كما شيتا يا من سبى الريم حُسن لبته ... وحسن عينيه واحتوى الليتا بطلت هاروت في صناعته ... وقد لعمري عطلت ماروتا حتى استعاذا من سحر طرفك أن ... خافا من الطرف قوله: مُوتا وله أيضاً: حل من القلب في صميمٍ ... محل مستوطن مقيمِ حيث انتهى سهم مقليته ... باللحظ من طرفه السقيم من جل حسناً ودق حتى ... دق عن اللحظ والنسيم تعرف في صبغ وجنتيه ... ووجهه نضرة النعيم أخبار خالد بن يزيد الكاتب حدثني يوسف بن إبراهيم قال: قال حبيب بن أوس: ثلاثة من الشعراء ذكروا الليل بمعان مختلفة لميُسبقوا إليها، النابغة حيث يقول:

فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع وبشار حيث يقول: لم يطل ليلي ولكن لم أنم ... ونفى عني الكرى طيف ألمّ وخالد بن يزيد حيث يقول: رقدت ولم ترث للساهر ... وليل المحب بلا آخر حدثني خالد بن يزيد الكاتب، والصبيان يصيحون به: يا خالد يا بارد، فيرميهم بالآجر، لأنه كان وسوس في آخر عمره، وتغير عقله. وشعره حسن جداً، وليس لأحد من الرقيق ما له، وهو القائل: وضع الدموع مواضع الحزن ... حي السهاد وميت الجفنِ عبراته نطق بما ضمنت ... أحشاؤه ولسانه يكني في كل جارحة له مقل ... تبكي على قلب له رهن لم يدر إلا حين أسلمه ... قدر للحظة واحد الحسن وله أيضاً: على ثقة من أنني بك واثق ... صددت وأن الناس بي منك أعرفُ إذا كنت في كلي بكلك مفرغا ... فأي مكان من مكانك ألطف فمني إذا ما غبت في كل مفصل ... من الشوق داعٍ كلما غبت يهتف إلى أين لي من حسن وجهك مذهب ... ومن أين لي منه إذا جاء مصرف

أخبار أحمد بن عبد السلام

وهو القائل: كيف خانت عينُ الرقيب الرقيبا ... أخطأتني لما رأيت الحبيبا رحمتني فساعدتني فقبل ... تُ بعيني مع الحبيب الرقيبا أخبار أحمد بن عبد السلام حدثني الخصيب بن محمد الأسدي قال: قال لي أحمد بن عبد السلام: مررت يوماً بباب الطاق ومعي بني لي صغير، فاستقبلتنا جنازة يتبعها خلق كثير من الرجال، ونسوة يبكين ويندبن، وواحدة تقول: إلى أين يُذهب بك يا أبتاه؟ إلى دار البلى وبيت الوحشة والظلمة، إلى حيث لا سرور ولا ضياء ولا أكل ولا شرب ولا فرح. قال: فالتفت إلى ابني ذلك الطفل فقال: يا أبي هذا الميت يذهب به إلى بيتنا. قلت: لم ذاك يا بني؟ قال: لأن هذا الذي تقول هذه، كله في بيتنا موجود. وحدثنا محمد بن عبد الله الطرسوسي قال: رأيت أحمد بن عبد السلام وما له ثان بمدينة السلام في قول الشعر، ولم يكن له فيه أمل، ما زال فقيراً إلى أن مات، ووسوس في آخر عمره، فرأيته والصبيان يصيحون به: يا كاتب الشريطي. فيخرق ثيابه، ويحلف ألا يخرج من داره. وهو القائل: ديباج وجهك لا ديباج تختكم ... أهدي إلي مع الأسقام أحزانَا

أخبار الحسين بن دعبل

أبكي عليك وما أنفك من حرق ... يا لابساً حسنا للقلب فتانا تفاح خدك محمر على يقق ... ترعى العيون به دراً ومرجانا فما نظرت إلى شيء أُسر به ... غلا وجدد لي ذكراك أشجانا بدر يلوح على غصن يجاذبه ... ردف يمور إذا ما اهتز ريانا لم يخلق الله من وجه يعادله ... أستغفر الله إذ أغفلت حمدانا إني أعوذ بطرف منك يسحرني ... من أن تجرعني صداً وهجرانا أخبار الحسين بن دعبل حدثني أبو الورد قال: رأيت محمد بن واصل وقد عرض جيشاً من الأعراب من بني تميم بفارس، وكانوا من عشيرته فوجدهم على غاية الرثاثة وقبح الهيئة. وانصرف عنهم إلى قوم من عبد القيس من أهل البحرين، فعرضهم فوجدهم أخس زياً، واردأ ثياباً. فالتفت إلى الحسين بن دعبل - وكان أتاه زائراً فأكرمه وقدمه، وقبل شعره ورعى له في أبيه - فقال: يا دعبلي، قال: لبيك أيها الأمير. قال: إن أنشدتني في قرب شبه هؤلاء الأعراب بعضهم ببعض وصلتك بعشرة آلاف درهم، قال: أيها الأمير رجوت أني قد وُفقت لما تريده، هم كما قال حبيب بن أوس الطائي:

أخبار أبي هفان

لئام طغام بل كرام بزعمهم ... سواسية ما أشبه الحول بالقبل قال ابن واصل: أحسنت والله، ما عدوت ما في نفسي. وأمر له بعشرة آلاف درهم. ومما روينا للحسين بن دعبل قوله في الحارث بن سيما: هذا زئير الليث فاستقيما ... ولا تناما ولا تنيما سيراً حثيثاً ودعا التهويما ... واستعملا العنيق والرسيما ومما اخترنا له قوله: دمع تصوبه الأنفاس والحُرقُ ... من ناظري على خدي يستبقُ يرقى إلى مقلتي بالشوق مجتمعاً ... من الحشا بزفير ثم يفترق ربيع خدي من عيني متصل ... وماء عيني من فرط الهوى غدق لم أدر أن سبيل النوم منقطع ... حتى رأيت جفوني ليس تتفق والدعبلي مليح الشعر جداً. أخبار أبي هِفَّان أخبرنا أبو نصر النحوي قال: اجتمع أبو هفان وأبو العيناء على مائدة، فقدمت إليهم فالوذجة، فقال أبو هفان لأبي العيناء: هذه والله أشد حراً من مكانك في لظى، فقال أبو العيناء: بردها الله بشعرك. حدثني مسلم بن عمرو قال: حدثني إسحاق بن بلبل قال:

لقيت أبا هفان على حمار مكار، فقلت له: يا أبا هفان، تركب هذا وأنت أنت؟ فأنشأ يقول: ركبت حمار الكرا ... لقلة من يُعترى وإن ذوي المكرما ... ت قد أصبحوا في الثرى ومما يختار له قوله في عبيد الله بن يحيى بن خاقان، وقد أهدي إليه يوم النيروز أنواع الهدايا وكتب أبو هفان: دخلتُ السوق أبتاع ... وأستطرف ما أُهدي فما استطرفت للإهدا ... ء إلا طُرف الحمدِ إذا نحن مدحناك ... رعينا حرمة المجدِ فسر عبيد الله بأبياته، وحمل إليه مما أهدي إليه شيئاً له خطر جسيم. وأبو هفان هو القائل في ابن ثوابة: الثوابي فتى ليس له ... في سوى السؤدد والمجد وطرْ لم يطق أن يتعاطى جوده ... فتعاطاه لنا العام المطر وله في المبرّد: ألم تر فتحاً وما ناله ... من الداء والبلغم الهائجِ رماه المبرد من برده ... بسهم فقرطس بالفالج وأبو هفان من المشهورين المذكورين، وشعره موجود بكل مكان، وهو أحد غلمان أبو نواس ورواته.

