ضرورة الاهتمام بالسنن النبوية

عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم

بين يدي الرسالة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بين يدي الرسالة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران: الآية 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [سورة النساء: الآية 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [سورة الأحزاب: الآيتان: 70، 71] أما بعد، فإنه لا يخفى على مسلم يدبُّ الآن على وجه الأرض؛

ما يُعايِشُهُ المسلمونَ من ضعفٍ تغلْغَلَ في كل جانبٍ من جوانبِ حياتهم، سياسياً كان، أو اقتصادياً، أو غير ذلك. ولقد تنبَّهَ الساعونَ إلى الإصلاح مُنْذُ أَمَدٍ إلى هذا الضَّعْفِ، فعملوا على تشخيصه وتحديده، ومِنْ ثَمّ على علاجه واستئصاله. إلا أن السُّبُلَ تفرَّقتْ بهم عند وَصْفِ العلاج، واجتثاثِ الداءِ، تبعاً لاختلافِ منهجهم، وتعدُّدِ فِرَقِهِمْ. وما من ريب أنَّ ما حلَّ بالمسلمين هو بسبب ابتعادهم عن دينهم، وانغماسهم في الشهوات المحرَّمة. وبما أن الأمر كذلك - وهو كذلك فإنَّ رسولنا صلى الله عليه وسلم أبان لنا هذا الدَّاءَ وَوَصَفَ لنا دواءه بما لا يَدَعُ مجالاً - عند ذي العقول - للاختلافِ والتنازع. فقد أخرج أبو داود في سننه «3/ 740» وغيره؛ عن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تبايعتم بالعِيْنَةِ. وأخذتمْ أذنابَ البقرِ. ورضيتم بالزَّرعِ. وتركتم الجهاد: سَلَّطَ اللَّهُ عليكم ذُلاً؛ لا يَنزعُهُ حتى ترْجعوا إلى دينكم». فالمَخْرَجُ الوحيدُ من هذا الذَلّ، هو: الرجوع إلى شرعِ الله تعالى، والعَمَلِ به. وهذا قد شهد به القرآن في مواضع كثيرة.

قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [سورة المائدة: الآيتان 65، 66]. ومع وضوح هذا الأمر، وجلائه، فإنً أُناساً من المنتسبين إلى «الدعوة» ضربوا صفحاً عن الرضوخ لهذا الأمر الجلي، ورضوا بما أَمْلَتْهُ عليهم عقولُهم القاصرة، وآراؤهم الكاسدة، فابتغوا إصلاحَ المسلمين بما لم يشْرَعه الله تعالى، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، فكانَ عاقبة أمرهم خسراً، ونهايةُ إقدامِهم وبالاً، والله لا يصلحُ عمل المفسدين. وكانَ من بين ما اقترفَتْهُ أيديهم؛ تلك الحملةُ الشعواء على لواء السُّنِة المطهَّرة، والهدي النبوي؛ إذْ جعلوا الاهتمامَ بالسنن، والحرصَ على تطبيقها في كلّ شؤوننا؛ عائقاً من عوائِقِ تصحيح مَسَارِ المسلمين، وانتشالهم من أوحالِ الضعفِ. فجاءت كتبهم، ومحاضراتهم، ودروسهم؛ مقررةً لهذه الفكرة النكراء، تارةً بالتصريح، وأخرى بالتلويح، وثالثة الأثافي باسمِ الغَيْرَةِ على السُّنَّةِ والحفاظِ على أوقات المسلمين!!. فطوراً: يشنِّعونَ على فاعِل السنَّة، والمحافظِ عليها؛ بحجُّةِ تفريقِهِ وِحْدَةَ المسلمين، بفعله هذا!!! وطوراً: يبالغون في ضرورة معرفة الواقع - على جميع

المسلمين - حتى يُصْرَفَ الناسُ عن العلم الشرعيّ، والعناية بالسنَّة، إلى متابعة: الجرائد والمجلات، وأخبار السياسات، فيصبحُ الممدوحُ من أغرق في هذه الأمور، والمُزْرى به من أقبل على الفقه في دين الله، وعَكفَ على السنن تعلماً وعملاً. فَلَمَّا خرجت هذه الزوابع في وجهِ السُّنةِ، وتخلَّى عن تزييفها كثير ممن ظننَّاه أغيَر مَنْ نرى على السُّنَّةِ؛ استعنتُ الله تعالى، فكتبتُ هذه الرسالةَ راجياً منه تعالى أن يجعلها له خالصةً، وأن يعمَّ بنفعها الجميع. وخلاصة ما أريدُ إيصالهُ إلى القُرَّاء الفضلاءِ في هذه الرسالة التَّنبِيْه على ضرورةِ الاهتمام بالسنن الثابتة عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، تعلماً، وتعليماً، وإرشاداً. وأَنَّ مَكْمَنَ الضعفِ عندنا، إنما جاء من جرّاءِ البعدِ عن دين الله تعالى، فرائضه ونوافله، فالطريقُ الصحيحُ لرفع هذا الضعفِ، ينحصر في مراجعةِ ديننا، والحرصِ على العمل به، والدعوة إليه جميعاً، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ..} الآية، [سورة البقرة: الآية 208]. وليس من طريقٍ إلى ذلك، سوى هذا الطَّريقِ، فبِهِ تنشأ الأجيال على السنَّة، ويُغْرَسُ في قلوبهم محبَّةُ الدين، محبَّةً تَضْعُفُ بجانبها محبَّةُ النفس، والمالِ، والولدِ، عندئذٍ تتهيأ النفوس لقبولِ كلّ خيرٍ، وتجود بكلّ ما تَمْلِكُ نصرةً لهذا الدين.

ولقد بينتُ بعضَ الفوائد - العامَّة والخاصَّة - المترتبةِ على العمل بالسنَّة، ليكون ذلك مشوِّقاً إلى العمل بها، حاثاً على الاهتمام بتطبيقها. كما أوردتُ بعض الشبه التي ينعِق بها مَنْ لا خلاقَ له؛ تزهيداً في السنةِ، وتقليلاً من أهميتها، ورددتُها، مراعياً الاختصار، وبالله التوفيق.

المقدمة

المقدِّمة الحمد لله الذي أمرنا بالدخول في دينه كافةً: فرائضه، ونوافِلِه، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً}. والصلاة والسلام الأتمانِ الأكملانِ على من بُعِثَ إلينا ليكون لنا فيه أسوةً حسنةٌ في كلّ شؤونه، في قيامه وقعوده، وحركاته وسكونه، القائل: «عليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ». صلَّى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغُرّ الميامين، المشرَّفين بشرف اتِّباع السنَّة، القائلين: «الاعتصام بالسُنَّةِ نجاة». رضي الله عنهم، ومن تبعهم بإحسان، واقتفى أثرهم، إلى يوم الدين. أما بعد: فإنّ أحقّ ما اعتنى به المسلم، وأولى ما صرف فيه أوقاتَهُ: العملُ الدؤوب على اقتفاء آثار النبي صلى الله عليه وسلم، وتجسيدها في حياته اليومية، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. ذلك بأن غايةَ المؤمن تحصيل الهداية الموصلة إلى دار السعادة، وقد قال تعالى:

{وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}. وقال: {وَاْتَّبعُوهُ لَعَلكُمْ تَهْتَدُونَ}. وقال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فيِ رَسُولِ اَللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُواْ اَللهَ وَاُلْيَوْمَ آلاْخِرَ وَذَكَرَ اَلله كَثِيراً}. وهذه الآية - كما قال ابن كثير -: «أصلٌ كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، في أقواله، وأفعاله، وأحواله». وهذه الأسوة إنما يسلكها ويوفق لها: من كان يرجو الله واليوم الآخر. فإن ما معه من الإيمان، وخوف الله، ورجاء ثوابه، وخوف عقابه: يحثّهُ على التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم (¬1). وشرف المؤمن ومنزلته إنما تقاس باتباعه، فكلما كان تحرِّيهْ للسنَّة أكثر كان بالدرجات العلى أحقُّ وأجدر. ولذا كان العلماء السابقون من السلف الصالح يجعلون معيارَ مَنْ يؤخذ عنه العلم - وهو أشرف مأخوذ - تمسكه بالسنة، كما قال إبراهيم النخعي - رحمه الله -: «كانوا إذا أتوا الرجل يأخذون عنه العلم: نظروا إلى صلاته، وإلى سنَّته، وإلى هيئته؛ ثم يأخذون عنه». ¬

(¬1) تفسير السعدي 6/ 209.

وقال أبو العالية: «كنا نأتي الرجل لنأخذ عنه فننظر إذا صلى: فإن أحسنها جلسنا إليه، وقلنا: هو لغيرها أحسن؛ وإن أساءَها قمنا عنه، وقلنا: هو لغيرها أسوأ» (¬1). وفي الرسالة «القشيرية» (¬2) عن ذي النون المصري أنه قال: «من علامة المحب لله عز وجل؛ متابعة حبيب الله صلى الله عليه وسلم؛ في أخلاقه، وأفعاله، وأوامره، وسننه». وهذا حق مأخوذ من كتاب الله تعالى، قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اَللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحَبِبْكُمُ اللهُ وَيَغَفْر لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. قال الحسن البصري: «فكان علامة حبَّهم إياه: اتباع سنة رسوله» (¬3). وأخرج ابن أبي حاتم في «تفسيره» (¬4) عن أبي الدرداء أنه قال {فَاتَّبِعُوهُ}: على البِرِّ والتقوى، والتواضع، وذلّة النفس». ولقد كان للعلماء الربانيين - على مرِّ العصور - يد ظاهرةٌ في الحث على العمل بالسنَّةِ - بمعناها الأصلي - إرشاداً، وتعليماً، وتأليفاً. ¬

(¬1) سنن الدارمي 1/ 93 - 94. (¬2) 1/ 75. (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 204، وأخرج نحوه الطبري 3/ 232، واللالكائي 1/ 70. (¬4) 2/ 204.

وبفضل الله، ثم بفضل هذه الجهود المبذولة، التي فنيتْ فيها الأعمار، وتجشَّمتْ من أَجْلها الأخطار، وأوثر في سبيلها الإعْسار على الإيسار: وصلت إلينا «السنَّة» مكلوءةً، محفوظةً، مخدومة، لينصَبَّ جهدنا على تعلُّمها، والانقياد لها، والدعوة لها، والدعوة إليها. ولم تزلْ بحمد الله وتوفيقه وإعانته - في كلّ عصرٍ من العصور - طائفة تصرف هَمَّها وتنُشِّئْ أبناءها على العناية العظيمة بالسنَّة النبوية، لا فرقَ في ذلك بين شيءٍ منها، الكل يؤتى به كما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، بضابطه الشرعي الوارد في الحديث الصحيح: «وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم». يدعون إلى الأخذ بالسنَّة، والحرص عليها، جملةً وتفصيلاً، وينكرون على منْ حاد عن هذا الطريق بأي نوع من أنواع الحيدة، أولئك الذين قال فيهم أبو عبد الله الحاكم: «قومٌ سلكوا محجة الصالحين، واتبعوا آثار السلَفِ من الماضين، ودمغوا أهل البدع والمخالفين بسننِ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله أجمعين ... فعقولهم بلذاذة السنَّة غامرة، وقلوبهم بالرضاء في الأحوال عامرة؛ تعلّمُ السَنن سرْوْرُهم، ومجالسُ العلم حبورهم، وأهل السنة قاطبة إخوانهم، وأهل الإلحاد والبدع بأسرها أعداؤهم» (¬1). إلا أنَّ هذه الطائفة - المنصورة الناجية - لا تَسْلَمْ في كلّ عصرٍ من جاهلٍ أو صاحب هوى يكيد لها المكائد، وينصب لها العِداء، ويلصق بها أعظم الفِرَى. ¬

(¬1) معرفة علوم الحديث، ص: 4 - ط 3، الهند.

وما وَجَدَتْ هذه الفرقةُ الناجيةُ - في هذا الزمن - أشَدّ وأنكى من أولئك الذين وقفوا في وجه السنَّة، يريدون إطفاءَ نورها، وتَزْهِيْدَ المسلمين فيها، بتلك الطُّرقِ والوسائل المبطَّنَةِ، التي يحسبها الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً!. ولقد تشكَّلَ هذا الوقوف في وجه السنَّة في صورٍ كلُّ صورٍ تلائم الظَّرْفَ الذي «نُظّم» لها أن تنزل فيه. فتارةً يُشَنَّعُ على فاعلِ السنّةِ باسم: تفريقه - بهذا الفعل - وحدة المسلمين! وكذبوا وأيم الله!! وتارة بالهمز واللمز على المعتنين بالسَّنن النبوية: بحثاً، وتقريراً، وعملاً، ودعوةً، وذلك تحت مظلة تقسيم الدين إلى «جزئيات» ينعى على «المُغْرِقِ» فيها، و «كليات» يلام المفرِّط فيها. وسيأتي - إن شاء الله -؛ نقض هذا التفريق بين الشريعة في آخر هذه الرسالة. إلاَّ إنني هنا أجدُ ضرورة المبادرة بنقل كلامٍ رصينٍ متين لإمام العصر، ومحدِّث الدنيا، الشيخ محمد ناصر الدين الألباني - في معرضِ حديثه مع أحد أفراد إحدى الجماعات الحزبية الإسلامية - قال فيه: «... الذي نعرفه من كلّ الدعاة الإسلاميين اليوم غير الذين ينتمون إلى «منهج السلف الصالح»: تقسيمُ الإسلام إلى أصولٍ وفروعٍ - وكما قلنا آنفا: تقسيم الإسلام إلى لبّ وقشور -. هذه باقعةُ الدَّهْرِ! تهلكُ المسلمين، وتجعلهم يبتعدون عن الإسلام من حيث هم يريدون أن يقتربوا.

الآن - بما عندك من ثقافةٍ وعندي من علمٍ - لا نستطيع أن نميز الأصول من الفروع، إلا أن يقصد بالأصول ما يتعلق بالعقائد فقط، وليس منها ما يتعلق بالأحكام. حينئذٍ: الصلاة وهي الركن الثاني: لا تدخل في الأصول، وإنما تدخل في الفروع، لماذا؟ لأنها ليس لها علاقة بالعقيدة المحضة. هذا التقسيم: خطرٌ خطرٌ جداً. ولذلك: أنا أعرف أنه مضى على بعض الجماعات قديماً، كانوا يدعون إلى تبني الإسلام كُلًّا. وهذه دعوة الحق، لأن الإسلام كما جاءنا يجب أن نتبناه. ولكن من الناحية العملية: ممكنٌ أن إنسانا فرداً - مثلاً - أو جماعة يستطيعون أن يطبقوا جانباً منه، ولا يستطيعون أن يطبقوا جانباً آخر. لكن من ناحية الفكر: الإسلام يجب تبنِّيهِ كُلًّا لا يتجزأ؛ مثلاً: فرضٌ، سنَّة، مستحبٌ، مندوبٌ ... إلى آخره، لا نقول: هذا مندوب ليس له قيمة، وهذا مستحب ليس له قيمة ... علينا نحن فقط الفرائض، لا، نحنُ ندعو إلى هذا الإسلام بكامله، ثم كلّ إنسانٍ يأخذُ منه ما ينهض به، ويستطيع أن يقوم به. اهـ. (¬1) وهذا المنهج الذي ذكره الشيخ - وفقه الله - هو المنهج السليم، والصراط المستقيم الذي كان عليه السلف الصالح - رضوان الله ¬

(¬1) من شريط صوتي مسجل، بتصرفٍ يسيرٍ.

عليهم - كما ستراه في العرض الآتي إن شاء الله تعالى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد (¬1). كتبه عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم الرياض 19/ 1 / 1413 هـ ¬

(¬1) اعترافاً بالفضل لأهله؛ أشكر الشيخين الفاضلين: الشيخ محمد بن عمر بازمول، والشيخ مساعد بن سليمان الراشد، حيث قرأ كل واحد منهما هذه الرسالة - بعد صفها بالطابع - وأبدى بعض ملاحظاته وتوجيهاته، فجزاهما الله عني خير الجزاء.

فصل في تعريف السنة

فصل في تعريف السنَّة لعل من الضروري - قبل الدخول في الموضوع - التعرض لمعنى السنَّة، في كلٍّ من: لسان العرب الأقحاح. ولسان الشارع والصدر الأول. وعرف المتشرعين من المحدِّثين، والأصوليين، والفقهاء. ثم بعد ذلك تحديد المعنى الذي يبنى عليه هذا الكتاب، فأقول: أولاً: التعريف اللغوي: السنَّة في اللغة تطلق على: السيرة، حسنة كانت أو قبيحة. قال خالد بن زهير الهذلي: فلا تَجْزَعَنْ مِنْ سيرةٍ أَنتَ سرتها ... فأوَّلُ راضٍ سنَّةً مَنْ يَسِيْرُها (¬1) وتطلق - أيضا - على: الطريقة؛ مأخوذة من: السَّننِ، وهو: ¬

(¬1) لسان العرب 3/ 2124 / الجدول الثاني، ط دار المعارف المصرية، والصحاح للجوهري 5/ 2139 / الجدول الأول، ط دار العلم للملايين - بيروت.

السنة في لسان الشارع والصدر الأول

الطريقُ، يقال: خُذْ على سَنَنِ الطريق، وَسُنَنِهِ (¬1). ثانياً: في لسان الشارع والصدر الأول: إذا ورد لفظ السنَّة في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، أو كلام الصحابة، والتابعين وكان ذلك في سياق الاستحسان: فإنما يراد بها المعنى الشرعيُّ العام الشامل للأحكام: الاعتقادية، والعملية؛ واجبةً كانت، أو مندوبة، أو مباحة. قال الحافظ ابن حجر في «الفتح» (¬2): «... تقرَّر أن لفظ السنَّة إذا ورد في الحديث لا يراد به التي تقابل الواجب ...». اهـ. وقال ابن عَلَّان في «دليل الفالحين» (¬3) على حديث «فعليكم بسنَّتي»: «أي طريقتي، وسيرتي القويمة التي أنا عليها، مما فصَّلْتُهُ لكم من الأحكام الاعتقادية، والعملية الواجبة والمندوبة، وغيرها. وتخصيص الأصوليين لها: بالمطلوب طلباً غيرَ جازم: اصطلاحٌ ¬

(¬1) تهذيب اللغة للأزهري 12/ 301 / الجدول الثاني، ط الدار المصرية للتأليف والترجمة - وقد فسر الأزهري، وكذا الخطابي - كما في إرشاد الفحول ص: 31 - السنّة: بالطريقة المستقيمة، وهو خلاف قول جمهور اللغويين، أفاد ذلك العلامة عبد الغني عبد الخالق، في كتابه الماتع (حجية السنة) ص: 46، ط المعهد العالي للفكر الإسلامي بواشنطن. (¬2) 10/ 341، ط 1 السلفية. (¬3) 1/ 415، ط الحلبي، عام 1397 هـ.

طارئٌ، قصدوا به التمييز بينها، وبين الفرض». اهـ. وقال الصنعاني في «سبل السلام» (¬1) على حديث أبي سعيد، في التيمم، وفيه: «أصبتَ السنَّة»: «أي الطريقة الشرعية». اهـ. وقال السهارنفوري في «بذل المجهود» (¬2) على الحديث السابق: «أيْ صادفتَ الشريعةَ الثابتة بالسُّنَّةِ». اهـ. وفي «الصحيح» (¬3) عن عبد الله المزني - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلوا قبل صلاة المغرب - قال في الثالثة -: لمن شاء، كراهيةَ أنْ يتخذها الناسُ سنةً». قال الحافظ في «الفتح»: «ومعنى قوله: «سنة» أي: شريعةً وطريقةً لازمة». اهـ. وقال - أيضا - على قوله صلى الله عليه وسلم: «فمن رغب عن سنَّتي فليس مني»: «المراد بالسنَّة: الطريقة، لا التي تقابل الفرض ... والمراد: مَنْ تركَ طريقتي وأخذ بطريقة غيري: فليس مني». اهـ (¬4). ¬

(¬1) 1/ 186، ط 1، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. (¬2) 3/ 70، ط 3 المكتبة الإمدادية بمكة المكرمة. (¬3) 3/ 59، (مع الفتح). (¬4) الفتح 9/ 105.

السنة في عرف المحدثين

وهكذا بالتتبع لكثير من النصوص المشتملة على لفظ «السنَّة» يتبيَّن أن المراد بها - إذا كانت في سياق الاستحسان -: الطريقة المحمودة والسيرة المرضية التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم عموماً. وعلى هذا: فإن مما يجب التنبيه عليه ما قد يقع من بعض المنتسبين للعلم من تنزيل لفظ «السنَّة» الوارد في كلام الشارع على المعنى الاصطلاحي عند الفقهاء، فيحصل الخطأ الفاحش، ويُخْرجُ بالأحكام عن مراد الشارع. ثالثاً: في عرف المحدِّثين: السنَّة عند جمهورِ المحدِّثين مرادفة للحديث، وهو: ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قولٍ، أو فعلٍ وتقريرٍ، أو صفة خَلْقِية، أو خُلُقِيَّة، أو سيرةٍ بعد البعثة، وقد يدخل بعض ما قبلها (¬1). رابعاً: السنَّة عند الأصوليين: السنَّة عند الأصوليين: أصل من أصول الأحكام الشرعية، ودليل من أدلتها. وقد عرَّفها الفتوحي في «الكوكب» (¬2) فقال: ¬

(¬1) ينظر (مجموع فتاوى شيخ الإسلام) 18/ 9 - 10، و (أسباب اختلاف المحدثين) للأحدب 1/ 25، و (السنّة ومكانتها في التشريع الإسلامي) للسباعي ص: 47، ط 4 المكتب الإسلامي. (¬2) 2/ 159، (مع الشرح) ط 1 أم القرى.

الفرق بين تعريفي المحدثين والأصوليين

«قول النبي صلى الله عليه وسلم غير الوحي (¬1)، وفعله، وتقريره، وَزِيْد: الهمُّ». وعرَّفها الآمدي في «الأحكام» (¬2) فقال: «ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من الأدلة الشرعية، مما ليس بمتلوٍّ، ولا هو معجز، ولا داخل في المعجز». ويدخل في ذلك: أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، وأفعاله، وتقاريره». وإدخال «الهمّ» في التعريف، ردَّه العراقي فقال: «الهم إنما يطلع عليه بقولٍ أو فعلٍ، فالاستدلال بما دلَّ منهما، فلا حاجة لزيادته». اهـ (¬3) وهو متجهٌ. ويظهر الفرق بين تعريفي المحدثين والأصوليين في «الصفة» النبوية، فإنها عند المحدثين مندرجة في حدِّ السنَّة، لأنهم ينظرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم على أنه الأسوةُ للأمة، فينقل إليها كلّ ما أثر عنه، أَثْبَتَ حُكْماً شرعياً أو لا. وليست «الصفة» كذلك عند الأصوليين، لأنهم إنما يبحثون عما يُثْبتُ الأحكامَ ويقرِّرها، فلم تدخل الصفة عند جماهيرهم في حدِّ السنَّة (¬4). ومما ينبغي التنبيه عليه هنا: أن بعض الأصوليين يرى أن رُتْبَةَ السُّنَّةِ متأخرةٌ عن الكتاب في الاعتبار. ¬

(¬1) أي غير القرآن. (¬2) 1/ 169، ط 1: النور بالرياض، عام 1387 هـ. (¬3) حاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 128، ط الحلبي، عام 1358 هـ. (¬4) انظر المصدر السابق، و (حجية السنة) ص: 76، و (السنة ومكانتها) ص: 48.

