صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم والأمثال

حسين بن محمد المهدي

صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحِكم والأمثَال تأليف: القاضي حسين بن محمد المهدي عضو المحكمة العليا للجمهورية اليمنية راجعه الأستاذ العلامة عبد الحميد محمد المهدي

_ مكتبة المحامي: أحمد بن محمد المهدي بريد: [email protected]

صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحِكم والأمثَال الجزء الأول تأليف: القاضي حسين بن محمد المهدي عضو المحكمة العليا للجمهورية اليمنية راجعه الأستاذ العلامة عبد الحميد محمد المهدي

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف سجل هذا الكتاب بوزارة الثقافة بدار الكتاب برقم إيداع (449) لسنة2009م

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة إن أفصح الكلام, وأجمل ما نطق به اللسان, وأفضل ما انتظمته عقود البلاغة من البيان, وأنفس ما جرت به الأقلام حمد الله الواحد المنان, وإفراده بالتوحيد والتقديس على الدوام, والثناء عليه في كل آن, تنزه سبحانه وتعالى عن الشبه والنظير, لا إله إلا هو وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شيءٍ قدير, ثم الصلاة والسلام على محمد عبد الله ورسوله المجتبى من ولد عدنان وعلى آله وصحبه الكرام الذين حملوا القرآن ونشروا الإسلام في سائر البلدان, وبعد: فإن من محاسن العرب, وتمام الأدب حسن اختيار الكلمات الفصيحة, والمفردات البينة الصحيحة, والجمل الواضحات البليغة لغرض التعبير بها في الدلالة على المقصود الذي يسعى إليه, أو يراد الوقوف عليه, خاصةً فيما انتظم العرب في خطبهم وأشعارهم, وابتكروه في قصصهم وأمثالهم, فإنهم يغترفون من مفردات اللغة العربية أعذبها, ومن الجمل أروعها وأنسبها, ليصلوا بذلك إلى قلوب الناس وعقولهم, وليحركوا أحاسيسهم ومشاعرهم, وأطيب ذلك يبهج القلب, ويفرح النفس, ويمتع الضمير, ويسر الخاطر, لأنه يظهر العلم, ويحث على العمل, ويصف الجمال, ويرشد إلى الصواب, ويحذر من القبيح, ويبعد عن الكسل, ويدفع الهم والحزن, ويرشد إلى تزكية

النفس, وإرضاء الخالق, وإسعاد المخلوق, ويبصّر على حسن التعامل مع الناس, وكم دفع الشوق محباً لإسداء من يحب نصائح يعز نظيرها, فيسعد بها صغير القوم وكبيرها, وينتفع بها أميرها ووزيرها, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. فإن قلتَ: أين أنت من ذلك, ولست من فرسان هذا الميدان وليس لك إن أردت سباحة هذا البحر يدان؟ قُلنا: نحن من أقل الناس بضاعة, وأضعفهم صناعة, غير أن ذلك لا يمنع العاقل من محاولة اكتساب الفضائل, والتشبه بالكرام, وأهل الفضائل من الأنام, وقديماً قيل: فَتَشَبَّهوا إِن لَم تَكونوا مِثلَهُم ... إِنَّ التَشَبُّهَ بِالكِرامِ فلاحُ (¬1) ولعله من خير الأعمال السعي إلى مناصحة الإخوان, والعمل على نفعهم, وإدخال السرور عليهم, ومن هذا القبيل ما جمعناه واخترناه في هذا الكتاب مما لذَ وطاب, وإن لم يكن لنا فيه أكثر من اختيار وجمع ما افترق مما تناسب واتسق من عيون شعر العرب وأمثالهم, وقصصهم وأخبارهم, ووصاياهم ومواعظهم وأذكارهم, وبيان ما يناسب ذلك, ويتفق معه من كلام الله العزيز الحكيم, أو حديث رسوله محمد عليه وآله أفضل الصلاة والتسليم, أو كلام الصحابة والآل الميامين, أو العلماء الأعلام والباحثين, وتحقيق ذلك, وابتكار بعض الأمثال, والسير على نفس المنوال الذي سلكوه, ¬

_ (¬1) - هذا البيت يروى لأبي الفتوح يحيى بن حبش الحكيم شهاب الدين السهروردي المتوفى سنة 587هـ, ويروى لعبد الغني النابلسي المتوفى سنة 1143هـ, ويروى أيضا لأبي عبد الله محمد بن محمد الحراق الحسيني, المتوفى سنة 1261هـ ولكن بلفظ: إن التشبه بالكرام رباح. والله أعلم.

مع الإشارة إلى كيفية الاستفادة من ذلك كله, فإن ذلك يكفي, فاختيار المرء كما قيل "قطعة من عقله تدل على تخلقه وفضله", فربَ علوم تنفع حاملها ودارسها ومعلمها, وأعمال ترفع من شأن صاحبها إذا أخلص لله في ذلك النية, فإن الله مولى كل خيرٍ وموليه, وخافض كل شيءٍ ومعليه, وهيهات أن يخفض المرء يتمه أو عدمه إذا رفعه الحق بإيمانه وعلمه, وفي الذكر الحكيم على ذلك دليل وبينات {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (¬1) , وفي الأمثال التي أوضحناها في كتابنا هذا مزيد بيّنة وبرهان, وفي أشعار العرب التي أوردناها حكمة وبيان, وما تحيى القلوب إلا بالإيمان, ولا تستيقظ إلا بنور الحكمة التي أرشد إليها القرآن, وإنما يسعد من الناس فلا يشقى من يطلب اكتساب ما لا ينفد ويبقى, وإذا كان الله جل وعلا قد أعلمنا بقوله: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، فإنه قد علمنا بأن الباقيات الصالحات خير وأبقى فقال: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} (¬2) , والعاقل إنما يملؤُ قلبه, ويمتع طرفه فيما يبقى أجره وذكره, ولم ينسَ نصيبه وحظه من الدنيا, ولعل من يعد عدّته ابتغاء تحصيل متعته يحتاج إلى جليس يواسيه ويسليه, واختيار سلاح ينفعه ولا يؤذيه, وسيجد المتتبع من فنون العلم التي أرشد إليها القرآن, وانتضته من العرب الفرسان خير سلاحٍ, فهو خير له من سلاح راج في الملا, وملئ به الفضاء, وشغل الناس به أوقاتهم, وأضاعوا فيه أعمارهم مما يجرح ويدمي, ويشوه النفس ويعمي, ¬

_ (¬1) - سورة المجادلة الآية (11) . (¬2) - سورة الكهف الآية (46) .

وقديماً قيل: "رب سلاح يقول لحامله: ضعني, وكلمة تقول لصاحبها: دعني", وربما أدرك عقلاء الناس وأصحاب الرأي فيهم أنما المرء معتبر بأكبر ما ينسب إليه عمله وإيمانه, فإن حسنا كان من المتقين الأخيار, وإن فسدا كان من الفسدة الأشرار, ولهذا كان من الإحسان أن يحسن الإنسان اختيار جليسه, وأن يصطفي أنيسه, وربما يجد المتتبع لفنون الأدب في أشعار العرب وأمثالهم من الأخبار النافعة ما تستظرفه العقول, وتستملحه النفوس, وفيه من محاسن الإنشاء, ودقة المعنى ما يوافق الشرع, وينفع الخلق, ويهدي إلى قيد الشوارد, وحفظ الشواهد, والعمل بالمواعظ, والاستفادة من المناسبات, والحرص على الانتفاع بالأوقات, والتفكر في المخلوقات مما يشرق به الأمل ويحث على العمل, وينتفي به الملل, ويقرب من الله عز وجل, فالكيس من جعل دنياه سعادة, وأخرته فلاحاً وشهادة, وحَرِصَ وفيه بقية, أن تكون له نفس صالحة أبيّة تقية, ولله در القائل: إِذا المَرءُ لَم يَحتَل وَقَد جَدَّ جَدُّهُ ... أَضاعَ وَقاسى أَمرُهُ وَهوَ مُدبِرُ وَلكِن أَخو الحَزمِ الَّذي لَيسَ نازِلاً ... بِهِ الأَمرُ إِلا وَهوَ لِلأَمرِ مُبصِرُ (¬1) ولن يضيع أوقات زمانه, ويتعالى بالزعامة, ويتدثر بما يورث الأسى والندامة, إلا من كان أشد حمقاً (¬2) من النعامة, وحسب الرجل اللبيب أن يشغل أوقاته فيما ينفع ويفيد, أو يبصّر أخاه بالرأي السديد, ويدله على واضح الطريق, أو يرشده إلى اكتساب بضاعة يجيد فيها الصناعة. ¬

_ (¬1) - القائل لهذين البيتين: تأبط شرا. (¬2) - الحمق: هو السفه وقلة الرأي, وإنما قلنا: أشد حمقاً من النعامة, لأن النعامة تترك بيضها يداس وتحضن بيض غيرها.

ولم يزل الأدب من بين علوم العرب في المقام الأعلى, والمحل الأسمى ثماره بالخير يانعة مادته وصياغته في جميع الصور التي تمثل نتاجه, وتزخر بها أمواجه, وتجوب بها مفاوزه وفجاجه, سواءً كان ذلك مما يتمثل في تصوير إحساسات وخلجات نفس تجاه عظمة الله جل وعلا, وما أودعه الكون بما فيه من جمال وأسرار هي آية لأولي العقول والأبصار, أم حيال آلام الإنسانية في هذه الحياة وآمالها الخيرة في هذا الاتجاه, أم أن ذلك كان تعبيراً عن أفكار ترشد الفرد أو المجتمع أو الإنسانية بأسرها إلى مفاوز الخير والصلاح والنجاح والفلاح, أو تبعدها عن طرق الشر بأشكاله المختلفة, ويستوي أن يكون ذلك الإنتاج الأدبي قد جاء في شكل شعرٍ منظوم, أو مثل سائرٍ مفهوم, أو قصةٍ أو فلسفةٍ تكشف عن واقع, أو توصل إلى حقيقة, حتى وإن كان ذلك تصويراً لنماذج من حالات الإنسان ومواقفه المختلفة, أو غير ذلك, فإننا قد حاولنا أن نودع شيئاً من ذلك فيما ضمّنَّاه في فصول كتابنا هذا, كل فصل حوى لوناً مما تقر به عين الناظر, ويسلو به خاطره, وتطيب حاله في سفره وحضره مما سجعت به بلابل أقلام العرب, وتداوله الثقات الأعلام من الباحثين الكرام, فأضاءت به الأيام من غير استقصاءٍ لكلامهم أو تطويلٍ في نقل أبحاثهم أو إيجاز يخل بكلامهم, وإن لم نشأ التوسع في ذلك فلكي لا يدرك القارئ الملل, إذ لو أردنا التوسع والاستقصاء لكان كل فصل في مادته التي يحوي مما يحتاج إلى كتاب, بل إلى كتب, وليس من المرغوب والمحبب للنفس أن يتعمق الإنسان فيما لا طائل تحته,

حتى لا يضلل القارئ في متاهات الفلسفة, ومعمعات الأفكار المجردة, ولا أن يستقصي بالتتبع والتحليل لكل ما يجد لما في ذلك من الإرهاق, والإضاعة للوقت, لأنه إذا أدرك الإنسان ما ينفع ويفيد فقد أفاد, ولذلك اكتفينا بما رأينا فيه البلاغ والوصول إلى ما نريده من المناصحة للإخوان بالشكل الذي يجذب القارئ ولا ينفره, وعلى نحو يرسم في ذهنه, ويسجل في وعيه وإدراكه فائدةً تكسبه خيراً أو تدفع عنه شراً في دنياه أو أخرته, ولنا أمل أن يجد كل ذلك طريقه إلى قلوب القراء لامتلاكه من البيان عنصره وأساسه, فعنصر المادة والصياغة في الأدب مقومان من مقوماته, وهما له كالروح والجسد للإنسان, وفي تلازمهما شرف الحياة, ولعل القارئ سيجدهما في كتابنا هذا برهاناً على ما قصدناه, وعوناً على ما أردناه, والله نسأل أن ينفع بذلك فهو ولي ذلك والقادر عليه.

الفصل الأول العلم

الفصل الأول العِلْم

العلم هو إدراك الشيء بحقيقته

العلم هو إدراك الشيء بحقيقته (¬1) العلم نور يدرك به الإنسان حقيقة الأشياء ويخرج به من ظلمات الجهل والعمى, ويصل به إلى الدرجات العلا, امتنَّ الله به على آدم عليه السلام حين علمه الأسماء, وأسجد له جميع الملائكة في الأرض والسماء, فما أعظمه من تكريم نكص عنه إبليس اللعين؛ فصار عدواً للناس أجمعين, لا يتقي شره, ولا يسلم ضره؛ إلا من لجأ إلى خالقه وقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, وأخذ من العلم ما ينفعه ويرفعه, ويمنع عنه شرور الشيطان ووسواسه, ويقيه مصرعه, وشكر لله نعمة السمع والبصر؛ فهما وسيلة إدراك العلم وتعلمه؛ قال جل وعلا: {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬2) . وقديماً قيل: العلم هو إدراك الشيء على ما هو عليه في الواقع سواءً كان ذلك الشيء من المحسوسات أو المغيبات, وهو حياة القلوب, وغذاء النفوس, ونور العقول والأبصار, وهو مقدمٌ على العمل, فمن استجلب الخير في جميع أحواله بالعلم وجمله بالعمل فقد ظفر بمراده, وأخذ من كل شيء بأسبابه, واستعد للسفر بعدته وزاده. ¬

_ (¬1) - المفردات في غريب القرآن تأليف أبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني تحقيق وضبط محمد خليل عيتاني, ص347 , الناشر: دار المعرفة بيروت الطبعة الثالثة 1422هـ2001م. (¬2) - سورة النحل الآية (78) .

ويرحم الله القائل: العلم مجلبة للخير أجمعه ... ودافع عن بنيه الشرَّ والوصبا (¬1) فالإنسان يشبه الحيوان المفترس فإذا تعلم عمل ونفع وعقل وأفاد واستفاد, وقد جاء في محكم التنزيل: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} (¬2) . ورحم الله احمد شوقي (¬3) حيث يقول: فَرُبَّ صَغيرِ قَومٍ عَلَّموهُ ... سَما وَحَمى المُسَوَّمَةَ العِرابا وَكانَ لِقَومِهِ نَفعاً وَفَخراً ... وَلَو تَرَكوهُ كانَ أَذىً وَعابا فَعَلِّم ما اِستَطَعتَ لَعَلَّ جيلاً ... سَيَأتي يُحدِثُ العَجَبَ العُجابا (¬4) ويكفي في شرف العلم وفضله ما خاطب الله به محمداً عبد الله ورسوله وخاتم أنبيائه ورسله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (¬5) فرتب على العلم معرفته وتوحيده والعلم به, والمراد بالخطاب محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأمته. ¬

_ (¬1) - هذا بيت من قصيدة للعلامة يحيى بن محمد الهادي قاضي الشرع في جبل صبر في القرن الماضي, يحث فيها ولده على طلب العلم. (¬2) - سورة العنكبوت الآية (43) . (¬3) - أحمد شوقي: (1285-1351هـ/1868-1932م) أحمد بن علي بن أحمد شوقي. أشهر شعراء العصر الأخير، يلقب بأمير الشعراء، مولده ووفاته بالقاهرة، كتب عن نفسه: (سمعت أبي يردّ أصلنا إلى الأكراد فالعرب) نشأ في ظل البيت المالك بمصر، وتعلم في بعض المدارس الحكومية، وقضى سنتين في قسم الترجمة بمدرسة الحقوق، وأرسله الخديوي توفيق سنة 1887م إلى فرنسا، فتابع دراسة الحقوق في مونبلية، واطلع على الأدب الفرنسي وعاد سنة 1891م فعين رئيساً للقلم الإفرنجي في ديوان الخديوي عباس حلمي. وندب سنة 1896م لتمثيل الحكومة المصرية في مؤتمر المستشرقين بجينيف. عالج أكثر فنون الشعر: مديحاً، وغزلاً، ورثاءً، ووصفاً، ثم ارتفع محلقاً فتناول الأحداث الاجتماعية والسياسية في مصر والشرق والعالم الإسلامي وهو أول من جود القصص الشعري التمثيلي بالعربية وقد حاوله قبله أفراد، فنبذهم وتفرد. وأراد أن يجمع بين عنصري البيان: الشعر والنثر، فكتب نثراً مسجوعاً على نمط المقامات فلم يلق نجاحاً فعاد إلى الشعر. (¬4) - انظر ديوان شوقي توثيق وتبويب وشرح وتعقيب العلامة الدكتور احمد محمد الحوفي عضو مجمع اللغة العربية وأستاذ الأدب العربي بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة ج1ص608, الناشر: نهضة مصر للطباعة والنشروالتوزيع القاهرة. (¬5) - سورة محمد الآية (19) .

ومما يزيد العلم رفعة قوله تعالى: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} (¬1) , وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن العلماء ورثة الأنبياء) (¬2) , وفي حديث ابن مسعود: (أن من قرأ قول الحق تبارك وتعالى: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬3) ، فإنه يجاء به يوم القيامة فيقول الله تعالى: عبدي عهد إليَّ عهداً وأنا أحق من وفَّى ادخلوا عبدي الجنة) (¬4) . ومن أطرف ما قيل في المحاورة بين العلم والعقل قول بعض الشعراء: علم العليم وعقل العاقل إختلفا ... من ذا الذي منهما قد أحرز الشرفا فالعقل قال: أنا أحرزت غايته ... والعلم قال: أنا الرحمن بي عرفا فأفصح العلم إفصاحاً وقال له: ... بأينا الله في فرقانه اتصفا فبان للعقل أن العلم سيِّده ... فقبَّل العقل رأس العلم وانصرفا ¬

_ (¬1) - سورة طه الآية (114) . (¬2) - رواه الإمام الحافظ أبو داود سليمان الاشعث السجستاني الأزدي, (202ـ275هـ) في سننه باب الحث على طلب العلم حديث (3641) , الناشر: دار بن حزم, الطبعة الاولى 1419هـ, 1998م, والإمام الحافظ أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي (209- 279هـ) , في سننه باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة حديث (2686) , تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر (1357هـ - 1938م) . الناشر: المكتبة الإسلامية لصاحبها الحاج رياض الشيخ, والإمام الحافظ ابن ماجه: محمد بن يزيد القزويني (207- 275هـ) , في سننه باب فضل العلماء حديث (223) , تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1395هـ-1975م, الناشر: دار احياء التراث العربي. (¬3) - سورة آل عمران الآية (18) . (¬4) - رواه الإمام الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني، (260-360هـ) في المعجم الكبير تحقيق حمدي السلفي، ج10ص199 حديث (10453) , الناشر دار إحياء التراث العربي.

بقاء العلم

والعلم زينٌ بين الأخلاء, وسلاح على الأعداء, وقد روى أبو طالب في أماليه (¬1) (حكاية) قال: حكى لنا أبو الحسن علي بن مهدي الطبراني أن الأصمعي روى عنه قال: رآني أعرابي فقال: يا أخ الحضر عليك بلزوم ما أنت فيه فإن العلم زين في المجالس, وحلية بين الاخوان, وصاحب في الغربة, ودليل على المروءة, ثم أنشأ يقول: تَعَلَّم فَلَيسَ المَرءُ يولَدُ عالِماً ... وَلَيسَ أَخو عِلمٍ كَمَن هُوَ جاهِلُ فَرُبَ كَبيرَ القَومِ لا عِلمَ عِندَهُ ... صَغيرٌ إِذا اِلتَفَّت عَلَيهِ الجَحافِلُ وقديماً قيل: العلم زين يا فتى ... والخط طوق من ذهب بقاء العلم إذا كان المال ينفد ويفنى؛ فإن العلم ينفع ويبقى, ولهذا فإن العقلاء من الناس يسعون لاكتسابه, ويعملون على احتساب ذخره وثوابه, قال الشاعر: العِلمُ كَنزٌ وَذُخرٌ لا نَفادَ لَهُ ... نِعمَ القَرينُ إِذا ما صاحَبَ صُحبا قَد يَجمَعُ المَرءُ مالاً ثُمَّ يُسلَبُهُ ... عَمّا قَليلٍ فَيَلقى الذُلَّ وَالحَرَبا وَجامِعُ العِلمِ مَغبوطٌ بِهِ أَبَداً ... وَلا يُحاذِر مِنهُ الفَوتَ وَالسَلبا يا جامِعَ العِلمِ نِعمَ الذخرُ َجمَعُهُ ... لا تَعدِلَنَّ بِهِ دُرّاً وَلا ذَهَبا (¬2) ¬

_ (¬1) - تيسير المطالب في أمالي السيد أبي طالب, تأليف القاضي العلامة احمد بن سعد المسوري ص110, الطبعة الأولى منشورات مكتبة الحياة, بيروت لبنان. (¬2) - هذه الأبيات نسبت لأبي الأسود الدؤلي (1 ق. هـ-69هـ/605-688م) ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل الدؤلي الكناني. تابعي، واضع علم النحو، كان معدوداً من الفقهاء والأعيان والأمراء والشعراء والفرسان والحاضري الجواب. قيل أن الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) رسم له شيئاً من أصول النحو، فكتب فيه أبو الأسود، وفي صبح الأعشى أن أبا الأسود وضع الحركات والتنوين لا غير، سكن البصرة في خلافة عمر (رضي الله عنه) وولي إمارتها في أيام علي (رضي الله عنه) . ولم يزل في الإمارة إلا أن أستشهد الإمام علي (رضي الله عنه) ، وكان قد شهد معه (صفين) ولما تم الأمر لمعاوية قصده فبالغ معاوية في إكرامه، وهو في أكثر الأقوال أول من نقط المصحف، مات بالبصرة. وتنسب هذه الأبيات أيضاً لصالح بن عبد القدوس والله أعلم.

وقال بعض الفصحاء: "العلم كنز عظيم لا يفنى, والعقل ثوب جديد لا يبلى" (¬1) . وفي الأمثال السائرة: "العلم خير ما وعيت, والشر أخبث ما أوعيت, وعلم بلا عمل كشجرة بلا ثمر". وقديماً قيل: "منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا". (¬2) وروي أن الإمام علي بن أبي طالب (¬3) كرم الله وجهه ورضي عنه قال: "بالعلم حياة القلوب من الخطايا, ونور الأبصار من العمى, وقوة الأبدان على البنيان, وبالعلم يطاع الله, وبالعلم يعرف الله ويوحّد, وبالعلم تفهم الأحكام, ويفصل به بين الحلال والحرام, يمنحه الله السعداء, ويحرم منه الأشقياء". (¬4) ¬

_ (¬1) - الفرائد والقلائد تأليف أبي الحسين محمد بن الحسن الأهوازي, دراسة وتحقيق د. احسان ذنون الثامري , ص12, الناشر: دار ابن حزم بيروت الطبعة الأولى 1427هـ2006م. (¬2) - ورد في نهج البلاغة ونسب المثل في التمثيل والمحاضرة وفي محاضرات الأدباء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم, وفي أدب الدنيا والدين لابن مسعود. (¬3) - أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين الإمام علي بن أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، أبو الحسن, (23ق. هـ-40هـ/600-660م) , ابن عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخوه وصهره, زوج فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيدة نساء العالمين, وأول الناس إسلاماً, ولد بمكة وربي في حجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يفارقه وشهد جميع المشاهد معه ما عدا غزوة تبوك فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استخلفه على المدنية, وكان له بلاء عظيم وأثر حسن, وكان اللواء بيده في أكثر المشاهد, وقد ولي الخلافة بعد أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه سنة (35هـ) , وأقام عاصمة خلافته بالكوفة ومكث فيها إلى أن قتله عبد الرحمن بن ملجم. (¬4) - تيسير المطالب في أمالي السيد أبي طالب ص110.

العلم عون الدين

وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إِذَا مَاتَ العَبدُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ) (¬1) وفي لفظ: (يَسْتَغفِرُ لَهُ) (¬2) . العلم عون الدين العلم عون الفتى على أمور دينه ودنياه, وقد جاء في شعر أحمد زكي أبو شادي: العلم عون الدين في نور الحجى ... أهلوه أطهار به أبرار (¬3) أما شبلي الملاط فهو يرى أن الدين مصباح الهدى وأن العلم ريحان الوجود حيث يقول: الدين مصباح الهدى ومناره ... والعلم ريحان الوجود وغاره (¬4) ¬

_ (¬1) - أخرجه البخاري: الإمام الحافظ المحدث شيخ الحفاظ محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه المولود يوم الجمعة 13 شوال سنة (194هـ-810م) ، المتوفى سنة (256هـ-870م) , في الأدب المفرد الجامع للآداب النبوية حديث (38) ص34, الناشر: دار المعرفة بيروت لبنان الطبعة الثالثة 1424هـ2003م, وقال السيوطي ضعيف, وأورده العجلوني في كشف الخفاء وقال رواه أبو داود والترمذي والنسائي والبخاري في الادب المفرد عن ابي هريرة, وزاد بعضهم على ذلك أشياء وردت في احاديث, ونظم الجميع الجلال السيوطي بقوله: إذا مات ابن آدم ليس يجري ... عليه من خصال غير عشر علومٌ بثها ودعا نجلٍ ... وغرس النخل والصدقات تجري وراثةُ مصحف ٍورباط ثغر ... وحفر البئر أو اجراء نهر وبيت للغريب بناه يأوي ... إليه أو بناء محل ذكر وتعليم لقرانٍ كريم ... فخذها من احاديث بحصر (¬2) - كتاب العلوم الذي جمعه الامام محمد بن منصور بن يزيد المرادي الكوفي المسمى ابو جعفر احد الفقهاء المعمرين, قيل انه تعمر 150سنة, وقد تضمن كتاب العلوم هذا فقهاً كثيراً ورواية واسعة وغلب عليه اسم امالي احمد بن عيسى, والامام احمد بن عيسى هو الامام العالم الفاضل المعروف بفقيه آل محمد له فقه كثير ورواية واسعة تضمن جلها كتاب العلوم, توفي سنة247هـ, ج4ص358 , طبعة مكتبة المؤيد الطائف الطبعة الأولى. (¬3) - ديوان الشفق الباكي, ص233, الناشر المطبعة السلفية مصر. (¬4) - ديوان شبلي الملاط, ص88 , الناشر: دار الطباعة والنشر بيروت.

العلم يرفع الله به الوضيع

ومعلوم أن الدين لا يؤتى إلا بالعلم, ولهذا أخبر الله تعالى عن صحابة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنهم الذين أوتوا العلم فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (¬1) . العلم يرفع الله به الوضيع إن صلاح الإنسان وفلاحه, وفوزه ونجاحه واجتنابه للشبهات, وابتعاده عن المحرمات, وارتفاعه إلى أعلى الدرجات إنما يكون بالعلم, وإنما وصل من وصل إلى الفضاء وصنع الدبابات والطائرات والصواريخ العابرة للقارات بالعلم قال الشاعر: العِلمُ يَنهَضُ بِالخَسيسِ إِلى العُلا ... وَالجَهلُ يَقعُدُ بِالفَتى المَنسوبِ وَإِذا الفَتى نالَ العُلومِ بِفَهمِهِ ... وَأُعيَنَ بِالتَشذيبِ وَالتَهذيبِ جَرَتِ الأُمورُ لَهُ فَبَرَّزَ سابِقاً ... في كُلِّ مَحضَرِ مَشهَدٍ وَمَغيبِ (¬2) فالعلم عنوان المكارم والأخلاق, المرشد إلى كمال قدرة البديع الخلاق: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ ¬

_ (¬1) - سورة الروم الآية (56) . (¬2) - ديوان دعبل الخزاعي ص52. دعبل الخزاعي (148 - 246 هـ / 765 - 860 م) دعبل بن علي بن رزين بن سليمان بن تميم بن نهشل الخزاعي، أبو علي. الشاعر المشهور, قال ابن حجر: كان جده رزين مولى عبد الله بن خلف الخزاعي والده طلحة الطلحات ويقال إنه من ولد بديل بن ورقاء الصحابي, وانظر لسان الميزان ج2ص430, وأصل كلمة دعبل: لقب وهو بكسر أوله وثالثه وسكون المهملة بينهما, وآخره لام وهو اسم الناقة الشارف ويقال أيضا للشيء القديم, وقال ابن حجر: أصله من الكوفة، ويقال انه من قرقيسيا وأقام ببغداد. في شعره جودة، كان صديق البحتري وصنّف كتاباً في طبقات الشعراء وكتاب الواحد في مثالب العرب ومناقبها, وله ديوان شعر مطبوع, طال عمره فكان يقول: لي خمسون سنة أحمل خشبتي على كتفي أدور على من يصلبني عليها فما أجد من يفعل ذلك, وكان طويلاً ضخماً. توفي ببلدة تدعا الطيب بين واسط وخوزستان.

العلم عنوان العز

وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} (¬1) . العلم عنوان العز العلم عنوان العز, ومعين البر, وباب العلا, ونور الحق, والخل الوافي, والصاحب الصديق الموصل إلى الجنة, ورحم الله الإمام الشافعي حيث يقول: عِلمي مَعي حَيثُما يَمَّمتُ يَنفَعُني ... قَلبي وِعاءٌ لَهُ لا بَطنُ صُندوقِ إِن كُنتُ في البَيتِ كانَ العِلمُ فيهِ مَعي ... أَو كُنتُ في السوقِ كانَ العِلمُ في السوقِ (¬2) وقال آخر: العِلْم يُحْي قُلوبَ الميِّتِين كما ... تَحْيا البلادُ إذا ما مَسَّها المَطَرُ والعِلم يَجْلو العَمَى عن قَلْب صاحِبه ... كما يُجَلِّي سوادَ الظُّلْمة القمَر (¬3) ¬

_ (¬1) - سورة الرعد الآيات (19-22) . (¬2) - ديوان الإمام الشافعي, طبعة مؤسسة الزعبي ودار الجيل, والشافعي (150-204هـ/767-819 م) هو الإمام محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي المطلبي أبو عبد الله. أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة وإليه نسبة الشافعية كافة. ولد في غزة بفلسطين وحمل منها إلى مكة وهو ابن سنتين، وزار بغداد مرتين وقصد مصر سنة 199 فتوفي بها وقبره معروف في القاهرة. قال المبرد: كان الشافعي أشعر الناس وآدبهم وأعرفهم بالفقه والقراآت، وقال الإمام ابن حنبل: ما أحد ممن بيده محبرة أو ورق إلا وللشافعي في رقبته منّة. كان من أحذق قريش بالرمي، يصيب من العشرة عشرة، برع في ذلك أولاً كما برع في الشعر واللغة وأيام العرب ثم أقبل على الفقه والحديث وأفتى وهو ابن عشرين سنة, وانظر ديوان الإمام الشافعي جمع وتعليق الدكتور احمد احمد شتيوي, ص128, الناشر: دار الغد الجديدة المنصورة مصر الطبعة الأولى 1424هـ2003م. (¬3) - العقد الفريد ج2ص183.

وإنما يخشى الله ويبتعد عن الكبرياء والرياء وظلم الأبرياء من عباد الله العلماء؛ قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} والمراد بالعلماء هنا علماء الشريعة والطبيعة وغير ذلك؛ لأنه جل شأنه ذكر العلماء بعد ذكر إنزال الماء من السماء, وإخراج الثمرات من الأرض, واختلاف ألوان الجبال والأحجار والناس والدواب والأنعام؛ فتأمل قول الحق تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (¬1) , فهؤلاء العلماء هم الذين ينبغي أن ينتظموا في سلك الإيمان والإيقان, فهم الذين يعلمون الخالق العظيم وقدرته, وشدة بطشه ونقمته, وقهره وعذابه وحلمه, وأنه على كل شيءٍ قدير, فهم يخشونه حق خشيته, ويعرفونه حق معرفته. والعلم في ذاته غاية الغايات, ألا ترى أنه يرشدك إلى بارئك, ويدلك على ما ينجيك, ويطلق عقلك من عقال الأوهام, ويبعدك عن مشابهة الضالة من الأنعام, ويقاوم التعصب والتقليد والتقزم وحب الانتقام, ويجنبك الوقوع في المعاصي والآثام, ويوصلك إلى المعرفة الخالصة, والحق المجرد, فهو وسيلة سامية لغاية بالغة السمو. ¬

_ (¬1) - سورة فاطر الآيتان (27-28) .

أشرف العلوم

فبغير العلم لا تستطيع أن تعالج مشاكل الحياة علاجاً سليماً محكماً, وبغير العلم لا تستطيع أن تحمي نفسك, أو تنقذها من التعالي على الناس والإساءة إليهم, أو تدفع عنها إيذاء المؤذين وعدوان المعتدين, فالعلم إذاً يجمع بين الحق والقوة, والسعادة والسيادة, والعظمة والسلطان. فبالعلم استطاع الإنسان -في دفاعه عن نفسه- أن يستعمل اللسان والسنان, وبالعلم استطاع أن يسخر الماء والهواء والبحار والكهرباء حتى صار الإنسان بعلمه: كمن يضع في إصبعه خاتم سليمان, ولهذا أوجب الله على الناس سؤال العلماء فقال سبحانه: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (¬1) , فمن كمل دينه وتم عقله فقد تحلى بالمكارم, واتصف بالمحامد, وكان في صدره على ذلك أكبر شاهد, قال جل شأنه: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} (¬2) . أشرف العلوم إن أشرف العلوم هي العلوم الشرعية المتعلقة بمعرفة الحق سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله وعظيم حقه, وكذلك ما تعلق من العلوم بمعرفة الحلال والحرام والأوامر والنواهي, وما أتى من العلم لبيان شئون المعاد في يوم الحساب, يوم البعث والجزاء والجنة والنار, ثم يأتي بعد ذلك ما يتعلق بعلم الأبدان كالصحة والرياضة وبشئون الحياة وعمارتها وإدارتها. وقد جعل الإمام ابن القيم مبادئ العلم الشرعي وأقسامه ثلاثة, وذلك حيث يقول: ¬

_ (¬1) - سورة النحل الآية (43) . (¬2) - سورة العنكبوت الآية (49) .

مبادئ العلوم

والعلم أقسام ثلاثٌ ما لها ... من رابع والحق ذو تبيانِ علم بأوصاف الإله وفعله ... وكذلك الأسماء للرحمنِ والأمر والنهي الذي هو دينه ... وجزاءه يوم المعاد الثاني والكل في القرآن والسنن التي ... جاءت عن المبعوث بالقرآنِ والله ما قال أمرء متحذلق ... بسواهما إلا من الهذيانِ (¬1) وقال أبو حاتم رحمه الله: يجب على العاقل أن لا يطلب من العلم إلا أفضله لأن الازدياد من العلم آثر عند العاقل من الذكر بالعلم, والعلم زين في الرخاء, ومنجاة في الشدة, ومن تعلم ازداد. (¬2) مبادئ العلوم إن الطالب لأي علم ينبغي له معرفة حدّه -أي أصله- أو الوصف المحيط الكاشف عن حقيقته وماهيته, ومعرفة موضوعه, وثمرته -أي الفائدة المرجو الحصول عليها منه-, ونسبته إلى أي العلوم ومعرفة واضعه, وهل هو فرض عين أو فرض كفاية؟ وقد جاء في كلام بعض الشعراء الإشارة إلى ذلك: إن مبادئ كل فن عشرة ... الحد والموضوع ثم الثمرة وفضله ونسبه والواضع ... والاسم الاستمداد حكم الشارع مسائل والبعض بالبعض اكتفى ... ومن درى الجميع حاز الشرفا ¬

_ (¬1) - انظر: شرح الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية لابن القيم , تحقيق الدكتور خليل هراس ج2ص240 , والموسوعة الشعرية للعلامة والأديب والواعظ الخطيب بدر بن عبد الله بن عبد الكريم الناصر, ص201. الناشر: دار العاصمة بالرياض الطبعة الأولى 1427هـ2006م. (¬2) - روضة العقلاء ونزهة الفضلاء للإمام الحافظ أبي حاتم محمد بن حبان البستي المتوفى سنة 354هـ, تهذيب ابراهيم بن عبد الله الحازمي, الطبعة الثانية 1418هـ, ص36.

الجد في طلب العلم

الجد في طلب العلم من جد في طلب العلم ظفر به, ومن سعى للعمل به انتفع به, قال الشاعر: بقدر الكد تكتسب المعالي ... ومن طلب العلا سهر الليالي تروم العز ثم تنام ليلاً ... يغوص البحر من طلب اللآلي ورحم الله شوقي حيث يقول: أَيُّها الطالِبُ لِلعِلمِ اِستَمِع ... خَيرَ ما في طَلَبِ العِلمِ جُمِع هُوَ إِن أوتيتَهُ أَسنى النِعَم ... هَل تَرى الجُهّالَ إِلاّ كَالنَعَم اُطلُبِ العِلمَ لِذاتِ العِلمِ لا ... لِظُهورٍ باطِلٍ بَينَ المَلا عِندَ أَهلِ العِلمِ لِلعِلمِ مَذاق ... فَإِذا فاتَكَ هَذا فَاِفتِراق طَلَبُ المَحرومِ لِلعِلمِ سُدى ... لَيسَ لِلأَعمى عَلى الضَوءِ هُدى فَإِذا فاتَكَ تَوفيقُ العَليم ... فَاِمتَنِع عَن كُلِّ تَحصيلٍ عَقيم وَاِطلُبِ الرِزقَ هُنا أَو هَهُنا ... كَم مَعَ الجَهلِ يَسارٌ وَغِنى (¬1) وله أيضاً: ترك النفوس بلا علم ولا أدب ... ترك المريض بلا طب ولا آسي وللشافعي رضي الله عنه: أخي لن تنال العلم إلا بستةٍ ... سأنبيك عن تفصيلها ببيانِ ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة ... وصحبة أستاذ وطول زمانِ ¬

_ (¬1) - انظر: ديوان شوقي توثيق وتبويب وشرح وتعقيب الأستاذ الدكتور احمد محمد الحوفي عضو مجمع اللغة العربية وأستاذ الأدب العربي بكلية دار العلوم جامعة القاهرة, الناشر: نهضة مصر للطباعة والنشر القاهرة.

وقد أغفل الشافعي رحمه الله الصحة, وهي من آكد الأسباب المعينة على التحصيل والطلب وهذا مما لا يختلف فيه عالمان, ولا ينتطح فيه عنزان, والنصوص في هذا المعنى كثيرة معلومة, فليس الصحيح كالسقيم, وليس الأقطع والأشل كالذي يذهب ويجيء, فالموانع كثيرة, وعظم الجزاء مع عظم البلاء, ولبعض الشعراء: بتسع ينال العلم: قوت وصحة ... وحرص وفكر ثاقب في التعلم ودرس وحفظ للعلوم وهمة ... وشرخ شباب واجتهاد معلم (¬1) وقال سفيان: أول العلم الإنصات, ثم الاستماع, ثم الحفظ, ثم العمل به, ثم النشر. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: "لا تكون عالماً حتى تكون متعلماً, ولا تكون بالعلم عالماً حتى تكون به عاملاً". (¬2) وقال الإمام الشافعي رحمه الله: اِصبِر عَلى مُرِّ الجَفا مِن مُعَلِّمٍ ... فَإِنَّ رُسوبَ العِلمِ في نَفَراتِهِ فَمَن لَم يَذُق مُرَّ التَعَلُّمِ ساعَةً ... تَجَرَّعَ ذُلَّ الجَهلِ طولَ حَياتِهِ وَمَن فاتَهُ التَعليمُ وَقتَ شَبابِهِ ... فَكَبِّر عَلَيهِ أَربَعاً لِوَفاتِهِ (¬3) فمن تواضع لمن يعلم الناس الخير ظفر بمراده, ومن تعالى وتكبّر هلك وعنه الخير أدبر, قال الشاعر: اطلبِ العلمَ ولا تكسلْ فما ... أبعدَ الخيرَ على أهلِ الكسلْ واحتفلْ للفقهِ في الدينِ ولا ... تشتغلْ عنهُ بمالٍ أوْ خَوَلْ ¬

_ (¬1) - الموسوعة الشعرية ص102. (¬2) - روضة العقلاء ص33. (¬3) - ديوان الشافعي ص29.

واهجرِ النومَ وحصِّلْهُ فَمَنْ.....يعرفِ المطلوبَ يحقرْ ما بذلْ لا تقلْ قدْ ذهبَتْ أربابُهُ ... كلُّ مَنْ سارَ على الدربِ وصلْ (¬1) أما الإمام علي رضي الله عنه فهو يرشد إلى تعلم أحسن العلوم فيقول: ما حوى العلم جميعاً رجلٌ ... لا ولو مارسه ألف سنة إنما العلم بعيدٌ غوره ... فخذوا من كل شيء أحسنه أما ابن عباس فهو يقول: ما أكثر العلم وما أوسعه ... من ذا الذي يقدر أن يجمعه إن كنت لا بد له طالباً ... محاولاً فالتمس أنفعه (¬2) ينال العلم بالتعلم في الصبا, وبالهمم العالية, فهو أرفع رتبة, وأجل مكتسب, وأسمى مفخر, فمن يشمر للبحث ينله, ومن يخطب الحسناء يصبر على البذل, فارحل لطلبه, وتغرب لنيله, ولا تكتفِ بمراجعة الكتاب, فإن ذلك لا يغني عن أخذ العلم مشافهةً من أولي الألباب, قال أبو حاتم: يظن الغمر أن الكُتْب تكفي ... أخا فهم لإدراك العلوم وما يدري الجهول بأن فيها ... غوامض حيرت عقل الفهيم إذا رمت العلوم بغير شيخ ... ضللت عن الصرط المستقيم وتلتبس الأمور عليك حتى ... تصير أضل من توما الحكيمِ (¬3) ¬

_ (¬1) - هذه الأبيات منسوبة لابن الوردي: عمر بن مظفر بن عمر بن محمد بن أبي الفوارس أبو حفص زين الدين بن الوردي المعري الكندي, المتوفى سنة 749هـ, شاعر أديب مؤرخ، ولد في معرة النعمان (بسورية) وولي القضاء بمنبج وتوفي بحلب, وتنسب إليه اللامية التي مطلعها: اعتزلْ ذكرَ الأغاني والغزلْ ... وقلِ الفصلَ وجانبْ مَنْ هزلْ (¬2) - جامع بيان العلم لابن عبد البر ج1ص106, الناشر: أم القرى للطباعة والنشر مصر, والموسوعة الشعرية ص104. (¬3) - نسبت هذه الأبيات لأبي حاتم ولأبي حيان التوحيدي , وانظر: نفح الطيب للمقري ج2ص564 , وطبقات الشافعية للسبكي ج9ص286 , والموسوعة الشعرية ص115.

محبة العلم

محبة العلم حبّبْ إلى نفسك العلم حتى تألفه وتلزمه, ويكون لهوك ولذتك, وسلوتك وبلغتك, وقد قال ابن المقفع: أن العلم علمان: علم للمنافع وعلم لتزكية (¬1) العقول, وأفشى العلمين وأجداهما أن ينشط له صاحبه من غير أن يحرّض عليه علم المنافع, وللعلم الذي هو ذكاء العقول وصقالها (¬2) وجلاؤها فضيلة منزلةٍ عند أهل الفضل في الألباب. (¬3) وإنما يبلغ المرء مبلغ الفضل بالعلم والعمل, فالعلم زين لصاحبه في الرخاء ومنجاة له في الشدة. تعظيم العلم من عظم العلم عمل, ومن أهانه أهين وابتذل, وقد جاء في شعر القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني: ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت ولكن لأخدما ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظموه في النفوس لعظما ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا ... محياه بالأطماع حتى تجهما (¬4) ¬

_ (¬1) - تزكية العقول: تنميتها والزيادة فيها. (¬2) - صقال العقول: شحذها وتجليتها وكشف صك الجهالة عنها. (¬3) - الآثار الكاملة لعبد الله بن المقفع حققها وشرحها وقدم لها الدكتور عمر الطباع, ص85, الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت لبنان, الطبعة الأولى 1418هـ1997م. (¬4) - محاضرات الأدباء ومحاورة الشعراء والبلغاء للراغب الأصبهاني, تهذيب ابراهيم زيدان ص14, الناشر دار الآثار بيروت.

تكريم المعلم

تكريم المعلم إن إكرام المعلم, والإحسان إليه دليل على سمو النفس, وكرم الطبع, وإنما مثل المعلم مثل الطبيب يحتاج إلى إكرام ليتقن عمله, فالمعلم كالزارع الذي يبذر زرعاً ويتعهده بالماء لينمو ويحيى, إكرامه آية تدل على الفطنة والذكاء, قال الشاعر: إن المعلم والطبيب كلاهما ... لا ينصحان إذا هما لم يكرما فاصبر لدائك إن أهنت طبيبه ... واصبر لجهلك إن جفوت معلما فالمعلم خير الآباء لأن حياة الروح بالعلم كما أن حياة الجسد بالروح, فالعلم مادة الروح الإنساني, كما أن النطفة مادة الجسد والروح الحيواني, والروح الإنساني أفضل الأرواح, قال الشاعر: من علَّم الناس كان خير أبٍ ... ذاك أبو الروح لا أبو النطف (¬1) وقد قيل للاسكندر: إنكَ تعظم معلمك أكثر من تعظيمك لأبيك, فقال: لأن أبي سبب حياتي الفانية, ومؤدبي ومعلمي سبب الحياة الباقية (¬2) . وقد أشارت السنة النبوية إلى وجوب احترام من يعلم الناس الخير وأبانت حقه, من ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ) (¬3) , ويرحم الله شوقي حيث يقول: ¬

_ (¬1) - أدب الدنيا والدين لأبي الحسن محمد حبيب الماوردي, ص77 , طبعة دار الكتب العلمية, بيروت, الطبعة الأولى1411هـ , والموسوعة الشعرية ص124. (¬2) - محاضرات الأدباء ص14. (¬3) - انظر مسند الإمام الحافظ المحقق العلامة المحدث أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، (المتوفى سنة 241هـ) , تحقيق شعيب الأرنؤوط وآخرون, حديث (22807) عن عبادة بن الصامت, الناشر: مؤسسة الرسالة بيروت, الطبعة الثانية 1420هـ1999م.

قُم لِلمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَبجيلا ... كادَ المُعَلِّمُ أَن يَكونَ رَسولا أَعَلِمتَ أَشرَفَ أَو أَجَلَّ مِنَ الَّذي ... يَبني وَيُنشِئُ أَنفُساً وَعُقولا سُبحانَكَ اللَهُمَّ خَيرَ مُعَلِّمٍ ... عَلَّمتَ بِالقَلَمِ القُرونَ الأولى أَخرَجتَ هَذا العَقلَ مِن ظُلُماتِهِ ... وَهَدَيتَهُ النورَ المُبينَ سَبيلا وَطَبَعتَهُ بِيَدِ المُعَلِّمِ تارَةً ... صَدِئَ الحَديدُ وَتارَةً مَصقولا أَرسَلتَ بِالتَوراةِ موسى مُرشِداً ... وَاِبنَ البَتولِ فَعَلِّمِ الإِنجيلا وَفَجَرتَ يَنبوعَ البَيانِ مُحَمَّداً ... فَسَقى الحَديثَ وَناوَلَ التَنزيلا عَلَّمتَ يوناناً وَمِصرَ فَزالَتا ... عَن كُلِّ شَمسٍ ما تُريدُ أُفولا وَاليَومَ أَصبَحَتا بِحالِ طُفولَةٍ ... في العِلمِ تَلتَمِسانِهِ تَطفيلا مِن مَشرِقِ الأَرضِ الشَموسُ تَظاهَرَت ... ما بالُ مَغرِبِها عَلَيهِ أُديلا يا أَرضُ مُذ فَقَدَ المُعَلِّمُ نَفسَهُ ... بَينَ الشُموسِ وَبَينَ شَرقِكِ حيلا ذَهَبَ الَّذينَ حَمَوا حَقيقَةَ عِلمِهِم ... وَاِستَعذَبوا فيها العَذابَ وَبيلا في عالَمٍ صَحِبَ الحَياةَ مُقَيَّداً ... بِالفَردِ مَخزوماً بِهِ مَغلولا صَرَعَتهُ دُنيا المُستَبِدِّ كَما هَوَت ... مِن ضَربَةِ الشَمسِ الرُؤوسُ ذُهولا سُقراطُ أَعطى الكَأسَ وَهيَ مَنِيَّةٌ ... شَفَتَي مُحِبٍّ يَشتَهي التَقبيلا عَرَضوا الحَياةَ عَلَيهِ وَهيَ غَباوَةٌ ... فَأَبى وَآثَرَ أَن يَموتَ نَبيلا إِنَّ الشَجاعَةَ في القُلوبِ كَثيرَةٌ ... وَوَجَدتُ شُجعانَ العُقولِ قَليلا إِنَّ الَّذي خَلَقَ الحَقيقَةَ عَلقَماً ... لَم يُخلِ مِن أَهلِ الحَقيقَةِ جيلا وَلَرُبَّما قَتَلَ الغَرامُ رِجالَها ... قُتِلَ الغَرامُ كَمِ اِستَباحَ قَتيلا

المعلم الذي لا يؤدي واجبه

أَوَكُلُّ مَن حامى عَنِ الحَقِّ اِقتَنى......عِندَ السَوادِ ضَغائِناً وَذُحولا (¬1) ويقال للعالم الفطن: العالم النحرير, قالوا: أنه لنقاب -وهو الفطن الذكي-, وقالوا: أنه لعض -وهو العالم النحرير-. (¬2) المعلم الذي لا يؤدي واجبه إنما مثل المعلم غير المتأدب كمثل شجرة عارية لا تورق ولا تثمر قد انتصبت للناس في ملتقى الطرق تعترض الرائح وتصد سبيل الغادي, فلا الناس بظلها يستظلون ولا هم من شرها ناجون, فيجب على المعلم أن يعدَّ نفسه لتعليم الحكمة, والتحلي بالصبر والرحمة, حتى يؤدي واجبه, ويستطيع أداء رسالته: فَهوَ الَّذي يَبني الطِباعَ قَويمَةً ... وَهوَ الَّذي يَبني النُفوسَ عُدولا وَيُقيمُ مَنطِقَ كُلِّ أَعوَجِ مَنطِقٍ ... وَيُريهِ رَأياً في الأُمورِ أَصيلا وَإِذا المُعَلِّمُ لَم يَكُن عَدلاً مَشى ... روحُ العَدالَةِ في الشَبابِ ضَئيلا وَإِذا المُعَلِّمُ ساءَ لَحظَ بَصيرَةٍ ... جاءَت عَلى يَدِهِ البَصائِرُ حولا وَإِذا أَتى الإِرشادُ مِن سَبَبِ الهَوى ... وَمِنَ الغُرورِ فَسَمِّهِ التَضليلا وَإِذا أُصيبَ القَومُ في أَخلاقِهِم ... فَأَقِم عَلَيهِم مَأتَماً وَعَويلا إِنّي لأَعذُرُكُم وَأَحسَبُ عِبئَكُم ... مِن بَينِ أَعباءِ الرِجالِ ثَقيلا وَجَدَ المُساعِدَ غَيرُكُم وَحُرِمتُمُ ... في مِصرَ عَونَ الأُمَّهاتِ جَليلا وَإِذا النِساءُ نَشَأنَ في أُمِّيَّةً ... رَضَعَ الرِجالُ جَهالَةً وَخُمولا (¬3) ¬

_ (¬1) - ديوان شوقي ج1ص497. (¬2) - العقد الفريد للعلامة احمد بن محمد عبدربه الأندلسي ج3ص35, طبعة دار احياء التراث العربي بيروت لبنان. (¬3) - ديوان شوقي ج1ص500.

المعلم الذي يخالف علمه عمله

المعلم الذي يخالف علمه عمله إن من يعلم الناس يجب أن يكون قدوة فيه, وأن لا ينهى الناس عن شيء ويأتيه, قال الشاعر: يا أَيُّها الرَجُلُ المُعَلِّمُ غَيرَهُ ... هَلا لِنَفسِكَ كانَ ذا التَعليمُ تَصِفُ الدَّواءَ لِذي السَّقامِ وَذي الضَّنا ... كيما يَصحّ بِهِ وَأَنتَ سَقيمُ وَتَراكَ تُصلِحُ بالرشادِ عُقولَنا ... أَبَداً وَأَنتَ مِن الرَّشادِ عَديمُ فابدأ بِنَفسِكَ فانهَها عَن غَيِّها ... فَإِذا اِنتَهَت عَنهُ فأنتَ حَكيمُ فَهُناكَ يُقبَلُ ما تَقولُ وَيَهتَدي ... بِالقَولِ منك وَينفَعُ التعليمُ لا تَنهَ عَن خُلُقٍ وَتأتيَ مِثلَهُ ... عارٌ عَلَيكَ إِذا فعلتَ عَظيمُ (¬1) وقال آخر: العلم للرجل اللبيب زيادة ... ونقيصة للأحمق الطياشِ مثل النهار يزيد أبصار الورى ... نوراً ويعمي أعين الخفاشِ (¬2) حق التعليم مكفول للصغير والكبير طلب العلم وتعليمه مذهب الفاضل ودينه, فخذ الحكمة ممن تسمعها منه, فرب رمية من غير رامٍ, وحكمة من غير حكيم, وفي الحديث: (الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ حَيْثُمَا وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا) (¬3) . ¬

_ (¬1) - نسبت هذه الأبيات للمتوكل الليثي وهي في ديوانه, ونسبت لابي الأسود الدؤلي, وانظر: الموسوعة الشعرية ص125, والبيان والتبين للجاحظ, تحقيق عبد السلام هارون, ج1ص198, الناشر دار الخانجي بمصر 1367هـ , وجامع بيان العلم لابن عبد البر ج1ص196, والبصائر والذخائر لابي حيان التوحيدي ج5ص131 , والله سبحانه وتعالى أعلم. (¬2) - ورد هذان البيتان منسوبة لهبة الله بن التلميذ, وانظر: معجم كنوز الأمثال والحكم العربية النثرية والشعرية للدكتور كمال خلايلي, ص93, الناشر: مكتبة لبنان ناشرون, طبعة 1998م. (¬3) - أخرجه الترمذي في سننه باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة حديث (2687) , وابن ماجه في سننه باب الحكمة حديث (4169) .

قال البخاري في باب الاغتباط بالعلم والحكمة: وقد تعلَّم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في كبر سنهم, وروى بسنده عن عبد الله بن مسعود قال: قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا) (¬1) , وقد تعلم الصحابة وهم شيوخ وكهول واشتغلوا بالعلم فكانوا بحوراً, بل إنهم كانوا يسلمون شيوخاً وكهولاً وأحداثاً, ويتعلمون العلم والقران والسنن فصاروا أطواد الحكمة والفكر؛ وإن كان العلم في الصغر ارسخ أصولاً وأبسق فروعاً, وفي الأثر: "العلم في الصغر كالنقش في الحجر", وقد أخرجه الحافظ ابن حجر في تخريجه لمسند الفردوس بلفظ: (حفظ الغلام كالرسم في الحجر) وأسنده الديلمي عن ابن عباس، وإن كان بعض العلماء قد ضعفه، وقد قال ابن الجوزي رحمه الله: (أقوم التقويم ما كان في الصغر) ، فأما إذا ترك الولد وطبعه ومشى عليه ومرن كان رده صعباً، قال الشاعر: إنَّ الغُصُونَ إذا قوَّمتها اعتَدَلَت ... ولا يَلِينَ إذا قَوَّمتَهُ الخُشُبُ قد ينفعُ الأدَبُ الأحداثَ في مَهَلٍ ... وليس يَنفَعُ عند الكَبرَة الأدَبُ (¬2) وقال آخر: والطفل يحفظ ما يلقى إليه ولا ... ينساه إذ قلبه كالجوهر الصافي فانقش على قلبه ما شئت من خبر ... فسوف يأتي به من حفظه وافي ¬

_ (¬1) - أخرجه البخاري صحيحه كتاب العلم باب إنفاق المال في حقه حديث (1320) . (¬2) - انظر الطب الروحاني لابن الجوزي: أبو الفرج عبد الرحمن بن علي، تحقيق: أبو هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول، ص59, الناشر: مكتبة الثقافة الذهبية، القاهرة 1406هـ،

اما العلامة محمد بن محمد المنصور (¬1) فهو يقول: رسم على الماء درس العلم في الكبر ... والنقش في حجر إن كان في الصغر فاحذر ضياع الصبافي تافه وسفا ... هـ أو تكاسل فاخذر غاية الحذر وإنما أرشد الشاعر إلى حفظ الصغير لأن مرحلة الصغر مرحلة تلقين لا فهم, فالطفل في غالب الأحوال يستطيع أن يحفظ الشيء الكثير وإن كان تفهمه لحقائق تلك المعارف والعلوم لا يزال محدوداً نظراً لصغر سنه, ولكنه لا ينسى ما حفظ, لصفاء ذهنه, ولكون ما يتلقنه أول ما يطرق ويثبت في صحائف فكره, فهو كالجوهر الصافي كما قال الشاعر, فالعاقل يحرص على تلقين الأطفال ما ينفعهم من أمور الدين والدنيا, ويبعدهم عن كل شيء يضرهم, وفي المثل السائر: "العلم في الصغر كالنقش على الحجر" وقد تقدم, ومن الخطورة بمكان أن يضلل الأطفال والصبيان في صغرهم, فالعقل يعجب للشروع, ولله در أبي العلاء المعري (¬2) حيث يقول: وَالعَقلُ يَعجَبُ لِلشُروعِ تَمَجُّسٍ ... وَتَحَنُّفٍ وَتَهَوُّدٍ وَتَنَصُّرِ فَاِحذَر وَلا تَدَعِ الأُمورَ مُضاعَةً ... وَاِنظُر بِقَلبِ مُفَكِّرٍ مُتَبَصِّرِ ¬

_ (¬1) - هو العلامة العابد الناسك الفاضل المجتهد/ محمد بن محمد المنصور الحسني اليماني من العلماء المعاصرين فيلسوف ومفكر اسلامي كبير وهو مرجع لعلماء الزيدية عرف بالاخلاق الكريمة والتواضع شغل عدة مناصب في الدولة اليمنية منها (وزير العدل-وعضوية المحكمة العليا- ونظارة الوصايا- وعضوية دار الافتاء التي لايزال فيها حتى كتابة هذه الاحرف) وله عدة ابحاث ومؤلفات مخطوطة وهو اديب كبير وشاعر فصيح له ديوان مطبوع اسماه لوامع من خواطر شواسع, وهذان البيتان من قصيدة له اسماها برق يماني مطلعها: (علمي بربي شامخ الاركان ... بالعقل اشهده وبالقرآن) .. (¬2) - قال الذهبي -رحمه الله-: هو الشيخ العلامة, شيخ الآداب, أبو العلاء احمد بن عبد الله بن سليمان ... القحطاني ثم التنوخي, المعري, الأعمى, اللغوي, الشاعر, صاحب التصانيف السائرة, والمتهم في نحلته, ولد في سنة 363هـ, وضر بالجدري وله أربع سنين وأشهر, وقال ياقوت الحموي: عاش شيئاً وثمانين سنة, لم يأكل اللحم منها خمساً وأربعين سنة, انظر: اعلام النبلاء للذهبي (18/23) ومعجم الأدباء لياقوت الحموي (1/396) .

وفي الحديث: (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ) (¬1) , وقديماً قيل: "من لم يتعلم في صغره غالباً ما يتقدم في كبره". أما مرحلة الكبر فقد دل التتبع والاستقراء من قبل العلماء والباحثين أنها مرحلة تفهم لحقائق الأشياء أكثر منها مرحلة تلقين, والعاقل يحرص على تعلم العلم وتفهمه والعمل به كبيراً وصغيراً, فالعلم أفضل خلف, والعمل به أكمل شرف, وفي المثل: "لا سمير كالعلم ولا ظهير كالحلم". فتعلم أخي العلم فإنه يصلح فاسدك, ويرغم حاسدك, ويقيم ميلك, ويصلح أملك, ويقرب عليك ما بعد, وعلِّمه الصغير ليكون في الكبر أميراً, وقد قال بعض الحكماء: "تعلم العلم فإنه يقومك ويسددك صغيرا, ويقدمك ويسودك كبيرا" وقيل: "تعلم العلم فإنه عز لا يبلى جديده, وكنز لا يفنى مديده, فمن لمن يعلم لم يسلم, فالفضل بالعقل والعلم والأدب لا بالأصل والحسب". (¬2) ومما يرغب فيه جني ثمار العلم ممن تحب وممن لا يعجب, وقد قيل: لا يمنعك ضعة القائل عن الاستماع إليه, فرب فمٍ كريهٍ مج علماً ذكيا, وتبرٍ صافٍ في صخرٍ جاس, والجوهرة النفيسة لا يشينها سخافة غائصها, ولا دناءة بائعها, فاستكثر أخي العلم فإنه خفيف حمله, قال أبو نواس: ما رأيت شيئاً إلا قليله أخف من كثيره إلا العلم فإنه كلما كان أكثر كان أخف محمل, ¬

_ (¬1) - أخرجه البخاري في صحيحه باب ما قيل في أولاد المشركين حديث (1319) , ومسلم في صحيحه باب معنى كل مولود يولد على الفطرة حديث (2658) , واللفظ للبخاري. (¬2) - انظر الفرائد والقلائد ص11.

ترك المعاصي سبب في حفظ العلوم وجمعها

وقيل: كل إناء يفرغ فيه شيء يضيق إلا القلب, فإنه كلما أفرغ فيه علم اتسع (¬1) , وقد جاء في محكم التنزيل: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (¬2) . ترك المعاصي سبب في حفظ العلوم وجمعها قال أبو حاتم: الواجب على العاقل مجانبة ما يدنس علمه من أسباب هذه الدنيا, مع القسط في لزوم العمل بما قدر عليه, فمن عجز عن العمل بما جمع من العلم؛ فلا يجب أن يعجز عن حفظه, وفي أمثال العرب: "عقرة العلم النسيان", وفي الذكر الحكيم: {سَنُقْرِؤُكَ فَلاَ تَنسَى} (¬3) , وجاء في شعر محمد بن بشير الخزاعي: أما لو أعي كل ما أسمع ... وأحفظ من ذاك ما أجمع ولم أستفد غير ما قد جمعت ... لقيل هو العالم المقنع (¬4) ولكن نفسي إلى كل شيء ... من العلم تسمعه تنزع وأحضر بالجهل في مجلسي ... وعلمي في الكتب مستودع فلا أنا أحفظ ما قد جمعت ... ولا أنا من جمعه أشبع ومن يك في علمه هكذا ... يكن دهره القهقرى يرجع إذا لم تكن حافظاً واعياً ... فجمعك للعلم لا ينفع (¬5) ¬

_ (¬1) - محاضرات الأدباء ص22. (¬2) - سورة الزمر الآيتان (17و18) . (¬3) - سورة الأعلى الآية (6) . (¬4) - مقنع كمقعد: أي رضي يقنع به. (¬5) - انظر: روضة العقلاء ص35, ونسبت الأبيات أيضاً لمحمد بن يسير الرياشي, والله تعالى أعلم.

إنفاق العلم وعدم جواز كتمه

أما الإمام الشافعي فهو يقول: شَكَوتُ إِلى وَكيعٍ سوءَ حِفظي ... فَأَرشَدَني إِلى تَركِ المَعاصي وَأَخبَرَني بِأَنَّ العِلمَ نورٌ ... وَنورُ اللَهِ لا يُهدى لِعاصي (¬1) إنفاق العلم وعدم جواز كتمه في إنفاق العلم ونشره بقاؤه ونماؤه, وذخره وأجره, قال الشاعر: العلم كنزٌ كلما أنفقته ينمو ... وإنما لم ترجُ انفاقاً فني وفي الحديث: (مَنْ كَتَمَ عِلْمًا مِمَّا يَنْفَعُ اللَّهُ بِهِ فِي أَمْرِ النَّاسِ أَمْرِ الدِّينِ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ النَّارِ) (¬2) . ولبعض الشعراء: إذا العلم لم تعمل به كان حجة ... عليك ولم تعذر بما أنت جاهله فإن كنت قد أوتيت علماً فإنما ... يصدق قول المرء ما هو فاعله (¬3) وقال آخر: وعالم بعلمه لم يعملن ... معذبٌ من قبل عباد الوثن أما عبد الملك بن ادريس الجزيلي فهو يرى أن العلم لا ينفع صاحبه ما لم يفد عملاً وحسن تبصر وذلك حيث يقول: والعلم ليس بنافع أربابه ... ما لم يفد عملاً وحسن تبصرِ سيان عندي علم من لم يستفد ... عملاً به وصلاة من لم يطهرِ ¬

_ (¬1) - ديوان الإمام الشافعي ص106. (¬2) - أخرجه ابن ماجه في سننه باب من سئل عن علم فكتمه حديث (265) . (¬3) - جامع بيان العلم لابن عبد البر ج2ص7 , والموسوعة الشعرية ص108.

القصة في الحديث النبوي

فاعمل بعلمك توف نفسك وزنها.......لا ترض بالتضييع وزن المخسرِ ويقول ابراهيم التنوخي: وإذا الفتى قد نال علماً ثم لم ... يعمل به فكأنما لم يعلم أما ابن عماد الاقفهسي فهو يرى أن من لم يعمل بعلمه خائب وذلك حيث يقول: وإن علمت ولم تعمل على وجل ... فما ربحت فقل يا خيبة الأمل ولله در القائل: اعمل بعلمي وإن قصرت في عملي ... ينفعك علمي ولا يضرك تقصيري القصة في الحديث النبوي خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ بَعْضِ حُجَرِهِ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِحَلْقَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَدْعُونَ اللَّهَ وَالأُخْرَى يَتَعَلَّمُونَ وَيُعَلِّمُونَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: (كُلٌّ عَلَى خَيْرٍ هَؤُلاءِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَدْعُونَ اللَّهَ فَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُمْ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُمْ وَهَؤُلاءِ يَتَعَلَّمُونَ وَإِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّمًا, فَجَلَسَ مَعَهُمْ) (¬1) . الجهل يضاد العلم العلم حياة الأمة, والجهل حرمانها, فمن تعلم شفي ومن جهل عمي, وقديما قيل: " الجهل مطية من ركبها ذل, ومن صحبها ضل, وشر المصائب الجهل", ويرحم الله احمد شوقي حيث يقول: هل علمتم أمةً في جهلها ... ظهرت في المجد حسناء الرداء ¬

_ (¬1) - رواه ابن ماجه في سننه باب فضل العلماء حديث (225) , والدارمي في سننه باب في فضل العلم حديث (357) .

وله أيضا: إني نظرت إلى الشعوب فلم أجد ... كالجهل داءً للشعوب مبيدا الجهل لا يلد الحياة مواته ... إلا كما تلد الرمام الدودا أما جرد ابن عمرو فهو يقول: رأيت العز في أدب وعلم ... وفي الجهل المذلة والهوان (¬1) الجهل أنكى عدو, وأخبث صديق, والجهل داء قاتل, وشقاء حاصل, فإذا خيم على أمة فسدت, أو على أسرة مسخت, قال الشاعر: إذا ما الجهل خيم في بلاد ... رأيت أسودها مسخت قرودا (¬2) وقال الإمام ابن القيم: والجهل داء قاتل وشفاؤه ... أمران في التركيب متفقانِ نص من القرآن أو من سنة ... وطبيب ذاك العالم الرباني (¬3) منازعة العلماء تنفي العقل وتثبت الجهل, وأجهل الناس من قل صوابه وكثر اعجابه, قال الشاعر: أليس من البلوى بانك جاهل ... وأنك لا تدري بأنك لا تدري إذا كنت لا تدري ولست كمن درا ... فكيف إذاً تدري بأنك لا تدري (¬4) أما ابن دريد (¬5) فإنه يقول: ¬

_ (¬1) - أدب الدنيا والدين للماوردي ص266. (¬2) - البيت هذا لمعروف للرصافي. (¬3) - شرح الكافية ج2ص240 , والموسوعة الشعرية ص128. (¬4) - العقد الفريد لابن عبدربه ج2ص151. (¬5) - محمد بن الحسن بن دريد الأزدي القحطاني، أبو بكر, (223-321هـ/838-932م) , من أئمة اللغة والأدب، كانوا يقولون: ابن دريد أشعر العلماء وأعلم الشعراء، وهو صاحب المقصورة الدريدية، ولد في البصرة وانتقل إلى عمان فأقام اثني عشر عاما وعاد إلى البصرة ثم رحل إلى نواحي فارس فقلده آل ميكال ديوان فارس، ومدحهم بقصيدته المقصورة، ثم رجع إلى بغداد واتصل بالمقتدر العباسي فأجرى عليه في كل شهر خمسين دينارا فأقام إلى أن توفي, من كتبه (الاشتقاق-ط) في الأنساب، و (المقصور والممدود-ط) ، و (الجمهرة-ط) في اللغة، ثلاثة مجلدات، و (أدب الكاتب) ، و (الأمالي) .

جهلت فعاديت العلوم وأهلها ... كذاك يعادي العلم من هو جاهله وقال آخر: جهلت أمراً فأبديت النكير له ... والجاهلون لأهل العلم أعداء وقديما قيل: "أربعة يقضى بها على أربعة: السعاية على الدناءة, والإساءة على الرداءة, والحلف على البخل, والسخف على الجهل, وأربعة لا تنفك عن أربعة: الجهول عن السقط, والغفول عن الغلط, والعجول عن الزلل, والملول عن العمل, وأربعة تدل على الجهل: صحبة الجهول, وكثرة الفضول, وإذاعة السر, وإثارة الشر". (¬1) وقيل أيضاً: "ليس للمرء أن يفرح بحالة جليلة نالها بغير عقل, أو منزلة رفيعة حلها بغير فضل, فإن الجهل ينزله منها, ويزيله عنها, ويحطه إلى رتبته, ويرده إلى قيمته, بعد أن تظهر عيوبه, وتكثر ذنوبه, ويصير مادحه هاجياً, ويصبح وليه معادياً", وربما أقبلت الدنيا على الجاهل بالاتفاق, وأدبرت عن العاقل العالم مع الاستحقاق, فإذا أتتك منها سهمة مع جهل أو فاتتك فيها بغية مع عقل فلا يحملنك ذلك على الرغبة في الجهل, والزهد في العقل والعلم, فدولة الجاهل من الممكنات, ودولة العاقل من الواجبات, وليس ما أمكنه شيء من ذاته كمن استوجبه بآلته وأداته, فعداوة العاقل خير من صادقة الجاهل. (¬2) ¬

_ (¬1) - الفرائد والقلائد ص71. (¬2) - الفرائد والقلائد ص13-14.

والجهل أضر الأصحاب, والذم أقبح الأثواب, والجاهل من جهله في إغواء, ومن هواه في إغراء, فقوله سقيم, وفعله ذميم, ودولة الجاهل عبرة للعاقل, وقديماً قيل: "عالم معاند خير من جاهل مساعد", و"الجهل بالفضائل من أقبح الرذائل". والجهل يضع والعلم يرفع, قال الشاعر: العلم يرفع بيت لا عماد له ... والجهل يهدم بيت العز والشرف (¬1) ولله در القائل: فيا عجباً لمن ربيت طفلاً ... ألقمه بأطراف البنان أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني أعلمه الفتوة كل وقت ... فلما طر شاربه جفاني وكم علمته نظم القوافي ... فلما قال قافيةً هجاني (¬2) الفتيا بغير علم إثم جاء في محكم الذكر: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (¬3) , وجاء في السنة النبوية: (مَنْ أُفْتِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ) (¬4) , ولصفي الدين الحلي (¬5) : ¬

_ (¬1) - جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب تأليف السيد أحمد الهاشمي, ص700 , الناشر: مكتبة المعارف, بيروت, طبعة جديدة محققة ومنقحة أشرف على تصحيحها لجنة من الجامعيين, والموسوعة الشعرية ص128. (¬2) - رويت هذه الأبيات لمعن بن أوس وللبيد وقيل غير ذلك , وانظر: الموسوعة الشعرية ص125, ومجمع الأمثال للميداني , وأدب الدنيا والدين. (¬3) - سورة الأعراف الآية (33) . (¬4) - أخرجه أبو داود سليمان الاشعث السجستاني الأزدي, في سننه باب التوقي في الفتيا حديث (3657) . (¬5) - عبد العزيز بن سرايا بن علي بن أبي القاسم، السنبسي الطائي, شاعر عصره، ولد ونشأ في الحلة، بين الكوفة وبغداد، واشتغل بالتجارة فكان يرحل إلى الشام ومصر وماردين وغيرها في تجارته ويعود إلى العراق, انقطع مدة إلى أصحاب ماردين فَتَقَّرب من ملوك الدولة الأرتقية ومدحهم وأجزلوا له عطاياهم. ورحل إلى القاهرة، فمدح السلطان الملك الناصر وتوفي ببغداد, له (ديوان شعر) ، و (العاطل الحالي) : رسالة في الزجل والموالي، و (الأغلاطي) ، معجم للأغلاط اللغوية و (درر النحور) ، وهي قصائده المعروفة بالأرتقيات، و (صفوة الشعراء وخلاصة البلغاء) ، و (الخدمة الجليلة) ، رسالة في وصف الصيد بالبندق.

العليم الخبير في أسماء الله الحسنى

إِذا لَم تَكُن عالِماً بِالسُؤالِ ... فَتَركُ الجَوابِ لَهُ أَسلَمُ فَإِن أَنتَ شَكَّكتَ فيما سُئِلـ ... ـتَ فَخيرُ جَوابِكَ لا أَعلَمُ وقال آخر: وَمَن كانَ يَهوى أَن يُرى مُتَصَدِّراً ... وَيَكرَهُ لا أَدري أَصيبَت مَقاتِلُه (¬1) فمن عاش وعَقَل وعلم وعمل وترك آثاراً طيبة فقد أدركته السعادة قال الشاعر: فمن عاش حتى ينفع الناس علمه ... فلا زال ممتداً له العيش والعمر وما الخلد إلا للذين إذا انتهت ... حياتهم بالخير دام بها الذكر (¬2) العليم الخبير في أسماء الله الحسنى إن الله جل وعلا عليم محيط علمه بكل شيء، فهو الذي تفرد سبحانه بعلم الغيب والشهادة، وهو الذي يعلم غيب السماوات والأرض، وهو ¬

_ (¬1) - أورد هذا البيت الماوردي في أدب الدنيا والدين لأبي الحسن محمد حبيب الماوردي, ص42, طبعة دار الكتب العلمية , بيروت , الطبعة الأولى1411هـ, من غير ذكر لقائله. (¬2) - ذكر هذين البيتين العلامة محمد بن سالم بن حسين الكدادي البيحاني في إصلاح المجتمع ص159 , الناشر: شركة ومكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر الطبعة الثانية 1375هـ1955م.

الذي يعلم الظواهر والبواطن، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا اصغر من ذلك ولا اكبر، فهو لا يغفل ولا ينسى. فما علوم الخلائق بالنسبة إلى علم الخالق بشيء، ولا يمكن مقارنتها بعلمه بوجه من الوجوه فهو الذي علّمهم شيئاً يسيراً من العلم لم يكونوا يعلمونه، تفضل الله به عليهم، وفي محكم التنزيل: {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (¬1) , فسبحانك ربنا لا نقول إلا كما قالت الملائكة: {سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (¬2) ، فهو الذي خلق الخلائق من العدم، وعلم الإنسان ما لم يكن يعلم، وخلق له ما لم يكن يعلم، فتبارك الذي علم بالقلم، وأمره بالقراءة باسم ربه الأكرم، فقال جل شأنه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ*عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (¬3) ، وفي سورة البقرة يقول سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬4) ، فعلمه سبحانه محيط بجميع العالم العلوي والسفلي وما فيه من المخلوقات ذواتها، وأوصافها وأفعالها، وجميع أمورها، فهو يعلم ما كان وما يكون في المستقبلات التي لا نهاية لها وما لم يكن لو كان كيف يكون، ويعلم أحوال المكلفين منذ إنشائهم، وبعد ما يميتهم، وبعد ما ¬

_ (¬1) - سورة الإسراء الآية (85) . (¬2) - سورة البقرة الآية (32) . (¬3) - سورة العلق الآية (1-5) . (¬4) - سورة البقرة الآية (29) .

يحييهم، فأحاط بأعمالهم كلها خيرها وشرها، وجزاء تلك الأعمال وتفاصيل ذلك في دار القرار (¬1) ، سبحانه فهو يحيي الأرض بعد موتها: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (¬2) . وقال الحليمي في معنى العليم: انه المدرك لما يدركه المخلوقون بعقولهم وحواسهم ما لا يستطيعون إدراكه من غير أن يكون موصوفاً بعقل أو حس، وذلك راجع إلى انه لا يعزب ولا يغيب عنه شيء، ولا يعجزه إدراك شيء كما يعجز عن ذلك من لا عقل له أو حس له من المخلوقين، ومعنى ذلك انه لا يشبهم ولا يشبهونه. وقال أبو سليمان الخطابي: العليم هو العالم بالسرائر والخفيات التي لا يدركه علم الخلق، وجاء على بناء فعيل للمبالغة في وصفه بكمال العلم (¬3) ، والنصوص في ذكر إحاطة علم الله وتفصيل دقائق معلوماته كثيرة جدا لا داعي لنقلها كونها معلومة في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وانه لا يعزب عنه مثقال ذره في الأرض ولا في السماء، وانه الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن والسرائر والخفيات والأمور المتقدمة ¬

_ (¬1) - الحق الواضح المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين من الكافية الشافية للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي ص37و38 , الجامع لأسماء الله الحسنى دراسة وتحقيق حامد احمد الطاهر, ص120 , الطبعة الأولى 1423هـ دار الفجر للتراث القاهرة. (¬2) - سورة الحديد الآية (17) . (¬3) - الأسماء والصفات تأليف العلامة أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى الخسروجردي البيهقي (384-458هـ) , ص (63) , منشورات محمد علي بيضون دار الكتب العلمية بيروت 1422هـ2001م, والجامع لأسماء الله الحسنى ص (119)

والمتأخرة (¬1) , فهو سبحانه عليم بالإسرار والإعلان، وبالواجبات والمستحيلات والممكنات وبالعالم السفلي وبالماضي والحاضر والمستقبل لا يخفى عليه شيء من الأشياء. ويطلق عليه سبحانه وتعالى علام الغيوب, وعالم الغيب والشهادة، فهو العلام العالم، فقد ورد في محكم التنزيل: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} (¬2) ، وفي السنة النبوية من حديث أَبُي سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: (سَأَلْتُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ: بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَفْتَتِحُ صَلاتَهُ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ؟ قَالَتْ: كَانَ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلاتَهُ: اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (¬3) ، وفي وراية عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ: أَبُو بَكْر الصديق رضي الله عنه: (يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِشَيْءٍ أَقُولُهُ إِذَا أَصْبَحْتُ وَإِذَا أَمْسَيْتُ, قَالَ: ٍقُلْ: اللَّهُمَّ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ, قَالَ: قُلْهُ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا ¬

_ (¬1) - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي ص (517) , الطبعة الثانية 1426هـ, الناشر: دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع. (¬2) - سورة التوبة الآية (78) . (¬3) - رواه الإمام الحافظ المحدث أبو الحسن مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري, (204 - 261هـ) , في صحيحه باب الدعاء في صلاة الليل والقيام حديث (770) . الناشر: دار بن رجب 1422هـ.

أَمْسَيْتَ وَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ) (¬1) ، فقد ثبت تسمية الحق سبحانه وتعالى، ووصفه انه جل شأنه علام الغيوب بالقران، وفي السنة النبوية ورود اسم (العالم) كما هو مصرح به في الحديثين السالف بيانهما. قال الحليمي في معنى العالم: إنه مدرك الأشياء على ما هي به، وإنما وجب أن يوصف عز اسمه بالعالم؛ لأنه قد ثبت أن ما عداه من الموجودات فعل له، وأنه لا يمكن أن يكون فعل إلا باختيار وإرادة والفعل على هذا الوجه لا يظهر إلا من عالم كما لا يظهر إلا من حي. (¬2) وفي معنى العلام قال الحليمي: هو العالم بأصناف المعلومات على تفاوتها، فهو يعلم الموجود وعلم ما هو كائن، وانه إذا كان كيف يكون، ويعلم ما ليس بكائن. (¬3) أما اسمه تعالى الخبير: فهو الذي أنتها علمه إلى الإحاطة ببواطن الأشياء وخفاياها كما أحاط بظاهرها، وقد تكرر هذا الاسم في القران الحكيم قال القرطبي وقد أجمعت عليه ألامه: ولا خلاف في إجرائه على العبد (¬4) ، وفي التنزيل حكاية عن لقمان عليه السلام: {يا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن ¬

_ (¬1) - سنن الترمذي للإمام الحافظ أبي عيسى محمد بن عيسى بن سَوْرَةَ الترمذي، المولود سنة 209هـ والمتوفي سنة 279هـ، باب ما جاء في الدعاء إذا أصبح وإذا أمسى حديث (3392) , وقال: هذا حديث حسن صحيح. الناشر المكتبة الإسلامية. (¬2) - الأسماء والصفات للبيهقي ص (37) . (¬3) - الأسماء والصفات للبيهقي ص (64) ، والجامع لأسماء الله الحسنى ص (206) . (¬4) - الآسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى للإمام شمس الدين أبي عبد الله القرطبي تحقيق الشحات الطحان، ص (492) , الناشر: مكتبة فياض للتجارة والتوزيع, الطبعة الأولى، 1427هـ-2006م.

علم الله جل وعلا علم تفرده به

فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (¬1) ، وفي سورة فاطر يقول سبحانه: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} (¬2) ، ولا يخفى على اللطيف الخبير ما تحويه الضمائر وتخفيه الصدور. علم الله جل وعلا علم تفرده به أإن علم الحق سبحانه وتعالى ليس كعلم المخلوقين لأنه يشمل جميع المعلومات، ويحيط بجميع المخلوقات فلا يخلو عن علمه مكان ولازمان بخلاف علم العبد. ب علم الله جل وعلا لا يتغير بتغير المعلومات، ولا يتأثر بتعاقب الأزمنة والأوقات. ج علم الله سبحانه وتعالى غير مستفاد من الحواس ولا من الفكر بخلاف العبد. د علم الله جل وعلا ضروري الثبوت ممتنع الزوال، لأنه جل وعلا كما اخبر عن نفسه: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ} (¬3) ، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} (¬4) ، وعلم العبد جائز الزوال. هـ و ¬

_ (¬1) - سورة لقمان الآية (16) . (¬2) - سورة فاطر الآية (31) . (¬3) - سورة البقرة (255) . (¬4) - سورة مريم (64)

ثمرة معرفة اسم الله تعالى العليم الخبير

ي الحق سبحانه وتعالى لا يشغله علم عن علم بخلاف العبد. أأ إن معلومات الحق سبحانه وتعالى غير متناهية بخلاف معلومات العبد. ز إن الله جل وعلا لا تخفى عليه خافيه، ولا يعزب عن علمه قاصيه ولا دانيه (¬1) . ثمرة معرفة اسم الله تعالى العليم الخبير من عرف أن الله جل وعلا علام عالم عليم خبير بحاله وبشئون الحياة وما تؤل إليه وجب عليه الإيمان به سبحانه وتعالى وبصفاته وأسمائه، وبما اوجب الإيمان به وخشيته ومراقبته، وتوحيده والإيمان به، والخضوع له وطاعته، والشكر له على آلائه، والصبر على بلائه، والاعتذار إليه من قبيح الخطايا، وإفراده بالدعاء والتقرب إليه بالإعمال الصالحة، وان يكون العبد شديد البحث والفحص عن محاسن الأخلاق ومفاتيحها، وعدم اغترار الإنسان بعلمه وتدليس إبليس، والخوف من الله والحياء منه في جميع الأقوال والأعمال، لأنه يعلم السر وأخفى ويعلم ما تخفي الصدور، ووجب عليه الإيمان بما علم من صفات الله وأسمائه والعمل بأحكامه وحلاله وحرامه، والعلم بما افترضه الله وندب إليه رسوله، والسعي الحثيث إلى تعلم ما اوجب الله تعلمه، ومن ذلك ما ارشد إليه في محكم التنزيل من نحو قول سبحانه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (¬2) ، ¬

_ (¬1) - الجامع لأسماء الله الحسنى ص (207) . (¬2) - سورة محمد الآية (19) .

وقوله جل شانه: {اعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬1) ، وقوله جل وعلا: {وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (¬2) ، وغير ذلك من الآيات والأحاديث التي تحث على التعلم والعلم والعمل والطاعة والإذعان، والتوجه في كل الأحوال إلى الله الملك الديان، ولله در القائل: قَد كَفاني عِلمُ رَبّي ... مِن سُؤالي وَاِختِياري فَدُعائي وَاِبتِهالي ... شاهِدٌ لي بِاِفتِقاري فَلِهَذا السِرُّ أَدعو ... في يَساري وَعِساري أَنا عَبدٌ صارَ فَخري ... ضِمنَ فَقري وَاِضطِراري قَد كَفاني عِلمُ رَبّي ... مِن سُؤالي وَاِختِياري يا إِلَهي وَمَليكي ... أَنتَ تَعلَمُ كَيفَ حالي وَبِما قَد حَلَّ قَلبي ... مِن هُمومٍ وَاِشتِغالي فَتَدارَكَني بِلُطفٍ ... مِنكَ يا مَولى المَوالي يا كَريمَ الوَجهِ غِثني ... قَبلَ اَن يَفنى اِصطِباري قَد كَفاني عِلمُ رَبّي ... مِن سُؤالي وَاِختِيارِ يا سريعَ الغَوثِ غَوثاً ... مِنكَ يُدرُكُني سَريعا يَهزِمُ العُسرَ وَيَأتي ... بِالَّذي أَرجو جَميعا يا قَريباً يا مُجيباً ... يا عَليماً يا سَميعا قَد تَحَقَّقَت بِعَجزي ... وَخُضوعي وَاِنكِساري ¬

_ (¬1) - سورة المائدة الآية (98) . (¬2) - سورة البقرة الآية (223) .

قَد كَفاني عِلمُ رَبّي.....مِن سُؤالي وَاِختِياري لَم أَزَل بِالبابِ واقِفْ ... فَأَدِم رَبّي وُقوفي وَبِوادي الفَضلِ عاكِفْ ... فَأَدِم رَبّي عُكوفي وَلِحُسنِ الظَنِّ لازِمْ ... وَهوَ خِلّي وَحَليفي وَأَنيسي وَجَليسي ... طولَ لَيلي وَنَهاري قَد كَفاني عِلمُ رَبّي ... مِن سُؤالي وَاِختِباري حاجَةً في النَفسِ رَبّي ... فَاِقضِها يا خَيرَ قاضي وَأَرِح سِرّي وَقَلبي ... مِن لَظاها وَالشَواظِ في سُرورٍ وَحُبورِ ... وَإِذا ما كُنتُ راضي فَالهَنا وَالبَسطُ حالي ... وَشِعاري وَدِثاري قَد كَفاني عِلمُ رَبّي ... مِن سُؤالي وَاِختِياري (¬1) والعاقل يعرف بان الله يعلم ويرى فهو يراقب الله في كل حركاته وسكناته وفي جميع أقواله وأفعاله، وهو يستشعر عظمة الله فيرجوه ويخافه ويفرده بالدعاء والاستغاثة ويطلب منه العون ويسأله من خير الدنيا والآخرة، فهو سبحانه بيده العطاء والمن، وفيه الرغبة ومنه الرهبة. ¬

_ (¬1) - هذه الأبيات للعلامة الحداد (1044-1132هـ/1634-1720م) عبد الله بن علوي بن محمد بن أحمد المهاجر بن عيسى الحسيني الحضرمي المعروف بالحداد أو الحدادي باعلوي. فاضل من أهل تريم (بحضرموت) مولده في (السير) من ضواحيها، ووفاته في (الحاوي) ودفن في تريم, كان كفيفاً، ذهب الجدري ببصره طفلاً، واضطهده اليافعيون حكام تريم فكان ذلك سبب انتقاله إلى الحاوي. له رسائل وكتب منها (عقيدة التوحيد) و (الدعوة التامة والتذكرة العامة) ، (تبصره الولي بطريقة السادة بني علوي) ، و (المسائل الصوفية) , وجمع تلميذه أحمد بن عبد الكريم الشجار الإحسائي، طائفة من كلامه في كتاب سماه (تثبيت الفؤاد) . وانظر ديوانه المسمى الدر المنظوم لذوي العقول والفهوم, ص256, الناشر: مؤسسة عبد الحفيظ البساط بيروت لبنان الطبعة الثانبة 1421هـ.

دعاء الله باسمه العالم العليم

دعاء الله باسمه العالم العليم دعاء الحق سبحانه وتعالى بصفة العلم مما صرحت به السنة النبوية كما في الأحاديث السالف بيانها ومن ذلك (اللَّهُمَّ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) ، وقد سار على ذلك العلماء والشعراء في أشعارهم وأذكارهم ودعائهم، وقد جاء في شعر السيد عبد الله الحداد: يا رب يا عالم الحال ... إليك وجهت لآمال فامنن علينا بالاقبال ... وكن لنا واصلح الحال يا رب يا رب الارباب ... عبدك فقيرك على الباب أتى وقد بت الاسباب ... مستدركاً بعد ما مال يا واسع الجود جودك ... الخير خيرك وعندك فوق الذي رام عبدك ... فادرك برحمتك الحال يا موجد الخلق طرا ... وموسع الكل برا أسألك اسبال سترا ... على القبائح والاخطال يا من يرى سر قلبي ... حسبي اطلاعك حسبي فامح بعفوك ذنبي ... واصلح قصودي والأعمال رب عليك اعتمادي ... كما إليك استنادي صدقا وأقصى مرادي ... رضاؤك الدائم الحال رب يا رب إني ... أسألك العفو عني ولم يخب فيك ظني ... يا مالك الملك يا وال أشكو إليك وأبكي ... من شؤم ظلمي وإفكي

وسوء فعلي وتركي.......وشهوة القيل والقال وحب دنيا ذميمه ... من كل خير عقيمه فيها البلايا مقيمه ... وحشوها آفات واشغال يا ويح نفسي الغويه ... من السبيل السويه أضحت تروح عليه ... وقصدها الجاه والمال يا رب قد غلبتني ... وبالاماني سبتني وفي الحظوظ كبتني ... وقيدتني بالاكبال قد استعنتك ربي ... على مداواة قلبي وحل عقدة كربي ... فانظر إلى الغم ينجال يا رب يا خير كافي ... احلل علينا العوافي فليس شيء ثم خافي ... عليك تفصيل وإجمال يا رب عبدك ببابك ... يخشي أليم عذابك ويرتجي لثوابك ... وغيث رحمتك هطال وقد أتاك بعذره ... وانكساره وفقره فاهزم بيسرك عسره ... بمحض جودك والافضال وامنن عليك بتوبه ... تغسله من كل حوبه واعصمه من شر أو به ... لكل ما عنه قد حال فأنت مولى الموالي ... المنفرد بالكمال وبالعلى والتعالي ... علوت عن ضرب الامثال

جودك وفضلك يرجى......وبطشك وقهرك يخشى وذكرك وشكرك لازم ... وحمدك والاجلال يا رب أنت نصيري ... فلقني كل خير واجعل جنانك مصيري ... واختم بالايمان الآجال وصل في كل حالهْ ... علي مزيل الضلالهْ من كلمته الغزاله ... محمد الهادي الدال والحمد لله شكراً ... على نعم منه تترى نحمده سراً وجهراً ... وبالغدو والآصال فنسألك اللهم يا عالم الغيب والشهادة يا عليم يا خبير أن تصلى على محمد البشير النذير واسئلك ان ترزقني علمه واتباعه يالطيف ياخبير وان تعلمني والمؤمنين من العلم النافع ما لم نكن نعلم، وان تفهمنا من العلوم ما لم نكن نفهم، وان تتفضل علينا بتوفيقك للعمل بما نعلم، وان تشرفنا بمعرفة اسمك الأعظم انك على كل شيء قدير، وان ترزقنا ذكرك وشكرك ما أحييتنا، وان تصلحنا وتصلح بنا، وتنفعنا وتنفع بنا، انك أنت الله العليم الخبير العالم الأكرم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم كما صليت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم انك حميد مجيد قريب مجيب.

الفصل الثاني العقل

الفصل الثاني العَقْل

العقل

العقل العقل مناط التكليف؛ فهو هبة الله الخبير اللطيف, فأشرف ما في الإنسان عقله, وأفضل ما وهبه الله لعبده العقل, فبالعقل تحيى النفوس, وتنور القلوب, وتمضى الأمور, وتعمر الدنيا, ولو أن العقل كان شجرةً في هذه الحياة لطاب ثمارها, وفاح بالعبير أزهارها, يرحم الله المتنبي حيث يقول: لَولا العُقولُ لَكانَ أَدنى ضَيغَمٍ ... أَدنى إِلى شَرَفٍ مِنَ الإِنسانِ (¬1) وقال آخر: يعد عظيم القدر من كان عاقلاً ... وإن لم يكن في عقله بحسيب وإن حل أرضاً عاش فيها بعقله ... وما عاقل في بلدةٍ بغريب (¬2) أما العلامة علي بن احمد خريصة اليمني فهو يقول: إذا لم يكن عقل الفتى أكثر الفتى ... فأكثر ما فيه ولا شك قاتله ¬

_ (¬1) - انظر ديوان أبي الطيب المُتَنَبّي: (303-354هـ/915-965م) أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكوفي الكندي، أبو الطيب, الشاعر الحكيم، وأحد مفاخر الأدب العربي، له الأمثال السائرة والحكم البالغة والمعاني المبتكرة, ولد بالكوفة في محلة تسمى كندة وإليها نسبته، ونشأ بالشام، ثم تنقل في البادية يطلب الأدب وعلم العربية وأيام الناس, قال الشعر صبياً، وتنبأ في بادية السماوة (بين الكوفة والشام) فتبعه كثيرون، وقبل أن يستفحل أمره خرج إليه لؤلؤ أمير حمص ونائب الإخشيد فأسره وسجنه حتى تاب ورجع عن دعواه. وفد على سيف الدولة ابن حمدان صاحب حلب فمدحه وحظي عنده. ومضى إلى مصر فمدح كافور الإخشيدي وطلب منه أن يوليه، فلم يوله كافور، فغضب أبو الطيب وانصرف يهجوه. قصد العراق وفارس، فمدح عضد الدولة ابن بويه الديلمي في شيراز. عاد يريد بغداد فالكوفة، فعرض له فاتك بن أبي جهل الأسدي في الطريق بجماعة من أصحابه، ومع المتنبي جماعة أيضاً، فاقتتل الفريقان، فقتل أبو الطيب وابنه محسّد وغلامه مفلح بالنعمانية بالقرب من دير العاقول في الجانب الغربي من سواد بغداد. وفاتك هذا هو خال ضبة بن يزيد الأسدي العيني، الذي هجاه المتنبي بقصيدته البائية المعروفة التي مطلعها: ما أَنصَفَ القَومُ ضَبَّه ... وَأُمَّهُ الطُرطُبَّه (¬2) - أورد هذين البيتين ابن أبي الدنيا في كتابه العقل وفضله ص29, الطبعة الأولى, من غير نسبة إلى قائل.

هل العقل إلا حجة مستنيرة......ونور هدى ما أن تضل دلائله بحسبك أن العقل زين لأهله ... وإن ليس في الخيرات شيء يعادله (¬1) وقد نسب إلى كسرى: من لم يكن العقل أكثر ما فيه قتله أكثر ما فيه, وكأن العلامة علي بن احمد خريصة رحمه الله عرف ذلك فنظمه كما هو ظاهر الأبيات السالف بيانها. أما أبو العلاء المعري فهو يرى أن العقل قطبٌ وأمور الناس كافه كلها رحى تدور حوله, فبه تدبر كل الأمور, وقد أوجز ذلك بقوله: اللب قطبٌ والأمور له رحىً ... فبه تدبر كلها وتدار (¬2) فإذا كان العقل حجة فاسلك به المحجة, قال أبو حاتم: العقل دواء القلوب, ومطية المجتهدين, وبذر حراثة الآخرة, وتاج المؤمن في الدنيا, وعدته في وقوع النوائب, ومن عدم العقل لم يزده السلطان عزاً, ولا المال يرفعه قدراً, ولا عقل لمن أغفله عن أخراه ما يجد من لذة دنياه, فكما أن أشد الزمانة الجهل كذلك أشد الفاقة عدم العقل, فالواجب على المرء: أن يكون لرأيه مسعفاً, ولهواه مسوفاً, فإذا اشتبه عليه أمران اجتنب أقربهما من هواه, لأن في مجانبة الهوى إصلاح السرائر, وبالعقل تصلح الضمائر. ¬

_ (¬1) - وردت هذه الأبيات في مقدمة العلامة صلاح الهاشمي الجزء الثاني من كتاب الأحكام للهادي: وهو الإمام العلامة المجتهد الهادي إلى الحق: يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم, ولد بالمدينة سنة 245هـ، واستدعاه أهل اليمن فخرج إليهم سنة 280هـ, توفى بصعدة سنة 298. ومن مصنفاته: الأحكام, والفنون, والمنتخب, وغيرها, وإليه يعود الفضل في انتشار المذهب الزيدي في اليمن, الطبعة الأولى 1410هـ, ص4. (¬2) - لزوم ما لا يلزم لأبي العلاء المعري ج1ص326, الطبعة الأولى.

قال معاوية بن أبي سفيان لرجل من العرب عُمّر دهراً: أخبرني بأحسن شيءٍ رأيته, قال: عقل طلب به مروءة مع تقوى الله وطلب الآخرة, وأنشد عبد العزيز بن سليمان الأبرش: إذا تم عقل المرء تمت أموره ... وتمت أياديه وتم بناؤه فإن لم يكن عقل تبين نقصه ... ولو كان ذا مالٍ كثير عطاؤه (¬1) أما الإمام علي رضي الله عنه فهو يرى أن العقل أفضل ما قسم الله به للمرء حيث يقول: وَأَفضَلُ قَسمِ اللَهِ لِلمَرءِ عَقلُهُ ... فَلَيسَ مِن الخَيراتِ شِيءٌ يُقارِبُه يَعيشُ الفَتى في الناسِ بِالعَقلِ إِنَّهُ ... عَلى العَقلِ يِجري عَلمُهُ وَتَجارِبُه يَزينُ الفَتى في الناسِ صِحَّةُ عَقلِهِ ... وَإِن كانَ مَحظوراً عَلَيهِ مَكاسِبُه يَشينُ الفَتى في الناسِ قِلَّةُ عَقلِهِ ... وَإِن كَرُمَت أَعراقُهُ وَمَناسِبُه وَمَن كانَ غَلّاباً بِعَقلٍ وَنَجدَةٍ ... فَذو الجَدِّ في أَمرِ المَعيشَةِ غالِبُه (¬2) وقال أخر: إن المكارم أبواب مصنفة ... فالعقل أولها والصمت ثانيها والعلم ثالثها والحلم رابعها ... والجود خامسها والصدق ساديها والصبر سابعها والشكر ثامنها ... واللين تاسعها والصدق عاشيها (¬3) ¬

_ (¬1) - روضة العقلاء ص20. (¬2) - ديوان الإمام علي رضي الله عنه ص27, الناشر: دار الثقافة للجميع دمشق الطبعة الأولى 1424هـ2003م. (¬3) - ساديها: لغة في سادسها, وكذلك عاشيها في البيت الذي بعده: عاشرها.