أخبار يعقوب التمار

أخبار يعقوب التمار حدثني ابن الديك قال: قال لي يعقوب التمار: دببت إلى غلام ليلة، فانتبه وقال لي: أي شيء تعمل؟ قلت: جئت أشرب الماء. فقال لي: يا ابن الفاعلة، بطني إداوة أم سِقاية؟ وكان التمار هذا من أصحاب أبي نواس المذكورين، ومما رويناه له: أيا ظبي لولا الذي في الحشا ... وفي القلب مني ولولا الحرق لما هتك الدمع ستر الهوى ... وأوردني العشق بحر الغرق وهل: قد كنت قصرت من الحب ... وتبت من هم ومن كربِ وأُلْت من عيشي إلى خفضه ... ناعم بالٍ فارغ القلب حتى بدا لي شادن أحورٌُ ... فكدت أقضي أبداً نحبي يغتصب العشاق ألبابهم ... فكان ما قد حار لي لبي فمن لصب عقله في يدي ... رخيم دل كافر القلب قد قلت لما لم أجد حيلة ... : أحمدُ قد أوصاكم ربي بالجار والجار له حرمة ... عليك والصاحب بالجنب أحمد يا سؤلي ويامنيتي ... حسبي فخراً بكم حسبي

أخبار الأخيطل برقوقا

إن كان عيباً عشق أهل الهوى ... فليس في عشقك من عيب يا بأبي الدرب الذي ليس له ... مولى، به مبتهج الدرب رضيت إن لم تنصفوا في الهوى ... أن تقرءوا يا سيدي كتبي وله شعر جيد موجود في أيدي الناس، والتمار هذا من المعروفين فيمن حوى جودة الطبع وقلة التكلف. أخبار الأُخيطل برقوقا حدثني أحمد بن زياد الفارسي قال: قال لي الأخيطل: أنشدت يوماً أبا تمام شيئاً من شعري فقال لي: اذهب إذا شئت فليس للناس بعدي غيرك. وحدثني أبو يعقوب البصري قال: كان الأخيطل المعروف ببرقوقا يبيع الفلوس بباب الكرخ وهو من المجيدين المحسنين، ومما روينا له واستملحنا له: أما ترى كيف ظرف ذا اليومِ ... وكيف سالت مدامع الغيمِ وكيف طاب الثرى ببلته ... وهب نواره من النومِ لو أنه سيم لاشتراه بنو الل ... هو ولوكان غالي السوم وعاند الصب والمنادم والعا ... شق في مقلتيه ذا اللومِ وله أيضاً: أيا كبداه من غصص الفراق ... وحب ما أراه وما أُلاقي

له صدغان معقوفان، منه ... بنات القلب تجنح في السباق على خد يجمش وجنتيه ... عناقيد مزرفنه البطاق تلاحظه العيون بكل وجه ... ولكن لا سبيل إلى التلاقي يتيه بصدره رمان ثدي ... على عكن تفتح عن نطاق تعاوره الحواضن كل يوم ... بمسح العارضين إلى التراقي أقول له وقد أودى بقلبي ... سقام ما يفتر عن خناقي أيا قمر القبيلة من لصب ... أسير الحب أصبح في وثاق وله البيت العجيب في تشبيه المصلوب الذي ليس لأحد مثله في قوله: كأنه عاشق قد مد بسطته ... يوم الفراق إلى توديع مُرتحلِ أو قائم من نعاس فيه لوثته ... مواصل لتمطيه من الكسلِ

أخبار القصافي واسمه عمرو

أخبار القصافي واسمه عمرو حدثني السكز بن محمد الأنباري قال: رأيت هداب بن يحيى التميمي يسأل محمد بن واصل في ابن أبي سليمان الهاشمي، وكان ختن هداب يتعافى له عن جرم اجترمه. فقال له ابن واصل: لا ولا كرامة، والله لا عفوت عنه، ولا عفوت عنه، ولا قصرت في تأديبه. فأقبل هداب يبكي بكاء شديداً، حتى ضحك الناس من فرط بكائه مع طول لحيته. فالتفت ابن واصل إلى القصافي، ونظر إليه مبتسماً. فقال القصافي أصلح الله الأمير، إن قلت في بكائه بيتين نادرين فما لي؟ قال: علي كرامتك. فأنشأ يقول: دمعه يجري على ذقنه ... قائماً يبكي على ختنهْ

أخبار أبي العيناء

ليس يدري من رقاعته ... ما قبيح القول من حسنه ومما يستحسن للقصافي قوله: آلفني الدرب حب ساكنه ... والحب يدعو الهوى الذي نصبا لو كان درب بكى لمكتئب ... أو رق أو كان بلغ الكتبا بلغ كتبي ورق لي وبكى ... وكان لي عند سيدي سببا يا ظبي عبد الحميد ما صنعتْ ... عيناك بالقلب؟ أورثت كربا من نظرة عدت من مغبتها ... حيران صب الفؤاد مكتئبا طرفي دعاني إليك عن قدر ... يا شؤم طرفي علي، ما جلبا؟ أسترزق الله منك لي مقة ... يوماً لأقضي من وصلك الأربا أخبار أبي العيناء حدثني أبو سليمان العكبري قال: دخل أبو العيناء على الحسن بن سهل فشكا ضيقته. فأمر له بخمسة آلاف درهم فقال: أصلح الله الوزير لا أستقل قليلك ولا أستكثر كثيرك، قال له: ولم؟ قال: لا أستكثر كثيرك لأنك أكثر منه، ولا أستقل قليلك لأنه أكثر من كثير غيرك. فأعجب بكلامه وقال: اكتبوه وزيدوا خمسة آلاف أخر. حدثني أبو الحسن علي بن محمد البغدادي قال: قال المتوكل يوماً لأبي العيناء: بلغني أنك مأبون، فقال له:

يا أمير المؤمنين، مولى القوم منهم. وكان أبو العيناء من موالي بني العباس. حدثني زهير بن حرب الجرجاني قال: قال لي أبو العيناء: كان لي عم لا يُعرف إلا بأني. وكان ينفر من ذلك ويشتد عليه ولا ينفعه شيئاً. فلما مات أبي صار لا يعرف إلا بي فقال: هذا والله شر، ليتنا بقينا على الأمر الأول. وحدثني زهير قال: ولد لأبي العيناء غلام، فصار إليه ابن مكرم وكان يجري بينهما أبداً مزاح وظرف، فلما أراد ابن مكرم الانصراف، أخرج من كمه حجراً فوضعه بين يدي أبي العيناء من حيث لا يدري ثم خرج، ووقعت يد أبي العيناء عليه فقال لغلامه: من وضع هذا الحجر هاهنا؟ قال: ابن مكرم. قال: أخزاه الله، إنما عرض بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " الولد للفراش وللعاهر الحجر ". ومما يستحسن قوله في علي بن الجهم: أراد ابن جهم أن يقول قصيدة ... بمدح أمير المؤمنين فأذنا فقلت له لا تعجلن بإقامة ... فلستُ على طهر، فقال ولا أنا وقد روى الناس أن هذين البيتين لمروان، وليس ذلك بشيء.