السنة عند الفقهاء

وقد أجاد العلامة الشيخ عبد الغني عبد الخالق في ردِّ هذا القول، وبيان بطلانه، حيث عَقَدَ مبحثاً في كتابه الماتع «حجَّية السُّنَّةَ» (¬1) لهذا الغرض، يقول في صدره: السنَّة مع الكتاب في مرتبةٍ واحدةٍ: من حيث الاعتبار والاحتجاج بهما على الأحكام الشرعية، ولبيان ذلك نقول: من المعلوم: أنه لا نزاع في أن الكتاب يمتاز عن السنة ويفضل عنها: بأنَّ لفظه منزلٌ من عند الله، متعبَّد بتلاوته، معجزٌ للبشر عن أن يأتوا بمثله، بخلافها: فهي متأخرة عنه في الفضل من هذه النواحي. ولكن ذلك لا يوجب التفضيل بينهما من حيث الحجيَّة: بأن تكون مرتبتها التَّأخُّر عن الكتاب في الاعتبار والاحتجاج، فتُهْدرُ ويُعْمَل به وحده لو حصل بينهما تعارض. وإنما كان الأمر كذلك: لأن حجيَّةَ الكتاب إنما جاءتْ من ناحية أنه وحي من عند الله ... ، والسنَّة مساوية للقرآن من هذه الناحية: فإنها وحيٌ مثله، فيجب القول بعدم تأخرها عنه في الاعتبار. اهـ. خامساً: السنَّة عند الفقهاء: استيفاء هذا المبحث يحتاج إلى إسهاب كبير، قد لا يعود على القارئ بكثير فائدة فيما يتصل بموضوعنا، إلا أننا نمرُّ على ما قاله فقهاء المذاهب في هذا الصدد على وجه الاختصار، فنقول: ¬

(¬1) ص: 485 إلى ص: 494.

تعريف الحنابلة

قول الحنابلة: قال الفتوحي في «الكوكب» (¬1) في تعريف «المندوب»: «والمندوب شرعاً: ما أثيب فاعله - ولو قولاً وعملَ قلبٍ - ولم يعاقب تاركه مطلقاً. ويُسَمَّى: سنَّةً، ومستحباً، وتطوُّعاَ، وطاعةً، ونفلاً، وقربةً، ومرغباً فيه، وإحساناً؛ وأعلاه: سنَّة، ثم فضيلة، ثم نافلة». اهـ. وعرَّفه ابن بدران في «المدخل» (¬2) بتعريف الفتوحي السابق، وزاد: «سواءُ تركه إلى بدلٍ، أو لا». وهو: مرادف للسنة والمستحب. فالسواك، والمبالغة في المضمضة، والاستنشاق، وتخليلُ الأصابع، ونحو هذا يقال له: مندوب، وسنَّة، ومستحب». اهـ. وذكر الشيخ أبو طالب البصري في «الحاوي الكبير» (¬3) أن المندوب ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: ما يعظم أجره، فيسمَّى سنةً. والثاني: ما يقلُّ أجره، فيسمى: نافلةً. ¬

(¬1) مع شرحه 1/ 402 - 403، ط أم القرى. (¬2) ص: 152، ط الرسالة، تحقيق معالي الدكتور: عبد الله بن عبد المحسن التركي. (¬3) بواسطة نقل الفتوحي عنه في شرح الكواكب 1/ 404 - 405.

تعريف الشافعية

والثالث: ما يتوسط في الأجر بين هذين، فيسمى: فضيلةً، ورغيبةً (¬1). اهـ. وقال المرداوي في «التحرير» (¬2): «يسمى المندوب: سنَّةً ومستحباً». اهـ. قول الشافعية: قال البيضاوي في «المنهاج». «والمندوب: ما يُحمد فاعله، ولا يذمُّ تاركه؛ ويسمى: سنَّةً، ونافلةً». اهـ. وقال الرازي في «المحصول»: «أما المندوب فهو: الذي يكون فعله راجحاً على تركه في نظر الشرع، ويكون تركه جائزاً». وعدَّد الرازيُّ أسماءه، وفسَّر معانيها، فذكر منها: «مُرَغّب فيه، ومستحب، ونفلٌ، وتطوُّع، وسنَّة، وإحسان». قال: «ولفظ السنَّة مختص - في العرف - بالمندوب؛ بدليل أنه يقال هذا الفعل واجبٌ، أو سنَّة». اهـ (¬3). ¬

(¬1) ذكر الشيخ عبد الغني عبد الخالق في كتابه (حجية السنة) ص: 67 أنه لم يعثر في كلام الحنابلة على تحديد لترتيبهم المندوب: سنَّة ثم فضيلة ثم نافلة. (¬2) بواسطة نقل ابن بدران في شرح الروضة 1/ 113، ط 1 الملك عبد العزيز. (¬3) المحصول 1 / ق 1/ 129 - 130، ثم ذكر بعد هذا خلاف بعضهم في إطلاق لفظ السنَّة وأنه لا يختص بالمندوب، بل هو عام في كل ما علم وجوبه أو ندبيته بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أو بإدامة فعله ... إلخ وهذا هو المعنى العام الذي سبق أن بيّناه.

وفي «لطائف الإشارات»: «ويُسَمَّى المندوبُ: السُّنَّة، والمستحبَّ، والتطوُّعَ ومثلها: الحَسَنُ والنَّفْلُ، والمرغبُ فيه. فهذه الألفاظ مترادفةٌ عرفاً، خلافاً للقاضي حسين والبغوي والخوارزمي من أصحابنا نفيهم ترادفها، حيث قالوا: السنَّة: ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم. والمستحب: ما فعله مرَّةَّ، أو مرتَّين. والتطُّوع: ما ينشئه الإنسان باختياره من الأوراد (¬1). ولم يتعرَّضوا للمندوبِ لشموله الأقسام الثلاثة، فهو مرادفٌ لكلّ منها». اهـ (¬2). قال السبكي في «جمع الجوامع»: «والمندوب، والمستحب، والتطوع، والسنَّةُ: مترادفةٌ، خلافاً لبعض أصحابنا، وهو لفظيُّ». اهـ. ¬

(¬1) أي الشرعية. (¬2) لطائف الإشارات شرح نظم الورقات، للشيخ عبد الحميد بن محمد، ص: 11، ط الحلبي، عام 1369 هـ. وينظر (المجموع) للنووي 4/ 2، ط 1 المنيرية و (مسائل ابن منقور) 1/ 92 - 93، ط 4، عام 1401 هـ.

تعريف المالكية

قال الجلالُ المحليُّ في شرحه (¬1): «وهو» أي الخلاف «لفظيٌّ» أي عائداً إلى اللفظ، والتسمية. إذْ حاصله: أن كلًّا من الأقسام الثلاثة كما يسمى باسمٍ من الأسماء الثلاثة - السنَّة والمستحب والتطوع كما ذُكرَ - هل يُسَمَّى بغيره منها؟ فقال البعض: لا، إذ السنَّة: الطريقة والعادة؛ والمستحب: المحبوب؛ والتطوع: الزيادة. والأكثر: نعم، ويَصْدُقُ على كلّ من الأقسام الثلاثة أنه: طريقة وعادة في الدين، ومحبوب للشارع بطلبه، وزائد على الواجب». اهـ. وقال الشَّرواني في حاشيته على «تحفة المحتاج» (¬2) بعد أن ذكر خلاف القاضي: «مع أنه لا خلاف في المعنى، فإن بعض المسنوناتِ أكد من بعضٍ قطعاً، وإنما الخلاف في الاسم نهاية ومعنى». اهـ. قول المالكية: قال القرافي في «شرح تنقيح الفصول» (¬3): «والمندوب: ما رجع فعلُهُ على تركه شرعاً، من غير ذمٍّ». اهـ. قال ابن رشد في «المقدمات» (¬4): ¬

(¬1) 1/ 127 (بحاشية العطار)، ط 1 المكتبة التجارية الكبرى بمصر. (¬2) 2/ 219، تصوير: دار الفكر. (¬3) ص: 71، ط مكتبة الكليات الأزهرية بمصر، ودار الفكر - بيروت. (¬4) 1/ 64، دار الغرب الإسلامي، وينظر (نشر البنود على مراقي السعود) 1/ 38 - 40، وشرح الباجي على الموطأ 1/ 226، تصوير: دار الكتاب الإسلامي. وقال في آخر المبحث: (وهذه كلها عبارات اصطلاح بين أهل الصنعة ولا خلاف في تأكد ركعتي الفجر ...) إلخ. وينظر أيضا (عارضة الأحوذي) لابن العربي 2/ 241.

«والمستحب: ما كان في فعله ثوابٌ، لم يكن في تركه عقابٌ ... وهو يَنْقَسِم على ثلاثة أقسامٍ: سنن، ورغائبُ، ونوافل. فالسننُ: ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بفعله، واقترن بأمره ما يدلُّ على أن مراده به: الندب: أو لم تقترن به قرينة على مذهب من يحمل الأوامر على الندب ما لم يقترن بها ما يدل أن المراد بها الوجوب. أو ما داوم النبي صلى الله عليه وسلم على فعله بخلاف صفة النوافل. والرَّغائب: ما داوم النبي صلى الله عليه وسلم على فعله بصفة النوافل، أو رغّب فيه بقوله: مَنْ فعل كذا فله كذا. والنوافل: ما قرّر الشرع أن في فعله ثواباً، من غير أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم به، أو يُرَغِّب فيه، أو يداوم على فعله». اهـ. قال التنوخي في شرحه لمتن الرسالة (¬1) على قول القيرواني: «وركعتا الفجر من الرغائب، وقيل من السنن»: وفائدة الخلاف تفاوت الثواب، فإن ثواب السنَّة أكثر من ثواب الرغيبة والنافلة ... هذا في الفعل؛ وأما في الترك عمداً: فإن قلنا إنها سنَّة: جرى فيها الخلاف في تارك السنن عمداً: هل يأثم أم لا؟» اهـ. ¬

(¬1) 2/ 337 - 338، ط 1 الحمالية بمصر، عام 1332 هـ.

لا خلاف بين هذه التعاريف في الجملة

وبعد هذا العرض الموجز لهذه المذاهب نرى أنه لا خلاف بينها في الجملة، وإن اختلفت الألفاظ فإن المعنى واحدٌ. ولذا قال السبكي في «الإبهاج» (¬1) على قول البيضاوي «ويسمى سنَّة ونافلة»: «من أسمائه - أيضا - أنه مرغّب فيه، وتطوع، ومستحب، والترادف في هذه الأسماء عند أكثر الشافعية، وجمهور الأصوليين». ثم ذكر خلاف القاضي حسين من الشافعية، وذكر كلام المالكية، ثم قال: «وللحنفية اصطلاح آخر في الفرق بين السنَّة والمستحب». اهـ. وقال صاحب كتاب (الحكم التكليفي في الشريعة الإسلامية» (¬2): «يرى جمهور الأصوليين: أن كلمة «مندوب» ترادف في الاصطلاح: كلمة سنَّة، أو مستحب، أو نفل، أو تطوع. وخالف في ذلك الحنفية، وفرَّقوا بين السنَّة والنفل، وجعلوا المندوب هو الذي يرادف النفل، كما جعلوا السنَّة أعلى منه مرتبة». اهـ. ¬

(¬1) 1/ 57 - 58، ط الكليات الأزهرية، عام 1401 هـ. وينظر فتاوى السبكي 1/ 159 - 160، فإنه مهم جداً. (¬2) هو محمد البيانوني، ص: 163، ط دار القلم - دمشق.

تعريف الحنفية

وهذا هو بيان اصطلاح الحنفية: قال الكمال ابن الهمام في «التحرير» (¬1): «السنَّة ... في فقه الحنفية: ما واظب [صلى الله عليه وسلم] على فعله مع تركٍ مَّا بلا عذرٍ ... وما لم يواظبْهُ: مندوبٌ ومستحبٌ وإن لم يفعله بعد ما رغب فيه». اهـ. وهذا التعريف غير جامعٍ - على مذهب الحنفية - لأن الخطبة الثانية، والاعتكاف، والترتيب والموالاة في الوضوء، والمضمضة والاستنشاق، ونحوها سننٌ عندهم مع ثبوت المواظبة عليها من غير تركٍ، ولذا فإن شارحَ «مُسَلّم الثبوت» حذف جملة «مع تركٍ ما بلا عذرٍ» فكان التعريف جامعاً لجميع السنن في مذهبهم، لكنه يصير غير مانع: لشموله الفرضَ والواجب (¬2). وقال في متن «مختصر المنار» (¬3) في مبحث تقسيم العزيمة إلى أربعة أنواع: وسنة، وهي: الطريقة المسلوكة في الدين. وحكمها: المطالبة بإقامتها من غير افتراضٍ ولا وجوب. ونفلٌ: وهو: ما زاد على العبادات، وحكمه: إثابة فاعله، ولا معاقبة على تاركه، ويلزم بالشروع». اهـ. ¬

(¬1) ص: 303، ط 1 الحلبي، عام 1351 هـ. (¬2) شرح مسلم الثبوت ج 2/ 97 - 181، بواسطة (حجية السنة) ص: 55. (¬3) ص: 14، تصوير مكتبة الشافعي بالرياض.

قال ابن نجيم في «البحر الرائق شرح كنز الدقائق» (¬1): «هي - أي السنَّة - اصطلاحاً: الطريقة المسلوكة في الدين، وكذا في «العناية» وفيه نظر؛ لشموله: الفرض والواجب. فزاد في «الكشف» من غير افتراضٍ ولا وجوب. وفيه نظر؛ لشموله: المستحب والمندوب. والأولى أن يقال: هي الطريقة المسلوكة في الدين، من غير لزومٍ، على سبيل المواظبة». ثم أورد ابن نجيم بعض التعريفات، ونقضها، ثم قال: «والذي يظهر للعبد الضعيف أن السنَّة: ما واظب النبي صلى الله عليه وسلم عليه، لكن إن كانت لا مع الترك فهي دليل السنَّة المؤكدة، وإن كانت مع الترك أحياناً فهي دليل غير المؤكدة، وإن اقترنت بالإنكار على من لم يفعله فهي دليل الوجوب». اهـ. هذا وسيأتي حكم كلّ من السنَّة والمندوب، وتقسيمُ السنَّة عند الحنفية إن شاء الله في مبحث «حكم ترك السنن». ¬

(¬1) 1/ 17، تصوير دار الكتاب الإسلامي.

مرد الخلاف في الاصطلاحات السابقة

مردّ الخلاف في الاصطلاحات السابقة استعرضنا فيما مضى المصطلحات في السنَّة، وتبين لنا الاختلاف بينها. «ومرد هذا الاختلاف في الاصطلاح إلى اختلافهم في الأغراض التي يعني بها كل فئة من أهل العلم». فعلماء الحديث إنما بحثوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الإمام الهادي، الذي أخبر الله عنه أنه أسوةٌ لنا وقدوة؛ فنقلوا كلَّ ما يتصل به من سيرةٍ، وخلقٍ، وشمائل، وأخبارٍ، وأقوال، وأفعالٍ، سواءٌ أثبت ذلك حكماً شرعياً أم لا. وعلماء الأصول إنما بحثوا عن رسول الله المشرِّع، الذي يضع قواعد للمجتهدين من بعده، ويبين للناسِ دستور الحياة، فَعُنُوا بأقواله، وأفعاله، وتقريراته التي تثبت الأحكام، وتقرِّرُها. وعلماء الفقه إنما بحثوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا تخرج أفعاله عن الدلالة على حكم شرعي، وهم يبحثون عن حكم الشرع على أفعال العباد، وجوباً أو حرمةً أو إباحة، أو غير ذلك» (¬1). ¬

(¬1) السنُة ومكانتها في التشريع الإسلامي للدكتور مصطفى السباعي، ص: 48 - 49.

مرادنا بالسنة في هذا البحث

ونحن نريد بالسنَّة في بحثنا هذا ما عناه جمهور الفقهاء، وهي ما يطلق في مقابلة الواجب. ومما يجدر التنبيه عليه أننا عندما نستدل بالأحاديث والآثار التي يرد فيها لفظ "السنَّة" فإنما نستدلّ بعمومها، لا أنها وضعت للدلالة على السنَّة بالمعنى الاصطلاحي الفقهيّ. * * *

فصل في الحث على التمسك بالسنة

فصلٌ في الحث على التمسك بالسنَّة "السنَةُ هي الجُنَّةُ الحَصِيْنَةُ لِمَنْ تَدَرَّعها، والشِّرْعة المَعِيْنَةُ لمن تَشَرَّعها، دِرْعُهَا صَافٍ، وَظِلُّها ضافٍ، وبيانها وافٍ، وبرهانُهَا شافٍ. وهي الكافلة بالاستقامةِ، والكافية في السلامة، والسُّلَّمُ إلى درجاتِ المقامة، والوسيلة إلى الموافاةِ بصنوف الكرامة. حافِظُهَا محفوظٌ، وملاحِظُها مَلْحُوْظٌ، والمقتدي بها على صراط مستقيم، والمهتدي بمعالمها صائرٌ إلى مَحَلِّ النَّعيْمِ المقيم" (¬1). ولقد توافرت النصوص الشرعية وأقوال الصحابة والتابعين المرضية على الترغيب فيها، والحث على التمسك بها. فمن الكتاب قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}. ¬

_ (¬1) من كتاب "ضوابط الأحاديث" للشيخ يحيى المَغْربي، مخطوط في إصطنبول، في مكتبة لا لَهْ لي/ برقم 622، والنقل عنه بواسطة محقق كتاب "تحفة الأخيار" تأليف: اللكْنَوِيْ. ط مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب.

الأحاديث الدالة على ذلك

وقوله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تحِبُّونَ اَللهَ فَاَتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ واَللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. وقوله تعالى: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ}. وقوله: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}. وقد تقدَّم الكلام على هذه الآيات، وستأتي الإشارة إليها أيضاً. * * * ومن السنَّة ما رواه الإمام مسلم في «صحيحه» (¬1) عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرَّت عيناه، وعلا صوته واشتدّ غضبه، حتى كأنه منذر جيشٍ، يقول: صبّحكم ومساكم ... ويقول: «أما بعد، فإن خير الحديث كتابُ الله، وخير الهُدى هُدَى محمد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة». وفي «المسند» عن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظةً ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب؛ قلنا: يا رسول الله إن هذه لموعظة مُوَدِّعٍ، فما تَعْهَدُ إلينا؟ قال: «قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي ¬

(¬1) كتاب الجمعة 2/ 592، ط 1، محمد فؤاد عبد الباقي.

إلا هالك؛ ومن يعشْ منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بما عرفتم من سنتي، وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديين ...» الحديث. وفي لفظ له - أيضا - عنه رضي الله عنه، قال: صلَّى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت لها الأعين، ووجلت منها القلوب؛ قلنا: يا رسول الله! كأن هذه موعظةُ مودِّع؛ فأوصنا. قال: «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً، فإنه مَنْ يعش منكم يرى بعدي اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجِذِ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كلَّ محدثة بدعةٌ، وإن كل بدعة ضلالة» (¬1). * * * وفي سنن ابن ماجه (1/ 4)، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نذكر الفقر ونتخوفه، فقال: «الفقر تخافون؟ والذي نفسي بيده لتصبنَّ عليكم الدنيا صبًّا، حتى لا يزيغ قلب أحدكم إزاغةً إلا هيه؛ ¬

(¬1) رواه أصحاب السنن إلا النسائي، قال الترمذي (5/ 45): حديث حسن صحيح، وقال الحاكم أبو عبد الله (1/ 96 - المستدرك): حديث صحيح ليس له علة، واقره الذهبي. وصححه شيخ الإسلام في (الاقتضاء) 2/ 579، وقال الحافظ ابن كثير في (تحفة الطالب) ص: 163: صححه الحافظ أبو نعيم الأصفهاني، والدغولي، وقال شيخ الإسلام الأنصاري: هو أجود حديث في أهل الشام، وأحسنه. اهـ. وصححه الضياء في (اتباع السنن واجتناب البدع) ص: 32.

أقوال الصحابة والتابعين

وأيمُ الله! لقد تركتكم على مثل البيضاء، ليلها ونهارها سواء» (¬1). وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: «لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يحركُ طائرٌ جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علماً». رواه أحمد، والطبراني وزاد: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما بقي شيءٌ يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بُيِّنَ لكم» (¬2). * * * وأما أقول الصحابة، والتابعين، والعلماء في الحث على السنَّة فكثيرةٌ جداً؛ منها: ¬

(¬1) إسناده حسن. (¬2) قال الهيثمي بعد ما ذكر هذا السياق: ورجال الطبراني رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، وهو ثقة، وفي إسناد أحمد من لم يسم، اهـ. انظر المسند 5/ 153. وقد روى الطبراني - أيضاً - الموقوف منه، عن أبي الدرداء، وقال الهيثمي (8/ 264): ورجاله رجال الصحيح. وقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه (3/ 1473) عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم).

ما رواه الدارمي في سننه «1/ 44»، في باب «اتباع السنَّة» عن يونس بن يزيد، عن الزهري، قال: «كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنَّة نجاة». «وروى المروزي في كتاب السنَّة «ص: 29» عن هشام بن عروة، عن أبيه - رحمه الله - قال: «السُّنَنَ السُّنَنَ؛ فإن السُّنَنَ قِوَامُ الدين». وأخرج أبو نعيم في الحلية «6/ 142» عن الأوزاعي أنه قال: «كان يقال: خمسٌ كان عليه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والتابعون بإحسان. لزوم الجماعة، واتباع السنَّة، وعمارة المسجد، وتلاوة القرآن، والجهاد في سبيل الله». وأخرج البيهقي (¬1) من طريق مالك أن رجاءً حدَّثه «أن عبد الله بن عمر كان يتبع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآثاره، وحاله، ويهتمّ به حق كان قد خيف على عقله من اهتمامه بذلك». وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: «فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتتبَّع الدُّبَّاءَ من حوالي الصَّحْفَة، فلم أزل أحبّ الدباءَ من ذلك اليوم». ¬

(¬1) كما في مفتاح الجنة للسيوطي (ص: 62)، وقد أخرج نحوه أبو نعيم في الحلية (1/ 310).