العقل والهوى متعاديان

العقل والهوى متعاديان إذا كان الهوى عدو العقل وآفته وجب على الإنسان أن يتجرد من الهوى, فالإنسان إذا اتبع الهوى نسي الله, وضل عن سبيل الرشاد, ولهذا قيل: "الهوى شريك العمى", و"كم من عقل أسير في يدي هوى أمير", ولهذا نهى الله عن الهوى فقال جل شأنه: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1) , وفي الحديث: (ثَلاثٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ وَهَوًى مُتَّبَعٌ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ) (¬2) , قال الشاعر: مَن أَجابَ الهَوى إِلى كُلِّ ما يَد ... عوهُ مِمّا يُضِلُّ ضَلَّ وَتاها وقال آخر: ضلال العقول في إتباع الهوى ... ولا حيلة في ضلال العقول ومما نسب إلى الإمام احمد حميد الدين في جموح الهوى: إن الهوى غير مدفوع ولو جمعت ... له القوى أو عليه شن غارات وعارضه في ذلك العلامة يحيى بن محمد الهادي رحمه الله فقال: إذا استعمر النفس جيش الهوى ... فعنها إلى الحشر لا ينسحب وصارا معاً ضد جهد الحجى ... ومن غالب اثنين يوماً غلب قلتُ: الظاهر أن من قدم هواه على عقله لم يصب رشداً في حياته, ولا أمناً بعد وفاته, وقد جاء في محكم التنزيل: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (¬3) . ¬

_ (¬1) - سورة ص الآية (26) . (¬2) - أخرجه الطبراني في الأوسط ج5ص328 حديث (5452) . (¬3) - سورة النازعات الآيتان (40و41) .

جاء في كلام بعض الشعراء: إذا أنت لم تعصي الهواء قادك الهـ ... ـوى إلى كل ما فيه عليك مقال أما الإمام الشافعي رحمه الله فانه يرى الرشد في مخالفة الهوى وذلك حيث يقول: إذا جال أمرك في معنيين ... ولم تدر حيث الخطأ والصواب فجانب هواك فان الهوى ... يقود النفوس إلى ما يعاب وإذا كان لكل نفس هوى وشهوه، فان العاقل يحترس من الهوى، وقد روي أن لقمان عليه السلام قال لابنه: (يا بني أول ما أحذرك من نفسك فان لكل نفس هوى وشهوه فان أعطيتها شهوتها تمادت وطلبت سواها فان الشهوة كامنة في القلب كمون النار في الحجر إن قدح أورى وإن ترك توارى) قال الشاعر: إذا ما أجبت النفس في كل دعوة ... دعتك إلى الأمر القبيح المحرم (¬1) ومما لا يغيب عن أذهان العقلاء أن من اتبع هواه افسد دينه ودنياه، فلا تدوم له سيادة ولا يستحق الريادة قال الشاعر: واعلم بأنك لن تسود ولن ترى ... طرق الرشاد إذا اتبعت هواك وقال آخر: إذا شئت إتيان المحامد كلها ... ونيل الذي ترجوه من رحمة الرب فخالف هوى النفس المسيئة انه ... لأعدى وادعى للردى من هوى الحب هما سببا حتف الهوى غير ان في ... هوى الحب مهما عف بعداً عن الذنب ¬

_ (¬1) - مكاشفة القلوب المقرب إلى حضرة علام الغيوب، للشيخ الغزالي، ص (201) , طبعة المطبعة والمكتبة السعيدة بمصر.

ولله در القائل: إنارة العقل مكسوف بطوع هوى ... وعقل عاصي الهوى يزداد تنويرا فلا تغتر أخي بترفع بعض مطيعي الهوى في هذه الحياة فان الهوى يردي اللبيب، وقد نسب إلى الفضل بن العباس انه قال: لقد ترفع الأيام من كان جاهلاً ... ويردي الهوى ذا الرأي وهو لبيب وقد تحمد الناس الفتى وهو مخطئ ... ويعذل في الإحسان وهو مصيب (¬1) قال القرطبي: وسئل ابن المقفع عن الهوى فقال: هوانٌ سرقت نونه فأخذه شاعر فنظمه وقال: نون الهوان من الهوى مسروقة ... فإذا هويت فقد لقيت هوانا (¬2) أما كثير عزة (¬3) فيقول: وَفي الحِلمِ وَالإِسلامِ لِلمَرءِ وازِعٌ ... وَفي تَركِ طاعاتِ الفُؤادِ المُتَيَّمِ بَصائِرُ رُشدٍ لِلفَتى مُستَبينَةٌ ... وَأَخلاقُ صِدقٍ عِلمُها بِالتَعَلُّمِ ¬

_ (¬1) - وردت هذه الأبيات في مكاشفة القلوب منسوبه للفضل بن العباس، ووردت ضمن أبيات للأخضر اللهبي مع اختلاف في بعض الألفاظ وهي ضمن ديوانه ورددت بلفظ: وقد يحكم الأيام من كان جاهلاً ... ويردي الهوى ذا الرأي وهو لبيبُ ويحمد في الأمر وهو مخطىء ... ويعذل في الإحسان وهو مصيب (¬2) - انظر: الجامع لأحكام القران للإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، ج16ص168, مطبعة دار الكتب المصرية, الطبعة الثانية 1954م-1373هـ، والتمثيل والمحاضرة للثعالبي ص103. (¬3) - كثير بن عبد الرحمن بن الأسود بن مليح من خزاعة وأمه جمعة بنت الأشيم الخزاعية, (40-105هـ/660-723م) , شاعر متيم مشهور، من أهل المدينة، أكثر إقامته بمصر ولد في آخر خلافة يزيد بن عبد الملك، وتوفي والده وهو صغير السن وكان منذ صغره سليط اللسان وكفله عمه بعد موت أبيه وكلفه رعي قطيع له من الإبل حتى يحميه من طيشه وملازمته سفهاء المدينة, واشتهر بحبه لعزة فعرف بها وعرفت به وهي: عزة بنت حُميل بن حفص من بني حاجب بن غفار كنانية النسب كناها كثير في شعره بأم عمرو ويسميها تارة الضميريّة وابنة الضمري نسبة إلى بني ضمرة, وسافر إلى مصر حيث دار عزة بعد زواجها وفيها صديقه عبد العزيز بن مروان الذي وجد عنده المكانة ويسر العيش, وتوفي في الحجاز هو وعكرمة مولى ابن عباس في نفس اليوم فقيل: مات اليوم أفقه الناس وأشعر الناس.

أما أبو العتاهية (¬1) فهو يقول: خالِف هَواكَ إِذا دَعاكَ لِرَيبَةٍ ... فَلَرُبَّ خَيرٍ في مُخالَفَةِ الهَوى ولله در ابن دريد حيث يقول: آفة العقل الهوى فمن علا ... على هواه عقله فقد نجا (¬2) فمن اتبع هواه ضل ومن نسي هفواته استعظم هفوات وسقطات غيره، ومن استغنى بعقله عن استشارة غيره زل، فلا تصاحب إلا عاقلاً تقيا، ولا تخالط إلا علماً ذكيا، ولا تودع سرك إلا مؤمناً وفيا، واسأل من الله الهداية يهدك، والعافية يعافك، ولا تبع الضلالة بالهدى، والبصر بالعمى تكن من أهل الشقى، وتخسر الدنيا والآخرة. ويرحم الله القائل: عجبت لمبتاع الضلالة بالهدى ... ومن يشتري دنياه بالدين أعجب وما أعجب من هذا من باع دينه ... بدنيا سواه فهو من ذين أعجب قال ابن المقفع: من قل كلامه حمد عقله, ومن حرم رزئ في دنياه وآخرته, ويقول أيضاً: الهم مرض العقل وآفة العقل العجب. (¬3) وفي الأمثال السائرة: "العاقل من يرى مقر سهمه من رميته, وعقول الرجال تحت أسنة أقلامها". ¬

_ (¬1) - إسماعيل بن القاسم بن سويد العيني العنزي أبو إسحاق, (130-211هـ/747-826م) , شاعر مكثر، سريع الخاطر، في شعره إبداع، يعد من مقدمي المولدين، من طبقة بشار وأبي نواس وأمثالهما. كان يجيد القول في الزهد والمديح وأكثر أنواع الشعر في عصره. ولد ونشأ قرب الكوفة، وسكن بغداد. كان في بدء أمره يبيع الجرار ثم اتصل بالخلفاء وعلت مكانته عندهم. وهجر الشعر مدة، فبلغ ذلك الخليفة العباسي المهدي، فسجنه ثم أحضره إليه وهدده بالقتل إن لم يقل الشعر، فعاد إلى نظمه، فأطلقه. توفي في بغداد. (¬2) - بهجة المجالس وأنس المجالس لابن عبد البر, تحقيق محمد الخولي ج2ص81, الناشر: دار الكتب العلمية 1981م, والموسوعة الشعرية ص (465) . (¬3) - الآثار الكاملة ص181.

عداوة العاقل خير من صداقة الأحمق

عداوة العاقل خير من صداقة الأحمق من الأمور المسلم بها أن العاقل لا يقاتل بدون عدة, ولا يخاصم بغير حجة, ولا يصارع بغير قوة, ولا يتكل على الجاه أو المال ولو كان في تمام الحال, لأن المال يحل ويرتحل والعقل يقيم ولا يبرح. قال شعبة: إني لأرى الرجل يجلس مع من هو أقل عقلاً فأمقته. (¬1) ولا يكاد الإنسان يرى عاقلاً إلا موقراً للعلماء, ناصحاً للأقران, مواتياً للإخوان, متحرزاً من الأعداء غير حاسد للأصحاب, ولا مخادع لأولي الألباب, لا يتحرش بالأشرار, ولا ينقاد للهوى, ولا يجنح للغضب, ولا يرمح في الولاية, ولا يدل الصاحب على مسالك الغواية, فعداوة العاقل خير من صداقة الأحمق الغافل, ورحم الله دعبل الخزاعي حيث يقول: عداوة العاقل خير إذا ... حصلتها من خلة الأحمق لأن ذا العقل إذا لم يزع ... عن حلمه استحيى فلم يخرقِ ولن ترى الأحمق يبقي على ... دين ولا ود ولا يتقي (¬2) العقل مناط التدبر وطريق الهدى والرشاد بالعقل تعمر القلوب, وتتحقق السعادة, وبه يكون الحظ, وتنتفي الفاقة, فهو مناط التكليف, ومحل تعقل آيات الله الخبير اللطيف وتدبر أحكامه قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ ¬

_ (¬1) - روضة العقلاء ص25. (¬2) - ديوان دعبل الخزاعي ص141.

بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (¬1) , وقال جل شأنه: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (¬2) , إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على عظيم شرف العقل, الذي يقرب الإنسان من الخير ويحجزه عن الشر قال الشاعر: لا ترى العاقل إلا خائفاً ... حذراً من يومه دون غده وفي الأمثال السائرة: "العقل أحسن معقل, وشهادة العقول أصح من شهادة العدول, والعقل أحصن معقل, والعقل وزير الناصح". قال أبو حاتم: الواجب على العاقل: أن يكون بما أحيا عقله من الحِكمة أكلف منه بما أحيا جسده من القوت, وقوت العقل الحِكم (¬3) , وهذا صحيح, فالذي لا يتدبر في العواقب, ولا يتعظ عند وقوع النوائب, ولا يؤدي حق الخالق؛ فقد أضاع حظه, وعرض للهلكة نفسه, أما إذا أعمل الإنسان عقله؛ فإنه لا يضل إذا كان مؤمناً, ولا يغتم إذا كان معدماً, لأن العاقل إذا تدبر أبصر, وإن كان معدما؛ فإنه يرجى له الغنى, ولا يوثق للمغرور ولا للجاهل المكثر بقاء ماله أو عزه, فإنه يعرض ذلك كله للذهاب والفساد. ¬

_ (¬1) - سورة البقرة الآية (164) . (¬2) - سورة النحل الآية (12) . (¬3) - روضة العقلاء ص19.

وجاء في الأمثال السائرة: "ليس للأمور بصاحب من لم ينظر في العواقب", وقيل: "العاقل من يرى مقر سهمه من رميته يضرب في النظر في العواقب", وقيل: "النظر في العواقب تلقيح للعقول". (¬1) فالعاقل من ينظر بعقله, ويتدبر في أمره, ولا يفتتن بنظره, قال الشاعر: لا تغْتَررْ بعيونٍ ينظرونَ بها ... فإنما هيَ أحداقٌ وأجفانٌ كمْ مُقْلَةٍ ذهبتْ في الغيِّ مذهبها ... بنظرةٍ هي شانٌ أو لها شان فانظرْ بعقلكَ إن العينَ كاذبةٌ ... واسمعْ بِحسّكَ إن السمعَ خوَّان ولا تقُلْ: كل ذي عينٍ له نَظرٌ ... إن الرعاةَ تَرَى ما لا يرى الضان (¬2) ويرحم الله القائل: إِنَّ الشَجاعَةَ في القُلوبِ كَثيرَةٌ ... وَوَجَدتُ شُجعانَ العُقولِ قَليلا (¬3) أما أبو الطيب المتنبي فهو يرى: أن الإنسان العاقل يعاني ويتعب فيقول: ذو العَقلِ يَشقى في النَعيمِ بِعَقلِه ... وَأَخو الجَهالَةِ في الشَقاوَةِ يَنعَمُ ولكننا نرى المتنبي يهجو من يصف العجز بأنه عقل فيقول: يَرى الجُبَناءُ أَنَّ العَجزَ عَقلٌ ... وَتِلكَ خَديعَةُ الطَبعِ اللَئيمِ (¬4) أما ابن الوردي فهو يقول في قبح تضييع العقل والاستسلام للرغبة والشهوة: ¬

_ (¬1) - مجمع الأمثال لأبي الفضل احمد بن محمد بن احمد بن ابراهيم النيسابوري الميداني, حققه وفصله وضبط غرائبه وعلق حواشيه محمد محيي الدين عبد الحميد ج2 ص200 وص273 , مطبعة السنة المحمدية. (¬2) - هذه الأبيات تنسب لأحمد بن عبد الله بن هريرة القبيسي أبو العباس الأعمى التطيلي (485-525هـ/1092-1131م) شاعر أندلسي نشأ في إشبيلية, له (ديوان شعر-ط) . (¬3) - انظر: ديوان احمد شوقي. (¬4) - انظر: ديوان المتنبي.

العقل نوعان: مطبوع ومسموع

واهجر الخمرةَ إنْ كنتَ فتىً ... كيفَ يسعى في جنونٍ مَنْ عقلْ العقل نوعان: مطبوع ومسموع يرى بعض العلماء أن العقل: اسم يقع على المعرفة بسلوك الصواب والعلم باجتناب الخطأ, فإذا كان المرء في أول درجته يسمى أديباً ثم أريباً ثم لبيباً ثم عاقلاً. وقال أبو حاتم: العقل نوعان: مطبوع ومسموع, فالمطبوع منهما كالأرض, والمسموع كالبذر والماء. (¬1) وإلى مثل ذلك ذهب الراغب في كتاب الذريعة في مكارم الشريعة. وفي مفردات القرآن: العقل يقال للقوى المتهيئة لقبول العلم, ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة. (¬2) وفي المختار: العقل: الحجر والنهى (¬3) , وسمي به لأنه ينهى عن القبيح. أما الجرجاني: فهو يرى أن العقل: جوهر مجرد عن المادة في ذاته مقارن لها في فعله, وهي النفس الناطقة التي يسار إليها كل أحد بقول: أنا, والعقل: ما يعقل به حقائق الأشياء, قيل محله الرأس, وقيل محله القلب. (¬4) ولبعض الشعراء: رأيت العقل نوعين ... فمطبوع ومسموع ¬

_ (¬1) - روضة العقلاء ص19. (¬2) - انظر: المفردات ص126 , والذريعة إلى مكارم الشريعة لأبي القاسم الحسن بن محمد بن المفضل الراغب الأصفهاني ص92, الناشر: دار الكتب العلمية بيروت, الطبعة الأولى 1400هـ1980م. (¬3) - مختار الصحاح للشيخ الإمام محمد بن أبي بكر الرازي ص446 , الناشر: دار القلم لبنان. (¬4) - التعريفات للعلامة علي محمد الشريف الجرجاني المتوفى 816هـ , ص28 , طبعة دار النفائس بيروت 2003م.

الإنكار على من لم يعمل عقله

ولا ينفع مسموع.........إذا لم يكُ مطبوع كما لا تنفع الشمس ... وضوء العين ممنوع الإنكار على من لم يُعمِل عقله مما لا شك فيه أن من تدبر عقل, ومن أعمل عقله أبصر, فالله قد وهب الناس عقولاً ليعملوها ولتكون أكثر خصال الخير فيهم لا أن يهملوها, ولهذا نرى الناس يلومون من لم يعمل عقله, وينكرون عليه, وجاء في محكم الذكر الإنكار على من يأمر الناس بالبر ولا يأتيه قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (¬1) , وحكا الله عن أهل النار: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (¬2) , وجاء في كلام بعض الشعراء: وإذا ضلَّتِ العُقول على عِلْـ ... ـمٍ فماذا تقوله الفُّصَحاءُ (¬3) أما أبو يعقوب الخريمي (¬4) فهو يرى: أن تفرق الشمل بسبب عدم العقول أي أنه ينزل من لا يُعمِل عقله بمنزلة معدوم العقل فهو يقول: كانوا بَني امّ ففرّق شملَهم ... عدمُ العُقول وَخفّة الأَحلامِ ¬

_ (¬1) - سورة البقرة الآية (44) . (¬2) - سورة الملك الآية (10) . (¬3) - هذا البيت ينسب لشرف الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد بن حماد بن عبد الله الصنهاجي البوصيري المصري, (608-696هـ/1212-1296م) شاعر حسن الديباجة، مليح المعاني، نسبته إلى بوصير من أعمال بني سويف بمصر, أصله من المغرب من قلعة حماد من قبيل يعرفون ببني حبنون, ومولده في بهشيم من أعمال البهنساوية, ووفاته بالإسكندرية له (ديوان شعر-ط) ، وأشهر شعره البردة مطلعها: (أمن تذكّر جيران بذي سلم) شرحها وعارضها الكثيرون، والهمزية ومطلعها: (كيف ترقى رقيك الأنبياء) , وعارض (بانت سعاد) بقصيدة مطلعها: (إلى متى أنت باللذات مشغول) . (¬4) - إسحاق بن حسان بن قوهي الصفدي أبو يعقوب الخريمي (166-212هـ/782-827م) , أبو يعقوب الصفدي أصلاً التركي جنساً الخريمي ولاءً والصفد كورة قصبتها سمرقند وقيل هما صفدان صفد سمرقند وصفد بخارى, شاعر مطبوع وصفه أبو حاتم السجستاني بأشعر المولدين, خرساني الأصل من أبناء الصفد ولد في الجزيرة الفراتية وسكن بغداد واتصل بخريم الناعم فنسب إليه أو كان اتصاله بابنه عثمان بن خريم. ثم اتصل بمحمد بن منصور بن زياد كاتب البرامكة ومدحه ورثاه بعد موته وأدركه الجاحظ وسمع منه, وعمي قبل وفاته, له (ديوان-ط) . وقد ورد البيت المستشهد به في ديوانه وفي محاضرة الادباء ص146.

التجارب تزيد في العقل

ولبعض الحكماء: "من لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه كان حتفه في أغلب خصال الشر عليه". (¬1) إغفال العقل إن طالب الفضل بغير عقل ولا بصر تائه, قال ابن المقفع: إغفال المرء لمسألة العقل "أشد الفاقة" فهو مقدم على المال والغنى, لأن العقل هو الحارس للمال, ولذا فهو يفضله, "لأنه يحرز الحظ, ويؤنس الغربة, وينفي الفاقة, ويعرف الفكرة, ويثمر المكسبة, ويطيّب الثمرة, ويوجه السوقة عند السلطان.. ويكسب الصديق, ويكفي العدو". (¬2) قال الكميت بن زيد (¬3) : وما غُبن الأقوام مثلَ عقولهم ... ولا مثلها كسباً أفاد كسوبُها التجارب تزيد في العقل إن تقلب أحوال الناس وخوض التجارب معهم مما يزيد في عقل الإنسان ويرشده إلى حسن التعامل معهم, قال الشاعر: ألم ترى أن العقل زين لأهله ... ولكن تمام العقل طول التجارب (¬4) أما الحارث بن كلدّة فهو يرى: أن من يتعظ بغيره سعيد, وأن في التجارب تحكيماً ومعتبراً, ولذلك فهو يقول: ¬

_ (¬1) - الذريعة إلى مكارم الشريعة ص93. (¬2) - الآثار الكاملة ص29. (¬3) - الكميت بن زيد بن خنيس الأسدي أبو المستهل (60-126هـ/680-744م) شاعر الهاشميين، من أهل الكوفة، شتهر في العصر الأموي، وكان عالماً بآداب العرب ولغاتها وأخبارها وأنسابها, ثقة في علمه، وهو من أصحاب الملحمات, أشهر قصائده (الهاشميات-ط) ترجمت إلى الألمانية. (¬4) - أدب الدنيا والدين ص23.

الأدب النفسي ودوره في تنمية العقل

إِنَّ السَعيدَ لَهُ في غَيرِهِ عِظَةٌ ... وَفي التَجارِبِ تَحكيمٌ وَمُعتَبَرُ وفي أدب الدنيا والدين للماوردي: إذا طال عمر المرء من غير آفة ... أفادت له الأيام في كرها عقلاً ومن العقل التثبت في كل عمل قبل الدخول فيه, والعاقل لا يطول أمله لأن من قوي أمله ضعف عمله, ومن أتاه أجله لم ينفعه أمله, والعاقل بطبعه يتقرب من العقلاء, فقرب العاقل غنم لأشكاله, وعبرة لأضداده على الأحوال كلها. الأدب النفسي ودوره في تنمية العقل إن للأدب النفسي دور في تنمية العقل وإحلاله المرتبة التي يتفق له معها تبعات الوجود, فالعقل عنده طاقة كامنة مليئة بالاستعدادات قادرة على المنطق الصالح إذا أحياها الأدب, وأمدها بأسباب النماء والعطاء, وعن ذلك يقول ابن المقفع: فكما أن الحبة المدفونة في الأرض لا تقدر أن تخلع يبسها وتظهر قوتها وتطلع فوق الأرض بزهرتها إلا بمعونة الماء الذي يغور إليها في مستودعها فيذهب عنها أذى اليبس والموت, ويحدث لها بإذن الله القوة والحياة فذلك سليقة العقل مكنونة في مغرزها من القلب: لا قوة لها ولا حياة بها ولا منفعة عندها حتى يعملها الأدب الذي هو ثمارها وحياتها ولقاحها. (¬1) ¬

_ (¬1) - الآثار الكاملة ص26.

كمال العقل

كمال العقل إن العاقل من الناس من لا يفرح بحصول لذة ولا يكترث بفواتها أو بعدم نيلها والوصول إليها, لأنه يعلم أن كل ذلك مصيره إلى الزوال, وفي محكم التنزيل: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (¬1) . وقد جاء في كلام بعض الشعراء: ومن كملت فيه النهى (¬2) لا يسره ... نعيمٌ ولا يرتاع للحدثان وللإمام علي رضي الله عنه: إِذا أَكمَلَ الرَحمَنُ لِلمَرءِ عَقلَهُ ... فَقَد كُمُلَت أَخلاقُهُ وَمآرِبُه ويرحم الله القائل: أولست تأمر بالعفاف وبالتقى ... وإليه آل الأمر حين يؤلُ؟ فإن استطعت فخذ بعقلك فضلة ... إن العقول يرى لها تفضيلُ فما أحوج العقلاء إلى التدبر في جميع الأشياء لأخذ العظة والاعتبار والعمل على هدى منهج الله العزيز الجبار, وما أروع قول الشاعر: ولي في فناء الخلق أكبر عبرة ... لمن كان في بحر الحقيقة راقي شخوص وأشكال تمر وتنقضي ... فتفنى جميعاً والمهيمن باقي ¬

_ (¬1) - سورة الحديد الآيات (22-24) . (¬2) - النهى: اسم من أسماء العقل.

القصة

القصة روي أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله استعمل رجلاً فقيل له: إنه حديث السن, ولا نراه يضبط عملك, فأخذ العهد منه وقال: ما أراك تضبط عملك لحداثتك, فقال الفتى: وليس يزيد المرء جهلاً ولا عمى ... إذا كان ذا عقل حداثة سنه فقال عمر رحمه الله: صدق ورد عليه العهد. وسئل عبد الله بن المبارك رحمه الله: ما خير ما أعطي الرجل؟ فقال: غريزة عقل, قيل: فإن لم يكن؟ قال: أدب حسن؟ قيل: فإن لم يكن؟ قال: أخ صالح يستشيره, قيل فإن لم يكن؟ قال: صمت طويل, قيل: فإن لم يكن؟ قال: موت عاجل. (¬1) وفي الحديث النبوي: (الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ) (¬2) . العقل يرشد الى توحيد الله كل انسان يدرك بعقله ان كل شيء له صانع يصنعه او علة توجده والعاقل يدرك ان في اختلاف النبات في الطعم واللون والغذاء رغم اتحاد التربة والماء اله خلق واحسن التقدير والتدبير والى ذلك يرشد الحكيم الخبير ¬

_ (¬1) - دليل السائلين جمعه أنس بن اسماعيل أبو داود ص435و436 , الطبعة الألى 1416هـ1996م. (¬2) - أخرجه الترمذي في سننه باب ما جاء في صفة أواني الحوض حديث (2383) .

{وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (¬1) . والانسان بفطرته اذا نظر الى الكون واستعرض مافيه من الكائنات, حصل له علم ضروري بان هذه الكائنات لم توجد صدفة بل لابد من موجد اوجدها. حتى وان كان اميا او اعرابيا فانه ييدرك ذلك بعقله وفطرته وفي نفح الطيب: قيل لأعرابي بم عرفت ربك فقال البعرة تدل على البعير والروث يدل على الحمير وآثار الأقدام تدل على المسير فسماء ذات أبراج وبحار ذات أمواج أما يدل ذلك على العليم القدير (¬2) فالعاقل يدرك ان في الكون دليل وبرهان على وجود الله وان في اختلاف الليل والنهار والشمس والقمر ايات تدل على وجود الله الحكيم الخبير السميع البصير, وفي الذكر الحكيم: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (¬3) . وقد ذهب كثير من العلماء الى القول بان فكرة الله او الدين على العموم انما هي فكرة فطرية وجدت في عقل الإنسان ولكن اوجدها فينا موجد وهو ¬

_ (¬1) - سورة الرعد الآية (4) . (¬2) - نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب لمؤلفه العلامة / أحمد بن محمد المقري التلمساني ج5/ص289. الناشر: دار صادر - بيروت، 1968 تحقيق: د. إحسان عباس. (¬3) - سورة البقرة الآية (164) .

اسم الله دال على جميع الاسماء الحسنى

الله سبحانه وتعالى (¬1) ومن الايات التي تبهر الالباب ان القرآن يقرر بان الدين فطرة في الإنسان فطر الله الناس عليها وان اساسه الاعتقاد بخالق الكون, وانه واحد لاشريك له فاذا انفرد الإنسان بنفسه حكم بانه مخلوق لإله قادر حكيم خلقه وانعم عليه يدرك ذلك بعقله وفطرته قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (¬2) فتعرف على اسم الله الذي خلق لك عقلا تفكر به ولسان تتكلم به وعينا تبصر بها واذنا تسمع بها, واعلم ان لا اله الا الله ولا معبود بحق الا الله, ولا رازق الا الله, فاذا قلت لا اله الا الله اي لامعطي ولا مانع ولا رافع ولا خافض ولا معز ولا مذل ولا وهاب ولا مغني ولا مبد ولا معيد الا الله فكل الاسماء الحسنى اذا جمعت هي الله اي هو المعبود الحق, فتعرف عليه يغنيك ويهديك ويعافيك. اسم الله دال على جميع الاسماء الحسنى الله اسم دال على جميع اسمائه الحسنى وصفاته العليا التي هي صفات الكمال المنزهة عن الشبيه والمثال ورد في القرآن اسم الله الجامع لاسمائه الحسنى ووصف الله اسماءه بالحسنى قال تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ¬

_ (¬1) - روح الدين الاسلامي ص80. (¬2) - سورة الروم الآيتان (30-31) .

ثمرة معرفة اسم الله الجامع للاسماء الحسنى

وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬1) وقال سبحانه: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى} (¬2) وورد في السنه النبوية: (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) (¬3) وقد علم من هذه النصوص ان الاسماء الحسنى تضاف الى اسم الله جل جلاله فهو الاسم الجامع فيقال: الرحمن الرحيم العزيز الغفار من اسماء الله ولا يقال: الله من اسماء الرحمن فعلم انه اسم الله مستلزم لجميع معاني الاسماء الحسنى, دال عليها بالاجماع, والاسماء الحسنى تفصيل وتبيين لصفات الالهية, التي اشتق (¬4) منها اسم الله واسم الله دال على كونه مألوها معبودا, تألهه الخلائق محبة وتعظيما وخضوعا, وفزعا اليه في الحوائج والنوائب (¬5) وقال الغزالي: اعلم أن هذا الإسم أعظم أسماء الله عز وجل التسعة والتسعين لأنه دال على الذات الجامعة لصفات الإلهية كلها حتى لا يشذ منها شيء وسائر الأسماء لا يدل آحادها إلا على آحاد المعاني من علم أو قدرة أو فعل أو غيره ولأنه أخص الأسماء إذ لا يطلقه أحد على غيره لا حقيقة ولا مجازا وسائر الأسماء قد يسمى به غيره كالقادر والعليم والرحيم وغيره فلهذين الوجهين يشبه أن يكون هذا الاسم أعظم هذه الأسماء (¬6) . ثمرة معرفة اسم الله الجامع للاسماء الحسنى اذا علم المكلف ان لا اله الا الله ولا معبود بحق الا الله ولا خالق ولا معطي الا الله فهو المانع الخافض الرافع, المعز المذل, العزيز الجبار, القهار المتكبر, وان (الله) علم على الذات الكاملة علم على الخالق, علم على البارئ, المصور, المسير, العزيز, الجبار, الكبير المتعال, وان اسماء الله الحسنى كلها جمعت في (الله) المتصف بصفات الوجود, وصفات الكمال, وصفات الوحدانية وجب عليه ان يؤمن به وحده لاشريك له وان يطيعه ويحبه فمن اطاع ولم يحب لم يعبد الله, فالعبادة هي الحب مع غاية الطاعة وان يردد كلمة التوحيد فهي افضل الذكر فهي كلمة التوحيد وشعار الإسلام فالاسلام كله والايمان كله والاحسان كله, جمع في هذه الكلمة فهي حصن الله ومن دخل حصنه امن من عذابه وقد جاء في الحديث القدسي: (لا إله إلا الله حصني فمن دخله أمن عذابي) (¬7) فهي افضل ¬

_ (¬1) - سورة الاعراف الآية (180) . (¬2) - سورة طه الآية (3) . (¬3) - البخاري في صحيحه حديث رقم (2531) . (¬4) - اختلف العلماء حول حول اشتقاق هذا الاسم فقال ابن كثير لا يعرف لهذا الاسم من كلام العرب اشتقاق. نقله القرطبي عن جماعة من العلماء منهم الشافعي والخطابي, وامام الحرمين والغزالي, وغيرهم.. قال الخطابي: الا ترى انك تقول: (يالله) ولاتقول: "يا الرحمن" فلولا انه من اصل الكلمة- أي الالف واللام- لما جاز إدخال حرف النداء على الالف واللام , وقيل: إنه مشتق ... فقد يكون من: أ- التأله من انه أله يأله إلاهّا وتألها كما روى عن ابن عباس أنه قرأ (ويذروك وآلهتك) قال عبادتك أي انه كان يُعبد ولا يَعبدُ. ب- وقد يكون من (إلاه) مثل فعال فأدخلت الالف واللام للتعظيم وهذا قول الخليل. ج- وقد يكون من (إلإله) وإدغمت اللام الأولى في الثانية بعد حذف الهمزة. د- وقيل: هو من (وله) وهو ذهاب العقل والحيرة, فالله تعالى يحيرهم في حقائق صفاته. هـ- وقال الرازي: أنه مشتق من (ألهت إلى فلان) أي (سكنت إليه) انتهى. (¬5) - الجامع لاسماء الله الحسنى ص12. (¬6) - المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى - للغزالي محمد بن محمد الغزالي أبو حامد, ص61 , الناشر: الجفان والجابي - قبرص الطبعة الأولى، 1407 - 1987 تحقيق: بسام عبد الوهاب الجابي. (¬7) - مسند الشهاب للعلامة /محمد بن سلامة بن جعفر أبو عبد الله القضاعي, باب لا اله الا الله حديث رقم (1451) ج2/ص 323. الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت الطبعة الثانية، 1407 - 1986 تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي

كلمة تسعد بها وتفوز وهي افضل الدعاء وفي الحديث النبوي: (أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) (¬1) وهي افضل الذكر فقد ورد في الحديث النبوي أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (¬2) وفي الذكر الحكيم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (¬3) فاذا علم الإنسان انه لااله الا الله استغفر لذنبه ووحد الله ووحد وجهته الى الله فاستقام في اخلاقه وسلوكه وعبادته فهي كلمة التوحيد ونهاية العلم التوحيد, ونهاية العمل التقوى, وفي القرآن الحكيم وردت قصص للانبياء والمرسلين, وكلهم يقول لقومه ان اعبدوا الله مالكم من اله غيره فمن قالها موقنا من قلبه ظفر بمراده وسعد في حياته ومماته فانت حين تقولها عقب صلاة الفجر عشر مرات كانما اعتقت رقابا واحييت انفسا وكانت لك حرزا وحصنا وهي من احب الكلام الى الله ففي صحيح مسلم أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ أَرْبَعٌ (سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ) (¬4) . ¬

_ (¬1) - موطأ مالك حديث رقم (841) (¬2) - سنن الترمذي حديث رقم (3305) (¬3) - سورة محمد الآية (19) . (¬4) - مسلم في صحيحه حديث رقم (3985) .

دعاء الله باسمه الجامع للاسماء الحسنى

دعاء الله باسمه الجامع للاسماء الحسنى ياالله يارحمن يارحيم ياسميع ياعليم يامن عُرف بالادله الداله من فطرة الارض والسماء وبالصفات الالهية والاسماء وبكتبه المنزلة ببديع الحكمة والوحدانية العظما يامن له الاسماء الحسنى والصفات العليا وقفت العقول بباب عظمتك فلم تحيط بك علما الا بماعلمتها من الصفات والاسماء فلك الحمد والمجد والثناء وقد قلت في محكم كتابك الله لااله الا هو له الاسماء الحسنى وقلتَ ولك العظمة والكبرياء قل ادعو الله او ادعو الرحمن اياما تدعدو فله الاسماء الحسنى وقلت وانت أهل المجد والثناء ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها وقلت ولك الاخرة والاولى هو الله الخالق البارء المصور له الاسماء الحسنى فاسالك باسمائك الحسنى وصفاتك العليا بجلالك وعظمتك يامن هو الله الذي لااله الا هو عالم الغيب والشهادة ان تصلى على محمد وعلى ال محمد كما صليت على ابراهيم وعلى ال ابراهيم في العالمين انك حميد مجيد وعلى اصحابه واتباعه ومن تحب من الانبياء والمرسلين والملائكة المقربين وصالح خلقك اجمعين واسألك يا الله يارحمن يارحيم باسمائك الحسنى ان تؤانسني بجلالك وتملأ قلبي من معرفتك واسمائك وان تصلح لي امور ديني ودنياي واخرتي وان تغفرلي ولوالدي وللمؤمنين واسألك الدرجات العلى من الجنة اللهم رحمتك ارجو فلاتكلني الى نفسي طرفة عين ياالله ياحي ياقيوم ياذى الجلال والاكرام استجب دعائي وحقق لي املي ورجائي ياكريم يارحيم وصلى اللهم على محمد النبي الامين وعلى اله وصحبه والتابعين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

الفصل الثالث الإنسانية أصلها واحد

الفصل الثالث الإنسانية أصلها واحد

الإنسانية أصلها واحد

الإنسانية أصلها واحد الأمر الذي لا مرية فيه أن أصل بني الإنسان واحد, وأن الإنسانية كلها وحدة واحدة, وإن تباينت مظاهرها في ألوانها وأجسادها وأشكالها, واختلفت ألسنتها وآراؤها ومذاهبها ومواطنها؛ فتلك نتيجة طبيعية لاختلاف البيئات, أو هي اعتبارات ومصطلحات لاتفاقات تعرض لجوهر الإنسان عند تكوينه واستكمال خلقه, وآية دالة على إحكام الله لخلقه, وفي الذكر الحكيم: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} (¬1) , فالآية دالة على عظيم صنع الله وتصويره وتقديره وكبير إحسانه وإكرامه للإنسان بما ليس له مثيل, فتدبر قول الحق تبارك وتعالى مخاطباً ملائكته: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} (¬2) , فالإنسان العاقل يجب ألا يقابل هذا التكريم بالجحود؛ فيتعالى على غيره من بني الإنسان, فلا يجوز لصاحب وطن من الأوطان أو بلد من البلدان أو إقليم من الأقاليم أن يتعالى على غيره من بني الإنسان, إذ لو جاز ذلك لجاز للابن أن يتنكر لوالده, والأب لابنه, والأخ لأخيه, وأنى له ذلك وقد خلق الله الناس جميعاً من نفس واحدة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ ¬

_ (¬1) - سورة الروم الآية (22) . (¬2) - سورة الحجر الآية (29) .

وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (¬1) , في هذه الآية خاطب الله جل وعلا الناس كافة بقوله يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي أنشأكم ورباكم بنعمه فاتقوه في أنفسكم، ولا تتعدوا حدوده فيما شرعه من الحقوق والآداب، مما فيه صلاح شأنكم، فإنه خلقكم من نفس واحدة، فكنتم جنساً واحداً تقوم مصلحته بتعاون أفراده وإتحادهم وحفظ بعضهم حقوق بعض، فتقوى الله فيها الشكر لربوبيته، وفيها ترقية لوحدتكم الإنسانية، فاتقوا الله في أمره ونهيه في حقوق الرحم التي هي أخص من حقوق الإنسانية، بأن تصلوا الرحم التي أمركم الله بوصلها، واحذروا ما نهاكم عنه من قطعها، لما في تقواه من الخير لكم الذي يذكركم به تساؤلكم فيما بينكم باسمه الكريم وحقه على عباده, وسلطانه الأعلى على قلوبهم وبحقوق الرحم، وفي هذا التساؤل من الاستعطاف والإيلاف ما يكفي للتعاطف والتراحم، فلا تفرطوا في هاتين الرابطتين بينكم رابطة الإيمان بالله وتعظيمه، ورابطة وشيجة الرحم، فإنكم إذا فرَّطتم في ذلك أفسدتم فطرتكم، فتفسد حينئذ البيوت والعشائر والقبائل، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} أي: مشرفاً على أعمالكم حفيظاً مطلعاً على جميع أحوالكم. وللإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي عنه: الناسُ مِن جِهَةِ الأبَاءِ اَكفاءُ ... أَبوهُمُ آدَمُ وَالأُمُ حَوّاءُ نَفسٌ كَنَفسٍ وَأَرواحٌ مُشاكَلَةٌ ... وَأَعظُمٍ خُلِقَت فيها وَأَعضاءُ ¬

_ (¬1) - سورة النساء الآية (1) .

وَإِنَّما أُمَّهاتُ الناسِ أَوعِيَةٌ.......مُستَودِعاتٌ وَلِلأَحسابِ آباءُ فَإِن يَكُن لَهُمُ مِن أَصلِهِم شَرَفٌ ... يُفاخِرونَ بِهِ فَالطينُ وَالماءُ ما الفَضلُ إِلا لأَهلِ العِلمِ إِنَّهُمُ ... عَلى الهُدى لِمَنِ اِستَهدى أَدِلاّءُ وَقَدرُ كُلِّ اِمرِئٍ ما كاَن يُحسِنُهُ ... وَلِلرِجالِ عَلى الأَفعالِ اسماءُ وَضِدُّ كُلِّ اِمرِئٍ ما كانَ يَجهَلُهُ ... وَالجاهِلونَ لأَهلِ العِلمِ أَعداءُ وقال أخر: لا تفخرن بأصلك ... ما الفخر إلا بفعلك أصل الأنام ترابٌ ... مما تطأه بنعلك فاعمل بجد وحزم ... ترقَ المعالي بسعيك وجاء في محكم الذكر: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (¬1) , وجاء في السنة النبوية: (يا أَيُّها النَّاسُ، إنَّ ربَّكُمْ وَاحِدٌ وإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلا لا فَضلَ لعَرَبيٍّ على عَجَمِيٍّ، ولا لعَجَمِيٍّ على عَرَبيٍّ، ولا لأَحْمَرَ على أَسْوَدَ ولا لأَسْوَدَ على أَحْمَرَ إلاَّ بالتَّقْوى، أَبَلَّغْتُ؟ قَالُوا: بلّغَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم) (¬2) , وهذا الحديث يستفاد منه تحقيق مبدء المساواة, وأن عز الإنسان ورفعته إنما هو بإيمانه بالله وخشيته له. وقد قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ¬

_ (¬1) - سورة الحجرات الآية (13) . (¬2) - أخرجه الإمام أحمد في المسند حديث (23486) , طبعة بيت الأفكار الدولية لبنان 2004م, والحديث صحيح.

القصة

لَعَمرُكَ ما الإِنسانُ إِلا بِدينِهِ ... فَلا تَترُكِ التَقوى اِتِّكالاً عَلى النَسَب فَقَد رَفَعَ الإِسلامُ سَلمانَ فارِسٍ ... وَقَد وَضَعَ الشِركُ الشَريفَ أَبا لَهَب وجاء في شعر المتوكل الليثي (¬1) : لَسنا وَإِن كَرُمَت أَوائِلُنا ... يَوماً عَلى الأَحسابِ نَتَّكِلُ نَبني كَما كانَت أَوائِلُنا ... تَبني وَنَفعَلُ مِثلَ ما فَعَلوا (¬2) ويرحم الله ابن دريد حيث يقول: إِنَّما المَرءُ حَديثٌ بَعدَهُ ... فَكُن حَديثاً حَسَناً لِمَن وَعى القصة قال عبد الرحمن بن عوف المهاجري القرشي رضي الله عنه لما قدم المدينة قال: آخا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بيني وبين سعد بن الربيع الأنصاري رضي الله عنه فقال سعد: إني من أكثر الأنصار مالاً, فأقسم لك نصف مالي, وأنظر أي زوجتي هويت, نزلت لك عنها, فإذا حلت تزوجتها أنت, وقابل عبد الرحمن هذا الإيثار الكريم بعفاف كريم منه فقال: بارك الله لك في أهلك ومالك, دلني على السوق (¬3) , وقد حكى الله عن حال الأنصار مع المهاجرين ما يدل على عظيم منزلتهم قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬4) . الأمثال العربية في الأمثال السائرة: "الشرف بالهمم العالية لا بالرمم البالية, ومن نهظ به أدبه لم يقعد به حسبه". وقال بعضهم: نفس عصامٍ سودت عصاما ... وعلمته الكر والإقداما وجعلته ملكاً هماماً فصار مثلاً يضرب لمن شرف بنفسه, لا بآبائه وأسلافه, والعرب تقول لمن يفتخر بنفسه: (عصامي) , ولمن يفتخر بآبائه: (عظامي) نسبة إلى عظام الأموات من اجداده. قال الشاعر: إذا ما الحي عاش بذكر ميت ... فذاك الميت حي وهو ميت أما معروف الرصافي فهو يقول: وشر العالمين ذوو خمول ... إذا فاخرتهم ذكروا الجدودا وقال آخر: قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه ... خلقٌ وجيب قميصه مرقوع ومن أمثال العرب: "رضا الناس غاية لا تدرك (¬5) , ورضا الناس شيء لا ينال (¬6) ", وفي الحديث النبوي: (تَجِدُونَ النَّاسَ كَإِبِلٍ مِائَةٍ لا يَجِدُ ¬

_ (¬1) - المتوكل بن عبد الله بن نهشل بن مسافع بن وهب بن عمرو بن لقيط بن يعمر بن عامر بن ليث, (ت 85هـ704م) , من شعراء الحماسة، وهو ليثي من ليث بن بكر، يكنى أبا جهمة من أهل الكوفة في عصر معاوية وابنه يزيد, ولقد اختار أبو تمام قطعتين من شعره إحداهما: ... نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا وقال الآمدي: هو صاحب البيت المشهور: ... لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم (¬2) - ذيل الأمالي لأبي علي بن إسماعيل بن القاسم القالي ج3ص117, منشورات دار الفرقان الجديدة بيروت 1400هـ1980م. (¬3) - انظر: صحيح البخاري باب إخا النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديث (3496) . (¬4) - سورة الحشر (9) . (¬5) - ورد هذا المثل في مجمع الأمثال للميداني, والعقد الفريد, ومحاضرات الأدباء. (¬6) - ورد هذا المثل في البيان والتبيين للجاحظ.

الرَّجُلُ فِيهَا رَاحِلَةً) (¬1) , فاللبيب من الناس من يتعامل مع الناس بحزم, فإنه إن قصد بمؤاخاته للناس حصول رضاهم تعذر ذلك عليه وهو لا يزال بحاجة إلى الناس وهم لا يزالون بحاجة إليه, قال الشاعر: وبالناس عاش الناس قدماً ولم يزل ... من الناس مرغوبٌ إليه وراغبُ (¬2) أما بشار بن برد فهو يقول: مَن راقَبَ الناسَ لَم يَظفَر بِحاجَتِهِ ... وَفازَ بِالطَيِّباتِ الفاتِكُ اللَهِجُ وقال آخر: الناسُ أَخلاقُهُم شَتّى وَإِن جُبِلوا ... عَلى تَشابُهِ أَرواح وَأَجسادِ (¬3) وفي الأمثال السائرة: "الناس أجناس, والناس اخوان وشتى في الشيم" (¬4) . ويرحم الله شوقي حيث يقول: وَالناسُ صِنفانِ مَوتى في حَياتِهُمُ ... وَآخَرونَ بِبَطنِ الأَرضِ أَحياءُ تَأبى المَواهِبُ فَالأَحياءُ بَينَهُمُ ... لا يَستَوونَ وَلا الأَمواتُ أَكفاءُ وقديماً قيل: "في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال" (¬5) , وقيل: "الناس أتباع من غلب (¬6) , والناس على دين ملوكهم", ويغفر الله لأبي العتاهية حيث يقول: ¬

_ (¬1) - أخرجه مسلم في صحيحه باب قوله صلى الله عليه وآله وسلم الناس كإبل مائة حديث (4620) . (¬2) - هذا البيت لابن المولى المدني. (¬3) - هذا البيت للخريمي. (¬4) - ورد هذا المثل في مجمع الأمثال للميداني, والمستطرف. (¬5) - ورد هذا المثل في نهج البلاغة ومجمع الأمثال للميداني. (¬6) - ورد هذا المثل في مجمع الأمثال للميداني, والمستطرف.

ما الناسُ إِلاَّ مَعَ الدُنيا وَصاحِبِها ... فَكَيفَ ما اِنقَلَبَت يَوماً بِهِ اِنقَلَبوا يُعَظِّمونَ أَخا الدُنيا وَإِن وَثَبَت ... يَوماً عَلَيهِ بِما لا يَشتَهي وَثَبوا أما أسامة بن المنقذ فهو يقول: والنّاسُ كالأشجار هَذي يُجتَنى ... منها الثِّمَارُ وذي وَقودُ النّارِ وفي الأمثال العامة: "الناس عبيد الإحسان" (¬1) . وفي الحديث النبوي: (جُبِلَتِ الْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا وَبُغْضِ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهَا) (¬2) . وفي السنة النبوية من الحكم التي جرت مجرى الأمثال السائرة: (الناس سواسية كأسنان المشط) , (الناس معادن كمعادن الفضة) . قال الشاعر: وَالأَصلُ يَنبُتُ فرعه مُتَناثِلاً ... وَالكَفُّ لَيسَ بَنانُها بِسواءِ وَالناسُ لَيسوا يَستَوونَ فَمِنهُم ... وَرِعٌ وَآخَرُ ذو نَدىً وَغِناءِ وَالناسُ أَشباهٌ وَبَينَ حُلومِهِم ... بَونٌ كَذاكَ تَفاضُلُ الأَشياءِ (¬3) أما محمود سامي البارودي فهو يقول: والناسُ أَشْبَاهٌ ولَكِنْ فَرَّقَتْ ... ما بَيْنَهُمْ في الرُّتْبَةِ الآراءُ وقال آخر: ¬

_ (¬1) - ورد هذا المثل في جمهرة الأمثال, وفي مجمع الأمثال للميداني. (¬2) - أخرجه البيهقي في شعب الإيمان باب معاني المحبة حديث (446) . (¬3) - هذه الأبيات تنسب لعدي بن الرقاع العاملي.

الإسلام يدعو إلى الأخوة والتعاون

وَالناسُ بِالناسِ مِن حَضرٍ وَبادِيَةٍ ... بَعضٌ لِبَعضٍ وَإِن لَم يَشعُروا خَدَمُ وَكُلُّ عُضوٍ لأَمرٍ ما يُمارِسُهُ ... لا مَشيَ لِلكَفِّ بَل تَمشي بِكَ القَدَمُ فَاِذخَر لِنَفسِكَ خَيراً كَي تُسَرَّ بِهِ ... فَإِن فَعَلتَ وَإِلا عادَكَ النَدَمُ (¬1) أما بهاء الدين زهير فهو يقول: فَالناسُ بِالناسِ وَالدُنيا مُكافَأَةٌ ... وَالخَيرُ يُذكَرُ وَالأَخبارُ تَنتَقِلُ الإسلام يدعو إلى الأخوة والتعاون إن الدين الإسلامي هو الذي يدعو إلى الوحدة والمودة والإخاء، ويدعو المؤمنين جميعاً إلى التعاون على البر والتقوى وفي الذكر الحكيم: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬2) ، وجاء في الحديث النبوي ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا) (¬3) ، وجاء في حديث أخر: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) (¬4) ، فلقد من الله على المؤمنين إذ جعلهم امة واحده فيما يقولون وما يفعلون، وما يأتون وما يذرون، فمعبودهم واحد، وعباداتهم ¬

_ (¬1) - هذه الأبيات تنسب لأبي العلاء المعري. (¬2) - سورة المائدة (2) . (¬3) - أخرجه البخاري في صحيحه باب تعاون المؤمنين حديث (5567) , مسلم صحيح في باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم حديث (4684) . (¬4) - أخرجه مسلم في صحيحه باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم حديث (4685) .

واحدة قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (¬1) ، ويقول جل شأنه: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (¬2) . والمؤمن ينزع العداوة من قلبه فهو يألف المؤمنين ويحبهم، ليس في قلبه عصبية قبلية ولا حمية جاهلية، قد غرس في قلبه الاخوة في الإيمان، فهو لا يفرق بين صغير ولا كبير، ولا بين متقدم وأخير، وذكر وأنثى، وحر ومولى، فهو يعمل بكلام المولى سبحانه وتعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (¬3) ، والمؤمن يدعو الله أن يذهب الغل من قلبه ويسأله المغفرة لإخوانه كما ورد ذلك في الذكر الحكيم: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (¬4) . ولقد كان أول عمل بدء به رسول الله عليه وآله وسلم بعد هجرته إلى المدينة ودعوته إلى توحيد الله، وبناء المسجد هو المؤاخاة بين المسلمين من المهاجرين والأنصار، بين الفقراء والأغنياء، بين الضعفاء والأقوياء، حتى صارت هذه الوحدة أية تدل على علو شرف الإسلام وسمو مكانته، ... كما أن الإسلام ينهى عن التنازع والتفرق والشقاق فيقول جل شأنه: ¬

_ (¬1) - سورة الأنبياء (92) . (¬2) - سورة المؤمنون (52) . (¬3) - سورة التوبة (11) . (¬4) - سورة الحشر (10) .

{وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (¬1) ، ولله در القائل: كونُوا جميعَاً يا بَنِيَّ إِذا اعتَرى ... خَطْبٌ ولا تتفرقُوا آحادَا تأبَى القِداحُ إِذا اجتمعْنَ تكسُّراً ... وإِذا افترقْنَ تكسَّرتْ أفرادَا (¬2) فالأخوة عزة وقوة, وهي تمثل امتزاج روح بروح وتصالح قلب مع قلب, والإخوة في الله رباط إيماني يقوم على منهج رباني, فالمؤمن من استجاب لنداء ربه، وعمل بأمره: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (¬3) . وأول عمل عمله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة هو بناء المسجد الذي يرمز إلى توحيد الله وتوحد المسلمين ثم آخا بين المهاجرين والأنصار بين الأغنياء والفقراء فكانت قوة ونعمة ووحدة وأخوة. وفي الأمثال السائرة: "رب أخٍ لك لم تلده أمك", وقال الشاعر: أَخاكَ أَخاكَ إِنَّ من لا أَخاً لَه ... كساعٍ الى الهيجا بغير سلاحِ ¬

_ (¬1) - سورة الأنفال (46) . (¬2) - انظر: ديوان الطغرائي: (455-513هـ/1063-1120م) الحسين بن علي بن محمد بن عبد الصمد أبو إسماعيل مؤيد الدين الأصبهاني الطغرائي, شاعر، من الوزراء الكتاب، كان ينعت بالأستاذ، ولد بأصبهان، اتصل بالسلطان مسعود بن محمد السلجوقي (صاحب الموصل) فولاه وزارته. ثم اقتتل السلطان مسعود وأخ له اسمه السلطان محمود فظفر محمود وقبض على رجال مسعود وفي جملتهم الطغرائي، فأراد قتله ثم خاف عاقبة النقمة عليه، لما كان الطغرائي مشهوراً به من العلم والفضل، فأوعز إلى من أشاع اتهامه بالإلحاد والزندقة فتناقل الناس ذلك، فاتخذ السطان محمود حجة فقتله. ونسبة الطغرائي إلى كتابة الطغراء. وللمؤرخين ثناء عليه كثير. له (ديوان شعر - ط) ، وأشهر شعره (لامية العجم) ومطلعها: أصالة الرأي صانتني من الخطل. وله كتب منها (الإرشاد للأولاد) ، مختصرة في الإكسير. (¬3) - سورة آل عمران (103) .

مبدأ الوحدة الإنسانية والمساواة البشرية

وقال آخر: لعمرك ما مال الفتى بذخيرة ... ولكن اخوان الثقات الذخائر وقيل: "القريب من قرب نفعه", وقيل: "يدك منك وإن كانت شلا", وإنما الناس جماعة واحدة خيرهم من جمعهم على البر والصدق والهدى". قال الشاعر: يُعرّفك الاخوان كل بنفسه ... وخير أخ ما عرفتك الشدائد مبدأ الوحدة الإنسانية والمساواة البشرية كان الإنسان موزعاً بين قبائل وأمم, وطبقات بعضها دون بعض, وقوميات ضيقة, وكان التفاوت بين هذه الطبقات تفاوتاً هائلاً, كتفاوت ما بين الإنسان والحيوان, وبين الحر والعبد, وبين العابد والمعبود, لم تكن هناك فكرة عن الوحدة والمساواة إطلاقاً, فأعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد قرون طويلة من الصمت المطبق, والظلام السائد, وذلك الإعلان الثائر, المدهش للعقول, القالب للأوضاع: (يا أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب إن أكرمكم عند الله أتقاكم وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى) . وهذا الإعلان يتضمن إعلانين هما الدعامتان اللتان يقوم عليهما الأمن والسلام, وعليهما قام السلام في كل زمان ومكان وهما: وحدة الربوبية ووحدة البشرية, فالإنسان أخو الإنسان من جهتين: الجهة الأولى -وهي الأساس- أن الرب واحد, والجهة

نجاح الأفراد والأمم وأثر الاتفاق والاختلاف على الأسرة الإنسانية

الثانية أن الأب واحد (¬1) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (¬2) , {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (¬3) . نجاح الأفراد والأمم وأثر الاتفاق والاختلاف على الأسرة الإنسانية من الأمور التي يتفق عليها العقلاء من الناس أن الناس يتفاوتون في أقدارهم ومكانتهم, فمن الأفراد من يتمتع باحترام الناس وتقديرهم وتوقيرهم, يتعامل الناس معه باحترام وأدب ووقار, ومن الناس من لا يتبوء هذه المكانة ولا يكون الناس سعداء بالتعامل معه, وكذلك الأمم حالها كالأفراد, فمن الأمم أمة في الذروة من الاحترام تقول الكلمة فتدوي لكلمتها الدنيا, وتنحني لها الرؤس, ويخطب ودها وصدقاتها, ومن الأمم من لا يصوغ لها مركزها أن تتكلم كلمة ولو تكلمت كان كلامها موضع ضحك وسخرية. ترى فما هو سر نجاح الأفراد والأمم مع أن أصل البشرية واحد والناس سواسية -وقد سبق بيان ذلك-؟ ¬

_ (¬1) - انظر: السيرة النبوية كتبها العلامة الداعية الحكيم أبو الحسن علي الحسني الندوي, ص473 , الناشر: دار القلم دمشق, الطبعة الأولى 1422هـ2001م. (¬2) - سورة النساء الآية (1) . (¬3) - سورة الحجرات الآية (13) .

قلنا: هناك عوامل عدة لنجاح الأفراد ولنجاح الأمم, فالإنسان يعيش حياته بين دائرتين: دائرة هموم ودائرة تأثير, فدائرة الهموم: في الأمور التي تهمك لكنك قد لا تملك التأثير فيها, وأما دائرة التأثير: في الأشياء التي يمكنك أن تؤثر فيها إيجاباً أو سلباً, فإن الناجح من الناس تتسع دائرة تأثيره بصورة ملحوظة, فهو يسعى إلى التأثير في الأشياء بوجه حسن وهمة عالية, بتفكير سليم وخلق قويم وعمل مستديم. فالعاقل يعرف أن كل شيء يصنع مرتان, يصنع أولاً في الذهن, ثم يصنع بعد ذلك في أرض الواقع, فأنت الذي تصنع الأمل وتستشرف المستقبل بناءً على تطلعاتك قبل حدوثها. وهذا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان ينوه في بداية الدعوة عن إيمان وعزيمة وثبات ويقول: (ليبلغن هذا الأمر مبلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل يعز بعز الله في الإسلام ويذل به في الكفر) , وكان تميم الداري رضي الله عنه يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز ولقد أصاب من كان كافرا الذل والصغار والجزية (¬1) . وقد يقول أحدنا: أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا ينطق عن الهوى فهو يخبر عن أمر أخبره الله تعالى به فهو متحقق الوقوع, فمن أين لنا أن نرسم الحياة كما نريد؟ ¬

_ (¬1) - أخرجه الحاكم في المستدرك كتاب الفتن والملاحم حديث (8326) .

قلنا: هذا حق, وفي حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما يعلمنا الثبات والعزيمة على استشرف المستقبل وصناعة الأمل, بعزيمة وإرادة, فقد وعد الله سبحانه وتعالى المؤمنين كافة بالاستخلاف والتمكين والنصر, ... قال جل شأنه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬1) , وقال سبحانه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (¬2) , وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (¬3) . وحينما أخذ المؤمنون بعزيمة أمور دينهم تحقق لهم الوعد وحصل لهم النصر والتمكين والعز بعد الذل والوحدة بعد الافتراق والغنى بعد الفقر, فمن منا عمل على اعزاز هذا الدين ولم يحصل له التمكين؟ ومن الذي اقتدى بالنبي الأمين صلى الله عليه وآله وسلم في سلوكه وأخلاقه ولم يظفر بمراده؟ فأنت أخي بحاجة إلى زاد من التقوى والأخلاق, أنت بحاجة إلى القدوة الحسنة والإتباع لنبيك صلى الله عليه وآله وسلم, أنت بحاجة إلى مواصلة العمل, بحاجة إلى العفو والتسامح حتى تكون قدوة في العفو والتسامح وتقديم الخير والإحسان إلى الناس, أنت بحاجة إلى الأخذ بسنن الله في هذا الكون الرحيب, فما أحوج الإنسان الذي يبحث عن الإحترام والنجاح والتقدير والسعادة والسيادة على الأرض إلى عون الله تعالى وتوفيقه. ولله در الشاعر حيث يقول: إِذا لَم يَكُن عَونٌ مِنَ اللَهِ للِفَتى ... فَأَكثَرُ ما يَجني عَلَيهِ اِجتِهادُهُ (¬4) فإذا علمت وعملت عرفت أن الإنسان يجب عليه أن يرتب أولوياته ويسعى لتحقيق غاياته وأن يكون محسناً مع أهله وإخوانه, فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان خير الناس في تعامله وسلوكه مع أهله وإخوانه وجيرانه ومجتمعه وأمته, وكان أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس, ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقم البيت ويعقل البعير ويعلف ناضحه ويأكل مع الخادم ويعجن معها ويحمل بضاعته من السوق. (¬5) لم يكن مستبداً ولا غافلاً ولا فضاً غليظاً, وصدق الله حيث يقولل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (¬6) , وهو مع ذلك كله كان رؤوفاً رحيماً, لقد جاء في الحديث النبوي: (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ, ثُمَّ خَرَجَ, فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ ¬

_ (¬1) - سورة النور الآية (55) . (¬2) - سورة الأنبياء الآية (105) . (¬3) - سورة محمد الآية (7) . (¬4) - هذا البيت للإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. (¬5) - السيرة النبوية للندوي ص405. (¬6) - سورة آل عمران الآية (159) .

الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ, فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنْ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ بِي, فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ فَسَقَى الْكَلْبَ, فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ, قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا, فَقَالَ: نَعَمْ فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ) (¬1) , وفي الذكر الحكيم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (¬2) . فانظر أخي أين نحن من هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتأسي والاقتداء به؟ فكثير من الناس يرى غيره من بني الإنسان يتضور جوعاً أو يعتصر ألماً لمرض أو فقر أو جائحة نزلت به فهو يبحث عن وظيفة وعمل ويبحث عن من يساعده ويسعى لإنقاذه أو التعاون معه فلا يجد من ذلك الأخ نصرةً ولا عوناً, حتى وإن كان من جيرانه, فأين الأخوة الإيمانية والأخوة الإنسانية؟ فهل يستطيع عاقل أن يرى أخاً له من أمه وأبيه يتضور جوعاً ثم لا يعمل على مساعدته وإنقاذه وهو على ذلك قدير بل ربما كان متخماً ومنعماً يملك الثروة والسلطة فهو يملك الأموال الواسعة التي قد ينفقها ويصرفها في غير محلها وعلى غير مستحقها وربما بددها في أمور يسأله الله عنها, فكيف بك أخي إذا سعيت إلى تفريق إخوانك وتقطيع أرحامك مع أنك تقرأ في القرآن: ¬

_ (¬1) - أخرجه البخاري في صحيحه باب رحمة الناس والبهائم حديث (5550) . (¬2) - سورة التوبة الآية (128) .

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (¬1) , ولا تتدبر ما ورد في الفرقان: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (¬2) . فإن كنت تريد السعادة في الدنيا والآخرة وتريد أن تنال الحسنى وزيادة فتأسى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم, ولقد مثلت حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعمالاً كثيرة متنوعة بحيث تكون فيها الإسوة الصالحة والمنهج الأعلى للحياة الإنسانية, لأنها جمعت بين الأخلاق العالية والعادات الحسنة والعواطف النبيلة والنوازع العظيمة, فإذا أردت السعادة والإحترام فتأسى به, فإن كنت غنياً مثرياً فاقتدِ بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم عندما كان تاجراً يسير بسلعته بين الحجاز والشام, وحين ملك خزائن البحرين, وإن كنت فقيراً معدماً فلتكن أسوتك به وهو محصور في شعب أبي طالب, وحين قدم إلى المدينة مهاجراً وهو لا يحمل من حطام الدنيا شيئاً, وإن كنت ملكاً فاقتدِ بسنته وأعماله حين ملك أمر العرب وغلب على آفاقهم, ودان لطاعته عظماؤهم وذووا أحلامهم, لتكون عزيزاً محترماً, وإن كنت رعية ضعيفاً فلك برسول الله أسوة حسنة حينما كان محكوماً بمكة في نظام المشركين, وإن كنت فاتحاً غالباً فلك من حياته نصيب أيام ظفره بعدوه في بدر وحنين ومكة, وإن كنت منهزماً -لا قدر الله- فاعتبر به في يوم أحد وهو بين أصحابه القتلى ورفقائه المثخنين بالجراح, فلا تهن ¬

_ (¬1) - سورة الحجرات الآية (10) . (¬2) - سورة محمد الآية (22) .

ولا تحزن, وإن كنت مُعلّماً فانظر إليه وهو يعلم أصحابه في صحن المسجد متواضعاً, وإن كنت واعظاً ناصحاً ومرشداً أميناً فاستمع إليه وهو يعظ الناس على أعواد المسجد النبوي, وإن أردت أن تقيم الحق وتصطع بالمعروف وأنت لا ناصر لك ولا معين فانظر إليه وهو ضعيف بمكة لا ناصر ينصره ولا معين يعينه إلا الله, ومع ذلك فهو يدعو إلى الحق ويعلن به, وإن هزمت عدوك وخضدت شوكته وقهرت عناده فظهر الحق على يديك وزهق الباطل واستتب لك الأمر فانظر إليه يوم فتح مكة وفتحها, وإن أردت أن تصلح أمور زراعتك وتقوم على ضياعك فانظر إليه صلى الله عليه وآله وسلم وقد ملك ضياع بني النظير وخيبر وفدك كيف دبر أمورها وأصلح شئونها وفوضها إلى من أحسن القيام عليها. (¬1) وانظر بعينيك إلى الأفراد والأمم التي تتفق وتتآخى وتتعاون؛ كيف علت كلمتها وعظمت هيبتها, وتدبر القرآن الذي جاء فيه: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (¬2) , وانظر بعينيك الأفراد والأمم الذين يختلفون ويتنافرون ويتنابزون ويتقاطعون ويستعلي بعضهم على بعض؛ كيف صار حالهم, وكيف تبدل عزهم إلى ذل, وغناهم إلى فقر, وجمعهم إلى شتات, وصدق الله حيث يقول: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (¬3) . فهل آنَ لنا أن نسعى إلى إعمار الحياة بالحب والعمل, حب الفضيلة, لأنها تنعكس سروراً وطمئنينة, فحب الناس, حب الخير للجميع, حب التعاون على البر والتقوى, حب التضحية والفداء والإيثار, حب الإخاء, ففي الحديث النبوي: (لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) (¬4) . أخي المحزون يا من مللت الحياة وسئمت العيش إن هناك فتحاً قريباً إن الله مقلب القلوب, ثق بالله, وانظر إلى الحياة بجمالها وجلالها, واعلم بأن وعد الله آتٍ قريب, أليس الصبح بقريب, وتدبر قول الحق تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (¬5) , وقوله جل شأنه: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (¬6) , فلا يهولنك تبجح غير المؤمنين بثروتهم أو بسلطانهم الذي اتاهم الله وما خولهم به من النعم فإن العزة والكرامة للمؤمنين من بني آدم فقوة الإيمان أسٌ للنجاح والظفر, وبالإيمان والعمل الصالح تنال الدرجات ¬

_ (¬1) - انظر في ذلك السيرة النبوية للندوي ص454و455. (¬2) - سورة آل عمران الآية (103) . (¬3) - سورة الأنفال الآية (46) . (¬4) - أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الإيمان باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه حديث (12) . (¬5) - سورة الأنفال الآية (24) . (¬6) - سورة الحج الآية (40) .

مراحل نمو خلق الإنسان تدل على أن الله وحده الخالق المنان

العلا وصدق الله حيث يقول: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللهِ وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ} (¬1) . مراحل نمو خَلق الإنسان تدل على أن الله وحده الخالق المنان إن خلق الإنسان في أحسن تقويم وإحكام صنعته تدل على أن الله وحده لا شريك له الخالق العظيم قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (¬2) , إن هذه الآيات تدل بوضوح على أن الإنسان خلق من طين, فالنظفة في كل من الذكر والأنثى التي يتكون منها الجنين هي وليدة عملية التغذية التي يتغذى بها الإنسان, والمراد بالنظفة في الآية هي مجموع الخلايا الحية, التي تصدر من الرجل وتعوم في السائل الموجود داخل رحم المرأة ثم تتسابق لتنال خلية الأنثى الواحدة. وأحد هذه الحيوانات المنوية الذي يصل أولاً, يخرق بيضة الأنثى ويدخل فيها ويمتزج بها, وهذه أول عملية تكوين الجنين, ثم يخبر الله ¬

_ (¬1) - سورة آل عمران الآيات (196-198) . (¬2) - سورة المؤمنون الآيات (12-14) .

تعالى بأنه يصير علقة وهي مجموعة الخلايا التي تنقسم إليها البويضة بعد تلقيحها, لقد نتأت على سطحها نتوأت تصلها بحائط الرحم, وسميت علقة لنها تعلق بجدار الرحم, على أن الجنين يصير بعد ذلك مستديراً بغير انتظام ومكوراً ويبقى كذلك عدة أسابيع وقد سماه الله مضغة -لكثرة الشبة بينه وبين قطعة اللحم الممضوغة- وهي في الاصطلاح الطبي عبارة عن نمو العلقة وتنوع خلاياها وتميز بعض أجزائها عن البعض الآخر وهنا يبدأ طور التكوين وتظهر آثار العظام في المضغة, وبعد أن تتكون العظام يبدأ اللحم في التكون بظهور العظلات وذلك بتكون الخلايا التي تحيط بالعظام وبينما تظهر العظام والعظلات تتكون بقية أعضاء الجسم. (¬1) {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} . إن خلق الإنسان معجزة عظيمة وآية تدل على أنه الخالق الواحد سبحانه المستحق للعبادة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬2) , وهذا النص يقرر أن الله جل وعلا وحده الخالق للإنسان فكيف لا يكون وحده المعبود, فآية إثبات الخلق لله تعالى وحده تثب الألوهية لله سبحانه وتعالى. فقد نبه الحق سبحانه وتعالى بذلك على أنه وحده الخالق لكم ولآبائكم ومن تقدمكم, وإنه لم يشركه أحد في خلق ¬

_ (¬1) - انظر: الدكتور عفيف عبد الفتاح طبارة في كتابه: روح الدين الإسلامي, ص61 , نقلاً عن كتاب الإسلام والطب الحديث ص81. (¬2) - سورة البقرة الآية (21) .

من قبلكم, ولا في خلقكم, وخلقه تعالى لهم متضمن لكمال قدرته وإرادته وعلمه وحكمته وحياته, وذلك يستلزم لسائر صفات كماله, ونعوت جلاله فيتضمن ذلك إثبات صفاته وأفعاله ووحدانيته في صفاته فلا شبيه له فيها ولا في أفعاله فلا شريك له فيها. (¬1) قال الشاعر: انظر إلى الكون وهو في عدمٍ ... واطلب له الخالق الذي خلقه تجد هناك الوجود منفرداً ... به تعالى مقال أهل ثقه وتعرف الكل لا وجود لهم ... إلا به والعقول متفقه (¬2) فإذا ضاقت عليك نفسك, أو ضاقت عليك الأرض بما رحبت, أو جفاك النوم في مرقدك, وصاحبك الأرق, وبارت حيلك, فارفع أكف الضراعة وابتهل لخالقك فهو يراك ويسمع دعاك. قال الشاعر: مهما رسمنا في جلالك أحرفاً ... قدسية تشدو بها الأرواح فلأنت أعظم والمعاني كلها ... يا رب عند جلالكم تنداح (¬3) ¬

_ (¬1) - الجامع لأسماء الله الحسنى ص116. (¬2) - تنسب هذه الأبيات لعبد الغني النابلسي (1050-1143هـ/1641-1730م) شاعر عالم بالدين والأدب مكثر من التصنيف، تصوف ولد ونشأ في دمشق ورحل إلى بغداد وعاد إلى سوريا وتنقل في فلسطين ولبنان وسافر إلى مصر والحجاز واستقر في دمشق وتوفي فيها. له مصنفات كثيرة جداً منها: (الحضرة الأنسية في الرحلة القدسية-ط) و (تعطير الأنام في تعبير الأنام-ط) و (ذخائر المواريث في الدلالة على مواضع الأَحاديث-ط) ، و (علم الفلاحة-ط) ، و (قلائد المرجان في عقائد أهل الإيمان-خ) ، و (ديوان الدواوين-خ) مجموع شعره وله عدة دواوين. (¬3) - ورد هذا البيتان في كتاب دع الحزن وابدأ الحياة تأليف عبد الله بن سعيد الزهراني , ص11 , الناشر: دار الطرفين للنشر والتوزيع الطائف.

وستجد الجواب من ربك العزيز الوهاب فاطر السموات والأرض, فابشر برحمته وحصول فرجه, فربك يخلق ما يشاء ويختار. قال الشاعر: أقول لابني وقد قال الطبيب له ... لم يبق إلا رجاء الخالق الباري رضيت باللَه مرجوّاً إذا اعترضت ... وساوس اليأس في ظني وأفكاري (¬1) وقد جاء في محكم الذكر الحكيم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (¬2) . إن مما يطمئن الإنسان ويسعده أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلقه وأنه سبحانه الخالق لكل شيء, وأن الذي يخلقه الله عز وجل يبقى رهن أمره فاطمئن, فكل من حولك وما حولك بيد الله عز وجل له الخلق والأمر {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬3) , قال الشاعر: الحمد لله جلَّ الله من خالقٍ ... وهو العليم بنا ألفاتقُ الراتق قد ضمّ شملي به إذ كنت في عدم ... لا علم عندي بمخلوقٍ ولا خالقِ ¬

_ (¬1) - ينسب هذان البيتان لعمارة اليمني. (¬2) - سورة فاطر الآية (3) . (¬3) - سورة الأعراف الآية (54) .

الخالق في أسماء الله الحسنى

حتى إذا برزتْ بالكون أعيننا.........علمت بالكونِ قطعاً أنه الخالق (¬1) الخالق في أسماء الله الحسنى الخالق لكل شيء وموجده من العدم هو الله سبحانه وتعالى وما سواه مخلوق مربوب له, لا خالق غيره, وقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (¬2) . وقال القرطبي: الخالق نطق به التنزيل وتكرر في القرآن, وجاء في حديث أبي هريرة الذي خرجه الترمذي (الخالق) وعند غيره (الخلاق) عوضاً من الخالق, وكلاهما أجمعت عليه الأمة. (¬3) وقال القحطاني: الخالق، البارئ، المصوِّر، الخلاق, الذي خلق جميع الموجودات وبرأها، وسواها بحكمته، وصورها بحمده وحكمته، وهو لم يزل، ولا يزال على هذا الوصف العظيم. (¬4) وقد يرد الخلق في كلام العرب بمعنى الكذب, قال زهير: فَلأَنتَ تَفري ما خَلَقتَ وَبَعضُ ... القَومِ يَخلُقُ ثُمَّ لا يَفري ¬

_ (¬1) - تنسب هذه الأبيات لمحيي الدين بن عربي. (560-640هـ/1164-1242م) محمد بن علي بن محمد بن عربي أَبوبكر الحاتمي الطائي الأندلسي المعروف بمحي الدين بن عربي. فيلسوف من أئمة المتكلمين في كل علم، ولد في مرسية بالأندلس وانتقل إلى اشبيلية وقام برحلة فزار الشام وبلاد الروم والعراق والحجاز، واستقر في دمشق ومات فيها, يقول الذهبي عنه: "قدوة القائلين بوحدة الوجود", له نحو أربعمائة كتاب ورسالة منها: (الفتوحات المكية) في التصوف, وعلم النفس، عشر مجلدات، (محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار) في الأدب، (ديوان شعر-ط) أكثره من التصوف، و (فصوص الحكم-ط) وغيرها الكثير الكثير. (¬2) - سورة الحشر الآية (24) . (¬3) - الآسنى في شرح اسماء الله الحسنى ص408. (¬4) - شرح اسماء الله الحسنى ص86.

ثمرة معرفة اسم الله الخالق وحده لا شريك له

وقال الإقليشي: منع الشرع ما أطلقه العرب من هذا الاسم على المخلوق, وحجر أن يسمى موجود في الوجود خالقاً غير الله تعالى؛ لأنه مخترع الأعيان ومقدر الأشياء, فاتصاف العبد بالاختراع باطل قطعاً, واتصافه بالتقدير مجاز, لأن التقدير الذي يقدره العبد مخترع له في الوقت الذي يقدره فهو منسوب لله تعالى حقيقة وللعبد مجازاً. (¬1) والخلاصة: أن الخلق بمعنى الإيجاد من العدم مختص به سبحانه وتعالى, ... أما الخلق بمعنى التجميع من شيء أوجده الله وتركيبه أو توظيفه ضمن النواميس التي قدرها الله تعالى وأوجدها وعلمها الإنسان وأذن الحق سبحانه وتعالى بإستعمالها وتوظيفها وتركيبها فهذا قد ينسب إلى الإنسان لا على سبيل الحقيقة والإيجاد من العدم، وذلك كصناعة السيارات مثلاً أو غير ذلك من الإلكترونيات، فإن الله خالق المواد والإنسان أبدع في تركيب وتوظيف هذه المواد، وكتركيب الكلمات ومنه قوله تعالى: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} (¬2) . ثمرة معرفة اسم الله الخالق وحده لا شريك له إذا عرف المكلف أن الله جل وعلا وحده لا شريك له خالق كل شيء وحده لا شريك له, وعرف أن السموات والأرض ومن فيهن والكون بما فيه مخلوق له سبحانه وتعالى؛ آمن به ووجب عليه أن يفرده بالعبادة, قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ ¬

_ (¬1) - الآسنى في شرح اسماء الله الحسنى ص408. (¬2) - سورة العنكبوت الآية (17) .

الْعَالَمِينَ} (¬1) , وقال جل شأنه: {ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (¬2) , وأن يشكره على نعمة الخلق فهو الذي أعطى كل مخلوق خصائصه في التصوير, وقدر رزقه, فبيد الخالق البارئ المصور كل شئون الخلق, يمنعهم ويعطيهم ويتفضل عليهم ويرحمهم. ولهذا فإن المؤمن يعبد الله ويرجوه ويسأله الرحمه والفوز والفلاح, لأنه يعلم أن الله خالق كل شيء, فهو يعبد الله, ويرحم عباده, وإنما يرحم الله من عباده الرحماء, وفي الحديث النبوي: (إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِائَةَ رَحْمَةٍ كُلُّ رَحْمَةٍ طِبَاقَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ فَجَعَلَ مِنْهَا فِي الأَرْضِ رَحْمَةً فَبِهَا تَعْطِفُ الْوَالِدَةُ عَلَى وَلَدِهَا وَالْوَحْشُ وَالطَّيْرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَكْمَلَهَا بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ) (¬3) . ولهذا فإن من عرف أن الله خالقه ورازقه, وأن مدار الدنيا, وكل نفع وضر, وإعطاء ومنع, وإحياء وإماته, ومجازات على الحسنات والسيئات؛ بيد الله؛ التزم طاعة خالقه وابتعد عن ظلم الناس, وعاش في سعادة, ومات على التوحيد, قال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ ¬

_ (¬1) - سورة الأعراف الآية (54) . (¬2) - سورة الأنعام الآية (102) . (¬3) - أخرجه مسلم في صحيحه باب في سعة رحمة الله تعالى حديث (4946) .

دعاء الله باسمه الخالق

تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ* وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬1) , وقال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} (¬2) . دعاء الله باسمه الخالق يا الله يا خالق يا رحمن يا رحيم خلقتني سوياً وخلقتني خَلقاً رضياً, فكن لي ولياً, وكن بي حفياً, فأنت الذي خلقتني من العدم, فاسبغ علي وعلى جميع المؤمنين جزيل النعم, واصرف عنا النقم, واجعلني والمؤمنين من الشاكرين لآلائك, المحبين لأوليائك, المتبعين لنبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم أنبيائك ورسلك, ونسألك اللهم يا خالق كل شيء, يا خالق السماوات والأرض, رب كل شيء ومليكه؛ الدرجات العلا من الجنة, وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين. ¬

_ (¬1) - سورة الملك الآيات (161-165) . (¬2) - سورة الملك الآيات (1-3) .

الفصل الرابع القلم

الفصل الرابع القلم

القلم

القلم القلم صائغ الكلام, والمعبر عن أجمل البيان بما يخطه من أفصح الكلام, فيظهر ما في النفس من المعاني التي تشرق بها الآمال, وتتحقق بها الأعمال, فهو ترجمان القلب وبريد اللسان, وقد نسب إلى بعض ملوك اليونان أنه قال: "أمر الدنيا والدين تحت شيئين: قلم وسيف, والسيف تحت القلم" (¬1) , وبالقلم تحفظ العلوم وتعلّم, وتدون الأفكار وتنشر, ولولاه لما انتظم عقد البيان, ولما شاع العلم بين الأنام, فبه خطت المقادير, وأجريت التدابير, وهو أول ما خلق الله العزيز القدير, وفي الحديث الشريف: (إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ, قَالَ: رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ) (¬2) , وأول ما نزل من القرآن الكريم قول العزيز الحكيم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (¬3) , وفي ذلك دليل وبرهان على عظيم تكريم الله تعالى للإنسان الذي علّمه بالقلم ما لم يكن يعلم, ألا ترى أن الحق سبحانه وتعالى أمر نبيه بالقراءة باسمه تبارك وتعالى, ثم ذكر التفضيل على عباده بخلقه إياهم, وما ندبهم له بذلك من البقاء الدائم والنعيم المتصل, لمن آمن به ووحده وصدّق نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ثم أتبع ذلك بذكر الإنعام عليهم بما ¬

_ (¬1) - انظر أدب الكتاب تأليف الإمام أبي بكر محمد بن يحيى بن عبد الله الصولي المتوفى سنة 335هـ شرح وتعليق احمد حسن لبج, ص36, الناشر: دار الكتب العلمية بيروت لبنان, الطبعة الأولى 1415هـ. (¬2) - أخرجه أبو داود في سننه باب في القدر حديث (4078) . (¬3) - سورة العلق الآيات (1-5) .

القلم تحيا به الأمم وتتعلم

علمهم من الكتاب الذي به قوام أمر دينهم ودنياهم, واستقامة معائشهم وحفظها, ولولا أن من لا يحسن الكتابة يجد ممن يحسنها معونة وإبانة عنه, لما استقام له أمر, ولا تم له عزم, ولحل محل الصور الممثلة, والبهائم المهملة. ومعنى قوله (الذي علّم بالقلم) : الذي علّم الكتابة بالقلم. (¬1) القلم تحيا به الأمم وتتعلّم القلم به تحيا الأمم وتتعلّم فهو الذي يعبر به عمّا في الضمير, وهو طبيب المنطق وبريد القلب, قال عبد الحميد الكاتب: "القلم شجرة ثمرتها الألفاظ, والفكر بحر لؤلؤه الحكمة", وقال ابن المقفع: "القلم بريد القلب يخبر بالخبر وينظر بلا نظر", وقيل: "القلم سفير العقل, ورسوله الأنبل, ولسانه الأطول, وترجمانه الأفضل, والقلم أصم يسمع النجوى, وأخرس يفصح بالدعوى, وجاهل يعلم الفحوى", وقيل: "عقول الرجال تحت أقلامها, والقلم راقد في الأفئدة مستيقظ في الأفواه", وبمداد أقلام العلماء وسيوف الشجعان الحكماء من المجاهدين العظماء بنيت الممالك وأمن الناس من المهالك, ورحم الله من سجل بقلمه ما يدعو المسلمين إلى الاجتهاد والجهاد, فقال: يا أيها المغمدان السيف والقلم ... متى يسح مداد منكما ودم (¬2) ¬

_ (¬1) - أدب الكتاب ص11. (¬2) - هذا البيت للعلامة يحيى بن محمد بن الهادي قاضي الشرع في جبل صبر في عهد الإمام يحيى من قصيدة طويلة ضمن ديوانه المخطوط.

دور القلم في سعادة الأمم وشقاؤها

وقال آخر: هَذا الزَمانُ تُناديكُم حَوادِثُهُ ... يا دَولَةَ السَيفِ كوني دَولَةَ القَلَمِ فَالسَيفُ يَهدِمُ فَجراً ما بَنى سَحَراً ... وَكُلُّ بُنيانِ عِلمٍ غَيرُ مُنهَدِمِ (¬1) دور القلم في سعادة الأمم وشقاؤها للقلم دور في سعادة الأمم وشقاؤها, وله نصيب في مدحها وهجائها, فبه يتعلّم الجاهل, ويظفر العاقل, وقديماً قيل: "القلم لسان البصر يناجيه بما استتر عن الأسماع, إذا نسح حلله وأودعها حكمه", فهو أنف الضمير إذا رعف أعلن أسراره وأبان آثاره, وبنوء القلم تصوب الحكمة, وقال ابن أبي دؤاد: "القلم الدنيا والآخرة". (¬2) وفي الأمثال السائرة: "عقول الرجال تحت أسنة أقلامها", وقيل:"الأقلام مطايا الفطن". ويرحم الله شوقي حيث يقول: سُبحانَكَ اللَهُمَّ خَيرَ مُعَلِّمٍ ... عَلَّمتَ بِالقَلَمِ القُرونَ الأولى أَخرَجتَ هَذا العَقلَ مِن ظُلُماتِهِ ... وَهَدَيتَهُ النورَ المُبينَ سَبيلا وقال ابن أبي حصينة (¬3) : جَزى اللَهُ خَيراً ظُهورَ الرِكاب ... وَأَحسَنَ عَنِيّ جَزاءَ القَلَم ¬

_ (¬1) - هذان البيتان لأحمد شوقي من قصيدة مطلعها: الدَهرُ يَقظانُ وَالأَحداثُ لَم تَنَمِ ... فَما رُقادُكُمُ يا أَشرَفَ الأُمَمِ (¬2) - أدب الكتاب ص63. (¬3) - الحسن بن عبد الله بن أحمد بن عبد الجبار بن أبي حصينة أبو الفتح الشامي. (388-457هـ/998-1064م) شاعر من الأمراء ولد ونشأ في معرة النعمان بسورية انقطع إلى دولة بني مرداس في حلب فامتدح عطية بن صالح المرداسي فملكه ضيعة فأثرى, وأوفده ابن مرداس إلى الخليفة المستنصر العلوي بمصر رسولاً سنة 437هـ‍فمدح المستنصر بقصيدة وأعقبها بثانية سنة 450هـ فمنحه المستنصر لقب الإمارة, ثم كتب له سجلاً بذلك فأصبح يحضر في زمرة الأمراء ويخاطب بالإماره وتوفي في سروج, له (ديوان شعر -ط) طبع بعناية المجمع العلمي بدمشق مصدراً بمقدمة من إملاء أبي العلاء المعري وقد قرئ عليه.

وقال أيضاً: ما أَقبَحَ العِرضَ مَدنُوساً بِفاحِشَةٍ ... يَخُطُّها اللَوحُ أَو يَجري بِها القَلَمُ وقال بعض الكتاب: " القلم الرديء كالولد العاق", وقالوا: "القلم أحد اللسانين, والعم أحد الأبوين, والتثبت أحد العفوين, والمطل أحد المنعين, وقلة العيال أحد اليسارين, والقناعة أحد الرزقين, والوعيد أحد الضربين, والرواية أحد الهاجيين, والهجر أحد الفراقين, واليأس أحد النجحين, والمزاح أحد السبابين", وقيل: "القلم لسان اليد", وقد فاخر صاحب سيف صاحب قلم, فقال صاحب القلم: انا أقتل بلا غرر وأنت تقتل على خطر, فقال صاحب السيف: القلم خادم السيف فإن بلغ مراده وإلا فإلى السيف معاده, أما سمعت قول أبي تمام (¬1) : السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ ... في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ أما الصنوبري (¬2) فهو يقول: ما كنتُ أحسَبُ أنَّ الخِنجَرَ القَلَمُ ... مِنْ قبلِ هذا ولا أنَّ المِدادَ دَمُ ¬

_ (¬1) - حبيب بن أوس بن الحارث الطائي, (188-231هـ/803-845 م) , أحد أمراء البيان، ولد بجاسم (من قرى حوران بسورية) ورحل إلى مصر واستقدمه المعتصم إلى بغداد فأجازه وقدمه على شعراء وقته فأقام في العراق ثم ولي بريد الموصل فلم يتم سنتين حتى توفي بها, كان أسمر، طويلاً، فصيحاً، حلو الكلام، فيه تمتمة يسيرة، يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة من أراجيز العرب غير القصائد والمقاطيع, في شعره قوة وجزالة، له تصانيف، منها فحول الشعراء، وديوان الحماسة، ومختار أشعار القبائل، ونقائض جرير والأخطل، نُسِبَ إليه ولعله للأصمعي كما يرى الميمني, نشأ في دمشق وعمل حائكاً فيها ثمَّ انتقل إلى حمص وبدأ بها حياته الشعرية, وفي أخبار أبي تمام للصولي: أنه كان أجش الصوت يصطحب راوية له حسن الصوت فينشد شعره بين يدي الخلفاء والأمراء. (¬2) - أحمد بن محمد بن الحسن بن مرار الضبي الحلبي الأنطاكي أبو بكر, المتوفى سنة 334 هـ945م, شاعر اقتصر في أكثر شعره على وصف الرياض والأزهار, وكان ممن يحضر مجالس سيف الدولة تنقل بين حلب ودمشق وجمع الصولي ديوانه في نحو 200ورقه وجمع الشيخ محمد راغب الطباخ ما وجده من شعره في كتاب سماه (الروضيات-ط) صغير, وفي كتاب (الديارات-ط) للشابشتي زيادات على ما في الروضيات.

حتَّى كتَبْتَ فما أبقَيْتَ جَارِحَةً........إِلاّ وَفيها عَلى مِقدارِاها أَلمُ يا كاتِباً جَرَحَتْ روحي كَتَابَتُهُ ... والجُرْحُ في الرُّوحِ جرحٌ ليسً يَلتَئِمُ اِذْهبْ فحَقُّ أميرٍ أنْتَ كاتِبُهُ ... أنْ لا يَقومَ لَهُ عُرْبٌ ولا عَجَمُ وقال بشر بن الحارث (¬1) : "لسان الإنسان قلم ملكه الموكل به, وريقه مداده, وقرطاسه جلده, يملي عليه كتاباً إلى ربه, فلينظر الإنسان قبل فوت النظر ماذا يملي", وفي الذكر الحكيم: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} (¬2) , وفي سورة ق: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (¬3) , وفي سورة عبس يقول المولى جل وعلا: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} (¬4) , فالسفرة الكتبة الواحد سافر والجمع سفرة مثل كافر وكفرة, ومعنى سافر كاتب يكتب في الأسفار واحدها سفرة وهي الصحف وسفر إذا كتب من سفر فهو سافر, ورحم الله القائل: ونحن الكاتبون وقد أسأنا ... فهبنا للكرام الكاتبين وبالقلم كتب القرآن وجمع, وبه حفظت الألسن والآثار, ووكدت العهود, وسيقت التواريخ, وبقيت الصكوك, وأمن الإنسان النسيان, ¬

_ (¬1) - بشر بن الحارث بن علي بن عبد الرحمن المروزي أبو نصر الحافي محدث ثقة توفى سنة 227هـ. (¬2) - سورة الانفطار الآيات (10-13) . (¬3) - الآيات (16-18) . (¬4) - الآيتان (16-17) .

القلم الالكتروني

وقيدت الشهادات والأحكام, وأنزل الله تعالى في ذلك آية المداينة وهي أطول آية في القرآن. ولله در القائل: إن الكتابة رأس كل صناعة ... وبها تتم جوامع الأعمال فاحرص أخي على تعلّم القراءة والكتابة تظفر بالحسنى وزيادة, ودع عنك المفاخرة بالقلم وتعلم الهجاء والذم, ولطالما تفاخر الشعراء بالقلم ووصفوه بما توصلت إليه أفهامهم في مدائحهم وهجائهم, ومن ذلك قول الشاعر: فلي قلم في رقمه سم أرقم ... تراه إذا أرسلته حيةً تسعى يزيد سناء الشمس بالمدح بهجةً ... ويلبسها من هجوه خطةً شنعا (¬1) وقال آخر: لا تُهاوِن بِصَغيرٍ مِن عِدىً ... فَقَديماً كَسَرَ الرُمحُ القَلَم وَتَرَقَّب مِن سَليلٍ صُنعَهُ ... فَمِنَ البَيعِ قِياضٌ وَسَلَم (¬2) وقال أبو تمام: لَكَ القَلَمُ الأَعلى الَّذي بِشَباتِهِ ... تُصابُ مِنَ الأَمرِ الكُلى وَالمَفاصِلُ لُعابُ الأَفاعي القاتِلاتِ لُعابُهُ ... وَأَريُ الجَنى اِشتارَتهُ أَيدٍ عَواسِلُ فَصيحٌ إِذا اِستَنطَقتَهُ وَهوَ راكِبٌ ... وَأَعجَمُ إِن خاطَبتَهُ وَهوَ راجِلُ والعاقل إنما يكتب بقلمه ما ينفع ولا يضر, فهو لا يسجل لغو الحديث, ولا العمل الخسيس, ولا يكتسب به المآثم, ولا يستحل به المحارم, ولا يسجل به ما يوقع في المعاصي, ويحرض على الملاهي, ويرغب في الشقاء, ويجلب الفتنة, ويتسبب في الأذى, ويدعو إلى ظلم العباد, فما أحسن القلم الذي يقتصر في كتابته على الكلام الجميل, وما يدعو إلى طاعة الملك الجليل, ولله در القائل: وَما مِن كاتِبٍ إِلا سَيفني ... وَيَبقي الدَهر ما كَتَبتَ يَداه فَلا تَكتُب بِكفك غَير شَيءٍ ... يَسرك في القِيامة إِن تَراه (¬3) وفي الذكر الحكيم: {ن~ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} (¬4) , القلم الالكتروني لقد كان القرآن الكريم سباقاً إلى الإرشاد بحفظ حقوق العباد وإثباتها كتابةً بالخط المعتاد سواءً كان ذلك بالقلم التقليدي العادي أو بالقلم الإلكتروني, فقد صرح في سورة البقرة بما يفيد التوجيه إلى التوثيق بالكتابة ¬

_ (¬1) - هذان البيتان من قصيدة للأديب الكبير والشاعر القدير احمد بن محمد الأنسي مطلعها: ألا حييّ ذاك الحي من ساكني صنعاء ... فكم أحسنوا بالنازلين بهم صُنعاً وانظر نشر العرف لنبلاء اليمن بعد الألف للعلامة محمد بن محمد زبارة إعداد مركز الدراسات والبحوث اليمني, ص78. (¬2) - هذان البيتان من قصيدة لأبي العلاء المعري مطلعها: صاحِبُ الشُرطَةِ إِن أَنصَفَني ... فَهوَ خَيرٌ لِيَ مِن عَدلٍ ظَلَم (¬3) - نسبت هذه الأبيات لأمين الجندي, وهو أمين بن خالد بن محمد بن أحمد الجندي (1180-1257هـ/1766-1841م) شاعر، من أعيان مدينة حمص، مولده ووفاته فيها، تردد كثيراً إلى دمشق فأخذ عن علمائها وعاشر أدباءها، ولما كانت سنة 1246 هـ قدم حمص عامل من قبل السلطان محمود العثماني فوشى إليه بعض أعوانه بأن أمين الجندي هجاه، فأمر بنفيه، وعلم الشيخ أمين بالأمر ففر إلى حماة، فأدركه أعوان العامل، فأمر بحبسه في إصطبل الدواب وحبس عنه الطعام والشراب إلا ما يسد به الرمق، فأقام أربعة أيام، وأغار على حمص بمئتي فارس فقتلوا العامل، وأفرج عن الشيخ أمين. له (ديوان شعر - ط) وفي شعره كثير من الموشحات وتواريخ الوفيات الشائعة في أيامه. (¬4) - سورة القلم الآيتان (1و2) .

الكتابة الإلكترونية: ماهيتها وطبيعتها

والإشهاد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ... الآية} (¬1) , والأمر بالكتابة دليل على مشروعيتها ويعم ذلك جميع أنواع الكتابة إذا استوفت شروطها وضوابطها؛ سواءً تمت بالقلم التقليدي بالكتابة المعروفة بخط اليد أو بالآلة الكاتبة أو أن هذه الكتابة تمت الكترونياً أو بأي وسيلة, فالنص يعمها جميعاً, فكلما يخط به ويسطر به معاني لأي لغة وبأي وسيلة فهو كتابة (¬2) , ومما يؤيد ذلك قوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} (¬3) أي كتاب, وقوله سبحانه وتعالى: {ن~ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (¬4) . الكتابة الإلكترونية: ماهيتها وطبيعتها يمكننا في هذه العجالة تعريف ماهية الكتابة الإلكترونية التي تدور عليها رحى المعاملات الإلكترونية في شتى المجالات في العالم المعاصر بالأتي: ((الكتابة الإلكترونية: طبيعتها وماهيتها)) هي عبارة عن المعلومات أو البيانات التي يتم إنشاؤها ومعالجتها وإرسالها أو تخزينها واسترجاعها بوسائل إلكترونية أو ضوئية أو بوسائل مشابهة, فهي: كل حروف أو أرقام أو رموز أو أي علامات أخرى تثبت على دعامة إلكترونية أو ضوئية أو أي وسيلة أخرى مشابهة وتعطي دلالة قابلة للإدراك, وسواءً كانت هذه المعلومات المستخدمة لغوية أو غير لغوية مقروءة أو مسموعة أو منظورة اشتملت على عقد أو وعد أو عهد أو إعلام أو التزام أو اتفاق أو قصص أو خبر ... إلخ, وسواء تم إنشاؤها أو تبادلها على شكل رقمي أو تماثلي. لقد اخترنا في هذا التعريف لفظ (المعلومات أو البيانات التي يتم إنشاؤها ومعالجتها ... الخ) , ليشتمل اللفظ بعمومه كل المستندات والسجلات والرسائل ... إلخ التي يتم إنشاؤها ومعالجتها وتخزينها أو استرجاعها واستخراجها أو نقلها أو نسخها أو إبلاغها أو استلامها, وعلى مختلف الصور والأشكال التي تتم فيه بوسيلة إلكترونية على وسيط ملموس أو على أي وسيط آخر, وهذا التعريف هو ما تم استخلاصه من مجموع ما أفهمته طبيعة الكتابة الإلكترونية من خلال ما وقفنا عليه من المراجع العلمية, والتي لا تبدوا متباينة في معانيها كثيراً وإن اختلفت في بعض أشكالها في الجمل والألفاظ. (¬5) أما فقهاء الشريعة الإسلامية فإن الكتابة في مصطلحهم: هي الخط الذي يعتمد عليه في توثيق الحقوق وما يتعلق بها للرجوع إليه عند الإثبات الممهور بتوقيع أو ختم أو بهما معاً (¬6) , وهذا التعريف بعمومه يشمل: الصك والحجة والمحضر والسجل والوثيقة والبصيرة والكتاب, ويشمل أيضا ¬

_ (¬1) - سورة البقرة الآية (282) . . (¬2) - أحكام التعامل بالإنترنت -بحث من بحوثنا المنشورة على- مجلة التحكيم العدد (85) مارس2007م ص19 وما بعدها. (¬3) - سورة يس الآية (12) . (¬4) - سورة القلم الآية (1) . (¬5) - لتفصيل أوسع انظر: القوة الثبوتية في المعاملات الالكترونية (بحث من بحوثنا) المنشور في مجلة التحكيم ومجلة البحوث القضائية. (¬6) - انظر: وسائل الإثبات للدكتور محمد الزحيلي ج2ص415 الطبعة الأولى, ومؤلفنا: عمدة المسير ج3ص9.