أخبار أحمد بن أبي طاهر

أخبار أحمد بن أبي طاهر حدثني التميمي أحمد بن المنذر قال: سمعت أحمد بن أبي طاهر يقول: أنشدت أبا حكيمة لي مرثية لمتاعي منها هذان البيتان: أيري على مر الزمان مع الزما ... ن فمن أذم ومن ألومُ الشأن في أيري يُق ... وَّم للقيام فلا يقوم فقال أبو حكيمة: والله إنه لا شريك لي في هذا الفن، وإني قد تفردت به من دون الخلق، وأنا أعطي الله عهداً يأخذني به إن أنا قلت شيئاً بعدها في هذا المعنى. قال: فكان أبو تمام يقول بعد ذلك: يا متوب أبي حكيمة من شقائه كيف حالك. وابن أبي طاهر هو القائل: إذا اليد نالتها بضغن توقرت ... على ضغنها ثم استقادت من الرجل وقد هذا البيت في قصيدة لأبي تمام. والبيت لابن أبي طاهر. وشعره أشهر عند الخاصة والعامة من أن يحتاج أن نورده في كتابنا هذا وله غير كتاب معمول في فنون من الأدب والأخبار والأيام، وقد بلغ الشرق والغرب.

أخبار البصري واسمه حفص

أخبار البصري واسمه حفص حدثني محمد بن حبيب قال: تذاكرنا الشعراء عند المبرد فقال لي: لا أعرف بمدينة السلام أحداً غير أبي حفص. فدخلت على المبرد بعد أيام فقلت: بلغني أنك تجيد شعر أبي حفص البصري، فبأي شيء؟ فقال: بكل قول صحيح سليم من السرف ليس فيه تخليط. أليس هو القائل: نعمة الله لا تعاب ولكن ... ربما استقبحت على أقوامِ لا يليق الغنى بوجه ابن يعلى ... لا ولا نور بهجة الإنعام وسخ الثوب والعمامة والبر ... ذون، والسرج تحته واللجام وله أيضاً: بنى الحصون أناس لا حصون لهم ... يحمي حريمهم بالأجرة الحرسُ لابن البراذين بيت لا قديم له ... في ظله سيفه والرمح والفرسُ أخبار الناشئ واسمه عبد الله بن محمد، وكنيته أبو العباس. حدثني أيوب بن عمر الأنصاري قال: اجتمع أبو العباس الناشئ، مع عدة إخوان على الشراب في بعض المتنزهات، ومعهم قينة محسنة، فاقترح بعض القوم عليها هذا الصوت: أدير المدام ولا بد لي

حماية دين الله من كل شانئ ... أم الجود بالدنيا كلا ذين مفخرُ إلى الله أشكو والوزير مذلتي ... ببغداد والدنيا ربيع مبكر مقيماً على التعطيل يوماً وليلة ... بلا عوذة شيطانها يتنمر أنا الربعي الوائلي الذي قضت ... لآبائه بالفخر عك وحمير ولا رحمي أغنت فتيلا ولا شفت ... عليلا، ولا عودي بظلك أخضر وها أنا والقربى طليح بذلة ... وأنتم فأنتم إن هذا لمنكرُ ولو كنت من غوري تهامة لم يجب ... ضياعي لديكم والقرابة تذكر إذا أنت لم تعد التي تستطيعها ... إلى غيرها قالوا كريم معذر ومن غر آيات الوزارة فعله ... بمثلي وإلا فهو ملكٌ مزور فلم يمس يومه حتى حمل إليه أربعمائة دينار، وقاد إليه دابة فارهة. وحمل إليه ثياباً. ومما يستحسن له: أظننت أن الملك يطرح حبله ... بيديك أو قلدت أمرك صاعدا وهي قصيدة جيدة حسنة طويلة، وشعره كله جيد، ولو استقصينا كل شعره وقصائده لخرج كتابنا عن حده. والله المستعان.

أخبار عنان جارية الناطفي

أخبار عِنان جارية الناطفي مما يستحسن من شعر عنان تذكر امتنان يحيى بن خالد إلى أختين لها وتسأله إلحاقها بهما فقالت: نفى النوم من عينيَّ حوكُ القصائد ... وآمالُ نفسٍ همها غير نافد إذا ما نفى عني الكرى طول ليلة ... تعوذتُ منها باسم يحيى بن خالد وزير أمير المؤمنين ومن له ... فعالان من حمد طريف وتالد من البرمكيين الذين وجوههم ... مصابيح يطفي نورها كل واقد على وجه يحيى غرة يُهتدى بها ... كما يهتدي ساري الدجى بالفراقد تعود إحساناً فأصلح فاسداً ... وما زال يحيى مصلحاً كل فاسد وكانت رقابٌ من رجال تعطلت ... فقلدها يحيى كرام القلائد على كل حي من أياديه نعمة ... وآثاره محمودة في المشاهد حياضك في المعروف للناس جمةٌ ... فمن صادر عنها وآخر وارد وفعلك محمود وكفك رحمة ... ووجهك نور ضوءه غير خامد بلغت الذي لا يبلغ الناس مثله ... فأنت مكان الكف من كل ساعد فيا رب زده نعمة وكرامة ... على غيظ أعداء وإرغام جاحد

عقلاً منها، وكانت من اشعر الناس، وأكثرهم بياناً، وافصحهم لهجة ولساناً. مع ظرف ونوادر وملح، وكانت مطبوعة مقتدرة، تلعب بالشعر لعباً، وتصوغ فيه ألحاناً، وكانت كثيرة المال والعبيد، تفرق مالها في الطالبيين وتجهز جيوشهم، وتقوي أمورهم، وتخرج وتحارب دونهم، وكانت من أشجع الناس، وخرجت في غير جيش وحاربت في مواطن كثيرة، وقتلت بشراً كثيراً، ولها في كل وقعة شعر، فمما يستحسن من شعرها قولها: أرقت لبرق بدا ضوءُهُ ... بمكة يبدو ويخفى مرارا فبت أململُ في مضجعي ... وأبكي جهاراً وأبكي سرارا لأم القرى خربت بالحريق ... ومات بها الناس سيفاً ونارا إلى الله أشكو مقام العدا ... بمكة قد حاصروها حصارا وأسرى تقطع أيديهم ... فماتوا صفوفاً وماتوا حذارا فمن صابر نفسه في البلاء ... ومن خائف فر منها فطارا ومن حامل نفسه في السفين ... يجوب الدجى ويخوض البحارا فيا قرية كنت مأوى الضعيف ... إذا لم يجد في سواها قرارا ومأوى الغريب ومأوى القريب ... وآمنة ليلها والنهارا سأبكي قريشاً لما نالها ... وبدلها الخوف داراً فدارا وأضحوا عبابيد قد شردوا ... وحلو الجبال وحلو القفارا بجيران بيتك حل النكال ... وقد عز من كان لله جارا