وقد بوَّب النووي على هذا الحديث في شرحه لصحيح مسلم، فقال: باب جواز أكل المرق واستحباب أكل اليقطين .. اهـ. * * * وأخرج الدارمي في سننه «1/ 44» عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني، عن عبد الله بن الديلمي قال: «بلغني أن أول ذهاب الدين ترك السنن، يذهب الدينُ سنَّةً سنَّةً، كما يذهب الحبل قوةً قوةً». وأخرج المروزي في السنَّة «ص: 28» عن عبد الله بن عون أنه قال: «ثلاث أرضاها لنفسي ولإخواني: أن ينظر هذا الرجل المسلم القرآنَ، فيتعلمه، ويقرأه، ويتدبره، وينظر فيه. والثانية: أن ينظر ذاك الأثرَ والسنَّةَ؛ فيسأل عنه، ويتَّبِعَهُ جُهْدَه. والثالثة: أن يدع الناس إلا من خير». وأخرج اللالكائي في شرح اعتقاد أهل الحديث «1/ 65»، عن الفضيل بن عياض، أنه قال: «إن لله عباداً يحيي بهم البلادَ، وهم أصحاب السنَّة». * * * وأخرج أبو نعيم في الحلية «10/ 302»، عن أبي العباس أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء أنه قال: «من ألزم نفسه آداب السنَّة: غمر الله قلبه بنور المعرفة؛ ولا مقام

أشرف من متابعة الحبيب في: أوامره، وأفعاله، وأخلاقه، بآدابه؛ قولاً، وفعلاً، ونية، وعقداً». وفيها أيضاً «10/ 257»، عن الجنيد أنه قال: «الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول؟؟؟؟؟ سنته ولزم طريقته، فإن طريق الخيرات كلها مفتوحة عليه». وفيها أيضاً «10/ 190»، عن أبي محمد سهل بن عبد الله التُّستري، أنه قال: «أصولنا ستة أشياء: التمسك بكتاب الله تعالى، والاقتداء بسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب الآثام، والتوبة، وأداء الحقوق». وقال: «على هذا الخَلْقِ مِنَ اللهِ: أن يلزموا أنفسهم سبعة أشياء: فأولها: الأمر والنهي - وهو الفرض -، ثم السنَّة، ثم الأدب، ثم الترهيب، ثم الترغيب، ثم السَّعة. فمن لم يلزم نفسه هذه السبعة، ولم يعمل بها لم يكمل إيمانه، ولم يتمَّ عقله، ولم يتهنَّأ بحياته، ولم يجد لذة طاعة ربه». وجاء في «الشفاء» للقاضي عياض «2/ 558» عنه - رحمه الله - أنه قال: «أصول مذهبنا ثلاثةٌ: الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في الأخلاق والأفعال. والأكل من الحلال.

وإخلاص النية في جميع الأعمال». هذا طرفٌ مما جاء في هذا الأصل العظيم من أصول الدين، وهو اتباع السُّنَّةِ والعمل بها، وهو «بابٌ يطول تتبعه جداً» (¬1). فليكن ما مرَّ حافزاً للمسلمِ على التعلق بأهداب السُّنَّةِ، ومراعاة تطبيقها في كلِّ شأنٍ من شؤونه، فعلى قدر محبته للرسول صلى الله عليه وسلم تكون متابعته؛ فليقلَّ أو ليستكثر. * * * ¬

(¬1) ابن القيم (مدارج السالكين) 3/ 122، في سياق كلام الشيوخ عن الأخذ بالسنة والشاطبي في (الاعتصام) 1/ 131، ط دار ابن عفان.

فوائد العمل بالسنة

فوائد العمل بالسنَّة ومتى حافظ المسلمُ على السُّنَّةِ محافظته على الطعام والشراب الذي به قوام البدن أو أشدَّ: غمرته الفوائد الدينية والدنيوية، كما قال ابن قدامة - رحمه الله -: «وفي اتباع السنَّة: بركةُ موافقة الشرع، ورضى الربِّ سبحانه وتعالى ورفع الدرجات، وراحة القلب، وَدَعَةٌ البَدَنِ، وترغيمُ الشيطان، وسلوكُ الصراط المستقيم». اهـ (¬1). وقد قال ابنُ حبَّان - رحمه الله تعالى - في مقدَّمة صحيحه: وإِنَّ في لزوم سُنَّتِه: تمامَ السلامة، وَجِمَاعَ الكرامةِ، لا تطفأْ سُرُجُها، ولا تُدْحضُ حججُها، من لزمَهَا عُصِم، ومن خالفها نَدِمَ، إذْ هي الحصنُ الحصين، والركنُ الركين، الذي بان فضْلُه، ومَتُنَ حبْلُهُ، ومن تَمَسَّكَ به ساد، ومن رام خلافه باد. فالمتعلِّقون به أهل السعادةِ في الأجل، والمغبوطونَ بين الأنام في العاجل. اهـ (¬2). وقال الغزالي - في كلامٍ له متين بهذا الصدد -: ¬

(¬1) ذم الموسوسين، لابن قدامة، ص: 41، ط الفاروق الحديثة - مصر. (¬2) (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان 1/ 102، ط الرسالة.

«اعلم أن مفتاح السعادة: في اتباع السنَّة والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع مصادره وموارده، وحركاته وسكناته؛ حتى في هيئة أكله وقيامه، ونومه وكلامه. لستُ أقول ذلك في آدابه في العبادات فقط، لأنه لا وجه لإِهمالِ السنن الواردة في غيرها، بل ذلك في جميع أمور العادات: فَبِهِ الاتباع المطلق، كما قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}. وقال تعالى: {وَمَآءَاتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُواْ ...}. فهل - بعد ذلك يليق بعاقلٍ أن يتساهل في امتثال السنَّة، فيقول: هذا من قبيل العادات فلا معنى للاتباع فيه؟! فإن ذلك يغلق عنه باباً عظيماً من أبواب السعادة». اهـ (¬1). وهذا الذي قاله أبو حامدٍ هو دأب السلف - رضي الله عنهم - كما قال القاضي عياض في «الشفا» (¬2). «... وهذه سيرة السلف حتى في المباحات وشهوات النفس؛ وقد قال أنس حين رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم يتتبع الدُّبَّاء من حوالي القصعة: فما زلت أحب الدُّباء من يومئذٍ. ¬

(¬1) بواسطة نقل الشيخ عبد الغني عبد الخالق في كتابه (حجية السنة) ص: 80 - 81. (¬2) 2/ 575.

الفائدة الأولى: الوصول إلى درجة المحبة

وهذا الحسن بن علي، وعبد الله بن عباس، وابن جعفرٍ أتوا سَلْمى وسألوها أن تضع لهم طعاماً مما كان يعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان ابن عمر يلبس النعال السبتية ويصبغ بالصفرة، إذْ رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك». اهـ. فلو أن كلَّ فردٍ من أبناء هذه الأمة نَشَأَ وبين عينيه سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأخذ منها آدابَهُ وأخلاقه، وحركته وسكونه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً: لنشأَ جيلٌ إيمانه كالجبال، يقذِفُ الرُّعْبَ في قلوب أعدائنا على مسيرة شهرٍ، وينهض بالأمةِ إلى أعلى ما تصبوا إليه من السعادة والسيادة. {وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن ينَصُرُهُ إِنَ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}. هذا وللالتزام بالسنَّة ثمارٌ وفوائد لا تحصى، نقتصر منها على ما يلي: * أولاً - الوصول إلى درجة «المَحَبَّة» محبة الله عز وجلَّ لعبده المؤمن: قال ابن القيم - رحمه الله -: «لما كثر المدعون للمحبّة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخَلِيُّ حُرْقَةَ الشَّجِيِّ، فتنوَّع المدعون في الشهود، فقيل: لا تقبل هذه الدعوى إِلا ببينة: {قُلْ إِن كُنُتمْ تحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ}. فتأخر الخلقُ كلهم، وثبت أتباعُ الحبيب في: أفعاله، وأقواله،

وأخلاقه». اهـ (¬1). وقد روى البخاري في صحيحه (¬2) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبّ إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنّه ...». ففي هذا الحديث العظيم دليلٌ على أن النوافلَ سببٌ من الأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى لعبد، وبيانٌ لما يترتب على هذه المحبَّة من الخصال الحميدة. فمن أحبَّهُ الله تعالى كان سمعَهُ الذي يسمع به، بمعنى: أن الله يوفقه لسماع أحسن الكلام، ويصرفه عن سماع سيئة؛ وكان يَدَهُ التي يبطش بها، بمعنى: أن الله يوفقه لاستعمال هذه الجارحة في حدود الشرعيات: من الكسب المباح، وإنكار المنكرات، وتناول الطيبات، كما يوفقه تعالى إلى كفِّها عن كلِّ محرَّمٍ تَسْتَطِيْعُ تناولَهُ، وأخذَه. وهكذا قوله تعالى: كنت بصره الذي يبصر به، ورجله التي يمشي بها. ¬

(¬1) مدارج السالكين 3/ 8. (¬2) كتاب الرقاق - باب التواضع (11/ 340 فتح).

الفائدة الثانية: النوافل تجبر كسر الفرائض

وهناك خصلةٌ أخرى تترتب لمن حصلت له هذه المحبَّة، هي: ما جاء في حديث أبي هريرة - المتفق عليه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أحب اللَّهُ العبْدَ نادى جبريلَ: إن الله يحب فلاناً فأحبِبْهُ، فيحبُّه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء؛ إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبُّه أهل السماء، ثم يوضع له القبولُ في الأرض» (¬1)، هذا لفظ البخاري. * ثانيا - أن المحافظة على النوافل تجبر كسر الفرائض: لما رواه داود في سننه (¬2) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم: الصلاة، قال: يقول ربنا جل وعز لملائكته - وهو أعلم -: انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها؟ فإن كانت تامة كتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئاً، قال: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فإن كان له تطوُّع قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذاكم». ومما لا ريب فيه: أن الإتيان بالفرائض كما أراده الله عز وجلّ متعذرٌ على أكثر الناس، إذْ لا يخلو عملهم من نقصٍ، كترك الخشوع في الصلاةِ وعدم الطمأنينة فيها، وكاللغو والغيبة والنميمة حالَ الصيام، ¬

(¬1) البخاري في كتاب بدء الخلق (6/ 303)، ومسلم (4/ 2030)، كتاب البر والصلة والآداب. (¬2) كتاب الصلاة (1/ 540)، وفي الباب عن جماعة من الصحابة، ينظر (سنن الترمذي) بتحقيق الشيخ أحمد شاكر 2/ 271، وشرحه على المسند 15/ 19 - 26.

والجدالِ والفسق في الحجِّ ... إلخ؛ فكلُّ هذه وأمثالها يؤاخذ العبد بها، وتُنْقِصُ ثواب فرضه. إلاَّ أن الله - عز وجل - لجزيل فضله وسعة رحمته جعل للعبد ما يتمم هذا النقص، ويُقَوِّمُ هذا الخلل؛ وذلك بمحافظته على ما شُرعَ من السنن والنوافل. فلا يليق بعاقلٍ - بعد هذا - أن يزهد فيما يتمِّمُ ويكمِّلُ فرضَهُ، ويُدْنِيهِ من رضاء ربه. قال الشاطبي في «الموافقات» (¬1). المندوب إذا اعتبرته اعتبارا أعمَّ من الاعتبار المتقدم وجدته خادماً للواجب، لأنه إما مقدمة له، أو تكميل له، أو تذكار به، كان من جنس الواجب أو لا. فالذي من جنسه: كنوافل الصلوات مع فرائضها، ونوافل الصيام، والصدقة، والحج، وغير ذلك مع فرائضها. والذي من غير جنسه: كطهارة الخبث في الجسد، والثوب، والمُصَلَّى، والسواك، وأخذ الزينة، وغير ذلك مع الصلاة؛ وكتعجيل الإفطار، وتأخير السحور، وكفُّ اللسان عما لا يعني مع الصيام، وما أشبه ذلك. فإذا كان كذلك فهو: لاحقٌ بقسم الواجب بالكل، وقَلَّما يشذّ عنه مندوب يكون مندوباً بالكل والجزء. اهـ. ¬

(¬1) 1/ 92.

الفائدة الثالثة: مضاعفة أجر المتمسك بالسنة آخر الزمان

* ثالثاً - للمتمسك بالسنَّة فضلٌ كبيرٌ، ويزداد فضلُه رفعة كلّما كان الزَّمَنُ زمن إعراضٍ عن السنَّة، وإيذاءٍ لمن تمسك بها. روى المروزي في السنَّة (¬1) «ص: 9» عن إبراهيم بن أبي عبلة، عن عتبة بن غزوان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من ورائكم أيام الصبر، للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه: أجرُ خمسين منكم» قالوا: يا نبي الله! أَوْ منهم؟ قال: «بل منكم». وأخرج الترمذي (5/ 257) - وغيره - عن عبد الله بن المبارك، أخبرنا عتبة بن أبي حكيم، حدثنا عمرو بن جارية اللخمي، عن أبي أميَّة الشَّعْباني، عن أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «... فإن من ورائكم أياماً الصبر فيهن مثل القبضَ على الجمر، للعامل فيهن مثلُ أجرِ خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم». قال عبد الله بن المبارك: وزادني غير عتبة: قيل يا رسول الله! أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: «بل أجر خمسين منكم». قال الترمذي: حديث حسن غريب. اهـ (¬2). وقد قال الإمام ابنُ القيم - رحمه الله - في «النونية»: هذا وللمتمسِّكين بسنَّة الـ ... ـمختار عند فَسَادِ ذي الأزْمانِ ¬

(¬1) وفيه انقطاع بين إبراهيم وعتبة. (¬2) وأخرجه أبو داود (11/ 493 - العون)، وابن ماجه (2/ 1330)، وابن حبان (2/ 108 - الإحسان)، والحاكم (4/ 322) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

أجرٌ عظيمٌ ليس يقدرُ قَدْرَهُ ... إلا الذي أعطاه للإنسان فروى أبو داودَ في سُنَنٍ له ... ورواه - أيضاً - أحمدُ الشيبانِي أثراً تضمَّن أَجْرَ خَمْسِيْنَ امريءٍ ... من صَحْبِ أحمدَ خِيْرةِ الرحمنِ إسنادُهُ حَسَنٌ، ومِصْدَاقٌ له ... في «مسلم» فافْهَمْهُ فَهْمَ بَيَانِ إنَّ العبادةَ وقْتَ هَرْجٍ هِجْرَةٌ ... حقاً إليَّ وذاكَ ذو بُرْهانِ هذا فكم مِّنْ هِجْرَةٍ لكَ أيُّها الـ ... ـسُّنِّيُّ بالتَّحقِيْقِ لا بأَمانِ هذا وكم مِّنْ هجرةٍ لهُمُ بما ... قال الرَّسولُ، وجاء في القرآنِ ولقد أتى مصداقَهُ في «التَّرْ ... مِذِيَّ» لمنْ له أُذُنانِ واعيتانِ في أَجْرِ مُحْيِيْ سُنَّةٍ ماتتْ فذا ... كَ مع الرَّسولِ رَفيْقَةُ بجنانِ هذا ومصداقٌ له - أيضاً - أتى ... في «الترمذيِّ» لمنْ له عينانِ

تَشْبيهَ أُمَّتِهِ بغيثٍ: أوَّلٌ ... مِنْهُ وآخِرُهُ فَمشْتَبِهَانِ فلذاكَ لا يدري الذيْ هو مِنْهُمَا ... قدْ خُضَّ بالتفصِيْلِ والرُّجحَانِ وَلَقَدْ أتى أثرٌ بأنَّ الفَضْلَ في الـ ... طَّرَفَيْنِ أعني أولاً والثاني والوَسْطُ ذو ثَبَجٍ فأَعْوَجُ هكذا ... جاء الحديثُ وليس ذا نُكْرانِ ولقد أتى في «الوحي» مصداقٌ له ... في الثلَّتَيْنِ وذاك في القرآنِ أهلُ اليمينِ فَثُلَّةٌ مَعْ مثْلِها ... والسابقونَ أقلُّ في الحسبانِ ما ذاكَ إلا أنَّ تابِعَهُمْ هُمُ الـ ... غُرَبَاءُ ليستْ غربةَ الأوطانِ لكنَّها واللهِ غربةُ قائِمٍ ... بالدِّين بين عساكر الشيطانِ فلذاكَ شبَّهَهم بِهِ متبوعُهُمْ ... في الغُربَتَيْنِ وذاك ذو تبيانِ لم يُشْبِهُوْهُمْ في جميعِ أُمُوْرِهِمْ ... مِنْ كلِّ وجهٍ لَيْسَ يستويان (¬1) ¬

(¬1) انظر الأبيات وتكملتها في شرح ابن عيسى للنونية (2/ 458 - 464).

الفائدة الرابعة: العمل بالسنة عصمة من الوقوع في البدع

* رابعاً - أن في العمل بالسُنَّةِ عصمةً من الوقوع في البدع: وفي هذا يقول أبو محمد عبد الله بن منازل - رحمه الله -: «لم يضيِّع أحدٌ فريضةً من الفرائض إلا ابتلاه الله بتضييع السُّننِ، ولم يُبتَلَ بتضييع السُّنَنِ أحد إلا يوشك أن يبتلى بالبدعِ». ولذا قال السلفُ - كما تقدم -: «الاعتصامُ بالسنَّةِ نجاة» فالاعتصام بالسنَّةِ نجاةٌ من كلِّ ما يعيقُ المسلم عن ربِّه تعالى، وأعظم ذلك خطراً؛ البدعُ التي هي بريدُ الكفر. فالبدعُ إنما تفشوا في تلك المجتمعات التي انطفأ نور السنة فيها، فلمْ تَرَ جاهراً بها، ولا داعياً إليها، ولا حاثًّا على امتثالها، وفي ذلك يقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: «ما يأتي على الناس من عامٍ إلا أحدثوا فيه بدعة، وأماتوا فيه سنة، حتى تحيا البدع وتموت السنن» رواه ابن وضاحٍ في «البدع والنهي عنها». * خامسًا: أن الحرصَ على القيام بالسنن من تعظيم شعائر الله: وفي ذلك يقول الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقَوى الْقُلُوبِ}. وشعائر الله: عام في جميع شعائر الله (¬1)، ومنها المناسك كلها، والهدايا، والقربانُ للبيتِ. ¬

(¬1) ((أضواء البيان 5/ 692.

الفائدة السادسة: للعامل بالسنة مثل أجر من تبعه

ومعنى تعظيمها: إجلالها، والقيام بها، وتكمليها على أكمل ما يقدر عليه العبد (¬1). فتعظيمُ الهدايا، يكون بمراعاة السُّنَّةِ فيها، بأن تكون سمينة حسنة، كما قال ابن عباس، وغيره (¬2). وتعظيم هذه الشعائر لا يقوم إلا بقلبٍ بَلَغَ من التقوى ذراها. فالمعظم لها، يبرهن على تقواه، وصحة إيمانه، لأن تعظيمها تابعٌ لتعظيم الله وإجلاله (¬3). وإن من أعظم شعائر الله تعالى السُّنَنَ التي سنَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمحافظة عليها، والوصية بها؛ من إجلال هذه الشعائر، وتعظيمها، المنبعثِ من ذوي تقوى القلوب. * سادساً: أن للعاملِ بالسُّنَّةِ مِثْلَ أجرِ من تَبِعَهُ لا ينقصُ من أجرهم شيئاً: ودليل ذلك ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه (2/ 704) عن جرير بن عبد الله قال: كنَّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدرِ النَّهار، قال: فجاءه قومٌ حفاةٌ عراةٌ مجتابيْ النِّمارِ أو العِبَاء، متقلدي السيوف، عامَّتُهُمْ من مضر، بل كلهم من مضر. فتمعَّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لِمَا رأى بهم من القافة. ¬

(¬1) تفسير السَّعدي 5/ 293. (¬2) تفسير ابن جرير 51/ 156. (¬3) تفسير السَّعدي 5/ 293.

فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذن وأقام، فصلى ثم خطب فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ - إلى آخر الآية - إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} والآية التي في الحشر: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ}، تَصَدَّقَ رجلٌ من دينارِهِ، من درهمه، من ثوبه، من صاعِ بُرِّه، من صاع تمره «حتى قال» ولو بشقِّ تمرة». قال «فجاء رجلٌ من الأنصار بصُرِّةٍ كادتْ كفُّهُ تعجزُ عنها، بل قد عَجَزَتْ، قال: ثم تَتابَعَ الناسُ حتى رأيتُ كَوْمَيْن من طعامٍ وثيابٍ، حتى رأيتُ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلَّلُ، كأنهَّ مُذْهَبَة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سَنَّ في الإسلام سنةً حسنةً، فله أجرها، وأجْرُ مَنْ عَمِلَ بها بعده. من غَيْرِ أن ينقُصَ من أُجورهم شيء ...» الحديث. قال النووي في «شرح مسلم» على قوله: «من سنَّ ...»: فيه الحثُّ على الابتداء بالخيرات ... وسببُ هذا الكلامِ في هذا الحديثِ أنه قال في أوَّله: فجاء رجلٌ بصُرَّةٍ كادت كَفه تعجز عنها فتتابع الناس، فكان الفضل العظيم للبادي بهذا الخير، والفاتح لبابِ هذا الإحسان. اهـ (7/ 104). فإذا أحيا المسلمُ سنة، فاقتدى به غيرُه، فله أجرُ العَمَل بها، وله مثل أجرِ من اقتدى به فيها، ولا ريب أَن هذا فضلٌ كبيرٌ، ينبغي للمسلمِ أن يُدْرِكَه، فإنَّ به تحصيلَ الثوابِ العظيم من أبوابٍ كثيرةٍ.