القوة الثبوتية للكتابة الالكترونية

المحررات الرسمية والعرفية والمحررات الإلكترونية والكتابة بالكمبيوتر والفاكس والتلفون, ويشمل جميع أنواع الكتابة التي عرفها الفقهاء. (¬1) القوة الثبوتية للكتابة الالكترونية من المسلَّم به أن التعرف على طبيعة وماهية الكتابة الإلكترونية التي تتم في أي تعامل أو عقد أو اتفاقية يتم إبرامها أو تنفيذها بشكل كلي أو جزئي بواسطة الوسائل الإلكترونية لا تكتسب القوة الثبوتية إلا بشروط خمسة: الشرط الأول: الكتابة: لاعتبار أن الكتابة هي الأسلوب المعبر عن الإرادة وسبق تعريف الكتابة الإلكترونية. الشرط الثاني: التوقيع: باعتبار أن التوقيع هو الشرط الجوهري في جميع المحررات فهو يثبت إقرار الموقع على ما هو مدون وموجود في المحرر, فلا ينتج المحرر الإلكتروني آثاره القانونية دون توقيع يميز هوية الموقع ويعبر عن موافقته عليه ضمن الشروط والضوابط التي تشترطها القوانين, وارتباط التوقيع بالموقع وحده دون غيره. الشرط الثالث: التوثيق: فتوثيق التصرف الذي يتم عبر الوسائل الإلكترونية فيه حفظ لحقوق المتعاملين من إي اعتداء أو غش وهو أمر يستوجب القيام بتوثيق المحرر لدى جهة يتفق عليها وتكون معتمدة من قبل الحكومة وتعنى هذه الجهة بالتحقق من صحة المحرر الذي تم إصداره وتتبع ¬

_ (¬1) - أحكام التعامل بالإنترنت -بحث من بحوثنا المنشورة على- مجلة التحكيم العدد (85) مارس2007م ص21و22.

أي تغييرات أو أخطاء تحدث, وفي حالة إتمام توثيق المحرر الإلكتروني يتم منح صاحب المحرر رمز التعريف الشخصي الخاص به, ويتم إصدار هذا الرمز من قبل الجهة المختصة المرخص لها بتوثيق التوقيع الإلكتروني, إذ أنه يهدف التحقق من أن القيد إلكترونياً لم يتعرض لأي تعديل, ... ويعتبر هذا القيد موثوقاً من تأريخ التحقق منه, وتكون شهادة التوثيق التي تبين رمز التعريف معتمدة. (¬1) وتباينت وجهات نظر المقننين في تحديد جهة التوثيق فهو في القانون المصري مخول تحديد ذلك لهيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات وفقاً لقانون تنظيم التوقيع الإلكتروني, وهو مناط في التشريع الأردني بمجلس الوزراء تحديد هذه الجهات, كما أسند قانون المعاملات والتجارة الإلكتروني لإمارة دبي التوثيق إلى رئيس الحكومة لإصدار قرار لتعيين مراقب لخدمات التصديق لغرض ترخيص وتصديق ومراقبة مزودي خدمات التصديق, وحدد المشرع التونسي الوكالة الوطنية للمصادقة الإلكترونية. (¬2) ¬

_ (¬1) - انظر: المواد (32-36) من قانون أنظمة الدفع والعمليات المالية والمصرفية الإلكترونية اليمني, الصادر بالقانون رقم (40) لسنة 2006م (¬2) - انظر: المادة (19) وما بعدها من قانون تنظيم التوقيع الإلكتروني المصري, والمادة (2) من قانون المعاملات الإلكترونية الأردني, والمادة (2) من قانون المعاملات والتجارة الإلكترونية لإمارة دبي, والفصل الثامن إلى العاشر من قانون المبادلات والتجارة الإلكترونية التونسي.

الشرط الرابع: إمكانية الاحتفاظ بالمحرر الإلكتروني في شكله الأصلي المتفق عليه, دون أن يلحقه أي تغيير: وهو ما أفصحت عنه التشريعات الخاصة بالمعاملات الإلكترونية. (¬1) الشرط الخامس: إمكانية استرجاع المحررات الإلكترونية المحفوظة, بحيث لا تتعرض للمحو, والمحو في اللغة: تعفية الأثر حتى لا يرى. ويروى عن الأصمعي: لِمَ سمت العرب الشمال محوة؟ قال: لأنها تمحو السحاب ولا يرى شخصه, واستدعى أبو نواس (¬2) أن يكثر له المكاتب المحو في كتابه فقال: كَثِّري المحوَ في الكِتابِ وَمُجّيـ ... ـهِ بِريقِ اللِسانِ لا بِالبَنانِ وَأَمِرّي الحِزامَ بَينَ ثَنايا ... كِ العِذابِ المُفَلَّجاتِ الحِسانِ إِنَّني كُلَّما مَرَرتُ بِسَطرٍ ... فيهِ مَحوٌ لَطَعتُهُ بِلِساني فَأَرى ذاكَ قُبلَةً مِن بَعيدٍ ... أَسعَدَتني وَما بَرِحتُ مَكاني ¬

_ (¬1) - انظر: المادة (2) من قانون الأونستيرال النموذجي, والمادة (8) من قانون المعاملات الإلكترونية الأردني, والمادة (8) من قانون المعاملات والتجارة الإلكترونية لإمارة دبي, والمادة (9) من قانون التجارة البحريني, والمادة (11) من قانون أنظمة الدفع والعمليات المالية والمصرفية الإلكترونية اليمني. (¬2) - الحسن بن هانئ بن عبد الأول بن صباح الحكمي بالولاء. (146-198هـ/763-813م) , شاعر العراق في عصره. ولد في الأهواز من بلاد خوزستان ونشأ بالبصرة، ورحل إلى بغداد فاتصل فيها بالخلفاء من بني العباس، ومدح بعضهم، وخرج إلى دمشق، ومنها إلى مصر، فمدح أميرها، وعاد إلى بغداد فأقام بها إلى أن توفي فيها, كان جده مولى للجراح بن عبد الله الحكمي، أمير خراسان، فنسب إليه، وفي تاريخ ابن عساكر أن أباه من أهل دمشق، وفي تاريخ بغداد أنه من طيء من بني سعد العشيرة, هو أول من نهج للشعر طريقته الحضرية وأخرجه من اللهجة البدوية، وقد نظم في جميع أنواع الشعر، وأجود شعره خمرياته.

تسمية ما يكتب فيه عند العرب

ومحوت الكتاب أمحوه محواً بالواو, وهي في لغة: محيت أمحي محياً, وفي أمثال العرب: "ما أنت إلا ممحياً كاتبا", فإذا أمرت قلت: امحُ, والواو أفصح وبها نزل القرآن: {يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (¬1) . تسمية ما يكتب فيه عند العرب تسمي العرب ما يكتب فيه القرطاس أو الصحيفة أو السفر, ويجمع القرطاس على قراطيس, والصحيفة على صحائف, والسفر على أسفار (¬2) , وقد نزل القرآن بجميعها, ففي سورة الأنعام يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} (¬3) , ويقول جل شأنه: {وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (¬4) . وقد أكثر العرب من ذكر القراطيس في أخبارهم وأشعارهم ومن ذلك قول العباس بن الأحنف (¬5) : ¬

_ (¬1) - سورة الرعد الآية (39) . (¬2) - أدب الكتاب ص104. (¬3) - الآية (7) . (¬4) - سورة الأنعام الآية (91) . (¬5) - العبّاس بن الأحنف بن الأسود، الحنفي (نسبة إلى بني حنيفة) ، اليمامي، أبو الفضل, المتوفى (192هـ/807م) شاعر غَزِل رقيق، قال فيه البحتري: أغزل الناس، أصله من اليمامة بنجد، وكان أهله في البصرة وبها مات أبوه ونشأ ببغداد وتوفي بها، وقيل بالبصرة. خالف الشعراء في طرقهم فلم يمدح ولم يَهجُ بل كان شعره كله غزلاً وتشبيباً، وهو خال إبراهيم بن العباس الصولي، قال في البداية والنهاية: أصله من عرب خراسان ومنشأه ببغداد.

جاءَ الرَسولُ بِقُرطاسٍ فَشَوَّقَني ... مِنها فَأَحبَبتُ مِنهُ كُلَّ قُرطاسِ فيهِ مُعاتَبَةٌ مِنها تُذَكِّرُني ... ما كانَ مِنها كَأَنّي غافِلٌ ناسِ وقال آخر: إن القراطيس من نفسي بمنزلة ... تكون كالسمع والعينين في الراسي لولا القراطيس مات العاشقون معاً ... هذا بغم وهذكم بوسواسي أما ابن مكنسة (¬1) فهو يقول: أهلاً بها جنةً أَهْدَ ثمارَ نُهى ... وعرَّس الطَّرْفُ فيها أَيَّ تعريسِ ما دار في خَلَدِي لولا كتابكُمُ ... أَنَّ البساتينَ تُهْدَى في القراطيس وقال آخر: وشق قرطاس من تهوى وكن حذرا ... يا رب ذي ضيعة من حفظ قرطاس أما الأسفار فقد ورد ذكرها في كلام العزيز الجبار إخباراً عن أحوال من حمّلوا التوراة ثم لم يحملوها قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (¬2) , وفي ذلك عظة واعتبار, فمن ذا الذي يحب أن يكون مثل الحمار لا يعمل بما تحويه الأسفار؟!! فحظه من حملها مثل حظ الحمار. ¬

_ (¬1) - إسماعيل بن محمد، أبو طاهر المعروف بابن مكنسة (ت 510هـ1116) شاعر مكثر، من أهل الإسكندرية، أورد العماد الأصفهاني مختارات حسنة من شعره. (¬2) - سورة الجمعة الآية (5) .

وقد ورد ذكر الأسفار في أخبار العرب وأشعارهم, في إقامتهم وأسفارهم, وفي مديحهم وفي هجائهم, وقد أحسن ابن الصباغ حيث يقول في مدح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: أي الكتاب بفخره قد أنزلتِ ... وبمدحه قد نظمت أسفار أما العلامة احمد بن حجر العسقلاني (¬1) فهو يقول: سَلوا النجمَ يَشهَد أَنَّني بِتُّ ساهِداً ... وَإِلا الدُجى هَل طابَ لي فيهِ مضجعُ أُطالِعُ أَسفارَ الحَديثِ تَشاغُلاً ... لأَقطَعَ أَسفاري بخُبرٍ يجمَّعُ فليس للأسفار بعد الحفظ من فائدة غير دراستها والعمل بما فيها, ولقد كان ذلك دأب العلماء كما هو حال العلامة ابن حجر. أما أحمد الكاشف (¬2) فهو يرى أن العلم ما دارت به الأيام لا ما حوته الكتب والأسفار فيقول: والعلم ما دارت به الأيام لا ... ما جاء في كتب وفي أسفار ¬

_ (¬1) - أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني أبو الفضل شهاب الدين بن حجر, (773-852هـ/1371-1449م) , من أئمة العلم والتاريخ أصله من عسقلان (بفلسطين) ومولده ووفاته بالقاهرة، ولع بالأدب والشعر ثم أقبل على الحديث, ورحل إلى اليمن والحجاز وغيرهما لسماع الشيوخ، وعلت شهرته فقصده الناس للأخذ عنه وأصبح حافظ الإسلام في عصره, وكان فصيح اللسان، راوية للشعر، عارِفاً بأيام المتقدمين وأخبار المتأخرين صبيح الوجه، وولي قضاء مصر عدة مرات ثم اعتزل, تصانيفه كثيره جليلة منها: (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة-ط) ، و (لسان الميزان-ط) تراجم، و (ديوان شعر-خ) ، و (تهذيب التهذيب-ط) ، و (الإصابة في تمييز الصحابة-ط) وغيرها الكثير. (¬2) - أحمد بن ذي الفقار بن عمر الكاشف, (1295-1367هـ/1878-1948م) , شاعر مصري، من أهل القرشية (من الغربية بمصر) ، مولده ووفاته فيها قوقازي الأصل, قال خليل مطران: الكاشف ناصح ملوك، وفارس هيجاء ومقرع أمم، ومرشد حيارى, له ديوان شعر-ط) .

والظاهر أن الأيام تعلّم وتفيد أن من لم يعمل بعلمه ويستفيد من الأسفار فإن الأسفار لا تفيده فهو كمثل الحمار, كما أعلم الحق سبحانه وتعالى بذلك. أما الصحف فقد ورد ذكرها في القرآن الكريم في اخبار الله العلي العظيم الدالة على كمال حكمته وجليل قدرته وصدق نبوءة محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} (¬1) , وفي سورة طه: {وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} (¬2) , وفي سورة التكوير النبأ اليقين: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ} (¬3) . ويغفر الله لابن الأحنف حيث يقول: صَحائِفُ عِندي لِلعِتابِ طَوَيتُها ... سَتُنشَرُ يَوماً وَالعِتابُ يَطولُ عِتابٌ لَعَمري لا بَنانٌ تَخُطُّهُ ... وَلَيسَ يُؤَدّيهِ إِلَيكِ رَسولُ ولله در القائل: يا حروفاً قد أضاءت في الصحف ... أخبرتني بأحاديث السلف ¬

_ (¬1) - الآيتان (18و19) . (¬2) - الآية (133) . (¬3) - الآيات (10-14) .

قدرها عندي لو تعلمه.........كل فضل وجلال وشرف (¬1) أما أبو العلاء المعري فهو يقول: وَجاءَت صَحائِفُ قَد ضُمِّنَت ... كَبائِرَ آثامِهِم وَاللِمَم رَأَيتُ بَني الدَهرِ في غَفلَةٍ ... وَلَيسَت جَهالَتُهُم بِالأُمَم فَنُسكُ أُناسٍ لِضَعفِ العُقولِ ... وَنُسكُ أُناسٍ لِبُعدِ الهِمَم ويقول أبو فراس الحمداني (¬2) : وَما هَذِهِ الأَيّامُ إِلا صَحائِفٌ ... لأَحرُفِها مِن كَفِّ كاتِبِها بَشرُ أما عماد الدين الأصبهاني (¬3) فهو يقول: وما هذه الأَيامُ إلاَّ صحائف ... يؤرَّخ فيها ثمَّ يُمحى ويُمحقُ وعلى نفس المنوال سلك عمارة اليمني (¬4) حيث يقول: ¬

_ (¬1) - مقامات القرني العلامة والأديب الكبير صاحب القلم السيال واللسان العذب والكلام الطيب والعلم الغزير الدكتور عائض بن عبد الله القرني, ص215، طبعة مكتبة الصحافة الشارقه-الامارات مكتبة التابعين- القاهرة، الطبعة الثالثة 1423هـ-2002م. (¬2) - الحارث بن سعيد بن حمدان التغلبي الربعي، أبو فراس (320-357 هـ/932-967م) شاعر أمير، فارس، ابن عم سيف الدولة. له وقائع كثيرة، قاتل بها بين يدي سيف الدولة، وكان سيف الدولة يحبه ويجله ويستصحبه في غزواته ويقدمه على سائر قومه، وقلده منبج وحران وأعمالها، فكان يسكن بمنبج ويتنقل في بلاد الشام, جرح في معركة مع الروم، فأسروه وبقي في القسطنطينية أعواماً، ثم فداه سيف الدولة بأموال عظيمة, قال الذهبي: كانت له منبج، وتملك حمص وسار ليتملك حلب فقتل في تدمر، وقال ابن خلّكان: مات قتيلاً في صدد (على مقربة من حمص) ، قتله رجال خاله سعد الدولة. (¬3) - محمد بن محمد صفي الدين بن نفيس الدين حامد بن أله أبو عبد الله عماد الدين الأصبهاني (519-597هـ/1125-1201م) مؤرخ عالم بالأدب، من أكابر الكتاب، ولد في أصبهان، وقدم بغداد حدثاً، فتأدب وتفقه, واتصل بالوزير عون الدين "ابن هبيرة" فولاه نظر البصرة ثم نظر واسط، ومات الوزير، فضعف أمره، فرحل إلى دمشق, فاستخدم عند السلطان "نور الدين" في ديوان الإنشاء، وبعثه نور الدين رسولاً إلى بغداد أيام المستنجد ثم لحق بصلاح الدين بعد موت نور الدين, وكان معه في مكانة "وكيل وزارة" إذا انقطع (الفاضل) بمصر لمصالح صلاح الدين قام العماد مكانه, لما ماتَ صلاح الدين استوطن العماد دمشق ولزم مدرسته المعروفة بالعمادية وتوفي بها, له كتب كثيرة منها (خريدة القصر-ط) وغيره، وله (ديوان شعر) . (¬4) - عمارة بن علي بن زيدان الحكمي المذحجي اليمني، أبو محمد، نجم الدين (ت 569هـ1174م) مؤرخ ثقة، وشاعر فقيه أديب، من أهل اليمن، ولد في تهامة ورحل إلى زبيد سنة 531هـ، وقدم مصر برسالة من القاسم بن هشام (أمير مكة) إلى الفائز الفاطمي سنة 550هـ في وزارة (طلائع بن رزيك) فأحسن الفاطميون إليه وبالغوا في إكرامه، فأقام عندهم، ومدحهم. ولم يزل موالياً لهم حتى دالت دولتهم وملك السلطان (صلاح الدين) الديار المصرية، فرثاهم عمارة واتفق مع سبعة من أعيان المصريين على الفتك بصلاح الدين، فعلم بهم فقبض عليهم وصلبهم بالقاهرة، وعمارة في جملتهم. له تصانيف، منها (أخبار اليمن- ط) ، و (أخبار الوزراء المصريين- ط) ، و (المفيد في أخبار زبيد) ، و (ديوان شعر-خ) .

وما هذه الأعمار إلا صحائفٌ ... تؤرخ وقتاً ثم تُمحى وتُمحق أما مطلق بن عبد الخالق (¬1) فهو يقول: وما كنت أخشى الموت لولا صحيـ ... ـفة لو انقلبت بيضاء ساد سكون وذهب كثير من الشعراء على اعتبار الحياة صحيفة يؤرخ فيها كل شيء, وهي كذلك, لا يدوم فيها نعيم, ولا تخلو من هم وغم, وإنما هي دار ابتلاء وامتحان, قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} (¬2) , فالعاقل لا يثق بها بل يثق بالله الواحد القهار, فهو يأخذ من وجهها الكظيم ابتسامة عريضة يسير فيها سيرة الحكماء الأعزة الكرام لأنه يعلم أن اليوم الذي يراك الناس فيه مخبراً غداً ستكون فيه خبراً من الأخبارِ, ويرحم الله القائل: حُكمُ المَنِيَّةِ في البَرِيَّةِ جاري ... ما هَذِهِ الدُنيا بِدار قَرار بَينا يَرى الإِنسان فيها مُخبِراً ... حَتّى يُرى خَبَراً مِنَ الأَخبارِ طُبِعَت عَلى كدرٍ وَأَنتَ تُريدُها ... صَفواً مِنَ الأَقذاءِ وَالأَكدارِ لَيسَ الزَمانَ وَإِن حرصت مُسالِماً ... خُلُق الزَمانِ عَداوَة الأَحرارِ ¬

_ (¬1) - مطلق بن عبد الخالق الناصري, شاعر فيه صوفية، وفي شعره فلسفة, من أهل الناصرة (بفلسطين) ولد وتعلم ابتدائياً بها، وأكمل تحصيله الثانوي في روضة المعارف بالقدس, وعمل في الصحافة محرراً ورئيساً للتحرير، وفي التدريس فكان مديراً لإحدى المدارس الوطنية بحيفا, توفي بحادث سيارة في حيفا, ودفن في بلده, له (الرحيل-ط) ديوان شعره جمع وطبع بعد وفاته. (¬2) - سورة الإنسان الآية (2) .

فالعاقل لا يقتله اليأس فهو يستطيع أن ينهض بعد الكبوة وأن ينتصر بعد الإخفاق ويملأ صحيفته وأيامه وتأريخه بالأعمال الصالحة والخلق الكريم, فأصخ سمعك إلى التشجيع والحماسة التي يتحدث عنها الشابي (¬1) حيث يقول: وقالتْ ليَ الأَرضُ لما سألتُ ... أيا أمُّ هل تكرهينَ البَشَرْ أُباركُ في النَّاسِ أهلَ الطُّموحِ ... ومَن يَسْتَلِذُّ ركوبَ الخطرْ وأَلعنُ مَنْ لا يماشي الزَّمانَ ... ويقنعُ بالعيشِ عيشِ الحجرْ فضع نفسك في المحل الذي يحبه الله تعالى ويرضاه, وأهتم بنظافتك وعملك وتذكر أن الله جل وعلا يقول: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (¬2) , ويقول: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} (¬3) . ابتعد عن الذين يحبطون عزيمتك, ويفترون إصرارك فهم أعداؤك, وتأمل معي قول الحق تبارك وتعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (¬4) . ¬

_ (¬1) - أبو القاسم بن محمد بن أبي القاسم الشابي, شاعر تونسي في شعره نفحات أندلسية، ولد في قرية الشابية من ضواحي توزر عاصمة الواحات التونسية في الجنوب, قرأ العربية بالمعهد الزيتوني بتونس وتخرج من مدرسة الحقوق التونسية وعلت شهرته, ومات شاباً بمرض الصدر ودفن في روضة الشابي بقريته, له (ديوان شعر-ط) و (كتاب الخيال الشعري عند العرب) و (آثار الشلبي-ط) و (مذكرات-ط) . (¬2) - سورة الأعراف الآية (31) . (¬3) - سورة الأنعام الآية (38) . (¬4) - سورة البقرة الآية (268) .

إن كلمات مفعمة بالتشجيع مصبوغة بالإصرار والتحدي قد تصنع في النفس ما لا تصنعه الملايين ولا القصور, وقد تبعث فيها من الأمل ما لا يقدر عليه الأطباء والعقاقير, تدبر قول الحق تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (¬1) , وتذكر أن كلما تحويه صحيفة أعمالك هو ما تسجله أنت بأعمالك وأفعالك, وفي الذكر الحكيم: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} (¬2) . فالله حفيظ لا ينسى كل أعمالك, وكل أقوالك, وكل مواقفك, وكل عطاءتك, وكل منعك, وكل الصراعات التي في ذهنك, فأعمالك كلها مسجلة, قال الله تعالى: {لَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ} (¬3) . ¬

_ (¬1) - سورة إبراهيم الآيتان (24و25) . (¬2) - سورة الزلزلة الآيتان (7و8) . (¬3) - سورة آل عمران الآية (181) .

الكتب إنشاؤه وزبره

الكَتبُ إنشاؤه وزبره الكَتبُ في اللغة: ضم بعضه إلى بعض, يقال: كتبت الشيء يريدون ضممت بعضه إلى بعض, ويقال: كتبت الشيء كتباً وكتاباً وكتابة, ويقال أيضاً: أكتب فهو مكتب, واكتبت الرجل ما أراد أكتبه اكتاباً جمعته له وأمليته عليه, ويقال: زبرت الكتاب إذا كتبته أزبره زبراً, وزبرت الكتاب كتبته. وروي أن شبل البرجمي رأى إبراهيم بن العباس وهو يكتب فقال: ينظم اللؤلؤ المنثور منطقه ... وينظم الدر بالأقلام في الكتب (¬1) أما إنشاء الكاتبُ الكتاب فهو ابتداء عمله, تقول العرب: أنشاء يفعل إنشاءً يقول كذا إذا ابتدأ, وإذا أمرت قلت: أنشئ الكتاب بإثبات الياء في الكلام والخط لأن هذه الياء هي همزة فذهبت للأمر منها الحركة (¬2) , وفي الذكر الحكيم: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (¬3) , {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى} (¬4) . فالكتاب كنز الإفادة, وعنوان السعادة, به يبلغ الإنسان الكمال, وقد أحسن من قال: مللت كل جليس كنت آلفه ... إلا الكتاب فلا يعدله إنسانُ عاشرته فأراني كل مكرمة ... له عليَّ رعاه الله إحسانُ (¬5) والكتاب إذا خان الصديق وفى, وإذا تكدر الزمان صفى, فجزاه الله أفضل الجزاء, فقد أغنانا الله به عن مجالسة الثقلاء والبخلاء, ولله در القائل: أغلقت بيتي على نفسي ومكتبتي ... معي العلوم بها ذكر وآثار جالست في البيت أهل العلم كلهمُ ... هم في الحقيقة إخوان وسمار ¬

_ (¬1) - أدب الكتاب ص85 و114. (¬2) - أدب الكتاب ص119. (¬3) - سورة يس الآية (79) . (¬4) - سورة النجم الآية (47) . (¬5) - مقامات القرني ص214.

السطر

كن حلس بيتك مثل السيف في كرم..........في غمده وهو للأعناق بتار (¬1) السطر السطر في اللغة هو الأثر المستطير على استواء جمعه أسطار وأسطر وسطور, ويقال للذي يصلح بها الورق: سطوره في دفاتره حتى لا تعوج سطوره (مسطره) (¬2) , وفي لسان العرب: السَّطْرُ والسَّطَرُ الصَّفُّ من الكتاب والشجر والنخل ونحوها (¬3) , وفي الذكر الحكيم: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ} (¬4) أي مكتتب قد سطر, وتقول: كل شيء مستطر أي مكتتب, قال تعالى: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} (¬5) . قال الشاعر: مُستَطارٌ أَنا مِن خَوفِ الرِدى ... كُلُّ شَيءٍ في كِتابٍ مُستَطَر غَفَرَ اللَهُ لِعَبدٍ غافِلٍ ... هُوَ في أَعظَمِ جَهلٍ وَخَطَر تَرَكَ الآجِلُ لَم يَحفِل بِهِ ... وَمِنَ العاجِلِ لَم يَقضِ الوَطَر حَكَمَ الرَبُّ لِبَدرٍ فَاِستَوى ... وَهِلالٍ مُستَجِدٍّ فانَأطَر تُظهِرُ الدينَ وَتُخفي غَيرَهُ ... إِنَّما شَأنُكَ مَكرٌ وَبَطَر (¬6) ¬

_ (¬1) - مقامات القرني ص216. (¬2) - أدب الكتاب ص120. (¬3) - لسان العرب ج4ص363. (¬4) - سورة الطور الآيتان (1و2) . (¬5) - سورة القمر الآية (53) . (¬6) - تنسب هذا الأبيات لأبي العلاء المعري.

الكتاب عرضه وحفظه

الكتاب عرضه وحفظه عرض الكتاب يعني إمراره وتصفحه يقال عرضت الكتاب أعرضه عرضاً إذا أمررته على طرفك بعد فراغك منه لألا يقع فيه خطأ. (¬1) وقد يكون العرض على العين وعلى القلب, ومن ذلك قول ابن الأحنف: عَرَضتُ عَلى قَلبي الفِراقَ فَقالَ لي ... مِنَ الآنَ فَاِيأَس لا أَغُرُّكَ مِن صَبرِ إِذا صَدَّ مَن أَهوى وَأَسلَمَني العَزا ... فَفُرقَةُ مَن أَهَوى أَحَرُّ مِنَ الجَمرِ أما عرض الكتاب على الإنسان في يوم القيام الذي ينبأ فيه بما قدم وأخر فهو يعني إبرازه وإظهاره, وفي الذكر الحكيم: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (¬2) . فالله سبحانه وتعالى قد كتب الأعمال كلها وحفظها, فكل حركات الإنسان وسكناته مسجلة محفوظة مزبروة مرقومة, قال تعالى: {كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} (¬3) أي مرقوم من الرقّم وهو الوشم, أو مرقوم من الرَقم, فكل مخالفة وصورتها, أو مرقّم يستحيل أن تنزع منه صفحة. فكل شيء أحصاه الله وحفظه, فاعمل تجد حسناتك محفوظة, وسارع إلى الخير يبقى لك ذكره وأجره, فهو مسجل في كتاب حفظه الله لا يضيع ما فيه ولا يخطئ, وفي سورة يس الخبر اليقين: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا ¬

_ (¬1) - أدب الكتاب ص13. (¬2) - سورة الكهف الآية (49) . (¬3) - سورة المطففين الآية (9) .

الحفيظ والمحصي من أسماء الله الحسنى

قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} (¬1) أي في كتاب مبين, وفي سورة النبأ: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} (¬2) , ويرحم الله شوقي حيث يقول: إِنَّما الأَيّامُ وَالعَيشُ كِتاب ... كُلَّ يَومٍ فيهِ لِلعِبرَةِ باب أما احمد بن علوان (¬3) فهو يقول: أبواب أعمال سعيت لكسبها ... وجهلت ما أحصى عليك كتاب أعقل أفق أنفق أنب لا تكتسب ... إلا المحاسن يجزك الوهاب الحفيظ والمحصي من أسماء الله الحسنى الحفيظ من أسماء الله الحسنى ورد ذكره في القرآن الكريم قال تعالى: {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} (¬4) , وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} (¬5) . ¬

_ (¬1) - الآية (12) . (¬2) - الآية (29) . (¬3) - هذه البيت ينسب لأحمد بن علوان أبو العباس صفي الدين, (665هـ/1267م) صوفي يماني متأدب من قرية يفرس (كيفرك) من ضواحي مدينة تعز, قرأ شيئاً من النحو واللغة ونظم الشعر وعمل كاتباً في بعض الدواوين السلطانية كما كان أبوه قبله, وله ديوان شعر قال صاحب الطبقات موجود في أيدي الناس وعندى منه نسخة غالبه في التصوف وأورد نماذج منه (من كلام صفي الدين بن علوان -خ) . ألف كتباً ورسائل منها (الفتوح المصونة والأسرار المخزونة-خ) تصوف في مكتبة الكاف بجامع تريم و (البحر المشكل الغريب -خ) رسالة تصوفية في مكتبة الرياض. (¬4) - سورة سبأ الآية (21) . (¬5) - سورة الشورى الآية (6) .

وقد ورد في السنة النبوية: (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) (¬1) , وجاء في رواية الترمذي تعداد أسماء الله الحسنى وعدَّ منها الحفيظ (¬2) . والحفيظ له معنيان: أحدهما أنه يحفظ للعباد ما عملوا من خير وشر, وطاعة ومعصية, بحيث لا يفوتهم من ذلك مثقال ذرة, وحفظه لهذه الأعمال بمعنى ضبطه لها وإحصائه إياها, فهو المحيط علماً بجميع أعمالهم ظاهرها وباطنها, فهو قد كتبها في اللوح المحفوظ قبل أن يبرأها بل قبل أن يخلق السماوات والأرض, ووكل بها ملائكة حافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون, ويرحم الله ابن القيم حيث يقول: وَهُوَ الحفِيظُ عَليهِمُ وَهُوَ الكَفِيـ ... ـلُ بِحِفظِهِم مِن كُلِّ أمرٍ عَانِ (¬3) والمعنى الثاني من معنيي الحفيظ: أنه الحافظ لعباده من جميع ما يكرهون, وحفظه لخلقه عام وخاص: العام حفظه لجميع المخلوقات بتيسير لها ما يقيتها ويحفظ بنيتها فهي تمشي إلى هدايته وإلى مصالحها بإرشاده وهدايته العامة التي قال عنها: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (¬4) , أي هدى كل مخلوق لما قدر له وقضى له من ضروراته وحاجاته, كالهداية للمشرب والمأكل والمنكح والسعي في أسباب ذلك, والنوع الثاني حفظه الخاص ¬

_ (¬1) - صحيح البخاري باب ان لله مائة اسم إلا واحد حديث (6957) . (¬2) - سنن الترمذي باب ما جاء في عقد التسبيح باليد حديث (3429) . (¬3) - انظر شرح اسماء الله الحسنى وصفاته العليا للإمام أبي بكر البيهقي وشيخ الاسلام ابن تيمية والامام ابن القيم الجوزية والعلامة محمد بن صالح العثيمين, اعتنى به وخرج أحاديثه أبو عبد الرحمن عادل بن سعد, ج1ص125, الناشر: دار ابن الهيثم القاهرة 1426هـ2005م. (¬4) - سورة طه الآية (50) .

لأوليائه حفظاً زائداً على ما تقدم يحفظهم عمّا يضر إيمانهم أو يزلزل إيقانهم من الفتن والشبهات والشهوات, ويحفظهم من أعدائهم وينصرهم عليهم قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (¬1) , وهذا عام لدفع جميع ما يضرهم في دينهم ودنياهم, فعلى حسب ما عند العبد من إيمان تكون مدافعة الله عنه بلطفه. (¬2) وقد جاء في حديث ابن عباس: (يَا غُلامُ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ) (¬3) . وقال الحليمي: الحفيظ: معناه الموثوق به من ترك التضييع. وقال أبو سليمان: -فيما أخبرت عنه- الحفيظ هو الحافظ فعيل بمعنى فاعل كالقدير والعليم يحفظ السماوات والأرض ومن فيها لتبقى مدة بقائها فلا تزول ولا تندثر قال تعالى: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} . أما اسم الله الحافظ قال الحليمي: مَعْنَاهُ الصَّائِنُ عَبْدَهُ عَنْ أَسْبَابِ الْهَلَكَةِ فِي أُمُورِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ قَالَ: وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ: (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا) ، وَقَدْ قُرِئَ: (خَيْرٌ حِفْظًا) وَجَاءَ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَمَنْ حَفِظَ فَهُوَ حَافَظٌ وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) . (¬4) ¬

_ (¬1) - سورة الحج الآية (38) . (¬2) - شرح أسماء الله الحسنى للقحطاني -بتصرف يسير- ص114. (¬3) - رواه الطبراني في المعجم الكبير باب (3) ج (9) ص (331) حديث (11243) , والترمذي في سننه باب ما جاء في أواني الحوض حديث (2516) وقال: هذا حديث حسن صحيح, وصححه الألباني في صحيحه الجامع. (¬4) - انظر الأسماء والصفات للبيهقي ص90.

وقال محمد راتب النابلسي: إن لاسم الله الحفيظ معنيان: الأول: حفيظ بمعنى عليم, فالله لا ينسى كل أعمالك وأقوالك وكل مواقفك, فكل ما أنت فيه محفوظ عند الله عز وجل, المعنى الثاني: الحفيظ أي ضد التضييع أي الله عز وجل لا يضيع المؤمن بل يحفظ له عمله ويكافؤه عليه في الدنيا والآخرة. (¬1) أما اسم الله المحصي فقد ورد في القرآن الكريم: {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} (¬2) , أي أحصى الله كل شيء عدداً فهو المحصي لكل شيء, وفي سورة مريم يقول سبحانه وتعالى: {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً} (¬3) , وقال جل شأنه: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} (¬4) , وورد في السنة النبوية تعداد أسماء الله الحسنى وذكر منها المحصي كما في رواية الترمذي (¬5) . قال الحليمي: وَمَعْنَاهُ الْعَالِمُ بِمَقَادِيرِ الْحَوَادِثِ مَا يُحِيطُ بِهِ مِنْهَا عُلُومُ الْعِبَادِ، وَمَا لا يُحِيطُ بِهِ مِنْهَا عُلُومُهُمْ، كَالأَنْفَاسِ وَالأَرْزَاقِ وَالطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي وَالْقُرَبِ، وَعَدَدِ الْقَطْرِ وَالرَّمْلِ وَالْحَصَا وَالنَّبَاتِ وَأَصْنَافِ الْحَيَوَانِ وَالْمَوَاتِ وَعَامَّةِ الْمَوْجُودَاتِ، وَمَا يَبْقَى مِنْهَا أَوْ يَضْمَحِلُّ وَيَفْنَى. (¬6) ¬

_ (¬1) - موسوعة أسماء الله الحسنى ج2ص60و61. (¬2) - سورة الجن الآية (28) . (¬3) - الآية (94) . (¬4) - سورة النبأ الآية (29) . (¬5) - سنن الترمذي باب ما جاء في عقد التسبيح باليد حديث (3429) . (¬6) - انظر الأسماء والصفات للبيهقي ص60.

وقيل: المحصي هو المحيط بكل شيء جملةً وتفصيلاً لا تخفى عليه خافية لا في الأرض ولا في السماء. وقال بعض العلماء: المحصي هو الذي بالظاهر يراقب أنفساك وبالباطن يراقب حواسك. وقيل: المحصي هو الحافظ لأعداد طاعتك العالم بجميع حالتك. (¬1) قلتُ: الظاهر أن إحصاء الله يستغرق إحصاء كل شيء, فكل الكون وما فيه أحصاه الله وأحصى جميع أعمال الخلائق وأنفاسهم, فهو العليم بدقائق الأمور وبأسرار المقدور, وهو المحيط بكل شيء, العالم بكل شيء لا تخفى عليه خافية, ليس كمثله شيء وهو اللطيف الخبير, أما الإنسان فهو عاجز بعلمه أن يحصي بعض المعلومات فضلاً عن إحصاء نعم الله جل وعلا, قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا} (¬2) . ثمرة معرفة اسم الله الحفيظ الحافظ المحصي إذا علم المكلف أن الله سبحانه وتعالى الحفيظ الحافظ لجميع الممكنات وأنه الذي يحفظ جميع الأشياء جملةً وتفصيلاً ويعلمها علماً لا زوال فيه ولا سهو ولا نسيان, وأنه الذي يحفظ الأرض والسماوات أن تزولا, {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ¬

_ (¬1) - موسوعة أسماء الله الحسنى ج2ص90. (¬2) - سورة إبراهيم الآية (34) .

السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (¬1) , وأنه الذي يحفظ عباده ويكلأؤهم بالليل والنهار {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ} (¬2) , وأنه على كل شيء حفيظ, وأنه يحفظ أعمال العباد ويجازيهم عليها ... إلخ وأنه المحصي الذي يحصي الأعمال ويهيؤها بتفاصيلها ليوم الجزاء أيقن أن الله تعالى يحصي عليه كل حركاته وكل أنفاسه وكل أفعاله وكل ما تنطوي عليه نفسه من أمنيات, وجب عليه أن يؤمن بأن الله هو الحفيظ الحافظ المحصي, وسيرى عند ذلك من حفظ الله تعالى لقلبه ولدينه ما ينفعه الله به في الدنيا والآخرة, فمن عرف أن الله الحفيظ الحافظ المحصي حفظ قلبه ودينه عن سطوة الغضب والشهوة وخداع النفس وغرور الشيطان, وعمل صالحاً, لأن الله سبحانه وتعالى هو الحفيظ المحصي الذي يحفظ أعماله ويقوم بعناية الإنسان ورعايته وإثابته. قال الشاعر: خلقت فيهم عيوناً يبصرون بها ... وقد خلقت بهم للسمع أذانا لو لم تكن أنت يا رباه حافظهم ... لم تشهد الأرض فوق الأرض إنسانا وقال آخر: غَدا ينادي المنادي ... وهم إليه وفود كل عليه حَفيظ ... وَسائق وَشَهيد وَحوله عَن يَمين ... وَعَن شمال قَعيد ¬

_ (¬1) - سورة البقرة الآية (255) . (¬2) - سورة الأنبياء الآية (42) .

يا منكر البعث هَذا...........ما كنت منه تحيد (¬1) أما أبو مسلم العماني فهو يقول: وكيف أخاف الحادثات وإنما ... أمانك لي يا خالقي كان معقلا وحفظك حرزي يا حفيظ وممنعي ... فلم أختشِ من حادث الدهر موجلا ومن علم أن الله عليم حافظ محصي حفظ أوامر الله بالامتثال ونواهيه بالاجتناب وحدوده بعدم تعديها, وبذلك يحفظ الله تعالى الإنسان في نفسه ودينه وماله وولده وفي جميع ما آتاه الله من فضله, ولا يعني الوقوع في الأمراض والأوصاب والبلايا التي قد يتبلي الله تعالى الإنسان بها في نفسه أو ماله أو ولده عدم الحفظ لأن الله قد علم ذلك وأحصاه, وسيحفظ له ثواب ذلك ويلطف به ويرزقه الصبر والرضا ويجزيه الجزاء الأوفى {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬2) . ولقد أحسن من قال: في كل بلوى تصيب العبد عافيةً ... إلا البلاء الذي يؤدي إلى النارِ ذاك البلاء الذي ما فيه عافية ... من البلاء ولا ستر من العارِ ومن عرف هذه الأسماء حفظ الود, وأحسن العهد, وأنجز الوعد, وشعر برقابة الله عليه, وكان قوياً يقول الحق فهو يراقب الله ويخشاه, غير مغتر بعلمه ولا بسلطانه ولا بتلبيس إبليس على نفسه أو على قومه, فهو يعلم أن الله معه يسمع ويرى فهو الذي يحفظه ويحاسبه في كل الأحوال, {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ ¬

_ (¬1) - هذه الأبيات تنسب للبرعي. (¬2) - سورة الزمر الآية (10) .

دعاء الله باسمه الحفيظ الحافظ المحصي

اللهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} (¬1) , فهو يدعو الله ويرجوه ويسأله أن يحفظ له دينه ودنياه, وفي الحديث أن النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ فَإِنَّهُ لا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ: بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ) (¬2) . دعاء الله باسمه الحفيظ الحافظ المحصي نسألك اللهم يا حفيظ يا حافظ يا محصي كما أحصيت أنفاسنا وأقوالنا وأفعالنا أن ترحمنا وتحفظنا وتتفضل بالقبول لكل أعمالنا, واحفظ يا الله قلوبنا وديننا من الزيغ والزلل, واحفظ اللهم علينا ما أوليتنا من المال والأهل والولد, واحفظ اللهم أسماعنا وأبصارنا, وفي السنة النبوية ان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يدعو بِهَؤُلَاءِ الدعوات (اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ وَمِنْ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا وَلا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا وَلا تَجْعَلْ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلا مَبْلَغَ عِلْمِنَا وَلا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لا يَرْحَمُنَا) (¬3) . وصلَّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وسلم تسليماً كثيراً. ¬

_ (¬1) - سورة الرعد الآية (11) . (¬2) - أخرجه البخاري في صحيحه باب التعوذ عند المنام حديث (5845) . (¬3) - أخرجه الترمذي باب ماجاء في عقد التسبيح باليد حديث (3424) .

الفصل الخامس الإيمان

الفصل الخامس الإيمان

الإيمان

الإيمان الإيمان بوجود الله سبحانه وتعالى فطرة في النفس الإنسانية, فمن تفكر بعقله في الكون آمن بالله ورأى من الآيات ما يبهر الألباب, وصدق بوجود الله الخالق الوهاب, وفي الذكر الحكيم: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (¬1) , فالقرآن يقرر بأن الدين فطرة في الإنسان فطر الناس عليها, أساسها الاعتقاد بخالق الكون, وأنه واحد لا شريك له, فإذا انفرد المرء بنفسه حكم بأنه مخلوق لإله قادر حكيم خلقه وأنعم عليه, قال الشاعر: إذا المرء كانت له فكرة ... ففي كل شيء له عبرة (¬2) وقال أبو نواس: تأمل في خلال الأرض وانظر ... إلى آثار ما صنع المليكُ عيون من لجين شاخصاتٌ ... بأحداق هي الذهب السبيكُ على قضب الزبرجد شاهداتٌ ... بأن الله ليس له شريكُ ويرحم الله أبا العتاهية حيث يقول: أَلا إِنَّنا كُلَّنا بائِدُ ... وَأَيُّ بَني آدَمٍ خالِدُ وَبَدؤُهُمُ كانَ مِن رَبِّهِم ... وَكُلٌّ إِلى رَبِّهِ عائِدُ فَيا عَجَبا كَيفَ يُعصى الإِلَـ ... ـهُ أَم كَيفَ يَجحَدُهُ الجاحِدُ ¬

_ (¬1) - سورة الروم الآية (30) . (¬2) - الموسوعة الشعرية ص34, وصيد الخاطر لابن الجوزي ص415.

وَلِلَّهِ في كُلِّ تَحريكَةٍ..........عَلَينا وَتَسكينَةٍ شاهِدُ وَفي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ واحِدُ والإيمان في اللغة: التصديق, وفي الاصطلاح: قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح, فهو التصديق بكل ما أخبر الله سبحانه وتعالى به في كتابه الكريم أو على لسان رسوله تصديقاً جازماً لا يخالطه شك ولا ريب, وفي الذكر الحكيم: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (¬1) , وقال سبحانه: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (¬2) . وقال الشاعر: إِيماننا باللَهِ بَينَ ثَلاثَةٍ ... عَمَلٍ وَقَولٍ واِعتِقادِ جَنانِ وَيَزيدُ بِالتَقوى وَيَنقُصُ بِالرَدى ... وَكِلاهُما في القَلبِ يَعتَلِجانِ (¬3) وقال ابن القيم: وَاشهد عَلَيهِم أنَّ إِيمَانَ الوَرَى ... قَولٌ وفِعلٌ ثُمَّ عَقدُ جَنَانِ وَيزِيدُ بالطَّاعَاتِ قَطعاً هَكَذَا ... بِالضِّدِّ يُمسِي وَهوَ ذُو نُقصَانِ وَاللهُ مَا إيمَانُ عَاصِينَا كايـ ... ـمَانِ الأمِينِ مُنَزِّلِ القُرآنِ كَلاَّ وَلاَ إيمَانُ مُؤمِنِنَا كايـ ... ـمَانِ الرَّسُولِ مُعَلِّمِ الإِيمَانِ ¬

_ (¬1) - سورة البقرة الآية (285) . (¬2) - سورة البقرة الآية (136) . (¬3) - هذان البيتان لعبد الله الاندلسي.

النجاة في الإيمان بالله

وجاء في الذكر الحكيم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (¬1) . النجاة في الإيمان بالله في الإيمان بالله النجاة من عذاب الله والفوز برضوان الله, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (¬2) , فمن آمن بالله سعد وطاب عيشه, وضاعف الله أجره وثوابه, وأمن العذاب, ونجى من الهلكة يوم الحساب, وكان في الناس حسن الأخلاق, قوي في إيمانه, مجتهد في عمله, محبوب في وطنه, يكرم الإنسان, ويألف الاخوان, وفي الحديث النبوي: (الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ) (¬3) . الرفعة بالإيمان إنما يتفاوت الناس في أقدارهم على مقدار إيمانهم وأعمالهم, وإنما الرفعة والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين, فقد جاء في الذكر الحكيم: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} (¬4) , فجدد أخي إيمانك بالله لترفع وتسعد فالإيمان إن لم يتجدّد يبلى ويخلق, ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (جَدِّدُوا إِيمَانَكُمْ, قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ نُجَدِّدُ إِيمَانَنَا؟ قَالَ: أَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ) (¬5) , وفي رواية: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب الخلق، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم) (¬6) , فثق أخي بالله يرفع الله مقامك, ويخفض من أراد هوانك, فالله مولى كل خيرٍ وموليه, وخافض كل شيءٍ ومعليه, وهيهات أن يخفض المرء يتمه أو عدمه إذا رفعه الحق بإيمانه وعمله وعلمه, وفي الذكر الحكيم على ذلك دليل وبينات: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (¬7) . وقد جعل الله أمة محمد أمة مرحومة, يؤمنون بالله ويوحدونه, وأثنى عليهم الحق لإيمانهم بالله وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر, فقال سبحانه: ¬

_ (¬1) - سورة الأنفال الآيات (2-4) . (¬2) - سورة الصف الآيات (10-13) . (¬3) - أخرجه مسلم في صحيحه باب في الأمر بالقوة حديث (4816) . (¬4) - سورة المنافقون الآية (8) . (¬5) - أخرجه احمد في المسند حديث (8353) . (¬6) - أخرجه الحاكم في المستدرك باب الإيمان ليخلق حديث (5) ج1ص8. (¬7) - سورة المجادلة الآية (11) .

الإيمان بالقضاء والقدر

{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬1) , وفي الحديث النبوي: (الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ, وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإِيمَانِ) (¬2) . الإيمان بالقضاء والقدر القدر نظام سماوي يجري وفق قانون رباني, فهو من جملة أركان الإيمان التي أخبر عنها الرسول عليه وآله والصلاة والسلام حينما سئل عن الإيمان ذكره من جملة أركانه فقال: (الإِيمَانِ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ) (¬3) . قال الشاعر: تَجري الأَمور عَلى حُكم القَضاء وَفي ... طيّ الحَوادِث مَحبوبٌ وَمَكروهُ فَرُبّما سَرَّني ما بِتّ أَحذَرهُ ... وَرُبَّما ساءَني ما بتُّ أَرجوهُ (¬4) وفي الأمثال السائرة: "لا ينفع حذر من قدر", وقيل: "إذا حل القدر بطل الحذر", ومعنى ذلك: أن الحذر لا يدفع المقدور عن صاحبه, فالمرء لا يملك أن يفر مما كتبه الله وقدره عليه, وهذا لا يعني ترك الأخذ بالأسباب, ¬

_ (¬1) - سورة آل عمران الآية (110) . (¬2) - أخرجه مسلم في صحيحه باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها حديث (51) . (¬3) - أخرجه مسلم في صحيحه باب بيان الإيمان والإسلام حديث (9) . (¬4) - هذان البيتان لأمية بن عبد العزيز الأندلسي الداني، أبو الصلت (460-529هـ/ 1068-1134م) حكيم، أديب، من أهل دانية بالأندلس، ولد فيها، ورحل إلى المشرق، فأقام بمصر عشرين عاماً، سجن خلالها، ونفاه الأفضل شاهنشاه منها، فرحل إلى الإسكندرية، ثم انتقل إلى المهدية (من أعمال المغرب) فاتصل بأميرها يحيى بن تميم الصنهاجي، وابنه علي بن يحيى، فالحسن بن يحيى آخر ملوك الصنهاجيين بها، ومات فيها, وله شعر فيه رقة وجودة.، في المقتضب من تحفة القادم أنه من أهل إشبيلية، وأن له كتباً في الطب, من تصانيفه (الحديقة) على أسلوب يتيمة الدهر، و (رسالة العمل بالإسطرلاب) ، و (الوجيز) في علم الهيأة، و (الأدوية المفردة) ، و (تقويم الذهن-ط) في علم المنطق.

فهذا يعقوب عليه السلام يرشد أولاده: {يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (¬1) . وفي الأمثال الشعبية: "انت تريد وأنا أريد والله يفعل ما يريد", وقيل: "العاجز عن التدبير يحيل على المقادير", قال الشاعر: وعاجز الرأي مصباح لفرحته ... حتى إذا فات أمر عاتب القدرا وفي أمثال العامة: "اللي من نصيبك لازم يصيبك, واللي مكتب على الجبين لازم تشوفه العين, والمكتوب ما منوش مهرب". (¬2) فالإيمان بالقدر يجعل الحياة تعج بالأمل وتشرق بالأنوار وتهتف بالمعالي فيها معنى الحركة والإنجاز والأمل والتفاؤل الذي يجده الإنسان مبثوثاً في ثنايا القرآن حتى في لحظات انكسار المسلمين في غزوة أحد ووداع سبعين من أكابرهم وقادتهم ورجالهم في يوم رحيل الأبطال والشهداء يتنزل قول الله جل وعلا: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (¬3) , وفي لحظة صولة العدو وطيشه يأتي الأمل والتفاؤل ويتنزل قول الحق سبحانه وتعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (¬4) , وحتى في لحظة يأس الرسل وإحباطهم وفتور همتهم يأتي الأمل من جديد ليبدد هذا اليأس والإحباط فينجلي العمى ويأتي النصر الذي كتبه الله وقدره فيتنزل قول الحق تبارك وتعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (¬5) , وفي لحظة انتفاخ أهل الباطل وتطاولهم يأتي القدر الإلهي ليرد عليهم فيتنزل قول الحق سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ} (¬6) , فسبحان الله المتفضل على عباده, فقد جاء في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء) (¬7) . والحق أن الإيمان بالقدر يذهب الهم والحزن ويقضي على التشاؤم والطيرة ويزيد الإنسان قوة وفتوة فيجعله كالجبل الذي لا تهزه ريح ولا يجحبه مطر, فالمؤمن بقدر الله يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطأه وما أخطأه لم يكن ليصيبه, وفي الحديث الشريف: (عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ) (¬8) , وفي الذكر الحكيم: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (¬9) , {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (¬10) . ¬

_ (¬1) - سورة يوسف الآيتان (67و68) . (¬2) - الأمثال الشعبية والعربية والعالمية لسامي محمد, ص86, الناشر العالمية للكتب والنشر الجيزة مصر, الطبعة الثانية 2006م. (¬3) - سورة آل عمران الآية (139) . (¬4) - سورة يونس الآية (1532 (¬5) - سورة يونس الآية (110) . (¬6) - سورة الرعد الآية (17) . (¬7) - أخرجه الحاكم في المستدرك كتاب التوبة والإنابة حديث (7603) . (¬8) - أخرجه مسلم في صحيحه باب المؤمن أمره كله خير حديث (5318) . (¬9) - سورة التوبة الآية (51) . (¬10) - سورة الحديد الآيتان (22و23) .

وقال الشاعر: واصبر على القدر المحتوم وارضَ به ... وإن أتاك بما لا تشتهي القدرُ فما صفا لمرئٍ عيشٌ يسر به ... إلا سيتبع يوماً صفوه كدرُ وقال الإمام الشافعي رحمه الله: دَعِ الأَيّامَ تَفعَلُ ما تَشاءُ ... وَطِب نَفساً إِذا حَكَمَ القَضاءُ وَلا تَجزَع لِحادِثَةِ اللَيالي ... فَما لِحَوادِثِ الدُنيا بَقاءُ وَرِزقُكَ لَيسَ يُنقِصُهُ التَأَنّي ... وَلَيسَ يَزيدُ في الرِزقِ العَناءُ وَلا حُزنٌ يَدومُ وَلا سُرورٌ ... وَلا بُؤسٌ عَلَيكَ وَلا رَخاءُ وفي الذكر الحكيم: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬1) , وفي الأدعية المأثورة في دبر كل صلاة مكتوبة: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ, اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ) (¬2) , فالعاقل يؤمن بالقدر فهو لا يكثر الهم ولا يتطير أو يتلبس بالكدر, قال طرفة بن العبد (¬3) : إذا ما أردت الأمر فامضِ لوجهه ... وخل الهوينا جانباً متأنيا ذ ¬

_ (¬1) - سورة فاطر الآية (2) . (¬2) - أخرجه البخاري في صحيحه باب الذكر بعد الصلاة حديث (799) . (¬3) - طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد، أبو عمرو، البكري الوائلي, شاعر جاهلي من الطبقة الأولى، كان هجاءاً غير فاحش القول، تفيض الحكمة على لسانه في أكثر شعره، ولد في بادية البحرين وتنقل في بقاع نجد, اتصل بالملك عمرو بن هند فجعله في ندمائه، ثم أرسله بكتاب إلى المكعبر عامله على البحرين وعُمان يأمره فيه بقتله، لأبيات بلغ الملك أن طرفة هجاه بها، فقتله المكعبر شاباً.

ولا يمنعنك الطير مما أردته...........فقد خط في الألواح ما كنت لاقيا (¬1) وقال آخر: طيرة الدهر لا ترد قضاءً ... فعذر الدهر لا تشبه بلوم (¬2) وقوله: "طيرة الدهر" مصدر طيّر يتطيّر طيرة, والطيرة: اسم مصدر من تطيّر طيرة كما يقال: تخيّر خيرة, ولم يجئ في المصادر على هذه الزنة غيرهما, وأصله: التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء وغيرهما, وكان التطير يصدّ المتطير عن مقاصده فنفاه الشارع وأبطله وأخبر بأنه لا تأثير له في جلب نفع أو دفع ضر, وقد قال بعض العلماء: الطيرة من الشرك المنافي لكمال التوحيد الواجب, وهي من القاء الشيطان وتخويفه ووسوسته, وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ) رواه البخاري (¬3) , وزاد مسلم: (وَلاَ نَوْءَ وَلاَ غُولَ) (¬4) , وفي حديث ابن مسعود: (الطِّيَرَةُ شِرْكٌ الطِّيَرَةُ شِرْكٌ ثَلاثًا وَمَا مِنَّا إِلاَّ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ) رواه أبو داود والترمذي وصححه وجعل آخره من قول بن مسعود (¬5) , ولأحمد من حديث الفضل بن العباس رضي الله عنه: (إِنَّمَا الطِّيَرَةُ مَا أَمْضَاكَ أَوْ رَدَّكَ) (¬6) , وقال ضابئ بن الحارث (¬7) : وَما عاجِلاتُ الطَيرِ تُدني مِنَ الفَتى ... رَشاداً وَلا عَن رَيثِهِنَّ يَخيبُ وَرُبَّ أُمورٍ لا تَضيرُكَ ضَيرَةً ... وَلِلقَلبِ مِن مَخشاتِهِنَّ وَجيبُ ¬

_ (¬1) - ورد هذا البيت في الموسوعة الشعرية ص78 , منسوباً لطرفه بن العبد, وليس في ديوانه الذي بين أيدينا. (¬2) - ورد هذا البيت في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج13ص142 , والموسوعة الشعرية ص77, غير منسوب لقائل بعينه. (¬3) - صحيح البخاري باب لا عدوى حديث (5329) . (¬4) - صحيح مسلم باب لا عدوى ولا طيرة ولا نوء ولا غول حديث (4116) . (¬5) - سنن أبي داود باب في الطيرة حديث (3411) , وسنن الترمذي باب ما جاء في الطيرة حديث (1539) . (¬6) - مسند أحمد حديث (1727) . (¬7) - قال عنه الحافظ ابن حجر: له إدراك وجنى جناية في خلافة عثمان رضي الله عنه فحبسه فجاء ابنه عمير بن ضابئ فأراد الفتك بعثمان ثم جبن عنه, وفي ذلك يقول: هَمَمْتُ ولمْ أَفعلْ وكِدْتُ وليتَني ... تركْتُ على عُثْمانَ تَبْكي حَلائِلُهْ فلما قدم الحجاج الكوفة أمر بضرب عنقة, وانظر: الاصابة ج5ص102.

القدر في القرآن

وفي سورة الأنعام يقول الكريم المنان: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ} (¬1) . القدر في القرآن عقيدة القدر في القرآن الحكيم تعلم المؤمنين أن لهذا الكون نظاماً محكماً, وسنناً مطردة, ارتبطت فيه الأسباب بالمسببات, وأن ليس في خلق الله خلل ولا مصادفات, ومن فائدة هذا الاعتقاد أن أهله يكونون أجدر الناس بالبحث في نظام الكائنات, وتعرف سنن الله في المخلوقات, وطلب الأشياء من أسبابها, والجري إليها في سننها, ودخول البيوت من أبوابها, قال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} (¬2) , وقال جل شأنه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (¬3) , فلكل شيء من مخلوقات الله سنن ونواميس, ومقادير منتظمة, كسننه في حمل الإناث وعقمها, وزيادة الذرية ونقصها, قال تعالى: {اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} (¬4) , والإنسان جزء من الوجود ينطبق عليه النظام الذي اقتضته حكمة بارئ الوجود ¬

_ (¬1) - الآية (17) . (¬2) - سورة الفرقان الآية (2) . (¬3) - سورة القمر الآية (49) . (¬4) - سورة الرعد الآية (8) .

ومربي كل موجود, قال تعالى: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ} (¬1) . فالقرآن حث على التدبر في مخلوقات الله وآياته. وإذا تأملنا في كلمة المقدار والتقدير في القرآن وجدنا أنها ترد بمعنى: جعل الشيء بمقياس مخصوص أو وزن محدود أو وجه معين يجري على سنة معلومة, قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} (¬2) أي أنزلناه بمقدار معين. قال الدكتور عفيف عبد الفتاح طبارة: إذا نظرنا إلى معنى لفظة القدر التي جاءت في القرآن في مواضع متعددة رأينا: القدر -بفتح الدال وسكونها- والمقدار والتقدير وردت بمعنى جعل الشيء بقياس مخصوص أو وزن محدود أو وجه معين يجري على سنة معلومة. (¬3) فالإيمان بالقدر في القرآن الكريم يسوق معتقده دائماً إلى السعي والعمل, {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬4) , وهذا الاعتقاد تتبعه صفة الشجاعة والبسالة والجود والسخاء, والأخذ بالأسباب في جميع الأشياء, كيف لا والحق سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ ¬

_ (¬1) - سورة عبس الآيات (18-22) . (¬2) - سورة المؤمنون الآية (18) . (¬3) - قد أشار الدكتور عفيف عبد الفتاح طبارة أن من مراجعه في ما ذهب إليه في هذا مقالة للشيخ رشيد رضا في مجلة المنار ومقالة للشيخ محمد عبده في مجلة العروة الوثقى, وكلامه دقيق ووجيه, وانظر روح الدين الإسلامي ص153, أما صاحب المصباح المنير فقد ذكر أن: القدر -بالفتح لا غير-: القضاء الذي يقدره الله تعالى, انظر المصباح ص293. (¬4) - سورة التغابن الآية (11) .

حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (¬1) , إن هذا الاعتقاد والإيمان بالقدر يشجع المؤمن على الترقي في حياته الدينية والدنيوية, فـ {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (¬2) . فقانون القدر الذي أخبر الله تعالى عنه في كتابه يعلمنا أن من آمن وعمل صالحاً رفعه الله, {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} (¬3) , وقال جل شأنه: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً} (¬4) . قال أبو العلاء المعري: اِنفَرَدَ اللَهُ بِسُلطانِهِ ... فَما لَهُ في كُلِّ حالٍ كِفاء وله في إبداع الله وقدرته: وَبَدائِعُ اللَهِ القَديرِ كَثيرَةٌ ... فَيَحورُ فيها لُبُّنا وَيَحارُ وقال أيضاً في قدرة الله: وَقُدرَةُ اللَهِ حَقٌّ لَيسَ يُعجِزُها ... حَشرٌ لِخَلقٍ وَلا بَعثٌ لأَمواتِ ومن شعر الحكمة لأبي العلاء المعري في لزوم ما لا يلزم: إِذا كُنتَ لا تَسطيعُ دَفعَ صَغيرَةٍ ... أَلَمَّت وَلا تَسطيعُ دَفعَ كَبيرِ فَسَلِّم إِلى اللَهِ المَقاديرَ راضِياً ... وَلا تَسأَلَن بِالأَمرِ غَيرَ خَبيرِ أما أبو نواس فإنه يقول في القضاء والقدر: لَيسَ لِلإِنسانِ إِلاّ ... ما قَضى اللَهُ وَقَدَّر لَيسَ لِلمَخلوقِ تَدبيـ ... ـرٌ بَلِ اللَهُ المُدَبِّر ¬

_ (¬1) - سورة الرعد الآية (11) . (¬2) - سورة فصلت الآية (46) . (¬3) - سورة الأنبياء الآية (94) . (¬4) - سورة الأحزاب الآية (47) .

الرضا والتسليم دليل الإيمان

وكلام أبي نواس وما ورد في الأدب العربي على هذا المنوال لا يعني نفي ما وهب الله للإنسان من اختيار ولكنه يحث على التسليم لقدر الله تعالى باعتباره قضاء رباني لا مناص من التسليم والإيمان به فهو قانون إلهي لا يجوز الكفر به, فتدبير أمور الكون وتقديرها كلها لله وحده لا شريك له. فالإيمان بالقدر لا يعني تعطيل المدارك والقوى التي أرشد الله إلى إعمالها والتفكر بها, ولا يعني الإيمان بالقدر الميل إلى الكسل وترك العمل, فإن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة, كما جاء في بعض كلام عمر رضي الله عنه, ولكن الإيمان بالقدر يتطلب النظر في نظام الكائنات, والتعرف على سنن الله في المخلوقات, وطلب الأشياء من أسبابها, والعزيمة والتوكل على الله, قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (¬1) , وقال سبحانه: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (¬2) , فمن آمن بالله ظفر بهداية الله قال تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬3) , {قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} (¬4) , وقال: {يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (¬5) . الرضا والتسليم دليل الإيمان إن الرضا المطلق والقبول المحمود دليل صحة الإيمان, فالمؤمن يعلم أن من المنع عطاءً, ورب ضارة نافعة, أن الحياة المتدفقة بالآلام والمتاعب هي الحياة التي تفتق المواهب وتصنع الرجال, وأن ما من نازلة نزلت إلا ووراءها حكمة قد تدرك أو لا تدرك قدرها العليم الحكيم الذي قال في محكم الذكر الحكيم: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (¬6) , وهذا ابن عباس عندما فقد عينيه يقول: إِن يأَخذِ اللَه مِن عَينيَّ نورهما ... فَفي لِساني وَقَلبي منهما نورُ قَلبي ذَكي وَعَقلي غَيرُ ذي دَخَل ... وَفي فَمي صارِم كالسَيف مَسلولُ فهو لم يتسخط ولم يفشل لأنه آمن بقول الحق عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (¬7) , وبحديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (واعلم أن ما أصابك لم يكن ¬

_ (¬1) - سورة الملك الآية (15) . (¬2) - سورة البلد الآية (10) . (¬3) - سورة التغابن الآية (11) . (¬4) - سورة الرعد الآية (27) . (¬5) - سورة المائدة الآية (16) . (¬6) - سورة البقرة الآية (216) . (¬7) - سورة البقرة الآية (155) .

قصة إيمان أهل الكهف في القرآن

ليخطئك وما أخطاك لم يكن ليصيبك) (¬1) , وصدق الله العظيم حيث يقول: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (¬2) . قصة إيمان أهل الكهف في القرآن لقد كان في قصة إيمان أهل الكهف وخبرهم ما يعمق الإيمان ويدعو إلى التفكر والاعتبار, قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً* هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً * وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً * وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ ¬

_ (¬1) - أخرجه الحاكم في المستدرك حديث (6304) . (¬2) - سورة التوبة الآية (51) .

اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً * وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً * إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً * وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً * سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَداً * وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً *وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} (¬1) . ¬

_ (¬1) - سورة الكهف الآيات (9-26) .

الإيمان بالله يزيل الهم

الإيمان بالله يزيل الهم الإيمان بالله يزيل الهم والغم من حياة الإنسان, فالمؤمن لا ييأس إن منعه الناس, ولا يجزع إن خانوه, لأنه يعتمد على مسبب الأسباب ومدبر الأمور, لسان حاله يقول: واشدُدْ يَدْيكَ بحَبلِ الدِّينِ مُعتَصِماً ... فإنَّهُ الرُّكْنُ إنْ خانَتْكَ أركانُ (¬1) عندما تؤمن بالله تعلم أن الله لا يأتي لحياتك إلا بما يصلحها فكل ما يصيبك بغير اختيارٍ لك فيه هو إصلاح من حيث تدري أو لا تدري فأنت صنعة الله ومن ذا الذي يتلف صنعته, عندما تؤمن بالله تعالى تهون عليك المصائب وتفرج عنك الكروب, ويزيل أساك وحزنك لأنك عندئذٍ تترك الأمور لرب الأمور, فتسعى في رزقك وأنت على يقين أن من وراء هذا السعي رزاقاً كريماً يهيب بك في كل لحظة أن تبخل عليه. جاء في تفسير ابن كثير: أنه قد ورد في بعض الكتب الإلهية: يقول الله تعالى: "ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب, وتكفلت برزقك فلا تتعب, فاطلبني تجدني, فإن وجدتني وجدت كل شيءٍ, وإن فتك فاتك كل شيءٍ, وأنا أحب إليك من كل شيءٍ" (¬2) . فعندما تؤمن بالله يخف حملك لأن هناك من يحمل عنك لأنه وليك وولي المؤمنين, قال تعالى: {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬3) . ¬

_ (¬1) - هذا البيت ينسب لأبي الفتح البستي. (¬2) - تفسير ابن كثير ج7ص426. (¬3) - سورة البقرة الآية (257) .

من يؤمن بالله يهدي قلبه

من يؤمن بالله يهدي قلبه لا يخدعنك الثراء الفاحش, ولا القصر المرصع المنيف, ولا المال المكدس الوافر, فكل هذه المظاهر لا تنفع قلباً ضعيف الإيمان بل على العكس قد تزيده طمعاً وجشعاً, وإن بدا لك أنيق المظهر تغشى فمه ابتسامة عريضة وهو يركب سيارته الفاخرة إنه الرجل التعيس. إن سر سعادة الإنسان هو رصيد ما في قلبه من إيمان قال تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬1) . واسمع إلى تلك الكلمة الخالدة التي خرجت من قلب معمور بالإيمان إنه قلب الرجل الصالح إبراهيم بن أدهم رحمه الله: "لو علم الملوك ما نحن عليه -أي من حلاوة الإيمان- لقاتلونا عليه بالسيوف". (¬2) الخلال الدنيئة ليست من صفات المؤمن المؤمن لا يكون كاذباً, ولا حاقداً, ولا حاسداً, ولا شامتاً, ولا باغيا, ولا فاجراً, والمؤمن لا يغدر ولا يخون ولا يكذب, وقد جاء في الحديث النبوي: (يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ) (¬3) . النفاق يضاد الإيمان النفاق آفة وخساسة ومرض وتعاسة, والمنافق ذو وجهين ينطق بالإيمان ولا يعمل بالقرآن, والمنافق ماكر مخادع, إن حدث كذب, وإن وعد أخلف, وإن اؤتُمن خان, لا يؤمن بالله العظيم ولا يتبع رسوله الكريم, وفي الذكر الحكيم: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (¬4) . والنفاق يدل على إخفاء الشيء وإغماضه, ومنه النفق, وهو السرب في الأرض, والنفاق يعني اختلاف السر والعلن واختلاف القول والعمل, وهو نوعان: اعتقادي: وهو إظهار الإيمان وابطان الكفر, وعملي: وهو إظهار الإنسان غير حقيقته في الصلاح والعمل. وجاء في الموسوعة الضدية: المنافق: هو الذي يظهر الإيمان بلسانه ويستر الكفر بقلبه, وقيل: هو الذي لا يطابق ظاهره باطنه, سواءً كان في باطنه ما يضاد ظاهر, أو كان باطنه خالياً عما يشعر به ظاهره. (¬5) وفي القرآن الحكيم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} (¬6) , والمنافق يخادع ربه ويترك فرضه, يكره المؤمنين ويتبع الجاهلين, يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف, قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً * مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} (¬7) , وقال ¬

_ (¬1) - سورة التغابن الآية (11) . (¬2) - انظر عيون الأمل لطه ياسين, ص98, الطبعة الأولى 1429هـ2008م, الناشر دار القلم دمشق. (¬3) - أخرجه البيهقي في السنن الكبرى باب من كان منكشف ج10ص197 حديث (21349) . (¬4) - سورة البقرة الآيات (8-10) . (¬5) - الموسوعة العربية في الألفاظ الضدية والشذورات اللغوية لجامعه محمد بن محمد بن عبد الجبار بن محمد بن يحيى السماوي اليماني , ج3ص79 , الناشر: مركز الدراسات والبحوث اليمني صنعاء, طباعة دار الآداب بيروت, الطبعة الأولى 1410هـ1989م. (¬6) - سورة النساء الآية (145) . (¬7) - سورة النساء الآيتان (142و143) .

جل شأنه: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬1) . وما أكثر ضرر النفاق على المجتمعات الإنسانية وأخطره على الأمة الإسلامية, فكم ديار خربت ودماء سفكت وأعراض هتكت بسبب نفاق ذوي الألسنة الثرثارة, والقلوب الخوارة, والشهوات القاهرة, والنفوس الفاجرة, والأفكار الخيالية, فلا تعجب بأجسامهم ولا تصغ إلى أخبارهم فأنت لا تعرف ما تحويه قلوبهم من الأحقاد والمكائد الشداد وبغض العباد, وفي محكم التنزيل: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ * وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (¬2) , ويرحم الله يوسف الدجوي حيث يقول: لقد ظهرت حوادث لا تطاقُ ... وقوم ما لأكثرهم خلاقُ فأموال تبعثر في فسادٍ ... وكم وسط النهارِ دمٌ يراقُ وكم ظلمٍ تسربل ثوب عدل ... وكم ضغنٍ يغطيه النفاقُ ¬

_ (¬1) - سورة التوبة الآية (67) . (¬2) - سورة المنافقون الآيات (1-4) .

الإيمان بالغيب

وكم فضلٍ يداس ولا يراعى.....وكم جهلٍ يروجه الرفاقُ (¬1) ويقول آخر: حُكمٌ جرى سوقُ المنافقِ نافقٌ ... بنفاقهِ والبِرُّ أعظمُ كاسدِ أما الشريف الرضي (¬2) فهو يقول: أقمْ واحداً فرداً ودعْ عنك مرّةً ... نفاقَ فلانٍ أوْ خِداعَ فلانِ الإيمان بالغيب إن التصديق بكل ما أنزله الله على رسله وأخبر الله به عباده في كتابه العزيز عن الجن والملائكة والجنة والنار ويوم المعاد والحساب وما يحصل فيه يدل على كمال الإيمان واليقين, والإيمان بما أوجب الله عن كل ما غاب عن نظر الإنسان وإدراكه واستأثر الله به مما أرشد إليه القرآن الكريم, فلا يكون الإنسان مهتدياً ومؤمناً ما لم يكن مؤمناً بالغيب, وفي القرآن العظيم على ذلك دليل وشاهد: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬3) . ولعلماء اللغة والتفسير في وصف الغيب أقوال نشير إلى بعض منها: قال الراغب: الغيب: مصدر غابت الشمس وغيرها إذا استترت عن العين، واستعمل في كل غائب عن الحاسة، وعما يغيب عن علم الإنسان بمعنى الغائب، ويقال للشيء غيب وغائب باعتباره بالناس لا بالله تعالى، فإنه لا يغيب عنه شيء، كما لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض (¬4) . وقيل: الغيب: ما غاب علمه عن جميع المخلوقات إلا ما علموه عن طريق الرسل، وقال الفيروزابادي: الغيب ما غاب عنك، وقيل: الغيب ما غاب عن الناس مما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الملائكة والجنة والنار والحساب، وقال ابن الأعرابي: الغيب: ما كان غائباً عن العيون وإن كان محصلاً في القلوب، وأنشد بيت تميم بن أبي بن مقبل: وللفؤاد وجيب تحت أبهره ... لدم الغلام وراء الغيب بالحجر (¬5) وقال صاحب المنار: الغيب قسمان: غيب حقيقي مطلق وهو ما غاب عن جميع الخلق حتى الملائكة، وفيه يقول الله عز وجل: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} (¬6) , وغيب إضافي وهو ما غاب علمه عن بعض المخلوقين دون بعض كالذي يعلمه الملائكة من أمر عالمهم وغيره ولا يعلمه البشر مثلاً، وأما ما يعلمه بعض البشر بتمكنهم من أسبابه واستعمالهم ¬

_ (¬1) - وردت هذه الأبيات ليوسف الدجوي من كبار علماء الأزهر في القرن الماضي ضمن تقريضه للنهضة الإصلاحية للأسرة الإسلامية لمؤلفه مصطفى الحمامي, ص9 , مطبعة مصطفى الحلبي 1355هـ1936م. (¬2) - العلامة الشريف الرضي: (359-406هـ/969-1015م) محمد بن الحسين بن موسى، أبو الحسن، الرضي العلوي الحسيني الموسوي. من أحفاد الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أشعر الطالبيين على كثرة المجيدين فيهم. مولده ووفاته في بغداد، انتهت إليه نقابة الأشراف في حياة والده وخلع عليه بالسواد وجدد له التقليد سنة 403 هـ. له ديوان شعر في مجلدين، وكتب منها: الحَسَن من شعر الحسين، وهو مختارات من شعر ابن الحجاج في ثمانية أجزاء، والمجازات النبوية، ومجاز القرآن، ومختار شعر الصابئ، ومجموعة ما دار بينه وبين أبي إسحاق الصابئ من الرسائل, وهو جامع نهج البلاغة, ونسب جمعه البعض إلى أخيه المرتضى. توفي ببغداد ودفن بداره أولاً ثمّ نقل رفاته ليدفن في جوار جده الإمام الحسين رضي الله عنه، بكربلاء. (¬3) - سورة البقرة الآيات (3-5) . (¬4) - المفردات ص370. (¬5) - الوجيب: تحرك القلب، والأبهر: عرق في الصلب، والقلب متصل به، فإذا انقطع لم تكن معه حياة، واللدم: الضرب، يريد أن للفؤاد صوت يسمعه ولا يراه كما يسمع صوت الحجر الذي يرمي به الصبي ولا يراه، وانظر: اللسان في مادة (بهر) ج4ص81 , وبصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للعلامة مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزابادي المتوفى سنة 817هـ, ج4ص252, الناشر: المكتبة العلمية بيروت الطبعة الأولى. (¬6) - سورة النمل الآية (65) .

لها ولا يعلمه غيرهم لجهلهم بتلك الأسباب وعجزهم عن استعمالها، فلا يدخل في عموم معنى الغيب الوارد في كتاب الله، وهذه الأسباب منها ما هو علمي كالدلائل العقلية والعلمية فإن بعض علماء الرياضيات وغيرها يستخرجون من دقائق المجهولات ما يعجز عنه أكثر الناس، ويضبطون ما يقع من الخسوف والكسوف بالدقائق والثواني قبل وقوعه. ومنها ما هو عملي كالتلغراف الهوائي أو اللاسلكي الذي يعلم به المرء بعض ما يقع في أقاصي البلاد وأجواف البحار التي بينه وبينها ألوف من الأميال (¬1) . وفي الذكر الحكيم: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} (¬2) , وفي هذه الآية دليل على أن الرسول عليه الصلاة والسلام وكذلك سائر الأنبياء لم يعطوا علم الغيب بحيث يكون إدراكه من علومهم الكسبية، كما أنهم لم يعطوا قوة التصرف في خزائن ملك الله، لأن ذلك مما لم يمكن البشر من أسبابه ولا أعطاهم إياه على سبيل الخصوصية، كما أظهرهم على بعض الغيب الذي هو موضوع الرسالة، ونفي ادعاء الرسول لكل من الأمرين يتضمن التبرؤ من ادعاء الألوهية، أو ادعاء شيء من صفات الإله، وهو أولى ويستلزم ذلك أن كلا منهما خاص بالإله الذي هو على كل شيء قدير وبكل شيء عليم. ¬

_ (¬1) - تفسير المنار ج7ص422. (¬2) - سورة الأنعام الآية (50) .

قال النابغة الجعدي (¬1) : لَوى اللَهُ عِلمَ الغَيبِ عَمَّن سِواءَهُ ... وَيَعلَمُ مِنهُ ما مَضى وتأَخَّرا أما أبو الحسن الغزنوي فهو يقول: والله بالغيب والتقدير منفرد ... وما سوى حكمه غيِّ وتضليلُ ويرى محمد الحسيني أن الله انفرد بعلم الغيب وأنه لا أجهل ممن يدَّعي ثقةً بحدسه وهو يجهل ما في بيته, وذلك حيث يقول: لا يعلم الغيب إلا الله خالقنا ... لا غيره عالم عجماً ولا عربا إذ لا شيء أجهل ممن يدعي ثقةً ... بحدسه ويرى فيما يرى ريبا قد يجهل المرء ما في بيته نظراً ... فكيف عنه بما في غيبه احتجبا أما زهير بن أبي سلمى (¬2) فهو يقول: وَأَعلَمُ عِلمَ اليَومِ وَالأَمسِ قَبلَهُ ... وَلَكِنَّني عَن عِلمِ ما في غَدٍ عَمي إخبار المنجم عن علم الغيب كذب والتصديق به كفر ¬

_ (¬1) - قيس بن عبد الله، بن عُدَس بن ربيعة، الجعدي العامري، أبو ليلى, (54ق. هـ-50 هـ/ 70-670م) , شاعر مفلق، صحابي من المعمرين، اشتهر في الجاهلية وسمي النابغة لأنه أقام ثلاثين سنة, لا يقول الشعر ثمَّ نبغ فقاله، وكان ممن هجر الأوثان، ونهى عن الخمر قبل ظهور الإسلام, ووفد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأسلم، وأدرك صفّين فشهدها مع علي كرم الله وجهه، ثم سكن الكوفة فَسَيّره معاوية إلى أصبهان مع أحد ولاتها فمات فيها وقد كُفَّ بصره وجاوز المائة. (¬2) -زهير بن أبي سلمى ربيعة بن رباح المزني، من مُضَر, (ت 13ق. هـ609م) , حكيم الشعراء في الجاهلية وفي أئمة الأدب من يفضّله على شعراء العرب كافة, قال ابن الأعرابي: كان لزهير من الشعر ما لم يكن لغيره: كان أبوه شاعراً، وخاله شاعراً، وأخته سلمى شاعرة، وابناه كعب وبجير شاعرين، وأخته الخنساء شاعرة, ولد في بلاد مُزَينة بنواحي المدينة وكان يقيم في الحاجر (من ديار نجد) ، واستمر بنوه فيه بعد الإسلام, قيل: كان ينظم القصيدة في شهر وينقحها ويهذبها في سنة فكانت قصائده تسمّى (الحوليات) ، أشهر شعره معلقته التي مطلعها: ... أمن أم أوفى دمنة لم تكلم

التنجيم كذب ووبال, وزيف وخيال, فلا تصدق المنجم تأثم, ومن الخير تحرم, فاحذر تصديق المنجم والكاهن والعراف, ففي الحديث النبوي الشريف: (مَنْ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنْ النُّجُومِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ) (¬1) , وقال العزيز الحكيم: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (¬2) , وجاء في حديث آخر: (مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ آله وَسَلَّمَ) (¬3) . قال الشاعر: دع المنجمَ يكبو في ضلالته ... إن ادعى علمَ ما يجري به الفلكُ تفرَّد اللهُ بالعلم القديم فلا ... الإنسان يشركهُ فيه ولا الملك (¬4) وقال أبو العلاء المعري: يُنَجِّمونَ وَما يَدرونَ لَو سُئِلوا ... عَنِ البَعوضَةِ أَنّى مِنهُمُ تَقِفُ أما لبيد بن ربيعة فهو يقول: لَعَمرُكَ ما تَدري الضَوارِبُ بِالحَصى ... وَلا زاجِراتُ الطَيرِ ما اللَهُ صانِعُ ¬

_ (¬1) - أخرجه أبو داود في سننه باب في النجوم حديث (3406) . (¬2) - سورة طه الآية (69) . (¬3) - أخرجه احمد في المسند عن أبي هريرة حديث (9171) . (¬4) - هذه الأبيات لأبي اليمن الكندي, وهو زيد بن الحسن بن زيد بن سعيد الحميري من ذي رعين أبو اليمن تاج الدين الكندي, (520-613هـ/1126-1217م) أديب من الكتاب الشعراء العظماء، ولد ونشأ ببغداد وسافر إلى حلب سنة 563 هـ، وسكن دمشق وقصده الناس يقرؤون عليه، وكان مختصاً بفرخ شاه ابن أخي صلاح الدين وبولده الملك الأمجد صاحب بعلبك، وهو شيخ المؤرخ سبط ابن الجوزي، وكان الملك المعظم عيسى يقرأ عليه دائماً كتاب سيبويه متناً وشرحاً والإيضاح والحماسة وغيرهما, قال أبو شامة: كان المعظم يمشي من القلعة راجلاً إلى دار تاج الدين والكتاب تحت إبطه، واقتنى مكتبة نفيسة, توفي في دمشق, له ديوان شعر، وله: كتاب شيوخه على حروف المعجم كبير، وشرح ديوان المتنبي.

وقال آخر: كُن طالِباً لِلعِلمِ واِعمَل صالِحاً ... فَهُما إِلى سُبُلِ الهُدى سَبَبانِ لا تَتَّبِع عِلمَ النُجومِ فَإِنَّهُ ... مُتَعَلِّقٌ بِزَخارِفِ الكُهّانِ عِلمُ النُجومِ وَعِلمُ شَرعِ مُحمَّدٍ ... في قَلبِ عَبدٍ لَيسَ يَجتَمِعانِ (¬1) أما المتنبي فهو يقول: فَتَبّاً لِدينِ عَبيدِ النُجومِ ... وَمَن يَدَّعي أَنَّها تَعقِلُ وهذا أبو تمام الطائي يقول: السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ ... في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ بيضُ الصَفائِحِ لا سودُ الصَحائِفِ ... في مُتونِهِنَّ جَلاءُ الشَكِّ وَالرِيَبِ وَالعِلمُ في شُهُبِ الأَرماحِ لامِعَةً ... بَينَ الخَميسَينِ لا في السَبعَةِ الشُهُبِ أَينَ الرِوايَةُ بَل أَينَ النُجومُ وَما ... صاغوهُ مِن زُخرُفٍ فيها وَمِن كَذِبِ تَخَرُّصاً وَأَحاديثاً مُلَفَّقَةً ... لَيسَت بِنَبعٍ إِذا عُدَّت وَلا غَرَبِ وقال آخر: الفأل والزجر والكهان كلهم ... مضللون ودون الغيب أقفال (¬2) ¬

_ (¬1) - هذه الأبيات تنسب للعلامة عبد الله بن محمد القحطاني. (¬2) - الموسوعة الشعرية ص82.

علم الفلك والنجوم

علم الفلك والنجوم علم النجوم علمان: علم يعرف به سير النجوم ومدارها ومنازلها وأبعادها وأحجامها, وهذا ما يسمى بعلم الفلك وهو ليس داخل في التنجيم وتعليمه والعمل به غير منهي عنه, وفي الذكر الحكيم: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (¬1) . وعلم يزعمون أنه يعني روحانية النجوم والكواكب وتأثيرها في الخلق والأرض ومن عليها بالأمراض وما يحصل من الحروب والضيق والسعة والموت والحياة والسعادة والشقاوة ... إلخ, وما يعملون فيه من الجداول بالحوادث في العالم كله وهذا هو الدجل والكذب وهو نوع من السحر واستخدام الشياطين والقول على الله بلا علم. قال الشاعر: تدبر بالنجوم ولست تدري ... ورب النجم يفعل ما يريد (¬2) وقال ابن تيمية: "لا ريب أن النجوم نوعان: حساب وأحكام, فأما الحساب فهو معرفة أقدار الأفلاك والكواكب وصفاتها ومقادير حركتها وما يتبع ذلك فهذا في الأصل علم صحيح لا ريب فيه كمعرفة الأرض وصفتها. وصناعة التنجيم التي مضمونها الأحكام والتأثير وهو الاستدلال على الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية صناعة محرمة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة". (¬3) وقال الشاعر: إني بأحكام النجوم مكذب ... ولمدعيها لائم ومؤنب الغيب يعلمه المهيمن وحده ... وعن الخلائق أجمعين مغيب ¬

_ (¬1) - سورة يونس الآية (5) . (¬2) - ورد هذا البيت في التمثيل والمحاضرات للثعالبي, ص189. (¬3) - انظر مجموع فتاوى ابن تيمية ج9ص224.

الإيمان بأسماء الله وصفاته

الإيمان بأسماء الله وصفاته إن الإيمان بأسماء الله وصفاته هو أعظم المطالب وأهمها, وإذا كان الله قد جعل لكل مطلوب سبباً وطريقاً للوصول إليه فقد جعل للإيمان أسباباً تجلبه وتقويه كما كان له أسبابٌ تضعفه وتوهيه, ومن أعظم ما يقوي الإيمان ويجلبه معرفة أسماء الله الحسنى الواردة في كتاب الله العزيز وسنة رسوله الكريم والحرص على تفهم معانيها والتعبد لله بها وفي الذكر الحكيم: {وَلِلّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬1) . وجاء في السنة النبوية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) (¬2) , أي من حفظها, وفهم معانيها ومدلولها, وأثنى على الله بها, وسأله بها واعتقدها دخل الجنة, والجنة لا يدخلها إلا المؤمن, فاعلم أن ذلك أعظم ينبوع, ومادة لحصول الإيمان وقوته وثباته, ومعرفة الأسماء الحسنى -بمراتبها الثلاث: إحصاء ألفاظها وعددها, وفهم معانيها ومدلولها, ودعاء الله بها, دعاء الثناء والعبادة ودعاء المسألة- هي أصل الإيمان والإيمان يرجع إليها, لأن معرفتها تتضمن أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية, وتوحيد الألوهية, وتوحيد الأسماء والصفات, وهذه الأنواع هي روح الإيمان وأصله وغايته, فكلما ازداد العبد معرفة بأسماء الله وصفاته ازداد إيمانه وقوي يقينه, فينبغي للمؤمن أن يبذل مقدوره ومستطاعه في معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله, من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تحريف ولا تكييف. (¬3) وعدم العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها قال تعالى: {وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ} أي يميلون بها ويعدلون بها عن معانيها مأخوذ من الميل كما يدل عليه مادة "لحد", فمنه اللحد: وهو الشق في جانب القبر الذي قد مال عن الوسط, ومنه الملحد في الدين المائل عن الحق إلى الباطل. قال ابن السكيت: المُلْحِدُ العادِلُ عن الحق المُدْخِلُ فيه ما ليس فيه يقال قد أَلحَدَ في الدين ولحَدَ أَي حاد عنه وقرئ لسان الذي يَلْحَدون إِليه (¬4) . وأسماء الله كلها حسنى وكلها تدل على الكمال المطلق والحمد المطلق, وهي توقيفية لا مجال للعقل فيها, وعلى هذا فيجب الوقوف على ما جاء به الكتاب والسنة فلا يزاد ولا ينقص, قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (¬5) , وقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (¬6) , فتسميته جل وعلا بما لم يسمِّ نفسه أو إنكار ما سمى به نفسه جناية في حقه سبحانه وتعالى, فوجب سلوك الأدب في ¬

_ (¬1) - سورة الأعراف الآية (180) . (¬2) - صحيح البخاري باب ان لله مائة اسم إلا واحد حديث (6957) . (¬3) - انظر: مدارج السالكين بين منازل إياك بعبد وإياك نستعين لابن القيم, ج3ص17 , والتوضيح والبيان لشجرة الإيمان لعبد الرحمن بن ناصر السعدي , ص39 , وبدائع الفوائد لابن القيم ج1ص164 , وشرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب السنة ص4و5. (¬4) - لسان العرب ج3ص388. (¬5) - سورة الإسراء الآية (36) . (¬6) - سورة الأعراف الآية (33) .

الذكر يقوي الإيمان

ذلك والاقتصار على ما ورد في كتاب الله وسنة رسوله, فهؤلاء ملائكة الرحمن يقولون: {سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} (¬1) , فيجب الإيمان بالأسماء الحسنى الواردة في كتاب الله وسنة رسوله وتدل عليه من المعاني وتتعلق به من الآثار, فيؤمن المؤمن بأن الله رحيم: أي أنه ذو رحمة واسعة وسعة كل شيء فهو يرحم عباده, قدير: أي ذي قدرة على كل شيء أي لا يعجزه شيء, غفور: أي ذو مغفرة ويغفر لعباده, ... إلخ. الذكر يقوي الإيمان الذكر لله يقوي الإيمان, ويرفع من مكانة الإنسان, فهو شرف للذاكرين, وعدة للصابرين, وعون للمتقين, فمن ذكر الله ذكره, وأعانه ووفقه, وفي الذكر الحكيم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (¬2) . فاذكر أخي ربك في نفسك وبلسانك وقلبك تكن من الفائزين, فالذِكر غذاء الروح فهو الذي يمد النفس الإنسانية بالسكينة والاطمئنان وهذا ما صرح به القرآن, قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (¬3) , فَذِكْرُ الله سبب لحصول السعادة في الدنيا والآخرة وقد جاء في السنة النبوية عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (مثل الذي يذكر ¬

_ (¬1) - سورة البقرة الآية (32) . (¬2) - سورة الأنفال الآية (2) . (¬3) - سورة الرعد الآية (28) .

ربه والذي لا يذكر ربه، مثل الحي والميت) (¬1) ، وفي مسند الإمام احمد وسنن الترمذي من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: (ما عمل آدمي عملاً أنجى من عذاب الله، من ذكر الله عز وجل) قال معاذ: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها لدرجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى، قال: ذكر الله تعالى) (¬2) . وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يسير في طريق مكة فَمَرَّ على جبل يقال له جُمْدان، فقال: (سيروا، هذا جُمْدان، سبق المفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات) (¬3) وزاد الترمذي: (المستهترون في ذكر الله يضع الذكر عنهم أثقالهم، فيأتون يوم القيامة خفافاً) (¬4) . قال الشاعر: والذِّكرُ فيه حَيَاةٌ لِلقُلُوبِ كما ... يُحيِي البِلادَ إذا ما ماتَت المَطَرُ (¬5) ¬

_ (¬1) - صحيح البخاري، كتاب الدعوات، باب فضل ذكر الله عز وجل، حديث (6407) . (¬2) - أخرجه الترمذي في الدعوات، حديث (3377) - وابن ماجه, كتاب الأدب، باب فضل الذكر، حديث (3790) . ومسند الامام احمد حديث (22132) . (¬3) - صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى، حديث (2676) طبعة-1992م. (¬4) - سسن الترمذي،، باب في العفو والعافية، حديث (3520) . (¬5) - هذا البيت لسابق بن عبد الله البربري الرقي (ت 132هـ749م) فقيه ومحدث وأحد شعراء الزهد في العهد الأموي أخذ الشعر عنه وتتلمذ له أبو العتاهية، من أهل خراسان، سكن الرقة، عرف بأبي أمية البربري وقد صحف الزبيدي صاحب تاج العروس اسمه بقوله (سابق بن عبد الله البرقي المعروف بالبربري) وترجم ابن عساكر لسابق البربري المحدث وسابق البربري الزاهد وتوهم أنهما اثنان بينما هما شخص واحد, روى الذهبي أنه من موالي بني أمية وفد على عمر بن عبد العزيز وله معه حكايات لطيفة.

وقال آخر: لو يعلم الناس ما في الذكر من شرف ... أمضوا الحياة بتسبيح وتهليلِ ويرحم الله أبا العتاهية حيث يقول: لو يعلم العبد ما في الذكر من شرف ... أمضوا الحياة بتسبيح وتمجيدِ أما الإمام علي بن أبي طالب فهو يعظ ولده الحسين رضي الله عنهما فيقول: أَحُسَينُ إِنّي واعِظٌ وَمؤَدِّبٌ ... فَاِفهَم فَأَنتَ العاقِلُ المُتَأَدِّبُ وَاِحفَظ وَصِيَّةَ وَالِدٍ مُتَحَنِّنٍ ... يَغذوكَ بالآدابِ كَيلا تُعطَبُ أَبُنَيَّ إِنَّ الذِكرَ فيهِ مَواعِظٌ ... فَمَنِ الَّذي بِعِظاتِهِ يَتَأَدَّبُ فَاِقرَأ كِتابَ اللَهِ جَهدَكَ واِتلُهُ ... فيمَن يَقومُ بِهِ هُناكَ وَيَنصَبُ بِتَفَكُّرٍ وَتَخَشُّعٍ وَتَقَرُّبٍ ... إِنَّ المُقَرَّبَ عِندَهُ المُتَقَرِّبُ وَاِعبُد إِلَهَكَ ذا المَعارِجِ مُخلِصاً ... وَاِنصِت إِلى الأَمثالِ فيما تُضرَبُ وَإِذا مَرَرتَ بِآيَةٍ وَعظِيَّةٍ ... تَصِفُ العَذابَ فَقِف وَدَمعُكَ يُسكَبُ يا مَن يُعَذِّبُ مَن يَشاءُ بِعَدلِهِ ... لا تَجعَلَنّي في الَّذينَ تُعَذِبُ إِنّي أَبوءُ بِعَثرَتي وَخَطيئَتي ... هَرَباً إِلَيكَ وَلَيسَ دونَكَ مَهرَبُ وَإِذا مَرَرتَ بِآيَةٍ في ذِكرِها ... وَصفَ الوَسيلَةِ وَالنَعيمِ المُعجِبُ فَاِسأَل إِلَهَكَ بِالإِنابَةِ مُخلِصاً ... دارُ الخُلودِ سُؤالَ مَن يَتَقَرَّبُ وَاِجهَد لَعَلَّكَ أَن تَحِلَّ بِأَرضِها ... وَتَنالَ روحَ مَساكِنَ لا تَخرَبُ وَتَنالَ عَيشاً لا اِنقِطاعَ لِوَقتِهِ ... وَتَنالَ مُلكَ كَرامَةٍ لا تُسلَبُ

ذكر الله في جوف الليل

ذكر الله في جوف الليل إن الذكر في جوف الليل يقوي إيمان الإنسان ويعلي شأنه, فمن جد وجد, وقد جاء في الحديث النبوي: (أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الآخِرِ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ) (¬1) , ويرحم الله القائل: يا رجال الليل جدوا ... رب داع لا يردُ ما يقوم الليل إلا ... من له عزم وجدُ ليس شيء كصلاة ... الليل للقبر يعدُ ولأبي العتاهية: اِذكُر مَعادَكَ أَفضَلَ الذِكرِ ... لا تَنسَ يَومَ صَبيحَةِ الحَشرِ ذكر الله شرف ونعمة إن في ذكر الله سبحانه وتعالى شرف كبير, وخير وفير, وأمان من عذاب الله العلي الكبير, فالذِكر لله سبحانه وتعالى مظهر لمعرفة الإنسان ربه والثناء عليه، وبه يتقرب إلى الله, وبه يطلب رحمته وعفوه وفضله وإحسانه، قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} (¬2) , فالذي أمد الإنسان بمال وبنين والذي خلق الإنسان وأوجده والمتصرف في الكون كيف يشاء يأمر الإنسان بذكره كي يذكره ويعطيه ويتفضل عليه ويعافيه قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً* هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} (¬3) , وقد بين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن الذكر يحط عن الذاكرين أثقالهم من الذنوب، ويكون لهم بذلك الأجر الكبير، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى بذلك حيث قال: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (¬4) . الدعاء يقوي الإيمان الدعاء بأسماء الله الحسنى مخ العبادة, وبه تنال الحسنى وزيادة, وفي الذكر الحكيم: {وَلِلّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (¬5) , فلا يثنى على الحق سبحانه وتعالى إلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا, ولا يسأل إلا بها, فهي أجل ما ينطق به اللسان, وأفضل ما يتجمل به من الكلام, وأنفع ما يفزع إليه الإنسان على الدوام؛ ففي دعائه بأسمائه وصفاته توحيد لله في صفاته وأسمائه وتذلل وتضرع واعتراف بأنه الضار النافع المعطي المانع. ¬

_ (¬1) - أخرجه الترمذي في سننه باب في دعاء الضيف حديث (3503) . (¬2) - سورة البقرة الآية (152) . (¬3) - سورة الأحزاب الآيات (41-43) . (¬4) - سورة الأحزاب الآية (35) . (¬5) - سورة الأعراف الآية (180) .