أخبار خنساء جارية هشام المكفوف

أخبار خنساء جارية هشام المكفوف حدثني عبد الله بن محمد اليحصبي قال: كانت خنساء جارية هشام المكفوف جليلة نبيلة أديبة شاعرة حسنة العقل، فائقة الجمال، من حواذق المغنيات المحسنات، وقد نازعت الشعراء، ومدحت الخلفاء، وأعطى بها هشام مالاً جليلاً فقال: والله لو أعطيت بها خراج السواد ما بعتها، وما أصنع بالمال، ومتعتي بها يوماً واحداً من كل ذخر، وأمتع من كل فائدة؟ ومما رويناه من شعرها قولها في أبي الشبل الشاعر تهجوه: ما ينقضي عجبي ولا فكري ... من نعجة تكنى أبا الشبل لعب الفحول بثفرها وعجانها ... فتجردت لتجرد الفحل لما اكتنيت لنا أبا الشبل ... ووصفت ذا النقصان بالفضل كادت تميد الأرض من جزع ... وترى السماء تذوب كالمهل أخبار عريب جارية المأمون حدثني أحمد بن حماد الإدريسي قال: كانت عريب جارية المأمون من أحسن النساء وجهاً، وأفصحهن لساناً

زيادات في المختصر، المختار من طبقات الشعراء

زيادات في المختصر، المختار من طبقات الشعراء إذا نبهتك حروب العداة ... فنبه لها عمرا ثم نم دعاني إلى عمر جوده ... وقيل العشيرة بحر خضم ولولا الذي زعموا لم أكن يا قوم أُذني لبعض الحي عاشقة ... والأذن تشق قبل العين أحيانا يا ليتني كنت تفاحاً مفلجة ... أو كنت من قضب الريحان ريحانا حتى إذا استنشقت ريحي وأعجبها ... وكنت في خلوة حولت إنسانا لا تعذلوني فإني من تذكرها ... نشوان هل يعذل الصاحون نشوانا حدثيني عن كتاب جاءني ... منك بالذم وما كنت أُذمْ أتقرأت على وجدي بكم ... أم توهمت أديمي قد حلم أصدوداً بعد ما استهويتني ... فيم ذا يا قرة العين ولِمْ فلك الله بأن أعتبكم ... ثم لا أُعتب فيكم من رغمْ

في هامش المختصر في ترجمة ابن ميادة ومدح الوليد بن عبد الملك ابن مروان. وإلا فدع الناس ... ودعني أسأل الناس وأبغي منهم الخير ... فإن الناس للناس أأُمام إن الدهر أه ... لك صرفُه إرماً وعادا فأباد داووداً وأخ ... رج من مساكنها إيادا أتجعل فوق من يقصر رأيه ... ومن ليس يغني عنك مثل غنائيا فعين الرضا عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا كلانا غني عن أخيه حياته ... ونحن إذا متنا اشد تغانيا وأدليت دلوي في دلاء كثيرة ... فأبن ملاء غير دلوي كما هيا وأنت أخي ما لم تكن لي حاجة ... وإن نزلت أيقنت أن لا أخاليا

غمط النعمان صفوتها ... فرددت الصفو في كدرهْ وتحسى كأس مغتبق ... لا يدال الصحو من سُكُره ولقرقور أدرت رحا ... وقعة فلَّت شبا أشره لو لم تكن كانت الأيام قد فنيتْ ... بالمكرمات ومات المجد مذ حين لقد مننت على الدنيا وساكنها ... بظل أمن بسيط غير ممنون طويت كل حشا منها على أمل ... إلى قرينة خوف منك مقرون من لم يكن منك موصولا إلى سبب ... لم ينزل الأرض إلا منزل الهون أصبحت للملك عرنيناً تقوم به ... يوم الكريهة جداع العرانين صورك الله من جود ومن كرم ... وصور الناس من ماء ومن طين نهدي لك المدح موزوناً محبره ... وتكسبنا عطاء غير موزون فكأنه أراد أنك بلغت بالله عز وجل ما بلغت وهذا صحيح. وفي حميد أيضاً يقول: دجلة تسقي وأبو غانم ... يطعم من تسقى من الناسِ أعد للمعروف أمواله ... وسيفه في حلبة الباس يرتق ما يفتق أعداؤه ... وليس يأسو فتقه آسى والناس جسم وإمام الهدى ... راس وأنت العين في الراس

وله من أبيات إن توطني العجز فحزمي عندي ... قد يطرق الموت حليف الرقد والرزق حتم وهو حلف الجهد ... والطلب المسبب المؤدي والدلو لا يجبي حياض الورد ... إلا بفتل مرس وحصد ما المال إلا مقدحي وزندي ... وعللي من السرى ووخدي إلى حميد مستراح الرفد ... محرز إرث الحمد واسم الحمد إلى الذي سن بناء المجد بكل غور وبكل نجد أفنت مساعيه حساب العد ... له بكل أكمة ووهد سحابة تغني وأخرى تردى ... كالدهر يعدو مرة ويعدي ويستحل علماً ويهدي وما قرن شيء إلى شيء أحسن من عقل إلى أدب. وتذاكر قوم في اغزل العرب فقال أحدهم: القائل هو أبو نواس: حب مجد وحبيب يلعبُ ... أنت إذاً بينهما معذب وفي أوصفهم للخمر، فقال: أبو نواس: أذكى سراجاً وساقي القوم يمزجها ... فقام في البيت للمصباح مصباحُ

كدنا على علمنا للشك نسأله ... من راحنا النار أم من نارنا الراح قال يوسف ابن الداية: كنت وأبو نواس وجماعة من إخواننا.. لا نلوم إلا أنفسنا نحن بعثناه على ذلك. ومما يختار لبكر كلمته التي يقول فها: فلو لم يكن في كفه غير نفسه ... لجاد بها فليتق الله سائله وما بعثت في العالمين فضيلةٌ ... من المجد إلا مجده وفضائله وقوله أيضاً: ولقد طلبنا في البلاد فلم نجد ... أحداً سواك إلى المكارم ينسبُ فاصبر لعادتنا التي عودتنا ... أو لا فأرشدنا إلى من نذهب واسمه الفضل بن عبد الصمد. حدثني إبراهيم بن تميم قال: حدثني المعلى بن حميد قال: الرقاشي من أهل الري من العجم. ومما يستحسن من شعر الرقاشي كلمته في موسى بن يحيى بن خالد: قالت بنو برمك وقد صدقت ... إن قريع السماء موساها خالدها في الوغى إذا استعرت ... وفي التقى والعفاف يحياها

ومما يستحسن أيضاً قوله في موسى بن يحيى بن خالد: والقصيدة طويلة وهي سائرة مشهورة، فتركناها اقتصاراً على هذين البيتين: كتبت هند ما مقامك عنا ... لك حول مذ أنت عنا مقيمُ قلت لا أستطيع ترك بلاد ... حل فيها موسى بن يحيى الكريمُ وكان مع ذلك شاعراً إلا أنه قد تخلى من الدنيا. وكان الذي بعثه على ذلك شعر أبيه وما كان يجد فيه من المواعظ والحكمة. قال المأمون: أحسن الرجل أحسن. في المختصر فقال المأمون: ما أحد من الشعراء يعطى المعنى حقه غيره. وفي ترجمة أبي العتاهية وسمع أبو العتاهية بقول جميل بن معمر: خليلي فيما عشتما هل رأيتما ... قتيلا بكى من حب قاتله قبلي

قال: فأخذه أبو العتاهية كله وأخذ معانيه فقال: يا من رأى قبلي قتيلاً بكى ... من شدة الوجد على القاتل حدثني صالح بن محمد العوفي قال: حدثنا إبراهيم بن أبي يحيى المدني الأنصاري. قال: مسلم بن الوليد من الأنصار. وداوود بن مزيد وفي البرامكة وكاتبهم محمد بن منصور بن زياد وقد كان مدح الخلفاء أيضاً. حدثني ابن المغير قال: كان مسلم بن الوليد مدح.. في المختصر يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم المدائني قال: حدثني أبي قال: كان مسلم بن الوليد مدح.. في المختصر في أول ترجمة النمري. حدثني أبو صاعد وكان أبوه شاعراً قال: حدثني أبي قال: قال علي بن الجهم: أنا اشعر من امرئ القيس، والنمري أشعر مني