الفائدة السابعة: في الالتزام بالسنة أمن الافتراق

* سابعاً: في الالتزام بالسَّنَّة أمنُ الافتراق: فإنَّ الاجتماعَ على الَعَمَلِ بالسنُّةِ يَمْنَعُ وقوع كثيرٍ من الخلافاتِ المؤدِّية إلى العداوة والبغضاء. ولذا فإنَّ مجتمع أهل السنَّةِ تنعدمُ فيه الفرقة المذمومة، التي تبدو ظاهرة في مجتمعات أهل البدع. قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: «والبدعةُ مقرونةٌ بالفُرْقةِ، كما أنَّ السنَّة مقرونةٌ بالجماعة» (¬1). اهـ. وقد قال تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاَءَهُمُ الْبَيِّنَاَتُ ...} الآية. قال قتادة في تفسيرها: «يعني أهل البدعِ». اهـ. فأهل البدع هم أهل الاختلافِ والتَّفَرّقِ، لتركهم السنَّة، واتباعهم السُّبُلَ. قال عبد الرحمن بن مهدي: وقد سئل مالك بن أنس عن السُّنَّةِ؟ قال: «هي ما لا اسم له غيرُ السنَّة، وتلا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}. اهـ (¬2). ¬

(¬1) الاستقامة 1/ 42. (¬2) الاعتصام للشاطبي 1/ 77.

وفيما نقل عن مجاهد في قوله تعالى: {وَلا يَزَالُون مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلذَلِكَ خَلَقَهُمْ}. قال في المختلفين: «إنهم أهل الباطل». {إِلا من رحم ربك}، قال: فإن أهل الحقِّ ليس فيهم اختلاف. اهـ (¬1). وعن عكرمة: {وَلا يَزَالُون مُخْتَلِفِينَ}: يعني: «في الأهواء» {إِلا من رحم ربك}: «هم أهل السنَّة». وروى ابن وهب عن عمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس: «أنَّ أهل الرحمة لا يختلفون». اهـ (¬2). وفي وصيَّة أبي العالية أنه قال: «... وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء». فقال الحسن البصري: «رحمه الله، صَدَقَ ونَصَحَ». اهـ (¬3). وكان إبراهيم التيمي يقول: «اللهم اعصمني بدينك وبسنَّةِ نبيِّك؛ من الاختلاف في الحقِّ، ومن اتباع الهوى، ومن سُبُلِ الضلالة، ومن شبهات الأمور، ومن الزَّيْغِ والخصومات» (¬4). * * * ¬

(¬1) الدر المنثور للسيوطي 4/ 491، والاعتصام 1/ 82. (¬2) الاعتصام 1/ 83. (¬3) البدع والنهي عنها، لابن وضاح ص: 32 - 33. (¬4) الاعتصام 1/ 116.

فصل في حكم ترك السنن

فصل في حكم ترك السنن تقدَّم أن للحنفية اصطلاحاً خاصاً بهم في «السُّنة» فهم يفرقون بينها، وبين «النَّفْل»، ونشأ عن هذا التفريق: ترتيب حكمٍ لكلِّ واحدٍ منهما. قال البزدوي في أصوله: «والسنَنُ نوعان: سنَّة الهدى؛ وتاركها: يستوجب: إساءةً، وكراهيةً. والزوائِدِ؛ وتاركها: لا يستوجب إساءة ... وأما النفلُ فما يثاب المرء على فعله، ولا يعاقب على تركه ...» اهـ. قال علاء الدين البخاري في شرحه لأصول البزدوي، المسمى «كشف الأسرار» (¬1). «قوله: «سنَّة الهدى» يعني: سنةً أخذها من تكميل الهدى - أي الدين - وهي التي تعلق بتركها: كراهية وإساءة ... وهي مثل: الأذانِ، والإقامة، والجماعة، والسنن الرواتب. ¬

(¬1) 2/ 567 - 568، ط دار الكتاب العربي، تحقيق محمد المعتصم بالله.

ولهذا قال محمد - أي ابن الحسن - في بعضها: إنه يصير مسيئاً، وفي بعضها: إنه يأثم، وفي بعضها: يجب القضاء، وهي: سنَّة الفجر، ولكن لا يعاقب بتركها، لأنها ليست بفريضة ولا واجبة. و «الزوائد» أي: النوع الثاني: الزوائد، وهي التي لا يتعلق بتركها كراهة ولا إساءة، نحو: تطويل القراءة في الصلاة، وتطويل الركوع والسجود، وأفعاله خارج الصلاة من المشي، واللبس، والأكل. فإن العبد لا يطالب بإقامتها، ولا يأثم بتركها، ولا يصير مسيئاً. والأفضل أن يأتي بها، كذا في بعض مصنفات الشيخ ... قوله: «وأما النفل فما يثاب المرء على فعله ولا يعاقب على تركه». قال القاضي الإمام: نوافل العبادات هي التي يبتدئ بها العبدُ زيادةً على الفرائض، والسنن المشهورة. وحكمها: أن يثاب العبد على فعلها، ولا يذم على تركها، لأنها جعلت زيادةً له لا عليه، بخلاف السنَّة؛ فإنها طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن حيث سبيلها الإِحياءُ، كان حقاً علينا، فعوتبنا على تركه». اهـ. ومثال النفل عندهم «ما زاد على القَصْرِ من صلاة السفر» وهو الشفع الثاني، لأن العبد لا يلام على تركه رأساً وأصلاً، ويثاب على فعله في الجملة. فتبيَّن بهذا أن الأقسام عند الحنفية ثلاثةٌ: سنن الهدى - ويقال لها: السنَّة المؤكدة - كالأذان، والإقامة، والسُّنَنِ المروية، والمضمضة

والاستنشاق؛ وسنن الزوائد، كأذان المنفرد، والسواك، ونحوها؛ ونفلٌ ومنه: المندوب والمستحب. قال ابن عابدين في «حاشيته» (¬1): «... أقول: فلا فرق بين النفل وسنن الزوائد من حيث الحكم، لأنه لا يكره ترك كلٌّ منهما». وإنما الفرق كون الأول - النفل - من العبادات، والثاني - سنن الزوائد - من العادات ... قال: وقد مثلوا لسنَّة الزوائد بتطويله صلى الله عليه وسلم القراءة والركوع، والسجود؛ ولا شك في كون ذلك عبادة، وحينئذٍ فمعنى كون سنةِ الزوائد عادةً أن النبي صلى الله عليه وسلم واظب عليها حتى صارت عادةً له، ولم يتركها إِلا أحياناً، لأن السنَّة هي: الطريقة المسلوكة في الدين فهي في نفسها عبادة، وسميت عادةً لما ذكرنا. ولما لم تكن من مكملات الدين وشعائره سميت: سنَّة زوائد، بخلاف سنَّة الهدى، وهي: السنن المؤكدة القريبة من الواجب التي يضلل تاركها، لأن تركها: استخفاف بالدين، وبخلاف النفل، فإنه كما قالوا: ما شرعَ لنا زيادة على الفرض والواجب والسنَّة بنوعيها، ولذا جعلوه قسماً رابعاً، وجعلوا منه: المندوب، والمستحب، وهو ما ورد بد دليل ندبٍ يخصه، كما في «التحرير». فالنفل: ما ورد به دليل ندبٍ عموماً أو خصوصاً، ولم يواظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا كان دون سنَّة الزوائد، كما صرَّح به في «التنقيح». وقد ¬

(¬1) 1/ 103، ط 2 الحلبي، عام 1386 هـ.

يطلق النفل على ما يشمل السنن الرواتب، ومنه قولهم: باب الوتر والنوافل، ومنه تسمية الحج نافلةً ... إلخ». اهـ. وتبيَّن أن الأحكام المترتبة على هذه الأقسام كما يلي: أما سنن الهدى: فإن فاعلها يثاب، وتاركها بلا عذرٍ - على سبيل الإصرار - يستحق الحرمان من الشفاعة (¬1)، ويستوجب اللوم، والتضليل لاستخفافه بالدين. أما سنن الزوائد: فإنه يثاب على فعلها، ولا يستوجب تاركها إساءة ولا كراهة. أما النفل فحكمه حكم السنن الزوائد (¬2). بقي مسألة، وهي: هل يلحق تارك سنن الهدى - عندهم - الإثمُ، أو لا؟ نَقَلَ علاء الدين البخاري في «كشف الأسرار» (¬3)، عن أبي اليسر أنه قال: «وأما السنَّة فكل نَفْل واظب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل التشهُّد في الصلوات، والسنن الرواتب. ¬

(¬1) اعتماداً على حديث يذكره فقهاء الأحناف، لفظه: (من ترك سنتي لم ينل شفاعتي) ولم أقف على إسنادٍ له، وقد أنكره بعض الحنفية المعاصرين. (¬2) وهنا تفاصيل أخرى عند الحنفية لا فائدة هنا من ذكرها، كالخلاف في المستحب والمندوب هل يرادفان النفل أم لا؟ والمستحب والمندوب هل هما مترادفان أم لا؟ ... (¬3) 2/ 563.

مذهب الجمهور

وحكمها: أنه يندب إلى تحصيلها، ويلام على تركها، مع لحوقِ إثمٍ يسير». أهـ. ونقل ابن عابدين في «حاشيته» (¬1) عن كتاب «البحر» أنه قال: «الذي يظهر من كلام أهل المذهب: أن الإثم منوط بترك الواجب أو السنَّة المؤكدة على الصحيح، لتصريحهم بأن من ترك سنن الصلوات الخمس، قيل: لا يأثم، والصحيح أنه يأثم، ذكره في «فتح القدير»». اهـ. هذا مجمل تأصيل الحنفية في هذا المسألة، وما ذكروه من الأمثلةِ المندرجة تحت «التقسيم» فهو باعتبار ما رجّحوه وذهبوا إليه، فتنبه لذلك، لئلا يقع عندك إشكالٌ. وقد وافقهم في الحكم بالتأثيم أفراد من علماء المذاهب الأخرى، منهم القاضي من الحنابلة (¬2)، وغيره. * * * أما الجمهور فإنهم يصرِّحون بحكم السنَّة المرادفةِ للمندوبِ والنفل والمستحب في ضمن تعريفاتهم لها، فيقولون: هي «ما يثاب على فعله، ولا يعاقب على تركه» (¬3). ¬

(¬1) 1/ 104. (¬2) الفروع لابن مفلح (6/ 560)، ط آل ثاني. (¬3) الحكم التكليفي في الشريعة الإسلامي، للبيانوني، ص: 171، ط 1 دار القلم - دمشق.

تشديدهم في ترك الوتر ونحوه مطلقا

إِلاَّ أنَّ هناكَ سنناً - كالوترِ وركعتي الفجر - يُشدِّدون في تركها مطلقاً. كما أنَّهُمْ يُسَوِّغونَ: الإنكار على مَنْ تركَ سنةً ولو لم تصل إلى درجة «الوتر» ونحوه. فمن الأول: قول الإمام مالك في «الوتر»: «ليس فرضاً؛ ولكن من تركه أُدِّبَ، وكانت جرحةً في شهادته» (¬1). اهـ. وقال الإمام أحمد: «من ترك الوتر عمداً فهو رجل سوء ولا ينبغي أن تقبل شهادته (¬2)». اهـ. قال ابن مفلح في «الفروع» (¬3): «وإنما قال هذا فيمن تركه طول عمره، أو أكثره؛ فإنه يُفَسَّقُ بذلك، وكذلك جميع السنن الراتبة إذا داومَ على تركها. لأنه بالمداومة يحصلُ راغباً عن السنة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من رغب عن سنتي فليس مني». ولأنه بالمداومة تلحقُهُ التهمة بأنه غير معتقدٍ لكونه سنَّةً، وهذا ¬

(¬1) هكذا نقل ابن حزم (2/ 314)، هذا القول ونسبه إلى مالك، والمشهور عند المالكية، قول سحنون: يجرح تاركه، وقول أصبغ: يؤدب، انظر شرح العلامة زرّوق على الرسالة 1/ 184، ط 1 الجمالية بمصر. (¬2) المغني (2/ 594)، ط 1 هجر تحقيق الدكتورين: عبد الله بن عبد المحسن التركي، وعبد الفتاح الحلو. (¬3) 6/ 560 - 561.

ممنوعٌ منه، ولهذا قال عليه السلام: «أنا بريء من كلِّ مسلمٍ بين ظهراني المشركين لا تتراءى ناراهما» (¬1). وإنما قال ذلك لأنه متّهم في أنه يكثّر جمعهم، ويقصد نصرهم، ويَرْغب في دينهم. وكلام أحمد خُرَّج على هذا. وكذا في «الفصول»: الإدمان على ترك هذه السنن الراتبة غير جائز، واحتجّ بقول أحمد في الوتر، لأنه يُعَدّ راغباً عن السنة. وقال بعد قول أحمد في الوتر: وهذا يقتضي أنه حكم بفسقه. ونَقَلَ جماعةٌ: مَنْ تركَ الوتر ليس عدلاً ...» اهـ. وقال النووي في «روضة الطالبين» (¬2): ¬

(¬1) (3 (أخرجه أبو داود في الجهاد من سننه (3/ 104)، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله بلفظ (أبا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين قالوا: يا رسول الله، لم؟ قال: لا تَرَاءى نارَاهُما). قيل معناه: لا يستوي حكماهما، وقيل: إن الله قد فرق بين داري الإسلام والكفر، فلا يجوز لمسلم أن يساكن الكفار في بلادهم، حتى إذا أوقدوا ناراً كان منهم بحيث يراها ... اهـ. من الخطابي (3/ 437) معالم السنن. والحديث أخرجه الترمذي في كتاب السير من جامعه (5/ 328، رقم 1604)، عن قيس، عن جرير به. وعن قيس مرسلاً، قال: وهو أصح ... إلخ، وقد رواه النسائي 8/ 36 مرسلاً، وهو الذي رجحه الأئمة: البخاري، والدارقطني، وأبو حاتم، وأبو داود، والترمذي. (¬2) (11/ 233) ط المكتب الإسلامي.

«... ومن اعتاد تركها - أي السنن الرواتب ... - ردَّت شهادتُهُ، لتهاونه بالدين، وإشعارِ هذا بقلَّة مبالاته بالمهمَّات. وحكى أبو الفرج في غير الوترِ وركعتي الفجر: وجهان؛ أنه لا تُرَدُّ شهادته باعتياد تركها». اهـ. وقد سئل الرَّمْلي عن القولين اللذين حكاهما أبو الفرج أيهما المعتمد؟ فأجاب: بأن المعتمد عدم ردِّ شهادته، وهو مقتضى قولهم: المداومة على ترك السنن الراتبة وتسبيحات الصلاة: يقدح في الشهادة». اهـ (¬1). * * * وقال شيخ الإسلام: «الوتر سنَّة مؤكدة باتفاق المسلمين، ومن أصرَّ على تركه فإنه تردُّ شهادته. ثم حكى تنازع العلماء في وجوبه وقال: لكن هو باتفاق المسلمين سنَّة مؤكدة، لا ينبغي لأحدٍ تركه». اهـ (¬2). وسئل - رحمه الله - عمَّن لا يواظب على السنن الرواتب: فأجاب: «من أصرَّ على تركها دلّ ذلك على قلَّةِ دينه، وردّت شهادته في مذهب أحمد، والشافعي، وغيرهما». اهـ (¬3). ¬

(¬1) فتاوى الرملى - هامش فتاوى الهيتمي الكُبْرى - 4/ 151، تصوير: دار الكتب العلمية، ولعل صواب العبارة: (المعتمد ردُّ شهادته). (¬2) مجموع الفتاوى 23/ 88. (¬3) المصدر السابق 23/ 127.

تسويفهم الإنكار على من ترك السنن مطلقا

وقال - أيضاً -: «... حتى أنّ من داوم على ترك السنن التي هي دون الجماعة سقطت عدالتُهُ عندهم ولم تقبل شهادته، فكيف بمن يداوم على ترك الجماعة؟ فإنه يؤمر بها باتفاق المسلمين، ويلامُ على تركها، فلا يُمَكَّنُ من حُكمٍ ولا شهادة ولا فتياً مع إصراره على ترك السنن الراتبة، التي هي دون الجماعة، فكيف بالجماعة ...» اهـ (¬1). وقال الشاطبي في «الموافقات» (¬2): «إذا كان الفعل مندوباً بالجزء كان واجباً بالكلِّ، كالأذان في المساجِدِ الجوامِع، أو غيرها ... وصدقة التّطوُّع، والنكاح، والوِتْر ... وسائر النَّوافل الرواتب؛ فإنها مندوبٌ إليها بالجزء، ولو فُرِضَ تَرْكُها جُمْلَةً: لَجُرِحَ التارِكُ لها، ألا ترى أنّ في الأذان إظهاراً لشعائر الإسلام، ولذلك يستحِقُّ أهل المصر القِتَالَ إذا تركوهُ ... والنكاح لا يخفى ما فيه مما هو مقصود للشارع، من تكثِيْرِ النَّسْلِ، وإبقاءِ النَّوع الإنسانيّ، وما أشبهَ ذلك. فالتركُ لها جملة: مؤثِّر في أوضاع الدِّينِ إذا كان دائما، أما إذا كان في بعض الأوقات فلا تأثير له، فلا محظور من الترك». اهـ. * * * ومن الثاني: ـ وهو تسويغ الإنكار على منْ ترك السُّنَنَ - ما ذكره ¬

(¬1) المصدر السابق 23/ 253. (¬2) 1/ 79 - 80، ط محمد محيي الدين عبد الحميد.

الحنابلة - رحمهم الله تعالى - من أن إنكار المنكر قد يكون واجباً، وقد يكون مندوباً. فيكون واجباً إذا تُرِكَ الواجبُ، وفُعل الحرامُ. ويكون مندوباً إذا تُرِكَ المندوبُ، وفُعل المكروه. وهذا أيضاً عند غير الحنابلة، كما ذكره العلامة ابن مفلح في «الآداب الشرعية» (¬1). قال النووي في شرح مسلم (¬2) على حديث أبي هريرة في إنكار عمر على عثمان - رضي الله عنهم - عندما تأخَّرَ عن التكبير لصلاة الجمعة، وعندما تركَ الغُسْلَ لها: «فيه ... الإنكار على مخالف السنَّة، وإن كان كبير القدر». اهـ. وقال عليه الحافظ في «الفتح» (¬3): «وفي هذا الحديث من الفوائد ... وإنكار الإمام على من أخلَّ بالفضل وإن كان عظيم المحلّ، ومواجهتُهُ بالإنكار ليرتدعَ مَنْ هو دونه بذلك». اهـ. وقال الحافظ - أيضا - في معرض المناقشة: «الإنكار قد يقع على ترك السُّنَّة». اهـ (¬4). * * * ¬

(¬1) 1/ 194، ط 1 المنار، عام 1348 هـ. (¬2) 6/ 134 ط الحلبي. (¬3) 2/ 360. (¬4) الفتح 2/ 210.

فصل في ذكر الأحاديث والآثار التي تتضمن اللوم والإنكار على من ترك سنة

فصل وقد وردت أحاديث وآثار تتضمَّن اللوم والإنكار على من ترك سُنَّة، نذكر طرفاً منها، وكلام أهل العلم عليها: فمن ذلك ما رواه مسلم في «صحيحه» (¬1) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في أصحابه تأخراً - وفي رواية له «رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً في مؤَخَّر المسجد» - فقال لهم: «تقدَّموا، فائتموا بي، وليأتم بكم مَنْ بعدكم؛ لا يزال قوم يتأَخَّرون حتى يؤخِّرهم الله». قال النووي في «شرحه»: «حتى يؤخرهم الله تعالى عن رحمته، أو عظيم فضله، ورفْع المنزلة، وعن العلم، ونحو ذلك». اهـ. وقال ابن علان في «دليل الفالحين» (¬2): «[لا يزال قومٌ يتأخرون] أي عن اكتساب الفضائل، واجتناب الرذائل [حتى يؤخرهم الله] عن رحمته، وعظيم ثوابه، وفضله، ورفيع ¬

(¬1) 4/ 158. (¬2) 3/ 583.

منزلةِ أهل قربه، حتى يكون عاقبة أمرهم النار، كما جاء في رواية».اهـ. والرواية التي أشار إليها، هي ما رواه عبد الرزاق في المصنف «2/ 52» قال: أخبرنا عكرمة بن عمَّار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال قومٌ يتخلفون عن الصفِّ الأول حتى يخلِّفَهُمُ الله في النار». وأخرجه من طريق عبد الرزاق: أبو داود في سننه «1/ 438» - وبوّب عليه: باب كراهية التأخُر عن الصفِّ الأول -، وابنُ خزيمة في صحيحه (3/ 27) - وبوَّب عليه: باب التغليظ في التخلُّف عن الصف الأول -، وابنُ حبان في صحيحه «5/ 529 / الإحسان» وغيرهم. وإسناده ضعيف، عكرمة بن عمَّار اليَمَامي مضعَّفٌ في روايته عن يحيى بن أبي كثير عند الأئمة. ومنها ما رواه البخاري في صحيحه - باب إثم من لم يتم الصفوف - عن أنس - رضي الله عنه - أنه قدم المدينة، فقيل له: ما أنكرتَ مِنَّا منذ يوم عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: «ما أنكرت شيئاً إلا أنكم لا تقيمون الصفوف». والاحتجاج بهذا الحديث على ما نحن فيه ينبني على قولِ من قال: إن تسوية الصفوفِ مستحبَّة لا واجبةٌ. قال الحافظ في «الفتح» (¬1): ¬

(¬1) 2/ 209 (الفتح).

«ونازعَ - ابن حزمٍ - من ادعى الإجماع على عدم الوجوب بما صح عن عمر أنه ضرب قدم أبي عثمان النهدي لإقامة الصفّ، وبما صحَّ عن سويد بن غفلة قال: «كان بلال يسوي مناكبنا، ويضرب أقدامنا في الصلاة»، فقال: ما كان عمر وبلالُ يضربانِ أحداً على تركِ غير الواجب، وفيه نظر، لجواز أنهما كانا يريان التَّعْزِيْرَ على تركِ السُّنةِ». اهـ. وقال الحافظ - أيضاً - على حديث أنسٍ مرفوعاً: «سوُّوا صفوفكم، فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة»: «واستدلَّ ابن حزم (¬1) بقوله: «إقامة الصلاة» على وجوب تسوية الصفوف قال: لأن إقامة الصلاة واجبةٌ، وكل شيء من الواجب واجبٌ. ولا يخفى ما فيه، ولا سيما وقد بيّنا أن الرواة لم يتفقوا على هذه العبارة. وتمسَّك ابن بطّال بظاهر لفظ أبي هريرة: (فإن إقامة الصف من حُسْنِ الصلاة» فاستدلّ به على أنَّ التسويةَ سنَّة، قال: لأن حُسْنَ الشَيءِ زيادة على تمامه. وأُورِدَ عليه رواية «من تمام الصلاة». وأجاب ابنُ دقيق العيد، فقال: قد يؤخذ من قوله: «تمام الصلاة» الاستحباب، لأنَّ تمام الشيء في العرفِ أمرٌ زائدٌ على حقيقته التي لا يتحقَّق إِلا بها، وإن كان يطلق بحسب الوضع على بعض ما لا تتمُّ ¬

(¬1) ينظر (المحلَى) 4/ 75، ط مكتبة الجمهورية العربية.