من تقرب إلى الله بالدعاء ضمن الإجابة

فمن أراد خير الدنيا والآخرة فعليه بالدعاء, فبالدعاء يبلغ الإنسان آماله, وتصلح أحواله, وتزكو أعماله, والدعاء يرفع البلاء, ويقي من المصائب والأذى, ويجلب الخيرات والنعم, قال تعالى: {قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} (¬1) . من تقرب إلى الله بالدعاء ضمن الإجابة من أخلص لله في الدعاء ظفر بمراده, وانتصر على أعدائه, فلا تزدري الدعاء وتتكاسل لكي لا تزل وتفشل, ويرحم الله الشافعي حيث يقول: أَتَهزَأُ بِالدُعاءِ وَتَزدَريهِ ... وَما تَدري بِما صَنَعَ الدُّعاءُ سِهامُ اللَيلِ لا تُخطِي وَلَكِن ... لَها أَمَدٌ وَلِلأَمَدِ اِنقِضاءُ فيمسكها إذا ما شأ ربي ... ويرسلها إذا نفذ القضاء وقال آخر: وإني لأدعو الله والأمر ضيق ... عليَّ فما ينفك أن يتفرجا ورب فتى سدت عليه وجوه ... أصاب لها في دعوة الله مخرجا (¬2) وجاء في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي قول الشاعر: الله يغضب إن تركت سؤاله ... وبني آدم حين يسأل يغضب (¬3) وجاء في شعر الحكمة لامرؤ القيس (¬4) : ¬

_ (¬1) - سورة الإسراء الآية (110) . (¬2) - بهجة المجالس لابن عبد البر ج3ص274. (¬3) - الجامع لأحكام القرآن ج1ص106. (¬4) - امرؤ القيس بن حجر بن الحارث الكندي, (130-80ق. هـ/496-544م) , شاعر جاهلي، أشهر شعراء العرب على الإطلاق، يماني الأصل، مولده بنجد، كان أبوه ملك أسد وغطفان وأمه أخت المهلهل الشاعر, قال الشعر وهو غلام، وجعل يشبب ويلهو ويعاشر صعاليك العرب، فبلغ ذلك أباه، فنهاه عن سيرته فلم ينته، فأبعده إلى حضرموت، موطن أبيه وعشيرته، وهو في نحو العشرين من عمره, أقام زهاء خمس سنين، ثم جعل ينتقل مع أصحابه في أحياء العرب، يشرب ويطرب ويغزو ويلهو، إلى أن ثار بنو أسد على أبيه فقتلوه، فبلغه ذلك وهو جالس للشراب فقال: رحم الله أبي! ضيعني صغيراً وحملني دمه كبيراً، لا صحو اليوم ولا سكر غداً، اليوم خمر وغداً أمر. ونهض من غده فلم يزل حتى ثأر لأبيه من بني أسد، وقال في ذلك شعراً كثيراً, كانت حكومة فارس ساخطة على بني آكل المرار (آباء امرؤ القيس) فأوعزت إلى المنذر ملك العراق بطلب امرئ القيس، فطلبه فابتعد وتفرق عنه أنصاره، فطاف قبائل العرب حتى انتهى إلى السموأل، فأجاره ومكث عنده مدة, ثم قصد الحارث بن أبي شمر الغساني والي بادية الشام لكي يستعين بالروم على الفرس فسيره الحارث إلى قيصر الروم يوستينيانس في القسطنطينية فوعده وماطله ثم ولاه إمارة فلسطين، فرحل إليها، ولما كان بأنقرة ظهرت في جسمه قروح، فأقام فيها إلى أن مات.

المؤمن من أسماء الله الحسنى

وَاللَهُ أَنجَحُ ما طَلَبتَ بِهِ ... وَالبِرُّ خَيرُ حَقيبَةِ الرَحلِ وقد جاء في الذكر الحكيم: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (¬1) , فهيهات أن يرد الله من سأله مخلصاً وأيقن منه الإجابة فهو الكريم الذي يجيب من سأله. والدعاء نهاية التذلل ومصدر العطف من الرحيم ودليل الاخلاص للأحد الصمد العظيم, وفي الحديث النبوي الشريف: (ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاهٍ) (¬2) . المؤمن من أسماء الله الحسنى المؤمن من أسماء الله الحسنى, هو من وحد نفسه سبحانه, وأثنى عليها بصفة الكمال, وبكمال الجلال والجمال, الذي أرسل رسله, وأنزل كتبه بالآيات والبراهين, وصدق رسله بكل آية وبرهان يدل على صدقهم وصحة ما جاءوا به. (¬3) قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ ¬

_ (¬1) - سورة البقرة الآية (182) . (¬2) - أخرجه الترمذي في سننه باب ما جاء في جامع الدعوات حديث (3401) . (¬3) - شرح أسماء الله الحسنى ص169.

الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬1) , وقال جل شأنه: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬2) . وقال ابن عباس: المؤمن: هو من أمن خلقه من أن يظلمهم. وقال قتادة: أمن: بقوله أنه الحق. وقال ابن زيد: صدق عباده المؤمنين في إيمانهم. وقال مجاهد: هو الذي وحد نفسه سبحانه. وقيل: هو المصدق لرسله بإظهار معجزاته عليهم ومصدق المؤمنين ما وعدهم به من الثواب, ومصدق الكافرين ما وعدهم به من العقاب, وهو الذي أمن أولياءه من عذابه, وهو الذي أمن عباده من الخوف. (¬3) وقال الحليمي: المؤمن معناه المصدق, لأنه إذا وعد صدق وعده, ويحتمل المؤمن عباده بما عرفهم من عدله ورحمته من أن يظلمهم ويجور عليهم. (¬4) وقال محمد راتب النابلسي: فاسم الله المؤمن مأخوذ من التصديق أو من الأمن. (¬5) ¬

_ (¬1) - سورة الحشر الآية (23) . (¬2) - سورة آل عمران الآية (18) . (¬3) - أورد ذلك حامد احمد الطاهر في الجامع لأسماء الله الحسنى ص285, نقلاً عن ابن كثير والقرطبي في التفسير. (¬4) - الأسماء والصفات للبيهقي ص84. (¬5) - موسوعة أسماء الله الحسنى للأستاذ الدكتور/ محمد راتب النابلسي , ج1ص99, الناشر: دار المكتبي دمشق سوريا, الطبعة الخامسة 1429هـ2008م.

ثمرة التعرف على اسم الله المؤمن

ثمرة التعرف على اسم الله المؤمن إذا عرف العاقل المسلم أن الله جل وعلا المؤمن المهيمن كان لله مصدقاً, وآمن بكل ما أنزل الله سبحانه وتعالى, وبذلك يتم إيمانه, ويتحقق الأمن والاطمئنان في قلبه بذكر الله سبحانه, ويحصل له الخوف والحياء من الله لإيمانه بشهادة الله عليه إن عصاه, ورجاء شهادة الله له إن أطاعه, وبذلك يكون قوّاماً بشهادة الله في كل ما نفع وضر وساء وسر, ولو على نفسه أو الوالدين والأقربين, وفي ذلك نجاة المؤمن وفلاحه وصلاحه وإصلاحه لنفسه ومجتمعه. دعاء الله باسمه المؤمن يا الله يا رحمن يا رحيم يا مؤمن يا مهيمن أمّنًي والمؤمنين من عذابك, ومن مناقشة حسابك, ومن أليم عقابك, واجعل اللهم يا مؤمن يا مهيمن خوفك على قلبي وجوارحي مهيمناً, واجعل قلبي له محلاً ومسكناً, واجعلني من المتقين, وأسكني والمؤمنين غرف الفردوس الأعلى يا رب العالمين ويا أرحم الراحمين, وصلى الله على محمد وآله وأصحابه المتقين المؤمنين وسلم تسليماً كثيراً يا رب العالمين.

الفصل السادس العمل

الفصل السادس العمل

العمل

العمل العمل الصالح شرف وكرامة, وفضل واستقامة, فهو أساس الخير, وطريق الفلاح, وسبب النجاح, وثمرته الثواب في الدنيا والأخرى, وخير الناس من حسن عمله, وسلم من الشرور, وخير الأعمال ما رفع به صاحبه, ونفع اخوانه, ورضي عنه ربه, والعاقل يعتمد على عمله, والجاهل يعتمد على أمله, وفي الحديث الشريف أنه صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن خير الناس فقال: (خير الناس من طال عمره وحسن عمله) (¬1) . وفي الامثال السائرة: "غبار العمل خير من زعفارن العطلة", وقيل: "قيمة كل امرء ما يحسنه, وخير الأعمال ما كان ديمة". وقال احمد شوقي يحث العمال على العمل: أَيُّها العُمّالُ أَفنوا الـ ... ـعُمرَ كَدّاً وَاِكتِسابا وَاِعمُروا الأَرضَ فَلَولا ... سَعيُكُم أَمسَت يَبابا إِنَّ لي نُصحاً إِلَيكُم ... إِن أَذِنتُم وَعِتابا في زَمانٍ غَبِيَ النا ... صِحُ فيهِ أَو تَغابى أَينَ أَنتُم مِن جُدودٍ ... خَلَّدوا هَذا التُرابا قَلَّدوهُ الأَثَرَ المُعـ ... ـجِزَ وَالفَنَّ العُجابا وَكَسَوهُ أَبَدَ الدَهـ ... ـرِ مِنَ الفَخرِ ثِيابا أَتقَنوا الصَنعَةَ حَتّى ... أَخَذوا الخُلدَ اِغتِصابا ¬

_ (¬1) - أخرجه الترمذي في سننه باب ما جاء في طول عمر للمؤمن حديث (2329) .

العمل سبب الغنى

إِنَّ لِلمُتقِنِ عِندَ ... اللَهِ وَالناسِ ثَوابا أَتقِنوا يُحبِبكُمُ اللَـ ... ـهُ وَيَرفَعكُم جَنابا وما ينال الإنسان الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة إلا بالعمل, والعمل دعامة الحياة وقوامها, وأساس بناء المجتمعات واستقرارها, ونماؤها وازدهارها, وفي الذكر الحكيم: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} (¬1) . العمل سبب الغنى إذا أردت السلامة من الفاقة, والبعد عما يوجب الندامة, فاسعَ لكسب المال بأسبابه, وعليك بالعمل, وتجنب الكسل؛ فإن من زرع حصد, ومن جد وجد, ومن أراد أن يستغني عن الناس اجتهد, وفوض الأمر إلى الله واستعد, قال ربيعة بن الورد: إذا المرء لم يطلب معاشاً لنفسه ... شكى الفقر أو لام الصديق فأكثرا فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش في يسار أو تموت فتعذرا وقال الحريري: لا تقْعُدَنّ على ضُرٍّ ومسْغَبَةٍ ... لكيْ يُقالَ عزيزُ النّفسِ مُصطَبِرُ وانظُرْ بعينِكَ هل أرضٌ مُعطّلةٌ ... منَ النّباتِ كأرضٍ حفّها الشّجَرُ فعَدِّ عمّا تُشيرُ الأغْبِياءُ بهِ ... فأيُّ فضْلٍ لعودٍ ما لهُ ثمَرُ وارْحَلْ رِكابَكَ عن ربْعٍ ظمئتَ به ... إلى الجَنابِ الذي يَهمي بهِ المطَرُ واستَنزِلِ الرّيَّ من دَرّ السّحابِ فإنْ ... بُلّتْ يَداكَ بهِ فليَهنِكَ الظّفَرُ وإنْ رُدِدتَ فما في الرّدّ مَنقَصَةٌ ... عليكَ قد رُدّ موسى قبلُ والخَضِرُ وقال آخر: ولا تدع مقصداً حلالاً ... تكون منه على بيانِ أما علي بن الأزهر فهو يقول: وعليَّ ان أسعى وأطلب مكسباً ... والرزق ما قسم الإله وما قضى وفي الذكر الحكيم: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (¬2) , وظاهر النص يفيد أن الشريعة الإسلامية تحث على الانتاج والعمل واستثمار الموارد, وأهمية الحصول على الثروة والمال, وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالاستعاذة من الكسل فعن أنس بن مالك قال: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو أُمَامَةَ, فَقَالَ: (يَا أَبَا أُمَامَةَ مَا لِي أَرَاكَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلاةِ) , قَالَ: هُمُومٌ لَزِمَتْنِي وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: (أَفَلا أُعَلِّمُكَ كَلامًا إِذَا أَنْتَ قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّكَ وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ) , قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: (قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ) , قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمِّي ¬

_ (¬1) - سورة القارعة الآيتان (7و8) . (¬2) - سورة الملك الآية (15) .

البكور في طلب الرزق

وَقَضَى عَنِّي دَيْنِي (¬1) , وقد ذكَّر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله بما أسدى إليه من النعم وأكرمه من الغنى فقال: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} (¬2) . البكور في طلب الرزق البكور في طلب الخير خير, فالعاقل من الناس من يتنسم نسيم الصباح, ويبكر في عمله, فكل عمل يبتدأ به في البكور اتقن وتم, فإن التبكير يجلب الخير, ويكثر الربح, ويزيد في انجاز الأعمال واتمامها, والغفلة وقت الصبح تأخر الكسب, وتعطل السير في العمل, وتدعو إلى الكسل والفتور, وتضيع فرصة التقدم, والاتفاق على بدء العمل والسير فيه, فمن تأخر في النوم حتى تشرق الشمس جمد فكره, وخمدت قريحته, وضل تدبيره, وتأخر عمله, وحرم من نسيم الصبح العليل البليل, ومن سعة الرزق الوفير الغزير, وفي الحديث النبوي عن صخر الغامدي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اللَّهُمَّ بَارِكْ لأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا) , وَكَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشًا بَعَثَهُمْ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ, وَكَانَ صَخْرٌ رَجُلاً تَاجِرًا وَكَانَ يَبْعَثُ تِجَارَتَهُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فَأَثْرَى وَكَثُرَ مَالُهُ. (¬3) قال الشاعر: أَيُّها الغادونَ كَالنَحـ ... ـلِ اِرتِياداً وَطِلابا في بُكورِ الطَيرِ لِلرِز ... قِ مَجيئاً وَذَهابا ¬

_ (¬1) - أخرجه أبو داود في سننه باب في الاستعاذة حديث (1555) . (¬2) - سورة الضحى الآية (8) . (¬3) - أخرجه أبو داود في سننه باب في الابتكار في السفر حديث (2606) .

اِطلُبوا الحَقَّ بِرِفقٍ ... وَاِجعَلوا الواجِبَ دابا وَاِستَقيموا يَفتَحِ اللَـ ... ـهُ لَكُم باباً فَبابا إِنَّما العاقِلُ مَن يَجـ ... ـعَلُ لِلدَهرِ حِسابا فَاِذكُروا يَومَ مَشيبٍ ... فيهِ تَبكونَ الشَبابا إِنَّ لِلسِنِّ لَهَمّاً ... حينَ تَعلو وَعَذابا فَاِجعَلوا مِن مالِكُم ... لِلشَيبِ وَالضَعفِ نِصابا (¬1) فمن تدثر الخمول, ونام في البكور؛ فقد أحرم نفسه من بركة دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وضيع وقته وترك الحزم, وتجافى عن العزم. قال الشاعر: من ضيع الحزم في أوقاته ندم ... وظل مكتأباً والقلب قد سأمَ (¬2) ولمهذب الدين (¬3) : وإذا الكريمُ رأى الخُمُولَ نَزِيلَهُ ... في بَلدةٍ فالحَزْمُ أن يترحَّلا كَالبدرِ لَمّا أَنْ تَضاءَلَ جَدَّ في ... طَلَبِ الكَمالِ فَحازَهُ متَنقّلا سفَهَاً لحلْمِكَ إِنْ رَضِيتَ بمشْرَبٍ ... رَنِقٍ ورزقُ اللَّه قَد مَلأَ المَلا لا تَحْسَبَنَّ ذهابَ نفسكَ مِيتَةً ... ما الموتُ إلا أن تعيش مُذَلّلا ¬

_ (¬1) - هذه الأبيات لاحمد شوقي رحمه الله. (¬2) - هذا البيت لحسام الدين الواعظي. (¬3) - أحمد بن منير بن أحمد أبو الحسين مهذب الدين, شاعر مشهور من أهل طرابلس الشام، ولد بها وسكن دمشق ومدح السلطان الملك العادل محمود زنكي بأبلغ قصائده, وكان هجاءاً مرّاً حبسه صاحب دمشق على الهجاء وهمّ بقطع لسانه ثم اكتفى بنفيه منها, فرحل إلى حلب وتوفي بها, له (ديوان شعر-ط)

استقبل اليوم من أوله بثغرٍ باسم, وصدرٍ منشرح, وعزيمة قوية, ونفس ندية سخية, فالتبكير إلى العمل الصالح رزق تشهده, وخير تحصل عليه, وفي الحديث النبوي الشريف أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال لفاطمة رضي الله عنها: (يا بنية قومي اشهدي رزق ربك، ولا تكوني من الغافلين، فإن الله يقسم أرزاق الناس ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس) (¬1) , وفي ذلك ما يشعر بالنهي عن النوم في البكور كي لا يتعود الإنسان عليه وليتعود على العمل. وقد نسب إلى المأمون أنه قال: "الناس أربعة: عمارة, وتجارة, وصناعة, وزراعة, فمن لم يكن منهم صار عيالاً عليهم". (¬2) قال صلاح الدين الصفدي: الجد في الجد والحرمان في الكسل ... فانصب تصب عن قريب غاية الأمل وللإمام علي رضي الله عنه: إِصبِر عَلى مَضَضِ الإِدلاجِ في السَحَرِ ... وَفي الرَواحِ إِلى الحاجاتِ وَالبُكرِ لا تَضجَرَنَّ وَلا يَحزُنكَ مَطلَبُها ... فَالنَجحُ يَتلَفُ بَينَ العَجزِ والضَجَرِ إِنّي رَأَيتُ وَفي الأَيّامِ تَجرِبَةٌ ... لِلصَبرِ عاقِبَةٌ مَحمودَةُ الأَثَرِ وَقَلَّ مَن جَدَّ في أَمرٍ يُطالِبُهُ ... وَاِستَصحَبَ الصَبرَ إِلا فازَ بِالظَفَرِ وفي الأمثال السائرة: "إذا أخذت عملاً فقع فيه فإنما خيبته توقيه". ¬

_ (¬1) - رواه البيهقي في شعب الإيمان حديث (4550) , وسند الحديث ضعيف. وروى أيضاً عن علي وفاطمة معناه. وروى ابن ماجه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (نهى عن النوم قبل طلوع الشمس) . (¬2) - هامش الترغيب والترهيب ج2ص530.

الحرفة أو الصنعة ضرورة

وقديماً قيل: "إن يكن الشغل مجهدة فإن الفراغ مفسدة". وقال الشاعر: إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصداً ... ندمت على التفريط في زمن البذر وفي الحديث النبوي: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) (¬1) . الحرفة أو الصنعة ضرورة إن عمل الإنسان اليومي يعد ضرورةً لكسب الرزق, واستمرار الحياة, ومن المروءة أن يسعى الإنسان للتكسب على نفسه ومن يعول, واتخاذ حرفة أو صنعة أو وظيفية يعمل فيها المرء, فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يحترفون العمل, فكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يعمل قبل توليه الخلافة تاجراً، وكان خَبَّاب بن الأَرت حداداً، وعبد الله بن مسعود راعياً، وسعد بن أبي وقاص صانع نعال، وبلال ابن رباح خادماً، والزبير بن العوام خياطاً، وسلمان الفارسي حلاقاً، وروي أن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه سقى بالدلاء على تمرات، فالعمل شرف وعزة مهما رآه البعض وضيعاً, فقد روي عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره؛ خير له من أن يأتي رجلاً فيسأله أعطاه أو منعه) (¬2) , وقد روى الطبراني في الكبير والبيهقي أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (إن الله يُحِبُّ العَبْدَ المُؤْمِنَ المُحْتَرِفَ) (¬3) . وقال أبو العتاهية: وَلَيسَ عَلى عَبدٍ تَقِيٍّ نَقيصَةٌ ... إِذا صَحَّحَ التَقوى وَإِن حاكَ أَو حَجَم وقال آخر: يا بارئ القوس برياً ليس يحسنه ... لا تظلم القوس اعط القوس باريها فاحترام التخصص واتخاذ حرفة بعينها أو وظيفة بعينها سبب في اتقان العمل, واحكام الصنعة, قال الشاعر: وَكفّ فَتىً لم يَعرفِ السَّلخَ قَبلها ... تَجورُ يَداهُ في الإِهابِ وَتَخرُجُ وسأل معاوية رجلاً من عبد القيس: ما تعدون المروءة فيكم؟ قال: الحرفة والعفة, وكان عمر رضي الله عنه إذا نظر إلى رجل سأله: أله حرفة؟ فإذا قال: لا, سقط من عينه, ونظر عمر رضي الله عنه إلى أبي رافع وهو يقرأ ويصوغ, فقال: يا أبا رافع أنت خير مني تؤدي حق الله تعالى وحق مواليك, وقيل لأعرابي ينسج: ألا تستحيي أن تكون نساجاً؟ قال: إنما أستحيي أن أكون أخرق لا أنفع أهلي, وحرفة يقال فيها خير من مسألة الناس, وقيل: إن الله يحب التاجر الصدوق, والصانع الناصح لأنه حكيم. (¬4) أصناف الصناعات إن التصنيع يعتبر حجر الزاوية في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في شتى المجالات, ولهذا تتعدد أنواع الصناعات, فمن صناعة ¬

_ (¬1) - أخرجه البخاري في صحيحه باب بدء الوحي حديث (1) . (¬2) - صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب الاستعفاف من المسألة، حديث (1104) , وأورده احمد في مسنده، مسند أبي هريرة، حديث (7315) . (¬3) - أورده الإمام السيوطي في جامع الأحاديث والمراسيل، حديث (5570) , وأورده محمد بن سلامة بن شهاب القضاعي في مسنده، باب إن الله يحب المؤمن المحترف، حديث (1072) الناشر مؤسسة الرسالة, وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد، كتاب البيوع، باب الكسب والتجارة، حديث (1326) , ورواه الطبراني والبهقي والحكيم من حديث ابن عمر- وأورده النبهاني في الفتح الكبير في ضم الزيادات إلى الجامع الصغير, ج1ص312, طبعة1350هـ. (¬4) - محاضرات الأدباء ص176.

السيارات والطائرات والبواخر والسفن وهي ضرورة لتواصل الناس وانتقالهم إلى أعمالهم وحمل أثقالهم وأمتعتهم في أسفارهم, إلى صناعة الدبابات والصواريخ والمدرعات وهي ضرورة في إعداد المؤمنين القوة لأعدائهم, إلى صناعة الملابس والحلي والمجوهرات والمقتنيات, إلى صناعة الأدوات الهندسية والطبية والرياضية وصناعة الأدوية, إلى غير ذلك من أنواع الصناعات الالكترونية, وغيرها مما لا يكاد يندرج تحت حصر مما يحتاجه الناس في هذه الحياة, وكم من الصناعات والحلي والمنسوجات والمصنوعات ما يستخرج من الذهب والحديد والفضة والنحاس والرصاص والخشب والمواد البترولية ومشتقاتها إلى غير ذلك من الموارد الطبيعية التي تستخدم في الصناعة لتلبي رغبات الناس وتسد حاجاتهم, وكل هذه الصناعات شريف كسبها, عظيم نفعها, رفيع العمل فيها, كيف وقد عني القرآن الكريم بتوجيه الناس في آيات كثيرة تحثهم على ممارسة الصناعات, واستخراج خيرات الأرض, وجعلها صالحة لتلبية حاجات الناس المتعددة كما يقول جل شأن: {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (¬1) , ... وأخبر سبحانه عن تعليمه وإرشاده لنبي من أنبيائه في تصنيع الحديد فقال: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} (¬2) . ¬

_ (¬1) - سورة الحديد الآية (25) . (¬2) - سورة الأنبياء الآية (80) .

وقد كان أنبياء الله يعملون ويحبون العمل, وقد أرشدهم الله إلى الصناعة لعظيم نفعها فهذا نبي الله داود عليه السلام يأمره الله بقوله: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (¬1) , وهذا نوح عليه السلام يأمره الله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} (¬2) , وهذا زكريا عليه السلام يخبر عنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان نجاراً إذا يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (كان زكريا نجاراً) (¬3) , وقد كان ادريس عليه السلام خياطاً وموسى عليه السلام راعياً وتاجراً, وفي ذلك اعلاء لشأن العمل ودليل على شرف العاملين, وفي الحديث النبوي: (مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ) (¬4) . وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرعى الغنم لأهل مكة بالقراريط قال سويد: يعني كل شاة بقيراط (¬5) . ¬

_ (¬1) - سورة سبأ الآية (11) . (¬2) - سورة هود الآيتان (38و37) . (¬3) - أخرجه ابن ماجه في سننه باب التجارة باب الصناعات حديث (2150) . (¬4) - صحيح البخاري كتاب البيوع باب كسب الرجل وعمله بيده حديث (1966) . (¬5) - ابن ماجه في سننه باب التجارة باب الصناعات حديث (2149) .

إتقان العمل

إتقان العمل العاقل من يؤدي واجبه ويتقن عمله ويحسن صنعته حتى يكسب الناس ثقته, فمن أخلص في عمله نجح, وأحبه الله والناس, فما يكاد الناس يرون صنعة متقنة حتى يقبلون عليها ويثقون فيها, فمن غش في عمله ظلم نفسه, وأهدر ثقته, وكسدت بضاعته, وتجنب الناس التعامل معه, ومن أخلص في عمله ووظيفته أدى أمانته, وارتفعت مكانته, وأقبلت عليه الدنيا, وأمن من العذاب والإهانة, وساعده زمانه, وظفر بحب المجتمع واحترامه, كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وِآلِهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَمِلَ عَمَلاً أَثْبَتَهُ (¬1) , فإتقان العمل يدل على كمال العامل. قال الشاعر: في ازديادِ العلمِ إرغامُ العِدى ... وجمالُ العلمِ يا صاحِ العملْ قيمةُ الإنسانِ ما يحسِنُهُ ... أكثرَ الإنسانُ منهُ أوْ أقلْ واكتمِ الأمرينِ فقراً وغنىً ... واكسبِ الفلسَ وحاسبْ مَنْ بَطَلْ وادّرعْ جداً وكداً واجتنبْ ... صحبةَ الحمقى وأربابِ البخلْ (¬2) أما سليمان بن أبي الحفاظ الحجوري اليمني فإنه يقول: ألا إنما الإنسان أهل لفعله ... وكل لما يأتي من فعله أهل والإنسان مجزي بعمله إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً, ويرى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن الإنسان يلقى عمله في قبره فيقول: يا مَن بِدُنياهُ اِشتَغَل ... وَغَرَّهُ طولُ الأَمَل المَوتُ يَأتي بَغتَةً ... والقبرُ صندوقُ العَمَل أما أبو العتاهية فهو يقول: ¬

_ (¬1) - رواه مسلم في صحيحه باب جامع صلاة الليل حديث (746) . (¬2) - هذه الأبيات لابن الوردي.

وَاِعلَم بِأَنَّكَ مَسؤولٌ وَمُفتَحَصٌ ... عَمّا عَمِلتَ وَمَعروضٌ عَلى العَمَلِ ولله در شوقي حيث يقول: كُن نَشيطاً عامِلاً جَمَّ الأَمَل ... إِنَّما الصِحَّةُ وَالرِزقُ العَمَل كُلُّ ما أَتقَنتَ مَحبوبٌ وَجيه ... مُتقَنُ الأَعمالِ سِرُّ اللَهِ فيه يُقبِلُ الناسُ عَلى الشَيءِ الحَسَن ... كُلُّ شَيءٍ بِجَزاءٍ وَثَمَن اِنظُرِ الآثارَ ما أَزيَنَها ... قَد حَباها الخُلدَ مَن أَتقَنَها تِلكَ آثارُ بَني مِصرَ الأُوَل ... أَتقَنوا الصَنعَةَ حَتّى في الجُعَل أَيُّها التاجِرُ بُلِّغتَ الأَرَب ... طالِعُ التاجِرِ في حُسنِ الأَدَب بابُ حانوتِكَ بابُ الرازِقِ ... لا تُفارِق بابَهُ أَو فارِقِ وَاِحتَرِم في بابِهِ مَن دَخَلا ... كُلُّهُم مِنهُ رَسولٌ وَصَلا تاجِرُ القَومِ صَدوقٌ وَأَمين ... لَفظَةٌ مِن فيهِ لِلقَومِ يَمين ويقول أيضاً: العِلمُ لا يُعلي المَراتِبَ وَحدَهُ ... كَم قَدَّمَ العَمَلُ الرِجالَ وَأَخَّرا فبالعمل يبلغ الأمل, ويلبس أبهى الحلل, ونعم الرجل الفاضل العامل, وقد أحسن القائل: ما دامَ رائِدَنا الإِخلاصُ في العَمَلِ ... لا بُدَّ نَبلغُ يَوماً غايَةَ الأَمَلِ أَمران مَن يَعتَصِم يَوماً بحَبلهما ... فَالنُجحُ رائِدهُ في أَيِّما عَملِ هُما الثَباتُ وَتَوحيدُ القُلوبِ لِذا ... إِلَيهِما قد دعانا خاتَمُ الرُسُلِ

البحث عن العمل

البحث عن العمل الحر يبحث عن العمل, ويبتعد عن الكسل, ويعتمد على الله عز وجل, ويتأسى بهدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, ففي ذلك فلاح ونجاح, ورشدٌ وإصلاح, وقد جاء في الذكر الحكيم: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (¬1) , وقال جل شأنه: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬2) . القصة أخرج البيهقي في السنن الكبرى من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجلاً من الأنصار جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يشكو فاقته، فقال: يا رسول الله، لقد جئتك من أهل بيت ما أراني أرجع إليهم حتى يموت بعضهم، فقال: (انطلق هل تجد من شيء؟) فانطلق، فجاء بحلس بساطٍ يجعل على ظهر البعير وقدح، فقالَ: يا رسولَ الله هَذَا الحِلْسُ كانُوا يَفْتَرِشُونَ بَعْضَهُ ويَلْبَسُونَ بَعْضَهُ، وهَذَا القَدَحُ كانُوا يشربونَ فيهِ، فقالَ رسولُ الله: (مَنْ يَأْخُذُهُمَا مِنِّي بِدِرْهَمٍ) ، فقالَ رجلٌ: أَنَا يا رسولَ الله، فقالَ رسولُ الله: (مَنْ يَزِيدُ على دِرْهَمٍ) ، فقالَ رجلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا ¬

_ (¬1) - سورة الملك الآية (15) . (¬2) - سورة الجمعة الآية (10) .

إعطاء العامل أجره

باثنينِ، فقالَ: (هُمَا لكَ) ، قالَ: فَدَعَا الرجلَ فقالَ لهُ: (اشْتَرِ بِدِرْهَمٍ فَأْساً وبِدِرْهَمٍ طعاماً لأَهْلِكَ) ، قالَ: فَفَعَلَ، ثم رجعَ إلى النبيِّ، فقالَ: (انْطَلِقْ إلى هَذَا الوَادِي فَلاَ تَدَعْ حَاجًا ولا شَوْكاً ولا حَطَباً، ولا تَأْتِنِي خَمْسَةَ عَشَرَ يوماً) ، قالَ: فَانْطَلَقَ فأصابَ عَشَرَةً قالَ: (فانْطَلِقْ فاشْتَرِ بِخَمْسَةٍ طعاماً لأَهْلِكَ) ، فقالَ: يا رسولَ الله لقد بارَكَ الله لِي فيما أَمَرْتَنِي فقالَ: (هَذَا خيرٌ من أَنْ تَجِىءَ يومَ القيامةِ وفي وَجْهِكَ نُكْتَةُ المَسْئَلَةِ، إنَّ المَسْئَلَةَ لا تَصْلُحُ إلا لثلاثةٍ: لذِي دَمٍ مُوْجِعٍ أو غُرْمٍ مُفْظَعٍ أَو فَقْرٍ مُفْقِعٍ) (¬1) . إعطاء العامل أجره إعطاء العامل أجره وثمرة جهده فرض لازم, جاحده ظالم, والمتغافل عنه نادم, وفي الحديث النبوي الشريف: (اعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) (¬2) , وفي الحديث القدسي: (قَالَ اللَّهُ ثَلاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ, وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ, وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ) (¬3) . إعطاء العامل حظه من الراحة إذا كانت طاقة الإنسان محدودة وساعات عمله معدودة فإن التكلف فوق الطاقة يفضي إلى المشقة والتعب الذي يوقع الإنسان في الضيق والنكد, وتكليف الإنسان نفسه أو غيره فوق الطاقة من العمل غير محمود ولا ¬

_ (¬1) - أورده البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الصدقات، باب لا وقت فيما يعطى للفقراء والمساكين، حديث (13373) . (¬2) - ابن ماجه في سننه كتاب الرهون باب اجر الأجراء حديث (2443) . (¬3) - صحيح البخاري باب إثم من باع حراً حديث (2114) .

بعث الهمم على العمل

مرغوب, وفي الذكر الحكيم: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (¬1) , وقد جاء في الحديث النبوي: (خذوا من الأعمال ما تطيقون) (¬2) , وجاء في حديث آخر: (إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى) (¬3) , فالراحة والاستجمام خير وسيلة لاستئناف العمل, فمن أعطى نفسه حظها من الراحة فقد أعطى حق البدن في الاستراحة, وفي الحديث النبوي: (إن لجسدك عليك حقاً) (¬4) , فمن أخذ بهدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ظفر, وفي القرآن الحكيم: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬5) . بعث الهمم على العمل إن بعث الهمم على العمل الصالح وإتقانه طريق فلاح المؤمن ونجاحه, وهو دليلٌ على صدق إيمانه, وإنما يرث الإنسان الكرامة والسعادة والخلود في الجنة بالعمل الصالح, قال تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬6) , فالإنسان المؤمن إذا أدرك في نفسه الوهن وأنه قد أصيب بالملل والضجر والسأم بعث في نفسه الهمم بالاستعانة بالله الواحد الأحد ¬

_ (¬1) - سورة البقرة الآية (286) . (¬2) - صحيح البخاري كتاب اللباس باب الجلوس على الحصير ونحوه حديث (5523) . (¬3) - البيهقي في السنن الكبرى كتاب الصلاة ج3ص28 حديث (4743) , الطبعة الثالثة 1427هـ. (¬4) - صحيح البخاري كتاب الصوم باب حق الجسم في الصوم حديث (1975) , وصحيح مسلم كتاب الثوم باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به حديث (1159) . (¬5) - سورة التوبة الآية (105) . (¬6) - سورة الزخرف الآية (72) .

الباعث في أسماء الله الحسنى

الباعث للهمم, فهو الذي يقيه الضعف والوهن ويبعث في نفسه النشاط على العمل الحسن, فالإسلام دين يدعو إلى العمل الصالح الأتم, وفي الذكر الحكيم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (¬1) . الباعث في أسماء الله الحسنى اسم الله الباعث لم يرد في القرآن الكريم بصيغة الباعث ولكن بصيغة الفعل قال تعالى: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى} (¬2) , وقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ} (¬3) , وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} (¬4) , وقال: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً} (¬5) , وجاء في سورة الحج: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ} (¬6) . وقد ورد في السنة: (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) (¬7) ، وقد روى الترمذي: (إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً غَيْرَ وَاحِدٍ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) وعد منها: (الباعث) . ¬

_ (¬1) - سورة الجمعة الآية (2) . (¬2) - سورة الأنعام الآية (60) . (¬3) - سورة الجمعة الآية (2) . (¬4) - سورة النحل الآية (36) . (¬5) - سورة الكهف الآية (12) . (¬6) - سورة الحج الآية (7) . (¬7) - صحيح البخاري باب ان لله مائة اسم إلا واحداً حديث (6957) .

فوجب على المكلف أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى الباعث, باعث الموتى ومنشؤهم وخالقهم ومعيدهم, فهو سبحانه الباعث للأموات, والباعث للأرواح والأجساد والرسل والخواطر. وقال الرازي: والباعث في صفة الله تعالى يحتمل وجوهاً: الأول: أنه تعالى باعث الخلق يوم القيامة, كما قال سبحانه: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ} . والثاني: أنه تعالى باعث الرسل إلى الخلق: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} . والثالث: أنه تعالى يبعث عباده عند العجز بالمعونة والإغاثة وعند الذنب بقبول التوبة. (¬1) فلهذا الاسم معاني كثيرة منها: أن الله باعث الخلق يوم القيامة, ومنها: أن الله جل شأنه باعث الرسل, ومنها: أنه باعث عباده عند العجز بالمعونة. وقال الدكتور محمد النابلسي: إن الله يبعث عباده على الأفعال المخصوصة إما تحقيقاً لاختيارهم أو تأديباً لهم أو مكافأةً لهم, فالله عز وجل يبعث بالمعنى الأول يحقق لك اختيارك وبالمعنى الثاني يكافئك على حسن اختيارك أو يؤدبك على سوء اختيارك, هذا التيسير الأول لتحقيق الاختيار أما الثاني فهو لدفع ثمن الاختيار. (¬2) ¬

_ (¬1) - الأسماء الحسنى للرازي ص276, والجامع لأسماء الله الحسنى ص37. (¬2) - موسوعة اسماء الله الحسنى ص8.

ثمرة معرفة اسم الله الباعث

ثمرة معرفة اسم الله الباعث إذا عرف المكلف أن الله تعالى هو الباعث للأموات والباعث على فعل الخيرات والباعث للرسل إلى عباده ليعبدوه سبحانه وتعالى ويوحدوه, وأنه الباعث للهمم للترقي في ساحة التوحيد بهدايته وتوفيقه, وأنه الذي يبعث الإنسان على عليات الأمور؛ وجب عليه أن يؤمن به سبحانه وتعالى, ويسعى إلى معرفته وطاعته والإقبال عليه, وأن يبعث نفسه كما يريد الله تعالى فلا يأتي من الأفعال إلا ما كان مطابقاً لكتاب الله وسنة رسوله, وأن يتأدب مع جلال الله الباعث, فهو الذي يبعث ويجازي بالثواب والعقاب, فيشغل وقته كله بطاعة الله الباعث الوهاب, فيبعث قلبه على اليقين ولسانه على الذكر وجوارحه على العمل, ويلزم نفسه قبول باعث الحق ورد باعث الباطل. قال الرازي: إن العبد إذا سعى إلى التعلم بعث روحه بعد الموت, وإذا سعى في تعليم الجهلاء فكأنه يبعث أرواحهم بعد موتها. (¬1) فالمؤمن باسم الله الباعث يحقق إيمانه بالعمل حتى يكون ممن أدرك الفلاح وتزود للدار الآخرة وتصفح أعماله وحاسب نفسه وجعل أعماله متوافقة مع منهج ربه. قال الخليفة الراشد أبو بكر الصديق (¬2) رضي الله عنه: وَكُلُّهُم لِلَّهِ في البَعثِ مُنشَرٌ ... مُجازىً مُوَفّىً حَقَّهُ لَيسَ يُبخَسُ ¬

_ (¬1) - الأسماء الحسنى للرازي ص277, والجامع لأسماء الله الحسنى ص38. (¬2) - عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن كعب التيمي القرشي, (51ق. هـ- 13هـ/573-634م) , أول الخلفاء الراشدين، وأول من آمن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الرجال، وأحد أعاظم العرب, ولد بمكة، ونشأ سيداً من سادات قريش، وغنياً من كبار موسريهم وعالماً بأنساب القبائل وأخبارها وسياستها، وكانت العرب تلقبه بعالم قريش, وحرم على نفسه الخمر في الجاهلية، فلم يشربها، وكانت له في عصر النبوة مواقف كبيرة، فشهد الحروب، واحتمل الشدائد، وبذل الأموال وبويع بالخلافة يوم وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم سنة 11 هـ، فحارب المرتدين، والممتنعين من دفع الزكاة، وافتتحت في أيامه بلاد الشام وقسم كبير في العراق, وكان موصوفاً بالحلم والرأفة بالعامة، خطيباً لسناً، وشجاعاً بطلاً مدة خلافته سنتان وثلاثة أشهر ونصف شهر، وتوفي في المدينة, كان يلقب بالصديق.

الدعاء باسم الله الباعث

الدعاء باسم الله الباعث اللهم يا باعث يا شهيد ثبتني والمؤمنين في البعث بالقول الثابت والتوحيد وألهمني حمدك وذكرك يا مجيد, وسلمني والمؤمنين من العذاب الشديد, وتفضل عليَّ بما أوليت أولياءك من الكرامة والفردوس الأعلى من الجنة إنك حميد مجيد, وصلى الله على محمد وآله وأصحابه وأزواجه وذريته وأهل بيته وسلم تسليماً كثيراً.

الفصل السابع السفر والسياحة

الفصل السابع السفر والسياحة

السفر والسياحة

السفر والسياحة السفر يطيب الخواطر, ويجدد الأفكار, ويخرج الإنسان من سجن اليأس والإحباط إلى شمس الأمل والسرور, فجولة في أرض وارفة الظلال تتمايل على جنباتها أزهار بهية متنوعة قد تصفي ذهنك وتغير مجرى تفكيرك, وفي الأمثال السائرة: "الحركة ولود والسكون عاقر", وفي أمثال العامة: "الحركة بركة", وقد جاء في الذكر الحكيم: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (¬1) , وروي أن الخليفة العباسي المأمون كان يقول: "لا شيء ألذ من السفر فيه كفاية وعافية لأنك تحل كل يوم في محلة لم تحل فيها وتعاشر قوماً لم تعرفهم", قال الشاعر: ما في المَقامِ لِذي عَقلٍ وَذي أَدَبِ ... مِن راحَةٍ فَدَعِ الأَوطانَ وَاِغتَرِبِ سافِر تَجِد عِوَضاً عَمَّن تُفارِقُهُ ... وَاِنصَب فَإِنَّ لَذيذَ العَيشِ في النَصَبِ إِنّي رَأَيتُ وُقوفَ الماءِ يُفسِدُهُ ... إِن ساحَ طابَ وَإِن لَم يَجرِ لَم يَطِبِ وَالأُسدُ لَولا فِراقُ الأَرضِ مااِفتَرَسَت ... وَالسَهمُ لَولا فِراقُ القَوسِ لَم يُصِبِ وَالشَمسُ لَو وَقَفَت في الفُلكِ دائِمَةً ... لَمَلَّها الناسُ مِن عُجمٍ وَمِن عَرَبِ وَالتِبرُ كَالتُربِ مُلقىً في أَماكِنِهِ ... وَالعودُ في أَرضِهِ نَوعٌ مِنَ الحَطَبِ فَإِن تَغَرَّبَ هَذا عَزَّ مَطلَبُهُ ... وَإِن تَغَرَّبَ ذاكَ عَزَّ كَالذَهَبِ (¬2) ¬

_ (¬1) - سورة الرعد الآية (4) . (¬2) - ديوان الإمام الشافعي ص24.

حقيقة السفر

وفي الحديث النبوي: (لو يعلم الناس ما للمسافر لأصبحوا على ظهر سفر إن الله عز وجل ينظر إلى الغريب كل يوم ألف مرة) (¬1) . وفي الأمثال السائرة: "الإغراب يعيد الجَدّة ويفيد الحِدّة", وقيل: "الغريب من لم يكن له حبيب", وقيل: "كل غريب للغريب نسيب". قال الشاعر: أعاذل حبي للغريب سجية ... وكل غريب للغريب حبيب وقال آخر: أجارتنا إنَّا غريبان هاهنا ... وكل غريب للغريب نسيبُ وفي الحديث النبوي: (سَافِرُوا تَصِحُّوا وَتُرْزَقُوا) (¬2) , فدل على ما فيه سبب الغنى. حقيقة السفر السفر: هو قطع المسافة اسم مصدر سافر إذا خرج للارتحال أو لقصد مسافة فوق مسافة العدو, وفي المصباح: وسمي سفراً لأنه يسفر عن أخلاق الرجال لأن العرب لا يسمون مسافة العدو سفراً وقال بعض المصنفين: أقل السفر يوماً كأنه أخذ من قوله تعالى: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} (¬3) , فإن في التفسير كان أصل أسفارهم يوماً يقبلون في موضع ويبيتون في موضع ولا ¬

_ (¬1) - انظر: الفردوس بمأثور الخطاب ج3ص348 حديث (5050) , والمقاصد الحسنة للسخاوي ج1ص549 حديث (895) , وتنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة ج2ص222 حديث (30) , كشف الخفاء ج2ص158 حديث (2104) , وإرواء الغليل ج5ص384 حديث (225/1) . (¬2) - أخرجه البيهقي في السنن الكبرى حديث (95) . (¬3) - سورة سبأ الآية (19) .

يتزودون. (¬1) وفي الذكر الحكيم: {وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬2) , وقال جل شأنه: {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} (¬3) , وقال: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (¬4) , وقال عظمت حكمته: {لإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} (¬5) . ويرحم الله شوقي حيث يقول: وَجَدتُ الحَياةَ طَريقَ الزُمَر ... إِلى بَعثَةٍ وَشُؤونٍ أُخَر وَما باطِلاً يَنزِلُ النازِلون ... وَلا عَبَثاً يُزمِعونَ السَفَر فَلا تَحتَقِر عالَماً أَنتَ فيهِ ... وَلا تَجحَدِ الآخَرَ المُنتَظَر وَخُذ لَكَ زادَينِ مِن سيرَةٍ ... وَمِن عَمَلٍ صالِحٍ يُدَّخَر وَكُن في الطَريقِ عَفيفَ الخُطا ... شَريفَ السَماعِ كَريمَ النَظَر وَلا تَخلُ مِن عَمَلٍ فَوقَهُ ... تَعِش غَيرَ عَبدٍ وَلا مُحتَقَر وَكُن رَجُلاً إِن أَتَوا بَعدَهُ ... يَقولونَ مَرَّ وَهَذا الأَثَر ¬

_ (¬1) - المصباح المنير ص168. (¬2) - سورة هود الآية (41) . (¬3) - سورة الزخرف الآيتان (12و13) . (¬4) - سورة القصص الآية (85) . (¬5) - سورة قريش.

السفر فيه قضاء الحوائج

السفر فيه قضاء الحوائج السفر فيه قضاء الحوائج والحصول على الرغائب وصلة الأرحام والتفكر فيما خلق الله من النبات والأنعام, والاستمتاع بنعم الله الجليل المنان, والاستفادة من الراحة في غير سذاجة ولا غاغة, والاتعاظ والاعتبار بسنن الله القوي الجبار, قال تعالى: {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} (¬1) , وقال جل شأنه: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬2) , وقال تعالى: {فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} (¬3) . آيات تدعوك إلى التنقل والتدبر وإلى الأسفار والسياحة والتفكر, لتكون كالماء السائح الطاهر لا كالماء الساكن الفاسد, قال شاعر: تغرب فالتغرب فيه نفعٌ ... وشرق إن بريقك قد شرقنا (¬4) إن تفريغ الرئتين مما علق بهما من غبار الزحام وغبار المركبات وتلوث الهواء لا يمكن إلا بفسحة أو نزهة في طبيعة ذات نسيم عذب, وهدرة ماءٍ رقراق, وحلة ندية خضراء, بعيدٌ عن السفه والمجون, قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ ¬

_ (¬1) - سورة يونس الآية (101) . (¬2) - سورة العنكبوت الآية (20) . (¬3) - سورة التوبة الآية (2) . (¬4) - عيون الأمل ص80.

النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (¬1) . التغيير بالسفر يكسر (الروتين) وينقي الفكر كل منا يحتاج إلى التغيير والتنويع حتى يعيش حياته مفعماً بالآمال, طامحاًً إلى النجاح فيها والانتصار لا يريد أن يعيشها على نسق واحد مملوءة بالضجر والملل, يذهب إلى عمله في وقت محدد وتمضي ساعات العمل على وتيرة واحدة في كل يوم ثم يعود في وقت محدد وهكذا دواليك يكرر كل يوم ما فعل في الأمس حتى يمل عمله أو يكون عاطلاً فتقتله البطالة والفراغ ولا يستغل فراغه فيما يطور به إنتاجه ويجدد به حياته, أو يتنقل ليتعلّم مما يراه كيف يكون إنساناً مبدعاً يعتمد على الرحمن ويبتعد عن الأوهام, وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ) (¬2) . إن العمر الذي يسير على نسق واحد هو عمر ميت لا طائل منه يعيش, صاحبه مسجوناً في (روتينه) في زمانه ومكانه, فإما أن يقل إنتاجه أو يمل عمله ويشعر أخيراً بأنه معطل العقل والروح فهو كآلة يؤدي عمله من غير إحساس أو شعور دون أن يسعى إلى التجديد والتنويع بين الحين والحين فينظر في هذا الكون الرحيب ليزيل ما اعترى نفسه من أزمات وآهات ¬

_ (¬1) - سورة الأنعام الآية (99) . (¬2) - أخرجه البخاري في صحيحه باب لا عيش إلا عيش الآخرة حديث (5933) .

تكبت طاقته وتقتل مواهبه, فمن حبس عقله في نمط واحد من التفكير أصابته البلاهة وانقبض قلبه فقتل حينئذٍ نبضاته أو تتبلد مشاعره وتكثر آهاته فيغفل عن حياته الدينية والدنيوية. وفي الحديث النبوي الشريف الذي رواه مسلم: (وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً) (¬1) , وفي رواية: (روحوا القلوب ساعةً فساعة) (¬2) . فالحياة جميلة بتنوعها مملة (بروتينها) لا تستبين معانيها إلا بوجود الأضداد وباختلاف الأزمنة والأمكنة, قال الشاعر: تجمعن من شتى ثلاث وأربع ... وواحدة حتى كملن ثمانيا سليمى وسلمى والرباب وأختها ... وسعدى ولبنى والمنى وقطانيا فالسعادة التي ينشدها كل إنسان متوقفة على ما يدخل عقله من أفكار, فإذا استقبل ما صح وجمل من الأفكار واستبعد ما غلظ وقبح منها نال السعادة وفي الذكر الحكيم: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (¬3) . فسبحان من غاير بين المخلوقات لتتجدد حياة الإنسان في مختلف الأوقات فقال سبحانه: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} (¬4) , ... وقال جل شأنه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ ¬

_ (¬1) - أخرجه مسلم في صحيحه باب فضل دوام الذكر حديث (4937) . (¬2) - أخرجه الديلمي في المسند حديث (3181) . (¬3) - سورة الرعد الآية (11) . (¬4) - سورة الزمر الآية (5) .

يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬1) . فسلامة التفكير تجلب السعادة والسلامة, فأنت الذي تلون حياتك بمنظارك الخاص, فإذا استجلبت فكراً خبيثاً أسود لا بد أن يشقيك, وإذا استجلبت فكراً صالحاً نيراً فسيحولك إلى إنسان سعيد وديع, وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ, قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ قَالَ: لا بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ, فَقَالَ لَهُ: لا بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ, قَالَ: قُلْتُ: طَهُورٌ كَلاَّ بَلْ هِيَ حُمَّى تَفُورُ أَوْ تَثُورُ عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ تُزِيرُهُ الْقُبُورَ, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: فَنَعَمْ إِذًا) (¬2) أي فلتكن إذاً كما وصفتها طالما يلفك اليأس ويغذي فكرك السخط والتذمر, إنها حقيقة يؤكدها علماء النفس والتربية فهم يتفقون على أن معظم الأمراض النفسية الناجمة عن ضغوط الحياة وأحداثها إنما هي في الأصل ناتجة لأنماط خطأ في التفكير (¬3) , وإن الفكر السليم يأتي في النظر والتفكر في خلق السماوات والأرض وفي الذكر الحكيم: {إِنَّ فِي خَلْقِ ¬

_ (¬1) - سورة القصص الآيات (71-73) . (¬2) - أخرجه البخاري في صحيحه باب علامة النبوة في الإسلام حديث (3347) . (¬3) - عيون الأمل ص76.

علاج (الروتين) الممل

السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (¬1) . علاج (الروتين) الممل لقد عالج الإسلام هذه الظاهرة التي تجتاح العالم فدعى إلى التنويع والتجديد فغاير سبحانه وتعالى بين الزمان والمكان وجعل الأيام دولاً بين بني الإنسان, قال تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (¬2) . وغاير بين العبادات والطاعات فقال جل شأنه: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (¬3) , وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬4) , وقال جل شأنه: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (¬5) . وغاير بين الألوان فقال جلت حكمته: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} (¬6) . ¬

_ (¬1) - سورة البقرة الآية (164) . (¬2) - سورة آل عمران الآية (140) . (¬3) - سورة البقرة الآية (3) . (¬4) - سورة البقرة الآية (183) . (¬5) - سورة آل عمران الآية (97) . (¬6) - سورة فاطر الآية (27) .

وغاير بين الزروع والثمار فقال سبحانه: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (¬1) . وغاير في الحركات عند الذِكر بحسب الأحوال فقال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (¬2) . إذا عرفت هذا عرفت أن النفس الإنسانية بعد كل شوط تقطعه في حياتها تحتاج إلى أن يتعهدها صاحبها بالتجديد والتنويع بين الحين والحين, وما الذي يمنعه أن يتنقل في هذه الأرض ويتذكر نعم الله عليه وهو الذي وهبه الحياة وخلق له ما في الأرض جميعاً قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬3) . فكل ما تراه من جمال أودعه الله تعالى هذه الأرض وهذا الكون هو لبني الإنسان فتمتع بالحلال وإياك أن تقع في الآثام وإلا فما قيمة الحدائق البهيجة والأنهار النميرة إن لم تستمتع بها العيون, وتقرأ في صفحاتها كلام الحي القيوم, من غير ملل أو كلل, ما قيمتها إن لم تبتسم لها الشفاة وتردد بلابلها أنشودة الخطا والمسير. ¬

_ (¬1) - سورة الرعد الآية (4) . (¬2) - سورة آل عمران الآية (191) . (¬3) - سورة البقرة الآية (29) .

تأكد من قدرتك الصحية على السفر

فعش حياتك آملاً مستبشراً وتجشم صعود الجبال, فالموت على ظهر جبل وأنت تعاني الصعود خير من الحياة الخسيسة على حافة مستنقع نتن, واستمع إلى هذا الشاعر وهو يقول: إِذا مَا طَمحْتُ إلى غايةٍ ... رَكِبتُ المنى ونَسيتُ الحَذرْ ومن لا يحبُّ صُعودَ الجبالِ ... يَعِشْ أبَدَ الدَّهرِ بَيْنَ الحُفَرْ تأكد من قدرتك الصحية على السفر بعد ظهور وسائل المواصلات الحديثة كالطائرات والقطار والباخرة والسيارة أصبح غالب الناس إن لم يكن الكل بمقدورهم السفر لمسافات بعيدة سواءً كان شاباً أو شيخاً أو امرأة, ومن هنا نشأ طب السفر, وصار من الضرورة أن يتعرف الإنسان على الحالة الصحية لديه وعلى اللقاحات اللازمة أو الأدوية التي يعتمد عليها, فقياس عامل الخطر الصحي يستلزم استشارة الطبيب قبل السفر بوقت كاف لأخذ اللقاحات فهناك بلدان ينتشر فيها الملاريا أو التيفود أو حمى الضنك, وهذه البلدان عند ضرورة السفر إليها لا بد من أخذ اللقاحات التي ينتشر فيها هذه الأمراض وأخذ ارشادات الطبيب الذي ربما أعطى المسافر أدوية وقائية وقد ينصح بالوقاية من لسعات البعوض أو غير ذلك, فالأمر بالتداوي والاحتماء من من هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ففي الحديث: (تداووا فإن الله لم ينزل داء إلاّ أنزل له شفاء، علِمَه من علِمَه وجهِلَه من جهِلَه) (¬1) . ¬

_ (¬1) - أخرجه أحمد في المسند، عن أسامة بن شريك، حديث (18111) .

آداب السفر

ويفضل عدم السفر إلى البلدان التي تنتشر فيها الأوبئة المعدية فقد جاء في الحديث النبوي: (إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَدْخُلُوهَا وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ فِيهَا فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا) (¬1) ، وفي رواية للبخاري أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (لا توردوا الممرض على المصح) (¬2) , وذلك من أجل الاحتماء وعدم وقوع الضرر, فتأكد من أخذ جميع اللقاحات الروتينية مثل التيتانوس (الكزاز) حتى لا تتعرض بالاصابة بالمرض عند التعرض لجرح بسيط ملوث بالتيتانوس, وكذلك التطعيم ضد التهاب الكبد الوبائي, وتأكد من ضبط الجرعة الدوائية إن كنت مصاب بضغط الدم أو السكر أو غير ذلك, لتكن في سفرك وإقامتك سعيداً تؤدي واجبك وتستمتع بحياتك بهمة عالية بعيداً عن الهموم. آداب السفر إذا أردت أن تسافر فعليك بإعداد النفقة والزاد للسفر من الحلال الطيب, فقد أثر عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "من كرم الرجل طيب زاده في سفره", وفي الذكر الحكيم: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (¬3) , وقد ذكر بعض المفسرين بأنها نزلت في حق قوم كانوا يحجون ولا يتزودون, وفي سورة آل عمران: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ ¬

_ (¬1) - أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجنائز، باب الخروج من الطاعون، حديث (3103) . (¬2) - صحيح البخاري، كتاب الطب، باب لا عدوى، حديث (5774) . (¬3) - سورة البقرة الآية (197) .

اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (¬1) , ذكر المفسرون أن الاستطاعة هي الزاد والراحلة. ومن آداب السفر اخراج نفقة من تلزمك نفقته كالزوجة والولد حتى لا يكونوا عالة على غيرك ففي الحديث النبوي: (كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ) (¬2) . ومن أدب السفر أن يودع المسافر أهله واخوانه وأصدقاءه وأن يشملهم بدعائه: (أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ) (¬3) , وعند ذلك يرد المودعون على المسافر بما ورد في الحديث: (زَوَّدَكَ اللَّهُ التَّقْوَى, وَغَفَرَ ذَنْبَكَ, وَيَسَّرَ لَكَ الْخَيْرَ حَيْثُمَا كُنْتَ) (¬4) . وإن سأل المسافر من يودعه الدعاء كان خيراً له, ولقد كان من عادة العرب توديع أحبتهم وأصدقائهم ورد ذلك في أشعارهم وأخبارهم, قال ابن زريق: اِستَودِعُ اللَهَ فِي بَغدادَ لِي قَمَراً ... بِالكَرخِ مِن فَلَكِ الأَزرارَ مَطلَعُهُ وَدَّعتُهُ وَبوُدّي لَو يُوَدِّعُنِي ... صَفوَ الحَياةِ وَأَنّي لا أَودعُهُ وَكَم تَشبَّثَ بي يَومَ الرَحيلِ ضُحَىً ... وَأَدمُعِي مُستَهِلّاتٍ وَأَدمُعُهُ ويغفر الله للقائل: ¬

_ (¬1) - الآية (97) . (¬2) - أخرجه أبو داود في سننه باب في صلة الرحم حديث (1442) . (¬3) - أخرجه الترمذي في سننه باب ما يقول إذا ودع إنسانا حديث (3365) . (¬4) - أخرجه الترمذي في سننه باب ما يقول إذا ودع إنسانا حديث (3366) .

لِلَّهوِ آوِنَةٌ تَمُرُّ كَأَنَّها ... قُبَلٌ يُزَوَّدُها حَبيبٌ راحِلُ جَمَحَ الزَمانُ فَما لَذيذٌ خالِصٌ ... مِمّا يَشوبُ وَلا سُرورٌ كامِلُ أما أبو العلاء المعري فهو يقول: كم بَلْدَةٍ فارَقْتُها ومَعاشِرٍ ... يُذْرُونَ من أسَفٍ علَيّ دُمُوعا وإذا أضاعَتْني الخُطوبُ فلنْ أرى ... لِوِدادِ إِخْوانِ الصَّفاءِ مُضِيعا خالَلْتُ تَوْديعَ الأصادِقِ للنّوى ... فمتى أُوَدّعُ خِلّيَ التّوْديعا وله أيضاً: أُوَدِّعُ يَومي عالَماً إِنَّ مِثلَهُ ... إِذا مَرَّ عَن مِثلي فَلَيسَ يَعودُ ومن آداب السفر اختيار الرفقة الصالحة وتأمير أحدهم, ليتولى قيادتهم بمشورتهم, ففي الحديث النبوي: (إِذَا كَانَ ثَلاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ) (¬1) . وفي الأمثال السائرة: "الرفيق قبل الطريق". قال الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: (لا تصحب في سفرك من لا يرى لك من الفضل عليه كما ترى له عليك) . وقد جاء في الرحيق المختوم أن محمد النبي المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم: كان أوفي الناس بالعهود، وأوصلهم للرحم، وأعظمهم شفقة ورأفة ورحمة بالناس، أحسن الناس عشرة وأدباً، وأبسط الناس خلقاً، أبعد الناس من سوء الأخلاق، لم يكن فاحشاً، ولا متفحشاً، ولا لعاناً، ولا صخابا في ¬

_ (¬1) - أخرجه أبو داود في سننه باب في القوم يسافرون يؤمرون أحدهم حديث (2242) .

الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، وكان لا يدع أحدا يمشي خلفه، وكان لا يترفع على عبيده وإمائه في مأكل ولا ملبس، ويخدم من خَدَمَه، ولم يقل لخادمه أف قط، ولم يعاتبه على فعل شيء أو تركه، وكان يحب المساكين ويجالسهم، ويشهد جنائزهم، ولا يحقر فقيراً لفقره, كان في بعض أسفارة فأمر بإصلاح شاة، فقال رجلٌ: علي ذبحها، وقال آخر: علي سلخها، وقال آخر علي طبخها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (وعلي جمع الحطب) ، فقالوا: نحن نكفيك, فقال: (قد علمت أنكم تكفوني ولكني أكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزاً بين أصحابه) , وقام وجمع الحطب. (¬1) قال الشاعر: وَما المَرء إِلا بِإخوانِهِ ... كَما يَقبض الكَفُّ بِالمعصمِ وَلا خَير في الكَفِّ مَقطوعَةً ... وَلا خَير في الساعد الأَجزمِ ومن آداب السفر الاستخارة قبل العزم ففي الحديث: (من سعادة ابن آدم رضاه بما يقضى الله واستخارة الله ومن شقاوة ابن آدم سخطه بما يقضى الله وتركه استخارة الله ومن سعادة ابن آدم ثلاث ومن شقوته ثلاث فمن السعادة المرأة الصالحة والمركب الصالح والمسكن الصالح ومن شقوته المرأة السوء والمركب السوء والمسكن السوء) (¬2) , ويا حبذا الاستشارة ففي الحديث: (ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار) (¬3) . ¬

_ (¬1) - الرحيق المختوم لصفي الرحمن المباركفوري, ج1ص478. (¬2) - انظر جمع الجوامع والجامع الكبير للسيوطي ج1ص21803. (¬3) - المعجم الصغير تأليف العلامة المحدث سليمان بن احمد بن أيوب, أبو القاسم الطبري, ج2ص175 حديث (980) , الناشر: المكتب الاسلامي بيروت الطبعة الأولى 1405هـ1985م. ومسند الشهاب محمد بن سلامة بن جعفر أبو عبد الله القضاعي ج2ص7 حديث (774) , تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي, الناشر: مؤسسة الرسالة, الطبعة الثانية 1407هـ1986.

ومن الخير الصلاة قبل الخروج من المنزل, ثم الدعاء بعد الصلاة بقوله: "اللهم إنى أتقرب بهن إليك فاجعلهن خليفتي في أهلي ومالي", ففي كنز العمال: (ما استخلف العبد في أهله من خليفة إذا هو شد عليه ثياب سفره خيراً من أربع ركعات يضعهن في بيته يقرأ في كل واحدة منهن بفاتحة الكتاب و {قل هو الله أحد} , ثم يقول: اللهم إني أتقرب بهن إليك فاجعلهن خليفتي في أهلي ومالي) (¬1) . ويستحب للمسافر حين عوده من السفر ووصوله أن يدخل أقرب مسجد ويصلي فيه ركعتين, ففي الحديث النبوي: (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ) (¬2) , وما أجمل محافظة الإنسان على صلاة الفريضة والنفل في الحضر والسفر, وملازمة الذكر والدعاء. ولعل قائل يقول: ولِمَ المحافظة على الصلاة والدعاء؟ وما الفائدة من ذلك؟ قلنا: لأن الإنسان بحاجة إلى قوة روحية ترفع من نفسيته على وجه الاستمرار إلى مثل عليا, فالإنسان إذا لم تتصل روحه بمبدعها ظهرت فيه مظاهر الوحشة والاكتئاب, وقد يظن أن وحشته واكتئابه حصلا لعدم أخذ الإنسان حظه من الملهيات, فيصاب باليأس والإحباط وربما ألقى نفسه في ¬

_ (¬1) - انظر جامع الأحاديث للسيوطي ج18ص405 حديث (19738) , وكنز العمال في سنن الأقوال والأفعال للعلامة علاء الدين علي بن حسام الدين المتقي الهندي البرهان فوري (المتوفى: 975هـ) , تحقيق بكري حياني وصفوة السقا, ج6ص714 حديث (17535) , الناشر مؤسسة الرسالة بيروت, الطبعة الخامسة 1401هـ1981م. (¬2) - أخرجه البخاري في صحيحه باب إذا قدم من سفر.

هاوية, فالإنسان الذي يعتمد على الله لا يعرف اليأس إلى قلبه سبيلاً, فهو يملك من القوة النفسية ما يواجه بها أعظم المشاكل دقةً وخطراً, وبذلك يتبين لك أخي أن اتصال الروح الإنسانية بخالقها ولو لحظات في اليوم هي من الضروريات للإنسان, ولهذا كانت الصلاة أنجع علاج, وأفضل رباط بين الإنسان وربه في سفره وحضره, ولأن الدعاء مخ العبادة وباب يوصل إلى السعادة, فالله معك حاضر لا يغيب وأنت بحاجة إلى عونه وتسديده ورعايته وحفظه, وفي الذكر الحكيم: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬1) . وإذا أمكن الخروج يوم الخميس ففي ذلك الاقتداء بهدي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, ففي صحيح البخاري: (لقَلَّمَا كَانَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم يَخْرُجُ إِلاَّ في يَوْمِ الخَمِيسِ) (¬2) , وعن صخر بن وَداعَةَ الغامِدِيِّ الصحابيِّ رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم، قَالَ: (اللَّهُمَّ بَارِكْ لأُمَّتِي في بُكُورِهَا) وَكَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشَاً بَعَثَهُمْ مِنْ أوَّلِ النَّهَارِ, وَكَانَ صَخْرٌ تَاجِراً، وَكَانَ يَبْعَثُ تِجَارَتَهُ أوَّلَ النَّهَار، فَأَثْرَى وَكَثُرَ مَالُهُ. (¬3) ¬

_ (¬1) - سورة المجادلة الآية (7) . (¬2) - أخرجه البخاري في صحيحه باب من أراد غزوة حديث (2730) . (¬3) - أخرجه أبو داود في سننه باب في الابتكار في السفر حديث (2239) , والترمذي في سننه باب ما جاء في التبكرة في التجارة حديث (1133) .

ويستحب للمسافر عند الخروج من الدار أن يقول: (بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ, اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ) (¬1) . فإذا دخل المسافر السيارة أو القطار أو الطائرة أو الباخرة فإنه يستحب له أن يقول ما كان يقوله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ( {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَمِنْ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ وَالأَهْلِ) , وإذا رجع قالهن وزاد فيهن: (آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ) (¬2) . فإن فعلت ذلك فإنك ستكون في خير وعلى خير ويكون سفرك وسياحتك متعة وراحة تقتنص في أسفارك العلم والمعرفة وتحصد الأجر والثواب والتفكر في مخلوقات الله العزيز الوهاب. ¬

_ (¬1) - سنن أبو داود باب ما يقول إذا خرج من بيته حديث (4431) وحديث (4432) . (¬2) - أخرجه مسلم في صحيحه باب ما يقول إذا ركب إلى سفر حديث (2392) .

الابتسامة والبهجة في السفر

الابتسامة والبهجة في السفر لن يحصد العابسون وهم يشمخون بأنوفهم على الناس غير بغض الناس وإزدرائهم لهم, فالعبوس والغلظة والفضاضة كلها مترادفات لا تجلب لصاحبها إلا الفرقة والنفور, وفي الذكر الحكيم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (¬1) , فاضفِ على حياتك في سفرك وإقامتك إبتسامة عريضة واغمر قلبك بالبهجة والفرحة وتأسَّ بخير الخلق الذي قال عنه الصحابي عبد الله بن الحارث: (مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ تَبَسُّمًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ) (¬2) . وحاول أن تنعش قلبك بالأمل والسرور بعيداً عن منغصات الحياة وأكدارها حتى لا تكون ثقيلاً على أهلك ورفاقك في سفرك, ثم لتكون الابتسامة دليلاً على رضا قلبك وهناءته كما تكون حمرة الخد دليلاً على الخجل, قال الشاعر: كفاك منظره إيضاح مخبره ... في حمرة الخد ما يغني عن الخجل وقال آخر: بشاشة وجه المرء خير من القرى ... فكيف بمن يأتى به وهو ضاحك وقال فضيلة الشيخ/ د. عايض القرني: الضحك المعتدل بلسم للهموم ومرهم للأحزان وله قوة عجيبة في فرح الروح وجذل القلب، حتى قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إني لأضحك حتى يكون إجماماً لقلبي، وكان صلى الله عليه وعلى آله وسلم يضحك أحياناً حتى تبدو نواجذه، وهذا ضحك العقلاء البصراء بداء النفس ودوائها. (¬3) ¬

_ (¬1) - سورة آل عمران الآية (159) . (¬2) - أخرجه الترمذي في سننه باب في بشاشة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديث (3574) . (¬3) - الدكتور عايض القرني في كتابه: لا تحزن، ص78، الطبعة التاسعة، مكتبة العبيكان، الرياض 1422هـ.

والضحك المعتدل بلا شك دواء للنفس وراحة للخاطر المكدود بعد الجد والعمل، والمقتصد منه دليل على الأريحية وآية على اعتدال المزاج وعلامة على صفاء الطوية، وكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع أهله إذا دخل عليهم ضاحكاً باسماً يمازح زوجاته ويلاطفهن ويؤنسهن ويحادثهن حديث الود والحنان والعطف لأنه بعث رحمة للعالمين، وأحق الناس بهذه الرحمة أهله وقرابته وأحبابه وأصحابه، وكانت تعلو محياه الطاهر البسمة المشرقة الموحية، فإذا قابل بها الناس أسر قلوبهم أسراً فمالت نفوسهم بالكلية إليه وتهافتت أرواحهم عليه. (¬1) وهذا نبي الله سليمان عليه السلام يتبسم ضاحكاً حين سماعه مقال نملة {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} (¬2) , فالابتسامة ترجمة لصدر رحب, وخلق سمح, بها تفتح أقفال القلوب, وبها تشق من الطرق ما لا تقدر عليه السهام والسيوف, غولب بها الإنسان حتى يألف جنسه من بني البشر, فالنفس البشرية تحتاج في بعض الحالات إلى المداراة والملاطفة, وإدخال السرور عليها بما يعدل المزاج, ويشعر بالبهجة ¬

_ (¬1) - انظر: العلامة خميس السعيد، في سلسلة مواقف من حياة الرسول، ص13، الطبعة الأولى. (¬2) - سورة النمل الآيات (17-19) .

والأنس, ويزيح ما يطرأ عليها من هموم مذمومة, وخواطر موحشة مسمومة, ويميط ما يعلق بها من أدران تحجب عنها إدراك ما أنعم الله به على الإنسان في هذه الحياة من خير وفير وجمال منقطع النظير, أو يمنع عنها إدراك ما تشع به الحياة من جمال الأرض في جبالها وسهولها وهضابها ووديانها وأنهارها وبحارها إلى غير ذلك مما تزخر به الأرض, ويعم به النفع, ويفوح منه شذى الورود والرياحين الطيبة التي تتمايس بها الغصون والأشجار وتشرق به الأزهار والورود, ويفوح بها عبق المسك والعود والعنبر والكافور, مما تلتذ به النفس, ويتمتع به النظر, وتزهو بها أثواب الجمال التي يدثر بها الإنسان والنبات والأنعام في أشكال تسحر الألباب, وتدل على عظمة الله الخالق الوهاب. فأخذ النفس البشرية بالشدة وإدخال الهم والحزن والقنوط عليها غير مرغوب ولا محبوب, بخلاف الترويح عليها بما يفرح القلب, ويوصلها بالسلوى والسرور, فإنه محمود غير مذموم, ومألوف غير مبغوض, ومرغب فيه غير منفر عنه, لأنه يزيل عن النفس التشاؤم, ويستأصل شأفة الإكتئاب والإبتعاد, ويبعث في النفس النشاط, وذلك كله مما يدحض اليأس والقنوط, ويزيل الخمول والجمود, ويحث على العمل, وأنت بحاجة في سفرك وإقامتك إلى ما يروح عليك وعلى زملائك وأهلك واخوانك. وليس الشعر الذي يصف جمال الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم, ويصف جمال الطبيعة التي وهبها الله, مما يسمو بالنفس إلى آفاق تجمل الحياة, وتلطف الجفاف القاسي بحيث يصير للنفس البشرية المكدودة

واحةً تتفيئ ظلالها من هجير الحياة وقسوتها إلا واحداً من نفحات الكلمة التي تفيض بألوان من أشكال الفكر الإنساني التي تصور ألوان الجمال الذي وهبه الله وتعبر عنه في لواحات أدبية يجمعها اسم الشعر وبحره في الجزر وفي المد, ونبل المقصد, وهدف الإنشاد الذي يحاكي الطبيعة ويصفها, ويوقظ المشاعر ويحركها, ويؤنس الأطيار في أوكارها ويطربها, وينهض بالأفكار وينعشها, وينبه الضمائر ويشوقها, إلى عطاء بارئها, والعمل على ما يوصلها إلى كل ما فيه نفعها وسعادتها, فلا عليك إن استمعت إلى قوافيه وبحوره, ورددت بعض القصائد في سفرك وإقامتك. وهذا الرسول العظيم والنبي الكريم وختام الأنبياء والمرسلين محمد عليه وعلى آله وأصحابه أفضل الصلاة والتسليم, الذي هديه دين مستقيم, كان يستمع إلى الشعر, ويقره ولا ينكره, إلا ما خرج عن الصواب. وقد قال رجل لمحمد بن سيرين: ما تقول في الغَزل الرقيق يُنشده الإنسان في المسجد، فسَكت عنه حتى أُقيمت الصلاة وتقدَم إلى المحراب فالتفت إليه، فقال: وتبرد بَرد رداء العرو ... س في الصَّيف رَقرقتَ فيه العَبيرا وَتسخن ليلةَ لا يَسْتطيع ... نُباحاً بها الكلبُ إلا هَريرا ثم قال: الله أكبر. وقال العجاّج: دخلتُ المدينة فقصدتُ إلى مسجد النبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإذا بأبي هُريرة قد أكب الناس عليه يسألونه، فقلت: أفرجوا لي عن وجهه, فأفرج لي عنه, فقلت له: إني إنما أقول:

طاف الخَيالان فهاجَا سَقَما ... خيالُ أروى وخيِال تَكْتُما تُريك وجهاً ضاحكاً ومِعْصما ... وساعداً عَبْلاً وكَعْباً أَدْرما فما تقوله فيه؟ قال: قد كان رسولُ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يُنشَد مثلَ هذا في المسجد فلا ينكره. ودخل كعب بن زهير على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قبل صلاة الصبح فمثل بين يديه، وأنشد: بانت سعاد فقَلبي اليوم مَتْبولُ ... مُتَيم إثْرها لم يُفْد مَكْبُولُ وما سُعاد غدَاة البَين إذ رَحلوا ... إلا أغنُّ غَضيض الطرف مَكحول هَيفاء مَقْبلة عَجْزاء مدْبرة ... لا يشتكي قِصَر منها ولا طُول ما إن تَدوم على حال تكون بها ... كما تلوّن في أثوابها الغُول ولا تَمسّك بالوعد الذي وَعدت ... إلا كما يُمسك الماءَ الغَرابيل كانت مواعيد عُرقوب لها مثلاً ... وما مواعيدُها إلا الأباطيل ولا يَغُرَّنك ما منت وما وَعدت ... إنّ الأمانيّ والأحلام تَضْليل ثم خرج من هذا إلى مَدح النبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم, فكساه بُرداً، اشتراه منه معاويةُ بعشرين ألفاً. (¬1) وإن من أنفع القربات مراعاة ظروف الأطفال في الحضر والسفر, وإدخال السرور عليهم والاهتمام بهم, فالسفر ليس بكوابيس مرعبة تنسي الإنسان طفله الصغير, وإن من حسن سياسة الأمم في تربية أطفالها أن ترقص أطفالها ¬

_ (¬1) - انظر: العقد الفريد تأليف احمد بن محمد بن عبدربه الأندلسي ج5ص (252-254) , الناشر دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان.

بما يلائم فطرتهم التي فطرهم الله عليها ويفيد بناءهم الجسمي, فالطفل اليوم صغيراً, وغداً سيصبح عضواً صالحاً في مجتمعه, والكلام المنغم بالأوزان المطربة في الشعر من خير ما يساعد في بناء هذا الطفل, إذ يربي فيه الإحساس القوي والذوق المرهف, فينشأ مستعداً للمشاركة الوجدانية مع أفراد مجتمعه ومع كل ما يتردد صداه في نفسه من أفراح الناس وآلامهم, فيستجيب لرعاة الخير والفضيلة ومكارم الأخلاق, ومما نعتز به في مجال إدراك العرب لقيمة بناء الطفل بناءً سليماً ما هو مأثور عنهم في سفرهم وإقامتهم ومحاورتهم من أشعار كانوا يتغنون بها وهم يرقصون أطفالهم فللصغار حقوق على الكبار. ولقد كان للأدب العربي قصب السبق على آداب العالم في الإهتمام بالطفولة المبكرة بل لقد كان للأدب الإسلامي فضيلة السبق في ذلك كله, وهذا نبي الإنسانية كلها النبي العربي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان يرقص الحسن والحسين رضوان الله عليهما ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقول: (حُزَّقَة حُزَّقة ... تَرَقَّ عين بَقَّة) فيترقي الغلام حتى يضع قدميه على ظهره صلى الله عليه وعلى آله وسلم) . والحُزَّقة: هو الصغير الضعيف، وقيل القصير العظيم البطن، فذكرها له على سبيل المداعبة والتأنيس.

والمعنى أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كان يلاعب الحسن بيديه الشريفتين ويرفعه على صدره ويقول له الذي معناه: (اصعد يا صغير على صدري اصعد يا صغير العين مثل البقة) . وهذا الحديث قد أورده المناوي في فيض القدير وقال: أخرجه الطبراني وأبو نعيم وغيرهما، ومن طريقهم أورده ابن عساكر مصرحاً، قال الهيثمي وأبو مزود: لم أجد من وثقه وبقية رجاله رجال الصحيح، ونص الحديث عن أبي هريرة قال: سمعت أذناي هاتان وأبصرت عيناي هاتان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو آخذ بكفيه جميعاً حسناً أو حسيناً وقدماه على قدمي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يقول: (حُزَّقَة حُزَّقة ... تَرَقَّ عين بَقَّة) فيرقى الغلام فيضع قدميه على صدر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم قال: (افتح فاك) ثم قبله، ثم قال: (اللهم أحبه فإني أحبه) . (¬1) ولكنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان في ذات الوقت ينهى عن الألفاظ غير اللائقة عند ممازحة الطفل ومداعبته، فقد مر عليه الصلاة والسلام بامرأة سوداء وهي ترقص صبياً وتقول: ذؤال يا ابن القرم يا ذؤالة ... هش الثطا ويجلس الهبنقعة ¬

_ (¬1) - انظر: حقوق الإنسان في الهدي النبوي (مؤلفنا) , ص303, وفيض القدير للمناوي, ج1ص381 , الطبعة الأولى المكتبة التجارية الكبرى, ومجمع الزوائد ج9ص183 بلفظ مختلف, وكنز العمال حديث (37643و37698) , وتهذيب تأريخ دمشق لابن عساكر ج4ص202.

فقال لها: (لا تقولي: ذؤال، فإنه شر السباع) (¬1) , والمعنى أن تلك المرأة كانت تقول لصبيها: يا ذئب يا ابن سيد القوم مشيتك حمقاء وجلستك حمقاء. وبهذه الملاطفة النبوية يتعلم المربون كيف يبعدون الأبناء عن سماع فحش القول وذميمه, وكيف يلاطفون أطفالهم في سفرهم وإقامتهم. وهذا ابن سعد في الطبقات الكبرى يروي لنا أنه: بعد ولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذه عبد المطلب -جد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمتكفل به- بعد وفاة والده عبد الله وحمله إلى البيت وأخذ يطوف به وأحاطه به بنوه وهو يقول: الحمد لله الذي أعطاني ... هذا الغلام الطيب الأردانِ قد ساد في المهد على الغلمانِ ... أعيذه بالبيت ذي الأركانِ حتى أراه بالغ البنيانِ ... أعيذه من شر ذي شنأنِ من حاسد مضطرب العنانِ (¬2) وهذه حليمة السعدية كانت ترقص النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقول: يا رب إذ أُعطيته فأبقهِ ... وأعله إلى العلا ورقهِ وادحض أباطيل العدا بحقه (¬3) ¬

_ (¬1) - النهاية في غريب الحديث، والأثر لابن الأثير. (¬2) - الطبقات الكبرى لابن سعد ج1ص64. (¬3) - انظر: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر ج4ص52, وانظر أيضا: ترجمة حليمة السعدية في الإصابة وأنساب الأشراف وذخائر العقبى من مناقب ذوي القربى الطبعة الأولى ص259.

وروي أيضاً أن الشيماء بنت الحارث أخت النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الرضاعة وكانت أكبر منه سناً كانت ترقصه فتقول: هذا أخ لي لم تلده أمي ... وليس من نسل أبي وعمي فأنمه اللهم فيما تنمي فقالت حليمة رضوان عليها لابنتها شيماء: في هذا الحر, فقالت أخته: يا أمه ما وجد أخي حراً رأيت غمامة تظلل عليه إذا وقف وقفت وإذا سار سارت حتى انتهى إلى هذا الموضع. (¬1) ولو ذهبنا نتتبع ما ورد في أخبار الصحابة والتابعين لوجدنا الكثير الكثير, فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه ومعه الإمام علي كرم الله وجهه يمشي إلى جانبه وذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما رأى الحسن رضي الله عنهما يلعب مع الأطفال فاحتمله الصديق رضي الله عنه على رقبته وهو يقول: وإن بأبي شبه النبي ... غير شبيهٍ بعلي وقد كانت فاطمة الزهراء رضوان الله عنها ترقص ابنها الحسين بن علي رضي الله عنهما وتقول: إن بني شبه النبي ... ليس شبيه بعلي وهذه النماذج اليسيرة تدل على اهتمام الصحابة بالأدب الإسلامي بالطفل في السفر والإقامة. ¬

_ (¬1) - السيرة الحلبية لعلي برهان الدين الحلبي ج1ص136.

ثلاث نصائح أسديها إليك فلا تنساها في سفرك وحضرك:

ثلاث نصائح أسديها إليك فلا تنساها في سفرك وحضرك: الأولى: المحافظة على شكلك ومظهرك ونظافتك واصلاح هندامك, لا تترك ثوبك متسخاً, ولا شعرك ثائراً, ولا سلوكك شائناً, فجمال ظاهرك يدل على جمال باطنك, وفي الحديث: (إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ) (¬1) ، قال الشافعي: أَجِدُ الثيابَ إِذا اكتَسَيتُ فَإِنَّها ... زينُ الرِجالِ بِها تَعزُّ وَتَكرُمُ وَدَعِ التَواضُعَ في الثيابِ تَخَشُّعاً ... فَاللَهُ يَعلَمُ ما تَجِنُّ وَتَكتُمُ فَرَثاثُ ثَوبِكَ لا يَزيدُكَ زُلفَةً ... عِندَ الإِلَهِ وَأَنتَ عَبدٌ مُجرِمُ وَبهاءُ ثَوبِكَ لا يَضُرُكَ بَعدَ أَن ... تَخشى الإِلَهَ وَتَتَّقي ما يَحرُمُ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنكاره على من أتاه يسأله عن خبر السماء وهو لا يحافظ على طهارة بدنه ونقاء أظفاره من الخبث والتفث, أخرج الإمام احمد في المسند من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فسأله عن خبر السماء فقال: أتسألني عن خبر السماء وتدع أظفارك كأظفار الطير فيها الخباثة والتفث) (¬2) , وهذا الحديث دليل على مشروعية النظافة والمحافظة على الصحة, وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنكر على من أتاه يسأل خبر السماء وهو لا يحافظ على طهارة بدنه ونقاء أظفاره من الخبث والتفث -أي الوسخ الذي خلف أصابعه- , وجاء ¬

_ (¬1) - أخرجه مسلم في صحيحه باب تحريم الكبر وبيانه حديث (131) . (¬2) - أخرجه أحمد في المسند ج5ص417.

في حديث جابر: (أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رأى رجلا ثائر الرأس فقال: أما يجد هذا ما يسكن به شعره, ورأى رجلاً وسخ الثياب فقال: أما يجد هذا ما ينقي به ثيابه؟) (¬1) . ثم عليك أخي أن تتذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد استعاذ بالله من وعثاء السفر, وكان من هديه صلى الله عليه وآله وسلم أنه إذا رأى بلداً يريد دخوله قال: (اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَمَا أَظْلَلْنَ وَرَبَّ الأَرَضِينِ السَّبْعِ وَمَا أَقْلَلْنَ وَرَبَّ الشَّيَاطِينِ وَمَا أَضْلَلْنَ وَرَبَّ الرِّيَاحِ وَمَا ذَرَيْنَ فَإِنَّا نَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ وَخَيْرَ أَهْلِهَا وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ أَهْلِهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا) (¬2) , وكان يقول: (لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا نَزَلَ مَنْزِلا قَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ, لَمْ يَضُرَّهُ فِي ذَلِكَ الْمَنْزِلِ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْهُ) (¬3) . الثانية: لا تترك الرياضة غير المبتذلة, لأنها تبعث على النشاط والصحة, حيث أن السفر لم يعد على الأقدام, فلا عليك إن سبحت ومارست شيأ من الرياضة. وقد جاء في هديه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما يدل على مشروعية رياضة المشي والسباق, فهذه عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (خرجت مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في بعض أسفاره وأنا ¬

_ (¬1) - المستدرك على الصحيحين للحاكم كتاب اللباس حديث (7380) . (¬2) - أخرجه النسائي في السنن الكبرى ج5ص256 حديث (8826) . (¬3) - أخرجه ابن ماجه في سننه باب الفزع والأرق وما يتعوذ منه حديث (3537) .

جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال للناس: تقدموا، فتقدموا، ثم قال لي: تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقته، فسكت عني حتى إذا حملت اللحم وبدنت ونسيت، خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس: تقدموا، فتقدموا، ثم قال: تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقني فجعل يضحك، وهو يقول: هذه بتلك) (¬1) . وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإرشاد إلى تعليم الأبناء: السباحة والرماية وركوب الخيل, وكل ذلك مما يمرن البدن على الحركة والخفة ويدفع المرض وينشط من الكسل. الثالثة: المحافظة على السكينة والوقار بتجنب المزاح المذموم الضار, وتوقَ مخالطة الأشرار, فما سعد من أشقى اخوانه, واضاع أخلاقه, وأكثر من المزاح المذموم, فإن من أعظم الفجائع إضاعة الصنائع, وعدم شكر الصانع, فأشرف الخُلق لطف النطق, وكرم السجية, فمن غاضك بقبح الشتم منه فغضه بحسن الحلم عنه, وكم تفرق من اخوان بسبب المزاح, قال الشاعر: بُليتُ وَكانَ المَزحُ بَدءَ بَلِيَّتي ... فَأَحبَبتُ حَقّاً وَالبَلاءُ لَهُ بَدوُ رَأَيتُ الهَوى جَمرَ الغَضا غَيرَ أَنَّهُ ... عَلى كُلِّ حالٍ عِندَ صاحِبِهِ حُلوُ أَذابَ الهَوى جِسمي وَلَحمي وَقُوَّتي ... فَلَم يَبقَ إِلا الروحُ وَالجَسَدُ النَضوُ (¬2) ¬

_ (¬1) - مسند أحمد حديث (2687) - وسنن أبي داود, كتاب الجهاد باب السبق على الرجل، حديث (2578) . (¬2) - هذه الأبيات لأبي العتاهية.

وقال الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: وَدَعِ المُزاحَ فَرُبَّ لَفظَةِ مازِحٍ ... جَلَبَت إَلَيكَ مساوئاً لا تُدفَعُ قال أبو حاتم رضي الله عنه -وقد أفاد وأجاد-: "المزاح على ضربين: مزاح محمود ومزاح مذموم, فأما المزاح المحمود: فهو الذي لا يشوبه ما كره الله عز وجل ولا يكون به إثم ولا قطيعة رحم, وأما المزاح المذموم: فالذي يثير العداوة ويذهب البهاء ويقطع الصداقة ويجرأ الدنيء ويحقد الشريف به". وعن ربيعة قال: "إياك والمزاح فإنه يفسد المودة ويغل الصدور". وعن عبد الله بن حبيق قال: كان يقال: "لا تمازح الشريف فيحقد عليك ولا تمازح الوضيع فيجترأ عليك". قال الشاعر: اكرم جليسك لا تمازح بالأذى ... إن المزاح ترابه الأضغان كم من مزاح جذَّ حبل قرينه ... فتجذمت من أجله الأقران (¬1) وقال أبو حاتم رضي الله عنه: المزاح إذا كان فيه إثم فهو يسود الوجه, ويدمي القلب, ويورث البغضاء, ويحيي الضغينة, وإذا كان من غير معصية فهو يسلّي الهم ويوقع الخلة, ويحيي النفوس, ويذهب الحشمة, فالواجب على العاقل أن يستعمل من المزاح ما ينسب بفعله إلى الحلاوة, ولا ينوي به أذى أحد ولا سرور أحد بمساءة أحد. (¬2) ¬

_ (¬1) - روضة العقلاء ص63. (¬2) - روضة العقلاء ص65.

قلتُ: ولا شك أن المزاح في غير طاعة الله مسلبة لبهاء الإنسان ووقاره, وحقل ينبت الغل والضغينة في صدور الرجال والنساء على حد سوى, ويجرّ إلى المراء, ويحول الأصدقاء إلى أعداء, أما إذا كان بقصد استمالة القلوب, وإدخال السرور عليها, والابتعاد عن تعبس الوجه وتقطبه وبما لا إثم فيه ولا قطيعة فهو حسن, وقد روى أَبُو قِلابَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كَانَ فِي سَفَرٍ وَكَانَ غُلامٌ يَحْدُو بِهِنَّ يُقَالُ لَهُ أَنْجَشَةُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: رُوَيْدَكَ يَا أَنْجَشَةُ سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ قَالَ أَبُو قِلابَةَ: يَعْنِي النِّسَاءَ) (¬1) , شبه النساء بالقوارير التي يسرع إليها الكسر. ومن آداب الرجوع من السفر أن لا يطرق المسافر أهله ليلاً, إلا لضرورة, فالعاقل هو الذي يعلم أهله بوقت وصوله, ففي الحديث النبوي: (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ لا يَطْرُقُ أَهْلَهُ, كَانَ لا يَدْخُلُ إِلاَّ غُدْوَةً أَوْ عَشِيَّةً) (¬2) . ¬

_ (¬1) - أخرجه البخاري في صحيحه باب المعاريض مندوحة عن الكذب حديث (5742) . (¬2) - أخرجه البخاري في صحيحه باب الدخول بالعشي حديث (1673) .

الاستمتاع بالسفر والسياحة لا يعني السقوط في الوحل

الاستمتاع بالسفر والسياحة لا يعني السقوط في الوحل الهمة سلاح القلب للمعالي, فهي قد تدفع بالإنسان إلى اكتساب المعارف والعلوم والاستمتاع بالحياة, وهي تتفاوت من إنسان لآخر فمن الناس من يبحث في سفره وسياحته وغربته عن المعالي ويستمتع بحياته, وهذا (تاكيو أوساهيرا) الياباني عاش ثمانية عشر سنة خارج بلاده اليابان يبحث عن سر تفوق أوربا الميكانيكي ولم يرى أرض اليابان طول تلك السنين ثم عاد بعد أن حفظ الدرس وأتقن الصنعة ليطبقها واقعاً عملياً على أرض بلاده.. يقول: بعد أن رأى رئيس الدولة اليابانية المحركات وهي تشتغل بأرض اليابان ذهبت إلى بيتي ونمت عشر ساعات وهي أول مرة أنام فيها عشر ساعات كاملة منذ خمسة عشر عاماً. (¬1) ويرحم الله شوقي حيث يقول: وَما نَيلُ المَطالِبِ بِالتَمَنّي ... وَلَكِن تُؤخَذُ الدُنيا غِلابا وَما اِستَعصى عَلى قَومٍ مَنالٌ ... إِذا الإِقدامُ كانَ لَهُم رِكابا وفي الذكر الحكيم: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (¬2) . ولكن همم الناس ورؤيتهم للحياة تتفاوت, فمن الناس من يعشق السفر والترفيه بهمة عالية ولكنه يقع في حبائل الشيطان وينخرط في مصائده, فهو لا يعي معنى كلمة سياحة وسفر ويعتبر سياحة الترفيه ضرباً خالصاً من المجون الذي لا يربطه رابط ولا يضبطه ضابط وما أن يغادر بلده ويهبط في البلد التي عزم السفر إليه حتى يعتبر نفسه خارج المراقبة الربانية بل خارج حدود الرصانة والعقل واللياقة والأدب, فيبدد الأموال على موائد المتعة التي ضلت طريق الصواب, فكثيراً ما ينثر بعضهم النقود على الراقصات أو تحت ¬

_ (¬1) - ابدأ كتابة حياتك فصول في عناق المجد, ص33, الناشر: دار القلم دمشق, الطبعة الأولى 2008م. (¬2) - سورة الرعد الآية (11) .

أقدام المومسات ويتنافسون في نوادي القمار بقدراتهم الخرافية على تبديد الأموال, حالات نفسية يضحى فيها بالأموال على رؤس العاهرات, وربما أصيب بعضهم بـ (الإيدز) أو غير ذلك من الأمراض الخطيرة, فعاد وقد سود وجه بلاده وخسر صحته وسعادته وإيمانه. فالترفيه لا يعني السقوط في الوحل, ولا يعني الذلة والخمول ونبذ الأخلاق الفاضلة وتبديد الأموال والإفراط في القيل والقال. وإذا انتقلنا إلى ميدان الأخلاق العالية والقيم الإنسانية البانية نجد أن للأدب الاسلامي سهماً ضارباً في هذا المقام تغوص أعماقه في نفوس الفطرة الإنسانية, بله النفوس المسلمة, وتأمل معي أبيات معن بن أوس المزني وهو يفتخر ببعده عن مواطن الريب واجتنابه الفواحش والمنكرات وتلبسه بمعاني المكرمات حيث يقول: لَعَمرُكَ ما أَهوَيتُ كَفّي لِرِيبَةٍ ... وَلا حَمَلَتني نَحوَ فاحِشَةٍ رِجلي وَلا قادَني سَمعي وَلا بَصَري لَها ... وَلا دَلَّني رَأيي عَلَيها وَلا عَقلي وَإِنّيَ حَقا لم تُصِبني مُصيبَةٌ ... مِنَ الدَهرِ إِلا قَد أَصابَت فَتىً قَبلي وَلَستُ بِماشٍ ما حَيِيت لِمُنكَرٍ ... مِنَ الأَمرِ لا يَمشي إِلى مِثلِهِ مِثلي وَلا مُؤَثِراً نَفسي عَلى ذي قرابَةٍ ... وَأَوثِرُ ضَيفي ما أَقامَ عَلى أَهلي وهذا يذكرنا بقول الحسن البصري رحمه الله: "ما ضربت ببصري ولا نطقت بلساني ولا بطشت بيدي ولا نهضت على قدمي حتى أنظر أعلى

طاعة أو على معصية؟ فإذا كانت طاعة تقدمت وإن كانت معصية تأخرت". (¬1) وإذا كان إذاعة مثل هذه الأخلاق وتمجيد مثل هذه الآداب يعين على فعلها والالتزام بهديها فكم كنا نتمنى على البلدان الإسلامية في اتفاقياتها للتعاون السياحي أن تكون قد انبرت لتشيجع الفنون التي تهدي لمثلها فإن ذلك السمت الإنساني الراقي والتصوير الفني العالي مما يطرب له كل مسلم ويعجبه, وقد سبق أن أشرنا إلى مكانة الشعر ومواضع التأثر به وهو ينطق بالحكمة والحكمة فيه مطلوبة مرغوبة وقد أثنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الشعر الناطق بها وقال: (إِنَّ مِنْ الشِّعْرِ حِكْمَةً) (¬2) . وغالباً ما تكون الحِكم عامرة بالمواعظ, حافلة بالعبر والأمثال, فتكون حقلاً تربوياً خصباً يزكي النفوس ويحدوها نحو الفضائل حدواً. أما إذا انتقلنا إلى الطبيعة الغناء فسنجدها حقلاً بديعاً يغري الشعراء ذوي الإحساس المرهف فيرسمون بأشعارهم لوحات بديعة ينبهون العقول على مبدعها وباعث نضرتها في صور مبهجة ومناظر مهيجة, قال الثعالبي: الغيمُ بينَ مُمَسَّكٍ ومُعَصْفَرِ ... والماءُ بينَ مُصَنْدَلٍ ومُعَنْبَرِ والروضُ بينَ مُدَمْلَجٍ ومُتوَّجِ ... والوردُ بينَ مدرهَمٍ ومدنَّرِ والأرضُ قَدْ لَبِسَتْ قميصاً أخضراً ... تختالُ فيه بطيلسانٍ أحمرِ لتروقَنا بظرائفٍ ولطائفٍ ... من حسنِ منظرِها وطيبِ المخبرِ ¬

_ (¬1) - جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي ص66, الناشر: دار الفكر القاهرة. (¬2) - أخرجه البخاري في صحيحه باب ما يجوز من الشعر والرجز حديث (5679) .