قال: حدثني السدي محمد بن زياد قال: حدثني الهلالي قال: كان النمري مقدماً عند الرشيد، وكان يمت له بأم العباس بن عبد المطلب وهي نمزية، وكان هارون يعطيه فيجزل له. وكان مع ذلك فاسقاً معلناً بفسقه وكان أحمق.. ويقال في المثل: لن يخطئك من طويل إما قرحه في رجله وإما خلل في عقله. ويمنعني من لذة العيش أنني ... أراه إذا قارفت لهواً يرانيا أخده من قول الآخر: وإني لأستحييك حتى كأنما ... علي بظهر الغيب منك رقيب في المختصر ومحاسن أخلاق وفضل على إخوانه، ومذهبه في لك كله مذهب جميل يرجع إلى حياء وعفاف وسخاء ونبل في نفسه. وفي مجونه يقول: ما بالكم يا ظباء وجرة أم ... ما بالكم يا جآذر البشر

غابوا فآبوا وفي خدودهمُ ... كما يكون الكسوف في القمر ماتوا ولم يقبروا فيحتسبوا ... ففيهم عبرة لمعتبر وقل لمن كان أمردا يصنع ال ... معروف من قبل آفة الشعر قال فوصله وأكرمه. وشاطري اللسان مختلق التكريه.. في هامش المختصر أحسن ما فيه: قوله بعد الأول: كأنما نصب كأسه قمر ... يكرع في بعض أنجم الفلك محب نال مكتتما صفاه ... وأسعده الحبيب على هواه أضاع اللهو أنفس ما يعاني ... وما عذر المضيع لما عناه كأن الملك لم يك قبل شيئاً ... إلى أن قام بالملك الأمين

وشعره قليل وكان يستقي الشعر من الكلام والجدل. وكان إبراهيم بن سيار عداده في الشعراء، يمدح الخلفاء والوزراء والأشراف، وقال النظام: لأن يموت الرجل على رحله في طلب رزقه أحب إلي من أن يموت في سبيل ربه، هذا رد على الصوفية. ووصف كلاماً فقال كلام أملس المتون، كثير الفنون، سهل الموارد والمصادر، ملتف الأوائل بالأواخر، يتغلغل إلى حبة القلب فيشكها وإلى صميم النفس فيصيبها. وقال النظام: قال زيد بن علي لرجل سبه عند هشام بن عبد الملك: إني والله ما أنا بالوشيظة المستلحقة، ولا الحقيبة المستردفة، ولا أنت بعبدي فأضربك ولا بكُفْئي فأسبك. وقال النظام: الحر يرى في حريته أن يستتم ما ابتدأ، وَيَرُبَّ ما أسدى، وتكون أولى يديه رهناً بالأخرى. وقال النظام: من أحبك نهاك ومن أبغضك أغراك: وأشعاره كثيرة وهو مؤدب المأمون. وكان يقول بمكة أشعارا كتبناها عنه في الحكمة والموعظة. وذكره محمد بن الجهم فقال: كان إذا تكلم أفاد، وإذا سئل أجاد، وإذا ابتدأ أعاد.

كما ترى أفطح ذا رقطة ... تنجاب عنه هبوة القاع تهوى بقاي وأهوى موتها شفقا ... والموت أكرم نزال على الحرم يرى لاطراد الدمع في صحن خده ... أخاديد شقت باستنان همول وقال: هذا معنى يستحسن الشعراء ويختارونه أمات قلوباً واستمال بأنفس ... تكشفن منه عن ذهاب عقول وقال: وهذا نمط يعجز عنه الشعراء. ومن هذه القصيدة: خليلي يوم الفراق لقد خلقت طويلا وقوله: قدك أتئب أربيت في الغلواء

إذا لم أجد يوماً إلى الأذن سلماً ... وجدت إلى ترك المجيء سبيلا ويقال: إن طاهراً لم يجفه ولم يزل مكرماً له حتى توفي، وإن عبد الله بن طاهر جفاه فلما رأى ذلك منه قال هذا الشعر فيه. لا يقبس الجار منهم فضل نارهمُ ... ولا تكف يد عن حرمة الجار هذان البيتان أنشدهما أبو تمام لبعض آل المهلب ولم يسم أبا عيينة ولعله هو. فأغنت بريح الفضل كل غنائها ... وبالفضل ساءت حين ساءت وسرّت ثم فارقه وقال: هو الصبر والتسليم لله والرضى ... إذا نزلت بي خطة لا أشاؤها إذا نحن أُبنا سالمين بأنفس ... كرام رجتْ أمراً فخاب رجاؤها فكأنما عقد السراة بطرفه ... وكأنه بعرى المجرة ملجمُ وقال أيضاً: يقولون لي مروٌ بلاد بعيدة ... وما بعدت مروٌ وفيها ابن طاهر وأبعد من مرو رجال أراهم ... بحضرتنا معروفهم غير حاضر سواء على من زارهم لنوالهم ... أزارُمُ أم زار أهل المقابر

وقال: أشعار إسحاق بن خلف كثيرة، في مديح الخلفاء والهحاء ووصف الشراب والغزل، وكان فيه بعض الإمساك. أو ما يكفيك أني ... بك مقطوع القرين ومن القصيدة أيضاً قوله: فإلى طرفك أشكر ... كل ذي طرف فتونِ وإلى الخد الذي يج ... رحه لحظُ العيون وتقربتُ إليكم ... بخضوعِ المستكين فارحموا ضُري وإلا ... فأريحوا واقتلوني وله: إن الأمور إذا الأحداث دبرها ... دون الشيوخ ترى في بعضها خللا إن الشباب لهم في الأمر معجلة ... وللشيوخ أناة تدفع الزللا في أول ترجمة أبي سعد. حدثني عمر بن أبى جعفر قال: حدثني ابن أبي ربيعة قال: كان أبو سعد الشاعر لقيطاً دعياً، وكان من أشعر أهل زمانه وأفصحهم لهجة، وأطبعهم وأقدرهم على الشعر فقال في أشعث بن جعفر الخزاعي: أتيت بابك..