الحقيقةُ إلا به. كذا قال!! وهذا الأخذ بعيدٌ، لأن لفظ الشارع لا يحمل إلا على ما دلّ عليه الوضع في اللسانِ العربي، وإنما يحمل على العرف إذا ثبت أنه عُرْف الشارع، لا العرف الحادث. اهـ (¬1). أما حديث: «لتسوُّنَّ صفوفكم أو ليخالفنَّ اللهُ بين وجوهكم». فقد اختلف في هذا الوعيد هل يحمل على الحقيقة أم المجاز؟ فمن حَمَلَهُ على الحقيقة لزمه القول بالوجوب» (¬2). هذا وقد حكى ابن رشد الإجماعَ على عدم الوجوب، فقال في «بداية المجتهد» (¬3): «أجمع العلماء على أنَّ الصفَّ الأول مُرَغَّبٌ فيه، وكذلك: تراص الصفوفِ وتسويتها، لثبوت الأمر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم». اهـ. وعلى كلّ فإن المسألة ليس هذا موضع بسطها؛ إلا أن المقصود بها هنا: أن جماهير الأمَّة يرون سُنِّيَّة تراصِّ الصفوفِ وينكرون على من خالفها. فتحصَّل المراد، وهو: الإنكار على من خالف السنن، عند العلماء. ومن ذلك ما اتفقا عليه من حديث عليَّ بن حُسَيْن، أن حُسَيْن بن عليَّ أخبره، أنَّ عليَّ بن أبي طالب أخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقَه وفاطمةَ بنتُ النبي صلى الله عليه وسلم ليلةً، فقال: «ألا تصليان؟» فقلتُ: يا رسول الله ¬

(¬1) فتح الباري 2/ 209. (¬2) ينظر الفتح 2/ 207. (¬3) 1/ 187، ط دار الكتب الحديثة.

أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلتُ ذلك، ولم يرجعْ إليَّ شيئاً، ثم سمعتُهُ وهو مُوَلٍّ يَضْرِبُ فَخذَه، وهو يقول: {وَكَانَ اَلإِنَسَانُ أَكْثَرَ شَيءٍ جَدَلاً}. وأخرجه النسائي في سننه «3/ 206» باب الترغيب في قيام الليل من طريق ابن إسحاق، حدثني حكيم بن حكيم، عن ابن شهاب، عن علي بن حسين، عن أبيه، عن جده عليّ بن أبي طالب قال: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى فاطمة من الليل فأيقظنا للصلاة، ثم رجع إلى بيته فصلى هَوِيًّا من الليل فلم يسمع لنا حِسًّا فرجع إلينا فأيقظنا، فقال: «قوما فصَليا» قال: فَجَلَسْتُ وأنا أعْرُكُ عيني، وأقول: إِنا واللهِ ما نُصَلِّي إلا ما كتب الله لنا، إنما أنفُسُنا بيد الله، فإن شاء أن يبعثنا بعثنا: قال: فَوَلّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول - ويضربُ بيده على فخِذِهِ -: ما نُصَلِّي إلا ما كَتَبَ الله لنا. {وَكَانَ اَلإِنَسَانُ أَكْثَرَ شَيءٍ جَدَلاً}. وقد اختلف أهل العلم في قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا، هل هو إنكاراً على عليّ - رضي الله عنه - أو تعجب من سرعة جوابه ... ، أو تسليم لعذرهما وأنه لا عتب عليهما. والراجح - والله أعلم - ما اختاره العلامة السندي في «حاشيته على سنن النسائي» حيث قال على قوله: وهو يقول: {وَكَانَ اَلإِنَسَانُ أَكْثَرَ شَيءٍ جَدَلاً}. «إنكارٌ لجدل عليّ، لأنه تمسَّك بالتقدير والمشيئة في مقابلة

التكليف وهو مردودٌ، ولا يتأتى إلا عن كثرة جدله. نعَم: التكليف ههنا ندبي لا وجوبي، فلذلك انصرف عنهم وقال ذلك. ولو كان وجوبياً لما تركهم على حالهم، والله تعالى أعلم». اهـ (¬1). * * * ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده (2/ 463)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما قعد قومٌ مقعداً لا يذكرون الله عز وجل ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة وإن دخلوا الجنة للثواب». وهو في سنن أبي داود (5/ 180) بلفظ: «ما من قومٍ يقومون من مجلسٍ لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان لهم حسرة». وفي سنن أبي داود - أيضاً - بلفظ: «من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، ومن اضطجع مضطجعاً لا يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة». قال الهيثمي في المجمع «10/ 79» عن إسناد الإمام أحمد: «رجاله رجال الصحيح». اهـ. وقال النووي في الأذكار «ص: 255»، عن إسناد أبي داود للفظ ¬

(¬1) حاشية السندي 1/ 239، ط الميمنية - بهامش السنن - عام 1312 هـ. وينظر الخلاف في: شرح النووي على مسلم (6/ 65)، وفتح الباري (3/ 11).

الأول: «إسناده صحيح». اهـ. وقد أخرجه الترمذي في سننه «5/ 461» من طريق سفيان، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما جلس قومٌ مجلساً لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم تِرَة، فإن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم». قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح». اهـ. وقال الحاكم «1/ 496» «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وصالح ليس بالساقط». اهـ. فتعقبه الذهبي، وقال: «قلت: صالحٌ ضعيف». اهـ. وهو قد اختلط، ورواية سفيان الثوري عنه بعد الاختلاط، كما نص على ذلك ابن معين، وغيره. ومما يَدُلُّ على أنه لم يتقن لفظ هذا الحديث أن الإمام أحمد رواه من طريق ابن أبي ذئب، عن صالح، عن أبي هريرة، بلفظ: «ما جلس قومٌ مجلساً لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليه ترة» «2/ 453». وابن أبي ذئب سمع من صالحٍ قبل أن يُخرِّف، قاله ابن معين. وقال الجوزجاني: «سماع ابن أبي ذئبٍ منه قديم». اهـ (¬1). ¬

(¬1) ميزان الاعتدال (2/ 303).

ورواه الإمام أحمد أيضاً «2/ 495» من طريق زياد بن سعد أن صالحاً مولى التوأمة أخبره، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قعد القوم في المجلس، ثم قاموا ولم يذكروا الله فيه كانت عليهم فيه حسرة يوم القيامة». وزياد قد سمع من صالح قبل الاختلاط نص على ذلك ابن عدي (¬1). فجعل الأحاديث السابقة مقوِّيةً لحديث صالح هذا بهذا اللفظ: لا يصحُّ، لأننا - حسب اطلاعنا - أدركنا أنه لم يتقن اللفظ. فإن تبَّين أنه قد أتقن فالحديث لا يدلُّ على الوجوب، فقد قال ابن علان في «شرح الأذكار» (¬2) عند قوله في الحديث: «فإن شاء عذَّبهم»: أي على ذنوبهم الماضية، لا على ترك الذكر، فإنه ليس بمعصيةٍ، كذا في «الحرز». وقيل: إنه على سبيل الزجر والتهديد، إذ لله أن يعذب من غير ذنبٍ، فكيف وتفويتُ ذكره، والصلاة على أفضل خلقه، بالكلمات التي تجري في المجالس الموجبة للعقوبة غالباً في غايةٍ من التفريط والاستهتار بجانب الحق سبحانه ورسولِهِ صلى الله عليه وسلم. فعُلِمَ أن ذلك المجلس لما كان مظنَّة للذنب نزل ما وقع فيها منزلةَ الذنب، فهُدِّدوا بذلك تنفيراً للناسِ عن خلوَّ مجالسهم عن أحد الأمرين: الذكر، أو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم». اهـ. ¬

(¬1) الكامل (4/ 1376). (¬2) 6/ 175.

«قال الخطابي في «معالم السنن» (¬1): «أصل الترة: النقص - ومعناها ههنا: التَّبِعَةُ». اهـ. وقال النووي: «ترة» أي نقص، وقيل: تبعة، ويجوز أن يكون حسرة، كما في الرواية الأخرى». اهـ (¬2). * * * ومن ذلك ما اتفقا عليه من حديث أبي هريرة، قال: بينما عمر بن الخطاب يخطب الناس يوم الجمعة إذْ دخل عثمان بن عفان، فعَرَّض به عمر، فقال: ما بالُ رجالٍ يتأخَّرُوْنَ بعد النِّداء! فقال عثمان: يا أمير المؤمنين؛ ما زدْتُ حين سمعتُ النِّداء أنْ توضأتُ، ثم أَقْبَلتُ، فقال عمر: والوضوء أيضاً! ألم تسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل». هذا لفظ مسلم. وقد تقدم ذكر كلام النووي وابن حجر على الحديث، حيثُ استنبطوا منه: الإنكار على مخالف السنَّة، وإن كان كبير القدر (¬3). قال الحافظ: «واستُدِل به على أنَّ غُسْل الجمعة واجبٌ؛ لقطع عمر الخطبةَ، وإنكاره على عثمان تركه. ¬

(¬1) 7/ 201. (¬2) الأذكار - مع الشرح - 6/ 75. (¬3) انظر ص: 66 من هذه الرسالة.

وهو متعقب: لأنه أنكر عليه تركِ السُّنَّة المذكورة، وهي: التبكير إلى الجمعة، فيكون الغسل كذلك». اهـ (¬1). * * * ومن ذلك ما رواه سعيد بن منصور في «سننه»، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: «ما أصبح رجلٌ علي غير وترٍ إلا أصبح على رأسه جريرٌ، قَدْرَ سبعين ذراعاً». قال الحافظ في «الفتح» (¬2). «إسناده جيد». اهـ. والجرير: حَبْلٌ من أَدَمٍ نحو الزِّمام، قاله ابن الأثير في «النهاية» 1/ 259. * * * ¬

(¬1) الفتح 2/ 360. (¬2) 3/ 25.

فصل في مناقشة قول ابن حزم: إنه لا يلحق تارك السنن لوم ولا عتاب

فصل وقد ذهب ابن حزمٍ إلى إنكار ما تقدم من لحوق اللومِ والعتاب على من ترك السنن. قال في «المحلى» (¬1) على قول الإمام مالك في الوتر: «ليس فرضاً، ولكن من تركه أُدِّبَ، وكانت جُرْحةً في شهادته». قال أبو محمد: «وهو خطأٌ بيِّن، لأنه لا يخلو تاركه أن يكون عاصياً لله عز وجل أو غير عاصٍ؛ فإن كان عاصياً لله تعالى فلا يعصي أحد بترك ما لا يلزمه وليس فرضاً؛ فالوتر إذن فرضٌ، وهو لا يقول بهذا. وإنْ قال: بل هو غير عاصٍ لله تعالى. قيل: فمن الباطلِ أنْ يُودَّبَ من لم يعصِ الله تعالى، أو أن تجرح شهادة مَنْ ليس عاصياً لله عز وجل؛ لأن من لم يعصِ الله عز وجل فقد أحسن، والله يقول: {مَا عَلَى اُلمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ}. اهـ. وقد استدل ابن حزم على هذا بما أخرجه من طريق مسلم بن الحجَّاج، ثنا قتيبة بن سعيد، عن مالك بن سعيد، عن مالك بن أنس، عن أبي سهيل بن ¬

(¬1) 2/ 314.

مالك، عن أبيه، أنه سمع طلحة بن عبيد الله يقول: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يسأل عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم» «خمس صلواتٍ في اليوم والليلة» قال: هل عليَّ غيرهن؟ قال: «لا إلا أن تتطوع ...»، وذكر باقي الحديث: فأدبر الرجل، وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفلح إن صدق». وقد اتفق الشيخان على إخراجه من طريق مالكٍ. وأخرجه البخاري في كتاب الصيام من صحيحه، من طريق إسماعيل بن جعفر، عن أبي سهيل، عن أبيه، عن طلحة بن عبيد الله، به، وفيه: قال: فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام، قال: والذي أكرمك بالحقِّ لا أتطوَّع شيئا ولا أنقص مما فرض الله عليَّ شيئاً ... قال ابن حزمٍ: «وهذا نص من رسول الله صلى الله عليه وسلم على قولنا، وأنه ليس إلا واجب أو تطوُّع، فإن ما عدا الخمس فهو تطوُّع؛ وهذا لا يسع أحداً خلافه». اهـ. وقد جعل ضابط الواجبِ: بأن مَنْ تركه عامداً كان عاصياً لله تعالى. والتطوُّع: ما إن تركه المرء عامداً لم يكن عاصياً لله تعالى. أقول: إن مما لا ريب فيه أن مَنْ أتى بهذه الفرائض كما أمره الله تعالى، تامَّةَ الأركان والشروط والواجبات: فهو مفلحٌ إن شاء الله تعالى، داخلٌ الجنَّةَ. إلا أن هذا ليس مانعاً من إلحاق اللوم به، كما تقدم في حديث

أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما قعد قومٌ مقعداً لا يذكرون الله عز وجل ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان عليهم حسرةً يوم القيامة وإن دخلوا الجنة للثواب». ولذا قال النووي - رحمه الله - في «شرح مسلم» (¬1) على هذا الحديث: «ويحتمل أنه أراد أنه لا يصلي النافلة، مع أنه لا يخِلٌّ بشيءٍ من الفرائض، وهذا مفلح بلا شك وإن كانت مواظبته على تركِ السنن مذمومةً وتردُّ بها الشهادة، إلا أنه ليس بعاصٍ، بل هو مفلحٌ ناجٍ، والله أعلم». اهـ. ولهذا فإن ابن عمر لما كان محافظاً على الفرائض تاركاً لقيام الليل حُذِّر في منامه، حيث رأى أن ملكين أخذاه فذهبا به إلى النار، قال: فإذا هي مطويَّة كطيَّ البئر، وإذا لها قرنان، وإذا فيها أناسٌ قد عرفتهم، فجعلتُ أقول: أعوذ بالله من النار، قال: فلقينا مَلَكٌ آخر، فقال لي: لَمْ تُرَعْ. فقصصتُها على حفصة، فقصتها حفصةُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «نِعْمَ الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل»، فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلاً. وقد بوَّب عليه البخاري في كتاب التهجد من «صحيحه»: باب فضل قيام الليل (¬2). ¬

(¬1) 1/ 167. (¬2) (3/ 6 فتح)، ورواه مسلم في فضائل الصحابة (16/ 38 نووي).

قال المهلب: «إنَّما فسَّرها بقيام الليل لأنه لم يَرَ شيئا منه يغفل عنه من الفرائض، فُيذَكَّرُ بالنار، وعَلِمَ مبيته في المسجد، فعبَّرَ ذلك بأنه مُنَبِّهٌ على قيام الليل» (¬1). اهـ. وفي الحديث إيماءٌ إلى أن قيام الليل ينجي من النار. وقد تقدم ذكر بعض الأحاديث، الآثار، وكلام العلماء، في هذا الشأن فأغنى عن إعادته. هذا وقد تعدَّدت مناهج العلماء في الإجابة عن حديث الأعرابي، وكلها لا تخلو من نقدٍ. وعندي أن أولاها بالتأمل - فيما يتعلَّق بترك النوافل فقط - ما ذكره الشيخ محمد أنور الكشميري في «شرحه لصحيح البخاري» (¬2) حيث قال: «والوجه عندي: أن هذا الرجل جاء إلى صاحب الشريعة، واسترخص منه بلا واسطة، فَرَخَّص له الشارع خاصةً «في ترك النفل» فيصير مستثنى من القواعد العامة، كما في الأضحية: «ولا تجزيء عن أحد بعدك». وهذا بابٌ يعلمه أهل العرفِ، فلا أثر له على القانون العام». اهـ. ¬

(¬1) دليل الفالحين لابن علان 3/ 652. (¬2) فيض الباري على صحيح البخاري 1/ 138 بواسطة نقل مؤلف (الحكم التكليفي) ص: 178.

وهذا التخصيص إنما لَجَأَ إليه: توفيقاً بين النصوصِ الآمرة بالتمسك بالسنن، والحاثَّةِ على العمل بها، وبين هذا النصّ القاضي ظاهُره: بأن لأفرادِ الأمةِ أن يعقدوا العزم على ترك السنن مطلقاً إذا حافظوا على الفرائض، وهذا - والله أعلم - يتنافى مع حث الشارع على السنن، وترغيبه فيها ... فوجب حمله على الخصوصية. أما ما ذكره ابن حزم عن سعيد بن جبير أنه سئل عن من لم يوتر حتى أصبح؟ قال: سيوتر يوماً آخر. فيحمل على من تركه المداومة على الترك، أو على أنه لا يرى قضاء الوتر، ثم إنه معارضٌ بإنكار عمر على عثمان ترك سنَّة التكبير إلى الجمعة وهي دون الوتر، فكيف به؟ وأما ما ذكره عن سعيد بن المسيب: أنه سأله رجل عن الوتر؟ فقال سعيد: أوتر النبي صلى الله عليه وسلم، وإن تركت فليس عليك، وصلى الضحى، وإن تركت فليس عليك ... فهذا فيه نفيٌ للوجوب، ولا خلاف فيه عندنا؛ وإنما الكلام في مقام الإنكار واللوم على من داوم على ترك السنن. وأما قول ابن حزم - بعد إيرادِ قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو: «يا عبد الله لا تكن مثل فلانٍ كان يقوم من الليل فترك قيام الليل»، وقوله عليه السلام لحفصة عن أخيها عبد الله بن عمر - رضي الله عن جميعهم -: «نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل» -: إنَّ هذه الأوامر كلها ندبٌ، لا يجوز غير ذلك». اهـ.

فهو كذلك، ولكنَّ ابن عُمَرَ خُوِّف - في المنام - على تركه هذا المندوب بالنار، وذمَّ النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي ترك قيام الليل، حيث نهى عبد الله بن عمرو أن يكون مثله (¬1). ففي هذا دلالة على ذمَّ تارك السّنَّة، من غير لحوقِ إثمً عليه. وفي المصنف لابن أبي شيبة «1/ 244» في باب من يقول إذا ركعت فضع يديك على ركبتيك من أبواب الصلاة، أن سعد بن أبي وقاصٍ ضَرَبَ يَدَ ابنِه مصعب لَمّا جعل يديه بين ركبتيه في الركوع، وقال: «كنا نفعل هذا ثم أمرنا بالركب». وفيه في باب من كان يطبق يديه بين فخذيه: أن عبد الله بن مسعود ضَرَبَ يد الأسود لما وضعها على ركبتيه. وليس وضع اليدين على الركبتين، ولا بينهما من واجبات الصلاة، وقد ضَرَبَ ابنُ مسعود وسعدٌ على ذلك إنكاراً على من خالف السنَّة (¬2). فثبت بذلك أن تارك السنن يعاتب ويلام، والله تعالى أعلم. ¬

(¬1) وقع في فهارس مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (37/ 72) ما نصه: (لو ترك الرجل قيام الليل لم يكن مبتدعاً، ولا مستحقاً للذم والعقاب). اهـ. وبالرجوع إلى المحال عليه، وهو (23/ 95) تبين أن العنوان غير مطابق لمضمون الكلام: (بل لو ترك الرجل ما هو أثبت منها كتطويل قيام الليل كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يطوله ... لم يكن خارجاً عن السنةَّ، ولا مبتدعاً، ولا مستحقاَّ للذم). اهـ. (¬2) والصحيح ما ذهب إليه سعدٌ، لثبوت نسخ التطبيق، وإنكار كل واحدٍ منهما باعتبار ما يعتقد سنيته.

وقد ذكر الشاطبي في «الاعتصام» (¬1): عن أبي محمد عبد الله بن منازل، أنه قال: «لم يُضَيِّع أحدٌ فريضة من الفرائضِ إلا ابتلاه الله بتضييع السُّنَنِ، ولم يُبْتَلَ بتضييعِ السُّنَنِ أحدٌ إلا يوشك أن يبتلى بالبدع». اهـ. وفي «سير إعلام النبلاء» (¬2) في ترجمة إبراهيم بن يزيد التيمي أنه قال: «إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى فاغْسِلْ يدَك منه». * * * ¬

(¬1) 1/ 130 ط دار ابن عفان. (¬2) 5/ 62 ط مؤسسة الرسالة.

فصل في قواعد للتعامل مع السنة

فصل في قواعد للتعامل مع السنَّة القاعدة الأولى: يُعْمَلُ بالسنَّةِ ولو هجرها الناس كثيراً ما يحصل عند بعض المحبين للسنَّةِ تَردُّد في إحياءِ سُنَّةٍ لا وجود لها في مجتمعه، يدفعه إلى ذلك خجل، أو نحو ذلك. ألا فليعلم هؤلاء أنَّ إحياءهم السنَّة في هذه الحالةِ أفضلُ بأضعاف مضاعفة من العَمَلِ بها في مجتمعٍ متمسكٍ بالسنَّة. وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: «إن من ورائكم أيام الصبر، للمتمسك فيهنَّ يومئذٍ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم»، قالوا: يا نبيَّ الله أومنهم؟ قال: «بل منكم». وما أحسن ما قاله الشيخ سليمان بن سحمان في ردِّه على من أنكر سنَّة رفعِ الصوت بالذكر بعد السلام (¬1). «فلو كان كلُّ ما تُرِك من السُّنَنِ القوليَّة والفعليَّة، مما كان على عهد ¬

(¬1) تحقيق الكلام في مشروعية الجهر بالذكر بعد السلام، ص: 62، ط دار العاصمة بالرياض.

رسول الله صلى الله عليه وسلم - مما تَسَاهَل الناس بتركِ العمل به، من الأمور التي يثاب الإنسان على فعلها، ولا يعاقب على تركها - إذا أَخْبَرَ بها مُخْبِرٌ أنها سُنَّةٌ مهجورة غير معمولٍ بها: أن المخبر بذلك مشوشٌ على الناسِ إذا عَمِلَ به ... لانْسدَّ باب العلم، وأُميتت السُّنَن؛ وفي ذلك من المفاسِدِ ما لا يحصيه إلا الله». اهـ. ولقد صدق - رحمه الله - فأي مفسدةٍ أعظم على أهل الإسلام والسنَّةِ من موتِ سُنَّةٍ كانت من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، حتى لا تعلم الأجيال بها، ولو فعلتْ عندهم لأنكروها. وقد روى الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (¬1) أن عبد الله بن الحسن يكثر الجلوس إلى رَبِيْعَةَ، قال: فتذاكروا يوماً السُّنَن، فقال رجلٍ كان في المجلس: ليس العَمَلُ على هذا. فقال عبد الله: أرأيت إن كَثُرَ الجُهَّال حتى يكونوا هم الحكام أَفَهُم الحجَّة على السنُّةِ؟! فقال ربيعةُ: أشهد أنَّ هذا كلامُ أبناء الأنبياء. اهـ. وما موت السنَّة إلا علامةُ ظهور البدع وفشوّها، كما قال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -: «ما يأتي على الناس من عامٍ إلا أحدثوا فيه بدعة، وأماتوا فيه سنَّة، حتى تحيا البدعُ وتموت السنن». رواه ابن وضاح في «البدع والنهي عنها» (¬2). ¬

(¬1) 1/ 146. (¬2) ص: 38 - 39، وأخرجه الطبراني في الكبير (10610)، وقال الهيثمي (1/ 188) رجاله موثقون.