حاجة المسافر إلى قراءة شيء من القرآن في أسفاره

سبحانَ مُحْيِي الأرض بعد مماتِها.....وكذاكَ يحيي الخلقَ يومَ المحشرِ وإذا كان الكون المنظور وسائر مجالات الحياة تعتبر صفحات فنية فإنه مما ينبغي على الأدباء المسلمين أن يحسنوا قراءتها وأن يقلبوا صفحاتها في سفرهم وإقامتهم, وأن يقدموا لأمة الإجابة ما يهز ويؤثر, ولأمة الدعوة ما يقنع ويبهر, وهم في ذلك محتسبون ومحسنون ومبدعون ولربهم راغبون ومنقلبون. (¬1) حاجة المسافر إلى قراءة شيء من القرآن في أسفاره إن القرآن الكريم بما اشتمل عليه من الفصاحة والبلاغة والبيان يغذي النفوس ويحيي القلوب, فهو عجيب نظمه بديع تأليفه, فيه آيات بينات أرشَدت إلى علوم وحِكمة وموعظة وآداب وأخلاق وفضائل وأحكام في العقيدة والفقه والمعاملات وما تحدثت به عن الله وعظمته وقدرته والدعوة إلى عبادته وتنزيهه عما لا يليق به وما حوته من أنباء وعبر ومواعظ وحثٍ على مكارم الأخلاق وحسن المعاملة وبيان الحلال والحرام واشتمل على قواعد وضوابط في أصول التقنين وأسس التشريع في المال والحكم والأسرة, وصدق الله جل وعلا حيث يقول: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (¬2) , وفيه أخبار الأمم الماضية, وبيان أسس ¬

_ (¬1) - انظر ميزان الشعر الإسلامي بحث للدكتور ناصر الخنيم منشور على صفحات مجلة الأدب الإسلامي العدد (61) 1430هـ2009م, ص21و22. (¬2) - سورة النساء (82) .

التشريع التي ترشد إلى العدل والحق والصدق والإيمان والتوحيد والحكمة والطهارة والوفاء وحسن المعاملة والابتعاد عن الحرام وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة..الخ ما ورد في تلك الأحكام من الهدى والنور والأخلاق والآداب والحكم والمواعظ وما ينظم شئون الحياة ويقع بلسماً لجروحها وأدوائها في الجانب المدني والشخصي والجنائي وفي مختلف الجوانب الثقافية والاقتصادية وغيرها, ولا ريب إن في القرآن ما يبعث في الأمم الحياة والعزة والكرامة ويجلب السعادة للبشرية في الدنيا والآخرة، وصدق الله حيث يقول مخاطباً لرسوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬1) , فكيف لا يأخذ الإنسان من المصحف كل يوم آيات في سفره وإقامته, يتعلم منها ويكتسب منها أدب الدنيا والدين. حبذا مصحفي الذي اجتمعت لي ... فيه كل الشرائط المعجباتِ غرر من محاسن النظم فيه ... باعتدال إلى جمال الذاتِ فبه مفخر العنايات خط ... ونقوش ومعجز الآياتِ وبه حلت المشائخ والقُرّاء ... وأهل الخلاف في الحركاتِ مثل قالون وأبي عمر البصري ... وحفص وحمزة الزياتِ وبه الوقف والإمالة والفتح ... وحكم التسهيل للهمزاتِ وعشور منبثة كزهور ... في رياض أنيقة غدقاتِ ¬

_ (¬1) - سورة الشورى (52) .

فيه للسمع والقلوب واللحظ ... ضروب شتى من الشهواتِ فهو مما اصطنعت حقاً لنفسي ... ابتغي به أقرب القرباتِ وهو لا شك روضتي وعداتي ... فيه حقاً تكاملت لذاتي وهو أُنسي إذا عدمت أنيسي ... وسميري الشهي في الخلواتِ وإمامي يوم المعاد وذخري ... في حياتي الدنيا وعند المماتِ وكيف لا يكون القرآن الكريم أنيس المسافر, ومحاسنه لا تحصى, فهو يفيدك ويهديك ويثيبك ويغنيك, فإنك إن تلوت منه حرفاً كتبت لك به حسنة ففي الحديث النبوي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا, لا أَقُولُ الم حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْف) (¬1) , ولو أن واحداً قرأ سورة الأنعام التي يقول عنها الفيروزآبادي: عدد آياتها مائة وخمس وستون آية وعدد كلماتها ثلاثة آلاف واثنتان وخمسون كلمة وعدد حروفها اثنا عشر أَلفاً ومائتان وأَربعون (¬2) , لكان قد حصل قارؤها على (مائة واثنين وعشرين ألفاً وأربعمائة) حسنة خلال وقت يقرب من نصف ساعة, فكيف يترك الإنسان هذا الفضل الكبير والخير العظيم في سفره وإقامته, وقد جعل الله القرآن روحاً تحيا به نفوس الخلق فله فضل الأرواح في الأجساد وجعله نوراً يضيء ضياء الشمس في الآفاق, وقد رأيت كيف فعل القرآن بالعرب في فجر الإسلام حيث كانوا بالأمس مشتتين لا تجمعهم رابطة سياسية أو قومية أو دينية وبعد مجيء القرآن صاروا أمة موحدة تحمل الفضيلة وتحكم العالم, قال الشاعر: والعلمُ مهما صادفَ التقوى يكنْ ... كالريحِ إذْ مرَّتْ على الأزهارِ يا قارئَ القرآنِ إنْ لمْ تتبعْ ... ما جاء فيه فأينَ فضلُ القاري وسبيلُ منْ لم يعلموا أنْ يحسنوا ... ظنّاً بأهلِ العلمِ دونَ نفارِ (¬3) وفي الذكر الحكيم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (¬4) , والموعظة هي ما جاء في القرآن من الزواجر عن الفواحش والأعمال الموجبة لسخط الله أو هي الأمر والنهي باسلوب الترغيب والترهيب, وفي القرآن شفاء لما في الصدور من أمراض الشبه والشكوك والشبهات وإزالة ما فيها من رجز ودنس, وفيه الشفاء من الأسقام البدنية والأسقام القلبية, فهو الذي يزجر عن مساوئ الأخلاق وأقبح الأعمال ويحث على التوبة, وفيه هدىً ورحمةً للمؤمنين كما قال سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً} (¬5) , وقال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (¬6) , فالهدى هو العلم بالحق والعمل به, والرحمة ما يحصل من الخير والإحسان والثواب العاجل والآجل لمن اهتدى بالقرآن العظيم, وإذا حصل ¬

_ (¬1) - أخرجه الترمذي في سننه باب ما جاء في من قرأ حرفاً من القرآن حديث (2835) . (¬2) - بصائر ذوي التمييز ج1ص129. (¬3) - تنسب هذه الأبيات لابن الوردي. (¬4) - سورة يونس الآية (57) . (¬5) - سورة الإسراء الآية (82) . (¬6) - سورة فصلت الآية (44) .

المشي يعين على الطاعة ويجلب السعادة

الهدى وحصلت الرحمة الناشئة عن الهدى حصلت السعادة والربح والنجاح والفرح والسرور {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (¬1) . المشي يعين على الطاعة ويجلب السعادة إن التنقل والمشي يعين على طلب الرزق, ويكسب الصحة, ويجدد للإنسان النشاط, ويغرس فيه الأمل, ويبعده عن الكسل, وأي قيمة لإنسان فارغ كسول في حياة مفعمة بالجد والعمل وحب الإنتاج, فمن رضي الخمول كان فارغاً كسولا, تموت آماله وهو يرمقها بعين الندامة لا غاية له يسعى إلى تحقيقها ولا طريق واضحة يسير فيها, إن حياته كلها شقاء, قال الرافعي واصفاً حال الكسول: غير أن الكسول في كل يومٍ ... يجد اليوم كله أهوالا من يقيم الأمور في الجد يهنا ... والشقا للذين قاموا كسالا وفي الحديث النبوي: (دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو أُمَامَةَ, فَقَالَ: يَا أَبَا أُمَامَةَ مَا لِي أَرَاكَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلاةِ قَالَ هُمُومٌ لَزِمَتْنِي وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: أَفَلا أُعَلِّمُكَ كَلامًا إِذَا أَنْتَ قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّكَ وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ, قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ, قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمِّي وَقَضَى عَنِّي دَيْنِي) (¬2) . وقال الشاعر: وَإِذا رَأَيتَ الرِزقَ ضاقَ بِبَلدَةٍ ... وَخَشيتَ فيها أَن يَضيقَ المَكسَبُ فَاِرحَل فَأَرضُ اللَهِ واسِعَةُ الفَضا ... طُولاً وَعَرضاً شَرقُها وَالمَغرِبُ (¬3) وقال آخر: وعليَّ أنْ أسْعى وليْـ ... ـسَ عليّ إدْراكُ النًّجَاحِ (¬4) وفي الحديث النبوي الشريف: (إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّيْنُ إلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ) (¬5) , وفي رواية: (سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَيءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، القَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا) , قوله: (الدِّينُ) : هُوَ مرفوع عَلَى مَا لَمْ يسم فاعله, وروي منصوباً وروي, (لن يشادَّ الدينَ أحدٌ) , وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إلا غَلَبَهُ) : أي غَلَبَهُ الدِّينُ وَعَجَزَ ذلِكَ المُشَادُّ عَنْ مُقَاوَمَةِ الدِّينِ لِكَثْرَةِ طُرُقِهِ, وَ (الغَدْوَةُ) : سير أولِ النهارِ, وَ (الرَّوْحَةُ) : آخِرُ النهارِ, وَ (الدُّلْجَةُ) : آخِرُ اللَّيلِ, وهذا استعارة وتمثيل، ومعناه: اسْتَعِينُوا عَلَى طَاعَةِ اللهِ عز وجل بِالأَعْمَالِ في وَقْتِ نَشَاطِكُمْ وَفَرَاغِ قُلُوبِكُمْ بِحَيثُ تَسْتَلِذُّونَ العِبَادَةَ ¬

_ (¬1) - سورة يونس الآية (58) . (¬2) - أخرجه أبو داود في سننه باب في الاستعاذة حديث (1330) . (¬3) - هذان البيتان للإمام علي رضي الله عنه وانظر ديوانه. (¬4) - ينسب هذا البيت لبديع الزمان الهمداني, انظر الموسوعة الشعرية ص666. (¬5) - أخرجه البيهقي في شعب الإيمان باب القصد في العبادة حديث (3881) .

ولا تَسْأَمُونَ وتبلُغُونَ مَقْصُودَكُمْ، كَمَا أنَّ المُسَافِرَ الحَاذِقَ يَسيرُ في هذِهِ الأوْقَاتِ ويستريح هُوَ وَدَابَّتُهُ في غَيرِهَا فَيَصِلُ المَقْصُودَ بِغَيْرِ تَعَب، واللهُ أعلم. (¬1) أما عروة بن الورد (¬2) فإنه يرى استحباب السفر والاغتراب فيقول: فَسِر في بِلادِ اللَهِ وَاِلتَمِسِ الغِنى ... تَعِش ذا يَسارٍ أَو تَموتَ فَتُعذَرا وَما طالِبُ الحاجاتِ مِن كُلِّ وِجهَةٍ ... مِنَ الناسِ إِلاّ مَن أَجَدَّ وَشَمَّرا وقال آخر: ليس الفتى بفتىً لا يستضاء به ... ولا يكون له في الأرض آثار أما البحتري (¬3) فهو يرى أن الإنسان إذا كان معدماً فعليه أن يتغرب وذلك حيث يقول: وَإِذا الزَمانُ كَساكَ حُلَّةَ مُعدِمٍ ... فَاِلبَس لَهُ حُلَلَ النَوى وَتَغَرَّبِ وَلَقَد أَبيتُ مَعِ الكَواكِبِ راكِباً ... أَعجازَها بِعَزيمَةٍ كَالكَوكَبِ وقد يكون السفر واجباً أو مستحباً فيجب للجهاد والحج ... إلخ والهجرة قد تكون واجبة بالنقلة عن البلد التي لا يستطيع الإنسان فيها أن يحفظ كرامته ودينه, وقيل غير ذلك, وفي الحديث: (لا هجرة بعد الفتح ¬

_ (¬1) - انظر رياض الصالحين للإمام أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي, (المتوفى سنة 676هـ) , ج1ص117, الناشر: المكتب الإسلامي بيروت. (¬2) - عروة بن الورد بن زيد العبسي، (ت 30ق. هـ593م) من غطفان, من شعراء الجاهلية وفرسانها وأجوادها, كان يلقب بعروة الصعاليك لجمعه إياهم، وقيامه بأمرهم إذا أخفقوا في غزواتهم. (¬3) - البُحتُرِيّ (206-284هـ/821-897م) الوليد ابن عبيد بن يحيى الطائي أبو عبادة البحتري, شاعر كبير، يقال لشعره: سلاسل الذهب، وهو أحد الثلاثة الذين كانوا أشعر أبناء عصرهم، المتنبي وأبو تمام والبحتري، قيل لأبي العلاء المعري: أي الثلاثة أشعر؟ فقال: المتنبي وأبو تمام حكيمان وإنما الشاعر البحتري.

العز والشرف في التنقل

ولكن جهاد ونية) (¬1) , وفي الذكر الحكيم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (¬2) . العز والشرف في التنقل إذا كان في الأسفار بعض المشاق فإن فيها بلوغ ما يتطلبه المشتاق, واكتساب الحِكم والأخلاق, والبحث عن الأرزاق, والحصول على المكاسب التجارية والثقافية, وإرضاء الخالق وأداء الواجب, وإن كان قد ورد في الحديث النبوي: (السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ) (¬3) , فذلك إخبار عمّا كان عليه الحال أو باعتبار المشقة التي تقع على المسافر في بعض الأحوال فالمسافر قد يلاقي الكثير من الأهوال والأخطار والمشقة حتى قال بعضهم: "العذاب قطعة من السفر", فأخذه بعض الشعراء فقال: كل العذاب قطعة من السفر ... يا رب فارددنا على خير الحضر (¬4) وليس في الحديث نهي عن السفر وإنما فيه إخبار عمّا يلاقي الإنسان من المشقة والتعب الذي عبر عنه بالعذاب فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد سافر إلى الشام بقصد التجارة وسافر بقصد الجهاد وبقصد الحج الذي يعد ركناً من أركان الإسلام بل أن السفر والتنقل لقضاء الحوائج والعظة والاعتبار ولغرض طلب الحلال والتمتع بنعم الله وزيارة الأرحام ... إلخ من أكبر النعم التي تفضل الله بها على الإنسان, وفي الذكر الحكيم: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (¬5) , {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬6) , {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬7) . وفي ذلك فضل وخير كثير, وشرف وعز كبير, وتعلّم الصناعة والحرف قال الشاعر: إن العُلَى حدَّثتِني وهي صادقةٌ ... في ما تُحدِّثُ أنَّ العزَّ في النُقَلِ لو أنَّ في شرفِ المأوى بلوغَ مُنَىً ... لم تبرحِ الشمسُ يوماً دارةَ الحَمَلِ (¬8) أما أبو تمام فهو يقول: وَطولُ مُقامِ المَرءِ في الحَيِّ مُخلِقٌ ... لِديباجَتَيهِ فَاِغتَرِب تَتَجَدَّدِ فَإِنّي رَأَيتُ الشَمسَ زيدَت مَحَبَّةً ... إِلى الناسِ أَن لَيسَت عَلَيهِم بِسَرمَدِ ¬

_ (¬1) - المستدرك على الصحيحين للحاكم كتاب الهجرة حديث (4294) . (¬2) - سورة النساء الآية (97) . (¬3) - أخرجه البخاري في صحيحه باب السفر قطعة من العذاب حديث (1677) . (¬4) - والموسوعة الشعرية ص 330, المستطرف للإبشيهي ج2ص27. (¬5) - سورة يونس الآية (22) . (¬6) - سورة النحل الآية (14) . (¬7) - سورة فاطر الآية (12) . (¬8) - انظر ديوان الطغرائي.

أخطار السفر في هذا الزمن قليلة فتمتع بنعمته الكبيرة

وفي الذكر الحكيم: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (¬1) . أخطار السفر في هذا الزمن قليلة فتمتع بنعمته الكبيرة أخي أنت خبير بأن السفر في هذه الأزمنة قد تلاشت صعابه وقلة أخطاره وأصبح الواحد يذهب براحة ويسر وأمان وهذه من نعم الله الكريم المنان على عباده في هذا الزمان {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} (¬2) , فهذه الطائرة النفاثة تمخر أمواج الجو وتقطع المسافات الشاسعة في لحظات وساعات يسيرة وأنت على كرسيك في متعة وراحة. جَلَّ شَأنُ اللَهِ هادي خَلقِهِ ... بِهُدى العِلمِ وَنورِ العُلَماء زَفَّ مِن آياتِهِ الكُبرى لَنا ... طِلبَةً طالَ بِها عَهدُ الرَجاء مَركَبٌ لَو سَلَفَ الدَهرُ بِهِ ... كانَ إِحدى مُعجِزاتِ القُدَماء نِصفُهُ طَيرٌ وَنِصفٌ بَشَرٌ ... يا لَها إِحدى أَعاجيبِ القَضاء رائِعٌ مُرتَفِعاً أَو واقِعاً ... أَنفُسَ الشُجعانِ قَبلَ الجُبَناء مُسرَجٌ في كُلِّ حينٍ مُلجَمٌ ... كامِلُ العُدَّةِ مَرموقُ الرُواء كَبِساطِ الريحِ في القُدرَةِ أَو ... هُدهُدِ السيرَةِ في صِدقِ البَلاء أَو كَحوتٍ يَرتَمي المَوجُ بِهِ ... سابِحٌ بَينَ ظُهورٍ وَخَفاء أَرسَلَتهُ الأَرضُ عَنها خَبَراً ... طَنَّ في آذانِ سُكّانِ السَماء ¬

_ (¬1) - سورة الملك الآية (15) . (¬2) - سورة غافر الآية (61) .

يا شَبابَ الغَدِ وَاِبنايَ الفِدى ... لَكُمُ أَكرِم وَأَعزِز بِالفِداء هَل يَمُدُّ اللَهُ لِيَ العَيشَ عَسى ... أَن أَراكُم في الفَريقِ السُعَداء أُمَّةٌ لِلخُلدِ ما تَبني إِذا ... ما بَنى الناسُ جَميعاً لِلعَفاء عَصرُكُم حُرٌّ وَمُستَقبَلُكُم ... في يَمينِ اللَهِ خَيرِ الأُمَناء لا تَقولوا حَطَّنا الدَهرُ فَما ... هُوَ إِلاّ مِن خَيالِ الشُعَراء هَل عَلِمتُم أُمَّةً في جَهلِها ... ظَهَرَت في المَجدِ حَسناءَ الرِداء فَخُذوا العِلمَ عَلى أَعلامِهِ ... وَاِطلُبوا الحِكمَةَ عِندَ الحُكَماء وَاِقرَأوا تاريخَكُم وَاِحتَفِظوا ... بِفَصيحٍ جاءَكُم مِن فُصَحاء وَاِحكُموا الدُنيا بِسُلطانٍ فَما ... خُلِقَت نَضرَتُها لِلضُعَفاء وَاِطلُبوا المَجدَ عَلى الأَرضِ فَإِن ... هِيَ ضاقَت فَاِطلُبوهُ في السَماء (¬1) فالمسافر والسائح يتمتع بركوب الطائرات والقاطرات والسيارات في أسفاره ويستمتع بالركوب على ظهر السفن والبواخر التي تجوب البحار وتحمل الأثقال, فبصناعة الطائرات وتلك السيارات والبواخر والقاطرات تقاربت البلدان وأصبح في مقدور الإنسان الاستمتاع بهذه النعمة وحث الهمم وتشجيعها على صناعة الطائرات والتسابق إلى الإبداع في تلك الصناعات التي بها قوام الدين والدنيا, ويقود إلى تدبر الآيات البينات والتفكر في جميع المخلوقات والعمل على تصنيع الطائرات والقاطرات والسيارات ... إلخ وقد جاء في الذكر الحكيم إخباراً عن ما هدى الله إليه ¬

_ (¬1) - ديوان احمد شوقي.

عبده ونبيه داود الحكيم: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} (¬1) ولا تزال صناعة الحديد تشكل أساساً في صناعة آلة الحرب منذ علَّم الله داود عليه السلام صناعة الدروع حتى يومنا هذا, قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (¬2) , ومن الحديد تصنع معظم الأسلحة الخفيفة والثقيلة من البندقية إلى المدفع إلى الصاروخ إلى السيارات ويدخل الحديد في صناعة القاطرات وناقلات الجند والدبابات والطائرات, وللحديد في مجال التصنيع العسكري والمدني منافع أكثر من أن تحصى, ولقد كان فيما تفضل الله به وأنعم على داود عليه السلام آية ومعجزة عظيمة ترشد إلى الثناء على الله سبحانه وتعالى وتوقظ الهمم في مجال التصنيع, ولهذا فإن الحق سبحانه وتعالى بعد أن ذكر ما أنعم الله به على داود عليه السلام أرشد إلى الشكر وعمل الصالحات فقال جل شأنه: {وَاعْمَلُوا صَالِحاً} ويشمل الصلاح المأمور به صلاح الأعمال والأفعال من العبادات والصناعات لأن ذلك أدعى لدوام النعمة ونمائها. وفي سورة سبأ: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} (¬3) أي: جعلناه ليناً أو وفقناه لإلانته بواسطة الصهر, وإلانة الحديد بغير تليين ومعالجة معجزة ظاهرة واضحة, ¬

_ (¬1) - سورة الأنبياء (80) . (¬2) - سورة الحديد الآية (25) . (¬3) - الآية (10) .

الطائرات السابحات في الجو

وفي ذلك إشارة إلى ضرورة صهر الحديد عند صنعته, وفي الحديد وصناعته خير كبير, فمنه تصنع آلة الحرب ومنه تصنع القطارات والطائرات والدبابات والمدافع و......الخ. الطائرات السابحات في الجو الطائرات السابحات في الجو هي أقوى سلاح يرهب, وهي أسرع وسيلة لنقل الإنسان وما يحتاج إليه من المنافع, وهي رسل لأهل الشوق يطوفون بها البلدان ويصلون الإخوان ويتذكرون نِعم الرحمن, ويغفر الله لشوقي حيث يقول: اِجعَلوها رُسلَكُم أَهلَ الهَوى ... تَحمِلُ الأَشواقَ عَنكُم وَالغَراما وَاِستَعيروها جَناحاً طالَما ... شَغَفَ الصَبَّ وَشاقَ المُستَهاما يَحمِلُ المُضنى إِلى أَرضِ الهَوى ... يَمَناً حَلَّ هَواهُ أَم شَآما أما ابن الطيب الشرقي الفاسي (¬1) فهو يقول: سافر إلى نَيلِ المَعَزَّ ... ةِ إنَّ في السفَرِ الظفَر وانفِر لنَيلِ المجدِ فيمَن ... للمعالي قَد نَفَر فالناسُ إِلفُكَ كلهم ... والأرضُ أجمَعُها مَقَر فمتَى وجدتَ العزّ ... والعيشَ الهنيَّ أقِم تُبَر السفر يهدي إلى التعرف على عظمة الصانع جلت قدرته إن الإنسان حينما يتنقل بين البلدان يرى الأرض الجميلة والجبال الشامخة والبحار الهائجة والطيور السابحة في السماء والحيوانات المختلفة, والثمار اليانعة يهتدى إليه سبحانه وتعالى عن طريق مخلوقاته في هذا الكون ويعَلم أن الله قوي في مخلوقاته حكيم في صناعته ففي هذا الكون في الأرض وفي السماء مظاهر قوته, وأن الله جل وعلا عليم خبير لان في هذا الكون مظاهر علمه وخبرته, فإذا أردت أن تفكر في الكون وصلت إلى الله لأنه صنعته وعند ذلك تصل إلى معرفة الصانع الخالق للكون وتعرف تنظيمه وإحكامه, فترى الحكمة, وترى القدرة, وترى اللطف, وترى العطف, وترى الجمال, وترى الرحمة, فكل مظهر في الكون يدل على اسم من أسماءه أو على كل أسماءه, فكيف هدانا الله؟ الله قال: {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} (¬2) , وقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} (¬3) , ¬

_ (¬1) - محمد بن الطيب محمد بن محمد بن محمد الشرقي الفاسي المالكي، أبو عبد الله, (1110-1170هـ/1698-1756م) , نزيل المدينة المنورة، محدّث، علامة باللغة والأدب, مولده بفاس، ووفاته بالمدينة، وهو شيخ الزبيدي صاحب تاج العروس، والشرقي نسبة إلى (شراقة) على مرحلة من فاس, من كتبه (المسلسلات) في الحديث، و (فيض نشر الانشراح-خ) حاشية على كتاب الاقتراح للسيوطي في النحو، و (إضاءة الراموس-خ) حاشية على قاموس الفيروزأبادي، مجلدان ضخمان، و (موطئة الفصيح لموطأة الفصيح-خ) مجلدان، شرح به (نظم فصيح الثعلب لابن المرحل) ، وشرح (كفاية المتحفظ) وشرح (كافية ابن مالك) ، وشرح (شواهد الكشاف) ، و (حاشية على المطول) ، و (رحلة) . (¬2) - سورة يونس الآية (101) . (¬3) - سورة الشورى الآية (29) .

وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} (¬1) . وإذا كان الحق سبحانه وتعالى هدانا بخلقه فالهادي اسم من أسماء أفعاله, وهدانا بكلامه, فالأرض التي خلقها الله والسماء التي رفعها الله وإحكام الصنعة في الخلق تضعك أمام قدرة الله وأمام رحمته وأمام علمه وأمام خبرته, قال تعالى: {اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} (¬2) , وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} (¬3) , وقال تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (¬4) . إذاً فالهادي اسم من أسماء ذاته فالله متكلم والقرآن كلامه, فالكتاب هدىً بياني والكون هدىً استدلالي, غير أن الكون يدل على وجود الله وعظمته وأسماءه ولا يدل على الصلاة والفرائض والواجبات فلا بد أن تهتدي بالكون جزئياً وتهتدي بالقرآن كلياً فهو الذي يعلمك ما افترض الله عليك. (¬5) {وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (¬6) . ¬

_ (¬1) - سورة الروم الآية (22) . (¬2) - سورة الرعد الآية (2) . (¬3) - سورة الإسراء الآية (9) . (¬4) - سورة البقرة الآيتان (1و2) . (¬5) - انظر موسوعة الأسماء الحسنى ج1ص615 وما بعدها. (¬6) - سورة يونس الآية (25) .

الهادي من أسماء الله الحسنى

الهادي من أسماء الله الحسنى الهادي من أسماء الله الحسنى ورد ذكره في القرآن الكريم: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} (¬1) , وقال تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (¬2) . وفي الموطأ عن عبد الله بن الزبير أنه كان يقول: (إن الله هو الهادي) (¬3) , وورد عند الترمذي: (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) , وعدَّ منها الهادي (¬4) . فالهادي هو الذي يهدي ويرشد عباده إلى جميع المنافع, وإلى دفع المضار, ويعلمهم ما لم يعلموا, ويهديهم لهداية التوفيق والتسديد, ويلهمهم التقوى, ويجعل قلوبهم منيبة إليه ومنقادة إلى أمره. والهداية: هي دلالة بلطف وهداية الله تعالى للإنسان على أربعة أوجه: الأول: الهداية التي عم بجنسها كل مكلف من العقل، والفطنة، والمعارف الضرورية التي أعم منها كل شيء بقدر فيه حسب احتماله كما قال تعالى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (¬5) . الثاني: الهداية التي جعل للناس بدعائه إياهم على ألسنة الأنبياء وإنزال القرآن ونحو ذلك وهو المقصود بقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} (¬6) . الثالث: التوفيق الذي يختص به من اهتدى وهو المعني بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} (¬7) ، وقوله تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (¬8) ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} (¬9) ، وقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (¬10) . الرابع: الهداية في الآخرة إلى الجنة المعنيُّ بقوله: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} (¬11) , وقوله: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} (¬12) , وهذه الهدايات الأربع مترتبة فإنَّ من لم تحصل له الأولى لا تحصل الثانية بل لا يصح تكليفه، ومن ¬

_ (¬1) - سورة الفرقان الآية (31) . (¬2) - سورة الحج الآية (54) . (¬3) - موطأ مالك بن أنس, تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي, باب النهي عن القول بالقدر ج5ص1324 حديث (3341) , الناشر: مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان, الطبعة: الاولى 1425هـ2004م. (¬4) - سنن الترمذي باب ما جاء في عقد التسبيح باليد حديث (3429) . (¬5) - سورة طه الآية (50) . (¬6) - سورة السجدة الآية (24) . (¬7) - سورة محمد الآية (17) . (¬8) - سورة التغابن الآية (11) . (¬9) - سورة يونس الآية (9) . (¬10) - سورة العنكبوت الآية (69) . (¬11) - سورة محمد الآية (5) . (¬12) - سورة الأعراف الآية (43) .

لم تحصل له الثانية لا تحصل له الثالثة والرابعة، ومن حصل له الرابع فقد حصل له الثلاث التي قبلها, ومن حصل له الثالث فقد حصل له اللذان قبله, ثم ينعكس فقد تحصل الأولى ولا يحصل له الثاني ولا يحصل الثالث والإنسان لا يقدر أن يهدي أحداً إلا بالدعاء وتعريف الطرق دون سائر أنواع الهدايات وإلى الثانية أشار بقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (¬1) , {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} (¬2) ، {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} (¬3) , أي داع. وإلى سائر الهدايات أشار بقوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ (¬4) } . (¬5) وقال د. محمد راتب النابلسي: كلمة الهادي مأخوذة من فعل هدى والهادي اسم فاعل والله سبحانه وتعالى خلق ثم هدى, وأول بند من بنود الهدى: خلقه {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} (¬6) , والبند الثاني: اسم من أسماء ذاته لأنه متكلم فالله سبحانه وتعالى يهدي بكلامه, إذاً الهادي اسم من أسماء ذاته. (¬7) قلتُ: كلام النابلسي فيه تحقيق, فالله جل وعلا هدى الإنسان بخلقه, قال جل شانه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي ¬

_ (¬1) - سورة الشورى الآية (52) . (¬2) - سورة السجدة الآية (24) . (¬3) - سورة الرعد الآية (7) . (¬4) - سورة القصص الآية (56) . (¬5) - انظر: شرح أسماء الله الحسنى للقحطاني ص133-135. (¬6) - سورة الروم الآية (20) . (¬7) - موسوعة أسماء الله الحسنى ج2ص618-619.

أَخْرَجَ الْمَرْعَى} (¬1) , وقال سبحانه: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} (¬2) , وقال جل وعلا: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ} (¬3) . ففي هذه الآيات دلالة واضحة أن الله هداك بالكون الذي خلقه وأودع فيه من الآيات ما يدلك على وجود الله وعلى أسمائه, فإذا أردت أن تؤمن ففكر في الكون فإذا فكرت في الكون عرفت صانعه, وفي قصة إيمان الفتية الذين آووا إلى الكهف التي يؤكد القرآن الكريم حقيقة إيمانهم بوصف يدل على رجحان عقولهم وصحة معتقدهم وإكرام الله لهم بزيادة هدايتهم: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} (¬4) . إذا تبين لك ذلك عرفت أن الهادي اسم من أسماء أفعاله, وأنه يهدي من يشاء إلى التفكر في خلق السماوات والأرض وأن الله وحده هو الصانع لهذا الكون الخالق المبدع وحده لا شريك له, وأنه سبحانه وتعالى يهدي من يشاء بالقرآن قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (¬5) , وقال سبحانه: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (¬6) . ¬

_ (¬1) - سورة الأعلى الآيات (1-4) . (¬2) - سورة الطارق الآيات (5-8) . (¬3) - سورة الأنعام الآية (1) . (¬4) - سورة الآيتان الآية (13و14) . (¬5) - سورة الإسراء الآية (9) . (¬6) - سورة البقرة الآية (2) .

ثمرة معرفة اسم الله الهادي

وهذا يدل أن الهادي اسم من أسماء ذاته, فالله جل وعلا هدى بكلامه, فهو يهدي بكلامه من يشاء إلى صراط مستقيم, وبهذا يتضح أن الهادي اسم من أسماء ذاته فهو يهدي من يشاء بكلامه وبأفعاله وبالإلهام وبالفطرة, هداك لطعامك ولشرابك وللعمل وللتعلم وللتفكر, وهداك للإيمان به وإلى كل خير فهو الذي أعطى الإنسان كل شيء خلقه ثم هدى, وهو الذي هدى بالوحي, وهدى إلى التوفيق, وهدى إلى الجنة, وبين طرق الخير والشر فقال سبحانه وتعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (¬1) , وقال جل شأنه: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} (¬2) , وبالتقوى تتحقق كل مفاهيم الهداية ومقوماتها للإنسان فيهتدي إلى ربه ويسعد إلى الأبد. ثمرة معرفة اسم الله الهادي إذا عرف المكلف أن الله تعالى وحده الذي خلقه, وانه الذي رزقه, وخلق له ما في الأرض من خير وبر, قال تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} (¬3) , وأنه سبحانه الذي يهديه لعمل الخير ويثيبه ويوفقه ويرشده ويثبته على الإيمان ويسدده, وإن قُتِل في سبيل الله أو مات على الإيمان ممتثلاً لأوامر الرحمن فسيحرسه الله ويحفظه ويثيبه ولن ¬

_ (¬1) - سورة البلد الآية (10) . (¬2) - سورة الإنسان الآية (3) . (¬3) - سورة عبس الآيات (24-31) .

يضله ويبعده, قال تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} (¬1) . فإذا عرف الإنسان المكلف ذلك وجب عليه أن يؤمن بأن الله هو الهادي الذي خلقه وهداه, ورزقه وأعطاه, وأنه يهدي من يشاء برحمته وفضله, ويضل من يشاء بحكمته وعدله, فهو الذي يحول بين المرء وقلبه, وفي سورة الأنفال يقول جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (¬2) , ومن مِثل هذا يخاف الرجل العليم والمؤمن الكريم الذي علم أن الله هو الهادي, فإذا آمن بالله وأنه الهادي وحده لا شريك له عند ذلك يكون المؤمن محباً لله الذي أكرمه وهداه وعافاه وجنبه الشقاء والضلال فهو يدعو كما كان يدعو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربه: (يَا مُثَبِّتَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ) (¬3) , ويدعو الله في كل صلواته بعد حمد الله والثناء عليه وإفراده سبحانه بالعبادة وطلب العون فهو يقرأ في سورة الفاتحة: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} (¬4) . ومعلوم أن من عرف بأن الله هو الهادي لخلقه المضل لمن كذب وأسرف واختار سبيل المفسدين الضالين من عباده, فإنه يخاف بطش الله وعقابه وخسفه وعذابه وإضلاله المسرفين المكذبين {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ ¬

_ (¬1) - سورة محمد الآيات (4-6) . (¬2) - الآية (24) . (¬3) - أخرجه ابن ماجة في سننه باب فيما انكرت الجهيمة حديث (195) . (¬4) - الآية (6) .

دعاء الله باسمه الهادي

عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (¬1) , وقال جل شأنه: {وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً} (¬2) . ولبعض الشعراء: بروق الحما أبرقي يا بروق ... عسى اللَه يسقي بك المجدبين إذا لم تجد يا وسيع العطا ... فمن ذا لأهل الخطا المذنبين فلا مانع لك على ما تشا ... في الكون يا أقدر القادرين فلي قلب حائر قليل الهدى ... فبصره يا هادي الحائرين تفضل بغفران كلّ الذنوب ... نكون جميعاً من الفائزين (¬3) دعاء الله باسمه الهادي يا الله يا هادي نسألك بأسمائك الحسنى وبصفاتك العلا أن تهديني والمؤمنين إلى صراطك المستقيم, وأن تهدي قلوبنا إلى ماتحب وترضاه من فكر وقول وفعل وعمل وأن تجعلنا من عبادك المخلصين, اهدنا يا الله إلى صراط من أنعمت عليهم من النبيين والملائكة والصالحين واصرف عنا الضلال والمضلين واجمعنا والمؤمنين على الهدى والتقى يا أرحم الراحمين, وصلى الله وسلم على محمد الأمين وعلى آله الطاهرين وأصحابه الراشدين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ¬

_ (¬1) - سورة الجاثية الآية (23) . (¬2) - سورة الكهف الآية (17) . (¬3) - هذه الأبيات تنسب لأبي بكر بن عبد الله الشاذلي العيدروس، من آل باعلوى (851-914هـ/1447-1509م) , مبتكر القهوة المتخذة من البن المجلوب من اليمن، كان صالحاً زاهداً، ولد في تريم (بحضرموت) وقام بسياحة طويلة، ورأى البن في اليمن، فاقتات به فأعجبه، فاتخذه قوتاً وشراباً وأرشد أتباعه إليه، فانتشر في اليمن ثم في الحجاز والشام ومصر، ثم في العالم كله، وأقام بعدن 25 سنة وتوفي بها, ولجمال الدين بحرق الحضرمي كتاب فيه سماه (مواهب القدوس في مناقب ابن العيدروس) , له كتاب في علم القوم سماه (الجزء اللطيف في علم التحكيم الشريف) تصوف على طريقة الشاذلية، و (ثلاثة أوراد) ونظم جُمع في (ديوان) .

وفي الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِكَ تَهْدِي بِهَا قَلْبِي وَتَجْمَعُ بِهَا أَمْرِي وَتَلُمُّ بِهَا شَعَثِي وَتُصْلِحُ بِهَا غَائِبِي وَتَرْفَعُ بِهَا شَاهِدِي وَتُزَكِّي بِهَا عَمَلِي وَتُلْهِمُنِي بِهَا رُشْدِي وَتَرُدُّ بِهَا أُلْفَتِي وَتَعْصِمُنِي بِهَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ اللَّهُمَّ أَعْطِنِي إِيمَانًا وَيَقِينًا لَيْسَ بَعْدَهُ كُفْرٌ وَرَحْمَةً أَنَالُ بِهَا شَرَفَ كَرَامَتِكَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْفَوْزَ فِي الْعَطَاءِ وَنُزُلَ الشُّهَدَاءِ وَعَيْشَ السُّعَدَاءِ وَالنَّصْرَ عَلَى الأَعْدَاءِ اللَّهُمَّ إِنِّي أُنْزِلُ بِكَ حَاجَتِي وَإِنْ قَصُرَ رَأْيِي وَضَعُفَ عَمَلِي افْتَقَرْتُ إِلَى رَحْمَتِكَ فَأَسْأَلُكَ يَا قَاضِيَ الأُمُورِ وَيَا شَافِيَ الصُّدُورِ كَمَا تُجِيرُ بَيْنَ الْبُحُورِ أَنْ تُجِيرَنِي مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ وَمِنْ دَعْوَةِ الثُّبُورِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْقُبُورِ اللَّهُمَّ مَا قَصُرَ عَنْهُ رَأْيِي وَلَمْ تَبْلُغْهُ نِيَّتِي وَلَمْ تَبْلُغْهُ مَسْأَلَتِي مِنْ خَيْرٍ وَعَدْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ أَوْ خَيْرٍ أَنْتَ مُعْطِيهِ أَحَدًا مِنْ عِبَادِكَ فَإِنِّي أَرْغَبُ إِلَيْكَ فِيهِ وَأَسْأَلُكَهُ بِرَحْمَتِكَ رَبَّ الْعَالَمِينَ اللَّهُمَّ ذَا الْحَبْلِ الشَّدِيدِ وَالأَمْرِ الرَّشِيدِ أَسْأَلُكَ الأَمْنَ يَوْمَ الْوَعِيدِ وَالْجَنَّةَ يَوْمَ الْخُلُودِ مَعَ الْمُقَرَّبِينَ الشُّهُودِ الرُّكَّعِ السُّجُودِ الْمُوفِينَ بِالْعُهُودِ إِنَّكَ رَحِيمٌ وَدُودٌ وَأَنْتَ تَفْعَلُ مَا تُرِيدُ اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا هَادِينَ مُهْتَدِينَ غَيْرَ ضَالِّينَ وَلا مُضِلِّينَ سِلْمًا لأَوْلِيَائِكَ وَعَدُوًّا لأَعْدَائِكَ نُحِبُّ بِحُبِّكَ مَنْ أَحَبَّكَ وَنُعَادِي بِعَدَاوَتِكَ مَنْ خَالَفَكَ اللَّهُمَّ هَذَا الدُّعَاءُ وَعَلَيْكَ الإِجَابَةُ وَهَذَا الْجُهْدُ وَعَلَيْكَ التُّكْلانُ اللَّهُمَّ اجْعَلْ لِي نُورًا فِي قَلْبِي وَنُورًا فِي قَبْرِي وَنُورًا مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَنُورًا مِنْ خَلْفِي وَنُورًا عَنْ يَمِينِي وَنُورًا عَنْ شِمَالِي وَنُورًا مِنْ فَوْقِي وَنُورًا مِنْ تَحْتِي وَنُورًا فِي سَمْعِي وَنُورًا فِي

بَصَرِي وَنُورًا فِي شَعْرِي وَنُورًا فِي بَشَرِي وَنُورًا فِي لَحْمِي وَنُورًا فِي دَمِي وَنُورًا فِي عِظَامِي اللَّهُمَّ أَعْظِمْ لِي نُورًا وَأَعْطِنِي نُورًا وَاجْعَلْ لِي نُورًا سُبْحَانَ الَّذِي تَعَطَّفَ الْعِزَّ وَقَالَ بِهِ سُبْحَانَ الَّذِي لَبِسَ الْمَجْدَ وَتَكَرَّمَ بِهِ سُبْحَانَ الَّذِي لا يَنْبَغِي التَّسْبِيحُ إِلاَّ لَهُ سُبْحَانَ ذِي الْفَضْلِ وَالنِّعَمِ سُبْحَانَ ذِي الْمَجْدِ وَالْكَرَمِ سُبْحَانَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ) (¬1) . ¬

_ (¬1) - أخرجه الترمذي في سننه باب ما جاء ما يقول إذا قام من الليل للصلاة حديث (3341) .

الفصل الثامن الحرية والإباء

الفصل الثامن الحرية والإباء

الحرية والإباء

الحرية والإباء إن مما يتفق عليه العقلاء أنه لا سبيل للسعادة في الحياة إلا إذا عاش فيها الإنسان حراً طليقاً يسيطر على جسمه وعقله ونفسه ووجدانه وفكره, وقد قال بعض الأدباء: إن الحرية شمس يجب أن تشرق في كل نفس, فمن عاش محروماً منها عاش في ظلمة حالكة, يتصل أولها بظلمة الرحم وأخرها بظلمة القبر. (¬1) وطالما تغنا بالحرية العرب الفصحاء في أشعارهم, ويرحم الله أبا القاسم الشابي حيث يقول: خُلقتَ طَليقاً كَطَيفِ النَّسيمِ ... وحُرًّا كَنُورِ الضُّحى في سَمَاهْ تُغَرِّدُ كالطَّيرِ أَيْنَ اندفعتَ ... وتشدو بما شاءَ وَحْيُ الإِلهْ وتَمْرَحُ بَيْنَ وُرودِ الصَّباحِ ... وتنعَمُ بالنُّورِ أَنَّى تَرَاهْ وتَمْشي كما شِئْتَ بَيْنَ المروجِ ... وتَقْطُفُ وَرْدَ الرُّبى في رُبَاهْ وقال سحيم الحساس: إِن كُنتُ عَبداً فَنفسي حُرَّةٌ كَرَماً ... أَو أَسوَدَ اللَونِ إِنّي أَبيَضُ الخُلُقِ وقال: وترانا يوم الكريهة أحراراً ... وفي السلم للغواني عبيدا وعليه بنا الصوفية في اصطلاحهم في إطلاق اسم الحر على من خلع عن نفسه إمارة الشهوات ومزق سلطانها, قال الشاعر: أتمنى على الزمان محالاً ... أن ترى مقلتاي طلعة حر أما شيخ الإسلام ابن تيمية فهو يرى بأن الحرية: العبودية الخالصة لله تعالى تجمع بين كمال الحب وكمال الذل (¬2) . ومقتضى هذا أن الناس جميعاً خلقوا أحراراً لا فرق بين أسود أو أبيض أو أحمر أو أصفر, فيجب أن لا يدينوا بالعبودية إلا لله الواحد الأحد, ولا قيد على حرية الإنسان إلا ما قيده القرآن والسنة النبوية لأمر أو نهي يستلزم قيد هذه الحرية, بعدم استحلال الخبائث, واستنهاض الرذائل, واستباحة الفواحش والتطاول على الحرمات، والعدوان على الحقوق واستغلال الناس وأكل أموالهم بالباطل أو استباحة أعراضهم، فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يفقهون ذلك بالفطرة ويأخذونه من الكتاب والسنة فهذا عمر بن الخطاب (¬3) رضوان الله عليه يقول- في قصة مشهورة-: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟. وهذا الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع شدة رغبته في دخول الناس في الإسلام، حتى كاد أن يهلك نفسه؛ لم يُكره أحداً على الدخول ¬

_ (¬1) - مصطفى المنفلوطي في كتابه النظرات ج1ص95 , الناشر دار ومكتبة الهلال مصر الطبعة الأولى 2000م. (¬2) - تعارض العقل والنقل ص62. (¬3) - أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين: عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي القرشي العدوي أبو حفص, ولد بعد الفيل بثلاث عشرة سنة, وكان من أشرف قريش وإليه كانت السفارة في الجاهلية وذلك أن قريشا كانوا إذا وقع بينهم حرب أو بينهم وبين غيرهم بعثوه سفيرا وإن نافرهم منافر أو فاخرهم مفاخر رضوا به بعثوه منافرا ومفاخرا, أسلم في السنة السادسة للهجرة وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جميع المشاهد, وكان أشد الناس على الكفار, ولي الخلافة بعد أمير المؤمنين أبو بكر الصديق رضي الله عنه.

الحرية التي ليس عليها ضوابط

في الدين, وقد قص الله ذلك بقوله: (¬1) {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} . (¬2) فالإكراه على الدخول في الدين منعه الإسلام احتراماً لحرية الإنسان, وقد جاء القرآن: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬3) . الحرية التي ليس عليها ضوابط الحرية التي ليس عليها ضوابط ولا تقيد بحدود وتمس مشاعر الناس وتؤذيهم في أخلاقهم وأعراضهم في دينهم ودنياهم؛ ما هي إلا وسيلة من وسائل الذل والانحطاط, تنفر منها الطباع السليمة, وتأباها الأخلاق القويمة, ورحم الله الأستاذ العلامة الشيخ يوسف الدجوي حيث يقول: لقد ظهرت حوادث لا تطاقُ ... وقوم ما لأكثرهم خلاقُ فأموال تبعثر في فسادٍ ... وكم وسط النهارِ دمٌ يراقُ وكم ظلمٍ تسربل ثوب عدل ... وكم ضغنٍ يغطيه النفاقُ وكم فضلٍ يداس ولا يراعى ... وكم جهلٍ يروجه الرفاقُ وكم أدبٍ أضيع وكم فتاةٍ ... لها شرفٌ إلى عارٍ تساقُ فهل حرية الحيوان نبغي ... ففي كل الأمورِ لنا انطلاقُ (¬4) ¬

_ (¬1) - انظر: مؤلفنا حقوق الإنسان في الهدي النبوي ص458, الطبعة الأولى توزيع منشأة دار المعارف بالاسكندرية 2007م. (¬2) - سورة الكهف الآية (6) . (¬3) - سورة البقرة الآية (256) . (¬4) - وردت هذه الأبيات ليوسف الدجوي من كبار علماء الأزهر في القرن الماضي ضمن تقريضة للنهضة الإصلاحية للأسرة الإسلامية لمؤلفه مصطفى الحمامي, ص9 , مطبعة مصطفى الحلبي 1355هـ1936م.

الحرية ليس لها ثمن

الحرية جميلة, ولكن يجب أن تصان عن الابتذال بالخروج عن قيود الشرعية وضوابطها. الحرية ليس لها ثمن الحرية في الموطن والمسكن والرسائل والتفكير والطريق والعمل؛ هي حق لصيق بالإنسان, فاحترام حرية الإنسان في عقله وتفكيره وتعليمه وتصرفه؛ هو احترام لآدميته وتكريم الله له, وهو أمر محبب للنفس ليس له ثمن, وفي شعر رفعت بن سعيد (¬1) إنشاد الحرية والبحث عنها: لأنشد حريتي في الوجود ... وأحفظ ديني بين الملا أما جميل صدقي الزهاوي (¬2) فهو يجعل من حريته ثمناً غالياً فيصفها بأنها رجاء نفسه وهي من العين كالسواد الذي لا تستضيء إلا به فيقول: حرَّيتي يا رجاء نفسي ... أَنت من العين كالسواد إليك تخفي النفوس حباً ... كأَنه النار في الرماد شخصك قد غابَ عَن عيوني ... وَلَم يغب قطُّ عن فؤادي أما احمد الكاشف فهو يقول: ¬

_ (¬1) - رفعت بن سعيد الصليبي ولد في مدينة السلط (1335-1372هـ) ، كان شاعراً مطبوعاً هادئ الشعر، لطيف العبارة، ناعم الغزل، ويشتمل شعره على الوطنية والحب، وقصائد النكبة الفلسطينية. كان رئيساً للندوة الأدبية في الأردن والتي كانت تضم نخبة الأدباء الأردنيين. (¬2) - جميل صدقي بن محمد فيضي بن الملا أحمد بابان الزهاوي مولده ووفاته ببغداد (1279-1354هـ) , شاعر، نحى منحى الفلاسفة، من طلائع نهضة الأدب العربي في العصر الحديث.

حريتي ولو اغتديت ودونها ... ملقى صِفاحٍ واشتباكَ صعاد وقال أبو شبكة (¬1) : كم رَدَّدت في مَسمَعَيكِ مَراشِفي ... حريتي يا ميُّ أَثمنُ ما مَعي ولله در ابن الرومي (¬2) حيث يقول: هاض حريتي وأوثق بالمنْـ ... ـزُور من نيله لسانيَ عَقْدا فإلى الله أشتكي ما أُلاقي ... من زمانٍ يجشِّم الحرَّ جَهدا حُرِمَتْ لذةَ الشكاية نفسي ... وَجَدَا صاحبي وأصبحتُ عبدا ولقد قلتُ عند ذاك وأضمر ... تُ على باخسي حقوقي حقدا شكر الله ماجداً جاد أو وغـ ... ـداً كفى الناس نائلاً منه وَغْدا ولَحَا الله بين هذين من غَر ... رَ عفيفاً من نفسه ثم أكدى يبذل التافه الذي يُلبس الحُر ... رَ خشوعاً ولا يَسُدُّ مَسَدَّا باخلٌ حين يبذل القومُ رِفْداً ... ماطلٌ حين يُنْجز القومُ وَعْدا أما أبو مسلم العماني (¬3) فهو يرى بأنه سيدافع عن حريته فيقول: أذود عن حريتي بحقها ... واجهد النصر لحر مبتلى ¬

_ (¬1) - إلياس أبو شبكة: مترجم يحسن الفرنسية، كثير النظم بالعربية, لبناني، اشترك في تحرير بعض الجرائد ببيروت, ونقل إلى العربية (تاريخ نابليون) وقصصاً من مسرحيات (موليير) ونشر مجموعات من نظمه. (¬2) - علي بن العباس بن جريج أو جورجيس الرومي, شاعر كبير، من طبقة بشار والمتنبي، رومي الأصل، كان جده من موالي بني العباس , ولد ونشأ ببغداد، ومات فيها (221-283هـ) . (¬3) - أبو مسلم البهلاني العماني, (1237-1338هـ) , شاعر عماني الأصل له ديوان فيه ما يربو المائتي قصيدة فيه الكثير من الحكم والوجدانيات والإلهيات ودلائل التوحيد والأخلاق.

لوم الحر نجاة له

أما نيقولاوس الصائغ (¬1) فهو يرى أن المنون شرف إذا وضعت على حريته الأغلال والقيود وذلك حيث يقول: شرفي المَنُونُ وقد غدت حُرّيَّتي ... أَسراً بذي الأَغلالِ والاقيادِ لوم الحر نجاة له إن الإنسان الحر لا يأتي شيئاً يندم على فعله, وإذا وقع في أمر مشين كانت الإشارة إليه والإرشاد له أكبر معين له على الرجوع إلى الحق, فهو لا يحتاج إلى تقريع ولا إلى ترويع, وقد جاء في شعر يزيد بن مفرع الحميري: لَهفي عَلى الأَمرِ الَّذي ... كانَت عَواقبُهُ نَدامَه العَبدُ يُقرَعُ بَالعَصا ... وَالحُرُّ تَكفيهِ المَلامَه (¬2) وإلى مثل ذلك ذهب ابن دريد حيث يقول: وَاللَومُ لِلحُرِّ مُقيمٌ رادِعٌ ... وَالعَبدُ لا تَردَعُهُ إِلّا العَصا أما عبد يغوث بن وقاص فهو يرى غير ذلك فيقول: أَلا لا تَلوماني كَفى اللَومَ ما بِيا ... وَما لَكُما في اللَومِ خَيرٌ وَلا لِيا أَلَم تَعلَما أَنَّ المَلامَةَ نَفعُها ... قَليل وَما لَومي أَخي مِن شمالِيا (¬3) ¬

_ (¬1) - نقولا (أو نيقولاوس) الصائغ الحلبي, (1103-1169هـ) , شاعر، كان الرئيس العام للرهبان الفاسيليين القانونيين المنتسبين إلى دير مار يوحنا الشوير. (¬2) - انظر ترجمة يزيد بن مفرع الحميري وشعره في لباب الأدب ص298 , وفي الشعر والشعراء ج1ص276. (¬3) - انظر المفضليات ص156.

الحر لا يريق ماء وجهه

والحق أن إرشاد الحر أو لومه ليس فيه غضاضة عليه, وأن أحذق الناس من يلوم نفسه قبل أن يلومه الناس, وقد أقسم الله في القرآن بالنفس التي تلوم صاحبها على عصيانه وعلى تقصيره في جنب الله تعالى وتستغفره بعد ذلك وتتوب إليه قال تعالى: {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} (¬1) , أما امرأة عزيز مصر فإنها حين لامتها النساء في مراودتها ليوسف عليه السلام دعت يوسف عليه السلام وقالت: {اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} كما حكا ذلك سبحانه وتعالى في القرآن: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ} (¬2) , فإذا نُصحَ الحر وأبى فقد هلك, وقد خاطب الله جل وعلا رسوله بعد أن بلغ الرسالة واعرض عنها من أعرض بقوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ * وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬3) . الحر لا يريق ماء وجهه إن الحر لا يريق ماء وجهه بل يحفظه, وفي حفظ ماء الوجه صون النفس عن الابتذال والسرف, ويرحم الله علي بن الجهم حيث يقول: أقلي فإن اللوم أشكل واضحه ... وكم من نصيح لا تمل نصائحه متى هان حر لم يرق ماء وجهه ... ولم تجتبر يوماً بردٍ صَفَائحهُ (¬4) ¬

_ (¬1) - سورة القيامة الآية (2) . (¬2) - سورة يوسف الآيتان (31و32) . (¬3) - سورة الذاريات الآيتان (54و55) . (¬4) - ديوان علي بن الجهم بن بدر، أبو الحسن، (188-249هـ/803-863م) من بني سامة، من لؤي بن غالب, شاعر, رقيق الشعر، أديب، من أهل بغداد كان معاصراً لأبي تمام، وخص بالمتوكل العباسي، ثم غضب عليه فنفاه إلى خراسان، فأقام مدة، وانتقل إلى حلب، ثم خرج منها بجماعة يريد الغزو، فاعترضه فرسان بني كلب، فقاتلهم وجرح ومات. انظر: ص85 من ديوانه, الناشر: دار صادر بيروت الطبعة الثالثة 1996م.

الحر يأبى الذل والهوان

الحر يأبى الذل والهوان الحر بفطرته وسجيته يأبى الذل والهوان, قال المتلمس الضبعي (¬1) : إِنَّ الهَوانَ حِمارُ القَومِ يَعرِفُهُ ... والحُرُّ يُنكِرُهُ والرَّسلَةُ الأُجُدُ وَلا يُقيمَ عَلى خَسفٍ يُرادُ بِهِ ... إِلاّ الأَذَلاّنِ عَيرُ الأَهلِ وَالوَتِدُ هَذا عَلى الخَسفِ مَنقولٌ بِرُمَّتهِ ... وَذا يُشَجُّ فما يَبكي لَهُ أَحَدُ (¬2) وقال الشنفرى (¬3) : وَفي الأَرضِ مَنأى لِلكَريمِ عَنِ الأَذى ... وَفيها لِمَن خافَ القِلى مُتَعَزَّلُ لَعَمرُكَ ما في الأَرضِ ضيقٌ عَلى اِمرئٍ ... سَرى راغِباً أَو راهِباً وَهوَ يَعقِلُ وقال آخر: وإذا الديار تنكرت عن حالها ... فدع الديار وسارع التحويلا ¬

_ (¬1) - جرير بن عبد العزى، أو عبد المسيح، من بني ضُبيعة، من ربيعة, (ت 43ق. هـ580م) , شاعر جاهلي، من أهل البحرين، وهو خال طرفة بن العبد, كان ينادم عمرو بن هند ملك العراق، ثم هجاه فأراد عمرو قتله ففرَّ إلى الشام ولحق بآل جفنة، ومات ببصرى، من أعمال حوران في سورية. وفي الأمثال: أشأم من صحيفة المتلمس، وهي كتاب حمله من عمرو بن هند إلى عامله بالبحرين وفيه الأمر بقتله ففضه وقُرِأ له ما فيه فقذفه في نهر الحيرة ونجا, وقد ترجم المستشرق فولرس ديوان شعره إلى اللغة الألمانية. (¬2) - وردت هذه الأبيات في بلوغ الأرب شرح لامية العرب جمع وتحقيق محمد عبد الحكيم القاضي ومحمد عبد الرزاق عرفان, منسوبة إلى المتلمس, ص31 , طبعة دار الحديث , وأوردها أيضا البحتري في الحماسة منسوبة إلى المتلمس, وانظر: الحماسة ص19 , طبعة الرحمانية. (¬3) - عمرو بن مالك الأزدي، من قحطان, المتوفى سنة (70 ق. هـ/ 554م) , شاعر جاهلي، يماني، من فحول الطبقة الثانية وكان من فتاك العرب وعدائيهم، وهو أحد الخلعاء الذين تبرأت منهم عشائرهم, قتلهُ بنو سلامان، وقيست قفزاته ليلة مقتلهِ فكان الواحدة منها قريباً من عشرين خطوة، وفي الأمثال (أعدى من الشنفرى) . وهو صاحب لامية العرب، شرحها الزمخشري في أعجب العجب المطبوع مع شرح آخر منسوب إلى المبرَّد ويظن أنه لأحد تلاميذ ثعلب. وللمستشرق الإنكليزي ردهوس المتوفي سنة 1892م رسالة بالانكليزية ترجم فيها قصيدة الشنفرى وعلق عليها شرحاً وجيزاً. والقلى: البغض والعداوة.

ليس المقام عليك فرضاً واجباً....في بلدة تدعي العزيز ذليلا وإذا بكيت على زمان قد مضى ... حتى يعود لتبكين طويلا ولبعض الشعراء: إذا لم تكن أرضي لنفسي معزة ... فلست وإن نادت إليَّ أجيبها وسرت إلى أرض سواها تعزني ... وإن كان لا يعوي من الجدب ذيبها وقال آخر: إن الضرورة تخرج الأحرار من ... أوطانها والطير من أوكارها وإذا الفتى ضاقت عليه جهاته ... طلب التنقل طائعاً أو كارها وهذا التحول عن الأرض لا يكون مرغوباً فيه إلا حينما يكون الإنسان قد سلبت حريته فهو لا يستطيع أن يقيم حقاً ولا يخذل باطلاً, ولا يستطيع أن يمارس شعائر دينه ولا يصرف أمور دنياه على مقتضى أحكام الشرع, وقد جاء في محكم التنزيل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} (¬1) . الحر يقاوم الطغيان ¬

_ (¬1) - سورة النساء الآيتان (97و98) .

إن السعادة والأمان في مقاومة الطغيان, فالحرية والأمان لولاهما لكان الإنسان أشبه بالحيوان المفترس, وليست الحرية في تأريخ الإنسان حادثاً جديداً, أو طارئاً غريباً وإنما هي فطرة الله التي فطر الناس عليها, فالإنسان الذي يمد يديه لطلب الحرية ليس بمتسول ولا مستجد؛ وإنما هو يطلب حقاً من حقوقه التي سلبته إياها المطامع البشرية, فإن ظفر بها فلا منة لمخلوق عليه, ولا يد لأحد عنده, فلطالما تغول الإنسان القوي على الضعيف فروّعه, فجعل من نفسه حارساً يتابع أعمال غيره فيراقب حركات يديه, وخطوات رجليه, وحركات لسانه, وخطرات وهمه وخياله, لا لمنفعة أو مصلحة يقرها الشرع ويرضى بها الحق, ولكن ليسلب من الإنسان حريته, ويجعل من الآخرين أسرى لاستبداده, والجناية التي تنتج عن فقدان تلك الحرية كبرى, والحر من الناس من يدافع عن حريته, ويرحم الله شوقي حيث يقول: وَمِنَ العُقولِ جَداوِلٌ وَجَلامِدٌ ... وَمِنَ النُفوسِ حَرائِرٌ وَإِماءُ وله أيضاً: وَلَقَد صَدَقتُم هَذِهِ الأَرضَ الهَوى ... وَالحُرُّ يَصدُقُ في هَوى أَوطانِهِ وفي الأمثال السائرة: "الحر عبد إذا طمع والعبد حر إذا قنع" (¬1) , وقيل: "الحر حرٌ وإن مسه الضر" (¬2) , أي لا يطأطأ رأسه فهو يأبى الضيم. ¬

_ (¬1) - ورد هذا المثل في: مجمع الأمثال, والتمثيل والمحاضرة. (¬2) - ورد هذا المثل في: مجمع الأمثال, والعقد الفريد, وجمهرة الأمثال, والمستطرف.

وكثيراً ما انبرى علماء وسياسيون وعسكريون لمقارعة من يعتدي على حرية الشعوب, وهذا الشاعر والعالم والأديب محمد العبيدي مفتي الموصل في عصره يزأر بشعره ليبعث الهمم فيقول: فتن الشرق بمن قد فتنا ... فعسى الله يقينا الفتنا ما خلت أرض لنا من وثن ... ضل قوم يعبدون الوثنا عبد الأحجار أباء مضوا ... وعبدنا بشراً أمثالنا كانت العزى خلي جوفها ... من طعام وشراب يقتنا لم تكلف عابديها مطعما ... لم تكن تشرب حتى اللبنا بل ولا أن تملك النفع فما ... تملك الضر ولا قول الخنا وابتلينا بغرانيق غوت ... وغوينا في هواها عَلَنا كلفتنا شططا من أمرها ... طاعة عميا وظلما بيِّنا تأكل الدنيا وتشكو سغباً ... تشرب البحر وترجو المزنا تكثر المال الذي نجمعه ... بشقاء ولغوب وعنا وإذا ما فرقته سرفاً ... أحرمت حرا واعطت خائنا وإذا الشعب شكا من فاقة ... سرها ما في يديها من عنا لا تبالي باليتامى إن بكوا ... تحتسي من دمعهم كأس الهنا يسعد الفرد وتشقى أمة ... حسبنا هذا ضلالاً حسبنا يا ابن عبد الله ادرك أمةً ... عضها الدهر وضاقت عطنا عبدت أشباح غي وعصت ... بعدك الله وقاست محنا

وطواغيت تولوا أمرها.....لم نجد أمراً لديهم حسنا نقضوا عهداً وخانوا أمةً ... وشروا عاراً وباعوا الوطنا يا نبي الله يا نور الهدى ... وأمين الوحي والمؤتمنا قم إلى قومك جدد دعوة ... أذن الله لها أن تعلنا هبل الأعلى الذي حطمته ... قم ترى أمثاله ما بيننا طعنوا دينك في أحشائه ... وتراهم باسمه نالوا المنى قم لملك قوضوا أركانه ... ولقد أسسته فوق القنا قم لنور أطفؤه جهرةً ... ولنار أوقدوها إحنا وعقول عقلوها ظلة ... وجفون اشبعوها وسنا ونفوس ملؤها حسرة ... وقلوب ملؤها حزنا قم لحي ألبسوه ذلةً ... ولميت سلبوه الكفنا وكتاب نزل الوحي به ... هجروه وأضاعوا السننا قادة الأمة أو أوثانها ... قد أضلوها وضلوا ألسنا ثمن المجد دم جدنا به ... فانظروا كيف استغلوا الثمنا يا شباب الضاد هل فيكم فتىً ... يحقر الموت إذا ما امتحنا يوقض الأفكار عن غفوتها ... يكشف الأستار عما مسنا إنما الأفكار في مرقدها ... كشرار في زناد كمنا يبعث الرأي دماغ واحد ... ثم يفسق فهنا ثم هنا ويد الله مع الجمع إذا ... صدع الجمع بحق معلنا

يا شباب الضاد هل من مرشد.....قد غوينا وغوى قادتنا ما علينا وعليهم لو مشوا ... ومشينا وجمعنا شملنا علّنا نبعث مجداً دارساً ... وعسى نخرج كنزاً دفنا كل قوم حطموا أوثانهم ... كل شعب عاد حرا غيرنا عللوها بالأماني أنفساً ... ضعفة عزماً وشان قطنا ما ذرت إلا هواناً في هوى ... من رأت غير المنايا من منا أيها الاخوان مهلاً حسبكم ... قد شقينا وشقيتم معنا لا تغرنكم قصورٌ شمخت ... إن كوخ الحر خير مسكنا إن حر الطير في أقفاصها ... تعشق الروض وتهوى الفننا وترى البلبل في تغريده ... ناح كالثكالا إذا ما امتحنا ويرحم الله محمد العبيدي فلعل الباعث له على نظم هذه القصيدة الغراء غيرته على دينه ووطنه وعشيرته وأهله, وما كان يشاهده في ذلك الزمن, فكيف لو رأى ما حل بالعراق اليوم؟!! , وما حل بالأمة الإسلامية من شتات وتمزق, وليس هذا النقد الذي تضمنته القصيدة موجه لولاة الأمور آنذاك فحسب بل هو لوم لجميع الأمة حكاماً ومحكومين, ومع ذلك فإنه ربما وجد بين قادة هذه الأمة وولاة أمورها وعلمائها من يرجى منهم نصرة هذه الأمة وكبح جماح أعدائها والذب عن بيضة المسلمين, فلا يزال الخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة حتى وإن أصابها الوهن في بعض الأحوال فإن الأمل في أحرارها وساستها وقادتها وعلمائها أن يكونوا أسوداً تغضب

لغضب الله, ويسعون لإزاحة الظلم عن أفراد هذه الأمة, وإلا فإن البلاء سيحيق بالجميع, وقصيدة مفتي الموصل تذكرنا بما قاله الأستاذ العالم الأديب علي عبد العظيم عضو الجامعة الليبية ونشرته مجلة الوعي الإسلامي آنذاك وذلك في قصيدته التي يقول فيها: سوانا بآثار الحضارة ينعمُ ... ونحن بأشتات الأماني نحلمُ نعيش على الماضي ونهتف باسمه ... وحاضرنا بالبؤس والذل مفعمُ نرتل أمجاد الذين تقدموا ... ولم نتبع نهج الذين تقدموا كسلنا وجد الباحثون إلى العلا ... فما نحن أيقاظ ولا نحن نوّمُ وكنا مع الفرقان شملاً موحداً ... جميعاً ونحن الآن نهب مقسمُ تحكم الاستعمار فينا وبعضنا ... على البعض منا صايل متقحمُ يعادي أخ منا أخاه وينحني ... لمن هو فينا غاشم متحكمُ وما دولة إلا تكيد لاختها ... وتعرب في حوك الشباك وتعجمُ وما أسرة إلا تبدد شملها ... سواءٌ أب في غيه وابنمُ فلا عروة الإسلام ضمت شتاتنا ... ولا أدنت الفصحى ولا قرب الدمُ ولا جمعتنا للوئام حضارة ... أشع بها التأريخ والكون مظلمُ بني الشرق ضيعتم على الشرق مجده ... ولم تحفظوا حق الجدود عليكمُ تعود بي الذكرى إليهم فأنتشي ... وإن كنت من أوضاعكم أتألمُ تذكرت روحانية الشرق حينما ... أضاء به موسى وعيسى ومريمُ تذكرت في البيت العتيق محمداً ... ومن حوله الشرك العتي مخيمُ

تذكرت لما ضاق بالشرك فانحنى.....بدار حراء باحثاً يتوسمُ يقلب عينا في الوجود بصيرة ... تشق حجاب الغيب والغيب معتمُ يناجي ويستهدي ويرجو ويتقي ... وينشد كشف السر والسر مبهمُ إلى أن تجلى الله بالوحي فانجلى ... لفطنته السر العتيق المكتمُ وعانقه الروح الأمين محييا ... وأهدى إليه فوق ما يتوهمُ وقال: له اقرأ قال: ما انا بقارئ ... فقال: بفضل الله تتلو وتفهمُ ستحمل بسم الله أسمى رسالة ... وحسبك أن الله نعم المعلمُ فأشرقت الدنيا بأنوار ربها ... وحفت بها من رحمة الله أنعمُ تذكرت عهد المصطفى فتألقت ... أشعته وانجاب عنها التلثمُ وللملأ الأعلى ابتهال مقدس ... وللدرة العظمى شأو منعمُ وللحرم المكي رانة واجد ... يرددها عند الحطيم وزمزمُ وكل بحمد الله داع ومؤمن ... وكل بذكر الله صب متيمُ تذكرت أصحاب الرسول وكلهم ... حفي بآيات النبوة مغرمُ وكل فتى فيهم كريم مكرم ... وكل فتى منهم حكيم محكمُ ففي باحة المحراب داع مسبح ... وفي ساحة الهيجاء ليث مصممُ إذا حل وقت السلم فهو حمامة ... وإن سعرت نار الوغى فهو قشعمُ وما هو إلا دارس أو مجاهد ... وما هو إلا قيم أو مقومُ لقد أقسموا أن ينشروا دين أحمد ... فبروا بما آلوا عليه وأقسموا وليس لهم إلا العزيمة مسعف ... وليس لهم إلا البصيرة ملهمُ

تذكرتهم أيام صالوا وجاهدوا......وسادوا وشادوا واستفادوا وعلموا فما بطروا عند السيادة أو بغوا ... ولكنهم فيها أبر وأرحمُ لهم تحت أستار الظلام تهجد ... يقربهم لله والناس نوّمُ إذا رتلوا القرآن سالت عيونهم ... وكادت بافلاذ الحشاشة تسجمُ وإن ثارت الهيجاء هبوا إلى الوغا ... فلا خصم إلا مسلم أو مسلِّمُ فيا قوم هذا ما رآه جدودكم ... ففيما عدلتم عن هداه وحلتمُ رضيتم باحكام الطغاة وبغيهم ... وياطالما قلتم فماذا فعلتمُ؟ لقد فرض الله الجهاد فمالكم؟ ... نكصتم على أعقابكم وارتددتمُ وكم نبهتكم للإله مواعظ ... وآيات تحذير فهلا اتعظتمُ عصيتم كتاب الله أما عدوكم ... فكم ذا سمعتم قوله واطعتمُ تركتم ذرى العليا قسراً لزحفه ... وأنتم من المجد المأثل أنتمُ لقد نالكم بالقهر والبغي والأذى ... فهلا ذكرتم كيف كان وكنتمُ ألم تتحرك نخوة العز فيكم ... ألم ينقشع سر الغشاوة عنكمُ أفيكم حماة للشريعة يُقَّظٌ ... أفيكم أباة مخلصون أفيكمُ فإن لم تصون دينكم حان حينكم ... وقام عليكم مأتم ثم مأتمُ كأني بصوت المصطفى في سموه ... يصيح بكم طال النكوص فاقدموا كأني به في ساحة الخلد عاتباً ... يسائلكم يا قوم ماذا صنعتم؟ أحقاً تركتم سنتي وهجرتمُ ... كتابي وحدتم عن طريقي وملتمُ أحقاً سخوتم بالألوف على الهوى ... وأعوزكم في نصرة الدين درهمُ

أحقاً غفلتم عن تعاليم دينكم......فلم يجد نصاح ولم يغن لومُ حرام عليكم أن تنام عيونكم ... وللدين طرف لا يفارقه الدمُ حرام عليكم أن تقر جنوبكم ... وللدين قلب واهن متألمُ أما صان حق الله فيكم معلم ... أما جد في إدراكه متعلمُ إذا لم تحيطوا بالجهاد شريعتي ... فما أنتم مني ولا أنا منكمُ فيا شيعة المختار إن لم تحافظوا ... على دينكم ضيعتموه وضعتمُ خصومكم في الكيد للدين يُقَّظٌ ... وأنتم على تلك المكايد نوّمُ لقد ظلموا الدين القويم بإفكهم ... وأنتم إذا لم تنصروا الدين أظلمُ أتلهون عنه والعداة تنوشه ... فلله ما يلقاه منكم ومنهمُ وإني لأخشى أن تلم ملمةٌ ... يطالعكم فيها القضاء المحتمُ فيدهمكم ليل من الرجز أليلٌ ... ويصحبكم يومٌ من الشر أيومُ وقد يأخذ الله العصاة بظلمهم ... وإن كان يعفو عن كثير ويرحمُ (¬1) والحق أن شاعرنا الأستاذ العلامة الأديب الكبير علي عبد العظيم نصر عضو الجامعة الليبية صاحب عزيمة وهمة ولسان طليق فصيح, بهر ببلاغته البلغاء, وأمتع بفصاحته قلوب النصحاء, فياترى أين يذهب البلغاء إذ كسد سوق الأدب واعتل لسان العرب؟ وماذا يقول النصحاء من فصحاء العرب؟ وفي الأرض منائ للكريم عن الأذى ... وفيها لمن خاف القلى متعزلُ (¬2) ¬

_ (¬1) - انظر مجلة التوعية الإسلامية العدد السادس عشر ص13 , الصادر في ربيع الثاني 1386هـ. (¬2) - هذا البيت ينسب للشنفرى.

ولعل الباحث المتتبع يجد في أباة الضيم من يرى ما ذهب إليه عروة بن الورد حيث يقول: فلا أترك الاخوان ما عشت للردى ... كما أنه لا يترك الماء شاربه ولا يستضام الدهر جاري ولا أرى ... لمن بات تسري للصديق عقاربه والظاهر أن الأحرار أهل الوفاء بالعهود طالما قطعوا على أنفسهم عهداً أن لا يتركوا إخوانهم, ولا يضام جيرانهم, ولا تهتك حرمات لإخوانهم وبنيهم ولهم عين تطرف أبداً {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (¬1) . وفي الأمثال السائرة: "الحزم حفظ ما وليت وترك ما كفيت", وقيل: "عند النطاح يُغلب الكبش الأجم". (¬2) قال الشاعر: رَأَيٌ سَرى وَعُيونُ الناسِ هاجِعَةٌ ... ما أَخَّرَ الحَزمَ رَأيٌ قَدَّمَ الحَذَرا (¬3) أما أبو الطيب المتنبي فهو يقول: عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ ... وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ وَتَعظُمُ في عَينِ الصَغيرِ صِغارُها ... وَتَصغُرُ في عَينِ العَظيمِ العَظائِمُ ويقول: إِذا غامَرتَ في شَرَفٍ مَرومٍ ... فَلا تَقنَع بِما دونَ النُجومِ فَطَعمُ المَوتِ في أَمرٍ صَغيرٍ ... كَطَعمِ المَوتِ في أَمرٍ عَظيمِ ¬

_ (¬1) - سورة الحج الآية (40) . (¬2) - ورد المثل في التمثيل والمحاضرة , ومعجم كنوز الامثال. (¬3) - هذا البيت لأشجع السلمي.

فلا بد للحر من أن يكون حريصاً على أهله وبلاده طامحاً في تحريرها والحفاظ عليها, ويرحم الله شوقي حيث يقول: شَبابٌ قُنَّعٌ لا خَيرَ فيهِم ... وَبورِكَ في الشَبابِ الطامِحينا أما ايليا أبو ماضي فهو يقول: الأرض للحشرات تزحف فوقها ... والجو للبازي وللشاهين ويغفر الله لأبي قاسم الشابي حيث يقول: إِذا الشَّعْبُ يوماً أرادَ الحياةَ ... فلا بُدَّ أنْ يَسْتَجيبَ القدرْ ولا بُدَّ للَّيْلِ أنْ ينجلي ... ولا بُدَّ للقيدِ أن يَنْكَسِرْ ومن لا يحبُّ صُعودَ الجبالِ ... يَعِشْ أبَدَ الدَّهرِ بَيْنَ الحُفَرْ أما احمد مطر في شعره الحر فإنه في لافتاته تحت عنوان: "الحرية رائعة" يقول: أخبرنا أستاذي يوماً ... عن شيءٍ يدعى الحرية فسألت الأستاذ بلطف ... أن يتكلم بالعربية ما هذا اللفظ وما تعني ... وأية شيء حرية هل هي مصطلح يوناني ... عن بعض الحقب الزمنية أم أشياء نستوردها ... أو مصنوعات وطنية فأجاب معلمنا حزناً ... وانساب الدمع بعفوية قد أنسوكم كل التأريخ ... وكل القيم العلوية أسفي أن تخرج أجيال ... لا تفهم معنى الحرية

لا تملك سيفاً أو قلماً ... لا تحمل فكراً وهوية وعلمت بموت مدرسنا ... في الزنزانات الفردية فنذرت لئن أحياني الله ... وكانت بالعمر بقية لأجوب الأرض بأكملها ... بحثاً عن معنى الحرية وقصدت نوادي أمتنا ... أسألهم أين الحرية فتواروا عن بصري هلعاً ... وكأن قنابل ذرية تنفجر فوق رؤوسهم ... وتبيد جميع البشرية وأتى رجل يسعى وجلا ... وحكى همساً وبسرية لا تسأل عن هذا أبداً ... أحرف كلماتك شوكية هذا رجس هذا شرك ... في دين دعاة الوطنية إرحل فتراب مدينتنا ... يحوي أذاناً مخفية تسمع ما لا يحكى أبداً ... وترى قصصاً بوليسية ويكون المجرم حضرتكم ... والخائن حامي الشرعية ويلفق حولك تدبير ... لإطاحة نظم ثورية وببيع روابي بلدتنا ... يوم الحرب التحريرية وبأشياء لا تعرفها ... وخيانات للقومية وتساق إلى ساحات الموت ... عميلاً للصهيونية واختتم النصح بقولته ... وبلهجته التحذيرية لم أسمع شيئاً لم أركم ... ما كنا نذكر حرية

هل تفهم؟ عندي أطفال ... كفراخ الطير البرية وذهبت إلى شيخ الإفتاء ... لأسأله ما الحرية فتنحنح يصلح جبته ... وأدار أداة مخفية وتأمل في نظارته ... ورمى بلحاظ نارية واعتدل الشيخ بجلسته ... وهذى باللغة الغجرية اسمع يا ولدي معناها ... وافهم أشكال الحرية ما يمنح مولانا يوماً ... بقرارات جمهورية أو تأتي مكرمة عليا ... في خطب العرش الملكية والسير بضوء فتاوانا ... والأحكام القانونية ليست حقاً ليست ملكاً ... فأصول الأمر عبودية وكلامك فيه مغالطة ... وبه رائحة كفرية هل تحمل فكر أزارقة؟ ... أم تنحو نحو حرورية يبدو لي أنك موتور ... لا تفهم معنى الشرعية واحذر من أن تعمل عقلاً ... بالأفكار الشيطانية واسمع إذ يلقي مولانا ... خطبا كبرى تأريخية هي نور الدرب ومنهجه ... وهي الأهداف الشعبية ما عرف الباطل في قولٍ ... أو في فعل أو نظرية من خالف مولانا سفهاً ... فنهايته مأساوية لو يأخذ مالك أجمعه ... أو يسبي كل الذرية

أو يجلد ظهرك تسلية ... وهوايات ترفيهية أو يصلبنا ويقدمنا ... قربانا للماسونية فله ما أبقى أو أعطى ... لا يسأل عن أي قضية ذات السلطان مقدسة ... فيها نفحات علوية قد قرر هذا يا ولدي ... في فقرات دستورية لا تصغي يوما يا ولدي ... لجماعات إرهابية لا علم لديهم لا فهماً ... لقضايا العصر الفقهية يفتون كما أفتى قوم ... من سبع قرون زمنية تبعوا أقوال أئمتهم ... من احمد لابن الجوزية أغرى فيهم بل ضللهم ... سيدهم وابن التيمية ونسوا أن الدنيا تجري ... لا تبقى فيها الرجعية والفقه يدور مع الأزمان ... كمجموعتنا الشمسية وزمان القوم مليكهم ... فله منا ألف تحية وكلامك معنا يا ولدي ... أسمى درجات الحرية فخرجت وعندي غثيان ... وصداع الحمى التيفية وسألت النفس أشيخ هو؟ ... أم من أتباع البوذية؟ أو سيخي أو وثني ... من بعض الملل الهندية أو قس يلبس صلباناً ... أم من أبناء يهودية ونظرت ورائي كي أقرأ ... لافتة الدار المحمية

كتبت بحروف بارزة.... وبألوان فسفورية هيئات الفتوى والعلماء ... وشيوخ النظم الأرضية من مملكة ودويلات ... وحكومات جمهورية هل نحن نعيش زمان ... التيه وذل نكوص ودنية تهنا لما ما جاهدنا ... ونسينا طعم الحرية وتركنا طريق رسول الله ... لسنن الأمم السبئية قلنا لما أن نادونا ... لجهاد النظم الكفرية روحوا أنتم سنظل هنا ... مع كل المتع الأرضية فأتانا عقاب تخلفنا ... وفقاً للسنن الكونية ووصلت إلى بلد السكسون ... لأسألهم عن حرية فأجابوني: "سوري سوري ... نو حرية نو حرية" من أدراهم أني سوري ... ألأني أطلب حرية؟! وسألت المغتربين وقد ... أفزغني فقد الحرية هل منكم أحد يعرفها ... أو يعرف وصفاً ومزية فأجاب القوم بآهات ... أيقظت هموماً منسية لو رزقناها ما هاجرنا ... وتركنا الشمس الشرقية بل طالعنا معلومات ... في المخطوطات الأثرية إن الحرية أزهار ... ولها رائحة عطرية كانت تنمو بمدينتنا ... وتفوح على الإنسانية

ترك الحراس رعايتها.....فرعتها الحمر الوحشية وسألت أديباً من بلدي ... هل تعرف معنى الحرية فأجاب بآهات حرى ... لا تسألنا نحن رعية وذهبت إلى صناع الرأي ... وأهل الصحف الدورية ووكالات وإذاعات ... ومحطات تلفازية وظننت بأني لن أعدم ... من يفهم معنى الحرية فإذا بالهرج قد استعلى ... وأقيمت سوق الحرية وخطيب طالب في شمم ... أن تلغى القيم الدينية وبمنع تداول أسماء ... ومفاهيم إسلامية وإباحة فجر وقمار ... وفعال الأمم اللوطية وتلاه امرأة مفزغة ... كسنام الإبل البختية وبصوت يقصف هدّاراً ... بقنابلها العنقودية إن الحرية أن تشبع ... نار الرغبات الجنسية الحرية فعل سحاق ... ترعاه النظم الدولية هي حق الإجهاض عموماً ... وإبادة قيم خلقية كي لا ينمو الإسلام ولا ... تأتي قنبلة بشرية هي خمر يجري وسفاح ... ونواد الرقص الليلية وأتى سيدهم مختتماً ... نادي أبطال الحرية وتلى ما جاء الأمر به ... من دار الحكم المحمية

أمر السلطان ومجلسه ... بقرارات تشريعية تقضي أن يقتل مليون ... وإبادة مدن الرجعية فليحفظ ربي مولانا ... ويديم ظلال الحرية فبمولانا وبحكمته ... ستصان حياض الحرية وهنالك أمر ملكي ... وبضوء الفتوى الشرعية يحمي الحرية من قوم ... راموا قتلا للحرية ويوجه أن يبنى سجن ... في الصحراء الإقليمية وبأن يستورد خبراء ... في ضبط خصوم الحرية يلغى في الدين سياسته ... وسياستنا لا دينية وليسجن من كان يعادي ... قيم الدنيا العلمانية أو قتلا يقطع دابرهم ... ويبيد الزمر السلفية حتى لا تبقى أطياف ... جماعات إسلامية وكلام السيد راعينا ... هو عمدتنا الدستورية فوق القانون وفوق الحكم ... وفوق الفتوى الشرعية لا حرية لا حرية ... لجميع دعاة الرجعية لا حرية لا حرية ... أبداً لعدو الحرية ناديت: أيا أهل الإعلام ... أهذا معنى الحرية؟ فأجابوني باستهزاء ... وبصيحات هستيرية الظن بأنك رجعي ... أو من أعداء الحرية

وانشق الباب وداهمني ... رهط بثياب الجندية هذا لكماً هذا ركلاً ... ذياك بأخمص روسية اخرج خبر من تعرفهم ... من اعداء للحرية وذهبت بحالة إسعاف ... للمستشفى التنصيرية وأتت نحوي تمشي دلعاً ... كطير الحجل البرية تسأل في صوت مغناج ... هل أنت جريح الحرية أن تطلبها فالبس هذا ... واسعد بنعيم الحرية الويل لك ما تعطيني ... أصليب يمنح حرية يا وكر الشرك ومصنعه ... في أمتنا الإسلامية فخرجت وجرحي مفتوح ... لأتابع أمر الحرية وقصدت منظمة الأمم ... ولجان العمل الدولية وسألت مجالس أمتهم ... والهيئات الإنسانية ميثاقكم يعني شيئاً ... بحقوق البشر الفطرية أو أن هناك قرارات ... عن حد وشكل الحرية قالوا: الحرية أشكال ... ولها أسس تفصيلية حسب البلدان وحسب الدين ... وحسب أساس الجنسية والتعديلات بأكملها ... والمعتقدات الحالية ديني الإسلام وذا وطني ... وولدت بأرض عربية حريتكم حددناها ... بثلاث بنود أصلية

فوق الخازوق لكم علم ... والحفل بيوم الحرية ونشيد يظهر أنكم ... انهيتم شكل التبعية ووقفت بمحراب التأريخ ... لأسأله ما الحرية فأجاب بصوت مهدود ... يشكو أشكال الهمجية إن الحرية أن تحيا ... عبداً لله بكلية وفق القرآن وفق الشرع ... ووفق السنن النبوية لا حسب قوانين طغاة ... أو تشريعات أرضية وضعت كي تحمي ظلماً ... وتعيد القيم الوثنية الحرية ليست وثناً ... يغسل في الذكرى المئوية ليست فحشاً ليست فجراً ... أو أزياء باريسية الحرية لا تستجدى ... من سوق النقد الدولية والحرية لا تمنحها ... هيئات البر الخيرية الحرية نبت ينمو ... بدماء حرة وزكية تؤخذ قسراً تبني صرحاً ... يرعى بجهاد وحمية يعلو بسهام ورماح ... ورجال عشقوا الحرية اسمع ما أملي يا ولدي ... وارويه لكل البشرية أن تغفل عن سيفك يوماً ... فانس موضوع الحرية فغيابك عن يوم لقاء ... هو نصر للطاغوتية والخوف لضية أموال ... أو أملاك أو ذرية

الحر يحفظ الود

طعن يفري كبداً حرة ... ويمزق قلب الحرية إلا إن خانوا أو لانوا ... وأحبوا المتع الأرضية يرضون بمكس الذل ولم ... يعطوا مهراً للحرية لن يرفع فرعون رأساً ... إن كانت بالشعب بقية فجيوش الطاغوت الكبرى ... في وأد وقتل الحرية من صنع شعوب غافلة ... سمحت ببروز الهمجية حادت عن منهج خالقها ... لمناهج حكم وضعية واتبعت شرعة إبليس ... فكساها ذلاً ودنية فقوى الطاغوت يساويها ... وجل تحيى فيه رعية لن يجمع في قلب أبداً ... إيمان مع جبن طوية الحر يحفظ الود من اصطنع حراً استفاد شكراً, فالحر يحفظ الود والعهد, فهو لا يترك عهده لفقد النصرة, وعدم القدرة, أو الشعور بقوة الخصم, ولهذا قيل: "خير الأموال ما استرق حراً, وخير الأعمال ما استحق شكراً", فالإحسان إلى الأحرار يحفظ في قلوبهم, ويظهر في سلوكهم, وما أحسن ما قاله العلامة علي بن احمد خريصة اليماني: ليس بحر ولا كريم ... من غيرت وده الدهورُ الحر حرٌ وإن جفاه ... دهرٌ وحالت به الأمورُ ليس الفتى من إذا ألمت ... أزمة دهرٍ به يخورُ ولا الذي إن به تراخت ... حال رأى أنه الخطيرُ

فقد الحر رزيئة

وإنما الحر عند هذا ... مصطبرٌ أو فتىً شكورُ أما أبو الطيب المتنبي فهو يقول: وَما قَتَلَ الأَحرارَ كَالعَفوِ عَنهُمُ ... وَمَن لَكَ بِالحُرِّ الَّذي يَحفَظُ اليَدا فقد الحر رزيئة رأس الفضائل اصطناع الأفاضل, ورأس الرذائل اصطناع الأراذل, ومن أعظم الفجائع أضاعت الصنائع, وهي لا تضيع إلا بإضاعتهم أو فقدهم, ويرحم الله الإمام الشافعي حيث يقول: لعمرك ما الرزيئة فقد دار ... ولا شاة تموت ولا بعير ولكن الرزئية فقد حر ... يموت بموته خلق كثير (¬1) ¬

_ (¬1) - ديوان الإمام الشافعي ص94.

الفصل التاسع الوطن

الفصل التاسع الوطن

الوطن

الوطن إن محبة الأوطان, ومؤانسة الإخوان, والتمتع بنعم الله الوهاب المنان, من أمور الفطرة التي جُبِل عليها الإنسان, وتتوق إليها أفئدة الشيوخ والكهول والشباب والولدان, فالحنين إلى الأوطان والشوق إليها في سائر الأزمان ومختلف البلدان, أمر طالما تحدث عنه الفصحاء, ونطق به البلغاء, ونظمه الشعراء, ويرحم الله يحيى بن إبراهيم جحاف حيث يقول: إنما المقصد الحسن ... أبدا رؤية الوطن واجتماعي بمن به ... وبقلبي الشجي سكن وطني حيث لم يكن ... لي في غيره شجن إنه برؤ ساعة ... من أذى البث والحزن وهو قوت القلوب إن ... عافت الزبد واللبن كلما عنَّ ذكره ... سنح الشوق لي وعن وإذا حن طائر ... حن قلبي هوى وأن يا نزول بسفحه ... أنتم من ذوي الفطن هـ إلى أن قال: أصبح الروح في حبور ... وفي ريمة البدن كم وكم فيه من رشا ... يشبه الشادي الأغن قلت والروح في يديه ... مني الروح مرتهن أبرزوا وجهه المليـ ... ـح ولاموا من افتتن

لو أرادوا صلاحنا.... ستروا وجهه الحسن والوطن:هو الأقليم من الأرض الذي أتخذته مجموعة من الناس موضع للاقامة والسكن والعيش المشترك فهو موضع الأقامة،ومنه كلمة مواطن الذي جاء بها القران الكريم قال تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} التوبة25 وفي المنار المواطن جمع موطن والأصل فيه مقر الإنسان ومحل أقامته كالوطن،وهذه المواطن كانت محل للنصرة والعلو وتجد مصطلح الإرض بمعنى الوطن قد جاء في قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} النور55، وفي الأمثال السائرة يحن اللبيب الى وطنه كما يحن النجيب إلى عطنه (¬1) وقال الشاعر: أحن حنين النيب للموطن الذي ... مغاني غوانيه إليه جواذبي ومن سار عن أرض ثواى قلبه بها ... تمنا له بالجسم أوبت آيب (¬2) ¬

_ (¬1) - التمثيل والمحاضرة ص 298. (¬2) - وردا هذان البيتان في معجم كنوز الأمثال منسوبه لابن حميدس، وفي المفردات النيب جمع الناب وهي الناقة المسنة

حب الوطن ووصفه

وقيل الغنى في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة (¬1) ، وفي محضرات الأدبا: عسرك في وطنك أطيب من يسرك في غربتك، وإذا أخلقك الوطن جددك الظعن (¬2) ، قال الشاعر: إذا نبا بكريم موطن فله ... ورأه في بسيط الأرض أوطان (¬3) حب الوطن ووصفه لقد أكثر الأدباء والشعراء وصف رياض الأوطان النضرة, وأجواءها العطرة, وأشجارها المثمرة, وأنهارها العذبة المتكاثرة, ووصف ديارها العامرة, وبحارها المتوهجة الهادرة, ووصف جمال أهلها, وتحسين أخبارها, وتزيين آثارها, بما يشنف الأسماع, ويهيج النفس ويبعثها على السماع, ولعل في ذلك من العظة والاعتبار ما يرشد إلى الإدكار, ويساعد على الخروج بالنفس من همومها, أو يرشد إلى النجاح والفلاح, وقد كان يسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يحن إلى الوطن ولا ينكره, وهذا بلال بن أبي رباح رضي الله عنه يسمع عنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حيث يقول: أَلا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً ... بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ ... وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ وَصَحِّحْهَا وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ) (¬4) . وفي هذا الحديث دلالة واضحة على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا يحبون وطنهم الأصلي مكة حباً جماً, فدعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لربه بأن يحبب المدينة إليهم كما حبب إليهم مكة نص صريح، وقد روى النسائي وأبن حبان والترمذي أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: (والله أنك لخير أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت) ، وفي الفتح الكبير (والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلي ولولا أني أخرجت منك ما خرجت) . وقد أُثِرَ عنه عليه الصلاة والسلام بعد أن استوطن المدينة أنه كان يقول في أحد: (هذا جبل يحبنا ونحبه) (¬5) , وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحب وطنه, وهو ما جزم به الإمام الذهبي رحمه الله حين عدّد بعض محاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذكر منها الوطن فقال: "ويحب وطنه" (¬6) , فالإسلام يحتاج إلى ملاذ آمن ينمو في كنفه, ويربو في أحشائه, وينطلق منه, ويأوي إليه, وهذا الملاذ هو ما يمكن الاصطلاح على تسميته بالوطن, ألا ترى ¬

_ (¬1) - نهج البلاغة ج2 ص 113. (¬2) - محضرات الأدبا ص 612 -614،وفي المفردات أخلقه:صيره باليا،والظعن:السفر. (¬3) - هذا البيت لابي الفتح البستي، وفي المفردات نبأ به المكان:لم يوافقه بسيط الارض المنبسطه الوسيه. (¬4) - أخرجه البخاري في صحيحه باب مقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه المدينة حديث (3711) . (¬5) - أخرجه البخاري في صحيحه باب أحد يحبنا ونحبه حديث (3855) . (¬6) - سير أعلام النبلاء ج15ص394, أشرف على تحقيقه شعيب الأرنؤط, الناشر: مؤسسة الرسالة بيروت الطبعة الثالثة 1405هـ1985م.

أنه ورد في الحديث النبوي الشريف: (إِنَّ الإِسْلامَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا) (¬1) , فالانتماء إلى الوطن في الإسلام يمثل شكلاً من أشكال الجماعة التي جاءت تعاليمه تشد من أزرها وتؤكد عليها وفق ضوابط شرعية وحدود مرعية, وقد استثمر المسلمون الأوائل ذلك في تحقيق مصالح الجماعة في عدد من المناسبات والظروف المختلفة في إعداد الجيوش وترتيبها في المعارك, وفي تنظيم الناس في العطاء, وفي تخطيط المدن, وفي حفظ الأمن, وفي تنظيم علاقة الراعي بالرعية, إلى غير ذلك من الأمور الهامة. والمواطنة في الإسلام حق مكتسب لسائر الناس بما يرتب عليها من حقوق وواجبات إلا في جزيرة العرب فلا يسكنها على سبيل الإقامة الدائمة إلا المسلمون دون غيرهم, ومن نعم الله أن القرآن لم يكبح غريزة حب الأوطان, ولكنه يمنع أن تكون تلك المحبة مساوية لحب الله ورسوله أو مؤثرة عليهما {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (¬2) . ومن رحمة الله تعالى أنه لم يذم حب الأهل والأقارب والأزواج ولا حب المال والمكاسب والاتجار ولا حب الأوطان، ولم ينه عنها، وإنما جعل من ¬

_ (¬1) - أخرجه أحمد في المسند عن أبي هريرة حديث (9452) . (¬2) - سورة التوبة الآية (24) .

دعائم المواطنه

مقتضى الإيمان إيثار حُب الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم على حُب ما ذكر وكذلك الجهاد في سبيله، وفي الحديث الذي رواه الشيخان في صحيحيهما والترمذي والنسائي من حديث أنس مرفوعاً: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يُحب المرء لا يُحِبُّه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار) (¬1) , وروى البخاري ومسلم من حديث أنس أيضاً: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) (¬2) . فمحبة الأوطان من أمور الفطرة التي تتوق إليها نفوس الكرام, فكم شهدنا من صغار الناس وكبارهم شريفهم ووضيعهم ينعتون أوطانهم, ويحنون إليها, ويبكون على أطلالها, ويرحم الله شوقي حيث يقول: وَطَني لَو شُغِلتُ بِالخُلدِ عَنهُ ... نازَعَتني إِلَيهِ في الخُلدِ نَفسي وَهَفا بِالفُؤادِ في سَلسَبيلٍ ... ظَمَأٌ لِلسَوادِ مِن عَينِ شَمسِ شَهِدَ اللَهُ لَم يَغِب عَن جُفوني ... شَخصُهُ ساعَةً وَلَم يَخلُ حِسّي ولشدة حب الأوطان التي جُبِلَ عليه بنو الإنسان حكى الله عن قومٍ لم يذعنوا لله ويمتثلوا أمره {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} (¬3) ،عبر عن الوطن بالديار كما هو الاستخدام الشائع في القرآن ومن ذلك قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (¬4) ،وقوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (¬5) وقد يعبر عن الوطن بالدار وإلى ذلك يشير قول الحق تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬6) ،فكل أرض يلقا الأنسان فيها رغائبه فهي محببة إليه قال الشاعر: خير المواطن ما للنفس فيه هوى ... سم الخياط مع الاحباب ميدان كل الديار إذا فكرت واحدة ... مع الحبيب وكل الناس أخوان (¬7) دعائم المواطنه المواطنة مستمده من الوطن وهو الأقليم من الأرض الذي أتخذته مجموعة من الناس موضع للإقامة والسكن والعيش المشترك في ظل الإنتماء والولاء لهذا الإقليم، وأحقيت كل فرد في التمتع بالحقوق والحريات الإنسانية في ¬

_ (¬1) - أخرجه البخاري في صحيحه باب حلاوة الإيمان حديث (16) , ومسلم في صحيحه باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان حديث (43) , والترمذي في سننه حديث (2624) , والنسائي في سننه باب طعم الإيمان حديث (4987) . (¬2) - أخرجه البخاري في صحيحه باب حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الإيمان حديث (15) , ومسلم في صحيحه باب وجوب محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديث (44) . (¬3) - سورة النساء الآية (66) . (¬4) - سورة الحشر الآية (8) . (¬5) - سورة الممتحنة الآية (8) . (¬6) - سورة الحشر الآية (9) . (¬7) - ورد هذان البيتان في معجم كنوز الأمثال منسوبه إلى إبراهيم الغزي.