في أول ترجمة مخلد. مما يستملح من شعر مخلد بن بكار يمدح محمد بن حبيب الطوسي: صدت وما صدت لشيب عيالي ... أخبي بحندسة سراج قذالي لما رأت همي على مرهوبة ... أسمو بها وأصون وجه سؤالي قال: ومما يستملح من شعر مخلد بن بكار كلمته في الغزل.. سائلي عن كنه حالي لا تسل ... ........................... لطفت لي حمرة في جنبها ... بخفي من تجاويد العمل فاكتست حمرتها وجنته ... حين أومى لوصالي بالخجل في ترجمة الصيني، ونورد بعض ما في المختصر لنوضح ما سبق في الأصل. حدثنا إبراهيم بن الخصيب قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الأصم قال: كان الصيني في جملة طاهر بن الحسين وكان شاعراً منطيقاً مقتدراً، وإن طاهر بن الحسين أمر بحسبه فبلغ لك المأمون فقال لطاهر: يا أبا الطيب، قال: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: ما فعل شاعرك الصيني؟ قال: حبسته يا أمير المؤمنين وأمرت بإسقاط اسمه من دفتري، قال: ولم ذاك؟ قال: لكثرة إلحافة وبذاء لسانه، قال: يستحق من زعم أن الملك قام في دار الخلافة بمقام طاهر تحت ظلال السيوف؟ والله لقد أسأت إليه وما كافأته، فأما إذ فعلت ما فعلت فما أحد يطلبه بحقه غيري مذ قال فيك: مقامك تحت ظلال السيوف ... أقر الخلافة في دارها

فعلم طاهر أنه أخطأ وقابله بغير ما يستحقه منه. قال: يا أمير المؤمنين عثة من عثرات الملوك. وسقطة من سقطات الأمراء، قال: ما رعيت الذمام ولا عرفت الحق وأنا أعطى الله عهداً إن خرج من الحبس ما دمت حياً، ليتأدب بذلك، فإذا أرادوا أن يقولوا قولا لم يذموا. والصيني هو الذي يقول.. في المختصر: ومما يستحسن من شعر الصيني في الغزل كلمته التي يقول فيها: ليت شعري عن أملح الناس دلا ... أمقيم لنا على الوصل أم لا زعموا أن من تشاغل باللذات.. كذبوا والذي تساق له البدن.. لرسيس الهوى أحر من الجمر.. وله أيضاً: متِّعاً بالعراق يوم الفراق ... يستجيران بالبكا والعناق كما أسرّا هواهما حذر البي ... ن وكم كاتما غليل اشتياق فأطل الفراق فاتفقا في ... هـ، فراق أتاهما باتفاق كيف أدعو على الفراق بمكرو ... هٍ ويوم الفراق كان التلاقي خوص نواج إذا حث الحداة بها ... رأيت أرجلها قدام أيديها

وبيت آخر وهو قوله: ولقد هممت بقتلها من حبها ... كيما تكون خصيمتي في المحشر فأجرني من القتل واعف عني ... واسقني من رضاب ريقك شهدا ولعمر والقصافي: سبحان من أنزل الأيام منزلها ... وصير الناس مأفوناً ومرموقا فعالم فطن أعيت مذاهبه ... وأحمق خرق في الناس مرزوقا هذا الذي ترك الألباب حائرة ... وصير الفطن النحرير زنديقا وكان يجاري الشعراء ويناضلهم ويهاجيهم، وكان يفضل على شعراء زمانه، ولا يعف له بيت إلا في مديح خليفة أو وزير، وان قد رزق منهم، وكان مولعاً بالشراب. قال: ومما يختار له من شدة الحب: مغتبق للصبوح مصطبحُ ... يبكي بعين دموعها سُفُحُ تظل أيدي الهوى لمهجته ... بزند بين الفراق تقتدح ظمآن طرف إلى رشا نطقٍ ... حسير بين فؤاده ترح أخفى الهوى في الحشا وأضمره ... فيه فباحت دعومه السفح فجلوتها لأزيدها ... في حسنها وبهائها

مدت على عيوبها ... وعوارها بجلابها وكان امتدح الحسن بن سهل فوعده فأتاه بعد ذلك ما آيسه. فأنشأ يقول: أجارتنا إن التعلل بالياس ... وصبراً على استدرار دنيا بإبساس حريّان ألا يقذفا بمذلّه ... كريماً وألا يحوجاه إلى الناس أجارتنا إن القداح كواذب ... وأكثر أسباب النجاح مع الياس فلما سمع الحسن بن سهل الأبيات قمت لأرجع فقال: كيف بيت القداح؟ فأعدته فصرفني بأضعاف ما كنت أّصلت. وإن يفاجئك أضياف أتاك لهم ... من المسناة خير الوز والسمك وإن فزعت إلى الحلوى لهم ... من سوق زهمان برني بها علك لقد تمنيت عيشاً ليس يعرفه ... إلا بصير بطيب العيش محتنك ومما يستحسن من شعره مديحه في المعتمد: سيبقى فيك ما يهدي لساني ... إذا فنيت هدايا المرجان قصائد..، انظر الأصل ترجمة الحسين بن الضحاك صلى الله عليه وسلم 270 فهي منسوبة له.

ومما يختار له أيضاً في أمير المؤمنين يقول فيها وهي طويلة. صلبوه باب الشاذياخ، موضع آل طاهر وفيه قصرهم وبيت ملكهم وبساتين وأنهار ومواضع مشرفة مرتفعة فاجتمع الناس.. فاتصلت الأبيات بالقوم فأنزلوه وأكرموه. في المختصر قال: فسمع ذلك بعض كتاب عبد الله بن طاهر فدخل إليه فقال: هذا الشاعر الذي أمرت بصلبه قال كذا وكذا، فقال: قاله وهو مصلوب؟ قال: نعم، قال: لا حيلة فيه، أنزلوه واخلعوا عليه، فأنزل وخلع عليه وصالحوه ونادموه. لا كنت إن كان هذا ... هذا لبعض دخيل فكم تقطع نفسي ... بوصلك الممطول اردد على الجسم روحي ... بريقك المعسول

قال وكان خالد النجار شاعراً متقدماً إلا أنه كان خبيث اللسان.. في المختصر كان من أشعر أهل زمانه وكان مطبوعاً مقتدراً ومفوها منطيقاً لا يتكلف كما يتكلف غيره من الشعراء، وله أشعار جياد في المديح، وكان هجاء أيضاً فمما يستحسن من شعره كلمته في الوليد بن الصقر يهجوه، وكان بذيء اللسان وفيه المجون أيضاً: أنا النجار.. فإني قد طلبت الأجر فيه ... وفي حمل العجوز على البريد أوقيها بذلك حر نار ... وإياه ومن برد الجليد من حب من فاقت محاسنه ... لولا مشابهة من البدر يسبي القلوب بمقلتي رشاً ... مكحولة الأجفان بالسحر قد ملكت طاعاته يده ... فتراه يُخليها وما يدري أبصرته فسكرت من نظر ... والموت قبل أفيق من سكري وله: فؤاد مدنف وحشاً يذوب ... وداء ما يحس به طبيبُ وأجفان جفاها النوم حتى ... كأن منامها عنها غريب تداووا بالبكاء وكل دمع ... له من حر مقلته يذوب

وله: إن كنت قدرت الصيا ... م محمد فأعْفِنا من حر آبِ أو لا فإنا مفطرو ... ن وصابرون على العذاب وكان بعض بنيه يقول الشعر ويجيد أيضاً وليس كأبيه لأن أباه كان نسيج وحده، ودُوّن شعره. ومما يستحسن من شعر أبي هلال الأحدب كلمته التي يقول فيها: فلو أن ما بي بالحصى فلق الحصى ... وبالريح لم يُسمع لهن هبوبُ ولو أنني أستغفر الله كلما ... ذكرتك لم تكتب علي ذنوب تعلتي فيك بطيب المنى ... دهراً فعيشي عيش كمون في المختصر لعلني أرعى ثمار المنى ... فيك وعيشي عيش كمون أي سقام وهوى فادح ... وأي ضر تحت أثوابي وقل لي وصل الذي ارتجي ... ووصل من علقته ما بي