وترك السنن يفضي إلى عدم معرفتها، كما هو مشاهدٌ، وقد قال شيخ الإسلام: «يجوز ترك المستحب من غير أن يجوز اعتقاد تركِ استحبابه؛ ومعرفة استحبابه فرضٌ على الكفاية؛ لئلا يضيع شيءٌ من الدين». اهـ (¬1). ورحم الله ابنَ القيم إذْ يقول: «ولو تركتِ السُّنَنُ لِلعَمَلِ لتعطَّلَت سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودرسَتُ رسومها وعفتْ آثارها. وكم من عملٍ قد اطرد بخلاف السنَّة الصريحة على تقادم الزمان، وإلى الآن. وكل وقتٍ تتركُ سنَّة، ويعمل بخلافها، ويستمرُّ عليها العمل، فتجد يسيراً من السنَّة معمولاً به على نوع تقصير. وخُذُ ما شاء الله من سُنَنٍ قد أُهملتْ، وعُطِّلَ العَمَلُ بها جملة فلو عمل بها مَنْ يعرفها لقال الناس: تركتِ السنَّة ...» اهـ (¬2). فاللَّه الله يا أَمَّة الإسلام في سنن رسولكم صلى الله عليه وسلم، مَنْ لها سواكم؟ أحيوها جُهْدَكُمْ، وأرشدوا الناسَ إلى العَمَل بها، فهي عنوان المحبّةِ الكاملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلامة المتابعة الصادقة له صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى 4/ 436. (¬2) إعلام الموقعين 2/ 395، ط الكليات الأزهرية.

ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شنآن المتعصبين، ولا تهويل المبطلين، ولا حيصة الَعوَامِّ المفْتونين، فإنَ السنَّة اليومَ غريبةٌ، معاولُ الهدمِ تخدشها من كلِّ جانب، فهي اليوم في أشدِّ الحاجة إلى أبنائها المخلصين، الذين يتحملون في سبيلها المشاق، ويؤثرونها على حظوظ أنفسهم، قائدهم في ذلك الرِّفقُ واللين، والمجادلة بالتي هي أحسن، وسيكون التوفيق حليفهم، والعاقبة الحسنى لهم، متى ما أخلصوا النيَّة لله عز وجل، واحتسبوا منه وحده الثواب على هذا العَمَلِ الجسيم. وما أحوجنا هنا أن نُذَكَّرهم بتلك التجربة التي جرتْ على يَدِ الإمام الشاطبي - رحمه الله - عندما عقد العزم على إحياء السنَّة والتجرُّدِ لها وإن خالفها الناس، فتعرض بسببِ ذلك لمقتِ الناس، وإزرائِهم به، واتِّهامِهِ بكلَّ سوء ولكنَّ العاقبة للمتقين: {وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن ينَصُرُهُ إِنَ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}. قال الشاطبي في «الاعتصام» (¬1): «... فتردَّد النظر بين أن أتبعَ السنَّة على شرط مخالفةِ ما اعتاد الناس؛ فلا بُدَّ من حصولِ نحوٍ مما حصل لمخالفي العوائد - لا سيما إذا ادعى أهلُها أن ما هم عليه هو السنَّة لا سواها - إلا أن في ذلك العِبْءِ الثَّقِيْلِ ما فيه من الأجر الجزيل. وَبَيْنَ أن أتّبعهم على شرط مخالفةِ السنَّة والسلف الصالح، فأدخلُ تحت ترجمة الضُّلالِ - عائذاً ¬

(¬1) 1/ 34 - 35.

بالله من ذلك - إلا أني أُوافق المعتادَ، وأُعَدُّ من المؤالفين لا من المخالفين. فرأيتُ أن الهلاكَ في اتباع السنَّةِ هو النجاة، وأنّ الناس لن يغنوا عني من الله شيئاً ...». اهـ. * * *

القاعدة الثانية: تبين السنة ولا يخاصم عليها

القاعدة الثانية: تُبيَّن السُنَّةُ ولا يخاصم عليها والمقصود بالمخاصمةِ الجَدَلُ المورث للضغائن، ولاشَكَّ أن هذا الجدلَ عقابٌ من الله تعالى، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه: «ما ضلَّ قومٌ بعد ...... ى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل» رواه أحمد وغيره عن أبي أمامة، وقد كثرت عبارات الأئمة في التحذير من الجدلِ وبيانِ آفاته، حتى قال الإمام مالك - رحمه الله -: «الجدال في الدين ينشِّىءُ المِراءَ، ويذهب بنور العلم من القلب، ويُقَسِّي، ويورث الضَّغْنَ» (¬1). فعلى طالب الهدى أن يبيِّن للناسِ السُّنَّةَ، ويقيم عليها الحجج، ويتخذ في سبيل ذلك: أسلوب الإقناع، فإن لم يقبل منه «فما على الرسول إلا البلاغ المبين». وقد قال الإمام أحمد - رحمه الله -: «أخبر بالسُّنَّةِ، ولا تخاصم عليها» (¬2). وقال الهيثم بن جميل، قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله، ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء 8/ 106، ونحوه عن الشافعي، كما في السير (10/ 28). (¬2) طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى 1/ 236، ط الشيخ محمد حامد الفقي، وينظر كلام الشيخ سليمان بن سمحان في (تحقيق الكلام) ص: 51.

الرجل يكون عالماً بالسُّنَّة؛ أيجادل عنها؟ قال: «لا، ولكن يخبر بالسنَّة، فإن قبلتْ منه وإلا سكت». اهـ (¬1). وهذا كلُّه في المخاصمة المذمومة، التي تنشأ عنها المفاسِدُ، حتى تتلاشى المصلحة في جنبها. أما المجادلة بالتي هي أحسن، وهي: ما كان الحق فيها هدفاً للطرفين، ولم تشتمل على ما يخرجها عن هذا المقصد: فَنِعِمَّا هي، تُبِيْنَ الحقَّ، وتهدي السبيل، وترشد إلى مواطن الصواب (¬2). وإذا حصلتِ المناظرة فحذار أن تكون سبباً للشقاق والنزاع، والعداوة بين الإخوان، وقلَّ أن تخلو مناظرة من هذا، نسأل الله العافية والسلامة. قال يونس الصَّفدي: «ما رأيتُ أعقلَ من الشافعيّ، ناظرتُهُ يوماً في مسألةٍ ثم افترقنا، ولقيني فأخَذَ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإنْ لم نَتَّفِق في مسألةٍ؟». قال الذهبي تعليقاً على هذه الحادثة: «قلتُ: هذا يدلُّ على كمال عقلِ هذا الإمام، وفقهِ نَفْسِهِ، فما زال النُّظَراءُ يختلفون». اهـ (¬3). ¬

(¬1) جامع بيان العلم وفضله 2/ 94. (¬2) وانظر لآداب المناظرة كتاب الخطيب البغدادي (الفقيه والمتفقه)، ص: 222، ط الامتياز. (¬3) سير أعلام النبلاء 10/ 16 - 17.

وأخرج ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (¬1): «عن العباس بن عبد العظيم العنبري: قال: كنت عند أحمد بن حنبل، وجاءه علي بن المديني راكباً على دابة؛ قال: فتناظرا في الشهادة، وارتفعت أصواتهما، حتى خفت أن يقع بينهما جفاء، وكان أحمد يرى الشهادة، وعليُّ يأبى ويدفعُ؛ فلمّا أراد عليُّ الانصراف: قام أحمد، فأخذ بركابِهِ». اهـ. قال شيخ الإسلام: «وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ...} الآية. وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورةٍ ومناصحةٍ، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وإخوة الدين. نعم: من خالف الكتاب المستبين، والسنَّة المستفيضة، وما أجمع عليه سلف الأمة خلافاً لا يعذر فيه: فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع». اهـ (¬2). وقد نعى شيخ الإسلام - رحمه الله - على أولئك الذين يتعصبون لما يرونه من السنن الاجتهادية ويعادون مَنْ خالفهم فيها، فقال: ¬

(¬1) 2/ 107، ط المنيرية. (¬2) مجموع الفتاوى 24/ 172.

«وأما التعصُّب لهذه المسائل ونحوها فمن شعائر الفرقة والاختلاف الذي نهينا عنه؛ إذ الداعي لذلك هو ترجيحُ الشعائِر المفترقةِ بين الأمة، وإلا فهذه المسائل من أخفّ مسائل الخلاف جداً، لولا ما يدعو إليه الشيطان من إظهار شعار الفرقة». اهـ (¬1). * * * ¬

(¬1) المصدر السابق 22/ 405.

القاعدة الثالثة: الموازنة بين المصالح والمفاسد

القاعدة الثالثة: الموازنة بين المصالح والمفاسد القاعدة الشرعية؛ أنه «إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما». ونظيرها: «درء المفاسد أولى من جلب المصالح». فإذا تعارضت مفسدةٌ ومصلحةٌ قُدِّمَ دفع المفسدة غالباً «إلاَّ أن تكون المفسدةُ مغلوبةً» لأن اعتناء الشارع بالمنهياتِ أشدُّ من اعتنائه بالمأمورات (¬1). وأدلة هذه القاعدة في الشريعة كثيرة. منها ما اتفق عليه الشيخان - واللفظ لمسلم - من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجَدْرِ؟ أَمِنَ البيت هو؟ قال: «نعم»، قلتُ: فلم لم يُدْخلوهُ في البيت؟ قال: «إن قومكِ قَصَّرَتْ بهمُ النفقة»، قلتُ: فما شأنُ بابِهِ مرتفعاً؟ قال: «فَعَلَ ذلك قومُكِ ليُدخْلوا من شاؤُوا، ويمنعوا من شاؤوا؛ ولولا أنَّ قومك حديثٌ عهدُهُمْ في الجاهليَّةِ فأخاف أن تنكِرَ قلوبُهُمْ: لنظرتُ أن أُدخل الجَدْرَ في البيت، ¬

(¬1) الأشباه والنظائر للسيوطي (ص: 87)، ط الحلبي، 1378 هـ.

وأن أُلزق بابَهُ بالأرض» (¬1). وقد بوَّب البخاري على حديث عائشة، فقال: «باب ترك بعض الاختيار مخافةً أن يَقْصُرَ فهم بعضِ الناس عنه فيقعوا في أشدَّ منه». اهـ. قال الحافظ في «الفتح»: «ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة». اهـ. قال شيخ الإسلام في مَعْرِضِ ذكر بعض المستحبات: «ويسْتَحَبُّ للرجل أن يَقصِدَ إلى تأليف القلوب بتركِ هذه المستحبات، لأن مصلحة التأليفِ في الدينِ أعظمُ من مصلحة فعل مثل هذا. كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تَغْيِيرَ بناءِ البيت لِمَا في إبقائهِ من تأليفِ القلوب، وكما أنكر ابنُ مسعودٍ على عثمانَ إتمامَ الصلاة في السَّفر، ثم صَلّى خَلْفَهُ مُتمًّا، وقال: الخلافُ شَرٌّ». اهـ (¬2). وقال - رحمه الله - في موضعٍ آخر: «فالعمل الواحد يكون فعله مستحباً تارة، وتركه تارة، باعتبار ما يترجح من مصلحة فعله وتركه، بحسب الأدلة الشرعية. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في العلم (1/ 224) وفي الحج، وفي الأنبياء، وفي التفسير، وفي التمني، ومسلم (2/ 968 - 973) من كتاب الحج. (¬2) (1/ 224). مجموع الفتاوى 22/ 407.

والمسلم قد يترك المستحب إذا كان في فعله فسادٌ راجحٌ على مصلحته، كما تركَ النبي صلى الله عليه وسلم بناء البيت على قواعد إبراهيم ... فتركَ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر الذي كان عنده أفضل الأمرين للمعارض الراجح، وهو: حِدْثَانُ عهدِ قريش بالإسلام، لما في ذلك من التنفير لهم، فكانت المفسدة راجحة على المصلحة. ولذلك استحب الأئمةُ: أحمد وغيرُه: أن يدع الإمام ما هو عنده أفضل إذا كان فيه تأليف المأمومين، مثل أن يكون عنده فصل الوتر أفضل بأن يُسَلِّم في الشفعِ ثم يصلي ركعةَ الوترِ، وهو يؤمُّ قوماً لا يرون إلا وَصْلَ الوتر، فإذا لم يمكنْهُ أن يتقدَّمَ إلى الأفضل كانت المصلحة الحاصلة بموافقتِهِ لهم بوصلِ الوترِ أرجح من مصلحة فَصْلِهِ مع كراهتهم للصلاة خَلْفَهُ. وكذلك لو كان ممن يرى المخافتَةَ بالبَسْمَلَةِ أفضلَ أو الجهرَ بها، وكان المأمومون على خلاف رأيه، ففعل المفضول عنده لمصلحةِ الموافقةِ والتأليف التي هي راجحةٌ على مصلحة تلك الفضيلة كان جائزاً حسناً». اهـ (¬1). وكل ما قَرَّرْتُهُ تحت هذه القاعدة، لا ينفي ما سبق بيانُه من العناية بالسنَّة، والحرص عليها. فإن هذه القاعدة إنما سيقت لأمرٍ عارضٍ، لا أن تُقْتَلَ السنَّةُ، وتدفَنَ من أَجْلِهَا. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى 24/ 195 - 196.

فإذا ما تَمَسَّكَ بها من يرى أن السنَّة عائقٌ من عوائِق تصحيح المسار - باعتبار أنها جالبةٌ للخلاف والنزاع - فإننا نردُّ عليه: بأنَّ تركَ السنَّةِ بالكلِّيةِ مفسدةٌ عظيمةٌ، بها يَضِيْعُ شيءٌ من شرع الله تعالى، وقد قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: «يجيء قومٌ يتركون من السنَّة مثل هذا - يعني مِفْصَل الإصبع - فإن تركتموهم جاءوا بالطامة الكبرى، وإنه لم يكن أهلُ كتابٍ قطُّ إلاَّ كان أول ما يتركون السنة، وإن آخر ما يتركون الصلاةَ، ولولا أنهم يَسْتَحْيُوْنَ لتركوا الصلاة». رواه اللالكائي في «شرح اعتقاد أهل الحديث» 1/ 91. إذاً فالمفهوم الصحيح للقاعدة: أنه إذا ترتب على إظهار سنَّة من السنُّنِ مفسدةٌ راجحة على مصلحةِ إظهار السنَّةِ، فَيُكَفُّ عن السُّنَّةِ في هذا الموطنِ، مع مراعاة ما يلي: أولاً: وجوب المناصحة، والتذكيرِ بعظم السنَّةِ، وكبير مكانها. ثانياً: ألا تتركَ السنَّة إلى الأَبد. ثالثاً: إذا عُلِمَ من حالِ المشوِّشِ على إقامةِ السنَّة، أنه إنما دفعها رغبةً عنها، إما تعصباً لمذهب، أو اتباعاً لمنهجٍ، فإِنَّ السنة تقام - وإن رَغِمَ أَنْفُه وأنفُ ألفٍ مثله - لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قال: «... ومن رغب عن سنَّتي فليس مني». والمصلحة الكبرى التي كُنَّا نريد إبقاءها، إنما هي: المودَّة بين أهل السنَّة، وتلافي وقوع البغضاء والعداوة بينهم، فلما كان هذا الرجل

أو هذه الجماعة راغبين عن السنَّة، سقطت مودَّتهم، ووجب هجرهم وكراهتهم في الله تعالى. وهذا بخلاف من كان جاهلا - ككثير من العامة - فإنَّ تِرْكَ السنَّةِ درءاً لجهله على القائم بها، أو الوقوع في شيءٍ من محظورات الألفاظ، أمرٌ مطلوب، حتى يُعَلَّم برفق ويستعان عليهِ بمن يَثقُ به من أهل العلم، فإن أصرَّ بعد ذلك؛ فألحقه بإخوانه السابقين، أهل البدع. * * *

القاعدة الرابعة: هل في المسائل الاجتهادية إنكار؟

القاعدة الرابعة: هل في المسائل الاجتهادية إنكارٌ؟ الكلام على مثل هذه القضية يحتاج إلى مؤلَّفٍ مستقلٍّ، إلاَّ أننا هنا نختصر قدر ما يحصلُ به البيان، فنقول: يخطئ كثير من الناسِ حينما يعتقدون أنَّ مسائِلَ الخلافِ هي مسائل الاجتهاد، ولذا وقعوا في مزلقٍ خطيرٍ حيث قالوا: «إن مسائل الخلافِ لا إنكار فيها». وهذا باطل من القولِ، يلزم عليه من اللوازم الفاسدة ما يعطِّلُ جملةٍ كبيرةً من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد أجاد العلامة ابن القيم - رحمه الله - في ردِّ هذه المقولةِ في كتابه «إعلام الموقعين» (¬1) حيث قال: وقولهم: «إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها» ليس بصحيح، فإن الإنكار إمَّا أن يتوجَّه إلى القولِ والفتوى، أو العمل: أما الأول: فإذا كان القول يخالف سنةً، أو إجماعاً شائعاً: وَجَبَ ¬

(¬1) 3/ 288، وقد نقل العلامة ابنُ مفلح هذا الكلام في كتابه (الآداب الشرعية) 1/ 189 منسوباً إلى شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: (إبطال الحيل)، وعنه السفاريني في كتابه (غذاء الألباب شرح منظومة الآداب) 1/ 219.

إنكارُه اتفاقاً، إن لم يكن كذلك فإنَّ بيان ضعفه ومخالفتِهِ للدليل إنكار مثله. وأما العمل: فإذا كان على خلاف سنة، أو إجماعٍ: وجب إنكاره بحسب درجات الإنكار. وكيف يقول فقيهٌ: لا إنكار في المسائل المختلفِ فيها، والفقهاءُ في سائر الطوائف قد صرَّحوا بنقض حكم الحاكمِ إذا خالفَ كتاباً أو سنَّة وإن كان قد وافق فيه بعض العلماءِ؟ وأمَّا إذا لم يكن في المسألة سنةٌ ولا إجماع، وللاجتهاد فيها مساغٌ: لم تنكرْ على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً. وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائِل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم. والصواب ما عليه الأئمة: أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العَمَل به وجوباً ظاهراً مثل حديثٍ صحيح لا معارض له جنسه فَيَسُوْغُ فيها - إذا عدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العَمَلُ به - الاجْتِهَادُ: لتعارض الأدلَّة، أو لخفاء الأدلة فيها. وليس في قول العالم: «إنَّ هذه المسائل قطعية أو يقينية ولا يسوغ فيها الاجتهاد»، طعن على مَنْ خالفها، ولا نسبة له إلى تعمُّد خلال الصواب. والمسائل التي اختَلَفَ فيها السلفُ والخلفُ وقد تيقنّا صحةَ أحدِ القولين فيها كثير:

مثل كون الحامل تعتد بوضع الحمل، وأن السنة في الركوع وضع اليدين على الركبتين دون التطبيق، وأن رفع اليدين عند الركوع والرفع منه سنة ... إلى أضعافِ أضعافِ ذلك من المسائل. ولهذا صرَّح الأئمة: بنقض حُكمَ مَنْ حَكَمَ بخلافِ كثيرٍ من هذه المسائل، مِنْ غيرِ طعنٍ منهم على من قال بها. وعلى كلِّ حالٍ: فلا عذر عند الله يوم القيامة لمنْ بَلَغَهُ ما في المسألةِ من هذا البابِ وغيرِه من الأحاديث والآثار التي لا معارض لها إذا نَبَذَها وراء ظهرِه، وقلَّدَ من نهاهُ عن تقليده، وقال له: لا يحل لك أن تقول بقولي إذا خالف السنة ...». اهـ كلامه - رحمه الله - وهو في غاية الوضوح والإتقان. وإنَّ من المعلومِ عند أهل العلم: أن المسائل الشرعية قسمان: قسمٌ مجمعٌ عليه. وآخر مختلفٌ فيه: والمختلفُ فيه درجاتٌ، فمنه ما يعود الخلاف فيه إلى اللفظ، ومنه ما يكونُ أحدُ جانبي الخلافِ فيه واضحَ الضَّعفِ والسقوطِ: فلا ريب هنا أنه يجب إنكار القول الضعيف ونقض حكمِ مَنْ حَكَمَ به من القضاة. ومن مسائل الخلاف: تلك المسائل التي تتقارب فيها المدارك وتتكافأ فيها الأدلة، ويكون الحكمُ موكولاً إلى الاستنباطِ من النصِّ الشرعي، وهذا هو المعروف بالمسائل «الاجتهادية» والحكمُ فيها: أ - التناصح بين المختلفين، ويكون بالمناقشات العلمية المثمرةِ للصواب، وبيان وجهَةِ وحجَّةِ كلِّ قولٍ.

ب - إذا لم يَقْنَع أحدُ الجانبين بحجَّة الآخر وجهتِهِ، فلا يكون ذلك داعياً إلى التغليظ والإنكار والفرقة. ج - إذا كان عدم الاقتناع مبنياً على غيرِ حجَّةٍ، كأن يكون لتعصب مذهبي، أو هوى، أو نحو ذلك، فيغلّظ وينكر على صاحبِهِ، إذ العِبْرة في المخالفة بالحُجَّة، لا بسواها. ومن أمثلة هذه المسائل الاجتهادية ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم نادى في أصحابه يوم انْصَرَفَ عن الأحزاب: أنْ لا يُصَلِّيَنَّ أحدٌ الظهرَ إلاَّ في بني قريظة، فتخَّوفَ ناسٌ فوتَ الوقتِ فَصَلُّوا دون بني قريظة، وقال آخرون: لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنْ فاتنا الوقتُ. قال: فما عنَّفَ - أي النبي صلى الله عليه وسلم - واحداً من الفريقين. هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري «العصر» بَدَلَ «الظهر» (¬1). ففي هذا الحديث نرى اختلاف الصحابة - رضي الله عنهم - في فهم النصِّ الذي سمعُوه من النبي صلى الله عليه وسلم، فاكتفى كلُّ فريقٍ بذكر مستنده في توجيه النصِّ ودلالته، فلما لم يقنعْ كلُّ واحدٍ من الفريقين بفهم صاحبه عمل كلُّ واحدٍ منهما بما تبيَّن أنه الحقُّ عنده. ولم يحصل لومٌ ولا تعنيف من بعضهم لبعضٍ، ولا من صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم لهم. وهذا له نظائر كثيرة - في المسائل الاجتهادية - في سير الصحابة وتابعيهم يطول حصرها. ¬

(¬1) البخاري (7/ 407 - فتح) ومسلم (12/ 97 - نووي).