مقابل القيام بالواجبات المستحقة عليه للعيش في هذا الوطن ويمكن أن يأخذ المرء من الصحيفة المدنية التي تعد وثيقة دستورية أهم الدعائم التي تقوم عليها المواطنة في ظل نظام إسلامي إنساني فقد جاء في هذه الوثيقة ما يفيد أن الدعائم الأساسية للمواطنة حق التمتع بالجنسية والمساواة وحصول التكافل والتضامن بين ابناء الوطن الواحد والحماية والنصرة والتناصح في الشؤن المدنية والدفاعية والإلتزام على الوطن ورعايته وتحريم موالات الأعدا وتقرير الكرامة الإنسانية والاعتراف بحق الخصوصية 000الخ، وتضمنت صحيفة المدينة: 1. هذا كتاب محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم أنهم أمه واحدة من دون الناس (¬1) ،وفي هذا بيان لكيان الدولة الناشئة على وطن واحد تم دمج أفراده ومجتمعة في كيان واحد يتمتعون بجنسية الدولة الناشئة فهم أمة واحدة وفي الأمثال السائرة لولا الوئام لهلك الأنام أي لولا موافقة الناس بعضهم لبعض لهلكوا قال الميداني:ويروى لولا اللئام لهلك الأنام من قولهم لائمت بينهما أي اصلحت من اللأم وهو الاصلاح ويروى اللَّوامْ بمعنى الملاومة (¬2) قال الشاعر: ¬

_ (¬1) - السير النبوية لأبي الحسن الندوي ص488. (¬2) - مجمع الأمثال للميداني ص330،معجم كنوز الأمثال ص312.

لولا التعاون بين الناس ماشرفت ... نفس ولا أزدهرة أرض بعمران (¬1) وقال حافظ إبراهيم: لا تَعجَبَنَّ لِمُلكٍ عَزَّ جانِبُهُ ... لَولا التَعاوُنُ لَم تَنظُر لَهُ أَثَرا 2. التكافل والتضامن بين أفراد وجماعات الوطن تمثل دعامة هامة ولهذا فقد جاء في صحيفة المدينة أن المؤمنين لا يتركون مفرحا أن يعطوه في فداء أو عقل (¬2) (الدية) ،ومفرحا بضم الميم وفتح الراء هو المثقل بالدين،ومما لا ريب فيه أن المجتمع الذي يشيد بنيانه على التكافل والتضامن بين أفراده يكون مترابطا قويا ويرحم الله شوقي حيث يقول: إِنَّ التَعاوُنَ قُوَّةٌ عُلوِيَّةٌ ... تَبني الرِجالَ وَتُبدِعُ الأَشياءَ وقال أخر: إذا العِبْءُ الثقيلُ توزَّعَتْه ... رقابُ القومِ خفَّ على الرِّقابِ 3. الحمايه والنصرة بين أفراد المجتمع أساس للحفاظ على الإنسان والوطن وقد أرست الوثيقة الولاء بين أفراد المجتمع في الوطن الواحد في ظل الهوية الإسلامية ونصرة بعضهم البعض فنص فيها (لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه وأن المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثما أو عدوانا أو 4. ¬

_ (¬1) - نسب هذا البيت في معجم كنوز المعرفة لمعروف الرصافي ولم نجده في نسخة الديوان التي لدينا. (¬2) - السير لندوي ص 489.

5. فسادا بين المؤمنين وأن ايديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر ولا ينصر كافر على مؤمن وأن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم وان المؤمنين موالى بعضهم دون الناس) ،فاين المسلمون من هذه المبادء التي جاء بها الإسلام حتى يكونوا كالجسد الواحد كُلَما أَنَّ بِالعِراقِ جَريحٌ ... لَمَسَ الشَرقُ جَنبَهُ في عُمانِه (¬1) أما المساواة القائمة على العدل فإن صحيفة المدينة كفلت ذلك لنظام مجتمع الدولة الناشئة فهو آية العدل والإنصاف وقد تضمنت صحيفة المدينة (فأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم،وأن سلم المؤمنين واحده لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله الا على سواء وعدل بينهم،وأن المؤمنين يبيئ بعضهم عن بعض بما نال دماءهم في سبيل الله،وأنه من أعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به الا أن يرضى ولي المؤمنين {بالعقل} ولا يحل لهم الا قيام عليه) ،وهذه المبادئ تترجم تكافل الكل وتساويهم في الحقوق والواجبات وما أختلفوا فيه من شيئ فمرده الله ورسوله وقد ذهبت الصحيفة المدنية لتعدد القبائل واليهود الذين تحالفوا مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وانضواء الكل في وطن واحد تحت لواء واحد فلا تحول الأختلافات الطبيعية أوالمكتسبة أو الفروق البشرية دون تماسك هذا المجتمع واتحاده،ويرحم الله ابا فراس ¬

_ (¬1) - هذا البيت لأمير الشعراء أحمدشوفي.

وَإِنّي وَإِيّاهُ لَعَينٌ وَأُختُها ... وَإِنّي وَإِيّاهُ لَكَفٌّ وَمِعصَمُ الحمداني حيث يقول: وقال أخر: تَداعَوا لِلسَلامِ وَأَمرِ نُجحٍ وَمَدّوا بَينَهُم بِحِبالِ مَجدٍ ... أ َلَم تَرَ أَنَّ جَمعَ القَومِ يُخشى وَأَنَّ القِدحَ حينَ يَكونُ فَرداً وَأَنَّكَ إِن قَبَضتَ بِها جَميعاً ... وَخَيرُ الأَمرِ ما فيهِ النَجاحُ ... وَثَديٍ لا أَجَدُّ وَلا ضَياحُ ... وَأَنَّ حَريمَ واحِدِهِم مُباحُ فَيُهصَرُلا يَكونَ لَهُ اِقتِداحُ ... أَبَت ما سُمتَ واحِدَها القِداحُ (¬1) 6. أحترام حق الخصوصية الدينية أساس ذلك أنه لا اكراه في الدين ووجوب أحترام مشاعر المؤمنين فوثيقة المدينة تعتبر الوطن معلما للعلاقة القائمة على العدالة والاعتراف بحق الأمن والامان على نفس المواطن وعرضه وارضة ودينه يظهر ذلك ما جاء في الصحيفة (أن يهود بني عوف أمة مع المؤمين،لليهود دينهم وللمسلمين دينهم،مواليهم وانفسهم الا من ظلم وأثم،فإنه لا يوتغ (يهلك) الا نفسه وأهل بيته. ¬

_ (¬1) - هذه الأبيات لناهض بن ثومة الكلابي.

وأنه لا يأثم امرؤ بحليفه،وأن النصر للمظلوم.

وأن على اليهود نفقتهم،وعلى المسلمين نفقتهم،وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذا الصحيفة،وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم. وأنه لا يأثم امرؤ بحليفه،وأن النصر للمظلوم. وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين) (¬1) ، وهذه النصوص واضحة الدلالة في أحترام حق الخصوصية بأستثناء ما ورد فيما يخص جزيرة العرب التي لم يبق فيها الا ديانة واحدة وهو الدين الإسلامي ويعتبر ما ورد في الصحيفة أساس لأحترام حق الخصوصية طالما أعترف غير المسلم بحق المسلم في الامن والامان على النفس والمال والدين وممارسة شعائر الاسلام ولم يحدث ايذاء للمسلمين في أعمالهم وحرياتهم أو محاولة فتنهم في دينهم أو طردهم من أوطانهم أو الأفتئات على حقوقهم فقد جاء في محكم الذكر: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (¬2) ،وفي ذلك بيان أن الاسلام دين سلام للفرد والجماعة والامم والشعوب وانه يقر الألفة بين المختلفين في الاديان والاوطان والاجناس والالوان واللغات،ومما يؤيد ذلك ماورد في الصحيفة ... (واذا دعو الى صلح يصالحونه ويلبسونه فأنهم يصالحونه ويلبسونه، وانهم اذا دعو ¬

_ (¬1) - السيرة النبوية للندوي ص 491. (¬2) - سورة الممتحنة الآية (8) .

خيانة الأوطان جناية

الى مثل ذلك فانه لهم على المؤمنين الا من حارب في الدين) (¬1) وقد جاء في الذكر الحكيم: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬2) قال قيس ابن زهير: فيا ابني بغيض راجعا السلم تسلما وان سبيل الحرب وعرٌ مضلة ... ولا تشمتا الاعداء يفترق الشمل وان سبيل السلم آمنةٌ سهل وأما أحمد شوقي فهو يقول: ما زِلتَ تَطرُقُ بابَ الصُلحِ بَينَهُما ... حَتّى تَفَتَّحَتِ الأَبوابُ وَالسُدَدُ ويغفر الله للقائل: وَلَو تابَعوا قَولَ الإِلَهِ وَأَمرَهُ ... لَقالوا بِأَنَّ الصُلحَ لِلخَلقِ أَصلَحُ خيانة الأوطان جناية إن مما ينبغي أن يتحلى به المرء الوفاء للأوطان, والحفاظ فيها على الأهل والإخوان, وعدم التفريط بها والتخلي عنها, والمحافظة على دين الله الحق سبحانه وتعالى فيها, وإماطة الأذى عن سكانها في طرقهم وأسواقهم وحدائقهم ومتنزهاتهم, والحرص على ديمومة أمنهم واستقرارهم, وعمارة مساجدهم, ونظافة أسواقهم, وإقامة شعائر دينهم, واستقامة أخلاقهم, وقال بعض الأدباء: أن "من لا خير فيه لدينه لا خير فيه لوطنه" لأنه إن كان بنقضه عهد الوطنية غادراً فاجراً, فهو بنقض عهد الله أغدر وأفجر, ¬

_ (¬1) - السيرة النبوية للندوي ص491. (¬2) - سورة الانفال الآية (61) .

وإن الفضيلة للإنسان أفضل الأوطان, فمن لم يحرص عليها فأحرى به أن لا يحرص على وطن السقوف والجدران. (¬1) وطالما تغنى الشعراء بحب الأوطان وحذروا من بيع الأهل والاخوان, وقد جاء في زهر الأدب لأبي إسحاق القيرواني من شعر ابن الرومي قوله: ولي وطنٌ آليت ألا أبيعَهُ ... وألا أرى غيري له الدهرَ مالكا وحبَّب أوطانَ الرجالِ إليهمُ ... مآربُ قضَّاها الشبابُ هنالكا إذا ذكروا أوطانَهُم ذكَّرتهمُ ... عُهودَ الصبا فيها فحنّوا لذلكا (¬2) قلتُ: الظاهر أن من طبيعة الإنسان حب الوطن والحنين إليه وإن لم يكن تضاريسه ومناخه حسن, قال الشاعر: بلاد ألفناها على كل حالةٍ وقد ... يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن وتستعذب الأرض التي لا هوا بها ... ولا ماؤها عذب ولكنها وطن وكلما فارق الإنسان وطنه ازداد شوقه إليه, وحنينه عليه, ويرحم الله شوقي حيث يقول: وَيا وَطَني لَقَيتُكَ بَعدَ يَأسٍ ... كَأَنّي قَد لَقيتُ بِكَ الشَبابا وَكُلُّ مُسافِرٍ سَيَئوبُ يَوماً ... إِذا رُزِقَ السَلامَةَ وَالإِيابا وَلَو أَنّي دُعيتُ لَكُنتَ ديني ... عَلَيهِ أُقابِلُ الحَتمَ المُجابا أُديرُ إِلَيكَ قَبلَ البَيتِ وَجهي ... إِذا فُهتُ الشَهادَةَ وَالمَتابا وَقَد سَبَقَت رَكائِبِيَ القَوافي ... مُقَلَّدَةً أَزِمَّتَها طِرابا ¬

_ (¬1) - النظرات ج3ص161. (¬2) - زهر الأدب ج2ص682, الطبعة الأولى, وهذه الأبيات مختارة من قصيدة تبلغ (24) بيتاً وانظر ديوان ابن الرومي.

مرارة الغربة عن الأوطان

تَجوبُ الدَهرَ نَحوَكَ وَالفَيافي.... وَتَقتَحِمُ اللَيالِيَ لا العُبابا وَتُهديكَ الثَناءَ الحُرَّ تاجاً ... عَلى تاجَيكَ مُؤتَلِقاً عُجابا مرارة الغربة عن الأوطان إن الأنكى للقلب أن تتحكم يد النوى في المطرود عن بلاده فيبارحها بجسده ويبقى فؤاده مقيماً فيها, في ظل موت الأماني والآمال بالعودة إلى بلاده, وذلك كاغتراب شعراء فلسطين الذين طردتهم وشردتهم إسرائيل عن بلادهم وديارهم وأهلهم, وأغلقت دونهم كل أبواب الأمل في العود إلى مساكنهم ومراتع الصبا في بلدانهم, فترن في الأذان أصوات حنينهم, ونشيج ضلوعهم, بما يمزق النفس, ويقضي على صفو الحياة: ما يهب النسيم إلا وجدنا ... طيه زفرة من الأوطانِ تحمل الطلَّ للرياض وتذكي ... في الحشا لفحة من النيرانِ آه ويح الغريب ماذا يقاسي ... من عذاب النوى وماذا يعاني (¬1) أما الشاعر والأديب مطهر بن علي الإرياني في قصيدة المجد والألم فإنه يرى حب الوطن الذي عبّر عنه بالهوى ديناً فيقول: أيا وطني جعلت هواك دينا ... وعشت على شعائره أمينا إليك أزف من شعري صلاة ... ترتل في خشوع القانتينا وفي الإيمان بالأوطان بر ... وتقديس لرب العالمينا ومن يفخر بمثلك يا بلادي ... لا يعنيه لوم اللائمينا ¬

_ (¬1) - انظر: حنين من الشعر العربي تأليف الدكتور العلامة أديب اليمن الكبير عبد الولي الشميري ص2, الناشر: مؤسسة الإبداع صنعاء الطبعة الثانية 1424هـ2004م.

وطن العرب والمسلمين واحد

أما الشاعر والأديب الكبير الأستاذ عبد الولي الشميري فإنه يرى أن الوطن موطن للحب وذلك حيث يقول: نور عيني وترانيم فمي ... نبظ قلبي وبلازيما دمي تاج مجد في أعالي جبهتي ... وسوار خالد في معصمي وطني للحب دار ووطن ... شامخ الهام على مر الزمن أنجب السمح وسيف بن يزن ... زرع اليمن فسموه اليمن يا ربى مسقط رأس الأدب ... ومناراً لأصول العرب موطن المستبسل الحر الأبي ... دم حصيناً في بروج الشهب وله أيضاً: يا موطن الحب يا نبعاً تدفقه ... يمنى الإله على جرحي فتشفيني ويا أريج نسيمات يمانية ... شذاك ينشرني طوراً ويرويني (¬1) وطن العرب والمسلمين واحد إن الكثير من عقلاء العرب والمسلمين, من الفصحاء المتقين الموحدين يرون في وحدة العقيدة ووحدة الأرض وطناً لهم لا يفرقون بين البلدان وإن تباينت, وفي ذلك يقول شاعرهم: ولست أعرف سوى الإسلام لي بلداً ... أرض الحجاز وأرض الشام سيانِ أما الدكتور عايض بن عبد الله القرني فهو يقول: فاينما ذكر اسم الله في بلد ... عددت ذاك الحمى من صلب اوطاني (¬2) ¬

_ (¬1) - حنين من الشعر العربي ص195و196. (¬2) - أورد هذا البيت في مقطوعة شعرية افتتح بها مقاماته وسمى هذه المقطوعة عنوان المؤلف، انظر مقامات القرني ص (8) .

والأرض قد وضعها الله للأنام وجعلها موطناً لبني الإنسان وقد جاء في سورة الرحمن: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} (¬1) ، وفي سورة الملك يقول الكريم المنان: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (¬2) . فالوطن في الإسلام ليس معتقلاً لا يجوز الخروج عنه بل أنه أجاز الخروج لتبليغ الدعوة وتعليم الناس والجهاد وكسب الرزق وطلب العلم وقضاء الحوائج والسعي إلى تحقيق المصالح المختلفة بحرية كاملة, وإن كانت نظرة الناس تتباين في الحنين إلى أوطانهم. وفي حنين بعض الشعراء إلى أوطانهم نجد من بين هؤلاء الشعراء من يرى في وحدة الدين وحدة الأوطان ومن ذلك ما قاله الشاعر والأديب الكبير أحمد الشامي: عجبي كيف لم يصخ لنداء الـ ... ـعقل حر يدعوه من "بغدانِ" كيف لم ينسَ عرقه ويرى في ... وحدة الدين وحدة الأوطانِ وطن المسلمين ليس بحاراً ... وجبالاً بل ملة ومعاني وطن المسلمين ليس تراباً ... يقتنى عن قحطان أو عدنانِ وطن لا يقال: هذا عراقي ... وهذا كردي وهذا يماني وطن فيه الحب والخير للناس ... وصدق الخضوع للديانِ والمساواة في الحقوق وألا ... يعتدي إنسان على إنسانِ (¬3) ¬

_ (¬1) - سورة الرحمن الآية (10) . (¬2) - سورة الملك الآية (15) . (¬3) - ديوان احمد الشامي مع العصافير في بروملي, الناشر: دار النفائس بيروت.

وقال آخر: وأي بلاد الله حلت بها فما ... أراها وفي عيني حلت غير مكةِ وأي مكان ضمها حرم كذا ... أرى كل دار أوطنت دار هجرةِ (¬1) وجاء في شعر محمد المجذوب الوطن بمفهومه الواسع وذلك حيث يقول: في الشام أهلي وبغداد الهوى وأنا ... بالرقمتين وفي الفسطاط إخواني ولي بطيبة أوطار مجنحة ... تسمو بروحي فوق العالم الفاني وفي كراتشي وجاكرتا وأنقرة ... هوى عليه فؤادي خافق حاني وليس طرطوس مهما لج بي دمها ... أدنى إلى القلب من فاس وتطوانِ في كل قطر من الإسلام لي وطن ... هامت به النفس من قاص ومن دانِ توزَّع القلب حب بين أربعة ... فكل دار بها قومي وخلاني دنيا بناها لنا الهادي فأحكمها ... أعظم باحمد من هاد ومن بانِ وقال أبو إسحاق الألبيري (¬2) : لله أكياس جفوا أوطانهم ... فالأرض أجمعها لهم أوطان جالت عقولهم مجال تفكر ... وجلالة فبدا لها الكتمان ركبت بحار الفهم في فلك النهى ... وجرى بها الإخلاص والإيمان فرست بهم لما انتهوا بجفونهم ... مرسى لهم فيه غنى وأمان (¬3) ¬

_ (¬1) - هذين البيتين وردت في تائية ابن الفارض الشاعر الصوفي المعروف انظر ديوانه. (¬2) - إبراهيم بن مسعود بن سعد التُجيبي الإلبيري أبو إسحاق, شاعر أندلسي، أصله من أهل حصن العقاب، اشتهر بغرناطة وأنكر على ملكها استوزاره ابن نَغْزِلَّة اليهودي فنفي إلى إلبيرة وقال في ذلك شعراً فثارت صنهاجة على اليهودي وقتلوه, شعره كله في الحكم والمواعظ، أشهر شعره قصيدته في تحريض صنهاجة على ابن نغزلة اليهودي ومطلعها (ألا قل لصنهاجةٍ أجمعين) . (¬3) - نفح الطيب للترمساني ج4ص345, تحقيق حسين عباس, الناشر: دار صادر بيروت 1388هـ1968م.

خصوصية الوطن الأول

خصوصية الوطن الأول طالما حن الإنسان إلى منزله الأول ومسقط رأسه حيث ما حل وارتحل, وفي الأمثال الشعبية: "مسقط الرأس غالي". قال الشاعر: كَم مَنزِلٍ في الأَرضِ يَألَفُهُ الفَتى ... وَحَنينُهُ أَبَداً لأَوَّلِ مَنزِلِ نَقِّل فُؤادَكَ حَيثُ شِئتَ مِنَ الهَوى ... ما الحُبُّ إِلا لِلحَبيبِ الأَوَّلِ وللوطن على أهله حقوق يجب أن تراعى قال الشاعر: وَلِلأَوطانِ في دَمِ كُلِّ حُرٍّ ... يَدٌ سَلَفَت وَدَينٌ مُستَحِقُّ (¬1) في الانتقال عن الأوطان إن الانتقال عن الوطن لطلب العلم والمعرفة والتجارة وصلة الرحم للقيام بواجب أو أداء فريضة أو زيارة أخ أو بحث عن عمل مشروع أو غير ذلك من الأمور المشروعة التي تتوق إليها النفس ويسمو بها الإنسان ويرضى بها الرحمن محبب غير مذموم, بل أن بعض الشعراء قد رأى أن في التنقل عن الأوطان عز وذخر, فهذا الطغرائي يقول: ¬

_ (¬1) - ديوان شوقي.

إن العُلَى حدَّثتِني وهي صادقةٌ ... في ما تُحدِّثُ أنَّ العزَّ في النُقَلِ لو أنَّ في شرفِ المأوى بلوغَ مُنَىً ... لم تبرحِ الشمسُ يوماً دارةَ الحَمَلِ (¬1) أما الإمام الشافعي رضي الله عنه فإنه يحث على التغرب عن الأوطان في طلب العلا ويبين مناقب السفر وفوائده حيث يقول: تَغَرَّب عَنِ الأَوطانِ في طَلَبِ العُلا ... وَسافِر فَفي الأَسفارِ خَمسُ فَوائِدِ تَفَرُّجُ هَمٍّ وَاِكتِسابُ مَعيشَةٍ ... وَعِلمٌ وَآدابٌ وَصُحبَةُ ماجِدِ (¬2) وله أيضاً: ما في المَقامِ لِذي عَقلٍ وَذي أَدَبِ ... مِن راحَةٍ فَدَعِ الأَوطانَ وَاِغتَرِبِ سافِر تَجِد عِوَضاً عَمَّن تُفارِقُهُ ... وَاِنصَب فَإِنَّ لَذيذَ العَيشِ في النَصَبِ إِنّي رَأَيتُ وُقوفَ الماءِ يُفسِدُهُ ... إِن ساحَ طابَ وَإِن لَم يَجرِ لَم يَطِبِ وَالشَمسُ لَو وَقَفَت في الفُلكِ دائِمَةً ... لَمَلَّها الناسُ مِن عُجمٍ وَمِن عَرَبِ (¬3) غير أن بعض الشعراء يرى أن هناك أموراً لم يرها الإمام الشافعي فيقول: إذا قيل: في الأسفار خمس فوائد ... أقول: وخمس لا تقاس بها البلوى فتضييع أموال وحمل مشقة ... وهَم وأنكال وفرقة من أهوى (¬4) والظاهر أن مخاطر الأسفار في هذه الأزمنة قد تلاشت وتبددت وأصبح الإنسان يذهب ويجيء براحة ويسر وأمان, وفي ذلك عظة واعتبار, وتفضل ¬

_ (¬1) - انظر ديوان الطغرائي بشرح التبريزي ج1ص216, الطبعة الأولى. (¬2) - انظر: ديوان الإمام الشافعي, ووردت أيضاً منسوبة للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (¬3) - ديوان الإمام الشافعي ص24. (¬4) - انظر: ديوان زهير ص88, وشرح المعلقات السبع للزوزني ص76, والموسوعة الشعرية ص303.

ونعمة من الرحيم الرحمن, وفي الذكر الحكيم: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (¬1) . ¬

_ (¬1) - سورة الحج الآية (46) .

الفصل العاشر المال

الفصل العاشر المال

المال

المال المال نعمته عظيمة, وزينته كبيرة, وخيراته واسعة كثيرة, وحليته جذابة جميلة, ومنافعه عذبة وفيرة, وقد جعله الحق سبحانه وتعالى وسيطاً لنيل المآرب والجاه في هذه الحياة, فبالمال تشترى المآكل اللذيذة, والمشارب العذبة, والقصور الفخمة, والملابس الثمينة, وتنكح الغانيات من النساء, وتشترى الأنعام, وتصنع السيارات والطائرات الفائقة, وبالمال تستخدم الرجال, وتبنى المدارس, وتشق الطرقات, ويدنو البعيد من المقاصد, ويسهل الصعب من الأعمال, ويرتفع الوضيع, ويعز الذليل, ويقوى الضعيف, وبه تشيد الممالك, قال الشاعر: قِف بِالمَمالِكِ وَاِنظُر دَولَةَ المالِ ... وَاِذكُر رِجالاً أَدالوها بِإِجمالِ وَاِنقُل رُكابَ القَوافي في جَوانِبِها ... لا في جَوانِبِ رَسمِ المَنزِلِ البالي ما هَيكَلُ الهَرَمِ الجيزِيِّ مِن ذَهَبٍ ... في العَينِ أَزيَنَ مِن بُنيانِها الحالي عَلا بِها الحِرصُ أَركاناً وَأَخرَجَها ... عَلى مِثالٍ مِنَ الدُنيا وَمِنوالِ فيها الشَقاءُ لِقَومٍ وَالنَعيمُ لَهُم ... وَبُؤسُ ساعٍ وَنُعمى قاعِدٍ سالي وَالمالُ مُذ كانَ تِمثالٌ يُطافُ بِهِ ... وَالناسُ مُذ خُلِقوا عُبّادُ تِمثالِ إِذا جَفا الدورَ فَاِنعَ النازِلينَ بِها ... أَوِ المَمالِكَ فَاِندُبها كَأَطلالِ يا طالِباً لِمَعالي المُلكِ مُجتَهِداً ... خُذها مِنَ العِلمِ أَو خُذها مِنَ المالِ بِالعِلمِ وَالمالِ يَبني الناسُ مُلكَهُمُ ... لمَ يُبنَ مُلكٌ عَلى جَهلٍ وَإِقلالِ (¬1) وله أيضاً: لا يُقيمَنَّ عَلى الضَيمِ الأَسَد ... نَزَعَ الشِبلُ مِنَ الغابِ الوَتَد بَسَطَ الكَفَّ لِمَن صادَفَه ... وَمَضى يَقصُرُ خَطواً وَيَمُد يَجعَلُ الأَوطانَ أُغنِيَتَه ... وَيُنادي الناسَ مَن جادَ وَجَد أَيُّها الناسُ اِسمَعوا أَصغوا لَهُ ... أَخرِجوا المالَ إِلى البِرِّ يَعُد يُنهِضُ اللَهُ الصِناعاتِ بِهِ ... مِن عِثارٍ لَبَثَت فيهِ الأَبَد وَعَلى المالِ بَنَت سُلطانَها ... ثابِتَ الآساسِ مَرفوعَ العَمَد وَأَصارَت بَنكَ مِصرٍ كَهفَها ... حَبَّذا الرُكنُ وَأَعظِم بِالسَنَد ولو ذهبنا نتتبع فوائد المال ومنافعه لما استطعنا إحصاءها لأن الحق سبحانه وتعالى جعله وسيطاً لبناء الحياة, ووسيلة لعمارتها, وقد يكون وسيطاً للوصول إلى الدرجات العلا من الجنة إذا ما راعى الإنسان في طرق كسبه وصرفه ضوابط الشريعة ومقاصدها, فبالمال تبنى دور العلم التي يتعلم فيها الناس أمور دينهم ودنياهم, وبالمال تبنى المنازل للزمنى والمكفوفين والمحتاجين من الفقراء والمساكين, وبالمال يمول الدعاة والمرشدون, وبالمال يؤاسى الضعفاء والمحتاجون, وبالمال تبنى المساجد والجوامع, وبالمال توصل الأرحام, وينشر الإسلام, وتقام دور العبادة في كل مكان, وترتفع راية الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام, فهو زينة الحياة كما أخبر عنه الحق سبحانه وتعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (¬2) , ولمّا كان المال بهذه المكانة نهى سبحانه وتعالى عن إيتائه السفهاء فقال جل شأنه: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً ¬

_ (¬1) - هذه الأبيات لأمير الشعراء احمد شوقي. (¬2) - سورة الكهف الآية (46) .

حب المال

مَّعْرُوفاً} (¬1) , وأرشد الحق جل شأنه إلى التوسط في الإنفاق فقال: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً} (¬2) . حب المال المال نعمة محببه وفضل مدخر وخادم أمين يعين صاحبه على قضا حاجاته وهو خير إن استعمل وسيلة للخير ومنا فعه أكثر من أن تحصى ولمّا عرف الناس قيمة المال أحبوه حباً جمّا فحرصوا على جمعه فكأنهم جبلوا على ذلك كما أخبر الحق سبحانه وتعالى عن حال بني الإنسان بقوله: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} (¬3) , فالإنسان صار من الشدة عليه بمكان, وفي الذكر الحكيم: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} (¬4) ،وقال عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه:ياحبذا المال أصون به عرضي وأتقرب به إلى ربي،وقال سفيان الثوري رحمه الله:المال سلاح المؤمن في هذا الزمان. وقد أثنى الحق سبحانه وتعالى على من أنفق المال في وجوه البر مع شدة حبه له فقال: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} (¬5) , ومن رحمة الله أن الحق سبحانه وتعالى لم يمنع من حبه بل أرشد إلى أخذه من حله وصرفه في محله, وإنما الممنوع مؤاثرة حب المال على حب الله ورسوله, أو حبه كحب الله ورسوله وحب شريعته ونبيه, ورحم الله شوقي حيث يقول: وَمَن يَعدِل بِحُبِّ اللَهِ شَيئاً ... كَحُبِّ المالِ ضَلَّ هَوىً وَخابا فأسعَ أخي لجمع المال من الحلال فإن ذلك يقيك ذل السؤال, واصرفه فيما ينفع, فإن ذلك يشفع ويرفع, ولا تحرص على بقائه فإنك مسئول عن خيره وشره ونفاده ونمائه, ولله در علي بن الجهم حيث يقول: أَيا جامِعَ المالِ وَفَّرتَهُ ... لِغَيرِكَ إِذ لَم تَكُن خالِدا فَإِن قُلتَ أَجمَعُهُ لِلبَنينَ ... فَقَد يَسبِقُ الوَلَدُ الوالِدا وَإِن قُلتَ أَخشى صُروفَ الزَمانِ ... فَكُن في تَصاريفِهِ واحِدا وقال الشريف الرضي: أَبُثُّكَ أَنَّ المالَ عارٌ عَلى الفَتى ... وَما المالُ إِلاّ عِفَّةٌ وَقُنوعُ وله أيضاً: إِذا المالُ أَصبَحَ في الباخِلينَ ... فَإِنَّ مُرَجّي الغِنى في تَعَب السعي في طلب المال وإصلاحه السعي في طلب المال من الحلال فريضة, وإصلاحه نعمة, والتكاسل عن انفاقه في وجوه الخير فتنة ومحنة, ولله در القائل: ¬

_ (¬1) - سورة النساء الآية (5) . (¬2) - سورة الإسراء الآية (29) . (¬3) - سورة الفجر الآية (20) . (¬4) - سورة العاديات الآية (8) . (¬5) - سورة البقرة الآية (177) .

لَمالُ المَرءِ يُصلِحُهُ فَيُغني ... مَفاقِرَهُ أَعَفُّ مِنَ القُنوعِ (¬1) وقال آخر: أَرى كُلَّ ذي مالٍ يبر بِمالِهِ ... وَإِن كانَ لا أَصلٌ هُناكَ وَلا فَضلُ (¬2) فالمال يذهب بالفقر, ويعين على الخير, ويرغب الناس في صاحبه, ولله در القائل: الفَقرُ يُزري بِأَقوامٍ ذَوي حسبٍ ... وَقد يُسوّدُ غَيرَ السيِّدِ المالُ وأما الشريف الرضي رضي الله عنه فهو يقول: لا أَطلُبُ المالَ إِلاّ مِن مَطالِبِهِ ... وَلا يَفي لِيَ بَذلُ المالِ بِالمِنَنِ وله أيضاً: رأيت حلال المال خير مغبة ... وأجدر أن يقى على الحدثان وإياك والمال الحرام فإنه ... وبال إذا ما قدم الكفنان وقال آخر: الفقر يزري بأقوام ذوي حسبٍ ... وربما ساد جبس القوم بالمال ويرحم الله شوقي حيث يقول: وَلَم أَرَ مِثلَ جَمعِ المالِ داءً ... وَلا مِثلَ البَخيلِ بِهِ مُصابا فَلا تَقتُلكَ شَهوَتُهُ وَزِنها ... كَما تَزِنُ الطَعامَ أَوِ الشَرابا وَخُذ لِبَنيكَ وَالأَيّامِ ذُخراً ... وَأَعطِ اللَهَ حِصَّتَهُ اِحتِسابا ¬

_ (¬1) - هذا البيت للنجاشي الحارثي, وانظر ترجمة النجاشي الحارثي في الشعر والشعراء ج1ص246, ولباب الأدب ص292. (¬2) - ورد هذا البيت في العقد الفريد لابن عبدربه ج2ص336.

أما المتلمس فهو يرى أن قليل المال الذي تصلحه خير من الكثير مع الفساد وذلك حيث يقول: وَأَعلَمُ عِلمَ حَقٍّ غَيرَ ظَنٍّ ... وَتَقوى اللَهِ مِن خَيرِ العَتادِ لَحِفظُ المالِ أيسَرُ مِن بُغاهُ ... وَسَيرٍ في البِلادِ بِغَيرِ زادِ وَإِصلاحُ القَليلِ يَزيدُ فيهِ ... وَلا يَبقَى الكَثيرُ مَعَ الفَسادِ (¬1) وقال ابن قتيبة: حدثني الخفعني قال: أحسن بيت قيل في حفظ المال بيت منجنوف بن مرة السلمي: وادفع عن مال الحقوق وإنه ... لجم فإن الدهر لجم مصائبه (¬2) وقال آخر: وكان المال يأتينا فكنا ... نبذره وليس لنا عقول فلما أن تولى المال عنا ... عقلنا حين ليس لنا فضول (¬3) وفي الحديث النبوي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: {طلب الحلال فريضة بعد الفريضة} (¬4) ،قال ابن الرومي: سعيُ السُّعاةِ لفضل المال بعد غِنىً ... حِرمٌ كما طلبُ الأقواتِ مُفترض وقديما قيل لا خير فيمن لا يجمع المال يصون به عرضه ويحمي به مروئته،ويصل به رحمه،وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:حسب الرجل ماله وكرمه دينه ومروئته خلقه. ¬

_ (¬1) - الشعر والشعراء ج1ص190. (¬2) - عيون الأخبار لابن قتيبة ج2ص192, الناشر: وزارة الثقافة المصرية. (¬3) - ورد هذا البيت في محاضرة الأدباء ص506. (¬4) -المعجم الكبير ج10 ص 74 حديث رقم (9993) .

إنفاق المال في وجوه البر

إنفاق المال في وجوه البر إن إنفاق المال في وجوه البر يطيل العمر, ويكسب المودة, ويحصن المال من الجوائح, ويسعد الخلق, ويرضي الخالق, فتمتع به في غير إسراف ولا تبذير, وسارع إلى إنفاقه في وجوه الخير والبر كله, ولله در القائل: اِسعَد بِمالِكَ في الحَياةِ فَإِنَّما ... يَبقى خِلافكَ مُصلِحٌ أَو مُفسِدُ فَإِذا جمعت لِمُفسِدٍ لَم يُبقِهِ ... وَأَخو الصَلاحِ قَليلُهُ يَتَزَيَّدُ (¬1) أما ابن الرومي فهو يقول: أنْفِق المالَ قبل إنفاقكَ العمـ ... ـرَ ففي الدهر ريبُهُ ومَنونه قلَّ ما ينفع الثراءُ بخيلاً ... عَلِقَتْ في الثَّرَى المهيلِ رُهونه ولأبي العتاهية: المالُ ما كانَ قُدّامي لآخِرَتي ... ما لَم أُقَدِّمهُ مِن مالي فَلَيسَ لِيَه وله أيضاً: يا جامِعَ المالِ في الدُنيا لِوارِثِهِ ... هَل أَنتَ بِالمالِ بَعدَ المَوتِ تَنتَفِعُ وينهى أبو العتاهية عن إمساك المال, فحسب الإنسان أن يحصل على الري والشبع فيقول: لا تُمسِكِ المالَ وَاِستَرضِ الإِلَهَ بِهِ ... فَإِنَّ حَسبَكَ مِنهُ الرَيُّ وَالشَبَعُ وقال أيضاً: الحَمدُ لِلَّهِ كُلٌّ زائِلٌ بالِ ... لا شَيءَ يَبقى مِنَ الدُنيا عَلى حالِ ¬

_ (¬1) - أورد هذين البيتين صاحب العقد الفريد ابن عبدربه ج1ص152. وينسبان لمحمود الوراق.

لا تبخل عن بذل المال

يا ذا الَّذي يَشتَهي ما لا ثَوابَ لَهُ ... تَبغي الثَوابَ فَكُن حَمّالَ أَثقالِ لا خَيرَ في المالِ إِلاّ أَن تُقَدِّمَهُ ... إِن لَم تُقَدِّمَهُ ما تَرجو مِنَ المالِ فاعط السائل من مالك تكن من المحسنين, ولا تكن عليه متطاولاً تنال ثواب رب العالمين, وقد جاء في محكم التنزيل الثناء على من يعطي السائلين قال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (¬1) . لا تبخل عن بذل المال لا تبخل عن بذل المال لمستحقه ولا تعطه لغير مستحقه, ويرحم الله طاهر بن الحسين حيث يقول: لا تَبخَلَنَّ بدنيا وَهيَ مُقبِلَةٌ ... فَلَن يَنقِّصَها التَبذيرِ وَالسَرَفُ وَإِن تَوَلَّت فَأَحرى أَن تَجودَ بِها ... فَالجُودُ فيها إِذا ما أَدبَرَت خَلَفُ (¬2) وفي الأمثال: "خير مالك ما نفعك, ولم يضع من مالك ما وعظك". ونظر ابن عباس إلى درهم بيد رجل فقال: "إنه ليس لك حتى يخرج من يدك". وقولهم: "تقتير المرء على نفسه توفير منه على غيره", قال الشاعر: أنت للمال إذا أمسكته ... فإذا أنفقته فالمال لك (¬3) أما الشريف الرضي فهو يقول: وَاِجعَل يَدَيكَ مَجازَ المالِ تَحظَ بِهِ ... إِنَّ الأَشِحّاءَ لِلوُرّاثِ خُزّانُ ¬

_ (¬1) - سورة المعارج الآيتان (24و25) . (¬2) - غرر الخصائص ص383. وينسب هذا البيت أيضاً للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (¬3) - العقد الفريد ج3ص55 , وأمثال الرازي ص57.

فتنة المال وميل الناس إلى صاحبه

وقال الحسن: ابن آدم، أنتَ أسيرٌ في الدنيا، رَضيتَ من لذّتها بما يَنْقضي، ومن نَعِيمها بما يَمْضي، ومن مُلْكها بما يَنْفد، فلا تَجمْع الأوزار لِنَفْسك ولأهلك الأمْوال، فإذا مِتّ حملتَ الأوزار إلى قَبْرك، وتركتَ أموالَك لأهلك. أخذ أبو العتاهية هذا المعنى فقال: أبْقَيْتَ مالَك مِيراثاً لوارِثه ... فليتَ شِعْرِيَ ما أبقى لك المالُ القومُ بَعدك في حالٍ تَسرُّهم ... فكيفَ بَعدهم دارت بك الحال مَلُّوا البُكاء فما يَبْكيك من أحد ... واستَحْكَم القِيلُ في الميراث والقَال وفي الحديث المرفوع: أشدّ الناس حَسْرَةً يوم القيامة رجلٌ كَسب مالاً من غير حِلِّه فدخلَ به النارَ، وورَّثه مَن عَمِل فيه بطاعة اللهّ فَدَخل به الجنة. فتنة المال وميل الناس إلى صاحبه الناس يفتتنون بالمال, ويميلون إلى صاحبه, والعاقل لا يغتر بهذه الشهوة, ولا يسعى إلى هذه الفتنة في كل الأحوال, ومن أراد السلامة من ذلك فإنه لا يسعى لجمع المال إلا من الحلال, ولا يشبع رغبته وشهوته في جميع الأحوال لأنه يعلم أن مصير ذلك إلى الزوال, وفي محكم التنزيل: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (¬1) , وفي سورة التغابن: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (¬2) . ¬

_ (¬1) - سورة الأنفال الآية (28) . (¬2) - سورة التغابن الآية (15) .

وفي كلام بعض الشعراء التمقت من محاربة من لا مال له ونعت صاحب المال بالشرف: أرى الناس للصعلوك (¬1) حرباً ولا أرى ... لذي نشب إلا خليلاً مصافياً أرى المال يغشى ذا الوصومِ (¬2) فلا ترى ... ويدعى من الأشراف من كان غانياً (¬3) ولعقيل بن علفة: إني ليحمدني الخليل إذا اجتد مالي ... ويكرهني ذوي الأضغانِ وأبيت تخلجني (¬4) الهموم كأنني ... دلو السقاة تمد بالأشطانِ (¬5) وأعيش بالبلل (¬6) القليل وقد أرى ... أن الرموس مصارع الفتيانِ ولقد علمت لئن هلكت ليذكرن ... قومي إذا عكف النجي مكاني (¬7) ¬

_ (¬1) - الصعلوك: الفقير وهو القرصوب والسبروت. (¬2) - الوصوم: العيوب (¬3) - غانيا: أي غنياً ومعنى ذا غنى, أورد هذين البيتين الشريف المرتضى لبعض الشعراء ولم يسمية, وانظر: أمالي العلامة الشريف المرتضى: (355 - 436 هـ/ 966 - 1044م) علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن إبراهيم أبو القاسم. من أحفاد الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، نقيب الطالبيين، وأحد الأئمة في علم الكلام والأدب والشعر يقول بالاعتزال مولده ووفاته ببغداد. وكثير من مترجميه يرون أنه هو جامع نهج البلاغة، لا أخوه الشريف الرضي. له تصانيف كثيرة منها (غرر الفرائد ودرر القلائد -ط) يعرف بأمالي المرتضى، و (الشهاب بالشيب والشباب -ط) ، و (تنزيه الأنبياء -ط) و (الانتصار -ط) فقه، و (تفسير العقيدة المذهبة -ط) شرح قصيدة للسيد الحميري، و (ديوان شعر -ط) . ص371, الطبعة الثانية, الناشر: دار التكاب العربي بيروت. (¬4) - تخلجني: أي تشغلني كذا ذكره صاحب اللسان واستشهد بالبيت. (¬5) - الأشطان: الحبال (¬6) - البلل في الأصل: ما بل الحلق من ماء أو لبن أو غيره. (¬7) - الشاعر يصف نفسه بحفظ الأسرار, فكأنه يقول إذا مت والناس يناجون غيري فيفشى أسرارهم فيذكرني عند ذلك ويذكر مكاني.

ذهاب المال

ذهاب المال إن المال يذهب ولا يبقى إلا ما أنفق منه في وجوه البر فاحرص على إنفاقه في وجوه البر ينمو المال ويكثر, قال الشاعر: المال يذهب حله وحرامه ... يوماً وتبقى في غدٍ آثامه ليس التقي بمتقٍ لإلهه ... حتى يطيب طعامه وشرابه (¬1) أما لبيد بن أبي ربيعة (¬2) فهو يقول: وما المال والأهلون إلا ودائع ... ولا بد يوماً أن ترد ودائعه ولعل حاتم الطائي (¬3) نظر إلى غدو المال ورواحه فرأى أنه لا يبقى إلا ذكره فقال: أَماوِيُّ إِنَّ المالَ غادٍ وَرائِحٍ ... وَيَبقى مِنَ المالِ الأَحاديثُ وَالذِكرُ أما الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقد حكم بأن المال إنما يجمع لذوي الميراث فقال: أَموالُنا لِذَوي الميراثِ نَجمَعُها ... وَدورُنا لِخرابِ الدَهرِ نَبنيها (¬4) ويؤثر عن الإمام علي رضي الله عنه أيضاً أنه قال: أبني إن من الرجال بهيمة ... في صورة الرجل السميع المبصرِ فطنٌ بكل مصيبة في ماله ... وإذا يصاب بدينه لم يشعرِ ¬

_ (¬1) - أوردهما الذهبي في سير أعلام النبلاء ج1ص94. (¬2) - لبيد بن ربيعة بن مالك أبو عقيل العامري, (41هـ/661م) أحد الشعراء الفرسان الأشراف في الجاهلية. من أهل عالية نجد. أدرك الإسلام، ووفد على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) . يعد من الصحابة، ومن المؤلفة قلوبهم. وترك الشعر فلم يقل في الإسلام إلا بيتاً واحداً. وسكن الكوفة وعاش عمراً طويلاً. وهو أحد أصحاب المعلقات. (¬3) - حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج الطائي القحطاني، أبو عدي, (ت 46ق. هـ577م) , شاعر جاهلي، فارس جواد يضرب المثل بجوده. كان من أهل نجد، وزار الشام فتزوج من ماوية بنت حجر الغسانية، ومات في عوارض (جبل في بلاد طيء) . (¬4) - وينسب هذا البيت لسابق البربري, والله سبحانه وتعالى أعلم.

وله أيضاً: إِذا شِئتَ أَن تَستَقرِضِ المالَ مُنفِقاً ... عَلى شَهَواتِ النَفسِ في زَمَنِ العُسرِ فَسَل نَفسَكَ الإِنفاقَ مِن كَنزِ صَبرِها ... عَلَيكَ وَإِنظاراً إِلى زَمَنِ اليُسرِ فَإِن سَمَحَت كُنتَ الغَنيَّ وَإِن أَبَت ... فَكُلُّ مَنوعٍ بَعدَها واسِعُ العُذرِ (¬1) ويرحم الله أبا العتاهية حيث يقول: قُل لأَهلِ الإِكثارِ وَالإِقلالِ ... كُلُّكُم مَيِّتٌ عَلى كُلِّ حالِ ما أَرى خالِداً عَلى قِلَّةِ الما ... لِ وَلا باقِياً لِكَثرَةِ مالِ وفي أمثال العرب من أهان ماله أكرم نفسه،وقيل المال الحرام لا يدوم،ومال تجلبه الرياح تأخذه الزوابع،وقيل لم يذهب من مالك ما وعظك ويروى لم يضع من مالك ما وعظك،قال الشاعر: ذهاب المال في حمد وأجر ... ذهاب لا يقال له ذهاب وقال أخر وَما ضاعَ مالٌ أَورَثَ الحَمدَ أَهلَهُ ... وَلَكِنَّ أَموالَ البَخيلِ تَضيعُ أما أبو الفتح البستي فهو يقول: مَنْ جادَ بالمالِ مالَ النَّاسُ قاطِبَةٌ ... إلَيهِ والمالُ للإنسان فتّانُ سَحْبانُ من غَيرِ مالٍ باقِلٌ حَصراً ... وباقِلٌ في ثَراءِ المالِ سَحْبانُ ¬

_ (¬1) - ديوان الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ص74.

الغنى والفقر

وفي الحديث النبوي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {يَقُولُ الْعَبْدُ مَالِي مَالِي إِنَّمَا لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلَاثٌ مَا أَكَلَ فَأَفْنَى أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى أَوْ أَعْطَى فَاقْتَنَى وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ ذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ} (¬1) الغنى والفقر الغنى الأكتفاء واليسار وما يغتنى به،والغنى هو كثرة المال من الذهب والفضة والنقود والعروض والبنيان وغير ذلك،قال أبن عطا الغني الشاكر القائم بحقه خير من الفقير الصابر قال الشاعر: إِذا كُنتَ ذا ثَروَةٍ مِن غِنىً ... فَأَنتَ المُسَوَّدُ في العالَمِ وَحَسبُكَ مِن نَسَبٍ صورَةٌ ... تُخَبِّرُ أَنَّكَ مِن آدَمِ والغني إذا لم يكن كريما جوادا فليس ينفعه غناه , واغنى الناس أكثرهم إحسانا, وقيل لا يصلح العقل بغير ورع, ولا يصلح الغنى بغير جود , ولا المروئة بغير تواضع , وقال ابن المقفع:سوء حمل الغنى ان يكون عند الفرح مرحا , وسوء حمل الفاقة ان يكون عند الطلب شرها، وعار الفقر اهون من عار الغنى، والحاجة مع المحبة خير من الغنى مع البغضة (¬2) ، وقيل الغنى غنى النفس قال الامام علي رضي الله عنه: النَفسُ تَجزَع أَن تَكونَ فَقيرَةً ... وَالفَقرُ خَيرٌ مِن غِنىً يُطغيها ¬

_ (¬1) - صحيح مسلم حديث رقم (5259) . (¬2) - الادب الصغير لعبد الله بن المقفع ص 113 الطبعة الاولى 1418هـ -1997م شركة ابن الارقم بيروت لبنان.

وَغِنى النَفوسِ هُوَ الكَفافُ وَإِن أَبَت ... فَجَميعُ ما في الأَرضِ لا يَكفيها وفي الحديث النبوي أن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ {لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ} (¬1) ، فكن غني النفس تعش في راحة وسعادة ولا تسعى إلى الغنى بطريق غير مشروعة فإنك لن تحصل إلا على ما كتب الله لك فقلت المال في السلامة أفضل من كثرته مع الاخطار ورحم الله الشافعي حيث يقول: لَو كانَ بِالحِيَلِ الغِنى لَوَجَدتَني ... بِنُجومِ أَقطارِ السَماءِ تَعَلُّقي لَكِنَّ مَن رُزِقَ الحِجا حُرِمَ الغِنى ... ضِدّانِ مُفتَرِقانِ أَيَّ تَفَرُّقِ فرزقك سياتي إليك فكن واثقا بالله وفي أمثال العامة اللي خلق النملة يرزقها وفي الذكر الحكيم: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (¬2) ،وجاء في أمثال العرب خير الغنى القنوع،وشر الفقر الخضوع،والعفاف زينة الفقر، والشكر زينة الغنى، وقيل:الغنى الأكبر الياس بما في أيدي الناس،فتلمس إصلاح أمرك بنفسك فإنك مازلت غنيا ما دمت سويا فإذا أجتهدت وجدت فمن جد وجد ولا تبطر إذا أغتنيت فإن الغنى الطارئ مدعاة للبطر وخليق إلى أن ينتهي بصاحبه إلى الهلاك،وفي أمثال العرب الغنى يورث البطر (¬3) ،قال الشاعر: وللفقر خير من غنى في دناءة ... ولا الموت خير من حياة على صغر ¬

_ (¬1) - صحيح البخاري باب الغنى غنى النفس الحديث رقم (5965) . (¬2) - سورة هود اية (6) (¬3) - معجم كنوز الأمثال ص 54.

وقال الإمام علي رضي الله عنه: دَليلُكَ أَنَّ الفَقرَ خَيرٌ مِنَ الغِنى ... وَأَنَّ القَليلَ المالِ خَيرٌ مِنَ المُثري لِقاؤُكَ مَخلوقاً عَصى اللَهَ لِلغِنى ... وَلَم تَرَ مَخلوقاً عَصى اللَهَ لِلفَقرِ وفي الذكر الحكيم: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى} (¬1) , ومع ذلك فإن كثيرا من الناس يكرمون الغني ويهينون الفقير, وتلك نظرة غير انسانية, فالعاقل لا يتبعها , وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: ملعون من اكرم بالغناء واهان بالفقر. والمؤمن لايكرم الامن اكرمة الله فلا تتلفت الى من يجردون الانسان من قيمه واخلاقه ويعظمونه لكثرة ماله اخذا بالاعراف الفاسدة والثقافة المادية الهابطة , قال الشاعر: ارى الناس للصعلوك حربا ولا ارى ... لذي نشب الا خليلا مصافيا ارى المال يغشى ذا الوصوم فلا تُرى ... ويدعى من الاشرار من كان غانيا قال الشريف المرتضى: الصعلوك الفقير , وهو القرصوم والسبروت (¬2) .قلت والفقر ضد الغنى فاذا اصبح الإنسان محتاجا وليس له ما يكفيه كان فقيرا وليس الفقر محببا لدى الإنسان فإذا ابتليت به فاصبر واسع الى كسب المال من الحلال فإن الذي اعطى الاغنياء سيغنيك وقد قيل ان اقرب الناس الى ¬

_ (¬1) - سورة الفلق (6) . (¬2) -انظر غرر الفوائد ودرر القلائد ج 1 ص (371) الطبعة الثانية دار الكتاب العربي بيروت

الكفر ذو فاقة لاصبر له, وقيل ان الغني الشاكر القائم بحقه افضل من الفقير الصابر وقيل العكس فإذا افتقرت فلا تكن جزوعا هلوعا , قال الشاعر: واذا افتقرت فلا تكن متخشعا ... ترجو الفواضل عند غير المفضل واستغن مااغناك ربك بالغنى ... واذا تكون خصاصة فتجمل واذا كان كثير من الناس اخلاقهم تميل الى اهل الغنى والثروة فالغني هو الذي يستصاغ كلامه ونكاته توصف بالظريفة ويتغاضون عن هفواته وسقطاتة اما الفقراء فيسخر بهم وتضخم اخطاؤهم عند سماعها وذلك ليس من الخلق الاسلامي في شئ وتأمل هذه القصة التي رواها البيهقي عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرَ بْنَ حِزَامٍ أَوْ حَرَامٍ قَالَ وَكَانَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- يُحِبُّهُ وَكَانَ دَمِيمًا فَأَتَاهُ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَهُوَ لاَ يُبْصِرُهُ فَقَالَ أَرْسِلْنِى مَنْ هَذَا فَالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبِىَّ فَجَعَلَ لاَ يَأْلُو مَا أَلْزَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ عَرَفَهُ وَجَعَلَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «مَنْ يَشْتَرِى الْعَبْدَ؟» . فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا وَاللَّهِ تَجِدُنِى كَاسِدًا. فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم-: «لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ أَوْ قَالَ لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ أَنْتَ غَالٍ» . ومن هذه القصة يتبين لك ان الرسول صلى الله علية واله وسلم كان يتعامل مع الفقراء بأدب جم يمازحهم ويضاحكهم ويتعامل معهم بلطف , وان الرجل الفقير حينما قال تجدني كاسدا قال ولكنك عند الله غالٍ , وهناك - أيضاً- الكثير من

القصص والأحاديث التي تدل على تواضع الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وانه كان يلاطف الفقراء ويضحك معهم وانه كان يأخذ الناس باللطف وعدم التقنيط والتشاؤم، ومن ذلك ما روي في حق رجل وقع على امرأته في نهار رمضان، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال: هلكت, فقال ما شأنك, قال: وقعت على امرأتي في رمضان, قال: فهل تجد ما تعتق رقبة؟ قال: لا, قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا, قال: اجلس, فأتي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعرق فيه تمر, فقال: تصدق به, فقال: يا رسول الله ما بين لا بتيها أهل بيت أفقر منا, فضحك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى بدت ثناياه, قال: فأطعمه إياهم) (¬1) فتبسم اخي في وجه الفقير والغني ولا تكن متجهما. وكم من فقير تتبسم في وجهه وتشعره بقيمته واعتباره يرفع في ظلمة الليل يداه داعيا يستنزل لك الرحمات من السماء ففي الحديث الشريف (رب اشعث اغبر ذي طمرين مدفوع بالابواب لا يؤبه له لو اقسم على الله لأبره) فكن دائما البشر مع هؤلاا الضعفاء فلعل ابتسامة في وجه فقير ترفعك عند الله درجات, وقد قال يحيى بن معاذ رحمه الله: حبك الفقراء من اخلاق المرسلين , وايثارك مجالستهم من علامات الصالحين , وفرارك من صحبتهم من علامة المنافقين فعود نفسك اخي مجالسة الفقراء واكرامهم والانفاق عليهم لتظفر بمرادك وتستمتع بحياتك , وفي الذكر الحكيم للفقراء {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (¬2) , {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (¬3) , فلاتنس اخي ان الله افترض للفقراء في اموال الاغنياء زكاة فهي تزكي النفس وتحفظ المال وهي احد اركان الاسلام , وفي الحديث النبوي الذي رواه البيهقي (إن الله فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم فإن جاعوا أو عروا وجهدوا فبمنع الأغنياء وحق على الله أن يحاسبهم يوم القيامة ويعذبهم عليه) (¬4) فتجنب الاساءه الى الفقراء المؤمنيين وتلمس دعاءهم فأنهم يدخلون الجنة قبل الفقراء بخمسمائه عام كما جاء في الحديث النبوي (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِخَمْسِ مِائَةِ سَنَةٍ) (¬5) واعلم اخي ان القناعة رأس الغنى واساس التقى, والحرص رأس الفقر واساس الشر, وان من قنع بالميسور من الرزق استغنى عن الخلق , وعلم ان من المنع ¬

_ (¬1) - أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الصوم، باب كفارة من أتى أهله في رمضان، حديث (2390) , وصحيح البخاري، كتاب كفارة الأيمان، حديث (6711) , وكتاب الأدب باب التبسم والضحك حديث (6087) . (¬2) - سورة الحشر آية (8) (¬3) - سورة البقرة آية (273) . (¬4) - رواه البيهقي في السنن الكبرى حديث رقم (12985) (¬5) - سنن الترمذي حديث رقم (2275)

عطاء , ورب ضارة نافعة , وان الحياة المتدفقة بالالام والمتاعب هي التي تفتق المواهب وتصنع الرجال , وان الابتلاء بالفقر كالابتلاء بالغنى , وانه ما من نازلة تنزل بالانسان الا ووراءها حكمة قدّرها العليم الحكيم , وقد جاء في الذكر الحكيم {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (¬1) وتذكر اخي ان الانسان خلق فقيرا ضعيفا فهو محتاج الى ربه وان محمد صلى الله علية واله وسلم قد ابتلي بالفقر فاغناه الله قال تعالى {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} (¬2) فاطلب الرزق والغنى من وجوه البر ولا تعجز , وقد قيل اربعة تجلب الرزق قيام الليل , وكثرة الاستغفار بالاسحار , وتعاهد الاصدقاء , والذكر اول النهار واخره , وقيل اربعة تمنع الرزق نوم الصبحة , وقلة الصلاة , والكسل , والخيانة , فابتعد عن هذه الاربعة تظفر بمرادك وشكر الله على ما اعطى يخلفه ولا تتمنى مافي ايدي الناس فإن الذي اعطاهم سوف يعطيك , وقد جاء في سورة النساء {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (¬3) . قال الشاعر: ¬

_ (¬1) - سورة البقرة آية (216) (¬2) - سورة الضحى آية (8) (¬3) - سورة النساء آية (32)

لاترهبن الفقر ما عشت في غدٍ ... لكل غدٍ رزق من الله واردُ وقال اخر: ان المقاسم ارزاق مقدرة ... بين العباد فمحروم ومدخرُ فما رزقت فإن الله جالبه ... وما حرمت فما يجري به القدرُ فإن كنت غنيا فلا تسع الى قطع ارزاق الناس فإن قطع الارزاق من قطع الاعناق , ولاتكن حريصا فإن الارزاق قد قسمت , قال ابن زريق البغدادي: والحرص في الرزق والارزاق قد قسمت ... بغي الا ان بغي المرء يصرعه ولا يخيفنك الفقر فإن بعد الفقر غنى , وبعد الشدة فرج , وفي امثال العرب: لكل صباح صبوح , ولكل عشاء غبوق , ولكل غدٍ طعام , فلا تحرص ولا تيأس , ولا تطمع فيما ايدي الناس , فإن الحرص ذل عاجل , والطمع فقر حاضر , وقيل: الطمع الكاذب فقر حاضر , وقيل: في الطمع المذله للرقاب , ورب طمع ادنى الى عطب , واكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع , ورب اكلة تمنع اكلات , وفي الحديث (ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب) (¬1) , ورحم الله ابا العتاهية حيث يقول: واذا طمعت لبست ثوب مذلة ... إن المطامع معدن الاذلال وقال اخر لاخير في طمع يدني الى طبع ... وغفة من قوام العيش تكفينيِ كم من فقير غني النفس تعرفه ... ومن غني فقير النفس مسكينِ فتجنب الطمع وخذ ما طف لك واستطف , وفي امثال العرب: خير الغنى القنوع والقناعة كنز لايفنى والقناعة مال لاينفد , وقيل من لم يقنع باليسير لم يكتف بالكثير , ويكفيك من الزاد مابلغك المحل (¬2) وقال الشاعر: حسب الفتى من عيشه ... زاد يبلغه المحلا خبز وماء بارد ... والظل حين يريد ظلا وقال اخر: هي القناعة فالزمها تعش ملكا ... لولم يكن لك منها الاراحة البدن ونظر لمن ملك الدنيا بأجمعها ... هل راح منها بغير القطن والكفن اما عمرو بن مالك الحارثي فهو يقول: الحرص للنفس فقر والقنوع غنى ... والقوت إن قنعت بالقوت يكفيها والنفس لو ان مافي الارض حيز لها ... ما كان إن هي لم تقنع بكافيها الغني المغني الرزاق من اسماء الله الحسنى اسم الله الغني ورد ذكره في القران {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ} (¬3) , وقال جل شانه مثبتا كونه مغنيا {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} (¬4) , وقال سبحانه {يَا أَيُّهَا ¬

_ (¬1) - المستدرك للحاكم حديث رقم (2889) (¬2) - معجم كنوز الامثال ص (69) (¬3) - سورة الانعام آية (133) (¬4) - سورة النجم آية (48)

النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (¬1) , فالله سبحانه وتعالى الغني بنفسه عن كل ماسواه , والمغني لجميع خلقه وكل ماسواه فقير اليه , فهو سبحانه وتعالى (الغني) الذي له الغنى التام المطلق من كل الوجوه لكماله وكمال صفاته التي لا يتطرق إليها نقص بوجه من الوجوه، ولا يمكن أن يكون إلا غنياً فإن غناه من لوازم ذاته، كما لا يكون إلا محسناً، جواداً، براً، رحيماً كريماً، والمخلوقات بأسرها لا تستغني عنه في حال من أحوالها، فهي مفتقرة إليه في إيجادها، وفي بقائها، وفي كل ما تحتاجه أو تضطر إليه، ومن سعة غناه أن خزائن السماوات والأرض والرحمة بيده، وأن جوده على خلقه متواصل في جميع اللحظات والأوقات، وأنَّ يده سحاء الليل والنهار، وخيره على الخلق مدرار. والخلاصة أن الله الغني الذي له الغنى التام المطلق من كل الوجوه وهو المغني جميع خلقه، غنىً عاماً، المغني لخواص خلقه، بما أفاض على قلوبهم، من المعارف الربانية، والحقائق الإيمانية (¬2) . اما اسم الله الرزاق فقد ورد ذكره في القران الكريم {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (¬3) , وقال سبحانه {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا ¬

_ (¬1) - سورة فاطر آية (15) (¬2) - شرح اسماء الله الحسنى للقحطاني ص98 تفسير السعدي ص 629 والجامع لاسماء الله الحسنى ص 217 (¬3) - سورة الذارايات آية (58)

وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (¬1) , وقال جل شانه {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬2) , وقال عظمت حكمته {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬3) , والرزاق صفة مبالغة للدلالة على الكثرة , فإذا جاء اسم الله عز وجل بصيغة المبالغة فمعنى ذلك انه يرزق العباد مهما كثر عددهم, ويرزق الواحد منهم رزقا وفيرا اذا شاء وبلا حدود , اما على مستوى مجموع المرزوقين ,واما على مستوى الرزق , فهو يرزق كل العباد كما يرزق العبد الواحد واذا اعطى ادهش (¬4) , وقال الحليمي هو الرزاق رزقا بعد رزق والمكثر الموسع له , وقال الخطابي الرزاق هو المتكفل بالرزق , والقائم على كل نفس بما يقيمها من قوتها (¬5) اما رزق الله لعباده فإنه يقع على نوعين عام وخاص فالعام إيصاله لجميع الخليقة جميع ما تحتاجه في معاشها وقيامها، فسهل لها الأرزاق، ودبرها في أجسامها، وساق إلى كل عضو صغير وكبير ما يحتاجه من القوت، وهذا عام للبر والفاجر والمسلم والكافر، بل للآدميين والجن والملائكة والحيوانات كلها. وعام أيضاً من وجه آخر في حق المكلفين، فإنه قد يكون من الحلال ¬

_ (¬1) - سورة هود آية (6) (¬2) - سورة العنكبوت آية (60) (¬3) - سورة البقرة آية (212) (¬4) - موسوعة اسماء الله الحسنى ج 1 ص 275 (¬5) - الاسماء والصفات للبيهقي ص 66 والجامع لاسماء الله الحسنى ص 128

الذي لا تبعة على العبد فيه، وقد يكون من الحرام ويسمى رزقاً ونعمة بهذا الاعتبار. وأما الرزق المطلق فهو النوع الثاني، وهو الرزق الخاص، وهو الرزق النافع المستمر نفعه في الدنيا والآخرة، وهو الذي على يد رسول الله وهو نوعان: رزق القلوب بالعلم والإيمان وحقائق ذلك، فإن القلوب مفتقرة غاية الافتقار إلى أن تكون عالمة بالحق مريدة له متألهة لله متعبدة، وبذلك يحصل غناها ويزول فقرها. ورزق البدن بالرزق الحلال الذي لا تبعة فيه، فإن الرزق الذي خص به المؤمنين والذي يسألونه منه شامل للأمرين، فينبغي للعبد إذا دعا ربه في حصول الرزق أن يستحضر بقلبه هذين الأمرين، فمعنى ((اللهم ارزقني)) أي ما يصلح به قلبي من العلم والهدى والمعرفة ومن الإيمان الشامل لكل عمل صالح وخلق حسن، وما به يصلح بدني من الرزق الحلال الهنيّ الذي لا صعوبة فيه ولا تبعة تعتريه (¬1) . وقال بعض العلماء: رزق الابدان بالاطعمة ورزق الأرواح بالمعرفة , والمعرفة اشرف الرزقين , فإذا خصك الله بدخل وفير اكلت به اطيب الطعام وخص عبدا أخر برزق المعرفه فاعلم علم اليقين ان العبد الاخر اكثر ¬

_ (¬1) - اسماء الله الحسنى ص 155 و 154

ثمرة معرفة اسم الله الغني المغني الرزاق

حظوة منك , لانه منحه رزق النفوس رزق الارواح وهي المعارف (¬1) , قال تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (¬2) . ثمرة معرفة اسم الله الغني المغني الرزاق اذا عرف المكلف ان الله جل وعلى هو الغني المغني الرزاق أمن به وتعبد لله خاضعا خاشعا متذللا لربه لإنه قد علم ان فقر العباد الى الله لاينفك عنهم فهم بحاجة الى خالقهم في كل الاحوال قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (¬3) , فالغني من الناس لم يزل عبدا فقيرا بذاته الى بارئه وفاطره ورازقه , ولما كان الفقر الى الله سبحانه هو عين الغنى به فأفقر الناس الى الله اغناهم به واذلهم له واعزهم , واضعفهم بين يديه اقواهم , فالغنى على الحقيقة لايكون إلا لله الغني بذاته عما سواه , فهو الاحد الصمد الغني الحميد , ومن اداب العبودية ان يرجع العبد الى ربه في طلب كلما يريده , ولذلك فإنه يجب على كل مسلم ان يعلم ان الله وحده هو الغني الحميد وان لا رازق ولا -رزاق الا الله تعالى على الاطلاق وحده , وغيره ان رزق واعطى فإنما يرزق من رزق الذي اعطى. ¬

_ (¬1) - اسماء الله الحسنى ج 1ص 276 (¬2) - سورة يوسف آية (22) (¬3) - سورة فاطر آية (15)

دعاء الله بأسمه الغني المغني الرزاق

فارزق مما رزقك الله يأتيك الخلف من الله قال تعالى {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} (¬1) , ومهما در عليك من الرزق الظاهر فوق القوت , فلا تدخره في مخادع البيوت , واخزنه في سرادق الملكوت يزدد نماءً (¬2) . فإنك ان سلكت هذا المسلك كنت متعلقا بالغني المغني الرزاق من كل جانب وانتفعت بالرزق , وانتفع بك غيرك حيث لم ينقبض عنهم خيرك , وضوعف لك الرزق الظاهر والباطن في المنزل الطاهر في المقعد الصدق عند الملك القادر. دعاء الله بأسمه الغني المغني الرزاق يالله ياغني يامغني يارزاق اسألك ياكريم يارحمن يارحيم ان ترزقني رضاك وان تغنني وعبادك المؤمنيين بغناك فأنت الغني ونحن الفقراء فصن وجهي يالله عن مد يدي الى سواك فإنك يالله ياغني يامغني تغني من تشاء بغير حساب فاغن فقري بغناك وجميع الاحباب ورزقنا من خزائنك التي لاتنقص ولا تنفد وبارك لي فيما رزقتني ووسع علي فيه ياواسع ياجواد ياصمد وصلى على محمد وعلى ال محمد كما صليت على ابراهيم في العالمين انك حميد مجيد وبارك على محمد وال محمد كما باركت على ابراهيم وعلى ال ابراهيم في العالمين انك حميد مجيد. ¬

_ (¬1) - سورة سبأ آية (39) (¬2) - الجامع لأسماء الله الحسنى ص 131

الفصل الحادي عشر الملك والسياسة

الفصل الحادي عشر المُلك والسياسة

الملك والسياسة

المُلك والسياسة بالراعي تصلح الرعية, وتساس البرية, ومن عدل في سياسته ظفر بحاجته, ومن أثر الإحسان لم يقع في الخذلان, ومن حسنت سيرته اكتسب الثناء, ولم يقع في الكدر والعناء, فمن أحسن فلنفسه أحسن, ومن أساء فعلى نفسه اعتدى, ومن مال إلى الحق ما إليه الخلق, والعاقل لا يوغل في حب الرئاسة, لأن ذلك يطغي ويؤذي, قال أبو العتاهية: حُبُّ الرِئاسَةِ أَطغى مَن عَلى الأَرضِ ... حَتّى بَغى بَعضُهُم فيها عَلى بَعضِ (¬1) وقال ابن المبارك: حب الرئاسة داء لا دواء له ... وقل ما تجد الراضين بالقسم (¬2) وقديماً قيل: "آفة الملك سوء السيرة, وآفة الوزراء خبث السريرة, وآفة الجند مخالفة القادة, وآفة العلماء حب الرئاسة, وآفة العدل ميل الولاة, وآفة الزعماء ضعف السياسة", قال أبو الحسن علي بن عبد الكافي: إن الولاية ليس فيها راحة ... إلا ثلاث يبتغيها العاقل حكم بحق أو إزالة باطل ... أو نفع محتاج سواها باطل وقال آخر: رئاسة الرجال بغير دين ... ولا تقوى الإله هي الخساسة وكل رئاسة من غير تقوى ... أذل من الجلوس على الكناسة (¬3) ¬

_ (¬1) - ديوان أبي العتاهية ص121. (¬2) - أدب الدنيا والدين للماوردي ص189. (¬3) - أورد هذين البيتين ابن حبان في روضة العقلاء ص431.

أما زكي قنصل فهو يقول: بئس الزعامة إن تكن أهدافها ... حب الظهور وبئس من يتزعم قلتُ: الظاهر أن السلطان إذا نصر المظلوم ولم يتعدَ في سلطانه, وأقام دعائم العدل وبنيانه, وأحسن إلى رعيته وإخوانه, فإنه يكون مأجوراً غير مأزور, ويرحم الله عبد الله بن المبارك حيث يقول: لولا الخلافة لم تأمن لنا سبل ... وكان أضعفنا نهباً لأقوانا فالسلطان يجب عليه الورع والصبر والعدل, فإنه لا يرجو السلامة من لم تسلم البرية منه, وقد قيل: أن الدولة التي يحوطها الدين لا تغلب, والنعمة التي يحرسها الشكر لا تسلب, فإذا تمسك ولي الأمر بالملة, وعمل بالسنة, وحافظ على الشريعة, لزم إجلاله واحترامه, فالرشيد لا يستخف بالعلماء, ولا يعرض عن الحكماء, ولا يسيء الاختيار, ولا يغضب ويأخذ بالثأر إلا ما كان حقاً لله الواحد القهار, فاستخفافه بالعلماء, واعراضه عنهم يثبت جهله, وينفي عقله, وإن مَن أحسن الاختيار لوزرائه, وعدل في سيرته, وأحسن النية في سريرته, وأجرى أمره على الخاص والعام بالسواء؛ استقام أمره, ومن أعرض عن ذلك ضاعت رعيته, وضعفت سياسيته, وبطلت رئاسته, وهاجت عليه العامة, فاستباحت الحرمات, وقطعت الطرقات, ولم ينل منها طيب الوفاء, ولا حسن الثناء, ويرحم الله شوقي حيث يقول: نجد وأيامنا هازلة ... ونهلك حرصاً على الزائلة

الملك هبة الله الواحد المنان

ونذهب في الحقد أو في الهوى ... مذاهب بعد غدٍ باطلة يغيرها دوران الزمان ... ونقلة حالته الحائلة وكم في هوى النفس من آفة ... وفي غضب النفس من غائلة ولولا النظام وسلطانه ... قطعنا الطريق على السابلة ولم ينفع الخلق عند الزحام ... ولم تدفع الشيمة الفاضلة وما أحوج الركب ركب الحياة ... إلى ما تلهى به القافلة فراح تقل عليه الهموم ... وتقصر ساعاتها القاتلة وتغنمه راحة في الفراغ ... على تعب العيشة الشاغلة الملك هبة الله الواحد المنان إن الملك هبة الله ونعمته, وفضله ورحمته, فتاج الملك عفافه, وحسن سياسته, وعدله وإنصافه, وسلاحه كفايته, فمن شكر لله النعمة ظفر بمراده, وبلغ كنه رجائه, فمن حق السائس النبيل أن يسوس نفسه قبل رعيته, ويقهر هواه قبل أن يقهر أضداده, وأن لا يستغش النصيح, كي لا يستحسن القبيح, وأن يستشير النصحاء, ولا يستنكف عن أخذ أراء الصلحاء, فإن من يسأل ويسلم؛ خير ممن يستبد ويندم, فحسن السياسة يورث الاستمرار في الرئاسة, ومن قلد ذوي الفضائل والخبرة استقامت أحواله, ومن قلد ذوي الرذائل اضطربت أعماله. وقد قيل: إن الاستقامة علة للفلاح والاستدامة, وحسن السيرة حسن القدرة, وحسن السياسة نور الرئاسة, وسوء التدبير سبب التدمير, فالجهل يزل القدم, والبغي يزيل النعم, ومن أعرض عن الحزم والاحتراس وبنى على

غير أساس زال عنه العز, واستولى عليه العجز, ومن استشار الجاهل ضل وجهل, ومن جهل موضع قدمه زل. فالعاقل من الملوك والرؤساء من استعان على سياسته بالعلماء وأهل الرأي, وتذكر أن نعمة الملك والمال يهبها الله لمن يشاء, وينزعها ممن يشاء: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬1) . فاذا نال العاقل ملكا في مختلف البلدان ورفرفت اعلام السعادة في البر والبحر تذكر هبة المنان وكرم الرحمن واقام شرع الله في تلك الاوطان وادرك ان ذلك فضل الله عليه وشكر المنعم على انعامه واحسانه واحسن الى رعيته واخوانه, ولله در احمد شوقي حيث يقول: ما فَوقَ راحاتِكُم يَومَ السَماحِ يَدٌ ... وَلا كَأَوطانِكُم في البِشرِ أَوطانُ خَميلَةُ اللَهِ وَشَّتها (¬2) يَداهُ لَكُم ... فَهَل لَها قَيِّمٌ مِنكُم وَجَنّانُ (¬3) شيدوا لَها المُلكَ وَاِبنوا رُكنَ دَولَتِها ... فَالمُلكُ غَرسٌ وَتَجديدٌ وَبُنيانُ لَو يُرجَعُ الدَهرُ مَفقوداً لَهُ خَطَرٌ ... لَآبَ بِالواحِدِ المَبكِيِّ ثَكلانُ المُلكُ أَن تَعمَلوا ما اِستَطَعتُمو عَمَلاً ... وَأَن يَبينَ عَلى الأَعمالِ إِتقانُ المُلكُ أَن تُخرَجَ الأَموالُ ناشِطَةً ... لِمَطلَبٍ فيهِ إِصلاحٌ وَعُمرانُ ¬

_ (¬1) - سورة آل عمران الآيتان (26و27) . (¬2) - وَشَّتها: زخرفتها. (¬3) - جَنّانُ: بستاني.

المُلكُ تَحتَ لِسانٍ حَولَهُ أَدَبٌ ... وَتَحتَ عَقلٍ عَلى جَنبَيهِ عِرفانُ المُلكُ أَن تَتَلافَوا في هَوى وَطَنٍ ... تَفَرَّقَت فيهِ أَجناسٌ وَأَديانُ نَصيحَةٌ مِلؤُها الإِخلاصُ صادِقَةٌ ... وَالنُصحُ خالِصُهُ دينٌ وَإيمانُ وَالشِعرُ ما لَم يَكُن ذِكرى وَعاطِفَةً ... أَو حِكمَةً فَهوَ تَقطيعٌ وَأَوزانُ وَنَحنُ في الشَرقِ وَالفُصحى بَنو رَحِمٍ ... وَنَحنُ في الجُرحِ وَالآلامِ إِخوانُ ولله در القائل: إن الولاية لا تدوم لواحد ... إن كنت تنكره فإين الأول (¬1) وقال آخر: ألا ليتني لم أغن في الملك ساعة ... ولم أكُ في اللذات أغشى النواظرِ وكنت كذي طمرين عاش ببلغة ... ليالي حتى زار ضنك المقابرِ (¬2) فكل ملك يزول إلا ملك الله, ولله در القائل: ليس ملكٌ يزيله الموت ملكاً ... إنما الملك ملك من لا يموت عدل السلطان إذا وليتَ أمراً فاجعل العدل خلقك فيه فعمّا قليل أنت ماضٍ ومسئول عنه, قال الشاعر: إذا كنت في أمر فكن فيه محسناً ... فعمّا قليل أنت ماضٍ وتاركه ¬

_ (¬1) - المحاسن والمساوئ للبيهقي ص276. (¬2) - العقد الفريد ج3ص88.

وقال أبو الفتح البُستي (¬1) : عليكَ بالعَدلِ إنْ وُلِّيتَ مملكَةً ... واحذَر مِنَ الجَورِ فيها غايَةَ الحَذَرِ فالعدلُ يُبقيهِ أنَّى احتَلَّ من بَلَدٍ ... والجَورُ يَفنيهِ في بَدْوٍ وفي حَضَرِ فمن عدل في سلطانه انتفى الظلم عن أعوانه, فالظلم فساد الممالك وخرابها, ولله در القائل: ثلاثة فيهن للملك التلف ... الظلم والإهمال فيه والسرف أما ابن خفاجه فهو يقول: فَما يَستَقيمُ الأَمرُ وَالمَلكُ جائِرٌ ... وَهَل يَستَقيمُ الظِلُّ وَالعودُ مُعوَجُّ (¬2) فمن عدل في حكمه وكف عن ظلمه نصره الحق, وأطاعه الخلق, وصفت له النعمى, وأقبلت عليه الدنيا, فتهنَّا بالعيش, واستغنى عن الجيش, وملك القلوب, وأمن الحروب, وصارت طاعته فرضاً, وأضحت رعيته جنداً, وإن أول العدل أن يبدأ المرء بنفسه, فيلزمها كل خلة زكية, وخصلة رضية, ومذهب سديد, ومكسب حميد, ليسلم عاجلاً, ويسعد آجلاً, وأول الجور أن يعمد إليها فيجنبها الخير, ويعودها الشر, ويكسبها الآثام, ويعقبها المذام, فيعظم وزرها, ويقبح ذكرها. ¬

_ (¬1) - علي بن محمد بن الحسين بن يوسف بن محمد بن عبد العزيز البستي, (400هـ1010م) , ولد في بست (قرب سجستان) وإليها ينسب، وكان من كتاب الدولة السامانية في خراسان وارتفعت مكانته عند الأمير سبكتكين, وخدم ابنه يمين الدولة السلطان محمود بن سبكتكين ثم أخرجه هذا إلى ما وراء النهر فمات غريباً في بلدة (أوزجند) ببخارى, له (ديوان شعر - ط) صغير، فيه بعض شعره، وفي كتب الأدب كثير من نظمه غير مدون, وهو صاحب القصيدة المشهورة التي مطلعها: (زيادة المرء في دنياه نقصان) . (¬2) - ديوان ابن خفاجه ج3ص369, وهو/ إبراهيم بن أبي الفتح بن عبد الله بن خفاجة الجعواري الأندلسي, (450-533هـ/1058-1138م) , شاعر غَزِل، من الكتاب البلغاء، غلب على شعره وصف الرياض ومناظر الطبيعة. وهو من أهل جزيرة شقر من أعمال بلنسية في شرقي الأندلس.

وقد نسب إلى بعض الحكماء: من بدأ بنفسه فساسها أدرك سياسة الناس, فمن أصلح نفسه صلح أمره وكان الناس تبعاً له. وفي الحديث النبوي: (من أصلح ما بينه وبين الله كفاه الناس, ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته) (¬1) . الرفق والكرم في السياسة إن سياسة الناس بالرفق والحزم والبذل والسخاء دليلٌ على الكياسة والذكاء, وفي محاضرات الأدباء لأبي معاذ قال: قال أنو شروان: إن هذا الأمر لا يصلح له إلا اللين في غير ضعف, والشدة في غير عنف, ودخل أبو معاذ على المتوكل حين استخلف فأنشده: إذا كنت مول الناس أهل سياسة ... فسوسوا كرام الناس بالرفق والبذل وفي الحديث: (إِنَّ الرِّفْقَ لا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ وَلا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ) (¬2) , وفي رواية لمسلم: (إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ) (¬3) . ¬

_ (¬1) - أخرجه ابن أبي شيبه في مصنفه ج7ص217 حديث (35472) . (¬2) - أخرجه مسلم في صحيحه باب فضل الرفق حديث (2594) , وأبو داود في سننه باب الرفق حديث (4808) . (¬3) - أخرجه مسلم في صحيحه باب فضل الرفق حديث (2593) .

اختيار الوزراء

اختيار الوزراء إن حسن اختيار الوزراء دليل توفيق الولاة, لأن بهم يدير ولاة الأمر دولتهم, وتستقيم أمورهم, ففي اختيار أهل القوة والأمانة, والمعرفة والاستقامة, صلاح الأحوال واستقامتها. ألا ترى أن موسى عليه السلام سأل ربه أن يجعل له وزيراً من أهله, قال تعالى حكايةً عن موسى عليه السلام: {وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} (¬1) , وهذا يوسف عليه السلام حكا الله عنه قوله لملك مصر بعد ان قال له: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (¬2) . وقديماً قيل: "من استوزر غير كفءٍ خاطر بملكه, ومن استشار غير أمين أعان على هلكه", فلا يغرنك كبير الجسم من صغيره في المعرفة والعلم, ولا طول القامة فيمن قصر في الكفاية والاستقامة, فإن الدرة في صغرها أنفع من الصخرة في كبرها, واعلم أن الأيدي بأصابعها, والملوك بصنائعها, فإن وزير الملك عينه, وأمينه أذنه, وكاتبه نطقه, وحاجبه خلقه, ورسوله عقله, فإذا ولى الكفؤ الذي يحسن, ويعلم بواطن الأمور وظواهرها, ويعرف موارد الأعمال ومصادرها؛ ظفر بالمراد, فالوزراء أركان الملك وحصون الدولة, فبهم تجمع الأموال, ويقوى السلطان, وتعمر البلدان, فإن استقاموا استقامت الأمور, وإن اضطربوا اضطربت الأمور, وصار الملك بتسويد أهل الجهل مذموماً, حاله حال من حكى الله عنهم على لسان ملكة اليمن: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (¬3) . ¬

_ (¬1) - سورة طه الآيات (28-32) . (¬2) - سورة يوسف الآيات (54و55) . (¬3) - سورة النمل الآيات (34) .

فلا يغرك اختلاف المسميات, فالملك هو من ملك إدارة شئون الأمة, وملك إصدار قرار تعيين الوزراء والولاة وعزلهم, سواءً كان شكل النظام ملكياً أو جمهورياً, فالمسئولية ملقاة على عاتق من يملكون القرار, فإن سودوا أهل الفضل والمعرفة والكفاءة سادوا ودامت رئاستهم, واستقامت ممالكهم, وإن فسد وزراؤهم فسدت ممالكهم, وذهب ملكهم, واضطرب أمرهم, وسادت الفوضى بلدانهم, وعم الفساد ممالكهم, وقد جاء في شعر الأفوه الأودي (¬1) : البيت لا يبتني إلا على عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتادُ فإن تجمع أوتاد وأعمدة ... وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا إذا تولى سراة القوم أمرهم ... نما على ذاك أمر القوم وازدادوا تلقى الأمور بأهل الرأي قدصلحت ... وإن تولت فبالأشرار تنقادُ كيف الرشاد إذا ما كنت في نفر ... لهم عن الرشد أغلال وأقيادُ (¬2) وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إذا أراد الله بالأمير خيراً جعل له وزير صدق إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه, وإذا أراد الله به غير ذلك جعل له وزير سوء إن نسي لم يذكره وإن ذكر لم يعنه) (¬3) . ¬

_ (¬1) - صَلاءة بن عمرو بن مالك، أبو ربيعة، من بني أود، من مذحج, شاعر يماني جاهلي، لقب بالأفوه لأنه كان غليظ الشفتين ظاهر الأسنان, كان سيد قومه وقائدهم في حروبهم وهو أحد الحكماء والشعراء في عصره. (¬2) - انظر: الأمالي لعلي بن إسماعيل القالي ج2ص225 , منشورات دار الآفاق الحديثة بيروت, والعقد الفريد ج1ص11, وروضة العقلاء ص433. (¬3) - رواه أبو داود في سننه كتاب الفيء والإمارة باب اتخاذ الوزير, حديث (2932) .

ولله در القائل: فكلكم راعٍ ونحن رعية ... وكل سيلقى ربه فيحاسبه (¬1) فولي الأمر يجب عليه أن يتحرى العدل في اختيار الوزراء والولاة, قال الأخطل (¬2) : تسمو العيون إلى إمام عادل ... معطي المهابة نافع ضرارِ وترى عليه إذا العيون لمحنه ... سيم الحليم وهيبة الجبار (¬3) ويرحم الله أبا العتاهية حيث يقول: يا مَن تَرَفَّعَ باِلدُنيا وَطينَتِها ... لَيسَ التَرَفُّعُ رَفعَ الطينِ بِالطينِ إذا أردت شريف القوم كلهم ... فانظر إلى ملك في زي مسكينِ ذاك الذي عظمت في الناس حرمته ... وذاك يصلح للدنيا وللدين أما الحسن بن هاني فهو يقول: إِمامٌ عَلَيهِ هَيبَةٌ وَمَحَبَّةٌ ... أَلا حَبَّذا ذاكَ المُهيبُ المُحَبَّبُ وقد قيل: من صحب السلطان فلا يجب أن يكتمه نصيحته, لأن من كتم السلطان نصيحته, والأطباء مرضه, والاخوان بثه؛ فقد خان نفسه, فمن يصحب السلطان لا ينحو من الآثام, كما أن راكب العجل لا يأمن ¬

_ (¬1) - هذا البيت لابن سلام الجمحي, وانظر: طبقات فحول الشعراء ج1ص363 , والموسوعة الشعرية ص520. (¬2) - غياث بن غوث بن الصلت بن طارقة بن عمرو، أبو مالك، من بني تغلب, شاعر مصقول الألفاظ، حسن الديباجة، في شعره إبداع. اشتهر في عهد بني أمية بالشام، وأكثر من مدح ملوكهم. وهو أحد الثلاثة المتفق على أنهم أشعر أهل عصرهم: جرير والفرزدق والأخطل, نشأ على المسيحية في أطراف الحيرة بالعراق واتصل بالأمويين فكان شاعرهم، وتهاجى مع جرير والفرزدق، فتناقل الرواة شعره. (¬3) - انظر: ديوان الأخطل ص149 , والعقد الفريد ج1ص38.

مما يستعان به على السياسة

العثار, وخير الوزراء من إذا غفل الأمير ذكره, وإن سولت له نفسه سيئة صده, وإن أراد طاعةً نشطه, فهو المحبب له إلى الناس, والمستجلب له دعاؤهم. قال علي بن محمد البسامي: إذا نسي الأمير قضاء حقٍ ... فإن الذنب فيه على الوزيرِ لأن على الوزير إذا تولى ... أمور الناس تذكير الأميرِ مما يستعان به على السياسة في أمثال الحكماء: "أربعة لا يزول معها مُلك: حفظ الدين, واستكفاء الأمين, وتقديم الحزم, وإمضاء العزم, وأربعة لا يثبت معها ملك: غش الوزير, وسوء التدبير, وخبث النية, وظلم الرعية, وأربعة لا بقاء لها: مال يجمع من الحرام, وحال تعقد من الأثام, ودولة تعرت من العقل, وملك يخلو من العدل, وأربعة لا يطمع فيها عاقل: غلبة القضاء, ونصيحة الأعداء, وتغير الخُلق, وإرضاء الخَلق, وأربعة لا يخلو منها جاهل: قول بلا معنى, وفعل بلا جدوى, وخصومة بلا طائل, ومناظرة بلا حاصل, وأربعة تؤكد المحبة: حسن البشر, وبذل البر, وقصد الوفاق, وترك النفاق, وأربعة من علامات الكريم: بذل الندى, وكف الأذى, وتعجيل المثوبة, وتأخير العقوبة, وأربعة يستدل بها على أربعة: العفة على الديانة, والنصيحة على الأمانة, والصمت على العقل, والعدل على الفضل, وأربعة يقضى بها على أربعة: السعاية على الدناءة, والإساءة على الرداءة, والحلف على البخل, والسخف على الجهل, وأربعة تدل على العقل: حب العلم, وحسن السلم, وصحة الجواب, وكثرة الصواب". (¬1) ¬

_ (¬1) - الفرائد والقلائد ص70.

وقال أبو حاتم: "إن الواجب على الملك أن يتفقد أمور عماله حتى لا يخفى عليه إحسان محسن أو إساءة مسيء, لأنه إذا جنى عليه أعمال عماله لم يكن قائماً بالعدل", قال علي بن محمد البساني: إذا سست قوماً فاجعل العدل بينهم ... شعارك تأمن كل ما تتخوف وإن خفت من أهواء قوم تشتتاً ... فبالجود فاجمع بينهم يتألفوا (¬1) فالسلطة إنما هي قول الحق والعمل بالعدل, لا التفاخر بالدنيا, واستعمال البذل, فمن أوتي السلطة وجب عليه لزوم المشورة, فإن في المشورة صلاح الرعية, ومادة الرأي, قال الشاعر: إِذا نِلتَ الإِمارَةَ فاسمُ فيها ... إِلى العَلياءِ بِالأَمرِ الوَثيقِ بمحظ خليقة لا عيب فيها ... وليس المحظ كاللبن المذيقِ وَلا تَكُ عِندَها حُلواً فَتُحسى ... وَلا مُرّاً فَتَنشَب في الحُلوقِ فَكُلُّ إِمارَةٍ إِلا قَليلاً ... مُغَيِّرَةَ الصَديقِ عَلى الصَديقِ وقد قال رجل لهشام بن عبد الملك: يا أمير المؤمنين أحفظ عني أربع كلمات فيهن صلاح ملكك واستقامة رعيتك, قال: هاتهن, قال: لا تعدن عِدَة لا تثق من نفسك بإنجازها, ولا يغرنك المرتقى وإن كان سهلاً إن كان المنحدر وعراً, واعلم أن للأعمال جزاءً فاتقِ العواقب, وأن للأمور بغتات فكن على حذر, قال الشاعر: بلاء الناس مذ كانوا ... إلى أن تأتي الساعة بحب الأمر والنهي ... وحب السمع والطاعة ¬

_ (¬1) - روضة العقلاء ص223.

وملاك الأمر في هذا كله تقوى الله والرجوع إليه.

قال أبو حاتم رضي الله عنه: لا يستحق أحدٌ اسم الرئاسة حتى يكون فيه ثلاثة أشياء: العقل, والعلم, والمنطق, ثم يتعرى عن ستة أشياء: عن الحدة, والعجلة, والحسد, والهوى, والكذب, وترك المشاورة, ثم ليلزم في سياسته على دائم الأوقات ثلاثة أشياء: الرفق في الأمور, والصبر على الأشياء, وطول الصمت, فمن تعرى عن هذه الأشياء وهو ذو سلطان: عمي عليه قلبه, وتشتت عليه أموره, ومن لم يكن فيه خصلة من هذه الخصال: نقص من ضوء بصر قلبه مثلها, ودخل الخلل في أموره نحوها, وإنما مثل الرئيس والرعية كمثل جماعة ليس فيهم إلا قائد واحد؟ فإن لم يكن ذلك القائد أحدَّ الناس بصراً, وألطفهم نظراً كان خليقاً أن يوقعهم وإياهُ في وهدةٍ تندق أعناقهم وعنقه معهم. (¬1) وملاك الأمر في هذا كله تقوى الله والرجوع إليه. فمن حظي من الملوك والرؤساء بتفهم مثل هذه الأمور ترقى في الرئاسة, وأحسن في السياسة, وأصاب في التقدير, وسلم عقاب العلي القدير. فساد بطانة السلطان إذا فسدت بطانة السلطان حل محل عدله جوره, واحتاج إلى من يحرسه من حارسه, قال الشاعر: وساع مع السلطان ليس بناصح ... ومحترس من مثله وهو حارس وقال آخر: ¬

_ (¬1) - روضة العقلاء ص226.

السياسة الرعناء

إن الأمير إذا استعان بخائن ... كان الأمير شريكه في المأثم (¬1) السياسة الرعناء السياسة الرعناء شدة وبلاء، وتعب وشقاء، وسفك للدماء، مازحها الحجاج فخلعت أضراسه، وداعبها أبو مسلم فأحرقت لباسه، وزارها مصعب بن الزبير فقتلته وحراسه، وأحبها يزيد فقطعت أنفاسه، وصافحها المختار فمزقت أحلاسه، وأحبها المهلب فابتلعت أساسه، وعشقها المتوكل فسلطت عليه جلاسه، وشربها القاهر فكسرت عليه كأسه، وعانقها بن الزيات فأحرقت قرطاسه، وجالسها بن المقفع فأبطلت قياسه، وبقنابل سياسة العميان دُمرت اليابان، واحتل الروس الأفغان، ودمروا الشيشان، وجلد المستضعفون شاه إيران، واعتدى الألمان على الجيران (¬2) ، واحتلت أمريكا العراق وأفغانستان، وقتلت الشيوخ والنساء والصبيان، وسار صدام وحزب البعث في خبر كان، وشردت إسرائيل الشعب العربي المسلم في فلسطين، وقتلت الآلاف من المؤمنين تحت سمع وبصر المسلمين، وكثير من الساسة العرب في لهو وطرب، ينثرون على الراقصات والمغنيات الذهب، ويتنازلون عن الحق بلا سبب، والمنافقون يصفقون لساستهم، ويمدحونهم على سماجتهم، ويغنون لهم بالأمجاد، وتحرسهم الأجناد، فيالها من سياسة تعبانه، تكرم الزنديق وأعوانه، ويتولى الأمور فيها العربيد، ويكرم فيها أمثال الوليد بن يزيد، فكم من ذكي ضيعت مراسه، وكم من غبي أخرجت ¬

_ (¬1) - خزانة الأدب للبغدادي ج9ص33. (¬2) - مقامات القرني ص (320-321) .

خساسة السياسة

وسواسه، السياسة بالنفاق نجاسة، وبالغباء تياسه، وبالغدر تعاسة، ... وبالجور خساسة، وبالظلم شراسة، اجتنبها أهل الكياسة، ومات في حبها أهل الرياسة، بذلوا في حبها الدين والحماسة، وما حصلوا إلى على التعاسة، تقاتلوا عليها حسداً ونفاسه، وقديماً قُتِل البرامكه لأجلها بحجة عباسة، فأصبحوا بعد الموت خبراً في كراسة، فكم من شجاع أذهبت بأسه، وأسقطت حواسه، وجعلته من أهل الخساسة، وأهلها يسمونهم ساسه، وقد قال بعض الصالحين: سعيد النورسي بالسياسة نسي، ولينين وإستالين قتلوا بالسياسة الملايين، فكتبوا في تاريخ الملاعين، هولاكو الغازي، وهتلر النازي، قتلوا باسم السياسة الإنسانية، فأصبحوا في الخانة المنسية. الكرب أكرم عشرة ... وهو النهاية في الخساسة من معشر طلبوا الرئاسة ... قبل تحقيق الرئاسة (¬1) خساسة السياسة السياسة الخسيسة تفسد النفوس، وتقطع الرؤس، وتضيع الفلوس، وتحمل الناس على اليمين الغموس، فمالك في ديار السياسة تجوس، فالعاقل من هرب من ساس يسوس، لان وجهها منحوس، ورأسها منكوس، فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة، والله جل وعلا يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (¬2) ، ولله در القائل: ¬

_ (¬1) - مقامات القرني ص (320) . (¬2) - سورة القصص (83) .

السياسة الرشيدة والملك المحبوب

من مخبر القوم شطت دارهم ونأت ... إني رجعت إلى كتبي وأوراقي عفت السياسة حتى ما الم بها ... وقد رددت إليها كل ميثاقي لأنها جشمتني كل نائبة ... وإنها كلفتني غير أخلاقي السياسة الرشيدة والملك المحبوب إن السلطان وان كثر ماله، وعرض جاهه، وكبر عقله، واتسعت معلوماته، لا يستطيع القيام بتدبير شؤون الأمة بنفسه منفردا، ولا يباشر أعمال مملكته كلها بيده، ولا يستطيع رعاية كل إنسان بعينه، وإنما يساعده الأعوان من أهل الصلاح والإيمان على تحقيق ما يريد، ويعاونوه على قضاء حوائجه، وإقامة دعائم ملكه على العدل، ويشيرون عليه بالأمر الرشيد، وما دام الأمر كذلك فانه لن يبلغ السلطان قصده وينال إربه وأكثر ما يريد من إدارة شؤون دولته، إلا إذا تحبب إلى الناس ووادّهم، وأعانوه وأعانهم، وألِفهم وألِفوه، ولم يستعل عليهم ويتتبع عثراتهم، ويحاول القضاء على أخلاقهم وملكاتهم، فهو يبذل لهم من نفسه مثل ما يريد منهم لنفسه، فيسعى إلى إصلاح ما بينه وبين رعيته، يتألف الشارد، ويغضي عن الناقد، ويقيل العثرة، ويعاون ويساعد على الخروج من المحنه، حتى يبني له منزلة رفيعة في صدورهم، وعند ذلك يرفع عرشه على أكتافهم، ويحفر حبه في قلوبهم، وربما قالوا له ما قال شاعر النيل حافظ إبراهيم (¬1) رحمه الله: ¬

_ (¬1) - حافظ إبراهيم، (1288-1351هـ/1871-1932م) ، محمد حافظ بن إبراهيم فهمي المهندس، الشهير بحافظ إبراهيم. شاعر مصر القومي، ومدون أحداثها نيفاً وربع من القرن. ولد في ذهبية بالنيل كانت راسية أمام ديروط. وتوفي أبوه بعد عامين من ولادته. ثم ماتت أمه بعد قليل، وقد جاءت به إلى القاهرة فنشأ يتيماً. ونظم الشعر في أثناء الدراسة ولما شبّ أتلف شعر الحداثة جميعاً. التحق بالمدرسة الحربية، وتخرج سنة 1891م برتبة ملازم ثان بالطوبجية وسافر مع حملة السودان وألف مع بعض الضباط المصريين جمعية سرية وطنية اكتشفها الإنجليز فحاكموا أعضاءها ومنهم (حافظ) فأحيل إلى (الاستيداع) فلجأ إلى الشيخ محمد عبده وكان يرعاه فأعيد إلى الخدمة في البوليس ثم أحيل إلى المعاش فاشتغل (محرراً) في جريدة الأهرام ولقب بشاعر النيل. وطار صيته واشتهر شعره ونثره فكان شاعر الوطنية والإجتماع والمناسبات الخطيرة. وفي شعره إبداع في الصوغ امتاز به عن أقرانه توفي بالقاهرة.