في أول ترجمة المعلى الطائي محمد بن صبيح الرملي قال: حدثني ابن أبي زينبة.. تقمص أثواب الرجال تمردا ... وتأنف من لبس القلادة والشنفِ كأن قضيب البان يهتز في الثرى ... تأود متنيها على الخصر والردف لها تيه معشوق وذلة عاشق ... وفطنة جماش وناظرنا خشف وإقدام ليث وانخزال مؤنث ... وقسوة شار حين حكم في الزحف أراها بعيني ثم أمضي بحسرة ... كأن فؤادي فوق نار من الرضف تقدمني رجلي إلى البعد، والهوى ... يحول وجهي بالتفات إلى خلفي فيقول قد أبدلني الله به تلاوة كتابه أختمه في كل يوم وليلة فتى كانت به الأيام تُزْهى ... ودنيانا به أبداً تزيد وفي الغزل: رفقاً بقلبي يا معذبتي ... رفقاً فليس لظالمي رفقُ وإذا رأيتك لا تكلمني ... ضاقت علي الأرض والأُفقُ

وصير لي حمقي بغالا وغلمة ... وكنت زمان العقل ممتطياً رجلي وكان أبو العجل من آدب الناس وأحكمهم وأكملهم عقلا وأشعرهم وأظرفهم، عالماً بالنحو والغريب، عارفاً بأيام الناس وأخباره، قد نظر في شيء من الفلسفة، وكان مع هذا مقتراً عليه، فما رأى ذلك استعمل الغفلة والرطازة فلم يحل عليه الحول حتى اكتسب بذلك مالاً كثيراً. ولما صار المتوكل إلى دمشق تلقاه أبو العجل راكباً على قصبة، وفي إحدى رجليه خف وفي الأخرى نعل، وبين يديه غلام بيده غاشية، وعليه دراعة، وعلى رأسه قلنسوة من الطواميز، فنظر إليه المتوكل فتبسم وقال: ويحك جننت بعدنا، فأنشأ يقول: شه شه على العقللِ ... ما هو من شكللي صاحبه مفلولس ... قليل ذي الحيلل قد استرحت في ال ... لوام والعذلل لما أبالي ما الذي ... قلت وما قيل لي وحمقي قد صير ذا الع ... الم خولا للي آمل أن يحملني ... حمقي على بغلل من عند ذا الس ... يد والمنعم المفضلل أمير دين المؤمن ... ين المتوكل لِلِي فاستفرغ المتوكل ضحكاً وأمر له بخلعة ووصله بعشرة آلاف درهم. ونقش على خاتمه: حمقت فنبلت.

فإنها لا تعود تتحرك قال إسحاق وليس عندك إلا هذا؟ قال: أو ليس في هذا كفاية؟ قال: فأمر إسحاق بتخليته وعلم أنه ممن لا يرعوي ولا يرجع عما هو عليه. لكنت تضحك حتى ... تمسك البططنَّه ومن مجونه: ألا قل لمن طلب ... دوا جيداً عجب إذا أصابك الجرب ... مع الويل والحَرَب أبو العباس يعطيك ... دواء ليس يشفيك تداوي به الأضراس ... وللرجل وللراس وللكلى والطحال ... وللحلق والسعال وللأنثى إذا بالت ... وللحمى إذا طالت وللنقرس في الرجل ... وللنقصان في العقل وهو لكل الأوجاع ... إذا أصابك الصداع فإن كان بك السلّ ... ............... فخذ كف عقاقرحا ... وما طاف به الأرحا وخذ أدمغة الفار ... ودوّارة الحمار

وخذ طرق طبرُويَه ... ومن شعره علويه فإن كانوا يبولون ... فمن هذا يروثون ومما اخترناه قوله: في المختصر مما يستحسن من شعر ابن العلاف كلمته في علي بن محمد يمتدحه: يتلقى الندى بوجه حيي ... .................................... هكذا هكذا تكون.. وله أيضاً كلمته يمدح بها المطلب بن عبد الله بن مالك الخزاعي تزينك خلات.. وفتى ناداك من كرب ... أشعلت أحشاؤه حرقا غرقت في الدمع مقلته ... فدعا إنسانها الغرقا ما لمن تمت محاسنه ... أن يعادي طرف من عشقا لك أن تبدي لنا حسناً ... ولنا أن نعمل الحدقا كان ابن أبى حكيم يحلق لحيته كلها، ومنزله عندنا بالشرقية

ومما يستحسن له أيضاً قوله: في المختصر، ومما يستحسن من شعره قديماً قبل أن يأخذ في الزهد. وأبطأت عنه بالإساءة إنه ... إلى كل أمر شائن لسريع فإن تجزني بالوصل فالوصل متعتي ... وإلا فإني سامع ومطيع كذبت في نفسك خاصة فأما أبوك فلعمري، إنه اشعر أهل زمانه. فلما أصبح مات. في المختصر: فما بقي ذلك إلا خمسة أيام حتى مات. أن اخترت علي مائة ألف درهم فزهدت في صحبتي قبح الله دهراً ألجأك إلى هذا، فقال محمود: أعيدي كلامك، فأعادت كلامها، فقال: أشهدكم أنها حرة. ولم نر مالكاً أجدى عليه ... كما أجدى على النرسي شعبه

قال وكان أحمد بن المعذل هذا من أقصد الناس هدياً وسمتاً، وأكفّ الناس عن أذى الناس، وأتقاهم وأصونهم لدينه وعرضه، وكان عبد الصمد المعذل من الزهو الكبر وذهابه بنفسه في أمر لا ينادي وليده، وكان بذيء اللسان هجاءً يؤذي الناس حتى أقاربه وإخوانه وجيرانه، وكان من اشعر الناس وأفصحهم لساناً وأبينهم كلاماً، وكان الناس يتقون لسانه ويجانبونه ويبغضونه، وكانوا يودون أخاه أحمد، وكان ذلك مما يزيده غيظاً ويحمله على أن يقع في كل من يصاحب أخاه أحمد. ومما اخترناه له من شعر قوله: يمتدح بها أبا عمرو الرومي واسم أبي عمرو محمد: إني جعلتك يا محمد مفزعا ... من كان في هدم المكارم شغله ... ويستحسن من شعره كلمته في الغزل إذا كان قلبك لي وامقا ... لِمْ يلعب الهجر بي في الوسط ستندم إن ذقت حلو الوصال ... من الهجر يوماً على ما فرط

وكان جيد الشعر مليح المعاني صاحب نظر. قد دونت أشعاره وكان مدح سبعة من الخلفاء. وعاش إلى أيام المتوكل وأدركته أنا ولم يُفقَد من فهمه شيء، وهذه اللقية الثانية أيام المتوكل وكان المتوكل يحسن إليه.. فصب في الكوب صافية ... ....................... وأشعار أبي حيان في الخمر والمجون كثيرة حلوة. لو يرد الطرف لحظته ... في صفاء ماؤها نبعا في هامش المختصر، وهو الذي يقول: تولى زمان بين المحصنات ... وجاء زمان بني الزانية ما اعتذاري عنده في ... ك وقد صرت شعاره صرت كالهدب المدلى ... بعد حسن وغضاره ليس يحظى بك يوماً ... زائر عند الزيارة