وفي مثل هذه المسائل يقول سفيان الثوري - رحمه الله -: «إذا رأيت الرجل يَعْمَلُ العَمَلَ الذي قد اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تَنْهَهُ» (¬1). اهـ. ويقول يحيى بن سعيد الأنصاري - رحمه الله -: «ما بَرِحَ أُلو الفتوى يفتونَ، فيحلُّ هذا، ويحرِّم هذا، فلا يرى المحرِّم أنَّ المُحِلَّ هَلَكَ لتحلِيْلِهِ، ولا يرى المُحِلُّ أن المُحَرِّمَ هَلَكَ لتحريمه» (¬2).اهـ. وجاء في «كشف الخفا» (¬3): أن الخطيب أخرج في «رواة مالك» عن إسماعيل بن أبي المجالد، قال: قال هارون الرشيد لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله نكتب هذه الكتب - يعني مؤلفات الإمام مالك - ونفرِّقها في آفاق الإسلام لنَحْملَ عليها الأمة؟ قال: يا أمير المؤمنين! إنَّ اختلاف العلماءِ رحمةٌ من اللهِ تعالى على هذه الأمَّةِ، كلٌّ يَتَّبعُ ما صحَّ عنده، وكلٌّ على هدى، وكلٌّ يريد الله تعالى. اهـ. وهذه الكلمات وأمثالها محمولةٌ على المسائل الاجتهادية، لأن واقع مَنْ قالها، وغيرِه من السلفِ: الإنكار على مَنْ أخطأ في الفتوى ¬

(¬1) الفقيه والمتفقه للخطيب 2/ 69 تحقيق إسماعيل الأنصاري. (¬2) جامع بيان العلم وفضلة لابن البر 2/ 80، والبيهقي في (المدخل) كما في (المقاصد الحسنة) ص: 27، ط الخانجي والمثنى. (¬3) 1/ 67 - 68 على حديث (اختلاف أمتي رحمة).

والأحكام، إلا ما كان من المسائل الاجتهاديَّة فيقْتصر على المناقشاتِ والمناصحة. قال ابن القيم - رحمه الله -: «... بل عند فقهاء الحديث: أنَّ مَنْ شَرِبَ النبيذ المُخْتَلَفَ فيه: حُدَّ، وهذا فوقَ الإنكار باللسانِ. بل عند فقهاءِ أهلِ المدينةِ: يَفْسُقُ، ولا تُقْبَلْ شهادتُهُ. وهذا يردُّ قول مَنْ قال: «لا إنكار في المسائل المختلفِ فيها». وهذا خلاف إجماع الأئِمَّةِ، ولا يُعْلَمْ إمامٌ من أئمَّةِ الإسلامِ قال ذلك ...» اهـ. ولنقتصر على مثالٍ واحدٍ مما ذكره ابن القيم - رحمه الله تعالى - في هذا الباب. فقد ذكر أنَّ عبد الله المبارك - رحمة الله - قال: كنت بالكوفةِ، فناظروني في النَّبيْذِ المختلَفِ فيه، فقلت لهم: تعالوا فلْيحتَجَّ المحتجُّ منكم عمَّن شاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالرخصة، فاحتجُّوا فما جاءوا عن أحدٍ برخصةٍ إلا جئناهم بسندٍ، فلما لم يبقَ في يَد أحدٍ منهم إلا عبد الله بن مسعود - وليس احتجاجُهُمْ عنه في شدة النبيذ بشيءٍ يصح عنه، إنما يصحُّ عنه أنه لم ينتَبذْ له في الجرِّ الأخضر - قال ابنُ المبارك: فقلتُ للمحتجِّ عنه في الرخصةِ: يا أحمق، عُدَّ أنَّ ابنَ مسعودٍ لو كان ههنا جالساً فقال: هو لك حلال، وما وصفنا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الشِّدَّةِ كان ينبغي لك أن تحذر وتخشى.

فقال قائل: يا أبا عبد الرحمن: فالنَّخعي، والشَّعبي - وسمَّى عدَّة معهما - كانوا يشربون الحرام؟ فقلتُ لهم: دعوا عند المناظرةِ تسميةَ الرجال، فَرُبَّ رجلٍ في الإسلامِ مناقبه كذا وكذا، وعسى أن تكون منه زلَّة، أفيجوزُ لأحدٍ أن يحتجَّ بها؟ فإن أبيتُمْ فما قولكم في: عطاء وطاووسٍ، وجابر بن زيد، وسعيد بن جبير وعكرمة؟ قالوا: كانوا خياراً. قلتُ: فما قولكم في الدِّرْهم بالدِّرهمين يداً بيدٍ؟ قالوا: حرامٌ. فقلت: إن هؤلاءِ رأوهُ حلالاً، أَفَماتوا وهم يأكلون الحرام؟ فبهتوا وانقطعت حجتهم. اهـ. * * *

القاعدة الخامسة: لا يعمل بما ورد حتى يثبت رواية ودراية

القاعدة الخامسة: لا يُعْمَلُ بما ورد حتى يثبتَ روايةً ودرايةً إذا نُقِلَتْ إلينا سنَّة، فإنَّ الواجب علينا - قبل العمل بها - أمران: الأول: التأكد من صِحَّةِ سندها، إما بإعمال القواعد الحديثة على إسنادها لمن كان أهلا لذلك، وإما بتقليد أحدِ أئمةِ هذا الشأن. قال الشيخ زكريا بن محمد الأنصاري في كتابه «فتح الباقي على ألفية العراقي» (¬1): «طريقُ من أراد الاحتجاج بحديثٍ من السنن أو المسانيد: أنه إن كان متأهلاً لمعرفة ما يُحْتَجُّ به من غيرِهِ فلا يحتجُّ به حتى ينظر في اتصال إسناده، وحال رواته وإلا فإنْ وَجَدَ أحداً من الأئمة صحَّحَهُ أو حَسَّنَهُ فَلَهُ تقليده، وإلاَّ فلا يحتجُّ به». اهـ. فالعَمَلُ بالحديث دليلٌ على الاحتجاج به، ولا سبيل إلى الاحتجاج به إلا إذا عُلِمَ ثبوتُهُ. وأما ما لا يثبتُ فلا يجوز أن يجعل الشيء واجباً أو مستحباً به، كما قال شيخ الإسلام: ¬

(¬1) 1/ 106، ط فاس، عام 1354 هـ.

«ولا يجوز أن يعتمد في الشريعة على الأحاديث الضعيفة التي ليست صحيحةً ولا حسنة. لكنَّ أحمدَ بن حنبل، وغيرَه من العلماءِ جوَّزوا أن يروى في فضائل الأعمال ما لم يُعْلَمْ أنه ثابتٌ، إذا لم يُعْلَمْ أنه كذبٌ. وذلك أن العَمَلَ إذا عُلِمَ أنه مشروعٌ بدليلٍ شرعيّ وروي في فضله حديث لا يعلم أنه كذِبٌ جاز أن يكون الثواب حقاً. ولم يَقُلْ أحدٌ من الأئمة: إنه يجوز أن يجعل الشيء واجباً أو مستحباً بحديثٍ ضعيفٍ، ومن قال هذا فقد خالف الإجماع». اهـ (¬1). قال شيخ الإسلام - أيضًا -: «قول أحمد بن حنبل: إذا جاء الحلال والحرام شدَّدنا فيِ الأسانيد، وإذا جاء الترغيب والترهيب تساهلنا في الأسانيد، وكذلك ما عليه العلماءُ من العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال؛ ليس معناه: إثبات الاستحباب بالحديث الذي لا يحتج به؛ فإن الاستحباب حكمٌ شرعي، فلا يثبتُ إلا بدليلٍ شرعي. ومن أخبر عن الله أنه يحب عملاً من الأعمال من غير دليلٍ شرعي فقد شرع من الدين ما لم يأْذنْ به الله، كما لو أَثبتَ الإيجابَ أو التحريمَ، ولهذا يختلف العلماء في الاستحباب، كما يختلفون في غيره، بل هو أصلُ الدِّين المشروع. وإنما مرادهم بذلك: أن يكون العمل مما قد ثبت أنه مما ¬

(¬1) مجموع الفتاوى 1/ 250 - 251.

يحبُّهُ الله، أو مما يكرهُهُ الله بنصّ أو إجماعٍ، كتلاوة القرآن، والتسبيح، والدعاء، والصدقة، والعتق، والإحسان إلى الناس، وكراهية الكَذبِ، والخيانة، ونحو ذلك. فإذا روي حديثٌ في فضل بعض الأعمال المستحبة وثوابها، وكراهة بعض الأعمال وعقابها: فمقادير الثوابِ والعقاب وأنواعه إذا روى فيه حديثٌ - لا نعلمُ أنه موضوعٌ - جازت روايته، والعمل به؛ بمَعْنَى: أن النفسَ ترجو ذلك الثوابَ، أو تخاف ذلك العقاب ... اهـ (¬1). وقد لخَّص العلامة الألباني - حفظه الله - في مقدَّمة «صحيح الترغيب والترهيب» كلام شيخ الإسلام - هذا - فقال: «ونستطيع أن نستخلِصَ منه أنَّ الحديثَ الضعيف له حالتان: الأولى: أن يَحْمِلَ في طواياه ثواباً لعمل ثبت مشروعيته بدليلٍ شرعي، فهنا يجوز العمل به، بمعنى أن النفس ترجو ذلك الثوابَ، ومثاله عنده: التهليل في السوق بناءً على أن حديثه لم يثبت عنده ... والأخرى: أن يتضمن عملاً لم يثبت بدليل شرعي، يظنّ بعض الناس أنه مشروع، فهذا لا يجوز العمل به. وقد وافقه على ذلك العلامة الأصولي المحقق الإمام أبو إسحاق الشاطبي الغرناطي في كتابه العظيم: «الاعتصام» ... اهـ (¬2). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى 18/ 65 - 66. وانظر بقية كلامه لزاماً، فهو أنفس ما كتب في هذه المسألة، وقد أطال في توجيه كلمة الإمام أحمد، وغيره من العلماء. (¬2) صحيح الترهيب والترغيب 1/ 27 - 28.

ولعلَّ في هذا القدر من كلام شيخ الإسلام ما يصحِّحُ الخطأ الشائِعَ عند جماعة من أهل العلم وطلابه، حيث يفهمون قولَ العلماءِ في الحديث الضعيف فهماً لا يتفق مع ما أرادوه. الأمر الثاني: التأكد من صِحَّةِ الاستنباط، وسلامةِ الاستدلال، وفقاً للقواعد الأصولية المعتبرة. فإن بعض الناس قد يوفق لمعرفة الصحيح من الضعيف، إلا أن التوفيق لا يحالفُهُ في استخراجِ الحكم الشرعيّ من النَّصّ، وهنا تكمنُ الرَّزِيَّة. فعلى طالب العلْمِ أن يراعي هذا الجانب، وذلك بالرجوع إلى شروح أهل العلم على الحديث، وسؤالهم عنه، وعن دلالته، حتى لا يقع في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يشعر؛ فإن من نَسَبَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم حكماً من الأحكام لم يقتضِهِ كلامه فقد كذب عليه، إلا أن يكون من أهل الاجتهاد وَبَذَلَ قصارى جهده فلم يُصِبِ الحقَّ؛ فإنه مأجورٌ غير مأزورِ. وإنما الكلام في أولئك الذين ليس لديهم ما يؤهِّلُهُمْ للنظر في كلام الشارع، استنباطاً واستدلالاً؛ ثم يخوضون هذا البحر العميق، دون مراكبَ تَحْمِلُهُمْ، فرحِمَ الله امرأً عرف قدر نفسه، وأنزلها منزلها. قال معاوية - رضي الله عنه -: «إن أغرى الضلالة لرجلٌ يقرأ القرآن فلا يفقهُ فيه، فيعلِّمه الصبيَّ، والعبد، والمرأة، والأمة، فيجادلون به أهل العلم» (¬1). ¬

(¬1) رواه ابن عبد البر في (جامع بين العلم وفضله) 2/ 194.

وقال الإمام عبد الله بن المبارك - رحمه الله -: «لِيَكُنْ الذي تعتمد عليه الأثر، وخذْ من الرأي ما يُفَسِّرُ لك الحديث». اهـ (¬1). وقيل لبعض الحكماء: «إن فلاناً جمع كتباً كثيرة، فقال: هل فهمه على قدر كتبه؟ قيل: لا، قال: فما صنع شيئاً». قال الخطيب البغدادي تعليقاً على هذه الحكاية، ونحوها: «وهذه حال من اقتصر على النقل إلى كتابه من غيرِ إنعام النظر فيه، والتفكُّرِ في معانيه». اهـ (¬2). * * * ¬

(¬1) جامع بيان العلم وفضله 2/ 144. (¬2) الفقيه والمتفقة (ص: 303 - تقريب).

فصل في رد شبهات أثيرت حول الاهتمام بالسنة

فصل في ردِّ شبهات أُثيرت حول الاهتمام بالسُّنَّة الشبهات التي تثار حول العناية التَّامَّة بإحياء السُّنَنِ ونشرها بين صفوف المسلمين تختلف باختلاف أغراض المثيرين: والذين يعنينا ههنا تلك الشبهات المصبوغة بالصبغة الإسلامية زوراً، إذْ خطورتها أعظم، والفتنة بها أشدُّ مما سواها. فمن تلك الشُّبَه، قولهم: «إنَّ الدين ينقسم إلى أصول وفروع، فالواجب أن نهتمَّ بالأصول، وندع الاهتمام بالفروع». والجواب عن هذه الشبهة من وجوه: الأول: أن تقسيم الدين إلى أصول وفروع - إذا اقترن به ما يدلُّ على ترتيب حكم خاصّ بكلّ واحدٍ منهما، كما هو الحالُ هنا، إذ الأصول يهتم بها دون الفروع -: فهو تقسيم باطِل. الثاني: ليس هناكَ ضابط صحيح مطّرِد، يميَّزُ به الفروع من الأصول.

قال شيخ الإسلام - رحمه الله - في «المسائل الماردينية» (¬1) في معرض الكلام على التكفير: «فأما التفريق بين نوعٍ وتسميته: مسائل الأصول، وبين نوعٍ آخر وتسميته: مسائل الفروع: فهذا الفرق ليس له أصلٌ، لا عن الصحابة، ولا عن التابعين لهم بإحسان، ولا عن أئمة الإسلام، وإنما هو مأخوذ من المعتزلةِ وأمثالهم من أهل البدع، وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم، وهو تفريقٌ متناقضٌ. فإنه يقال لمن فرَّقَ بين النوعين: ما حدُّ مسائل الأصولِ التي يكفَّرُ المخطئ فيها؟ وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع؟ فإن قال: مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد، ومسائل الفروع هي مسائل العمل. قيل له: تنازع الناس في محمدٍ صلى الله عليه وسلم هل رأى ربه أم لا؟ وما كفّر فيها أحدٌ بالاتفاق، ووجوب الصلاة والصيام والزكاة والحج هي مسائل عملية، والمنكر لها يكفَّر بالاتفاق. وإن قال: الأصول هي المسائل القطعية. قيل له: كثير من مسائل العمل قطعية، وكثير من مسائل العلم ليست قطعية، وكون المسألة قطعية أو ظنية هو من الأمور الإضافية. وقد تكون المسألة عند رجلٍ قطعية لظهور الدليل القاطع له، كمن ¬

(¬1) ص: 788، ط آل ثاني، الملحقة بالكافي.

سمع النص من الرسول صلى الله عليه وسلم ويتقن مراده، وعند رجلٍ لا تكون ظنية، فضلاً عن أن تكون قطعية، لعدم بلوغ النصّ إياه، أو لعدم ثبوته ...» اهـ. وهذا الكلامُ وإن كان خاصًّا بمسألة تكفير منكر الأصول دون الفروع، إلا أن المقصود به إبطال هذا التقسيم من أصله، لأنه يبنى عليه غير هذه المسألة، ولذا قال ابن القيم عندما ذكر بعض المسائل العائدة إلى هذا التقسيم، والناشئة عنه: «وكل تقسيم لا يشهد له الكتاب والسنَّة وأصول الشرع بالاعتبار: فهو تقسيم باطلٌ، ويجب إلغاؤه. وهذا التقسيم أصلٌ من أصولِ ضلالِ القوم ...» اهـ (¬1). الوجه الثالث: أنّ هذه العبارة - في حقيقتها - تقليلٌ من شأن «الفروع»، ودعوة إلى عدم الاهتمام بها، وهذا من أبطل الباطل، وأقبح الضلال، إذِ الله عز وجل أمرنا بالدخول في دينه كافة، لا تفريق بين أصلٍ وفرعٍ، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} قال ابن عباسٍ: السّلْم: الإسلام، كافةً: جميعاً». وقال مجاهد: «اعملوا بجميع الأعمال، وجوهِ البِرّ». ¬

(¬1) مختصر الصواعق المرسلة 2/ 415، ط السلفية - بمكة المكرمة، عام 1348 هـ، على نفقة جلالة الملك عبد العزيز - رحمه الله - وقد استطرد العلّامة ابن القيم - رحمه الله - في هذا المبحث بما لا تجده عند غيره، فلينظر.

قال ابن كثير - رحمه الله -: «يقول الله تعالى آمراً عباده المؤمنين به المصدِّقين برسوله: أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره، ما استطاعوا من ذلك». اهـ (¬1). وقال الألوسي في «تفسيره» (¬2): والمعنى: «ادخلوا في الإسلام بكُلِّيَتِكُمْ، ولا تدعوا شيئاً من ظاهركم وباطنكم إلا والإسلام يستوعبه، بحيث لا يبقى مكان لغيره». اهـ. فما شرعه الله تعالى في كتابه، وما سنَّه رسوله صلى الله عليه وسلم في سنتِهِ لا يجوز لأحدٍ أن يقلّل من شأنه بأي وجهٍ من الوجوه، بل الواجب التمسّك بالإسلام جملةً، فما كان واجباً حَرُمَ تركه، وما كان مندوباً فعلى ما سبق بيانه، ولا إثم على من تركه. وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يهجرون على تركِ ما يُسمِّيهِ هؤلاءِ فروعاً، كما يهجرون على ترك ما يسمِّيه هؤلاءِ أصولاً، دون تفريقٍ، كما يُغْلِظُوْنَ القولَ على من تركَ الفروع. ولولا أهمية هذه «الفروع»!! في نظرهم، واستواءُ الشريعةِ كلّها في قلوبهم تعظيماً وإجلالاً: لما فعلوا ذلك. * * * ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن مغفَّلٍ - رضي الله عنه - ¬

(¬1) تفسير ابن كثير 1/ 247، ط 3، عام 1376 هـ. (¬2) روح المعاني 2/ 97.

أنه رأى رجلاً يَخْذِف، فقال له: لا تخذفْ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف - أو كان يكره الخذف - وقال: «إنه لا يصادُ به صيدٌ، ولا ينكأُ به عدو، ولكنّها قد تكسِرُ السِّنَّ، وتفقأُ العينَ». ثم رآه بعد ذلك يَخْذِفُ له: أُحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الخذفِ أو كره الخذفَ - وأنتَ تخذفُ؟ لا أكلّمك كذا وكذا. هذا لفظ البخاري في كتاب الصيد من صحيحه (9/ 608)، وفي لفظٍ لمسلم (3/ 1548): لا أكلمُك أبداً. قال النووي في «شرح مسلم» (¬1): «فيه هجران ... منابذي السُّنَّة مع العِلْمِ». اهـ. وقال الحافظ في «الفتح»: وفي هذا الحديث جواز هجران مَنْ خالف السنَّة، وترك كلامه، ولا يدخل ذلك في النهي عن الهجر فوقَ ثلاثٍ، فإنه يتعلق بمن هَجَرَ لحظِّ نفسه». اهـ. وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تمنعوا نساءَكُم المساجد إذا استأذنّكُمْ إليها». قال: فقال بلال بنُ عبد الله: واللهِ لنمنَعُهُنَّ، قال: فأقبلَ عليه ¬

(¬1) 13/ 106.

عبد الله؛ فَسَبَّهُ سَبًّا سيئاً ما سمعتُهُ سبَّه مثلَهُ قطُّ (¬1)، وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: واللهِ لنمنعُهُنَّ، هذا لفظ مسلم. وفي لفظٍ له عن مجاهد، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ائذنوا للنِّساءِ بالليل إلى المساجد»، فقال ابنٌ له يقال له واقدٌ: إذنْ يتَّخِذْنَهُ دَغَلاً، قال: فَضَرَبَ في صدره، وقال: أحدِّثُكَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: لا. قال النووي في «شرح مسلم» (¬2): «فيه تعزيرُ المعترضِ على السُّنَّةِ، والمعارض لها برأيه». اهـ. هذا: وحصر هذه الآثارَ مما يطولُ؛ إلا أنَّ في هذين الأثرين البيانَ الشافي الكافي لما كان عليه الصحابة - رضي الله عنهم - من العناية التامَّة بجميع ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا فرقَ في ذلك بين مسائل العَمَلِ، أو مسائل العِلْمِ. وهؤلاء القوم يريدون أن ينصبَّ الاهتمام على مسائل العِلْمِ المسماةِ بالكليَّة دون مسائل العمل المسماة بالجزئية، هذا على إحسان الظنّ بهم، وإلا فما أرى «الكليات» عندهم - كما سيأتي بيان ذلك - سوى: الكلام في السياسات، والذّهاب إلى «الرَّصيْفِ» لأخذ مرئيات الشباب عن المجتمع، وحصرها في النّسَبِ المئويَّة، وتَجْميعِ نِسَبِ ¬

(¬1) في (جامع بيان العلم وفضله) 2/ 195، أنه قال له: (لعنك الله، لعنك الله، لعنك الله) وينظر سندها. (¬2) 4/ 162.