لَكَ العَرشانِ هَذا عَرشُ مِصرٍ ... وَهَذا في القُلوبِ لَهُ مَحَلُّ فَأَلِّف ذاتَ بَينِهِما بِرَأيٍ ... وَعَزمٍ لا يَكِلُّ وَلا يَمَلُّ فَعَرشٌ لا تَحُفُّ بِهِ قُلوبٌ ... تَحُفُّ بِهِ الخُطوبُ وَيَضمَحِلُّ والملك المحبوب يجد من شعبه معاونة ظاهرة، ومشاركة له في المسئولية الملقاة على أكتاف الحكومات والشعوب، وما ينفذ أمره، ولا ينتصر جيشه، ولا تمتلؤ بالأموال خزائنه، ولا تقوم المصانع في بلاده، إلا إذا تحبب إلى رعيته وأحبوه، وشعر انه واحد منهم، وليس له فضل عليهم، إلا بمنصبه الذي أهله الله له، فلا يستبد بهم، ولا يتعظم عليهم، ولا يستأثر بالمصالح دونهم، وإذا رأوا منه رفقه ورأفة بهم، وتفقد أحوالهم، قالوا له مثل ما قال (الهرمزان) لما رأى عمر نائماً في ظل الجدار (أمّنه عدله فنام) والملك المحبوب يصدق الناس في الدعاء له، وفي مناصرته ومؤازرته، وإذا ظهر عليهم حيته قلوبهم، وهتفت له ألسنتهم، وأشارت له بالسلام أيديهم، وإذا شغل عن مقابلتهم والبروز لهم عذروه، واعتقدوا انه في خدمتهم، وإذا مات ترحموا عليه، وانشدوا في رثائه القصائد، ولم يطمئنوا إلى من يأتي بعده، حتى يعلموا منه التأسي بسيرة من قبله، وكلما تحبب إليهم أعجبهم الحق منه، وغضوا أبصارهم عن هفواته، وأصموا أسماعهم عن غلطاته، قال الشاعر: وإذا المليك بعدله وبفضله ... والى الرعية فالجميع موالي

طاعة السلطان

وارى المليك إذا استبد مُهدداً ... بالموت أو بتغير الأحوال (¬1) طاعة السلطان إن طاعة السلطان الذي يلي أمور الأمة ويسوسها بالعدل ويرعى مصالحها سواءً كان ملكاً أو رئيساً أو أميراً أو إماماً, لا تستقيم شئون الناس وتنصلح أحوالهم إلا بها, وإلا تطيع الأمة أمراءها وولاة أمورها فسدت أحوالها, واضطربت أمورها, واختل أمنها, وتغول القوي على الضعيف, ولهذا أرشد الحق سبحانه وتعالى إلى طاعة أولي الأمر فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (¬2) . فطاعة الأمراء في المعروف مما تستقيم به أحوال الناس, وتتوحد به كلمتهم, وتعمر به ديارهم, وترفرف به السعادة على بلدانهم, وهي مع ذلك طاعة لله ولرسوله, ففي الحديث النبوي: (مَنْ يُطِعْ الأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي) (¬3) , ورحم عبد الله بن المبارك حيث يقول: أطاع اللَه قومٌ فاستراحوا ... ولم يتجرّعوا غُصَصَ المعاصي (¬4) ¬

_ (¬1) - إصلاح المجتمع ص (93) . (¬2) - سورة النساء الآية (59) . (¬3) - أخرجه البخاري في صحيحه باب يقاتل من وراء الإمام حديث (2797) , ومسلم في صحيحه باب وجوب طاعة الأمراء حديث (1835) . (¬4) - انظر: الموسوعة الشعرية ص144 , وديوان ابن المبارك ص52.

الملك مالك الملك والمليك في الأسماء الحسنى

المَلِك مالك المُلك والمليك في الأسماء الحسنى ان مما يجب على المكلف العاقل ان يعلم ان الله سبحانه وتعالى الملك الحق المبين وحده لا شريك له، فهو الملك الآمر الناهي المعز المذل الذي يُصرّف أمور عباده، وانه وحده لا شريك له ملكنا ومالكنا ومليكنا وإلاهنا واليه نلجأ كما يرشدنا إلى ذلك ويأمرنا جل شأنه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ*مَلِكِ النَّاسِ*إِلَهِ النَّاسِ} (¬1) ، فهو الملك الأعظم المطلع على السر والعلانية المحيط بكل شيء، فهو الموصوف بصفة الملك وهو مالك الملك جل جلاله وتقدست أسماؤه، فقد ورد هذا الاسم في التنزيل وفي السنة النبوية وأجمعت عليه الأمة المحمدية، ففي سورة الفاتحة يقول جل شأنه: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (¬2) ، وفي قراءة: {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (¬3) ، ... وعن أم سلمة قالت: كان رسول الله عليه وآله وسلم يقول: (الحمد لله رب العالمين) ثم يقف (الرحمن الرحيم) ثم يقف وكان يقرؤها (ملك يوم الدين) (¬4) . ¬

_ (¬1) - سورة الناس (1-3) . (¬2) - سورة الفاتحة (2) . (¬3) - هي قراءة نافع وهي قراءة متواترة. (¬4) - أخرجه الترمذي في القراءات حديث (2927) وقال: (هذا حديث غريب وبه يقول أبو عبيده ويختاره، هكذا روى يحيى ابن سعيد الأموي عن ابن جريج عن ابن أبي مليكه عن أم سلمه، وليس إسناده بمتصل، لأن الليث بن سعد روى هذا الحديث عن ابن أبي مليكه عن يعلا بن مملك عن أم سلمه وحديث الليث اصح) ، وأبو داود في الحروف والقراءات حديث (4001) ، والبيهقي في السنن الكبرى ج (2) ص (44) واخرج الترمذي أيضا قراءة (مالك يوم الدين) عن انس حديث (2928) ، وقال عنه الترمذي هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث الزهري عن انس إلا من حديث هذا الشيخ ايوب بن سويد الرملي، وأخرجه أبو داود في الحروف والقراءات حديث (4000) مرسلاً، والخلاصة ان القراءتين (ملك) و (مالك) متواترتان.

وروي انه كان يقرؤ (مالك) والقراءتان متواترتان، وثمرة اعمال القراءتين هو وجوب الإيمان بان الله جل وعلا يوصف بالملك والمالك، قال القرطبي: فأما ملك ومالك فقد جاء في القران قال الله تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} (¬1) ، وقال: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ} (¬2) ، وعند الترمذي (ملك) و (مالك) وقرأ القراء بهما ورويت القراءتان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأما مليك فجاء أيضا في القران: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} (¬3) ، وهو كثير في أشعار العرب من ذلك: فارضِ بما قسم المليك فإنما ... قسم الخلاق بيننا علامها وقال آخر: تتبع خبايا الارض ودع مليكها ... لعلك ان تجاب يوماً فترزقا وهذا الاسم من أمهات الأسماء لان باب التعديل والتجوير يدور عليه، ووصف التنزيه والكمال في الإثبات معنى يسند إليه (¬4) ، فهو سبحانه الموصوف بصفة الملك، وهي صفة العظمة والكبرياء والقهر والتدبير، الذي له التصرف المطلق في الخلق والأمر والجزاء، وله جميع العالم العلوي والسفلي كلهم عبيد ومماليك (¬5) ومضطرون إليه، ومعنى الملك الحقيقي ثابت له ¬

_ (¬1) - سورة طه (114) . (¬2) - سورة آل عمران (26) . (¬3) - سورة القمر (55) . (¬4) - الآسنى في شرح أسماء الله الحسنى للقرطبي ص (438-439) . (¬5) - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي ص595و1023و1038، والجامع لأسماء الله الحسنى ص (968) .

سبحانه بكل وجه، وهذه الصفة تستلزم سائر صفات الكمال، فهو سبحانه الرب الحق، الملك الحق، الإله الحق، خلقهم بربوبيته وبهرهم بملكه واستعبدهم بالاهيته، فتأمل هذه العظمة التي تضمنتها هذه الألفاظ الثلاثة على أبدع نظام, وأحسن سياق (رب الناس - ملك الناس- إله الناس) وقد اشتملت هذه الإضافات الثلاث على جميع قواعد الإيمان وتضمنت معاني أسمائه الحسنى، أما تضمنها لمعاني الأسماء الحسنى: فان الرب: هو القادر، الخالق، البارئ، المصور، الحي، القيوم، العليم، السميع، البصير، الحسن، المنعم، الجواد، المعطى المناع، الضار النافع، المقدم المؤخر، الذي يضل من يشاء ويهدي من يشاء، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته التي له منها ما يستحق من الأسماء الحسنى. وأما الملك: فهو الآمر، الناهي، المعز، المذل، الذي يصرف أمور عباده كما يحب ويقلبهم كما يشاء، وله من معنى الملك ما يستحق من الأسماء الحسنى، كالعزيز، الجبار، المتكبر، الحكم، العدل، الخافض، الرافع، المعز المذل، العظيم، الجليل، الكبير الحسيب، المجيد، الولي، المتعال، مالك الملك، المقسط الجامع إلى غير ذلك من الأسماء العائدة إلى الملك. وأما (الإله) : فهو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال، فيدخل في الاسم جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى، فقد تضمنت هذه الأسماء

الثلاثة جميع معاني أسمائه الحسنى، فكان المستعيذ بها جديراً بان يُعاذ، ويُحفظ، ويُمنع من الوسواس الخناس، ولا يسلط عليه (¬1) . ويتضح من هذا العرض ان ملك الله جل وعلا تفرد فيه بالقوة والعظمة والقدرة المطلقة، والضر والنفع، والأفضال والإحسان، والإحياء والإماتة كما قال جل شأنه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ*الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (¬2) ، وتفرده بالإحاطة بكل شيء، ونفاذ تصرفه في كل شيء، وحسن تدبيره وحكمته بوضع الأمور في مواضعها، فهو الملك الحق المقدس المنزه، وهو الملك القدوس العزيز الحكيم، وهو المقدم المؤخر، المعطي النافع، الذي يأتي الملك ممن يشاء وينزع الملك ممن يشاء كما يقول جل شأنه {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬3) . قال القرطبي: وهذا الاسم من أمهات الأسماء وهو يحتوي على معاني أكثرها، أو على كلها، فليس في الأسماء ما يعارضه، ولهذا انفرد سبحانه اسماً واستحق التسمية به لعشرة أمور لا توجد لغيره: أحدها: وجود افتقار الملك إليه. ¬

_ (¬1) - بدائع الفوائد للعلامة الجليل الإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الحنبلي الدمشقي المعروف بابن القيم الجوزية صاحب التأليف الماتعة والأخلاق الفاضلة والفقه الغزير, ج (2) ص (249) ، والجامع لأسماء الله الحسنى (269) . (¬2) - سورة الملك الآيتان (1-2) . (¬3) - سورة آل عمران الآيتان (26-27) .

والثانية: ان ملك كل الملك منه. والثالث: انه يقول للشيء كن فيكون. والرابعة: ثبوت الملك له قبل وجود الملك والمملوك. والخامسة: استغناؤه عن الأعوان. والسادسة: عموم الملك في الدنيا والآخرة. والسابعة: ان جنده لا يحصون كثرة وقوة. والثامنة: ان ملكه لا يبيد. والتاسعة: ان العقول تحيل الشركة عليه. والعاشرة: إحاطته سبحانه بملكه إحاطة لا يغيب عنه منها دقيق ولا جليل: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬1) . وقال القاضي أبو بكر العربي: واختص سبحانه بنعوت- اقتضاها كونه ملكاً - جماعها احد عشر حكماً: احدها: انه يعز من يشاء ويذل من يشاء ويستحيل عليه الإذلال. الثانية: انه المملك لغيره السالب له. الثالث: انه الممكن لسواه المانع له. الرابع: انه يولي ويعزل ولا يتوجه عليه بالعزل. الخامس: انه المنفرد بالعز والسلطان لا يشارك فيه احد. السادس: انه يقضي ولا يقضى عليه. السابع: ان الإنفاق إليه، يرزُق ولا يرزَق، ويطعِم ولا يطعَم. الثامن: انه يؤلم ولا يتألم. ¬

_ (¬1) - سورة الحديد الآية (3) .

التاسع: انه يضر وينفع، ولا يتوجه عليه الضر والنفع. العاشر: انه يَحرس ولا يُحرس. الحادي عشر: ان العرض عليه، والثواب والعقاب إليه، والعفو لا يرجى إلا لديه، وفي كل نعت منها أية وحديث يدل عليه (¬1) . وقد أحسن من قال: ملك تدين له المُلوك وَيلتجى ... يَومَ القيامة فقرهم بِغناه هُوَ أوّل هُوَ آخر هو ظاهر ... هُوَ باطِن لَيسَ العيون تَراه حجبته أَسرار الجَلال فَدونه ... تَقِف الظنون وَتخرس الافواه صمد بِلا كفء وَلا كَيفية ... أَبدا فَما النظراء والاشباه شهدت غَرائب صنعه بوجوده ... لَولاه ما شهدت به لَولاه واليه أذعنت العُقول فآمنت ... با لغيب تؤثر حبها اياه سُبحان من عنت الوجوه لوجهه ... وَله سجود أَوجه وَجباه طوعا وَكرها خاضعين لعزه ... فَله عليها الطوع والإكراه سل عنه ذرات الوجود فانها ... تدعوه معبودا لها رباه ما كانَ يعبد من اله غيره ... وَالكل تحت القهر وَهواله أَبدى بمحكم صنعه من نطفة ... بشرا سويا جل من سواه وَبَني السَموات العَلي وَالعَرش ... وَالكرسيّ ثم عَلى الجَميع علاه وَدحا ببسط الأَرض فَرشا مثبتا ... بالراسيات وَبالنبات حلاه ¬

_ (¬1) - الآسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى للإمام شمس الدين أبي عبد الله القرطبي ص (451-452) , راجعه وأشرف على تحقيقه أبو عبد الله مصطفى بن العدوي تحقيق الشحات الطحان, الناشر مكتبة فياض المنصورة مصر الطبعة الأولى 1427هـ2006م.

ثمرة معرفة اسمه جل وعلا الملك

عَن اذنه وَالفلك والامواه (¬1) ثمرة معرفة اسمه جل وعلا الملك من عرف ان الله جل وعلا هو الملك الحق وانه ملك الملوك وانه إلهنا وخالقنا ورازقنا والمتصرف في جميع أمورنا، استغنى عن الخضوع لغيره, وأفرده سبحانه بالعبادة وابتعد عن الحرص والهوى وقد أحسن بعض الشعراء حين قال: ملكت نفسي وكنت عبداً ... فزال رقي وطاب عيشي أصبحت أرضى بحكم ربي ... ان لم أكن راضياً فأيشي (¬2) فإذا علم العبد ما لله من الملُك والملِك فحقه ان لا يشح بما ملكه على طريق الوديعة, وان يكون سمح السجية والطبيعة، لأنه إنما استخلف على ما ملك أياماً قليله، فان ردها إلى مالكها أحسن رد، عاد عليه اشرف ملك، ونال عوضاً عنها ارفع ملك، فهو وان كان ملكاً علم انه مملوك لله الذي بيده ملك الدنيا والآخرة، فهو محتاج إلى ربه، فعليه ان يحسن فيما استخلف فيه، فمالكه ملك السماوات والأرض بيده العز والقهر والعظمة، فهو الذي ¬

_ (¬1) - هذه الأبيات لعبد الرحيم بن أحمد بن علي البرعي نسبة إلى بُرع وهو جبل مجاور لتهامة باليمن, شاعر متصوف من سكان (النيابتين) ببرع, وقد تغنى بذلك في أكثر من قصيدة ومن ذلك قوله: تَجري الرياح عَلى اختلاف هبوبها ... أفي نيابتي برع تقيم ... وقد رحل الأحبة يا نديم؟! وشعره يسيل بعذوبة اللفظ, وجمال السبك, ولطف المأخذ, ونظارة الأسلوب, وحسن الإشارة, وانتقاء العبارة, وله في مدائح النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكثير من القصائد التي كثيراً ما تتردد على لهوات المنشدين, ونسب إليه بعض العلماء الغلو في ذلك, وله أيضا من القصائد ما ضمنها محامد أثنى بها على الله عز وجل فأبدع وأجاد, وديوانه مطبوع مشهور متداول, توفي سنة 803هـ/1400م. (¬2) - فأيشي: أي فاي شيء

يعطي الملك وينزعه، ويبيد الدول ويقيمها، وإذا كان الله بهذه القدرة يسامح ويعفو ويعين ويصدق الوعد، فان من ملكه الله شيئاً وجب عليه أن يعين ويعفو وان يعدل وان يحسن السياسة ويصدق الوعد، ويبتعد عن الظلم فقد جاء في الحديث النبوي: (ثَلاثة لا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (¬1) ، وذكر منهم ملكاً كذاباً، وهذا الوعيد يأتي لأنه ليس من شيم الملك الذي يتصرف بقدرة وحنكة الكذب وإنما هو خصلة قبيحة، لذلك فان المؤمن يجب عليه ان يتنزه عن ذلك، وأن لا يكون كما قيل: رُزِقتُ مُلكاً فَلَم أَحسِن سِياسَتَهُ ... وَكُلُّ مَن لا يُسُوسُ المُلكَ يَخلَعُهُ وَمَن غَدا لابِساً ثَوبَ النَعِيم بِلا ... شَكرٍ عَلَيهِ فَإِنَّ اللَهَ يَنزَعُهُ (¬2) ومن عرف ان الله ربه ومالكه ومعبوده وجب عليه ان لا يخاف إلا ربه ولا يرجو إلا مالكه، وان يفرده بالعبادة والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والخضوع له والصدق معه ومع إخوانه المؤمنين، فهو وحده سبحانه بيده الضر والنفع، والعطاء والمنع. ¬

_ (¬1) - أخرجه مسلم في صحيحه باب بيان غلظ تحرير إسبال الأزار حديث (107) . (¬2) - ديوان ابن زريق البغدادي, (420هـ1029م) أبو الحسن علي (أبو عبد الله) بن زريق الكاتب البغدادي, انتقل إلى الأندلس وقيل إنه توفي فيها, وله قصيدة عينية أسماها قمر في بغداد مطلعها: لا تعذليه فإن العذل يولعه ... قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعه

دعاء الله باسمه الملك والمالك ملك الملك

دعاء الله باسمه الملك والمَالِك ملك الملُك إن الله جل وعلا مالك ملك السماوات والأرض، ومالك الكون بمن فيه يسمع ويجيب من يناديه، وكفاني فخراً يا مالك الملك العظيم يا رب العرش الكريم يا ذا الجلال والإكرام إني لك عبد في العبيد، فوفقني والمؤمنين لطاعتك لننال رضاك ونحظى منك بما نريد، فانك أنت الله الملك الكريم الجواد المجيب، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، وقد أحسن القائل: أَغيب وَذو اللطائف لا يَغيب ... وَأَرجوه رجاء لا يخيب واسأله السَلامة من زَمان ... بليت به نوائبه تشيب وأنزل حاجَتي في كل حال ... إلى من تطمئن به القلوب وَلا أَرجو سواه إذا دهاني ... زَمان الجور وَالجار المريب فَكَم لِلَّه من تَدبير أَمر ... طوته عَن المشاهدة الغيوب وَكَم في الغَيب مِن تَيسير عسر ... وَمن تفريج نائبة تنوب وَمن كرم ومن لطف خفي ... وَمن فرج تزول به الكروب وَمالي غير باب اللَه باب ... وَلا مولى سواه وَلا حَبيب كَريم منعم برّ لَطيف ... جَميل الستر للداعي مجيب حَليم لا يعاجل بالخَطايا ... رَحيم غيم رحمته يصوب فَيا مَلِك المُلوك أَقل عثارى ... فانى عنك أنأتني الذنوب (¬1) وجاء في الذكر الحكيم: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً} (¬2) . ¬

_ (¬1) - انظر ديوان البرعي. (¬2) - سورة النساء (172) .

الفصل الثاني عشر الشكر

الفصل الثاني عشر الشُكر

الشكر

الشُكر الشكر يديم النعمة, ويزيل المحنة, فتجارته رابحة, ومكاسبه فاضلة, وقد عرّف العلماء شكر الله بأنه: ظهور نعمة الله على لسان عبده ثناءً واعترافاً, وعلى قلبه شهوداً ومحبة, وعلى جوارحه انقياداً وطاعة وقيل الشكر صرف النعم فيما خلقت له , واستعمالها فيما شرعت لأجله. فلسان الشاكر مشغولٌ بالثناء على ربه, معترف بنعمه, وقلبه مملوء بحب الله, وجوارحه مشغولة بطاعة الله, لهذا كان الشكر من مظاهر العبادة التي دعا إليها القرآن, قال جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (¬1) , ويرحم الله علي بن الجهم حيث يقول: إِذا جَدَّدَ اللَهُ لي نِعمَةً ... شَكَرتُ وَلَم يَرَني جاحِداً وَلَم يَزَلِ اللَهُ بِالعائِداتِ ... عَلى مَن يَجودُ بِها عائِداً فكلمة الشكر من الكلم الجوامع, لأنها تنتظم كل خير, وتشمل كل ما يصلح به قلب الإنسان ولسانه وجوارحه, فالذي لا يحب الله ولا يشهد قلبه بأن ما فيه من النعم إنما هو من الله فضلاً وإحساناً ليس بشاكر, وقد جاء في شعر محمود الوراق (¬2) : إِذا كانَ شُكري نِعمَةَ اللَهِ نِعمَةً ... عَلَيَّ لَهُ في مِثلِها يَجِبُ الشُكرُ فَكَيفَ بلوغُ الشُكرِ إِلا بِفَضلِهِ ... وَإِن طالَتِ الأَيّامُ وَاِتَّصَلَ العُمرُ ¬

_ (¬1) - سورة البقرة الآية (172) . (¬2) - محمود بن حسن الوراق من الفضلاء والأدباء أكثر شعره في المواعظ والحكم مات نحو سنة 225هـ في عهد المعتصم.

إِذا مُسَّ بِالسَرّاءِ عَمَّ سُرورُها.... وَإِن مُسَّ بِالضَرّاءِ أَعقَبَها الأَجرُ وَما مِنهُما إِلا لَهُ فيهِ نِعمَةٌ ... تَضيقُ بِها الأَوهامُ وَالبرُّ وَالبَحرُ (¬1) فمن لا يثني على ربه, ولا يحمده بلسانه؛ لم يكن شاكراً, ومن يخض في الباطل, ويشغل لسانه بلغو القول, وسمعه بلهو الحديث؛ ليس بشاكر, ومن أعطي من العلم شيئاً فكتمه ليس بشاكر, ومن بخل عن صرف المال في وجوه الخير والبر؛ ليس بشاكر, ومن لم يحافظ على النعمة بالشكر عرضها للزوال والانتقال, قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إِذا كُنتَ في نِعمَةٍ فَاِرعَها ... فَإِنَّ المَعاصي تُزيلُ النِعَم وَحافِظ عَلَيها بِتَقوى الإِلَهِ ... فَإِنَّ الإِلَهَ سَريعُ النِّقَم فَإِن تَعطِ نَفسَكَ آمالَها ... فَعِندَ مُناها يَحِلُّ النَدَم فَأَينَ القُرونَ وَمَن حَولَهُم ... تَفانوا جَميعاً وَرَبّي الحَكَم وَكُن مُوسِراً شِئتَ أُو مُعسِراً ... فَلا بُدَّ تَلقى بِدُنياكَ غَمّ وَدُنياكَ بِالغَمِّ مَقرونَةٌ ... فَلا يُقطَع العُمرُ إِلا بِهَمّ حَلاوَةُ دُنياكَ مَسمومَةٌ ... فَلا تَأَكُلِ الشَهدَ إِلا بِسُمّ مُحامِدُ دُنياكَ مَذمومَةٌ ... فَلا تَكسَب الحَمدَ إِلا بِذَم إِذا تَمَّ أَمرٌ بَدا نَقصُهُ ... تَوَقَّ زَوالاً إِذا قيلَ تَمّ فَكَم آمِنٍ عاشَ في نِعمَةٍ ... فما حَسَّ بِالفَقرِ حَتّى هَجَم وَكَم قَدَرٍ دَبَّ في غَفلَةٍ ... فَلَم يَشعُرِ الناسَ حَتّى هَجَم ¬

_ (¬1) - انظر روضة الأمل ج4ص104.

استدامة النعمة بالشكر

استدامة النعمة بالشكر نعم الله على الإنسان كثيرة, وخيراته وفيرة, ولا بقاء للنعمة إلا بالشكر, وقد أُثر عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: "قيد النعم بالشكر, والعلم بالكتابة", وقال الحسن البصري: "نعم الله أكثر من أن تشكر إلا ما أعان عليه, وذنوب ابن آدم أكثر من يسلم منها إلا ما عفا عنها". وقد قال محمد بن عبد الملك (¬1) : "أنه لو لم يكن في فضل الشكر إلا أنه لا يرى إلا بين نعمتين حاضرةٍ ومنتظرة", وقد سؤل ابن الأعرابي (¬2) : كيف تراهما يا أبا عبد الله قال: أحسن من قرطي درٍ وياقوت بينهما وجه حسن". (¬3) وجاء في شعر الحكمة المنسوب للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما أَحسَنَ الدُنيا وَإِقبالَها ... إِذا أَطاعَ اللَّهَ مَن نالَها مَن لَم يواسِ النَّاسَ مِن فَضلِهِ ... عَرَّضَ لِلإِدبارِ إِقبالَها فَاِحذَر زَوالَ الفَضلِ يا جابِرُ ... وَأعطِ مِن دُنياكَ مَن سالَها فَإِنَّ ذا العَرشِ جَزيلُ العَطا ... ءِ يُضَعِفُ بِالحَبَةِ أَمثالَها وَكَم رَأَينا مِن ذَوي ثَروَةٍ ... لَم يَقبَلوا بِالشُّكرِ إِقبالَها ¬

_ (¬1) - هو أبو جعفر محمد بن عبد الملك بن أبان بن حمزة المعروف بابن الزيات وزير المعتصم والواثق العباسيين, انظر ترجمته في تاريخ بغداد ج2ص392. (¬2) - هو أبو عبد الله محمد بن زياد المعروف بابن الأعرابي راوية نسابة عالم باللغة توفى سنة 231هـ انظر ترجمته في وفيات الأعيان لابن خلكان ج1ص492. (¬3) - خاص الخاص للعلامة عبد الملك بن محمد الثعالبي تحقيق درويش الجويدي , ص26 , الناشر: المكتبة العصرية بيروت الطبعة 1428هـ2008م.

تاهوا عَلى الدُنيا بِأَموالِهِم ... وَقَيَّدوا بِالبُخلِ أَقفالَها لَو شَكَروا النِعمَةَ زادَتُهُمُ ... مَقالَةً لِلّهِ قَد قالَها لَئِن شَكَرتُم لأَزيدَنَّكُم ... لَكِّنَما كُفرَهُم غالَها مَن جاوَرَ النِعمَةَ بِالشُكرِ لَم ... يِخشَ عَلى النِعمَةِ مُغتالَها وَالكُفرُ بِالنِعمَةِ يَدعو إِلى ... زَوالِها وَالشُكرُ أَبقى لَها (¬1) وقيل: "من أعطي أربعاً لم يعدم أربعاً: من أعطي الشكر لم يعدم المزيد, ومن أعطي التوبة لم يعدم القبول, ومن أعطي الاستخارة لم يعدم الخيرة, ومن أعطي المشورة لم يعدم الصواب", فلا زوال لنعمة إذا شُكرِت, ولا دوام لها إذا كُفرِت. قال المأمون لثمامة (¬2) : أيهما أفضل الشاكر أم المنعم؟ فقال: المنعم, أمنُّ فعلاً, وأعلى في فعله فضلاً, لأن الإنعام لقاح الشكر, وبه يستهل سبيل الشاكر إلى جميل الشكر, فجالب الشكر أوكد سبباً من الشكر, فقال المأمون: ما علمتَ شيئاً, بل الشكر أفضل, والقول بتقديمه أعدل, لأن الشكر يمتري المزيد, ويحكم عقد النعمة بالتوطيد, وموجب النعمة أفضل من النعمة, فالنعمة إلى نفاذ, ويسير الشكر باقٍ إلى المعاد, ومن فضله ندب الله عباده إليه, وحظهم عليه, وأوجب لهم المزيد بإدامته, قال الشاعر: فَلَو كانَ يَستَغني عَنِ الشُكرِ ماجِدٌ ... لِعِزَّةِ نَفسٍ أَو عُلُوِّ مَكانِ لَما أَمَرَ اللَهُ الحَكيم بِشُكرِه ... فَقالَ اِشكُروا لي أَيُّها الثَقلانِ ¬

_ (¬1) - ديوان الإمام علي رضي الله عنه. (¬2) - ثمامة بن أشرس البصري المتكلم من رؤس المعتزلة كان أحد الفصحاء البلغاء اتصل بالرشيد ثم بالمأمون , كان ذا نوادر وملح.

شكر الخالق واجب

وقيل: من أراد أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله تعالى, ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليثق بالله تعالى, ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يديه, ومن أحب بقاء جميع ذلك فليشكر الله تعالى دائماً. (¬1) وقد جاء في محكم الذكر الحكيم: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ} (¬2) . شكر الخالق واجب إن من أنفع القربات, وأهم الواجبات؛ شكر الخالق على نعمه, فإن من غفل عن ذلك, وتجاهل نعم الله عليه فإنه يكون مقترفاً لأشد أنواع الجحود, فشكر النعمة مما تألفه النفوس, فالناس ينكرون على الشخص الذي لا يسدي الشكر لمن أحسن إليه, ويسمونه بالجحود والكفران, فكيف بالله الذي أسدى من النعم ما لا تحصى, وخَلقُ الإنسان أفضل النعم, وفي محكم التنزيل: {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬3) , وفي سورة يس يذكرنا بالنعم العزيز الحكيم حيث يقول: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ* وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ* لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ} (¬4) . وفي نعمة إجراء الأنهار, وتسخير البحار, والاستمتاع بالنعم الغزار؛ من الفضل ما لا يحصيه إلا العزيز الغفار, وفي سورة الجاثية: {اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬5) آية واضحة تدل على عظم نعمة التسخير. وفي اختلاف الليل والنهار من النعم الكبيرة, والخيرات الوفيرة؛ ما يدعو إلى الشكر والثناء على القوي القدير, وفي سورة القصص آيات واعتبار, تدل على نعم العزيز الجبار, قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬6) . فأحسن كل حسن نعمة مشكورة, وحق الله في العسر الرضى والصبر, وفي اليسر البر والشكر, وقال بعض الصالحين: إني لأصاب بالمصيبة فأشكر الله عليها أربع مرارٍ: شكراً إذ لم تكن أعظم مما هي, وشكراً إذ رزقني الصبر عليها, وشكراً لما أرجوه من زوالها, وشكراً إذ لم تكن في ديني, وقال أبو الفرج الببغاء (¬7) : ¬

_ (¬1) - أنس المسجون وراحة المحزون تأليف صفي الدين أبي الفتح عيسى بن البحتري الحلبي, تحقيق محمد أديب الجاور, ص35. الناشر: دار صادر بيروت الطبعة الأولى 1997م. (¬2) - سورة الزمر الآية (66) . (¬3) - سورة النحل الآية (78) . (¬4) - سورة يس الآيات (33-35) . (¬5) - الآية (12) . (¬6) - سورة القصص الآيات (71-73) . (¬7) - لقب بالببغاء لفصاحته وقيل: بل للتغة في لسانه, انظر: يتيمة الدهر للثعالبي ج1ص200, ووفية الأعيان لابن خلكان ج3ص199.

صَبَرتُ وَلَم أُحمَد عَلى الصَبرِشيمَتي ... لأَنَّ مَآلي لَو جَزَعتُ إِلى الصَبرِ وَلِلَّهِ في أَثناءِ كُلِّ مُلِمَّة ... وَإِن آلَمَت لُطفٌ يَحُضُّ عَلى الشُكرِ والشكر وإن قل فهو ثمن لكل نوال وإن جل, وقيل: ثلاث يبلغ بها الإنسان ما يحب: حسن الظن بالله تعالى, والمكافئة على القبيح بالجميل, وشكر الله على الشدة. وقد نسب إلى الحسن البصري أنه قال: "الخير الذي لا شر فيه: الصبر مع النازلة, والشكر مع النعمة", قال الإمام علي رضي الله عنه: لَئِن ساءَني دَهرٌ لَقَد سَرَّني دَهرُ ... وَإِن مَسَّني عُسرٌ فَقَد مَسَّني يُسرُ لِكُلٍّ مِنَ الأَيّامِ عِندي عادَةٌ ... فَإِن ساءَني صَبرٌ وَإِن سَرَّني شُكرُ وقيل: "من تلقى أوائل النعم بالشكر ثم أمضاها في سبل البر فقد حرسها من الزوال وحصنها من الانتقال". قال الشاعر: يدُ المعروف غُنمٌ حيثُ كانت ... تحمّلَها شكورٌ أو كفورُ ففي شكرِ الشكور لها جزاءٌ ... وعندَ اللَهِ ما كفرَ الكفورُ ومما ينسب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لو كان الصبر والشكر بعيرين ما باليت أيهما ركبت".

من شكر الله شكر الناس

من شكر الله شكر الناس إن نفوس الأبرار تأبى إلا أن تشكر من أحسن إليها وأوصل معروفاً إليها, وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من لا يشكر الناس لا يشكر الله) (¬1) . ويرحم الله صالح بن عبد القدوس (¬2) حيث يقول: لأَشكُرَنَّ هماماً فَضل نِعمَتِه ... لا يشكر اللَهَ من لَم يَشكُر الناسا (¬3) وقال آخر: إذا الشافع استقصى لك الجهد كله ... وإن لم تنل نجحاً فقد وجب الشكر وفي امثال العرب اذا قصرت يدك عن المكافأة فليطل لسانك بالشكر, وقيل: الشكر ترجمان النية ولسان الطوية, وشكر المولى هو الأولى, قال الشاعر (¬4) لَهُ عَلَيَّ أَيادٍ لَستُ أَكفُرُها ... وَإِنَّما الكُفرُ أَلا تُشكَرَ النِعَمُ وفي الامثال السائرة النعم اذا شكرت قرت, واذا كفرت فرت (¬5) , ولله در القائل: ¬

_ (¬1) - رواه الترمذي في سننه باب ما جاء في الشكر لمن أحسن حديث (1954) وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬2) - صالح بن عبد القدوس بن عبد الله بن عبد القدوس الأزدي الجذامي، أبو الفضل, شاعر حكيم، كان متكلماً يعظ الناس في البصرة، له مع أبي الهذيل العلاف مناظرات، وشعره كله أمثال وحكم وآداب، اتهم عند المهدي العباسي بالزندقة، فقتله في بغداد. قال المرتضى: (قيل: رؤي ابن عبد القدوس يصلي صلاة تامة الركوع والسجود، فقيل له: ما هذا ومذهبك معروف؟ قال: سنة البلد، وعادة الجسد، وسلامة الولد!) وعمي في آخر عمره. (¬3) - حماسة البحتري ص109. (¬4) - غيلان بن عقبة بن نهيس بن مسعود العدوي، من مضر, من فحول الطبقة الثانية في عصره، (77-117هـ/696-735م) , قال أبو عمرو بن العلاء: فتح الشعر بامرئ القيس وختم بذي الرمة, كان شديد القصر دميماً، يضرب لونه إلى السواد، أكثر شعره تشبيب وبكاء أطلال، يذهب في ذلك مذهب الجاهليين وكان مقيماً بالبادية، يختلف إلى اليمامة والبصرة كثيراً، امتاز بإجادة التشبيه, قال جرير: لو خرس ذو الرمة بعد قصيدته (ما بال عينيك منها الماء ينسكب) لكان أشعر الناس, عشق (ميّة) المنقرية واشتهر بها, توفي بأصبهان، وقيل: بالبادية. (¬5) - معجم كنوز الامثال ص 143.

شكرت فإن الشكر حظ من التقى ... وما كل من أوليته نعمة يقضي (¬1) وقد رأى بعض الشعراء أن محاولة الزيادة عند الله والناس لا تكون إلا بالشكر, لأن الناس لا يحمدون من لا يحسن إليهم فقال: الناس أكيس من أن يحمدوا أحداً ... حتى يروا عنده أثار إحسان (¬2) غير أن هناك من يرى أن من الناس من لا يحمدُ الفضل فزهده ذلك في فعل الخير فقال: يُزَهِّدُني في كلِّ خيرٍ فَعَلتُه ... إلى الناس ما جَرَّبتُ من قِلَّةِ الشُّكرِ (¬3) وقال احمد شوقي: لا تَمنَحِ المَحبوبَ شُكرَكَ كُلَّهُ ... وَاِقرِن بِهِ شُكرَ الأَجيرِ المُجهَدِ أما المتنبي فهو يقول: إِذا الفَضلُ لَم يَرفَعكَ عَن شُكرِناقِصٍ ... عَلى هِبَةٍ فَالفَضلُ فيمَن لَهُ الشُكرُ وفي الحديث النبوي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا أنفسكم إذا أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا) (¬4) . ¬

_ (¬1) - الأمالي لأبي علي القالي ج1ص30. (¬2) - هذا البيت للشاعر عبد الملك الحارثي من قصيدة مطلعها: يا أُختَ كِندَةَ عافي شُربَ عُثمانِ ... وَأَزمِعي لِبَني عَوفٍ بِهِجرانِ (¬3) - هذا البيت ليحيى بن طالب, وقد ورد مستشهداً به في: الأمالي لأبي علي القالي ج1ص123 , وعيون الاخبار لابن قتيبة ج3ص162 , والموسوعة الشعرية ص410. (¬4) - رواه الترمذي في البر باب ما جاء في الإحسان والعفو حديث (2007) .

الشكر فيه الزيادة

الشكر فيه الزيادة من أعطي وشكر؛ زاده الله وشكر, وإن من أفاضل الناس من إذا أعطوا آثروا, وإن أنعموا شكروا, وقيل: إن الشكر من الله بأحسن المواضع؛ فازدد منه تزدد به, وحافظ عليه تحفظ به, وفي محكم التنزيل: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (¬1) . وقد اقتبس بعض الشعراء هذا المعنى وضمنه في قوله: اشكر ولا تكفر تزد نعمة ... واتلُ مقالاً من حكيم حميد لئن شكرتم لأزيدنكم ... وإن كفرتم فعذابي شديد وأوصى عبد الله بن شداد بن الهاد (¬2) ولده فقال: "يا بني إني أرى الموت لا يقلع, وما مضى فليس يرجع, ومن بقي فإليه يسرع, وإني أوصيك بوصية فاحفظها: اتق الله وليكن أولى الأمور بك الشكر لله, وحسن النية في السر والعلانية, فإن الشكر مزاد والتقوى خير زاد", وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أهل الشكر في مزيد من الله". قال الشاعر: الشكر أفضل ما حاولت ملتمساً ... به الزيادة عند الله والناسِ (¬3) الثناء على أهل الشكر ¬

_ (¬1) - سورة ابراهيم الآية (7) . (¬2) - هو عبد الله بن شداد الليثي الفقيه الكوفي خرج مع بن الاشعث فقتل ليلة دجيل -نهر ببغداد- سنة 82هـ وانظر: سير اعلام النبلاءج3ص488. (¬3) - حماسة البحتري ص108 , والموسوعة الشعرية ص409.

لقد أثنى الله على أنبيائه الشاكرين لآلائه ووصف نبياً من أنبيائه بأنه كان أُمَةً شاكراً لأنعم الله فقال جل شأنه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (¬1) , فالله جل وعلا يشكر من شكره, ويرفع من ذكره. ومن الشكر الذي يشكره الله فعل الطاعات واجتناب المقبحات, والمسارعة إلى فعل الخيرات, وتعظيم شعائر الله المقدسات, ... وفي محكم التنزيل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} (¬2) . وأثنى الله تعالى على نبيه نوح عليه السلام لحميد فعاله وكثير ثنائه على الله تعالى فقال: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} (¬3) , وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (كان نوح لا يحمل شيئاً صغيراً أو كبيراً إلا قال: بسم الله والحمدلله فسماه الله عبداً شكوراً) (¬4) وفي رواية: (كان نوح إذا طعم طعاما أو لبس ثوباً حمد الله فسمي عبداً شكوراً) (¬5) . قصة من قصص الشاكرين لرب العالمين: ¬

_ (¬1) - سورة النحل الآيتان (120و121) . (¬2) - سورة النحل الآية (158) . (¬3) - سورة الإسراء الآية (3) . (¬4) - رواه ابن مردويه. (¬5) - رواه الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الله المعروف بالحاكم النيسابوري المتوفى سنه 405هـ في المستدرك باب ومن تفسير سورة بني اسرائيل حديث (3371) . وفي ذيله: تلخيص المستدرك للإمام الحافظ الحجة شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد الذهبي المتوفى سنه 848هـ. دار الفكر - بيروت - 1398هـ-1978م, والبيهقي في شعب الإيمان حديث (4297) , والطبراني في الكبير حديث (5282) .

الشكر أمان من العذاب

وروت عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا صلى قام حتى تفطر رجلاه, فقلت له: يا رسول الله أتصنع هذا وقد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟) (¬1) . الشكر أمان من العذاب إن منفعة الشكر لا تعود على الخالق سبحانه وتعالى فهو الغني ولكنها تعود على الشاكر من عباده, فهو يطهر النفس, ويقربها من بارئها, ويوجه إرادتها إلى الوجهة الصالحة في وجوه البر, وقد جاء في محكم التنزيل: {وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (¬2) , فالله جل وعلا لا يضل من أمن به وذكره وطلب هدايته, ولا يعذب من شكره, قال تعالى: {مَّا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِراً عَلِيماً} (¬3) , ولكن الناس مع عظيم نعم الله عليهم قليلٌ شكرهم, قال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ} (¬4) , وقال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (¬5) . سؤال الشكر من الله نعمة إذا كان الشكر صفة الأبرار وسمة الأحرار يوفي الله الشاكر جزاءه ويرفع جنابه ويضاعف ثوابه ويحفظ عليه نعمته ويديم الله عليه نعمته ¬

_ (¬1) - أخرجه مسلم في صحيحه باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة حديث (2820) , والبخاري في صحيحه باب قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديث (1078) , واللفظ لمسلم. (¬2) - سورة لقمان الآية (12) . (¬3) - سورة النساء الآية (147) . (¬4) - سورة النمل الآية (73) . (¬5) - سورة سبأ الآية (13) .

ويصرف عنه نقمته وعذابه, فإنه حري بالإنسان المؤمن أن يسأل الله أن يجعله من الشاكرين لنعمائه, وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) (¬1) . والشكر يكون بالجنان: القلب واللسان والأركان, فهو أخص من الحمد من جهة وأعم من جهة أخرى, لأنه يكون بالقول والفعل والنية, فبينهما عموم وخصوص. وقد كان من أدعية النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (تم نورك فهديت فلك الحمد, عظم حلمك فعفوت فلك الحمد, بسطت يدك فأعطيت فلك الحمد, ربنا وجهك أكرم الوجوه, وجاهك أعظم الجاه, وعطيتك أفضل العطية وأهنؤها, تطاع ربنا فتشكر, وتعصى ربنا فتغفر, وتجيب المضطر, وتكشف الضر, وتشفي السقيم وتغفر الذنب, وتقبل التوبة, ولا يجزئ بآلائك أحد, ولا يبلغ مدحتك قول قائل) (¬2) , وفي الذكر الحكيم: {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} (¬3) . وجاء في أدعية بعض الصالحين: (كم من نعمة أنعمتها علي قل لك عندها شكري، وكم من بلية ابتليتني بها قل لك عندها صبري، فيا من قل شكري عند نعمه فلم يحرمني، ويا من قل صبري عند بلائه فلم يخذلني، ويا من رآني على المعاصي والذنوب العظام فلم يهتك ستري، ويا ذا المعروف ¬

_ (¬1) - أخرجه أبو داود في سننه باب في الاستغفار حديث (1522) . (¬2) - أخرجه الإمام الحافظ أبو يعلى محمد بن الحسن الفراء الحنبلي المتوفى سنة 458هـ. في مسنده حديث (445) . (¬3) - سورة آل عمران الآية (145) .

جحود النعمة والإعراض عن الشكر سبب في الهلاك

الذي لا ينقضي، ويا ذا النعم التي لا تحول ولا تزول صل على محمد وعلى آل محمد واغفر لنا وارحمنا) (¬1) . جحود النعمة والإعراض عن الشكر سبب في الهلاك إن جحود النعم وكفرانها سبب لزوالها وانتقالها, فمن كفر بالنعمة فقد عرض نفسه للهلكة والنقمة, وعرَّض النعمة للزوال, فمن أضاع الشكر فقد خاطر بالنعمة, وقد قال الإمام علي رضي الله عنه: "الشكر أمنة من الزوال, وجنة من الانتقال", وفي إخبار الأمم الماضية عظة واعتبار: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} (¬2) , وفي سورة سبأ النبأ اليقين, والعظة للمتقين, والتحذير من سلوك سبيل الجاحدين, قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ* فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ* ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ} (¬3) . فالشكر من دعائم سعادة الأمم, والتنكر عنه لا يجلب غير الخراب والدمار والندم, فمن شكر وتفكر أفلح, ومن تكبر وأعرض هلك ولم ينجح. ¬

_ (¬1) - من أدعية الإمام علي بن الحسين رضي الله عنه رواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (4412) . (¬2) - سورة النحل الآية (112) . (¬3) - سورة سبأ الآيات (15-17) .

الشكور الشاكر من أسماء الله الحسنى

الحمد لله حمداً لا شريك له ... من لم يقلها فنفسه ظلم (¬1) الشكور الشاكر من أسماء الله الحسنى الشكور هو الذي يدوم شكره ويعم كل مطيع وكل صغير من الطاعة أو كبير فضله وإحسانه، والشاكر قال الحليمي: معناه المادح لمن يطيعه والمثني عليه، والمثيب له بطاعته فضلاً من نعمته (¬2) ، وقد جاء هذا الاسم في محكم التنزيل قال تعالى: {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} (¬3) ، وقال تعالى: {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} (¬4) . فالشاكر والشكور لا يضيع سعي العاملين لوجهه بل يضاعفه أضعافا مضاعفة، فان الله لا يضيع اجر من أحسن عملاً (¬5) ، ومع انه سبحانه هو الذي وفق المؤمنين لمرضاته، فانه شكرهم على ذلك وأعطاهم من كراماته ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وكل هذا ليس حقاً واجباً عليه وإنما هو الذي اوجب على نفسه جوداً منه وكرما (¬6) ، واسمه سبحانه وتعالى الشكور, ورد في عداد الأسماء الحسنى ونطق به الذكر الحكيم, ولا خلاف في جواز إجرائه على العبد ان كان وصفاً منكراً، يدل ¬

_ (¬1) - هذا البيت للنابغة الجعدي. (¬2) - البيهقي في الأسماء والصفات ص (91) ، والجامع لأسماء الله الحسنى ص (172) . (¬3) - سورة البقرة (158) . (¬4) - سورة التغابن (17) . (¬5) - شرح أسماء الله الحسنى للقحطاني ص (124) . (¬6) - الحق الواضح المبين ص (70) , وشرح أسماء الله الحسنى للعلامة القحطاني ص (124) .

على ذلك قول الحق تبارك وتعالى: {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} (¬1) ، وأما قوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (¬2) ، فليس بوصف لواحد بعينه وإنما المراد الجنس (¬3) . وقد تكلم الناس في الحمد والشكر، هل هما بمعنى واحد أو هما بمعنيين، فذهب الطبري والمبرد إنهما بمعنى سوى. والصحيح أن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق أحسان، والشكر ثناء على المشكور بما أولى من الإحسان، هذا قول علماء اللغة، فالله سبحانه يُحمد على ما وجب له من صفات الجلال الكمال ونزاهة ذاته المقدسة عن كل نقص، ويُشكر على ما أسداه من معروف، فالشكر مقابلة المنعم على فعله بثناء عليه، وقبول لنعمه واعتراف بها، فيكون شكوراً على هذا بمعنى مشكوراً، وقيل الشكر الاعتراف بنعمة المنعم على سبيل الخضوع، وقيل ان حقيقة الشكر الاعتراف بالتقصير في الشكر للمنعم ولهذا قال تعالى: {اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (¬4) ، أي طلباً للمزيد، فقال داود: الهي كيف أشكرك وشكري نعمة منك؟ فقال الآن عرفتني يا داود إذ عرفت ان الشكر مني نعمة (¬5) . ¬

_ (¬1) - سورة الإسراء (3) . (¬2) - سورة سبأ (13) . (¬3) - الجامع لأسماء الله الحسنى ص (172) . (¬4) - سورة سبأ (13) . (¬5) - الجامع لسماء الله الحسنى ص (172) .

ثمرة معرفة هذا الاسم

ثمرة معرفة هذا الاسم المكلف إذا علم ان الله سبحانه وتعالى هو الشاكر والشكور على الإطلاق، وجب عليه ان يشكر الله تعالى، لأنه المنعم المتفضل والمعطي للمزيد على الشكر، واعلم أخي ان على كل جارحة في بدنك تستعملها شكراً، وهو امتثال ما يخصها من الطاعات واجتناب ما يخصها من العصيان، واستعمال جميع الجوارح في طاعة الله، فتحب بقلبك الله وتثني عليه بلسانك، وتؤدي جميع الفرائض البدنية كما أمرك الله، أما شكر المال فإنفاقه في وجوه البر وفيما يحل ويباح الإنفاق فيه من غير سرف ولا تبذير، وعدم انفاقه في غير مرضات الله ومحابه، وان تشكر من أمرك الله بشكره، فتشكر والديك وتشكر من أسدى إليك معروفاً، وتطيع من أمرك الله بطاعته، وقد أمر الله الإنسان بالشكر لوالديه فقال: {اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (¬1) ، كما ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: (مَنْ لا يَشْكُرُ النَّاسَ لا يَشْكُرُ اللَّهَ) (¬2) . وقديماً قيل: "لا انقطاع للنعم مع الشكر, ولا دوام لها مع الكفر". قال الشاعر: لا يغلون عليك الشكر في ثمن ... فليس شكر وإن قصرت بالغالي الشكر يبقى على الأيام ما بقيت ... ويذهب الدهر والأيام بالمال (¬3) فناد ربك الشكور في السحر والبكور يا الله يا شكور, منك النعم والحمد, اجعلني يا الله مشغولاً بشكرك والحمد، وألهمني يا الله حسن الثناء ¬

_ (¬1) - سورة لقمان (14) . (¬2) - سنن الترمذي باب ما جاء في الشكر لمن أحسن إليك حديث (1954) . (¬3) - أنس المسجون وراحة المحزون ص43.

عليك والحمد، ولا تسلبني يا الله ما خولتني من النعم فلك الحمد ولك الثناء الحسن، وزدني من خيرك وبرّك في الدارين ما تنفعني به وتنفع المؤمنين فإنك الشكور الغفور المنان الكريم، وصلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد, وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد, وسلم تسليماً كثيراً.

الفصل الثالث عشر الكبر

الفصل الثالث عشر الكِبر

الكبر

الكِبر الكِبر خلق ذميم, وسلوك مشين, يوصل إلى الجحيم, ألا ترى أن في سلوك المتكبرين خراب الدنيا والدين, فهو رذيلة اجتماعية تؤدي إلى الفرقة, وتقضي على المودة, وتقع بين الأفراد والجماعات فتقضي على التعاون والمحبة, والكبرياء لا يقتصر على صرف محبة الناس عن بعضهم البعض, وإنما يجعل الإصلاح الأدبي عسيرا, فالمتكبر يتعامى عن نقائصه وعيوبه؛ لأنه يضع لنفسه قدراً فوق قدره, ويصم أذنيه عن سماع كل حديث ينفع عدى حديث يختص بمدحه, وينمق في عينه التملق من مادحيه, فهو يأبى أن يسمع النصيحة من غيره؛ فيكون ذلك حائلاً بينه وبين الاستفادة من علماء عصره, وأهل مصره, أو الاقتباس من فضيلة غيره, فينزل إلى هوة من الجهل والظلام, ولهذا كان من سنة الله في خلقه أن صرف قلوب المتكبرين عن سماع آياته فقال جل شأنه: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ} (¬1) , فالمتكبر ينتظر من الناس أن يتلقوا كل كلمة يقولها بالقبول والتصديق المطلق, وإن أحس منهم شكاً فيما يقول رغى وزبد وأبرق وأرعد, أما لو سمع من يكذِّبه فلا تستبعد أن يصنع ما لا يحمد, ولذلك فإن الكِبر تبغضه الكرام, وينهى عنه الكريم المنان, وقد جاء في شعر فتيان الشاغوري: ¬

_ (¬1) - سورة الأعراف الآية (146) .

الكبر يغضب الجبار, ويكون سببا في دخول النار

الكِبر يبغضه الكرام وكل من ... يبدي تواضعه يُحَبُ ويُحمدُ (¬1) أما أبو تمام فهو يرى بغض المتكبر فريضة واجبة عليه حيث يقول: إثنان بغضهما عليَّ فريضة ... متكبر في نفسه وبخيلُ (¬2) الكِبر يغضب الجبار, ويكون سبباً في دخول النار الكبر: هو احتقار المرء غيره وزدراؤه له. الكِبر خُلق الجبابرة الظالمين, والفسدة الجاحدين من الخلق أجمعين, فالمتكبر من الناس ملوم, وهو بين الخلق مذموم, وفي سلوكه منحوس مشؤم, يستنكف من قول الحق وينكر ذلك على الخلق, ويجحد قول الحق, ويستكبر عن عبادة الله الواحد الأحد, ويتسبب في غضب الجبار, ويكون سبباً في دخول النار, وقد جاء في محكم التنزيل: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (¬3) , وفي الحديث النبوي: (يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمْ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الْخَبَالِ) (¬4) . ومن ذلك يتبين ان الكبر نوعان: الكبر على الله وهو كفر لان المتكبر لايطيع الله ولا يقبل امره, فمن ترك امر الله او وقع في منهيه استخفافا به تعالى فهو كافر واما من تركه لغلبه ¬

_ (¬1) - ديوان الشاغوري ص123 , والموسوعة الشعرية ص271. (¬2) - انظر: ديوان أبي تمام. (¬3) - سورة غافر الآية (60) . (¬4) - أخرجه الترمذي في سننه باب ما جاء في أواني الحوض حديث (2492) .

المتكبرون شرار الناس

الشهوه او الغفله فهو عاص, اما التكبر على خلق الله فهو عصيان ان لم يكن فيه استخفاف بالشرع قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) } من سورة الاعراف المتكبرون شرار الناس إن معصية الكِبر من الكبائر, التي يتحلى بها الأشرار, ويبتعد عنها الأخيار, وفي الحديث النبوي: (أَلا أُخْبِرُكُمْ بِشَرِّ عِبَادِ اللَّهِ؟ الْفَظُّ الْمُسْتَكْبِرُ, أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ عِبَادِ اللَّهِ الضَّعِيفُ الْمُسْتَضْعَفُ ذُو الطِّمْرَيْنِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّ اللَّهُ قَسَمَهُ) (¬1) , فلا تحتقر من لا ناصر له إلا الله ولا تستضعفه تهلك, فربما كان الأشعث الأغبر عند الله أعلى وأشرف, قال علي بن احمد بن أبي حريصة اليماني: ألا رب ذي طمرين أشعث أغبرا ... خفي عن النظار لم يبغ منظرا ولو أقسم الحافي الضئيل رداءه ... على الله ذي النعماء أعطى فأكثرا ولكن زوى الدنيا الدنية دونه ... ليوفيه الحظ الجزيل الموفرا الكِبر بطر الحق الكبرياء أداة العطب وعلة البلاء, والظلم سيْما المتكبرين, وخلق الجبارين من الخلق أجمعين, ألا ترى أن الله سبحانه وتعالى حين أمر ملائكته بالسجود لآدم سجدوا خاضعين {إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} (¬2) , فكان التواضع والعدل سلوك المتقين, والكبرياء من أخلاق الجاحدين, فمن ظلم الناس, وغمطهم حقهم, واعتدى عليهم, وعصى ربه؛ فهو متكبر لئيم. وفي الامثال السائرة: الكبر قائد البغض أي ان المتكبر مكروه من الناس, أما من يحب الجمال, ويسعى إلى تحسين مظهره؛ فليس بمتكبر, وفي حديث ابن مسعود: (لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ, قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً, قَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ) (¬3) ، وبطر الحق: رده, وغمط الناس: احتقارهم, وفي الناس من يسعى إلى تقويم إعوجاج المتكبرين ليرضي الخالق والخلق أجمعين, قال المتلمس: وَكُنّا إِذا الجَبّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ ... أَقَمنا لَهُ مِن مَيلِهِ فَتَقَوَّما والمعنى: إذا أمال المتكبر خده أذللناه حتى يقوم ميله, فالعاقل يخلع رداء الكبر عنه ليفوز ويظفر, قال عبد الله الأندلسي القحطاني (¬4) في نونيته: واخلَع رِداءَ الكِبرِ عَنكَ فَإِنَّهُ ... لا يَستَقِلُّ بِحَملِهِ الكَتِفانِ ¬

_ (¬1) - أخرجه أحمد في المسند عن حذيفة بن اليمان حديث (23504) . (¬2) - سورة البقرة الآية (34) . (¬3) - أخرجه مسلم في صحيحه باب تحريم الكبر وبيانه حديث (131) . (¬4) - أبو محمد بن عبد الله بن محمد الأندلسي القحطاني السلفي المالكي, كان فقيها حافظاً جمع تاريخاً لأهل الأندلس وقال أبو سعيد الإدريسي في تاريخ سمرقند أنه كان من أفضل الناس ومن ثقاتهم, وقال السمعاني: كان فقيهاً حافظاً في طلب العلم إلى المشرق والمغرب له (قصيدة نونية مطبوعة) .

أسباب الكبر

أسباب الكبر إذا كان العجب والغرور من أسباب الكبر فإن العاقل من لا يغتر بجاهه ولا ماله, ولا بحسبه ولا بنسبه, ولا برئاسته ولا بملكه, ولا بقوته ولا بشدة بطشه, ولا بأتباعه ولا بأنصاره, ولا بتلاميذه ولا بغلمانه, ولا بعشيرته ولا بقرابته, ولا بجماله ولا بكماله, ولا بزهده ولا بعبادته, فكيف يغتر العاقل بنعم ليس له في تكوينها يد, وإنما الفضل في ذلك كله لمستحق الكبرياء الواحد الأحد, ومع ذلك فإنه لا يخلو عن رذيلة الكبر, واستمالة قلوب الناس؛ شريف ولا وضيع, إلا من وفقه الله فسلك طريق المتقين, فمن احتقر الناس فهو خبيث الدخلة, رديء النفس, سيء الخلق, ومن تكبر على العباد واستصغرهم وأنف من مساواتهم فقد نازع الله في صفة لا تليق إلا بجلاله, وفي الحديث القدسي: (الكبرياء ردائي فمن نازعني ردائي قصمته) (¬1) أي أنه خاص بالله لا يليق منازعته فيه, وإذا كان الكبر على عباد الله لا يليق إلا بالله, فمن تكبر على عباده فقد نازع الله في حقه. ومما تعظم به رذيلة الكبر أنه يدعو إلى مخالفة الله في أمره ونهيه؛ لأن المتكبر إذا سمع الحق من عبد من عباد الله استنكف عن قبوله, وشمر لجحده, واحتال لدفعه بما يقدر عليه من التلبيس, وذلك داء إبليس الذي تكبر على آدم وقال: ¬

_ (¬1) - الحاكم في المستدرك حديث (190) .

{أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} (¬1) , ورحم الله أبا مصطفى الحمامي حيث يقول: قالوا: تكبر قلت: أفـ ... ـتوني لماذا ذا تكبر قالوا: قوي قلت: قوّ ... ته لدى بغل تصغَّر قالوا: وجيه قلت: فر ... عون المؤلَّهُ منه أجدر قالوا: غني قلت: أغـ ... ـنى منه قارون المدمر قالوا: جميل قلت: أجـ ... ـمل منه مومسة وأنضر قالوا: عليم قلت: أعـ ... ـلم منه إبليس وأشهر قالوا: تقي قلت: هل ... يدري التقي علام يقبر أولى له شكر الذي ... أولاه ذا الفضل المؤزر قالوا: له جسم كبيـ ... ـر قلت: جسم الفيل أكبر قالوا: له عصبية ... تذر العدو وقد تقهقر فأجبت يوشك أن يذلـ ... ـل بموتهم جمعاً ليزجر قالوا: إذن ولم التكبـ ... ـر قلت: ذا معنى ميسر ظن الغبي بأن فضـ ... ـل الله فضل عنه يؤثر فبه سما وإذا صحا ... لمح الحقيقة فيه تزأر تلك الحقيقة فاعرفو ... ها يا ذوي القلب المطهر وعليكمو مني سلا ... م عَرْفه في الكون ينشر (¬2) ¬

_ (¬1) - سورة الأعراف الآية (12) . (¬2) - انظر: النهضة الإصلاحية ص572.

أما منصور الفقيه فهو يقول في ذم الكبر والعجب: تتيه وجسمك من نظفة ... وأنت وعاء لما تعلم وقال ابوبكر رضي الله عنه: لايحقرن احدٌ احداً من المسلمين, فإن صغير المسلمين عند الله كبير. وقال محمد بن الحسين بن على رضوان الله عليهم اجمعين: ما دخل قلب امرء شئ من الكبر قط الانقص من عقله بقدر ما دخل من ذلك قل او كثر. وقال الاحنف بن قيس رحمه الله: ما تكبر احد الا من ذله يجدها في نفسه. وقال حكيم رحمه الله: العجب والكبر حمق يغطي به صاحبه عيوب نفسه. وقال الشاعر: يا مظهر الكبر اعجابا بصورته ... انظر خلاك فإن النتن تثريب لو فكر الناس فيما في بطونهم ... ما استشعر الكبر شبان ولا شيب هل في ابن آدم مثل الرأس مكرمة ... وهو بخمس من الأقذار مضروب أنف يسيل وأذن ريحها سهك ... والعين مرفظة والثغر ملعوب يا ابن التراب ومأكول التراب غداً ... أقصر فإنك مأكول ومشروب وقال القرطبي: قال ابن العربي: وكان شيوخنا يستحبون أن ينظر المرء في الأبيات الحكيمة التي جمعت هذه الأوصاف العلمية, ونقل هذه الأبيات: كيف يزهو من رجيعه ... أبد الدهر ضجيعه فهو منه وإليه ... وأخوه ورضيعه

قصه للأحنف بن قيس

وهو يدعوه إلى الحـ ... ـش بصغر فيطيعه (¬1) قصه للأحنف بن قيس كان الأحنف بن قيس يجلس مع مصعب ابن الزبير على سريره, فجاء يوما ومصعب مادٌّ رجليه فلم يقبضهما, وقعد الأحنف فزحمه بعض الزحمة, فرأى ذلك في وجهه فقال: عجبا لابن ادم يتكبر وقد خرج من مجراء البول مرتين! (¬2) الكبير والمتكبر في أسماء الله الحسنى الكبير هو الموصوف بصفات المجد والكبرياء والعظمة والجلال الذي هو اكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، واجل وأعلى، وقال أبو سليمان الخطابي: الكبير هو الموصوف بالجلال وكبر الشأن وصغر دون جلاله كل كبير (¬3) ، وقد جاء في القرآن: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} (¬4) ، وقوله جل شأنه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (¬5) ، وأما المتكبر فهو المتعالي عن صفات الخلق والمنزه عن السوء والنقص لعظمته وكبريائه، فهو الذي يتكبر على عتاة خلقه. ¬

_ (¬1) - الجامع لأحكام القرآن ج7ص334 , والأبيات وردت في ديوان ابن الرومي. (¬2) - دليل السائلين ص 529 (¬3) - الأسماء والصفات للبيهقي ص (57) ، والجامع لأسماء الله الحسنى ص (240) . (¬4) - سورة الرعد (9) . (¬5) - سورة الحج الآية (62) .

قال القرطبي: المتكبر جل جلاله وتقدست أسماؤه جاء في سورة الحشر، وفي حديث أبي هريرة وأجمعت عليه الأمة ولا يجوز ان يوصف لغير الله باتفاق (¬1) . وهذا الاسم يدل على قدرة الله سبحانه المستحق له وكماله كمالاً لا يتناهى، ولهذا دخلت فيه (التاء) وسماها من فهم معناه (تاء الاختصاص) ، لان هذا المعنى يختص بالله تعالى وحده، وهي في حق غيره تكلف، وتكسب ما لا يمكن كسبه، فإذا دل هذا الاسم على استحقاق العلو من غير تكلف، فهو يتضمن جميع صفات الكمال والجلال التي تنال مع بُعْدِ الغاية وعدم النهاية، قاله ابن الحصار وهو معنى قوله ابن العربي. قال الخطابي: (المتكبر) هو المتعالي عن صفات الخلق، ويقال هو الذي يتكبر على خلقه إذا نازعوه العظمة، فيقصمهم قصماً، وفي التكبر تاء التفرُد والتخصيص بالكبر لا تاء التعاطي والتكليف، والكبر لا يليق بأحد من المخلوقين وإنما سِمة العبد الخشوع والتذلل، وقد روي: (الكبرياء رداء الله فمن نازعه رداءه قصمه) (¬2) . ¬

_ (¬1) - ما أشار إليه القرطبي رحمه الله أن الاسم جاء في سورة الحشر هو قوله تعالى: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ، وأما حديث أبي هريرة الذي أشار إليه القرطبي فهو ما ذكر فيه تعداد الأسماء الحسنى ومنها المتكبر وقد ضعفه بعض المحدثين، وقد أورده الترمذي في باب ما جاء في عقد التسبيح باليد حديث (3429) . (¬2) - أخرجه مسلم في البر والصلة والادال (136\2620) وأبو داود في اللباس (4090) ، وابن ماجه في الزهد (4174) ، واحمد في المسند (248|2) ،376، 414، من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (قال الله عز وجل: الكبرياء ردائي والعظمة ازاري فمن نازعني واحدا منهما قذفته في النار) لفظ أبي داود، انظر الآسنى في شرح أسماء الله الحسنى للقرطبي ص (466) .

ثمرة معرفة اسم الله الكبير المتكبر

ثمرة معرفة اسم الله الكبير المتكبر إذا علم العاقل ان ربه وخالقه متفرد بالكبرياء والعظمة والكمال، وان كبرياءه سبحانه أزلي ابدي لا شيء مثله، وجب عليه ان يعتقد ان العظمة والكبرياء لله وحده، وان يتواضع لعظمة الله لأنه مفتقر لله المتكبر الكبير المتعال، ويبتعد عن الخيلاء والاستصغار للناس، لان المتكبرين كما جاء في الحديث النبوي: (يحشرون أمثال الذر يوم القيامة تطأهم الناس بأقدامهم) (¬1) ،وإذا كان أصل الكبرياء الامتناع وقلة الانقياد فان التكبر المحمود في حق العبد هو التكبر عن كل النقائص والدنايا (¬2) ، وعن عبادة غير الله، وعن النظر إلى الخلق بعين الاستصغار، والعاقل هو من يشعر نفسه بكبرياء الله وربوبيته، وان الله لاشيء مثله، فهو المتكبر عن كل سوءٍ، المتعظم عما لا يليق به سبحانه وتعالى. ولله در القائل: الله أكبر ذو القدر العلي رفيـ ... ـع المجد لا مجد إلا وهو لله الله أكبر أهل الكبرياء عظيـ ... ـم الملك حقيقة الاكبار لله الله أكبر ذو العرش المجيد منيـ ... ـع العز لا عز إلا وهو لله الله أكبر ذو البطش الشديد عزيـ ... ـز الانتقام من العاصين لله الله أكبر عدل قائم ملك ... حق كما يجب التكبير لله الله أكبر حقاً ذو الجلال وذو الـ ... ـإكرام تكبير ذات الله لله الله أكبر تكبيراً لعزته ... كما يحب ويرضى الله لله الله أكبر تكبيراً بما جمعت ... صفاته من سمات الكبر لله ¬

_ (¬1) - حديث حسن أخرجه الترمذي في صفة القيامة، وقال حسن صحيح حديث (2492) . (¬2) - الجامع لأسماء الله الحسنى ص (143) .

دعاء الله باسمه الكبير المتكبر

الله أكبر تكبيراً بما سفرت ... أسماؤه من عظيم القدر لله الله أكبر تكبيراً بما نطقت ... أفعاله من كمال الكبر لله الله أكبر ما أولى مراحمه ... بحل عقدة مضطر إلى الله الله أكبر ما أسنى جوائزه ... لمادح الله لا يرجو سوى الله الله أكبر ما أجدى عوارفه ... لباسط القول بالتمجيد لله الله أكبر ما أوفى مكارمه ... لتارك الخلق معطي الحق لله الله أكبر ما أحرى عنايته ... لمن تمسك في الأطوار بالله الله أكبر ما أعلى أياديه ... تبارك الله تمت نعمة الله الله أكبر أصلحني وصل على ... محمد وأجزني الحب بالله (¬1) دعاء الله باسمه الكبير المتكبر اللهم يا كبير يا اكبر يا جليل يا متكبر يا من له الكبرياء في السماء والأرض ويا من جلاله وكبرياؤه ملئ الارض والسماء وملئ الكون كله، أجرني وأعذني من الكبرياء والخُيلاء والعجب والرياء، وجملني والمؤمنين بالتواضع والتقى، واهدنا إلى أحسن الأخلاق واصرف عنا سيئها، والبسنا والمؤمنين ثوب عزك وشرفك واحسانك وكرمك وامتنانك، وجعلنا رحماء مع اخواننا المؤمنين أعزة على الكافرين، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين يا جليل يا متكبر يا ارحم الراحمين، وصلى الله وسلم على محمد النبي الأمين وآله وصحبه أجمعين. ¬

_ (¬1) - هذه الأبيات من قصيدة لأبي مسلم البهلاني العماني (1237 - 1338هـ/ 1821 - 1919م) ، شاعر عماني الأصل له ديوان فيه ما يربو المائتي قصيدة فيه الكثير من الحكم والوجدانيات والإلهيات ودلائل التوحيد والأخلاق.

الفصل الرابع عشر التواضع

الفصل الرابع عشر التواضع

التواضع

التواضع التواضع: من الخلال الحميدة, والصفات الحسنة, فالتواضع شعار الإيمان, ونور الإسلام, ومنبع الرضى, ودلائل قبول الله جل وعلا, والمتواضع يمده الله بعنايته, ويحيطه برعايته, ويستره ويظله برضوانه, والمتواضع حبيب الله تعالى وحبيب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم, قريب من الله ورسوله, فهو بتواضعه ينال صفات الأخيار ويحظى بدرجات عظيمة من الله الواحد القهار, والمتواضع ينجو من ظلم الناس فيفوز بالسعادة والسيادة والعز, وفي محكم التنزيل: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (¬1) , فخلق المؤمنين التواضع, والابتعاد عن الكبرياء والترفع عن الخيلاء, والإحسان إلى الفقراء, وإكرام الأتقياء, لذلك يبارك الله في أموالهم, فترتفع المضرة عنهم بلطف الله الخفي, والمتواضع يسود ويعظم في القلوب ويكرم, ويرفعه الله في الدنيا, ويبلغه في الآخرة الدرجات العلا, فيثبّت له بتواضعه في القلوب منزلة محبوبة, ومكانة مكينة مرموقة في الدنيا والآخرة, فالاختيال على الناس حماقة, والتواضع عز وريادة, وقد أوحى الله إلى نبيه من الحكمة ما فيه الخير والنعمة والريادة, فقال جل شأنه: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً* ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} (¬2) ، أي لا تكن في مشيك ذا ¬

_ (¬1) - سورة المنافقون الآية (8) . (¬2) - سورة الإسراء الآيات (37-39) .

حقيقة التواضع وفضيلته

مرح وهو الاختيال, فلن تجعل في الأرض خرقاً بشدة وطأتك (طُولاً) أي بتطاولك, وهو تهكم بالمختال وتعليل للنهي؛ بأن الاختيال حماقة مجردة لا تعود بجدوى, وجاء في كلام بعض الشعراء: ملء السنابل تنحني بتواضع ... والفارغات رؤسهن شوامخ فالإنسان العاقل لا يكون كحمار السوء إن شبع جمح ورمح, وإن جاع رفع صوته بالنهيق, وقد وصف الشاعر من حاله هكذا بقوله: كحمار السوء إن أشبعته ... رمح الناس وإن جاع نهق وفي محكم التنزيل: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (¬1) . حقيقة التواضع وفضيلته للتواضع مكانه جليلة وفضيلة كبيرة وقد قيل: التواضع هو اظهار الذل لمن يراد تعظيمه, وقيل: هو تعظيم لمن فوقه لفضله. وقال ابن عطاء: التواضع قبول الحق من كل من قاله. وخفض الجناح للمؤمنين وفي الذكر الحكيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (¬2) . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ان العبد اذا تواضع لله رفع الله حكمته, وقال: انتعش رفعك الله. وقال علي بن ابي طالب رضي الله عنه: سمو المرء في التواضع. وقالت عائشة رضي الله عنها: انكم تغفلون عن افضل العبادات التواضع. وقال الفضيل رحمه الله حينما سئل عن التواضع ماهو: ان تخضع للحق وتنقاد له , ولو سمعته من صبي قبلته, ولو سمعته من اجهل الناس قبلته. وقال ابن المبارك رحمه الله راس التواضع ان تضع نفسك عند من دونك في نعمة لدنيا حتى تعلمه انه ليس لك بدنياك عليه فضل. وان ترفع نفسك عمن هو فوقك في الدنيا حتى تعلمه انه ليس له بدنياه عليك فضل (¬3) . وفي الذكر الحكيم: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (¬4) . وفي الامثال السائره: تاج المروءة التواضع وقيل: التواضع اوله تودد واخره سؤدد , وتواضع الرجل في مرتبته ذب للشماتة عند سقطته, وقيل: رحم الله امرأ عرف قدره , وقيل لن يهلك امرأ عرف قدر نفسه , وقد خاطب الله رسوله بقوله {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} (¬5) , ووصف الله عباده المخلصين بقوله {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ¬

_ (¬1) - سورة لقمان الآية (19) . (¬2) - سورة المائدة الآية (54) . (¬3) - دليل السائلين ص 127 (¬4) - سورة القصص الآية (83) . (¬5) - سورة الحجر الآية (88) .

التواضع فريضة, والعجب رذيلة

الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (¬1) , واخبر جل شأنه عن حال من حكم لهم بالرضوان في الدار الاخره بقوله {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (¬2) التواضع فريضة, والعُجب رذيلة التواضع فضيلة, والغرور والعُجب رذيلة, فتواضع يرفعك الله, المتواضع يحترمه الناس ويعظمونه ويجلونه, وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (تَوَاضَعُوا حَتَّى لا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلا يَبْغِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ) (¬3) , وفي لفظ: (وَلا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ) (¬4) , وفي رواية للطبراني: (مَنْ تَوَاضَعَ لأَخِيهِ الْمُسْلِمِ رَفَعَهُ اللَّهُ، وَمَنِ ارْتَفَعَ عَلَيْهِ وَضَعَهُ اللَّهُ) (¬5) , فالمؤمن المتواضع يحبه الله ويحبه الناس. قال الشاعر: تواضع تكن كالنجم لاح لناظر ... على صفحات الماء وهو رفيع ولا تك كالدخان يعلو بنفسه ... إلى طبقات الجو وهو وضيع فالتواضع يزيد الإنسان قوة ورفعه, وخيراً وسعة, قال الشاعر: إذا شئت أن تزداد قدراً ورفعةً ... فلن وتواضع واترك العجب والكبرا ¬

_ (¬1) - سورة الفرقان الآية (63) . (¬2) - سورة القصص الآية (83) . (¬3) - أخرجه مسلم في صحيحه باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة والنار حديث (2865) . (¬4) - أخرجه أبو داود في سننه باب في التواضع حديث (4895) . (¬5) - أخرجه الطبراني في الأوسط حديث (7711) .

وجاء في جواهر الأدب: تواضع إذا ما نلت في الناس رفعةً ... فإن رفيع القوم من يتواضع (¬1) وقال آخر: تواضع إذا ما كان قدرك عالياً ... فإن اتضاع المرء من شيم العقلِ أما يوسف بن أسباط فإنه يرى أنه يكفي لعلو شأن الإنسان ورفعته التماسه للتواضع, وذلك حيث يقول: وكفى بملتمس التواضع رفعةً ... وكفى بملتمس العلو سفالى (¬2) أما الكريزي فهو يقول: ولا تمشي فوق الأرض إلا تواضعاً ... فكم تحتها قوم هم منك أرفعُ فإن كنت في عزٍ وحرزٍ ومنعةٍ ... فكم مات من قوم هم منك أمنعُ أما أحمد بن محمد الواسطي فهو يرى أن التواضع يستر الجاهل, وذلك حيث يقول: كم جاهل متواضع ... ستر التواضع جهله (¬3) فإذا كان التواضع للناس فضيلة, فإن التواضع لرب الناس فريضة, بها الرفعة والأمان, والخلود في الجنان, قال الشاعر: تواضع لرب العرش علّك ترفع ... فما خاب عبد للمهين يخضع ¬

_ (¬1) - جواهر الأدب ص713. (¬2) - روضة العقلاء ص95 , والموسوعة الشعرية ص299 , والسفال: نقيض العلو, وانظر المعجم الأوسط ص434. (¬3) - معجم الأدباء لياقوت الحموي ج2ص33.

والتواضع خلق حسن, يدفع الله به الشرور والمحن, وتحصل به الألفة والمحبة, وفيه تعوّد النفس على البشاشة والخشوع, وتعويدها على المحامد, وتذليلها على المكارم, قال الشاعر: إن شئت أن تبني بناءً شامخاً ... يلزم لذا البنيان أس راسخُ إن البناء هو الكمال وأسه الصـ ... ـخري فهو الاتضاع الباذخُ وقد خاطب الله رسوله وهو على خلق عظيم بقوله وهو العزيز الحكيم: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬1) . وأولى الناس بخفض الجناح, والتواضع لهما في الغدو الرواح هما الوالدان والأقربون, قال تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} (¬2) . وأما العجب والغرور فهما من السلوك المحظور, فالافتخار بالنفس وشعورها بالكمال, والتقصير في تشييد الصالحات, عاهة مهلكة, ألا ترى أن الناس يتمقتون لمن يروق نفسه ويقولون: فلان معجب بنفسه ورأيه, وفي الحديث: (لو لم تكونوا تذنبون خشيت عليكم ما هو أكبر من ذلك العجب العجب) (¬3) . ولابن دريد: وَآفَةُ العَقلِ الهَوى فَمَن عَلا ... عَلى هَواهُ عَقلُهُ فَقَد نَجا كَم مِن أَخٍ مَسخوطَةٍ أَخلاقُهُ ... أَصفَيتُهُ الوُدَّ لِخُلقٍ مُرتَضى ¬

_ (¬1) - سورة الشعراء الآية (215) . (¬2) - سورة الإسراء الآية (24) . (¬3) - أخرجه البيهقي في شعب الإيمان حديث (7006) .

وَعَطِّفِ النَفسَ عَلى سُبلِ الأَسا.... إِن اِستَفَزَّ القَلبَ تَبريحُ الجَوى وفي الحديث النبوي: (مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ) (¬1) . قال أبو حاتم رحمه الله: الواجب على العاقل لزوم التواضع ولو لم يكن في التواضع خصلة تحمله إلا أن المرء كلما كثر تواضعه ازداد بذلك رفعة لكان الواجب عليه أن لا يتزيا بغيره, فالتواضع تواضعان أحدهما محمود, والآخر مذموم, والمحمود ترك التطاول على عباد الله, والازدراء بهم, والتواضع المذموم هو تواضع المرء لذي الدنيا رغبةً في دنياه, فالعاقل يلزم مفارقة المذموم في الأحوال كلها, ولا يفارق التواضع المحمود على الجهات كلها. (¬2) فأفضل الناس من تواضع عن رفعه, وزهد عن قدره, وأنصف عن قوة, ولا يترك المرء التواضع إلا عن استحكام التكبر, ولا يتكبر على الناس أحد إلا بإعجابه بنفسه, وإعجاب المرء بنفسه أحد حساد عقله, وما رأيت أحداً تكبر على من دونه إلا ابتلاه الله بالذلة لمن فوقه, وقال أبو حاتم رضي الله عنه: ما استجلبت البغضة بمثل التكبر, ولا اكتسبت المحبة بمثل التواضع. (¬3) وقيل: التواضع يكسب السلامة, ويورث الألفة, ويرفع الحقد, ويذهب الصد, وثمرة التواضع المحبة, كما أن ثمرة القناعة الراحة, وإن تواضع ¬

_ (¬1) - أخرجه مسلم في صحيحه باب استحباب العفو والتواضع حديث (2588) . (¬2) - روضة العقلاء ص50. (¬3) - روضة العقلاء ص52.

قصة لهارون الرشيد مع اللأمام مالك

الشريف في شرفه يزيده شرفاً, وتكبر الوضيع يزيد في ضعته, ويعجل في هلكته. فالعاقل من الناس من إذا رأى من هو أكبر منه سناً تواضع له, وقال: سبقني إلى الإسلام, وإذا رأى من هو أصغر منه سناً تواضع له, وقال: سبقته في الذنوب والآثام, أما إذا رأى من هو مثله عدّه أخاه فتواضع له وأدى حقه. والعاقل من الناس لا يحتقر أحداً, فإن الله لم يخلق الناس عبثاً, قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} (¬1) , فلا تحتقر الناس وتقول: هذا منبوذ وهذا غير مرغوب, فلعلك تجد غير المرغوب في يومك مألوفاً محبوباً في غدك, أو لا ترى أن العود المنبوذ ربما انتفع به فحك به الرجل أذنه لمسيس الحاجة إلى ذلك, فلا تكن تائهاً: التيهُ مَفسَدَةٌ لِلدينِ مَنقَصَةٌ ... لِلعَقلِ مَنهكة للعِرضِ فَانْتَبِه قصة لهارون الرشيد مع اللأمام مالك بلغ هارون الرشيد ان الامام مالك يعطي دروسا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فبعث الى الامام مالك يقول له اننا نزلنا في ضاحية من ضواحي المدينه , فتعال الى قصرنا نستمع اليك. فرد الامام مالك على هارون الرشيد وقال له: العلم لاياتي انما يؤتى اليه. ثم قال له: وان جئتنا متأخرا , فلن نسمح لك ان تتخطى رقاب العباد. فذهب هارون بنفسه الى ¬

_ (¬1) - سورة المؤمنون الآية (115) .

المسجد ليسمع العلم من مالك بن انس فوجد المسجد ملان, فتذكر قول مالك , فأراد ان يجلس , فجلس حيث كان واقفا على كرسي وضعه له احد حراسه. فلاحض ذلك الامام مالك فلم يسره ذلك, فغير موضع حلقته من فرائض الصلاه الى التواضع الى الله , فقال: ان الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من تواضع لله رفعه , ومن تكبر وضعه الله) فرما هارون الكرسي خارج المسجد وجلس على الارض كسائر المسلمين (¬1) قال الشاعر: ليس التطاول رافعا من جاهل ... وكذا التواضع لايضر بعاقل لكن يزاد اذا تواضع رفعة ... ثم التطاول ماله من حاصل ¬

_ (¬1) - دليل السائلين ص129

الفصل الخامس عشر الحب

الفصل الخامس عشر الحُب

الحب

الحُب الحُب نعمة جليلة, يسعد بها المحبون, ويظفر بها المتقون, ويتمتع بها الراشدون, ويضل بها المنافقون, فنعمة الحب كبيرة وجليلة, وهي من أفضل النعم, والحب ضروب وأنواع أفضله: محبة الله, ثم محبة أنبيائه ورسله, ومحبة المتحابين فيه, ومحبة شرعه ودينه, ومحبة خيره وكرمه, ومحبة خلقه, ومحبة ما يحبه الله, وفي الحديث النبوي: (أحبوا الله لما يغدوكم به من نعمه, وأحبوني لحب الله, وأحبوا أهل بيتي لحبي) (¬1) . الحب أنواع تتجلى في واقع الحياة أنواع من الحب عديدة, ودرجات رفيعة, وصفات متعددة, فهناك: حب الله ورسله ومحبة شريعته وكتبه, وهناك: الحب الأخلاقي عند العذريين, وحب الأسرة والأبناء والأباء والأقرباء والإخوة والأزواج, وحب الأوطان والمواطنين والأصدقاء والزملاء, وحب الثقافة والعلوم والفنون والآداب والرياضة والطبيعة والجمال والبحار والأنهار والسباحة والسياحة والتنقل والرحلات والمُلك والرئاسة والجاه والشجاعة والسياسة والشهرة والذات والمال والعمل والأخلاق, إلى غير ذلك من الأمور التي يحبها الإنسان فتستولي على جوارحه ومشاعره, ... وربما جعلت المحبة من المحب بصيراً يدرك الأشياء على حقيقتها فتملئ قلبه ¬

_ (¬1) - أخرجه الترمذي في سننه باب مناقب أهل البيت حديث (3789) , والحاكم في المستدرك باب ومن مناقب أهل البيت حديث (4716) .

حباً يبعث على الرحمة والرأفة والإخاء والمودة والصداقة والصدق والطاعة والشجاعة والبر, وربما جعلت المحبة المفرطة من المحب أعمى لا يدرك إلا ما يحب, وربما تابع المحبوب على غير بصر ولا هدى, وفي الحديث النبوي: (حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ) (¬1) , وهو في الأمثال السائرة: "حبك الشيء يعمي ويصم" أي يخفي عليك مساويه ويصمّك عن سماع العذل فيه (¬2) , فللمحبة في سلوك الإنسان, وفي عبادته, وفي غدوه ورواحه, وفي إقامته وانتقاله, وفي أعماله وآماله, الأثر الكبير. فإذا غمر الحب قلب المحب ترك آثاره كبيرة في كلام الإنسان, وملامح وجهه وتصرفاته, ومواقفه من الآخرين, بل ومن الكون كله, قل ما يفارق الإنسان ذلك في صباه وشبابه وشيخوخته, ومن نعم الحب أنه يجرد الإنسان من الغربة والوحشة, فيشعر المحب بأن كل ما في الوجود معجب محبوب, فهو مصدر الشعر والفنون الجميلة, وهو الذي يولد القوة, ويطرد الاكتئاب, ويحث على العمل, ويحفز على الإبداع والانتصار على الشدائد والصعاب, المرغب في طاعة الله الملك الوهاب. ¬

_ (¬1) - أخرجه أبو داود في سننه باب في الهوى حديث (5130) . (¬2) - مجمع الأمثال للميداني ص196.

مفردات الحب

مفردات الحب يتميز المحبون من الناس لخالقهم, ولما أودعه الله في هذا الكون من نعم؛ بالعواطف النبيلة, وحسن التعبير, وللعرب في العواطف الإنسانية قصب السبق. وقد تحدث الكثير من الباحثين: بأن للمحبة في لسان العرب ستين اسماً, نذكر منها على سبيل المثال ما أورده الإمام ابن القيم في روضة المحبين ونزهة المشتاقين: "المحبة, والعلاقة, والهوى, والصبوة, والصبابة, والشغف, والمقة, والوجد, والكلف, والتتيم, والعشق, والجوى, والدنف, والشجو, والشوق, والخلابة, والبلابل, والتباريح, والسدم, والغمرات, والوهل, والشجن, والاعلاج, والاكتئاب, والوصب, والحزن, والكمد, واللذع, والحرق, والسهد, والأرق, واللهف, والحنين, والاستكانة, والتبالة, واللوعة, والجنون, والفتون, واللمم, والخبل, والرسيس, والداء المخامر, والود, والخلة, والحِلم, والغرام, والهيام, والتدليه, والوله, والتعبد". (¬1) ضرورة الحب وحاجة الناس إليه يمثل الحب عاطفة إنسانية نبيلة, ونعمة ربانية جليلة؛ تلبي متطلبات الإنسان في حياته, وتسعده في أغلب أوقاته, فعاطفة الإنسان وحبه تلبي رغبته الفطرية والضرورية, فينتشر التعاطف والتلاطف؛ الذي يحصل به التآلف, والمشاركة في بناء الحياة, ألا ترى أن الحق سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (¬2) , والتعارف يؤدي إلى التآلف الذي يعلمنا أدب القول وحسن التصرف, فما الحضارات التي تشهدها البشرية إلا ثمرة من ¬

_ (¬1) - روضة المحبين ونزهة المشتاقين للعلامة شمي الدين محمد بن أبي بكر القيم الجوزية, تحقيق الدكتور السيد الجميلي ص31 , الناشر: دار الكتاب العربي بيروت 1405هـ1985م. (¬2) - سورة الحجرات الآية (13) .

ثمار الحب والتآلف, فحب الله الواحد يدعو إلى التوحد, وبناء الأوطان, وطاعة الرحمن, والتمتع بجمال الحياة, فالحياة فنٌ والحب يجعلها أعظم الفنون, فهو الذي يسهم في اكتساب التآلف بعد مرحلة التعارف التي أرشد إليها القرآن, وقد وصف الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام: المؤمن بأنه مؤلفٌ أي يحب الألفة والتآلف, فتأليف القلوب على الطاعة والبر والخير من خُلق المؤمنين ففي الحديث النبوي: (الْمُؤْمِنُ مُؤْلَفٌ وَلا خَيْرَ فِيمَنْ لا يَأْلَفُ وَلا يُؤْلَفُ) (¬1) , وليس هناك أقوى من الحب في إيجاد التآلف بين الخلق أجمعين, وفي تحقيق رغبة المحبين في بناء الحياة على النحو الذي يحبه الله ويرضاه, وقد قيل: أن الحب يسهم في تهذيب الإنسان ورقيه, والسمو بعواطفه الإنسانية وميوله الحياتية, والتمسك بالعفة, والفضيلة والمؤازرة والقيم الإنسانية والأخلاقية, وهو الذي يحرر الإنسان من عزلته وكآبته, ويخفف عنه ألامه ومعاناته المختلفة, ويشجعه على العمل في سبيل تحقيق أحلامه وأمنياته وتطلعاته, وهو الذي يدفعه إلى حب خالقه وعبادته, وشكره على آلائه ونعمه. وقد قيل: ان الحب على المحبين فرض، وبه قامت السماوات والأرض، ومن لم يدخل جنة الحب، لن ينال القرب، فبالحب عبد الرب، وترك الذنب، وهان الخطب، واحتمل الكرب. ¬

_ (¬1) - أخرجه أحمد في المسند عن أبي هريرة حديث (9187) .

وقيل: عقل بلا حب لا يفكر، وعين بلا حب لا تبصر، وسماء بلا حب لا تمطر، وروض بلا حب لا يزهر، وسفينة بلا حب لا تبحر، بالحب تتألف المجرة، وبالحب تدور المسرة، بالحب ترتسم على الثغر البسمة، وتنطلق من الفجر النسمة، وتشدو الطيور بالنغمة، ارض بلا حب صحراء، وحديقة بلا حب جرداء، ومقلة بلا حب عمياء، واذن بلا حب صماء. بالحب ترضع الأم وليدها، وتروم الناقة وحيدها، بالحب يقع الوفاق، والضم والعناق، وبالحب يعم السلام، والمودة والوئام. الحب هو بساط القربى بين الأحباب، وهو سياج المودة بين الأصحاب، بالحب يفهم الطلاب كلام المعلم، وبالحب يسير الجيش وراء القائد ويتقدم، وبالحب تذعن الرعية، ويعمل بالأحكام الشرعية، وتصان الحرمات، وتقدس القربات. بيت لا يقوم على الحب مهدوم، وجيش لا يحمل الحب مهزوم، لكن أعظم الحب واجله، ما جاءت به الملة، أجمل كلمة في الحب قول الرب: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (¬1) ، فلا تطلب حباً دونه. ليس حبا قطعة معزوفة ... من يراع الشاعر المنتحب ليس حبا غزل يمطرنا ... في سطور الكاتب الحر الابي أو خطاب بارع نمقه ... واله يروي صنوف العتب ما قفا نبكي هو الحب ولا ... ظبية البان وذكرى زينب ما درى مجنون ليلى سره ... عبث ذاك هيام الصخب إنما الحب دم تنزفه ... في سبيل الله خير القرب أو دموع ثرّة تبعثها ... سحراً اصدق من قلب الصبي ¬

_ (¬1) - سورة المائدة (54) .

امنح الثقات محبتك

أو سجود خاشع ترسمهى ... فوق خد الطين فاسجد واقرُب (¬1) امنح الثقات محبتك من منح الثقات محبته على الخير أعانوه, وصفت له أيامه, وتحققت له أحلامه, ويرحم الله دعبل الخزاعي حيث يقول: وَلا تُعطِ وُدَّكَ غَيرَ الثِقاتِ ... وَصَفوِ المَوَدَّةِ إِلّا لَبيبا إِذا ما الفَتى كانَ ذا مُسكَةٍ (¬2) ... فَإِنَّ لِحالَيهِ مِنهُ طَبيبا فَبَعضَ المَوَدَّةِ عِندَ الاِخاءِ ... وَبَعضَ العَداوَةِ كَي تَستَنيبا (¬3) فَاِنَّ المُحِبَّ يَكونُ البَغيضَ ... وَإِنَّ البَغيضَ يَكونُ الحَبيبا (¬4) وقال آخر: وَلا تُصفَين بِالوُدِّ مَن لَيسَ أَهلَهُ ... وَلا تُبعِدَنْ بِالوُدِّ مِمَّن تَوَدَّدا (¬5) أما الإمام الشافعي رحمه الله فهو يرى أن في محبة الصالحين نيل شفاعتهم فيقول: أُحِبُّ الصالِحينَ وَلَستُ مِنهُم ... لَعَلّي أَن أَنالَ بِهِم شَفاعَه وَأَكرَهُ مَن تِجارَتُهُ المَعاصي ... وَلَو كُنّا سَواءً في البِضاعَه أما نُصيّب فهو يرى أنه لا خير في محبة المتكاره ولا في صحبة من لا يوافق الصاحب فيقول: ¬

_ (¬1) - مقامة القرني ص (261-262) . (¬2) - مسكه: رأي وحكمة. (¬3) - تستنيبا: طلب إنابته أي توبته. (¬4) - ديوان دعبل الخزاعي ص46 , شرحه وضبطه ضياء حسين الأعلمي, منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت الطبعة الأولى 1417هـ1997م. (¬5) - انظر الحماسة للبحتري ص174 , الموسوعة الشعرية ص176 , والشاعر: يزيد بن الحكم.

وَلا خَير في وُدِّ امرىء مُتَكارِه ... عَلَيكَ وَلا في صاحِبِ لا تُوافِقُه (¬1) قلتُ: الظاهر أن العاقل من الناس من يحول الأعداء إلى أصدقاء بتحببه إليهم وإكرامه لهم, وقد فرض الله للمؤلفة قلوبهم من أعداء المسلمين سهماً في زكاة الموحدين, فالمحبة والمودة أقرب الأسباب وأنفع الأخلاق, وقد نسب إلى العتابي قوله: ولقد بلوت الناس ثم سبرتهم ... وخبرت ما وصفوا من الأسبابِ فإذا القرابة لا تقرب قاطعاً ... وإذا المودة أقرب الأسبابِ (¬2) والمودة لا تنال بالقتال وإنما تنال بحميد الفعال, وفي الحديث: (جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها) (¬3) . فأقلل عتاب من استربت بوده, وأحسن إليه بقربه, وقد جاء في شعر منصور النمري (¬4) : أَقلِل عِتابَ مَنِ اِستَرَبتَ بِودِّهِ ... لَيسَت تُنالُ مَودَّةٌ بِقِتالِ فكل امرء يولي الجميل إلى الناس محبب, وعن الشر يستبعد قال الشاعر: وَكُلُّ اِمرِئٍ يولي الجَميلَ مُحَبَّبٌ ... وَكُلُّ مَكانٍ يُنبِتُ العِزَّ طَيِّبُ ¬

_ (¬1) - نيل الأمالي لأبي اسماعيل القالي ج3ص127. (¬2) - الأغاني للإمام أبي الفرج الأصفهاني ج13ص131, منشورات دار الفكر بيروت. (¬3) - رواه أبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء للحافظ أبي نعيم احمد بن عبد الله الأصفهاني المتوفى سنة 430هـ, ج2ص130, طبعة دار الكتاب العربي بيروت لبنان الطبعة الثالثة 1400هـ1989م. والبيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن مسعود حديث (486) . وأورده السيوطي في الجامع الصغير للإمام جلال الدين بن أبي بكر السيوطي المتوفى سنة 711هـ, ج1ص218 حديث (3580) , منشورات محمد علي بيضون بيروت لبنان الطبعة الأولى 1423هـ2002م. وابن عدي في الكامل ج2ص286. (¬4) - منصور بن الزبرقان بن سلمة بن شريك النمري أبو القاسم, (ت 190هـ805م) , من بني النمر بن قاسط شاعر من أهل الجزيرة.

وإذا كان الود مع العتاب يبقى فإن العاقل لا يضجر منه ولا يتأذى, قال الشاعر: إذا ذهب العتاب فليس ودٌ ... ويبقى الود ما بقي العتاب فالقرب بالمحبة والود من أعظم العلائق وأنفع الفوائد, وللمبرد: ما القرب إلا لمن صحت مودته ... ولم يخنك وليس القرب للنسب كم من قريب دوي الصدر مضطغن ... ومن بعيد سليم غير مقترب (¬1) فمن أراد بقاء الحب تواضع لمن يحبه وتغافل عن شيء من ذنبه, فتواضعك لمحبوبك شرف قال الشاعر: ذل الفتى في الحب مكرمة ... وخضوعه لحبيبه شرفُ (¬2) وقال آخر: اخضع وذل لمن تحب فليس في ... شرع الهوى أنف يشال ويعقد (¬3) بل أن بعض الشعراء قد ذهب إلى التصريح بحب الديار نظراً لكبير حبه لأهلها فقال: وَمِن مَذهَبي حُبُّ الدِيارِ لأَهلِها ... وَلِلناسِ فيما يَعشَقونَ مَذاهِبُ ولكن شاعراً آخر يرى حب الديار لحب أهلها فيقول: وَما حُبُّ الدِّيارِ شَغَفنَ قَلبي ... وَلكِن حُبُّ مَن سَكَنَ الدِّيارا ¬

_ (¬1) - العقد الفريد ج2ص153. (¬2) - لطائف المعارف فيما للمواسم العام من الوظائف تأليف الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ زين الدين بن رجب الحنبلي المتوفى سنة 795هـ , ج1ص266 , إعداد مركز البحوث والدراسات مكتبة نزار مصفى الباز مكة المكرمة, الطبعة الاولى 1418هـ1997م. (¬3) - روضة المحبين ص289.