ولكن أبي كان جاراً لأمه ... فلما روى الأشعار أوهمني أمرا قال: وأما يحيى بن أبي السمط. فسماه المتوكل محموداً، ويحيى الذي يقول في المتوكل. إن الظباء ظباء همها السخب ... ترعى القلوب وفي قلبي لها عشُبُ هن الظباء اللواتي لا قرون لها ... وحليها الدر والياقوت والذهب لم يذكر المختصر في البحتري غير ما يأتي: حدثني إبراهيم بن عمر قال: كتب وكيل البحتري من منبج يعلمه إن العامل قد تحامل عليه في خراجه، وعارضه فيما أقطعه السلطان بما يكره وإنه أدخله في جملة أهل البلد في التقسيط - قال: وللبحتري ضياع جليلة بمنبج وغلة كثيرة - فقامت على البحتري القيامة، وصار إلى ديوان عبيد الله، والعمال والكتاب مجتمعون، فشكا إليهم ما كتب به وكيله، فقال له بعض العمال: تحتاج إلى بذل لنكتب لك إلى العامل هناك أن يجري ضياعك على ما لم تزل. فانشأ البحتري يقول: أمُرتجع مني حباءُ خلائف ... توليت تسيير المديح لهم وحدي ولم يحتمل إلا الذي قلت فيهمُ ... وإن رفدوا قوماً وزادوا على الرفد وما لي وللتقسيط إذ تكتبونني ... وتكتب قبلي جلة القوم أو بعدي سبيلي أن أعطي الذي تسألونني ... وحكمي أن يجدي علي ولا أجدي

وإن أُخذ الإيغار أخذ صريمة ... ودارت على الإقطاع دائرة الرد فردوا القوافي السائرات التي مضت ... وما ضمنت من مأثرات ومن مجد وشرخ شباب قد نضوت جديده ... إليكم كما ينضو الفتى سمل البرد أحد المتكلمين المتقدمين واسم العطوي محمد بن أبي عطية. التي كنت تظهرها أيام حياته كان أكثرها نفاقاً قال: لم؟ قال: لقعودك عن زيارة قبره وتركك ما عليه أهل مودته من المواظبة على ذلك.. وإني لأستحيبك والترب بيننا ... كما كنت أستحيي وأنت تراني اعت بهجري وصد ما شيتا ... واجعل نصيبي في الكرى قوتا وأعطِ في الحسود مُنيته ... منك وشملي فزده تشتيتا

بدر يلوح على غصن يجاذبه ... ردف يمور إذا ما اهتز ريانا لم يخلق الله من وجه يعادله ... أستغفر الله إذا أغفلت حمدانا يغتصب العشاق ألبابهم ... فكان مما قد حار لي لبي فرحت مغصوباً على لبه ... مشمراً في حاجة الحب تلاحظه العيون بكل وجه ... ولكن لا سبيل إلى التلاقي يتيه بصدره رمان ثدي ... على عكن تفتح عن نطاق أضاف المختصر لأبي العيناء ما يأتي: ومما يستحسن من شعر أبي العيناء: إذا أنت لم ترسل وجئتُ فلم أصل ... ملأت بعذري منك سمع لبيبِ أتيتك مشتاقاً فلم أر جالساً ... ولا ناظراً إلا بعين غضوب كأني غريم مقتض وكأنني ... طلوع رقي أو نهوض حبيب ومما يستحسن له: في المختصر: قال: ومما يستحسن من شعر محمد بن عروس كلمته في صاعد بن مخلد من أبيات:

لما قرنتك في الجياد مجرباً ... سبقوا وجئت رسيل كلبك قاعدا خفض عليك فلو كساك رداءه ... تموز كنت فتى وحقك باردا أظننت أن الملك يطرح حبله ... ........................... لعب الفحول بثفرها وعجانها ... ........................ قولا له يا بن الحمار أما ترى ... في العطن منك شمائل البغل وكان شاعرة مفلقة مطبوعة وكانت تتبع آثار الشعراء فتخرج منها موضع خطئهم وغلطهم وتعرضه على المأمون، وكانت من أظرف الناس وأسرعهم نادرة، وكان المأمون يعشقها وهي عند مولاها ابن المراكبي، ولها حديث في غرامها أيام شبابها لم نودعه كتابنا هذا لشناعته. وانحرافاً عن آل الرسول عليهم السلام، لا يمكنه أن يسمع بذكر علي ابن أبي طالب عليه السلام.

اختلاف الطبقات والمختصر

اختلاف الطبقات والمختصر سيبقى فيك ما يهدي لساني ... إذا فنيت ليالي المهرجان نسبت الأبيات في المختصر 24ب لأبي خالد المهلبي الذي جاءت ترجته في هذا الكتاب في ص 313. سببت لي من حاجتي سببا ... بجميل رأيك يا أخا البذل نسي البيت وتالياه في المختصر 42ب لإسماعيل الفتاك الذي جاءت ترجمته في هذا الكتاب في ص402 إن كنت تدعوني لأدعو من غد ... وكيسك فياض وكيسي جازرُ نسب البيت وتاليه في المختصر 40ب للعطوي الذي جاءت ترجمته في هذا الكتاب في ص394 ناديته وظلام الليل معتكر ... تحت الرواق دفينا في الرياحين ونسب البيت وتالياه في المختصر 44ب للأخطل الذي جاءت ترجمته في هذا الكتاب في ص411 أيا كبداه من غصص الفراق ... وحب ما أراه وما ألاقي نسب البيت وبقية القصيدة في المختصر 45ب للقصافي الأصغر الذي

نصوص ليست في الطبقات ولا المختصر

جاءت ترجمته في هذا الكتاب في ص413. وانظر بقية الأبيات في ص412 ياظبي عبد الحميد ما صنعت ... عيناك بالقلب أورثت كربا نسب البيت والثلاثة بعده في المختصر44ب للأخيطل الذي جاءت ترجمته في هذا الكتاب في ص411 نصوص ليست في الطبقات ولا المختصر الأغاني ج 13 ص 78، 79، وأشار إليه ق: نسخت من كتاب عبد الله بن المعتز حديثي العجلي قال: حدثني أبو دهمان قال: كان أبو حنيفة الفقيه صديقاً لحماد عجرد، فنسك أبو حنيفة فطلب الفقه، فبلغ ما بلغ ورفض حماداً، وبسط لسانه فيه، فجعل حماد يلاطفه حتى يكف عن ذكره وأبو حنيفة يذكره، فكتب إليه حماد بهذه الأبيات: إن كان نسكك لا يتم ... بغير شتمي وانتقاصي أو لم تكن إلا به ... ترجو النجاة من القصاص فاقعد وقم بي كيف شئ ... ت مع الأداني والأقاصي فلطالما زكيتني ... وأنا المقيم على المعاصي أيام تأخذها وتع ... طي في أباريق الرصاص

قال: فأمسك أبو حنيفة بعد ذلك عن ذكره خوفاً من لسانه. معاهد التنصيص ج2 ص87: وحكى عبد الله بن المعتز أن أبا خالد العامري قال له: من أخبرك أنه كان في الدنيا أشعر من أبي الشيص فكذبه، والله لكان الشعر أهون عليه من شرب الماء على العطشان، وكان من أوصف الناس للشراب، وأمدحهم للملوك، وكان سريع الهاجس جداً فيما ذكر عنه. الأغاني ج 15 ص39، ربيعة الرقي وأشار إليها ق، وذكره عبد الله ابن المعتز فقال: كان ربيعة اشعر غزلا ً من أبي نواس، لأن في غزل أبي نواس برداً كثيراً، وغزل هذا سليم عذب سهل. وانظر هامش ص36 من كتابنا هذا نقلاً عن مجالس المؤمنين.

§1/1