العوانسِ والعاهراتِ ... فمن فعل ذلك فلا عيب عليه عندهم، لأنه يعمل في «الكليات»، أما من ألّفَ جزءاً حديثياً في «العجنِ في الصلاة» أو رسالةً في «عقد التسبيح باليمين» فهذا مُغْرِقٌ في «الجزئيات» منصرفٌ عن «الكليات» ينبغي أن يُوَجَّهَ ويُصْرَف إلى تَعَلُّمِ «فقه الواقع» ليكون في عدادِ أصحاب «الكلياتِ»!! فلا أدري - واللهِ - ما يقولون عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - الذي رَحَلَ شهراً في حديثٍ (¬1)، أهو مغرقٌ أيضاً في الجزئيات؟ لِمَ لا يكون كذلك، وأصحاب تلك الأجزاء بذلوا من وقتهم أسبوعين، أو اقل أو أكثر، ينظرون في الأحاديث، ويصححون مفهومها، فَذُمُّوا على ذلك!!! ولا أدري ما يقولون عن سلفنا الصالح الذين أغرقوا المكتبات بالكتابة في «الجزئيات» أيذَمُّوْنَ بذلك أيضاً؟ {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}. ومن شبههم أيضاً، قولهم: (الخلافُ في الفروع سهلٌ). هذه الكلمة متمخضة عن الشبهة السالفة، التي تُقرِّر تقسيم الدين إلى فروعٍ وأصول، وهي في الحقيقة ثمرةٌ من ثمراتها، إذِ المقصود ¬

(¬1) علّقه البخاري في صحيحه - كتاب العلم - باب ما ذكر في ذهاب موسى عليه السلام في البحر إلى الخضر (1/ 40، ط دار القلم - دمشق). وينظر كتاب (الرحلة في طلب الحديث) للخطيب البغدادي ص: 110، ط دار الكتب العلمية.

الأكبر - عند الأكثرين - من هذا التقسيم: الوصول إلى هذه النتيجة، وهي: أن خلافنا في هذه الفروع الفقهية سهلٌ، فلا داعي لهذه البحوث التي تكتب في «الجزئيات»، ولا داعي لهذه المناقشاتِ فيها، ولكن «نعمل فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه»، ومن منطلق هذه القاعدة: تعامل هؤلاء مع الشِّيعة، وَمَدَحوا التُّرابيَّ وغيرَه من الضُّلَّالِ والمنحرفين. وكان الواجب أن تكون القاعدة بهذا التركيب: «نعمل فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه بعد التناصح» قاله العلامة الألباني. قال الإمام مالك وقد سئل عن مسألةٍ فقال: لا أدري، فقال له السائل: إنها مسألةٌ خفيفةٌ سهلةٌ، وإنَّما أردت أنْ أُعْلِمَ بها الأمير - وكان السائلُ ذا قَدْرٍ - فَغَضِبَ مالكٌ، وقال: «مسألةٌ خفيفةُ سهلةٌ؟! ليس في العلم شيءٌ خفيفٌ؛ أما سمعتَ قول الله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَولاً ثَقِيلاً}. فالعِلْمُ كلُّه ثقيلٌ، وبخاصَّةٍ ما يُسْألُ عنه يوم القيامة». اهـ (¬1). وقال المقبلي في كتابه «العَلَمُ الشامخ في تفضيل الحق على الآباء والمشايخ» (¬2): «... أنّ الناسَ اصطلحوا على انتزاع مسائل من أمور الديانات: ¬

(¬1) ترتيب المدارك للقاضي عياض 1/ 184، ط 2 المغرب. (¬2) ص: 430، ط 1، عام 1328 هـ.

منها ما كان في السلف من الواضحات المعلومات من ضرورة الدين ... ومنها ما هو بدعة محضة منتمية إلى علم الأوائل ... إلى أن قال: إنما ننبِّهُ على بعض مفاسدها: فمن ذلك أن الإنسانَ أوَّل ما يقرعُ سمعه أنَّ الدين منقسم إلى أصولٍ وفروعٍ، والفروعُ سهلٌ - وإنما شاع قولهم: كل مجتهد مصيب في الفروع - إنَّما الشأنُ في الأصولِ، مَنْ لَمْ يعرفْها: فَدِينُهُ مُنثَلِمٌ؛ فَيَسْتَقِرُّ هذا عند الطالبِ وهو يَعْلَمُ مِنْ نفسِهِ أنه لم يُفْطَرْ على تحقيقِ تلك المباحثِ، ولا يَحْمِل نفسَه أنْ يقالَ فيه: إنّ دينهُ منثلِمٌ، سِيما وقد يكون ذلك الثَّلْمُ في أفواهِ بعضهم يبلغ الكفر ...» اهـ. فإذا نُشِّىءَ الأتباع على أن الخلافَ في الفروعِ سهلٌ، وإنما الشأن في الأصول، حَصَلَ من ذلك صَدَّ عن سبيل الله، وتغريرٌ بالجهلة المبتدئين؛ فلا يُلْقُوْنِ لهذه الفروع بالاً، وَلا يًقيْمُونَ لها وزناً، ولا يَبْذِلُوْن جهدهم في التوصّل إلى الحقّ، فتذبل الأذهان، وتكسدُ أسواق العلم، ونُفْجَأُ بجيلٍ أشبه ما يكون بالعجماوات، كلُّ ذلك وأضعافٌ مضاعفة من المفاسِدِ تَحِلُّ بسبب هذه الشبهة الممقوتة، التي يروّجها أقطاب الحزبيِّين. * * * ومن شبههم أيضاً: أن المسلمين اليوم يعانون ضعفاً شديداً، به تَسَلَّطَ الأعداءُ عليهم، وساموهم سوء العذاب، ففي كلّ صقعٍ من الأصقاع تَرَى مذابح المسلمين الجماعيَّة، وانتهاكَ أعراضهم، وإهانتهم

أشدّ من إهانةِ البهائم، وفي هذا الوقت - نفسه - يخرج أقوام يحثُّون الناسَ على التَّمَسُّكِ بالسُّنَّة، ويغرقون فيها: علماً، وتعلماً، ودعوةً، وكأنها هي قضيَّة المسلمين الكبرى!! أَفلا ينصرف هؤلاء إلى العَمَلِ الذي ينتجُ عنه نفعٌ كبير للمسلمين، كالتخطيط لإقامة الخلافة الإسلامية، والنظر في أحوال المسلمين، وما يحتاجون إليه من غذاءٍ وعطاء، ونفقة وبناء ... إلخ. والجواب عن هذه الشبهة: «إن ما ذكرتموه من اضطهاد المسلمين، وضعفهم، وتآمر أعدائهم ... الخ، كلُّ هذا حقٌّ، ولكنكم أُتيتُم من خلطكمْ بين الأمور، فكلامكم قد يكون حقاً إذا سَلّمنَا لكم أن التَّمسك بالفرعيَّات يتعارض مع مواجهة تآمر الأعداء وجهادهم؛ والحقُّ أنه لا يلزم التعارض بينهما، إذ أن بيان الحق في الأمور الفرعيَّة لا يتعارض مع جهاد الأعداء، إذا كان الهدفُ هو - حقاً - بيان الحقّ، مع البعد عن الجدل العقيم. وقد واجه الرعيل الأول أخطاراً تهدِّد كيانهم، ولم يحملهم ذلك على تركِ الفرعياتِ، وتقرير الحقِّ فيها، وإلزام أنفسهم باللازمِ منها، ومع ذلك سادوا الأمم، وأسقطوا عروشَ الكفرة، وأقاموا صرح الإيمان شامخاً؛ والذي يفتُّ في عَضُدِ المسلمين هو: من يجادِلُ في الحقِّ بعدما تبيَّن، ويُصِرُّ على عدم الانقياد له، ويثير الجدال بشبهاتٍ سقيمة؛ ليس من يدعوهم إلى التمسُّك بالكتاب والسنَّة. وما يتوهمُهُ هؤلاءِ المخالفون ما هو إلا نتيجة لتخيُّلهِمْ أنّ النّسْبَة بين «مواجهة الأعداء والانتصارِ عليهم» وبين «تَعَلُّمِ المسائل الفرعيَّة

والتّمسّكِ بها وإنْ دقَّتْ» إنما هي تَبَايُن المقابلة، كتباين النقيضين: العَدَمِ والوجود، أو تبادين الضدَّين: السَّوادِ والبياضِ. فتخيَّلَ هؤلاءِ أن «مواجهة الأعداء» و «التمسكَ بالفروعِ» متباينانِ تباينَ مقابلة، بحيث يستحيلُ اجتماعهما، فكان من نتائج ذلك: هذه المعارضة المتهافتة. والتحقيق أنّ النّسْبَةَ بين الأمرين - بالنظر إلى العقل وحده - إنما هي: تباين المخالفة، وهي: أن تكون حقيقة كل منهما في حدّ ذاتها تباين حقيقة الآخر، ولكنهما يمكن اجتماعهما عقلاً في ذاتٍ أخرى، كالكلام والقعود فإن حقيقة الكلام تباين حقيقة القعود، مع إمكانِ أن يكون الشخص الواحد قاعداً متكلماً في وقتٍ واحدٍ. وهكذا فالنسبة بين «جهاد الأعداء ومواجهة تآمرهم» وبين «الدعوة إلى الفروع والتمسك بها وتعليمها للناس» من هذا القبيل. فالمتمسكُ بالفروعِ يجوز عقلاً أن يواجه أعداءه ويجاهدهم، إذ لا مانع في حكم العقل من كون المحافظ على أوامر الله واجتناب مناهيه مشتغلاً بجهاد أعدائه بكلّ ما في طاقته. أما بالنظر إلى أدلة الكتاب والسنَّة، كقوله تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ}. وقوله عز وجل: {إِن تَنصُرُوا اللهَ ينَصُرْكُمْ}. وغير ذلك من النصوص، فإن النسبةَ بين التمسك بالشعائر

الإسلامية، وبين تنزلِ النَّصْرِ من الله جلَّ وعلا، كالنسبة بين الملزوم ولازمه، لأن التَّمَسّكَ بالدَين هو مَلْزُوْمُ النَّصْرِ، بمعنى أن يَلْزَمَ عليه الانتصار، كما صرحت الآيات. والدولة المسلمة لن تقومَ إلا على أكتافِ أولي العزم، الذين يلتزمون كافةَ أحكام الشرع، ويوافقونها في ظاهرهم، وباطنهم، لقوله تعالى: {إِنَ الله لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}. والدولة المسلمة ما هي إلا ثمرة لتمسُّكِ جنودِ الإسلام بكلّ شرائع دينهم، والدعوة الإسلامية - الأمينة على الإسلام - لا تُسَاوِمُ على شيء من أحكامه، ولكنَّها تحفظها كلَّها، أداءً للأمانة، وإعذاراً لنفسها أمام الله ... والمسلمون إذا نزلتْ بهم مخمصة وشدَّة فإن من أسباب جلاء الغُمَّة عنهم: المزيد من التَّمسُّكِ بالسُّنَنِ، والبراءة من البدعِ، وليس مهادنة أهل البدع، وتثبيط الدعاة إلى السُّننِ (¬1). وإذا تأمَّلْتَ قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه من حديث عبد الله بن عمر: «إذا تبايعتم بالعينة. وأخذتم أذناب البقر. ¬

(¬1) من رسالة (تبصير أولي الألباب ببدعة تقسيم الدين إلي قشر ولباب) بتصرف ص: 20 - 23، للأخ الشيخ محمد إسماعيل المصري.

ورضيتم بالزرع. وتركتم الجهاد. سلَّط اللهُ عليكم ذلاً؛ لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم». اتَّضح جلياً أنَّ السبب الرئيس في ذلِّ المسلمين، وهوانهم على أعدائهم، هو: الابتعادُ عن دينهم، والغفلةُ عمَّا أمروا به من شعائر الله. ولا سبيل إلى استعادةِ مَجْدِهِمْ، وتحصيل مُنَاهُمْ؛ إلا بالرجوع إلى دين الله تعالى، والرجوع إلى دين الله، إنما يكون بأداء الفرائض، والحرص على النوافل، والابتعاد عن المحرّمات، بذلك - وحده - يحقق اللهُ لهم وعده، الذي جاء في قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة النور: الآية 55]. * * *

نظرة الإخوان المسلمين إلى الجزئيات الشرعية

نظرة «الإخوان المسلمين» إلى الجزئيات الشرعيَّة موقفُ جماعةِ «الإخوان المسلمين» من الاهتمام بما يطلقون عليه مصطلح: «الجزئيات» أو «الفروع» أو «القشور» يبدو جليًّا واضحاً فيما كتبه بعض قادتهم وأفرادهم. وفيما يلي عرضُ نماذجَ من هذه الكتابات، ثم اسْتِيْحَاءُ السَّبَبِ الباعث لهذه الجماعة على العناية بتفريق الشريعة الإسلامية إلى أصول وفروع، جزئياتٍ وكليات. على أن ردَّ هذه الفكرة، وإبطالَها، سبق فيما مضى، فأغنى عن إعادته، إذِ المراد هنا: إيقافُ العاقلِ اللبيب على ما تُقَرِّرُه هذه «الجماعة» في هذه القضيَّة الخطيرة. قال الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه «الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرُّف» (¬1): ¬

(¬1) ص: 70 - 71، وفحوى هذا الكلام تجده بتفصيل أكثر في كتاب القرضاوي (أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة) ص: 34 - 37، ط مكتبة وهبة - القاهرة.

ومن دلائل عدم الرسوخ في العلم، ومن مظاهر ضعف البصيرةِ بالدين: اشتغال عددٍ من هؤلاء بكثيرٍ من المسائل الجزئية والأمور الفرعيَّة، عن القضايا الكبرى التي تتعلقُ بكَيْنونَةِ الأمَّة، وهويَّتهَا، ومصيرها. فنرى كثيراً منهم يُقِيْمُ الدُّنيا ويُقْعِدُهَا من أَجْلِ: حَلْقِ اللِّحية. أو الأخذ منها. أو إسبالِ الثياب. أو تحريك الأصبع في التشهُّد. أو اقتناء الصُّوَر «الفوتوغرافيَّة» (¬1). أو نحوِ ذلك من المسائل التي طال فيها الجدالُ، وكثر فيها القيل والقال. هذا في الوقت الذي تزحف فيه العَلْمَانيَّة اللَّادينيَّة، وتنتشرُ الماركسيَّة الإِلحَاديَّة، وتُرسِّخُ الصهيونيَّة أقْدامها، وتكيدُ الصليبيَّةُ كيدَها ... وَتَتَعَرَّضُ الأقطارُ الإسلاميَّة العريقة في آسيا وإفريقيا لغاراتٍ تنصيريَّة جديدة ... وفي نفس الوقت يُذَبَّحُ المسلمون في أنحاءٍ متفرِّقة من الأرض ... إلى أن قال: وكان الأولى بهؤلاء أن يصرفوا جهودهَم إلى ما يحفظ على ¬

(¬1) هذه الأمثلة تتغير عندهم من بيئةٍ إلى بيئةٍ، فالأمثلة لهذه الفكرة عندنا هنا في المملكة العربية السعودية غير الأمثلة التي في مصر أو أفغانستان، وهكذا ... !!

المسلمين أصل عقيدتهم، ويربطهم بأداء الفرائض، وبجنِّبهم اقتراف الكبائر. اهـ. وقال أحمد عبد المجيد في كتابه «الإخوان وعبد الناصر - القصة الكاملة لتنظيم 1965 م» (¬1) تحت عنوان: عدم الانشغال بالقضايا الفرعيَّة: تكلمنا فيما سبق أنه يجب التركيز والاهتمام بالدعوة، والتربية، وإعدادِ الجيل الصَّلب، الذي يتحمَّلُ عبءَ قيام الإسلام، في صورته التطبيقية المتكاملة. ومع فترة الدعوة والتربية، يجب عدم الانشغال، أو الالتفات إلى القضايا الجزئية، التي تشغل عن المهمة، وتضيع الطاقة، وتدخل أصحاب الدعوة في معارك جانبيَّة، وجُهْدٍ مبعثر. اهـ. وقال الدكتور عبد الله عزام، في كتابه «العقيدة وأثرها في بناء الجيل» (¬2): ومن ثَمَّ - وفي هذا الوقتِ - فإني لا أرى تتبُّعَ الجزئِيَّاتِ من هذا الدِّين؛ في سلوك الناس: كالشُّرْبِ باليمينِ. وترك التدخين. والشرب جالساً. ¬

(¬1) ص: 360. (¬2) ص: 19، ط مكتبة الأقصى - عمّان.

إلى غير ذلك من هذه التفاصيل، التي لا تَحِتَمِلُهَا، ولا تطيقُ الدوامَ عليها؛ إلاَّ نفوسٌ بنيت على العقيدة، وجبلت بعظمةِ الإيمان. اهـ. هذا بعض ما رَقَمَه أبناءُ هذه «الجماعة» والباعث لهم على ذلك أمورٌ يطول شرحها، إلا أنَّ من أهمها: أنَّ جماعة «الإخوان المسلمين» تسعى جاهدةً إلى تجميع المنتسبين إلى الإسلام من أيِّ مذهب كان، وغايةً كهذِهِ لا يتمُّ تحقيقها والوصول إليها؛ إلا عن طريق تمييع بعضِ - إن لم نقل: أكثرِ - القضايا الشرعيَّة. ولذا دَعَوْا إلى الإِغضاء عمّا سمّوْهُ «جزئيات» حتى تحصل لهم تلك الغاية. والحقّ: أنَّ الأمر عندهم لا يقتصر على «الجزئيات» وإنما يتعدّاها إلى «الكليات». هذا تنزلًّا معهم، على أنَّ ضابط «الجزئيات» و «الكليات» عندهم، هو ما قرَّره بعض علماءِ المعتزلةِ ومن تأثَّر بهم، من أن الأصولَ هي المسائل العلميَّة، والفروع هي المسائل العملية، أو أن الأصولَ هي المسائل القطعية، والفروع هي المسائل الظنية ... بينما الناظر في سيرهم وأحوالهم، بل بعضِ كتاباتهم: يتبَّين له أنَّ «الكليات» عندهم: مجرَّدُ الخوضِ في الأمور السياسية، والتجميع لإقامة

الدولة الإسلامية - رافضيَّة كانت أو علمانية!! أو قبوريَّة!! المهم الاسم لا المسمى -. وإذا أردت أن تعرف هذا الحق الذي ذكرتُهُ لك، وهو: أن «الكليات» إذا عارضت غايتهم أهدروها، وصغَّروا من شأنها: فانظر إلى موقفهم المخزي من الدولة الرافضية الخمينيَّة (¬1). وانظر إلى محاماتهم عن الدولة القبوريَّة «الشركيَّة» في أفغانستان (¬2). وانظر إلى مدحهم الدولة العلمانية «الترابيَّة» في السودان. أليستْ هذه الأفعال تُلْغِيْ «الكليات» كما أنهم ألْغوا «الجزئيات» فنهوا عن إنكار: حلق اللحى، وإسبال الثياب، والتصوير ... ؟ إذاً فَلِمَ الاستتار خَلْف «الجزئيات» المسكينة، مع أنها هي و «الكليات» في مَصْيَدَةٍ واحدة؟!! «ومما يؤيد ذلك أنَّ الشيخ المودودي وهو من أكابر القوم يرى - وهو من مقتضيات رَبْطِه المنطقي والفلسفيّ - أن العبادات الإسلامية «الصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، والذكر، وتلاوة القرآن» مُقَرَّرَاتٌ تَدْرِيبِيَّةٌ لعبادةٍ أَصْلِيَّةٍ أخرى وهي «تأْسِيسُ الحكومةِ الإلَهِيَّة». ورأيه هذا مأخوذ من ملاحدِة الفلاسفة، وقد صرَّح أبو علي ¬

(¬1) (وقفات مع كتاب للدعاة فقط) لأخينا الشيخ محمد بن سيف العجمي - رحمه الله تعالى - ص: 53. (¬2) (الطريق إلى الجماعة الأم) لعثمان عبد السلام نوح ص: 154 - 155، ط المنار.

ابن سينا في «الإشارات» وغيرُه من الفلاسفة في كتبهم: أن العباداتِ خادمةٌ للحضارةِ والمدنيَّةِ» (¬1). اهـ. ومن هنا قال الشيخ محمد الكاندهلوي في كتابه «المودودي ما له وما عليه» ص: 49: «... أن أفراد هذه الجماعة ازداد فيهم الحط من مكانة الأركان الإسلامية وممن يهتمون بأدائها ...». اهـ. وبعدُ: فإن ما كتبه القرضاويُّ، وغيرُه، في موضوعنا هذا، هو من لبس الحقّ بالباطل، والصَّدّ عن سبيل الله تعالى بالشُّبَه الشيطانية، والحجج العقلية المباينة للأدلة النقلية. وقد كان المنتظر من هؤلاء المنتسبين إلى صفوفِ الدعاةِ إلى الله!! أن يحثوا المسلمين على التمسك بالإسلام كلّه، والحرصِ الشديد على سنَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أن يكونوا أبواقَ تنفيرٍ عنها، وطعْنٍ في العاضين عليها بالنواجذ. لقد كان علماء السلفِ - رحمهم الله تعالى - مجتهدين في بحث المسائل الخلافية، بذلاً للأسباب المُوْصِلَةِ إلى الصواب، الذي طولبوا - شرعاً - بالوصولِ إليه؛ ما استطاعوا. فَكَمْ كَتَبَ العلماءُ في مسألة «القراءة خلف الإمام»؟ ¬

(¬1) من كتاب الشيخ المحدِّث العلاَّمة: محمد الغوندلوي، الذي ردَّ به على المودودي، المسمى بـ: (تنقيد المسائل) بواسطة نقل أخينا الشيخ صلاح مقبول عنه في كتابه: (دعوة شيخ الإسلام وأثرها في الاتجاهات المعاصرة) ص: 136، ط الهند. وانظر (أبو الأعلى المودودي حياته وفكره العقدي)، لمحمد الجمال، ص: 300، ط دار المدني.

وكم كتب العلماء في مسألة «الجهر ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في الصلاة»؟ وكم كتب العلماء في «فضائل دمشق»؟ وكم كتب العلماء في «فضائل القدس»؟ وكم كتب العلماء في «الأذكار»؟ وكم كتبوا في نحو هذه القضايا إفراداً وضمناً، مع أنَّ عصورهم تموجُ بالفتن، وتسلُّط الكفّار، وضعف المسلمين ... أفتراهم يتركون الكتابةَ في هذه المسائِل مِنْ أجل ذلك؟ كلا واللهِ، ولو فعلوا لذهب من العلم جملةٌ، تُؤْذِنُ بذهابِهِ كلِّه، ولكتموا ما وجب عليهم إظهاره. ألا فليَتَّقِ الله هؤلاء المزهّدون في السنَّة، المثبطونَ عن العلم، بمثل هذه الحجج الواهية، والشبهات الداحضة. نسأل الله تبارك وتعالى أن يأخذَ بيدِ الجميع إلى الحقّ والهدى، وأن يجنّبنا مواطن البدع والهوى، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتِّباعَهُ، ويُرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، ولا يجعله مُلْتبِساً علينا فنضلّ، وصلَّى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله، وصحبه أجمعين. * * *

§1/1