وفي الأمثال السائرة: من صحت مودته احتملت جفوته, وقيل مودة الأباء قرابه بين الأبناء, فاعمل على صلة اصدقاء ابائك , قال الشاعر وكل محبة في الله تبقا ... على الحالين من فرج وضيق وكل محبة فيما سواه ... فكالحلفاء في لهب الحريق (¬1) الإفراط في الحب لغير الله غير مرغوب إن الحب المتوازن يدل على العقل الكامل, فالعدو ربما انقلب إلى صديق, والصديق ربما انقلب إلى عدو, فلا يوجد عدو دائم إلا الشيطان, ولا يوجد من يجب دوام محبته إلا الرحمن وكتبه ورسله وشريعته, ومن شرع لنا محبته وأوجب علينا مودته, وقليل من الناس من تدوم محبته وتصفى مودته, وقد جاء في كلام بعض الشعراء: فهون في حب وبغض فربما ... بدا صاحب من جانب بعد صاحب ومما نسب للإمام علي رضي الله عنه قوله: وَأَحبِب إِذا أَحبَبتَ حُبّاً مقارِباً ... فَإِنَّكَ لا تَدري مَتى أنتَ نازِعُ وَأَبغِض إِذا أَبغَضتُ بَغضاً مُقارِباً ... فإِنَكَ لا تَدري مَتى أَنتَ راجِعُ (¬2) وقد أقتبس ذلك من الهدي النبوي ففي الحديث النبوي: (أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْمًا مَا) (¬3) , وفي الأمثال السائرة: "لا يكن حبك كلفاً ولا ¬

_ (¬1) - هذان البيتان في المستطرف دون عزو (¬2) - ديوان الإمام علي رضي الله عنه ص40. (¬3) - أخرجه الترمذي في سننه باب ما جاء في الاقتصاد في الحب حديث (1997) وقال عنه الترمذي: حديث صحيح.

الحب وآدابه

بغضك تلفاً", ويروى عن بعض الحكماء أنه قال: "لا تكن في الإخاء مكثراً ثم تكن فيه مدبراً فيعرف سرفك في الإكثار بجفائك في الإدبار" (¬1) . الحب وآدابه للحب علامات ودلالات لا بد من التحلي بها والحرص عليها, فهناك: الإخلاص والوفاء والتألف والتضحية والإيثار والمناصحة والاشتياق إلى لقاء المحبوب, والغيرة عليه, والطاعة من لوازم الحب, والذكر له, قال الشاعر: ولي فؤادٌ إِذا لج الغرامُ بِهِ ... هام اشتياقاً إِلى لُقْيا معذِّبِهِ يفديكَ بالنفس صَبٌّ لو يكونُ لهُ ... أَعزُّ من نفسه شيءٌ فداك بِهِ (¬2) آفات الحب من أعظم الآفات والعيوب التي تقضي على الحب وتفصم عراه؛ كثرة العتاب ودوامه, قال الشاعر: لا تكثر العتابا تنفر الأصحاب ... فكثرة المعاتبة تدعو إلى المجانبة وقال آخر: إذا كنت في كل الإمور معاتباً ... صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه وكذلك سوء الظن بالمحبوب, وتعنيفه ولومه, والغيرة المذمومة, والانفعال المشؤم, وهناك أعداء للحب والمحبين مثل الحاقدين, والحاسدين, والفاسدين, والمغرضين, والطائشين, والنمامين, والدساسين, وشياطين الجن والإنس أجمعين. ¬

_ (¬1) - مجمع الأمثال للميداني ص218, وهذا الكلام ينسب للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (¬2) - روضة المحبين ص283.

الحب زينة الحياة

الحب زينة الحياة ليس في هذه الحياة من شيءٍ يزين الحياة ويسعدها مثل الحب, فبالحب يواجه الإنسان متاعب الحياة, وبالحب تتجدد الحياة وتصفو, وبالحب يتجدد الإبداع ويعلو, ويشرق الجمال ويزهو, فهو نشيد الحياة السعيدة, وقد قيل: أن الحب يجسد المناجاة الإلهية, ويعلم الدروس العلمية, فهو عذب كأنغام الطيور, وهو من أعظم مصادر الإبداع التي تميز ذكريات المحب بالخلود, وقيل: أن الحب كالهواء يتعذر على الإنسان العيش بدونه, فهو يبدأ يوم ميلاد حياة الإنسان, وقد كان للحب دور كبير في إثارة سرور النفس وانشراحها, وتحررها من كآبتها ومعاناتها. حب الجمال نعمة كثيراً ما هام الشعراء في وصف جمال الطبيعة, وجمال المحبوب, وجمال الإنسان, فالجمال نعمة يحبها الله ويحبها الناس, قال الشاعر: خلقتَ الجمال لنا فتنةً ... وقلتَ لنا يا عبادي اتقون وأنت جميل تحب الجمال ... فكيف عبادك لا يعشقون؟ وعقب على هذا الشاعر شاعر آخر بما هو ألطف فقال: خلقتَ الجمال لنا نعمةً ... وقلتَ لنا يا عبادي اتقون وأنت جميل تحب الجمال ... فكيف عبادك لا يتقون؟

حب الله

وقال العلامة/ عبد الحميد بن محمد المهدي (¬1) رضي الله عنه: دعني أُمتع مقلتي وجَناني ... فلقد نزلت-كما ترى- بِجنانِ المرء يعجبه الجمال بطبعه ... حب الجمال غريزة الإنسان (¬2) حب الله لمحبة الله حلاوة في النفس توجب إتباع الحق, ومحبة الخلق, قال الشاعر: إن المحب إذا أحب إلهه ... طار الفؤاد وألهم التفكيرا فاسأل هدايتك الإله بنية ... فكفى بربك هادياً ونصيرا وفي الحديث النبوي: (ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا, وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ, وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ) (¬3) . فحب الله يقتضي طاعته ومحبة خلقه, ومحبة أعمال البر, والنفور عن المعصية, فإذا كنت تحب الله فلا تعصه, وإذا كنت ترجو الله فلا تؤذه, فإن عصيانك لله يتنافى مع ادعاء حبه, وقد جاء في شعر محمود الوراق: ¬

_ (¬1) - هو الشاعر والأديب الكبير والفقيه المحقق العلامة عبد الحميد بن محمد المهدي صاحب القلم السيال والذهن الوقاد واللسان العذب, قال عنه الدكتور والأديب الكبير عبد العزيز المقالح: "عبد الحميد محمد المهدي شاعر رقيق الشعور صادق التعبير تتحرك شاعريته تجاه كل حدث إنساني قريباً كان أو بعيداً, فهو من القلة القليلة من بني الإنسان الذين يصرون على ان يكتبوا الشعر وأن يستخدموا كلمات اللغة في إيجاد حالات نغمية تحمل من المعاني والصور البديعة ما يعكس اهتزازات النفس تجاه ما يعتريها في حالات الحزن والسرور واستحضار القضايا والمواقف التي تؤثر في حياتنا من قريب أو بعيد". شارك في الحياة العامة بعد تخرجه من المدرسة العلمية ثم من جامعة صنعاء وتقلد عدة مناصب كان يؤدي عمله فيها بعفة ونزاهة واقتدار, وهو الآن الوكيل المساعد لوزارة النقل, صدرت له عدة دواوين: بين يدي الإسراء, ومن أوراق العمر, وألوان, وانظر ما قاله عنه الدكتور المقالح في مقدمة ديوانه (من أوراق العمر) . (¬2) - انظر: من أوراق العمر ص111, من اصدارات اتحاد المبدعين العرب فرع اليمن, صنعاء, الطبعة الأولى 1427هـ2006م. (¬3) - أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الإيمان حديث (16) .

تَعصي الإِلَهَ وَأَنتَ تُظهِرُ حُبَّهُ ... هَذا مَحالٌ في القِياسِ بَديعُ لَو كانَ حُبُّكَ صادِقاً لأَطَعتَهُ ... إِنَّ المُحِبَّ لِمَن يُحِبُّ مُطيعُ (¬1) فلا تجعل محبتك كلها إلا لله ثم محبة من يحب؛ يكمل إيمانك, ويزدهر بالخير عرفانك, وتكن في عداد المتقين, ولا تحب شيئاً محبةً تساوي محبته لكي لا تكون من الظالمين الذي اتخذوا من دون الله أنداداً وجعلوا له من خلقه أضداداً, وفي الذكر الحكيم: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} (¬2) . فالقلوب المحبة لله تمتلئ نوراً, وتزداد سروراً, ويجلس أصحابها على منابر من نور يوم القيامة, لأنهم أحبوا الله وأحبوا من أحب, ففي الحديث النبوي: (قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُتَحَابُّونَ فِي جَلالِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمْ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ) (¬3) . وما أجمل قول الشاعر: قلوب براها الحب حتى تعلقت ... مذاهبها في كل غرب وشارق تهيم بحب الله والله ربها ... معلقة بالله دون الخلائق ¬

_ (¬1) - ينسب هذان البيتان للوراق وللامام عبد الله بن المبارك المتوفى سنة 181هـ، وجاءت في ديوانه ص (50) ، الطبعة الثانية 1429هـ، دار اليقين للنشر والتوزيع المنصورة مصر، وجاء في ديوان الامام الشافعي رضوان الله عليه مع زيادة بيت يقول فيه: ... في كُلِّ يَومٍ يَبتَديكَ بِنِعمَةٍ ... مِنهُ وَأَنتَ لِشُكرِ ذاكَ مُضيعُ، ونسبت الى غيرهم والله اعلم. (¬2) - سورة البقرة الآية (165) . (¬3) - أخرجه الترمذي في سننه باب ما جاء في الحب في الله حديث (2390) .

ولله در احمد شوقي حيث يقول: وَمَن يَعدِل بِحُبِّ اللَهِ شَيئاً ... كَحُبِّ المالِ ضَلَّ هَوىً وَخابا وقال آخر: أُحِبُّكِ أَصنافاً مِنَ الحُبِّ لَم أَجِد ... لَها مَثَلاً في سائِرِ الناسِ يوصَفُ فَمِنهُنَّ حُبٌّ لِلحَبيبِ وَرَحمَةٌ ... بِمَعرِفَتي مِنهُ بِما يَتَكَلَّفُ وَمِنهُنَّ أَلّا يَعرِضَ الدَهرُ ذُكرَها ... عَلى القَلبِ إِلا كادَتِ النَفسُ تَتلَفُ وَحُبٌّ بَدا بِالجِسمِ وَاللَونِ ظاهِرٌ ... وَحُبٌّ لَدى نَفسي مِنَ الرَوحِ أَلطَفُ ويرحم الله الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث يقول: قَريحُ القَلبِ مِن وَجَعِ الذُنوبِ ... نَحيلُ الجِسمِ يَشهَقُ بِالنَحيبِ أَضرَّ بِجِسمِهِ سَهَرُ اللَيالي ... فَصارَ الجِسمُ مِنهُ كَالقَضيبِ وَغَيَّرَ لَونَهُ خَوفٌ شَديدٌ ... لِما يَلقاهُ مِن طَولِ الكَروبِ يُنادي بِالتَضَرُّعِ يا إِلَهي ... أَقِلني عَثرَتي وَاِستُر عُيوبي فَزِعتُ إِلى الخَلائِقِ مُستَغيثاً ... فَلَم أَرَ في الخَلائِقِ مِن مُجيبِ وَأَنتَ تُجيبُ مَن يَدعوكَ رَبّي ... وَتَكشِفُ ضُرَّ عَبدِكَ يا حَبيبي وَدائي باطِنٌ وَلَدَيكَ طِبُّ ... وَمِن لي مِثلَ طِبِّكَ يا طَبيبي والإمام علي رضي الله عنه في هذه المقطوعة الشعرية يصف نفسه بأنه جريح القلب من وجع الذنوب وانه ضعيف الجسم يشهق بالبكاء، غير لونه خوف شديد مما يلقاه، وانه التجأ إلى الله يناديه بالتضرع ليقيل عثرته وينهضه مما هو فيه، وانه فزع إلى الناس فلم يجد منهم نجدة، وان الله هو

محبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

الذي يجيب من يناديه، ويكشف مكان الداء والضر، فهو يناديه بيا حبيبي ويا طبيبي، وله في مناجاة الله ووصفه بالحبيب والذي ياسر بحبه القلوب، وانه ليس في قلبه مكان لسواه، فهو وان كان غائباً عن عينه وجسمه ولكنه حاضر أبداً في قلبه قوله: حبيب بات يأسرني الحبيب ... وما لسواه في قلبي نصيب حبيب غاب عن عيني وجسمي ... وعن قلبي حبيبي لا يغيب وهكذا المؤمن في حبه لربه تجده شديد الحب لله، ملأ الله قلبه حباً له ولرسوله ولشريعته ولمن يحبه الله من خلقه, وفي الذكر الحكيم: {وَالَّذِينَ آمَنُواْأَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ} (¬1) ، ومن يرتدد عن دينه ويترك حب الله ودينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه وفي محكم التنزيل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (¬2) . محبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان الحب أصناف عديدة فإن حب الله ورسوله أغلاه وأعلاه, ومن علامة محبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؛ التخلق بأخلاقه, وإتباع سنته, والسير على طريقته, فلا يكمل إيمان المرء دون محبته وإتباع طريقته, وفي محكم التنزيل: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ ¬

_ (¬1) - سورة البقرة (165) . (¬2) - سورة المائدة (54) .

أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر محبة له ولأهل بيته

رَّحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (¬1) , وفي الحديث النبوي: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (¬2) . من تمام محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم محبة آله وما يحب إن من تمام محبته النبي صلى الله عليه وآله وسلم محبة ما يحب ومحبة صحابته ومحبة آل بيته وأزواجه وذريته, وفي محبة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول الإمام الشافعي رضوان الله عليه: يا آلَ بَيتِ رَسولِ اللَهِ حُبَّكُمُ ... فَرضٌ مِنَ اللَهِ في القُرآنِ أَنزَلَهُ يَكفيكُمُ مِن عَظيمِ الفَخرِ أَنَّكُمُ ... مَن لَم يُصَلِّ عَلَيكُم لا صَلاةَ لَهُ وله أيضاً: يا راكِباً قِف بِالمُحَصَّبِ مِن مِنىً ... وَاِهتِف بِقاعِدِ خَيفِها وَالناهِضِ سَحَراً إِذا فاضَ الحَجيجُ إِلى مِنىً ... فَيضاً كَمُلتَطِمِ الفُراتِ الفائِضِ إِن كانَ رَفضاً حُبُّ آلِ مُحَمَّدٍ ... فَليَشهَدِ الثَقَلانِ أَنّي رافِضي أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر محبةً له ولأهل بيته لقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر الناس محبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وآل بيته حتى انه اثر عن الصديق رضي الله عنه انه قال: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي) (¬3) . وعلى ذلك النهج سار الخلفاء الراشدون حتى أثر أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه كان يعطي الحسن بن علي رضي الله عنهما أكثر مما يعطي ولده عبد الله بن عمر رضي عنهما. وجاء في الحديث النبوي في حق الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (لا يُحِبُّكَ إِلاَّ مُؤْمِنٌ وَلا يَبْغَضُكَ إِلاَّ مُنَافِقٌ) (¬4) . محبة الصحابة من تمام محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن محبة أصحاب رسول الله عليه وآله وسلم لإيمانهم بالله ورسوله، وحبهم لله ورسوله، وجهادهم في سبيل الله، هي بلا شك من محبة ما يحبه الله ورسوله، وهي علامة الإيمان وقد جاء في حب الأنصار رضوان الله عليهم قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق من أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله) متفق عليه (¬5) ، وجاء في الذكر الحكيم في بيان صدق المهاجرين في إيمانهم وابتغائهم رضوان الله، ونصر الله ورسوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ¬

_ (¬1) - سورة آل عمران الآيتان (31و32) . (¬2) - أخرجه البخاري في كتاب الإيمان باب حب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الإيمان حديث (15) . (¬3) - صحيح البخاري كتاب فضائل اصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، باب مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حديث (3508) . (¬4) - أخرجه الترمذي في سننه باب مناقب الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه حديث (3736) , وقال عنه: حديث حسن صحيح, والنسائي في السنن الكبرى باب الفرق بين المؤمن والمنافق حديث (8487) , واحمد في المسند حديث (693) , والطبراني في الأوسط حديث (4751) , وأبو يعلى الموصلي في مسنده حديث (291) . (¬5) - أخرجه البخاري في صحيحه باب حب الأنصار من الإيمان حديث (3572) .

اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (¬1) ، وقال جل شأنه: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬2) ، فمكانة الصحابة رفيعة، وخلاقهم حسنة جليلة، وصدق إيمانهم شهد به القران، ورضي عنهم الرحمن، فهم خيار الناس وقدوتهم في توحدهم واتحادهم ومعاملتهم وجهادهم واجتهادهم، وفي الذكر الحكيم النبؤ اليقين عن النبي الكريم وصحابته الأكرمين من الأنصار والمهاجرين والذين اتبعوهم بإحسان بعد الفتح المبين: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (¬3) . ¬

_ (¬1) - سورة الحشر (8) . (¬2) - سورة التوية (100) . (¬3) - سورة الفتح (29) .

محبة المؤمنين

محبة المؤمنين إن من علامة حب الله وحب رسوله وشريعته حب عباده المؤمنين, فحب المؤمنين سعادة وريادة, وفي الإيمان زيادة, فمن لا يحب المؤمنين لا يدخل جنة رب العالمين, وفي الحديث النبوي: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا, وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا, أَفَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَمْرٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ) (¬1) . محبة الله لعبده أعظم نعمة من حببه الله إلى الناس فقد أسبغ عليه النعمة, وضاعف له الكرامة والمنة, فإذا أحب الله عبداً أحبه الناس, وإنما يكون المرء محبوباً عند الناس حينما يكون محباً لهم الخير معيناً لهم على البر, تكسوه المهابة والجلال قال الشاعر: وَجهٌ عليهِ مِنَ الحياءِ سَكينَةٌ ... وَمَحَبَّةٌ تجري مَعَ الأنفاسِ وإِذا أَحَبَّ اللَّهُ يوماً عَبْدَهُ ... أَلقَى عَليهِ مَحَبَّةً لِلنَّاسِ (¬2) وفي الحديث: (إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبَّهُ, قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ, ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ, قَالَ: ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأَرْضِ, وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ: إِنِّي أُبْغِضُ فُلانًا فَأَبْغِضْهُ, قَالَ: فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ, ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلانًا فَأَبْغِضُوهُ, قَالَ فَيُبْغِضُونَهُ ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الأَرْضِ) (¬3) . والله جل جلاله في محكم آياته أخبرنا بأنه يحب المتقين الصادقين في إيمانهم ذوي البر والوفاء قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (¬4) , ويحب المقسطين مع أهلهم وأنفسهم وإخوانهم, ويحب المقسطين في أعمالهم قال تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (¬5) ، ويحب المتوكلين على ربهم الذين يفوضون الأمر إليه ويعتمدون عليه قال جل شأنه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (¬6) , ويحب المحسنين الذين تخلقوا بالعفو عن الناس قال سبحانه: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (¬7) , ويحب الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس قال تعالى: {وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (¬8) , ويحب التوابين المستغفرين من آثامهم, ويحب المتطهرين من أدرانهم قال تعالى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (¬9) . فاحرص أخي أن تكون ممن يتصفون بهذه الصفات التي يحبها الله لتكون ممن يحبهم الله لتظفر بالسعادة, وتنال الحسنى وزيادة, ولا تكن من أصحاب التعاسة والشقاء, فتتصف بصفات أهل الهوى فتؤذي الناس بسلوكك وتفسد في قيامك وقعودك, فالله قد أنبأنا في القرآن وفصل لنا في الفرقان فأوضح وأبان بأنه لا يحب المفسدين ففي الذكر الحكيم: {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي ¬

_ (¬1) - أخرجه أبو داود في سننه باب في إفشاء السلام حديث (5193) . (¬2) - هذان البيتان لابن عبدربه , وانظر العقد الفريد ج2ص154. (¬3) - أخرجه مسلم في صحيحه باب إذا أحب الله عبدا حببه إلى عباده حديث (2637) . (¬4) - سورة آل عمران (76) . (¬5) - سورة المائدة (42) . (¬6) - سورة آل عمران (159) . (¬7) - سورة المائدة (13) . (¬8) - سورة آل عمران (146) (¬9) - سورة البقرة (222) .

الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (¬1) . فالزم الأعمال الصالحة لتفوز بالتجارة الرابحة، ولا تكن من الظالمين فانه سبحانه لا يحب الظالمين وفي الذكر الحكيم: {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (¬2) ، والتزم الاعتدال في أكلك وشربك، ولا تكن من المسرفين والمبذرين قال تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (¬3) , وإياك والهزأ بشرع الله فان ذلك سيجعلك في عداد الكافرين، والله لا يحب الكافرين كما يقول جل شأنه: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (¬4) ، وإياك والخيلاء والكبرياء فان الله لا يحب المستكبرين قال تعالى: {لاَ جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} (¬5) ، وقال جل شأنه: {إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} (¬6) . فتخلق أخي بالوفاء تكن من أهل الصفاء, فالله لا يحب الخائنين وفي الذكر الحكيم: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} (¬7) , وابتعد عن الظلم والإيذاء والاعتداء؛ فإن الله لا يحب المعتدين قال تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} (¬8) , وكن محباً للناس يرفع جنابك, ومحباً لأهل التقوى يعظم ثوابك: بلاد بها كنا وكنا نحبها ... إذ الناس ناس والزمان زمان وقال آخر: لا عار في الحب إن الحب مكرمة ... لكنه ربما أزرى بذي الخطر واذا كنت اخي قد عرفت الخلال التي يحبها الله من ايات الذكرالحكيم فالزمها تفز بالخير العظيم, وتجنب الخلال التي لايحبها الله تكن من أهل اليقين الذين يحبهم الله, فمحبة الله عز وجل للمؤمن تعني حفظه, وتاييده, ونصره, واكرامه, وانزال الرحمة على قلبه. والانسان اذا احب الله مال الى محابه, وخلد الى ظله والى انواره والى تجلياته والى سكينته, والى الشعور بان الله يحميه ويحفظه, فاذا جفاك ربك وابعدك عن انواره شعرت بالم لايطاق. فما حبنا سهل ولكن من ادعى ... سهولته قلنا له قد جهلتنا فايسر مافي الحب لصب قتله ... واصعب من قتل الفتى يوم هجرنا ¬

_ (¬1) - سورة القصص (77) . (¬2) - سورة آل عمران (57) . (¬3) - سورة الأعراف (31) . (¬4) - سورة الروم (45) . (¬5) - سورة النحل (23) . (¬6) - سورة النساء (36) . (¬7) - سورة الأنفال (58) . (¬8) - سورة البقرة (190) .

الفرق بين الحب والود

الفرق بين الحب والود قد يرد في اللغة اسمان مختلفان لمسمى واحد ولكن مع فرق في المعنى فالاختلاف في المبنى دليل اختلاف المعنى, وقد سبق وان اشرنا الى ان بعض الباحثين ذكر ان للمحبة في لسان العرب ستين اسما واوردنا ما ذكره الامام ابن القيم في روضة المحبين من اسماء المحبة ومع ان بينها اختلاف في الالفاظ فهي تطلق على مسمى واحد ولكن يوجد بينها فروق دقيقة, فان قلت ماهو الفرق بين الود والحب قلنا الحب ماستقر في القلب, والود ماظهر في السلوك, فاذا كنت تحب فلانا فمشاعر الميل نحوه هي الحب, وابتسامك في وجهه هي الود, واذا قدمت اليه هدية فهي ود, او اعنته في مشكلة فهي ود, او عدته في مرض فهي ود, او اعطيته هدية في زواجه فهي ود, او نصحته فهي ود, فالمشاعر الداخليه هي الحب, والظواهر المادية هي الود, فكل ودود محب وليس كل محب ودودا, فكل ودود من البشر مودته اساسها مشاعر الحب في قلبه (¬1) , والله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الكون وسخر مافيه للانسان وانعم عليه بنعم لاتحصى, وجعل نعمه تظهر حبه ووده لعباده فاذا صحت محبتك لله استيقظ قلبك وتفتحت بصيرتك ورايت ان كلما في الكون ماهو الا تودد من الله لعباده فهو الذي يتودد الى عباده بالنعم فتودد اليه بالايمان به, وبعبادته وطاعته, وامتثال امره وترك مانهى عنه, وبالتخلق باخلاق نبيه وبالبذل والعطاء, وبالاحسان الى خلقه, وبالشكر لنعمه, تظفر بحبه وحفظه وتاييده ونصره ورحمته واكرامه والامن من عذابه, وتعرف على اسمه الودود فهو الغفور الودود الذي خلق المودة ¬

_ (¬1) - موسوعة اسماء الله الحسنى ج1/ص573.

الودود من اسماء الله الحسنى

بين خلقه وبين المرء وزوجه قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (¬1) . الودود من اسماء الله الحسنى ورد اسم الله الودود في القرآن الحكيم مقترنا باسم الله الرحيم وباسم الله الودود قال تعالى: {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} (¬2) وقال سبحانه: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} (¬3) وورد في السنة النبوية ان لله تسعة وتسعين اسما وعد منها (الودود) كما في رواية الترمذي من حديث ابي هريرة فهو سبحانه وتعالى الودود الذي وصل احسانه الى عباده وجميع خلقه والمتحبب الى خلقه بنعمه والى اوليائه بمعرفته, والى المذنبين بعفوه ورحمته والى المؤمنين المتقين بمحبته, فالودود ماخوذ من الود بضم الواو بمعنى خالص المحبة فالودود هو المحب المحبوب بمعنى واد مودود, وقال ابن القيم رحمه الله: الودود من صفات الله سبحانه وتعالى أصله من المودة واختلف فيه على قولين فقيل هو ودود بمعنى واد كضروب بمعنى ضارب وقتول بمعنى قاتل ونؤوم بمعنى نائم ويشهد لهذا ¬

_ (¬1) - سورة الروم (21) . (¬2) - سورة هود (90) . (¬3) - سورة البروج (14) .

ثمرة معرفة اسم الله الودود

القول أن فعولا في صفات الله سبحانه وتعالى فاعل كغفور بمعنى غافر وشكور بمعنى شاكر وصبور بمعنى صابر وقيل بل هو بمعنى مودود وهو الحبيب وبذلك فسره البخاري في صحيحه فقال الودود الحبيب والأول أظهر لاقترانه بالغفور في قوله وهو الغفور الودود وبالرحيم في قوله إن ربي رحيم ودود وفيه سر لطيف وهو أنه يحب التوابين وأنه يحب عبده بعد المغفرة فيغفر له ويحبه كما قال إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين فالتائب حبيب الله فالود أصفى الحب وألطفه (¬1) . ثمرة معرفة اسم الله الودود اذا عرف المكلف ان الله سبحانه وتعالى الودود الذي يكرم عباده ويحسن الى جميع خلقه وانه الذي يخلق المودة بين خلقه وانه لاودود على الاطلاق الا الله سبحانه وتعالى وجب عليه ان يؤمن به وان يخلص في محبته له, وان تكون محبته في قلبه غالبة لكل محبة وان يكون شاكرا لنعمه وفضله مخلصا في عابدته لربه وكيف لاتكون محبة الله في قلب عبده المؤمن سابقة لكل محبة وغالبة عليها وهو يعلم ان مامن نعمة كانت عليه او على غيره في السماوات او في الارض او هي كائنة الا وهي من فضل ربه تودد بها الى خلقه فله الحب وله الحمد وله الشكر وله الثناء كله, فسبحان من اودع محبته في قلوب المؤمنين المتقين من عباده فاثمرت الثناء عليه والاكثار من ذكره والتقرب اليه بالفرئض والنوافل والفوز برضاه والانس بقربه وتحقيق ¬

_ (¬1) - روضة المحبين وجنة المشتاقين لابن القيم ص47.

الاخلاص له وحسن معاملة خلقه, فنعم الله عليك تترى فهو يتودد لعباده بنعم لاتحصى ويخلق المودة في قلوب بعضهم لبعض فافضل عمل, واحكم عمل يفعله الإنسان بعد ان يؤمن بالله ان يتودد اليه بالطاعات واجتناب المعاصي وان يتودد الى الناس بالاحسان اليهم فحظ العبد من هذا الاسم ان يتود الى العباد, فتودد اخي الى الطفل الصغير بالرحمة والى الشيخ الكبير بالاحترام والتقدير وتودد الى الناس كافة بالاحسان اليهم واكرامهم واظهار الشفقة والرحمة عليهم تكن من الفائزين بمحبة الله ورضاه والانس بقربه, وفي الحديث النبوي افضل الاعمال بعد الايمان بالله (التودد الى الناس) (¬1) . وهنا تطالعنا حقيقة ملموسة وهي ان الإنسان اذا احب يميل فاذا ابتعد المحبوب الم بالمحب الم, وهذا الم الفراق شكا الم الفراق الناس قبلي ... وروع بالجوى حي وميت واما مثل ما ضمت ضلوعي ... فاني ما سمعت ولا رأيت فهل يصح معنى الميل بالنسبة الى الله سبحانه وتعالى؟! ان علماء التوحيد قالوا: " لا, فالميل الذي من شأنه الضعف والتحسر والالم, هذا لايصدق على الله عز وجل, ولكن الإنسان اذا احب احسن, واذا احب خضع , واذا احب تذلل" فالانسان هكذا يفعل, ولكن الله اذا احب احسن ورحم واكرم (¬2) . دعاء الله باسمه الودود ¬

_ (¬1) - المعجم الاوسط للطبراني, ج6/ص156. (¬2) - موسوعه اسماء الله الحسنى ج1/ ص 574.

يا الله ياودود يارحيم ياغفور ياكريم صلي على محمد وال محمد كما صليت على ابراهيم وعلى ال ابراهيم واسئلك يا الله ياودود ان تغفرلي ولوالدي وللمؤمنين جميع الذنوب فكل شفيق دونك كنود فارحم ياالله ياودود خاطأ لم يوف لك بالعهود وجمله بسترك في اليوم الموعود ياالله ياغفور ياودود اغفرلي كل شيء ولاتسألني عن اي شيء انك غفور ودود وادخلني الجنة بغير حساب واسكني الفردوس الأعلى من الحنة ياالله ياودود يارحيم ياكريم ياجواد وارزقني حبك وودك وحب من يحبك وكل عمل تحبه وحببني الى خلقك وتفضل علي بمحبتك ياكريم يارحيم ياودود وصل اللهم وسلم على محمد عبدك ورسولك وعلى اله والاصحاب ولاحول ولاقوة الا بالله العلي العظيم وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. ونودع فصل الحب بالحالة التي حكى عنها دعبل الخزاعي في وداع الحبيب حيث يقول: وَداعُكَ مِثلُ وَداعِ الرَبيعِ ... وَفَقدُكَ مِثلُ اِفتِقادِ الدِيَمِ عَلَيكَ السَلامُ فَكَم مِن وَفاءٍ ... نُفارِقُهُ مِنكَ أَو مِن كَرَمِ (¬1) ¬

_ (¬1) - ديوان دعبل ص168.

الفصل السادس عشر الجمال

الفصل السادس عشر الجمال

الجمال

الجمال الجمال نعمة وزينة، وحلية عظيمة، والجمال يزين النفوس ويذهب العبوس، ويرفع الرؤس، الجمال هبة من الله وإفضال، أكرم به الإنسان، وهو زيادة في الحسن بين الرجال والنساء والولدان يدل على إتقان صنع الله وعظيم فضله, من أكرمه الله به وجب عليه شكر الواهب، والجمال في النساء حسن وزيادة، وفي الرجال فضل وسعادة، وفي الكلام حكمة وبيان، وفي الصفات تمام وكمال، وفي الصناعة إتقان وإحكام، وفي الاحكام عدل وإحسان، وفي التعامل بر ووفاء، وفي الدين تقوى ويقين، وفي الدنيا خلق مستقيم، وفي السياسة حسن تدبير واحترام الصغير والكبير، وفي السماء زينة للناظرين، وفي العقل تدبر وتفكّر في آلاء الله العلي الكبير، وفي خلق السماء والأرض على أحسن نظام وأكمل تقدير وقد جاء في التنزيل: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ* الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ* ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ* وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} (¬1) ، فسبحان من جعل الجمال في النجوم اللامعة، والكواكب الصادعة، ورفع سمك السماء، وانزل منها الماء، فانبت به حدائق ذات بهجة، واخرج به الثمرات اليانعة، ¬

_ (¬1) - سورة الملك (1-5) .

جمال الإنسان

وأحيا به الارض الواسعة قال جل شأنه: {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} (¬1) ، وقال سبحانه: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (¬2) . جمال الإنسان لقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وفضله على كثير من الخلق أجمعين، وزينه بالجمال فتبارك الله أحسن الخالقين، واسجد له الملائكة أجمعين فقال سبحانه: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} (¬3) ، وقال جل شأنه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (¬4) ، فسبحان من خلق الجمال في العيون بلونها الأسود وجفنها المقعد، وجعل في روعة خطرتها سحر تكاد له النفس تذوب، وفي طرفها حور يجرح القلوب قال الشاعر: في عيون المحب أحرف ود ... صدرت بالدموع عند الفراق قتلت أنفساً بنظرة عين ... وقلوباً مشتاقة للتلاقي فسبحان من جعل الجمال في الفم وهو بالحسن محبوك، وبالأسنان مسبوك، يرسل الكلمات ويبعث النغمات بلسان فصيح، وصوت مليح، لا ¬

_ (¬1) - سورة يونس (101) . (¬2) - سورة لقمان (11) . (¬3) - سورة الحجر (29) . (¬4) - سورة الإسراء (70) .

ينطق حتى يؤمر، ولا يسكت حتى يزجر، فياله من خلق ما أبدعه، ومن صنع ما أروعه، {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ* وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} (¬1) . وسبحان من جعل الجمال في الوجه بطلعته البهية، وإشراقاته الرضية، قسمات ترسم، وقبلات عليه من البهاء تبسم، خد بماء البشاشة يسيل، وطرف بإيحاء الحسن كحيل، وسبحان من جعل الجمال في قامة الإنسان، وروعة هذا البنيان، أذنان وصماخان، وعينان نضاختان، ويدان منافحتان، ورجلان كادحتان، وفي الذكر الحكيم: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ* وَطُورِ سِينِينَ* وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ* لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ* ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ* فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ* أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} (¬2) . أما عن جمال المعاني والمعالي فكن معنا ولا تذهب وتدعنا ولله در القائل: أنتم جمال المعالي وهي ذخركم ... أخبارها صرحت فيكم وغيركم (¬3) ويرحم الله ابن الرومي حث يقول: إذا كنتَ لم تلبس لَبوسَ تَجمُّلٍ ... بعرفٍ فلم تلبسْ لبوسَ جمالِ ¬

_ (¬1) - سورة البلد (8-9) . (¬2) - سورة التين. (¬3) - إبراهيم صادق (1221 - 1284 هـ/1806 - 1867م) إبراهيم بن صادق بن إبراهيم بن يحيى العاملي الطيبي, شاعر من أهل قرية الطيبة من جبل عامل بلبنان مولده ووفاته فيها. أقام بالنجف 27 سنة تعلم فيها الأدب وفقه الإمامية. له منظومة في (الفقه) نحو 1500 بيت. وشعر كثير عالي الطبقة.

ويرى بن الفارض في جمال محيا المصون لثامه عن اللثم ما أعاد فيه الحياة كالموت حيث يقول: جَمالُ مُحيّاكِ المَصُونُ لثامُهُ ... عن اللّثْمِ فيه عُدْتُ حيّاً كميّتِ ويرحم الله ابن الوردي حيث يقول: للهِ درُّ أُناسٍ قدْ مَضَوا لهمُ ... نشرٌ يفوحُ كنشرِ المندلِ العَطِرِ جمالَ ذي الدارِ كانوا في الحياةِ وهمْ ... بعدَ المماتِ جمالُ الكتبِ والسيَرِ أما أبو القاسم الشابي فهو يقول: غيرُ باقٍ في الكونِ إلاَّ جمالُ ... الرُّوح غضًّا على الزَّمانِ الأبيدِ ويدعو احمد شوقي إلى اغتنام ما سخره الله لبني الإنسان من الجمال وطلب العلم فيقول: وَاِغنَموا ما سَخَّرَ اللَهُ لَكُم ... مِن جَمالٍ في المَعاني وَالصُوَر وَاِطلُبوا العِلمَ لِذاتِ العِلمِ لا ... لِشَهاداتٍ وَآرابٍ أُخَر كَم غُلامٍ خامِلٍ في دَرسِهِ ... صارَ بَحرَ العِلمِ أُستاذَ العُصُر وله أيضا: يَصلُحُ المُلكُ عَلى طائِفَةٍ ... هُم جَمالُ الأَرضِ حيناً بَعدَ حين مَلَؤوا الدُنيا عَلى قِلَّتِهِم ... وَقَديماً مُلِئَت بِالمُرسَلين يَحسُنُ الدَهرُ بِهِم ما طَلَعوا ... وَبِهِم يَزدادُ حُسناً آفِلين قَد أَقاموا قُدوَةً صالِحَةً ... وَمَضَوا أَمثِلَةً لِلمُحتَذين أما إيليا أبو ماضي فهو يقول: والذي نفسه بغير جمال ... لن يرى في الوجود شيئاً جميلاً

في الامثال السائره: ليس الجمال بالثياب أي ان جمال النفس اساس قال الامام على بن ابي طالب رضي الله عنه: ليس الجمال بأثواب تزيننا ... ان الجمال جمال العقل والادب وقال اخر ليس الجميل جميل الوجه والحلل ... بل من ثنى العزم نحو الجد والعمل ويغفر الله للقائل اذا شئت ان تلقى المحاسن كلها ... ففي وجه من تهوى جميع المحاسن جمال الأنعام لقد خلق الله الأنعام إكراما للإنسان فأتقن صنعها، واخرج من ضرعها لبناً خالصاً سائغاً للشاربين فقال وهو العزيز الحكيم: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ* وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ* وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ* وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (¬1) . قوله تعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} هي: ذات القوائم الأربع كالإبل والبقر والغنم، وفي المصباح: الأنعام: ذوات الخف والظلف وهي ¬

_ (¬1) - سورة النحل (5-8) .

الإبل والبقر والغنم، وقيل: تطلق الأنعام على هذه الثلاثة فإذا انفردت الإبل فهي نعم وإن انفردت البقر والغنم لم تسمَّ نعماً (¬1) . والدفء: ما يتدفئ به فيقي البرد, قال القرطبي: الدفء: السخانة وهو ما استدفئ به من أصوافها وأوبارها وأشعارها ملابس ولحف وقطف جمع قطيفة كساء له خمل أي وبر, وروي عن ابن عباس: دفؤها نسلها, قال الجوهري في الصحاح: الدفء: نتاج الإبل وألبانها وما تنتفع به منها (¬2) , وفي القاموس: الدفء بالكسر ويحرك نقيض حدة البرد كالدفاءة (¬3) , وقال الدرويش: السخونة: اسم من دفئ الرجل من باب طرب وسلم، فالذَّكر دَفآن والأنثى دَفأى؛ مثل غضبان وغضبى ورجل دفئ بالقصر ورجل دفيء بالمد (¬4) . قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} الجمال: كل ما يتجمل ويتزين به، والجمال: الحسن, قال الراغب: الجمال: الحسن الكثير وذلك ضربان: أحدهما: جمال يختص الإنسان به في نفسه أو بدنه أو فعله، والثاني: ما يوصل منه إلى غيره، وعلى هذا الوجه ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله جميل يحب الجمال) (¬5) تنبيهاً أنه منه تفيض الخيرات الكثيرة فيحب من يختص بذلك، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ} ويقال: جميل وجُمال وجُمّال على التكثير (¬6) , وفي القاموس: الجمال الحسن في الخُلق والخَلق (¬7) , وقد ذكر القرطبي الوجهين فقال: الجمال: ما يتجمل به، والجمال الحسن، وقد جُمل الرجل -بالضم- جملاً فهو جميل، والمرأة جميلة وجَملاء أيضاً عن الكسائي وأنشد: فهي جملاء كبدر طالع ... بذّت الخلق جميعاً بالجمال وقول أبي ذؤيب: ستلقى من تحب فتستريح ... جمالك أيها القلب القريح يريد الزم تجملك ولا تجزع جزعاً قبيحاً، قال علماؤناً: فالجمال يكون في الصورة وتركيب الخلقة، ويكون في الأخلاق الباطنة ويكون في الأفعال، فأما جمال الخلقة فهو أمر يدركه البصر ويلقيه إلى القلب متلائماً, فتتعلق به النفس من غير معرفة بوجه ذلك ولا نسبته لأحد من البشر، وأما جمال الأخلاق فكونها على الصفات المحمودة من العلم والحكمة والعدل والعفة وكظم الغيظ وإرادة الخير لكل أحد، وأما جمال الأفعال فهو ¬

_ (¬1) - المصباح المنير معجم عربي عربي تأليف العالم العلامة احمد بن علي الفيومي المقري, ص364, طبعة دار الحديث القاهرة 1420هـ2000م. (¬2) - القرطبي في الجامع ج10ص70. (¬3) - القاموس المحيط تأليف العلامة اللغوي مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزأباذي المتوفي سنة 713هـ, ص40, الطبعة السابعة 1424هـ2003م, الناشر مؤسسة الرسالة بيروت لبنان. (¬4) - إعراب القرآن وبيانه للأستاذ العلامة محيي الدين الدرويش, ج5ص269, الناشردار ابن كثير للطباعة النشر والتوزيع دمشق 1418هـ1988م. (¬5) - أخرجه مسلم في صحيحه باب تحريم الكبر وبيانه حديث (91) , واحمد في المسند عن عبد الله بن عباس حديث (3789) . (¬6) - انظر: المفردات 105 , ونحوه في البصائر ج2ص395. (¬7) - القاموس المحيط ص979.

وجودها ملائمة لمصالح الخلق القاضية بجلب المنافع منهم وصرف الشر عنهم (¬1) . قلتُ: والقول بأن الجمال يأتي في الخَلق والخُلق قول راجح، وهو الذي تدل عليه لغة العرب، ومن الأدعية المأثورة: (اللهم جملني بالتقوى وزيني بالحلم وأكرمني بالعافية) قال عمرو بن معد يكرب: ليس الجمالُ بمئزرٍ ... فاعلم وإن رُدِّيتَ بُرداً إِنّ الجمالَ معادنٌ ... وَمَنَاقبٌ أَورَثنَ مَجداً وقال آخر: أقبل أرضاً سار فيها جمالها ... فكيف بدار دار فيها جمالها على كل حال أم عمرو جميلة ... إذا لبست خلقانها أو جديدها أما جمال الأنعام والدواب فهو من جمال الخلقة وهو مرئي بالأبصار موافق للبصائر، ومن جمالها كثرتها وقول الناس إذا رأوها: هذه نعم, قاله السدي، ولأنها إذا راحت توفَّرَ حسنها وعظم شأنها وتعلقت القلوب بها لأنها إذ ذاك أعظم ما تكون أسمنة وضروعاً, قاله قتادة. (¬2) قوله تعالى: {حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} تريحون: الرواح: رجوع المواشي بالعشي من المرعى (¬3) , وتسرحون: تخرجونها إلى المراعي بالغداة، فالسراح يكون بالغداة. ¬

_ (¬1) - القرطبي في الجامع ج10ص71. (¬2) - القرطبي في الجامع ج10ص71. (¬3) - صفوة التفاسير ج2ص119.

وفي المصباح: سرحت الإبل سرحاً من باب نفع, وسروحاً رعت بنفسها، وسرحتها يتعدى ولا يتعدى وسرَّحتها -بالتثقيل- مبالغة وتكثير (¬1) . والمراد: ولكم في هذه الأنعام والمواشي التي خلقها لكم جمال حين تردونها من مسارحها إلى مراحها ومنازلها التي تؤوي إليها، ولذا يسمى المكان المراح لأنها تراح إليه عشياً فتأوي إليه، يقال منه: أراح فلان ماشيته فهو يريحها إراحة، وقوله تعالى: {وَحِينَ تَسْرَحُونَ} قال الطبري: أي في وقت إخراجكموها غدوة من مراحها إلى مسارحها، يقال: سرح فلان ماشيته يسرحها تسريحاً إذا أخرجها للرعي غدوة، وٍسرحت الماشية إذا أخرجت للرعي تسرح سرحاً وسروحاً، فالسرح بالغداة والإراحة بالعشي. (¬2) وقوله تعالى: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} أي ما يثقل الإنسان حمله من الأمتعة والطعام وغيره، فالأثقال جمع ثقيل, سميت أثقالاً لأنها تثقل الإنسان وتتعبه؛ أو لأنها ثقيلة الحمل، قال الراغب: الثقل والخفة متقابلان فكل ما يترجح على ما يوزن به أو يقدر به يقال له ثقيل وأصله في الأجسام ثم يقال في المعاني نحو أثقله الغرم والوزر، قال: وقوله: {أَثْقَالَكُمْ} أي أحمالكم الثقيلة (¬3) . قوله تعالى: {بِشِقِّ الأَنفُسِ} أي: بجهدها -بكسر الشين وفتحها- وهما لغتان بمعنى المشقة وبينهما فرق وهو أن المكسور بمعنى النصف كأنه يذهب نصف قوته ¬

_ (¬1) - المصباح المنير 165. (¬2) - ذكر ذلك الإمام ابن جرير الطبري ج8ص97. (¬3) - المفردات 85و86.

لما ناله من الجهد، وأما المفتوح فهو مصدر شق عليه الأمر شقاً وحقيقة راجعة إلى الشق وهو الصدع، وفي المختار: الشق بالكسر نصف الشيء (¬1) . قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ} الخيل: في الأصل اسم للأفراس, ويرد للفرسان, ويستعمل في كل واحد منهما مفرداً، وفي المصباح: الخيل: معروفة وهي مؤنثة ولا واحد لها من لفظها والجمع خيول، قال: وقال بعضهم: وتطلق الخيل على العراب، وعلى البراذين، وعلى الفرسان، وسميت خيلاً لاختيالها واعجابها بنفسها (¬2) , وفي المفردات: والخيل في الأصل إسم للأفراس والفرسان جميعاً، على ذلك قوله تعالى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْل} ويستعمل في كل واحد منهما مفرداً نحو ما روي (يا خيل الله اركبي) (¬3) فهذا للفرسان، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (عفوت لكم عن صدقة الخيل) (¬4) يعني الأفراس, وذكر نحوه الفيروزأبادي (¬5) . وقوله تعالى: {وَالْبِغَالَ} البغل: حيوان متولد من حيوانين مختلفي النوع، ومعروف أنه يطلق على الحيوان الأهلي المتولد بين الحمار والفرس، والبغال هنا في الآية جمع بغل حيث يجمع على بغال وأبغال, وتسمى الأنثى بغلة وتجمع على بغلات وبغال أيضاً، وفي المصباح: البغل: معروف، وجمع القلة أبغال، وجمع الكثرة بغال، والأنثى بغلة بالهاء، والجمع بغلات مثل سيدة ¬

_ (¬1) - إعراب القرآن وبيانه ج5ص270 , ومختار الصحاح ص85. (¬2) - المصباح المنير ص114. (¬3) - أخرجه أبو داود في سننه باب يا خيل الله اركبي. (¬4) - أخرجه البيهقي في السنن الكبرى باب لا صدقة في الخيل حديث (7198) , وأحمد في المسند عن الامام علي بن أبي طالب رضي الله عنه حديث (984) , والطبراني في المعجم الصغير ج1ص387 حديث (649) . (¬5) - المفردات ص169, والبصائر ج2ص581.

وسيدات (¬1) , وقال الراغب: البغل: المتولد من بين الحمار والفرس (¬2) , وفي المختار: البغل: واحد البغال، والبَغّال بالتشديد صاحب البغل (¬3) . وقوله تعالى: {وَالْحَمِيرَ} الحمار: حيوان معروف ويطلق على الذكر حمار وعلى الأنثى أتان، وفي المصباح: الحمار الذكر والأنثى أتان، وحمارة بالهاء نادر؛ والجمع حمير وحُمُرٌ بضمتين وأحمرة، وحمار أهلي بالتنوين, وجعل أهلي وصفاً وبالإضافة (¬4) , وقال الراغب: الحمار الحيوان المعروف وجمعه أحمرة وحمير وحمر، ويعبر عن الجاهل بذلك لقوله تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} . (¬5) وفي المنجد: الحمار حيوان معروف منه أهلي ومنه وحشي، ويقال لهذا حمار وحش وحمار الوحش والحمار الوحشي وحمار الزرد جنس من الحمر الوحشية أبيض اللون مخطط بخطوط سود، والحمار البري حيوان من فصيلة الخيليات هيكله ما بين الحمار والحصان وهو يعيش في السهول الكبرى المعشبة وفي الجبال (¬6) . وقوله تعالى: {وَزِينَةً} الزينة: ما يتزين به في الحياة من متع الدنيا مما لا حظر فيه ولا تحريم، قال الراغب: الزينة الحقيقة: ما لا يشين الإنسان في ¬

_ (¬1) - المصباح المنير 38. (¬2) - المفردات ص65. (¬3) - مختار الصحاح ص51. (¬4) - المصباح المنير ص93. (¬5) - المفردات ص138 , والأية (5) من سورة الجمعة. (¬6) - المنجد في اللغة والأعلام ص135.

جمال الكون

أحواله لا في الدنيا ولا في الآخرة، فأما ما يزينه من حالة دون حالة فهو من وجه شَينٌ (¬1) . قلتُ: وهذه الزينة هي المدركة بالبصر في الخيل والبغال والحمير ويعرفها العامة والخاصة وينتفع بها. قال القرطبي: المعنى وجعلها زينة، قال: والزينة ما يتزين به وهذا الجمال والتزين وإن كان من متع الدنيا فقد أذن الله تعالى لعباده فيه، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الإبل عز لأهلها والغنم بركة والخيل في نواصيها الخير (¬2)) . (¬3) جمال الكون إن الجمال الذي أودعه الله الكون يجذب الإنسان إلى حبه، ويدعوه إلى شكر ربه الذي أحسن كل شيء خلقه. الم تر هذا الكون في صنعه عبر ... وفي كل شيء وفي طلعته خبر كأن الثريا علقت بجبينه ... وفي جيده الشعرى وفي وجهه القمر وجاء في شعر سلامه العباسي: يخلق الله كل شيء جميلاً ... كل حسن من خالق ديان ¬

_ (¬1) - المفردات ص222. (¬2) - الجامع لأحكام القرآن ج10ص79و80 , والحديث: أخرجه ابن ماجه في سننه باب في اتخاذ الماشية بلفظ: (الإبل عز لأهلها والغنم بركة والخير معقود في نواصي الخيل إلى يوم القيامة) حديث (2305) . (¬3) - انظر لتفصيل أوسع: مؤلفنا خلاصة الكلام في تفسير ايات الاحكام ج (3) ص (12-18) .

فالجمال الرائع من حسن تدبير الصانع، ولضياء الدجيلي: هو الله في الوجود تجلى ... ببديع الآثار للرواد الله جميل يحب الحمال، موصوف بالهيبة والجلال، فانظر نهجه وخلقه، وقد انبت حدائق ذات بهجة، وخلق الإنسان في أحسن تقويم، وأبدع الكائنات في تصوير مستقيم، جمال في كواكب السماء، وحسن يكسو الأشياء، نجوم زاهرة، وبحار زاخرة، وارض مكسوة بأحسن نسيج، وحدائق فيها من كل زوج بهيج، رسم الجمال في الكائنات، وخط الحسن في المخلوقات، وفطر القلوب على محبتها، وإمتاع النفوس إلى النظر إليها، {وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (¬1) . فسبحان من جعل الجمال في الروض الجذاب بجماله الخلاب محبوب، وجعل الطيور تلقي قصائد الحنان على منابر الأغصان، فماء يسكب ونسيم يكتب، وانهار تتدفق، ومسك من الروض يفوح حتى ينضب، حصن باهي، وإبداع ألاهي، {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى* الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى* وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى* وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى* فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى* سَنُقْرِؤُكَ فَلا تَنسَى* إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} (¬2) ، قال الشاعر: ¬

_ (¬1) - سورة الأنعام (99) . (¬2) - سورة الأعلى (1-7) .

الجميل في أسماء الله الحسنى

انظر إلى الروض واشهد ان مبدعه ... رب الوجود عظيم القدر والشانِ وسرح الطرف فبما شئت من حسن ... ما بين زهر وأطيار وأغصان وسبحان من جعل الجمال في الصبح إذا تنفس، وصوره وتقدس، وجعل الجمال في الشمس وهي على الكون تتبرج، ليتمتع بضوئها وحسنها كل حي ويتفرج، وجعل الجمال في القمر حين يبدو علينا بوجه صبيح، ومنظر مليح قال الشاعر: من لم ير هذا الوجود بقلبه ... خسر الجمال ولم تر عيناه فافتح كتاب الكون تقرأ قصة ... هل في الوجود حقيقة إلا هو (¬1) أما الشابي فهو يقول: وقلتُ هوَ الكونُ مَهْدُ الجمالِ ... ولكِنْ لكلِّ جمالٍ خَريفْ الجميل في أسماء الله الحسنى قد ورد هذا الاسم في السنة النبوية ولم يرد في القران الكريم، والله هو سبحانه الجميل الذي لا أجمل منه بل لو كان جمال الخلق كلهم على رجل واحد منهم وكان جميعهم بذلك الجمال، لما كان جمالهم قط نسبه إلى جمال الله، فسبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وقد روي في السنة النبوية ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ) (¬2) ، ومن أحق بالجمال ممن كل جمال في الوجود هو من أثار ¬

_ (¬1) - مقامات القرني ص (279) . (¬2) - صحيح مسلم باب تحريم الكبر وبيانه حديث (91) .

ثمرة معرفة اسم الله الجميل

صنعه، فله جمال الذات، وجمال الأوصاف، وجمال الأفعال، وجمال الأسماء، فأسماؤه كلها حسنى، وصفاته كلها كمال، وأفعاله كلها جميلة، فكلها حكمة ومصلحه وعدل ورحمة. وقال الخطابي: الجميل هو المجمل المحسن، فعيل بمعنى مفعل، وقال البشيري: وقد يكون الجميل معناه ذو النور والبهجة (¬1) أي مالكها. وقال القشيري أيضا: معناه معنى الجليل. وقيل: المعنى جميل الأفعال بكم، والنظر لكم يكلفكم اليسر ويعين عليه، ويثيب عليه الجزيل ويشكر عليه، فيحب الجمال منكم، أي التجمل في قِلّة إظهار الحاجة إلى غيره، قاله أبو بكر الصوفي. قال القرطبي قلت: فهذا الاسم من أسماء الذات ومن أسماء الأفعال، قال: ولا خلاف في إجرائه على العبد وصفاً وفعلاً، يقال منه جمل الشيء يجمل فهو جميل (¬2) . ثمرة معرفة اسم الله الجميل إذا عرف المكلف ان الله جل وعلا جميل يحب الجمال وجب عليه ان يعتقد ان الجمال كله لله سبحانه وتعالى، وان كل جمال منه وبه, ثم ان عليه ان يتجمل بالطاعات والأعمال الصالحة ويجمل باطنه كما يجمل ظاهره وذلك بتصفيته من الأوضار، كالغل والحسد والشماتة وسوء الظن إلى غير ذلك من الاعتقادات الفاسدة والبدع الضالة المضلة، فيكون قلبه موافق ظاهره فيجمل به أهله وولده ومن عاشره وخالطه، ثم ان تفضل الله على ¬

_ (¬1) - الاسماء والصفات للبيهقي ص59. (¬2) - الاسنى في شرح اسماء الله الحسنى للقرطبي ص (292-294) .

عبد بجمال في خلقه وخُلقه ليتم عليه نعمته وفضله، فالواجب إذاً شكر ذلك للمنعم المتفضل (¬1) ، ولا يغتر بما وهبه الله من جمال أو يتكبر وفي السنة النبوية (إِنَّ اللَّهَ يُحِبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ) (¬2) ، وعن الأحوص الجشمي قال: راني النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي اطمار (¬3) فقال: (هل لك من مال؟) قلت: نعم. قال (من أي المال) قلت: من كل ما أتى الله من الإبل والشاء، قال: (فَلْتُرَ نِعْمَةُ اللَّهِ وَكَرَامَتُهُ عَلَيْكَ) (¬4) ، فهو سبحانه يحب ظهور اثر نعمته على عبده، فانه من الجمال الذي يحبه. وذلك من شكره على نعمه، وهو جمال باطن, فيجب ان يرى على عبده الجمال الظاهر بالنعمة, والجمال الباطن بالشكر عليه. ولمحبته سبحانه للجمال انزل على عباده لباساً وزينة تجمل ظاهرهم وتقوى تجمل بواطنهم فقال: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (¬5) ، وقال في أهل الجنة: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً*وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} (¬6) ، فجمل وجوههم بالنضرة وباطنهم بالسرور وأبدانهم بالحرير. وهو سبحانه ¬

_ (¬1) - الاسنى ص (295) . (¬2) - أخرجه الترمذي في سننه باب ما جاء ان الله تعالى يحب ان حديث (2744) . (¬3) - أطمار: جمع طمر وهو الثوب الخَلق البالي. (¬4) - المعجم الكبير للطبراني باب (4) حديث (15950) . (¬5) - سورة الأعراف (26) . (¬6) - سورة الإنسان (11-12) .

كما يحب الجمال في الأقوال والأفعال واللباس والهيئة، يبغض القبيح من الأقوال والأفعال ويحب الجمال وأهله (¬1) . والمؤمن يعرف الله سبحانه وتعالى بالجمال الذي لا يماثله في شيء، ويعبد الله بالجمال الذي يحبه من الأقوال والأعمال والأخلاق، فيجمل لسانه بالصدق، وقلبه بالإخلاص والمحبة والإنابة والتوكل، وجوارحه بالطاعة، وبدنه بإظهار نعمه عليه في لباسه، أو التطهير من النجاسة والأحداث، فيعرف الله بصفة الجمال ويتعرف إليه بالأفعال والأقوال والأخلاق الجميلة، فيعرفه بالجمال الذي هو وصفه، ويعبده بالجمال الذي هو شرعه ودينه. قال الإمام ابن القيم: وفصل النزاع أن يقال الجمال في الصورة واللباس والهيئة ثلاثة أنواع: منه ما يحمد, ومنه ما يذم, ومنه ما لا يتعلق به مدح ولا ذم. فالمحمود منه: ما كان لله, وأعان على طاعة الله, وتنفيذ أوامره والاستجابه له, كما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتجمل للوفود وهو نظير لباس آلة الحرب للقتال ولباس الحرير في الحرب والخيلاء فيه. فإن ذلك محمود إذا تضمن إعلاء كلمة الله ونصر دينه وغيظ عدوه. والمذموم منه: ما كان للدنيا والرئاسة والفخر والخيلاء والتوسل إلى الشهوات وأن يكون هو غاية العبد وأقصى مطلبه, فإن كثيراً من النفوس ليس لها همة في سوى ذلك. ¬

_ (¬1) - الجامع لاسماء الله الحسنى ص (68) .

دعاء الله باسمه الجميل الجليل

وأما ما لا يحمد ولا يذم: هو ما خلا عن هذين القصدين وتجرد عن الوصفين. والمقصود أن هذا الحديث الشريف مشتمل على أصلين عظيمين: فأوله معرفة وأخره سلوك, فيعرف الله سبحانه وتعالى بالجمال الذي لا يماثله فيه شيء, ويعبده من الجمال الذي يحبه من الأقول والأفعال والأخلاق فيحب من عبده أن يجمل لسانه بالصدق, وقلبه بالاخلاص والمحبة والإنابة والتوكل, وجوارحه بالطاعة, وبدنه باظهار نعمه عليه في لباسه وتطهيره له من الأنجاس والأحداث والأوساخ والشعور المكروهة والختان وتقليم الأظفار, فيعرفه بصفات الجمال ويتعرف إليه بالأفعال والأقوال والأخلاق الجميلة, فيعرفه بالجمال الذي هو وصفه, ويعبده بالجمال الذي هو شرعه ودينه, فجمع الحديث قاعدتين: المعرفة والسلوك. (¬1) دعاء الله باسمه الجميل الجليل نسألك اللهم يا جميل يا جليل يا من جماله وجلاله ملؤ الارض والسماء، أن توفقنا والمؤمنين إلى ما تحب وترضى من القول والفعل الجميل، وأن تجملنا بالتقوى وتزيننا بالحلم وان تكرمنا بالعافية، وان تصلنا ببرك وإحسانك الجميل، وأن ترزقنا والمؤمنين محبتك ومحبة شريعتك ومحبة عبادك الصالحين، واتباع هدي نبيك خاتم المرسلين انك على كل شيء قدير، ¬

_ (¬1) - الفوائد لابن القيم، ص (357) ، حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه أبو عبد الرحمن احمد زمرلي, الطبعة الأولى, الناشر: الشركة الجزائرية اللبنانية 1427هـ2006م.

وصلى الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وأزواجه وذريته وصحابته أجمعين كما صليت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم إنك حميد مجيد. وقد أحسن القائل: رب رَحيم مشفق متعطف ... لا يَنتَهي بالحصر ما أَعطاه كَم نعمة أَولى وَكَم من كربة ... أَجلى وَكَم من مُبتَلى عافاه فإذا بليت بغربة أَو كربة ... فادع الإله وَقل سَريعا ياهو لا محسن الظن الجَميل به يَرى ... سوأ وَلا راجيه خاب رجاه وَلحلمه سبحانه يعصى فَلَم ... يعجل عَلى عبد عصى مَولاه يأتيه معتذرا فيقبل عذره ... كَرَما وَيَغفر عمده وَخطاه ياذا الجَلال وَذا الجَمال وَذا الكَرم ... يا منعما عم الانام نداه يا من هوالمعروف بالمَعروف يا ... غوثاه يا رباه يا مولاه ثم الصَلاة عَلى النَبي تخصه ... وَتعم بالخَيرات من والاه ما صاح في عذب العَذيب مغرد ... أَو لاح برق الابرقين سناه (¬1) ¬

_ (¬1) - ديوان البرعي.

الفصل السابع عشر الحسد

الفصل السابع عشر الحَسَدُ

الحاسد جاحد

الحسد الحسد يفسد القلب, ويسخط الرب, ويحرق الكبد, ويذيب الجسد, ويبعث البغضاء, من تخلق به أضر دينه ودنياه, وأضعف يقينه واتبع هواه, فمن طال حسده دام كمده, وكثر تعبه, وضعف بصره, وزلت به إلى الحضيض قدمه, والحسد يفسد على أهل الدين دينهم, وعلى الملوك وأصحاب المال دنياهم, لأنه يحمل على البغي, وجحود النعمة, والتطاول على الخلق, فهو داء عيٌّ قلّما تجد له دواء, إلا من تاب وعاد إلى الحق, وأحب الخلق, فإن الله تواب رحيم, والحسد داء القلوب, ورأس العيوب, من تخلق به ركب المعاصي, واقترف المخازي, وفارق الرشد, ووقع في النكد, ذنب الحاسد لا يبلى, وجرحه لا يؤسى, من تحلى به زل قدمه, وطال ندمه, وساء خلقه, وضل عقله, لا يأمن صاحبه المكائد, ولا تفارقه الشدائد, لإفساد شهوة الحسد لدينه, وإضعافها ليقينه, وقد قيل: "الحسد أشد غرض, والطمع اضر عرض", وأفضل الناس من لم تفسد الشهوة دينه, ولم تزل الشبهة يقينه, وخير الناس من أخرج الحرص من قلبه, وعصى هواه في طاعة ربه, وقد أمر الله بالاستعاذة من شر الحاسد, لأن ضرر الحسد عظيم, وخطره جسيم, وقد جاء في الذكر الحكيم: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} (¬1) . الحاسد جاحد الحسد من الرذائل الخلقية, وهو من أقبح الخصال التي تصيب الإنسان وتنكد له عيشه, والحسود يتمنى الشقاء والنحس لغيره فيشقي نفسه, فهو بدلاً من أن يستمد السرور مما أوتي من خير يراه يستمد الخير من الخير الذي أوتيه سواه, ولله در القائل: اصبر على كيد الحسود ... فإن صبرك قاتله كالنار تأكل نفسها ... إن لم تجد ما تأكله وقال آخر: يا حاسداً لي على نعمتي ... أتدري على من أسأت الأدب أسأت على الله في حكمه ... لأنك لم ترض لي ما وهب فأخزاك ربي بأن زادني ... وسد عليك وجوه الطلب أما الشريف الرضي فهو يقول: وَلا تُؤاخِ منَ الأقوامِ مُنطَوياً ... على الضّغينةِ مملوءاً من الحسدِ ليس المؤمن بحسود ¬

_ (¬1) - سورة الفلق.

المؤمن لا يكره نعم الله ولا يحب زوالها على من أنعم الله عليه, بخلاف الحاسد فإنه يحب زوال نعم الله ويكره دوامها وبقاءها, والمؤمن قد يغبط ولكنه لا يفسق ويحسد, ولهذا أثنى الله تعالى على رهط من المؤمنين من أهل اليمن استوطنوا المدينة وذاقوا حلاوة الإيمان بسلامة ونقاء صدورهم وذهاب الحسد والغيظ من قلوبهم حينما قدَّموا المهاجرين على أنفسهم وانشرحت للإسلام صدورهم فقال جل شأنه: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (¬1) , وقد حكى الله تعالى حسد اخوة يوسف عليه السلام وصنيعهم وعبّر عمّا في قلوبهم وكشف ضميرهم, فقال: {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} (¬2) , وفي ذلك من البيان لمضار الحسد, وحمله على الظلم وفساد المعتقد, واقتراف الذنوب التي تغضب الواحد الأحد, وقد حمل الحسد بعض أهل الكتاب على مودة رد المؤمنين عن إيمانهم حسداً وبغياً من عند أنفسهم, فقال جل شأنه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ ¬

_ (¬1) - سورة الحشر الآيتان (9و10) . (¬2) - سورة يوسف الآيتان (8و9) .

الحسد خطير وعلاجه عسير

كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬1) . الحسد خطير وعلاجه عسير الحسد: تمني زوال النعمة عن صاحبها فهو يلعب دوراً خطيراً, فيمزق أواصر المجتمع, فربما حسد الفقير الغني فأفسد دينه, وحسد النساء الرجال, وحسدت القبيحة من النساء الجميلة, وقديماً قيل: حَسَدوا الفَتى إِذ لَم يَنالوا سَعيهُ ... فَالقَومُ أَعداءٌ لَهُ وَخُصومُ كَضَرائِرِ الحَسناءِ قُلنَ لِوَجهِها ... حَسداً وَبَغياً إِنَّهُ لَدَميمُ (¬2) أما الوأواء الدمشقي (¬3) فهو يقول: هُمْ يَحْسُدُوني عَلَى مَوْتِي فَوا أَسَفِي ... حَتَّى عَلَى المَوْتِ لا أَخْلوُ مِنَ الحَسَدِ فإذا شاع الحسد بين الناس وحسد بعضهم بعضا زال الخير عنهم, وحل الجفاء, واشتعلت نار الفتنة, وعمتهم المصيبة والمحنة, وفي الحديث النبوي: (لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا) (¬4) أي أنهم إذا تحاسدوا زال الخير ¬

_ (¬1) - سورة البقرة الآية (109) . (¬2) - هذان البيتان لأبي الأسود الدؤلي. (¬3) - الوأواء الدمشقي (385هـ/995م) محمد بن أحمد العناني الدمشقي أبو الفرج. شاعر مطبوع، حلو الألفاظ: في معانيه رقة، كان مبدأ أمره منادياً بدار البطيخ في دمشق. له (ديوان شعر-ط) . (¬4) - أخرجه الطبراني في الكبير حديث (8157) .

عنهم, وجاء في حديث آخر: (دب إليكم داء الأمم من قبلكم: الحسد والبغضاء) (¬1) . فالحاسد خلقه اللؤم, ولذته الوشاية, والوقيعة بين الناس, فهو لا ينفك في الدس على المحسود الناجح لأنه يريد تشويه سمعته أو زحزحته من مكانته, والحسود إنسان فاقد الثقة بنفسه, مستشعر العجز عن تحقيق غايته, لذلك نهى القرآن عن الحسد فقال: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} (¬2) , وقد نهى الله في هذه الآية عن تمني ما أوتي الغير وهو التعرض له بالقلب حسداً, فكيف إذا حاول إزالة هذه النعمة واستنكر على ربه تلك المنة إنه يكون بذلك في عداد المستكبرين, وقد حكى الله قصته في محكم الذكر الحكيم, ولقد أخبر الله في الآية السالفة البيان المؤمنين بأن ما يكتسبه الإنسان هو نتيجة عمله وسعيه وما تفضل به عليه ربه فليسأل الله المؤمن أن يعطيه من فضله وبره. ¬

_ (¬1) - أخرجه الترمذي في سننه حديث (2510) . (¬2) -سورة النساء الآية (32) .

الحاسد لا يرد قدر الرازق.

الحاسد لا يرد قدر الرازق. في الأمثال السائرة: "ماذا يصنع الحاسد مع الرازق" أي أن الحسد لا يرد قدر الرازق وهو الله سبحانه وتعالى, فليس له إلا الحسد وعناؤه. وفي مجمع الأمثال للميداني: "ليس للحاسد إلا ما حسد" أي لا يحصل على شيء إلا على الحسد فقط و (ما) مع الفعل مصدر كأنه قيل: ليس للحاسد إلا حسده. (¬1) فالحاسد يستحق الرثاء على نفسه والشفقة عليه مما ألم به, والأحرى بالمحسودين أن يعفوا عن الحاسدين, كما أمر بذلك رب العالمين حيث يقول: {فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ} (¬2) . وقال معن بن زائدة: إِنّي حُسِدتُ فَزادَ اللَهُ في حَسَدي ... لا عاشَ مَن عاشَ يَوماً غَيرَ مَحسودِ ما يُحسَدُ المَرءُ إِلاَّ مِن فَضائِلِهِ ... بِالعِلمِ وَالظَرفِ أَو بِالبَأسِ وَالجودِ (¬3) وفي امثال العرب الحسد داء الجسد, والحسد داء لايبرء, والحسد داعية النكد, والحسد مطية التعب, وقيل الحسود فقير وعند الله حقير, والحسود لايسود, وقيل لاراحة لحسود, وصحة الجسد من قلة الحسد, وفي الذكر الحكيم {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْءَاتَيْنَآءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} (¬4) , {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} (¬5) , ¬

_ (¬1) - مجمع الأمثال ص201. (¬2) - سورة البقرة الآية (109) . (¬3) - انظر: أمالي المرتضى ج1ص415, وزهر الأدب لأبي اسحاق القيرواني ج1ص203, والموسوعة الشعرية ص181. (¬4) - سورة النساء الآية (54) . (¬5) - سورة الفتح الآية (15) .

الحسد ذميم فلا تتخلق به

الحسد ذميم فلا تتخلق به جاء في أدب الجاحظ في ذم الحسد والحاسد: "الحسد أبقاك الله داء ينهك الجسد, علاجه عسير, وصاحبه ضجر, وهو باب غامض, وما ظهر منه فلا يداوى, وما بطن منه فمداويه في عناء, ولذلك قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (دب إليكم داء الأمم من قبلكم: الحسد والبغضاء) (¬1) , والحسد عقيدة الكفر, وحليف الباطل, وضد الحق, منه تتولد العداوة, وهو سبب كل قطيعة, ومفرق كل جماعة, وقاطع كل رحم من الأقرباء, ومحدث التفرق بين القرناء, وملقح الشر بين الخلفاء". (¬2) ولابن سعيد المغربي: ولا تجادل أبداً حاسداً ... فإنه أدعى إلى هيبتك وامشي الهوينى مظهراً عفةً ... وابغ رضا الأعين عن هيبتك أفش التحيات إلى أهلها ... ونبه الناس إلى رتبتك ولأبي حسن التهامي: إِنّي لأَرحَم حاسِديَّ لِحَرِ ما ... ضَمَّت صُدورُهُم مِنَ الأَوغارِ نَظَروا صَنيعَ اللَهِ بي فَعُيونُهُم ... في جَنَّةٍ وَقُلوبهم في نارِ أما الطغرائي فهو يحذر من عداوة الحاسد فيقول: جاملْ عدوَّكَ ما استطعتَ فإنهُ ... بالرِفْقِ يُطْمَعُ في صلاح الفاسدِ واحذرْ حسودَك ما استطعتَ فإنه ... إن نِمْتَ عنه فليسَ عنك براقدِ إن الحسودَ وإن أراكَ توَدُّداً ... منه أضرُّ من العدوِّ الحاقدِ ¬

_ (¬1) - أخرجه الترمذي في سننه حديث (2510) . (¬2) - مجلة المنار نقلا عن رسالة الحاسد والمحسود للجاحظ ج1ص574.

الكرام من الناس تحسد

ولَربَّما رَضِيَ العدوُّ إِذا رأى....منك الجميلَ فصار غيرَ معاندِ ورِضا الحسودِ زوالُ نعمتِكَ التي ... أُوتِيتَها من طَارفٍ أو تالدِ فاصْبِرْ على غَيظِ الحسودِ فنارُهُ ... ترمي حشاهُ بالعذابِ الخالدِ أوما رأيتَ النارَ تأكلُ نفسها ... حتى تعودَ إِلى الرَّمادِ الهامدِ تضفو على المحسود نعمة ربِّهِ ... ويذوبُ من كَمَدٍ فُؤادُ الحاسدِ (¬1) الكرام من الناس تُحسد الكرام تُحسد, والفضيلة بين اللئام تُجحد, فإن شئت أن تكون من أهل الفلاح فلا تحسد لتُرشد, وقد جاء في شعر عمر بن لجأ التيمي: إِنَّ العَرانينَ تَلقاها مُحَسَّدَةً ... وَلا تَرى لِلِئام الناسِ حُسّادا كَم حاسِدٍ لَهمُ يَعيَ بِفَضلِهُمُ ... ما نالَ مِثلَ مَساعيهِم وَلا كادا وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما من احد له نعمة الاوجدت له حاسدا, ولو كان المرء اقوم من القدح لوجدت له غامزا, وما ضرت كلمة لم يكن لها خواطب. وقال علي رضي الله عنه: لاراحة لحسود, ولا اخاء لملول, ولا محب لسيء الخلق. ... أما الكميت بن زيد الأسدي فهو يقول: إن يحسدوني فإني لا ألومهم ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا فدام بي وبهم مالي ومالهمُ ... ودامَ أكثرُنا غيظاً بما يَجِدُ أنا الذي يجِدوني في حلوقهِم ... لا أرتقي صُعداً فيها ولا أردُ وفي ديوان بشار بن برد: إِن يَحسُدوني فَإِنّي غَيرُ لائِمِهِم ... قَبلي مِنَ الناسِ أَهلُ الفَضلِ قَد حُسِدوا ¬

_ (¬1) - ديوان الطغرائي ص135.

فَدامَ لي وَلَهُم ما بي وَما بِهِمُ....وَماتَ أَكثَرُنا غَيظاً بِما يَجِدُ أما حبيب الطائي فهو يقول: وَإِذا أَرادَ اللَهُ نَشرَ فَضيلَةٍ ... طُوِيَت أَتاحَ لَها لِسانَ حَسودِ لَولا اِشتِعالُ النارِ فيما جاوَرَت ... ما كانَ يُعرَفُ طيبُ عَرفِ العودِ (¬1) وكان العرب يرون أن الرجل النبيل محسود, وأن من لا يحسد ولا يعادى لا يعتد به, قال الشاعر: ولست بحي ولا ميت ... إذا لم تعادَ ولم تحسدِ وقال عروة ابن أذينة في وصف الحسدة والدعاء لهم: لا يُبعِدُ اللَهُ حُسّادي وَزادَهُمُ ... حَتّى يَموتوا بِداءٍ فِيَّ مَكنونِ إِنّي رَأَيتُهُمُ في كُلِّ مَنزِلَةٍ ... أَجَلَّ قَدراً مِن اللاّئي يُحِبّوني (¬2) ورحم الله دعبل الخزاعي حيث يقول: وَذي حَسَدٍ يَغتابُني حينَ لا يَرى ... مَكاني وَيُثني صالِحاً حينَ أَسَمعُ وَيَضحَكُ في وَجهي إِذا ما لَقيتُهُ ... وَيَهمِزُني بِالغَيبِ سِرّاً وَيَلسَعُ (¬3) أما عبد الرحيم البرعي فهو يقول: ما زالَ يحسدني دَهري عَلى نعم ... وَالحر ما عاشَ لا يَخلو عَن الحسد ويقول الإمام الشوكاني: فلَرُبّما نَشَرَ الإلَهُ فَضِيلَةً ... لِلْمَرْءِ قَدْ جُهِلَتْ بِقَوْلِ الحُسَّدِ ¬

_ (¬1) - زهر الأدب لأبي اسحاق القيرواني ج1ص202, والموسوعة الشعرية ص183, ونسب هذا البيت لأبي تمام. (¬2) - أمالي المرتضى ج1ص415. (¬3) - ديوان دعبل ص226.

قصة لقيس بن زهير:

قصة لقيس بن زهير: قال معمر بن المثنى: مر قيس بن زهير ببلاد غطفان, فرى ثورة وعددا, فكره ذلك, فقيل له: ايسوؤك مايسر الناس؟ قال: انك لاتدري ان مع النعمة والثروة التحاسد والتخاذل, وان مع القلة التحاشد والتناصر. علاج الحسد إن التوقي من الحسد لا يكون إلا بالالتجاء إلى الله الواحد الأحد, والاستعاذة من شر الشيطان الرجيم, والاعتراف بنعمة الله العزيز الحكيم, واجتناب تعاطي الحسد وأسبابه, فالله يهب من الفضل ما يشاء لمن يشاء وليتذكر الحاسد أن الحسد يمحو الحسنات وانه لا فائدة ترجى من الحسد, وأن من تخلق به لم يكن كامل الإيمان, وأن الحسد فيه التعرض لنعمة الخالق وسخطه, وأنه يجلب المصائب, ويزيل النعم, ويفتك بصاحبه, ويمحو الذكر الحسن لحامله, وإن ترك الحسد فيه الاستقامة, وعنوان العقل والكرامة, وأن الله جل وعلا يعطي الخير من يشاء ويمنع الشر عمّن يشاء, وأن الرضاء بالقضاء والقدر والإيمان به من الإيمان, وأن في سؤال الله العافية الشفاء من هذا الداء, والاسترشاد بما أرشد الله عباده إليه فيه النجاة والهدى. وقد لخص الغزالي في إحياء علوم الدين أضرار الحسد في الدنيا والدين وأرشد إلى الدواء الذي ينفيه وهو العلم والعمل, فارجع إن شئت التوسع إليه. وسارع أخي إلى التخلص من الحسد ودائه, وتب إلى الله قبل ذهاب العمر وفنائه, ورحم الله الشريف المرتضى حيث يقول: وَمِنَ السَّعادةِ أَن تَموتَ وَقَد مَضى ... مِن قبلكَ الحُسّادُ والأعداءُ (¬1) ¬

_ (¬1) - ديوان الشريف المرتضى ج1ص14.

وقد أحسن المتنبي حيث يقول: وَأَظلَمُ أَهلِ الظُلمِ مَن باتَ حاسِداً ... لِمَن باتَ في نَعمائِهِ يَتَقَلَّبُ (¬1) ¬

_ (¬1) - ديوان المتنبي ص466.

الفصل الثامن عشر الغيبة

الفصل الثامن عشر الغيبة

الغيبة

الغيبة الغيبة دأب اللئام, وهي من آفات اللسان, فمن نطق بالغيبة كثر غلطه, وحوسب على كلامه, وتضاعفت آثامه, وكثر عتابه, وفقد أصحابه؛ لقوله ما لا ينبغي, ووصفه للناس بما يؤذي, واتباعه للهوى, فمن غلبت عليه شهوة الكلام تطاول في أعراض الكرام, والغيبة رذيلة اجتماعية تولد الكراهية, وتضر بالعلاقات الإنسانية, وتسبب القطيعة والجفا, ولذا ورد النهي عنها في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (¬1) , ومن ذا الذي يحب أكل لحم أخيه؟ إلا من ذكر غيره بما فيه من عيب ولم يحذر سموم الاغتياب إلى أن يقع في العذاب, فالمرء مؤاخذ بعزمه على المعصية, قال الشاعر: أنى يكون أخي أو ذا محافظة ... من كنت في غيبه مستشعراً وجلا إذا تغيب لم تبرح تظن به ... سوءاً وتسأل عمّا قال أو فعلا وقال آخر: وَاِحذَر سُموم الإِغتياب فَلَن تَرى ... في الخَلق مُغتاباً صَحيح أَديم ولبعضهم: وإذا استغاب أخو الجهالة عالماً ... كان الدليل على غزارة جهله أهل المظالم لا تكن تبلى بهم ... فالمرء يحصد زرعه من حقله ¬

_ (¬1) - سورة الحجرات الآية (12) .

حد الغيبة

حد الغيبة حد الغيبة أن تذكر أخاك بما يكره لو بلغه سواء ذكرته بنقص في بدنه, أو نسبه, أو خلقه, أو في فعله, أو في قوله, أو دينه, أو دنياه, حتى ثوبه وداره ودابته, أما البدن فكذكرك وصف مما يكره أخوك وذلك كالطول والقصر والسواد والصفرة وكل ما يتصور أن يتأذى منه, وأما الخلق فكأن تقول: هو سيء الخلق أو بخيل أو متكبر أو عاجز أو ضعيف أو متهور أو سارق أو كذاب أو خائن أو ظالم أو متهاون أو فاسق أو خسيس إلى غير ذلك مما لا يندرج تحت حصر, وضابط الأمر أنه كلما يكره أخوك أن تذكره به فهو غيبة, ومما نسب إلى عمر رضي الله عنه أنه قال: (عليكم بذكر الله تعالى فإنه شفاء, وإياكم وذكر الناس فإنه داء) . ولا ينبغي للمسلم أن يصغي لسماع الغيبة بل إنه يدفع عن أخيه, فإن بالدفاع بالكلام الحسن خير الدنيا والآخرة, ومن رذائل الغيبة أن من أصغى إلى سماعها حوسب, وقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكرت له امرأة وكثرة صلاحها وصومها ولكنها تؤذي جيرانها بلسانها فقال: (هي في النار) (¬1) . وقال الحسن ذكر الغير ثلاثة: الغيبة والبهتان والإفك, وكل في كتاب الله عز وجل, فالغيبة أن تقول ما فيه, والبهتان أن تقول ما ليس فيه, والإفك أن تقول ما بلغك. ¬

_ (¬1) - أخرجه الحاكم في المستدرك كتاب البر والصلة حديث (7304) , واحمد في المسند عن أبي هريرة حديث (9673) .

وقد حكى بعض العلماء أن من الأسباب الداعية إلى الغيبة: اشفاء الغيظ, ومن اتقى الله لم يشف غيظه, ومن أسباب الغيبة حب موافقة الأقران, ومجاملة الرفقاء والخلان, وذلك خلق غير محمود, ومن الأسباب الداعية إلى الغيبة إرادة التصنع, والمباهاة, والتمثيل, والاستهزاء, والسخرية, والحسد, واللعب, وكل ذلك مذموم. ويرحم الله محمد بن اسماعيل الأمير الصنعاني حيث يقول: إياك إياك أعراض الرجال وإن ... راقت بفيك فإن السم في الدسم (¬1) أما أبو العتاهية فهو يقول: إياك والغيبة والنميمة ... فإنها منزلة ذميمة (¬2) ولبعض الشعراء: لا تهتكن من مساوي الناس ما ستروا ... فيهتك الله ستراً من مساويك واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ... ولا تعب أحداً منهم بما فيك (¬3) وإنما يجترئ على اغتياب الناس كثير الخطايا والذنوب والعيوب, وكفى بالمرء شراً أن لا يكون صالحاً وهو يقع في الصالحين, قال المتنبي: وَإِذا أَتَتكَ مَذَمَّتي مِن ناقِصٍ ... فَهِيَ الشَهادَةُ لي بِأَنِّيَ كامِلُ ¬

_ (¬1) - ديون ابن الأمير ص365. وهو العلامة المحدث المحقق الإمام محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد الحسني الكحلاني الصنعاني أبو إبراهيم عز الدين. (1099-1182هـ/1688-1768م) صاحب التصانيف الفائقة المشهور بالأمير الصنعاني, من كتبه (توضيح الأفكار شرح تنقيح الأنظار - ط) في مصطلح الحديث (سبيل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام لابن حجر العسقلاني - ط) ، (منحة الغفار) حاشية ضوء النهار (اليواقيت في المواقيت - خ) ، وغيرها الكثير. وله (ديوان شعر - ط) . (¬2) - ديوان أبي العتاهية ص446. (¬3) - العقد الفريد ج2ص183 , والموسوعة الشعرية ص257.

من اغتاب أغتيب

واغتياب المرء غيره دليل على عيبه واستمراره في غيه, وقديماً قيل: "من وجدتموه غياباً وجدتموه معيباً لأنه يعيب الناس بفضل عيبه", وفي ذلك يقول الشاعر: ويأخذ عيب المرء من عيب نفسه ... مراد لعمري ما أراد قريب قال ابن عبد البر: سمع إعرابي رجل يقع في الناس فقال: قد استدللت على عيوبك بكثرة ذكرك لعيوب الناس, لأن الطالب لها يطلبها بقدر ما فيه منها. قال الشاعر: وأجرؤ من رأيت بظهر غيب ... على عيب الرجال أخو العيوب (¬1) أما المقنع الكندي فإنه يرى التعفف والترفع عن حال من يأكل لحوم الناس محل مجده وفخره فيقول: وَإِن الَّذي بَيني وَبَين بَني أَبي ... وَبَينَ بَني عَمّي لَمُختَلِفُ جِدّا أَراهُم إِلى نَصري بِطاءً وَإِن هُمُ ... دَعَوني إِلى نَصرٍ أَتيتُهُم شَدّا فَإِن يَأكُلوا لَحمي وَفَرتُ لحومَهُم ... وَإِن يَهدِموا مَجدي بنيتُ لَهُم مَجدا وَإِن ضَيَّعوا غيبي حَفظتُ غيوبَهُم ... وَإِن هُم هَوَوا غَييِّ هَوَيتُ لَهُم رُشدا من اغتاب أغتيب إن من يتعرض لأعراض الناس يتعرضون لعرضه, وقديماً قيل: "من رمى الناس بما فيهم رموه بما ليس فيه", وقيل: "بحثك عن عيوب الناس يدعو إلى بحثهم عن عيوبك", قال الشاعر: ومن دعا الناس إلى ذمه ... ذموه بالحق وبالباطل (¬2) ¬

_ (¬1) - البيان والتبيين للجاحظ ج1ص58 , ومعجم الأدباء لياقوت الحموي ج2ص276. (¬2) - محاضرات الراغب ص158.

قصة للحسن البصري رحمه الله

قصة للحسن البصري رحمه الله روي عن الحسن البصري قال: ان رجلا قال: ان فلانا اغتابك فبعث اليه طبقة من الرطب , وقال: بلغني انك اهديت الي حسناتك, فأردت ان اكافئك عليها, فاعذرني, فإني لااقدر ان اكافئك بها على التمام (¬1) . وفي الأمثال السائره: الغيبة جهد العاجز, ومن اغتاب خرق, ومن استغفر رقع (¬2) . علاج الغيبة لسانك حصانك, وخيرك يعلم من محبتك لاخوانك, فمن رضي لنفسه بالإساءة شهد على نفسه بالرداءة والدناءة, ومن زال معهود إحسانه استحال موجود إمكانه, ومن عف عن الريبة كف عن الغيبة, وإن من أعظم الفجائع إضاعة الصنائع, ومن حسن الصنيعة الكف عن الأذى والقطيعة, وقديماً قيل: "التوبة تسقط العقوبة, وإحسان النية يوجب المثوبة", وإن من يتملق لك بذكر معائب الناس اليوم يقع في عرضك غداً. قال الشاعر: إِنَّ شَرَّ الناسِ مَن يَضحكُ لي ... حينَ يَلقاني وَإِن غِبتُ شَتَم وَكلامٍ سَيِّئٍ قَد وَقَرَت ... عَنهُ أُذُنايَ وَما بي مِن صَمَم وَلَبَعضُ الصَفحِ وَالإِعراضِ عَن ... ذي الخَنا أَبقى وَإِن كانَ ظَلَم (¬3) ¬

_ (¬1) - دليل السائلين ص 482 (¬2) - معجم كنوز الأمثال ص 242 (¬3) - وردت هذه الأبيات للمثقب العبدي, وورد البيت الأول أيضاً للمتلمس بلفظ:.... يكشر لي

إن علامة المسلم التي يستدل بها على إسلامه سلامة المسلمين من يده ولسانه, حسن معاملته لإخوانه, وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري أنه قال: (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الإِسْلامِ أَفْضَلُ قَالَ: مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ) (¬1) . فحفظ اللسان إلا فيما ينفع من علامات الإيمان, فاللسان أملك شيء للإنسان, فإذا حفظ الإنسان لسانه وصان نطقه وكلامه عن اغتياب الناس نجا, وقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي: (إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا) (¬2) , وجاء في كلام بعض الشعراء: لِسانُ الفَتى نِصفٌ وَنِصفٌ فُؤادُهُ ... فَلَم يَبقَ إِلا صورَةُ اللَحمِ وَالدَمِ وفي الأمثال السائرة: "من أساء فعلى نفسه اعتدى, ومن طال تعديه كثرت أعاديه", وقيل: "من ساء كلامه لم يأمن أبداً, ومن حسن كلامه لم يخف أحداً, ومن طال عدوانه زال سلطانه, ومن ظلم نفسه ظلم غيره, ومن أساء اجتلب البلاء, ومن أحسن اكتسب الثناء, وشر الأقوال ما أجلب الملام, وشر الآراء ما خالف الشريعة, وأقبح الكلام ما كان غيبة أو نميمة". ¬

_ (¬1) - أخرجه البخاري في صحيحه باب أي الاسلام أفضل حديث (11) , ومسلم في صحيحه باب تفاضل الإسلام وأي أموره حديث (41) . (¬2) - أخرجه الترمذي في سننه باب ما جاء في حفظ اللسان حديث (2407) .

الصمت وأدب اللسان

وجاء في شعر الإمام الشافعي رضي الله عنه: إِذا رُمتَ أَن تَحيا سَليماً مِنَ الرَدى ... وَدينُكَ مَوفورٌ وَعِرضُكَ صَيِّنُ فَلا يَنطِقَن مِنكَ اللِسانُ بِسَوأَةٍ ... فَكُلُّكَ سَوءاتٌ وَلِلناسِ أَلسُنُ وَعَيناكَ إِن أَبدَت إِلَيكَ مَعائِباً ... فَدَعها وَقُل يا عَينُ لِلناسِ أَعيُنُ وَعاشِر بِمَعروفٍ وَسامِح مَنِ اِعتَدى ... وَدافِع وَلَكِن بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ الصمت وأدب اللسان إن من لزم الصمت غدا في عقله فاضلاً, وفي جهله عاقلاً, وفي قدرته حليماً, وفي عجزه حكيماً, وقد قيل: "إياك وفضول الكلام فإنه يظهر من عيوبك ما بطن ويحرك من عدوك ما سكن, فكلام المرء بيان فضله وترجمان عقله, فالعاقل من اقتصر على الجميل, واقتصر من الكلام على القليل", فخير الناس من حفظ لسانه, وكف عن عرض أخيه واعرض عمّا لا يعنيه, وفي الحديث النبوي حكمة ومثل: (مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ) (¬1) . وقال أبو حاتم رضي الله عنه: الصمت يكسب المحبة والوقار, ومن حفظ لسانه أراح نفسه, والرجوع من الصمت أحسن من الرجوع عن الكلام, والصمت منام العقل والمنطق يقظته, وعن أنس أن لقمان قال: "من الحكم الصمت وقليل فاعله", وأنشد للكريزي: أقلل كلامك واستعذ من شره ... إن البلاء ببعضه مقرون واحفظ لسان واحتفظ من غييه ... حتى يكون كأنه مسجون (¬2) وقال مالك بن أنس: كل شيء ينتفع بفضله إلا الكلام فإن فضله يضر. ¬

_ (¬1) - أخرجه الترمذي في سننه باب فيمن تكلم بكلمه يضحك بها الناس حديث (2317) . (¬2) - ووردت أيضا منسوبة لعبد الله بن طاهر.

وقال أبو الدرداء: لا خير في الحياة إلا لأحد رجلين منصت واعٍ أو متكلم عالم. (¬1) , ولقد أحسن من قال: إِن كانَ يُعجِبُكَ السُكوتُ فَإِنَّهُ ... قَد كانَ يُعجِبُ قَبلَكَ الأَخيارا وَلَئِن نَدِمتَ عَلى سُكوتِكَ مَرَّةً ... فَلَقَد نَدِمتَ عَلى الكَلامِ مِرارا وفي الامثال السائرة: عي الصمت أحسن من عي المنطق، العِيُّ-بالكسر المصدر-,والعَيُّ-بالفتح-الفاعل، يعني عِيٌ مع صمت خير من عي مع منطق، وهذا كما يقال السكوت ستر ممدود على العي، وفدام (¬2) على الفدامة. قال الشاعر: خَلِّ جَنبَيكَ لِرامِ ... وَاِمضِ عَنهُ بِسَلامِ مُت بِداءِ الصَمتِ خَيرٌ ... لَكَ مِن داءِ الكَلامِ عِش مِن النَاسِ إنْ اسطعـ ... ـت سَلاماً بِسَلامِ (¬3) وقديماً قيل: عثرة القدم اسلم من عثرة اللسان، وليس من العدل سرعة العذل, أي لا تعجل فيما تقول أو فيما تأتي قبل ان تعرف العذر لأنك ربما وقعت في الخطأ. وقد قال بعض الصالحين: "الزم الصمت يُكسبك صفو المحبة, ويأمنك سوء المغبة, ويلبسك ثوب الوقار, ويكفك مؤنة الاعتذار", وقيل: "الصمت آية الفضل, وثمرة العقل, وزين العلم, وعون الحلم؛ فالزمه تلزمك السلامة", ¬

_ (¬1) - روضة العقلاء ص37. (¬2) - الفدام- بوزن سحاب او كتاب- المصفاة تجعل على فم الابريق ليصفى ما فيه. (¬3) - وردت هذه الابيات في مجمع الامثال للميداني ج (2) ص (25) غير منسوبة الى قائل بعينه، غير انها وردت هذه الابيات منسوبة الى ابي نواس في ديوانه والله اعلم.

الإصغاء إلى الغيبة

فكم من دم سفكه فم, وإنسان أهلكه لسان, فمن قال ما لا ينبغي سمع ما لا يشتهي, فقصر كلامك تسلم, وأطل احتشامك تكرم. (¬1) الإصغاء إلى الغيبة من أصغى إلى الغيبة فقد وقع في الإثم والريبة, فصن سمعك عن الغيبة والأذى, فإنك مسئول عن سمعك وبصرك ولسانك, فلا تكن من الغافلين, وفي الذكر الحكيم: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (¬2) . فأحسن استخدام سمعك قبل فوات وقتك وحلول سؤالك, وتب عمّا سمعته من القبيح؛ تستقم وتسترح, وقد جاء في شعر محمود الوراق: وَسَمعَكَ صُن عَن سَماعِ القَبيحِ ... كَصَونِ اللِسانِ عَنِ النُطقِ بِه فَإِنَّكَ عِندَ اِستِماعِ القَبيحِ ... شَريكٌ لِقائِلِهِ فَاِنتَبِه (¬3) الأعذار المرخصة في الغيبة إذا كان الأصل هو حفظ اللسان وعدم جواز الخوض في الإعراض فان العاقل يحافظ على لسانه, أما إذا دعت الضرورة لاستماع شيء مما رخص فيه كأن تريد أن تتظلم مما وقع عليك من سلطان غشوم أو جبار نهوم أو أردت تغيير منكر, أو تغيير المعاصي التي تذكر, أو تستفتي عن حال رجل شحيح, أو تحذر من حال منافق أو مبتدع فاسق, أو كان هناك من يجاهر بالمعاصي, فإنه في مثل هذه الحالة قد ورد الترخيص في السماع والجهر بالظلامة التي اقتضت التعريف, وفي ذلك يقول الخبير اللطيف: {لاَّ يُحِبُّ اللهُ ¬

_ (¬1) - الفرائد والقلائد ص27. (¬2) - سورة الإسراء الآية (36) . (¬3) - الذريعة إلى مكارم الشريعة ص283 , والموسوعة الشعرية ص255.

الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً} (¬1) , وقد جاء في الحديث الصحيح أن هند بنت عتبة قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح فقال عليه الصلاة والسلام: (خذي ما يكفيك) (¬2) . وجاء في كلام بعض الشعراء: القدح ليس بغيبة في ستة ... متظلم ومعرف ومحذر ولمظهر فسقاً ومستفت ومن ... طلب الإعانة في إزالة منكر والعاقل لا يكون حاله كحال من وصفهم الشاعر بقوله: صم إذا سمعوا خيراً ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء عندهم أذنُ (¬3) ¬

_ (¬1) - سورة النساء الآية (143) . (¬2) - أخرجه البخاري في صحيحه باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه حديث (5049) . (¬3) - الأمالي للقالي ص126.

الفصل التاسع عشر النميمة

الفصل التاسع عشر النميمة

النميمة

النميمة النميمة خصلة ذميمة, فاحفظ لسانك عن الشتيمة والنميمة, والزم الصمت تغد في عقلك فاضلاً, وفي جهلك عاقلاً, وفي قدرتك حليماً, وفي عجزك حكيماً, واقصر كلامك على الجميل, واقتصر منه إلا في الثناء على الله الملك الجليل, وإياك والكلام الذي يوحش الاخوان, ويسخط الرحمن, ورحم الله القائل: من نمَّ في الناس لم تؤمن عقاربه ... على الصديق ولم تؤمن أفاعيه كالسيل بالليل لا يدري به أحد ... من أين جاء؟ ولا من أين يأتيه (¬1) أما الشريف الرضي فهو يقول: وَهُم نَقَلوا عَنّي الَّذي لَم أُفُه بِهِ ... وَما آفَةُ الأَخبارِ إِلا رُواتُها وكيف يكون للنمام أمانة, وسعيه بها بين الناس خيانة, وإذا كانت النميمة تعني نقل الكلام بين الناس لإيقاع الأذى وإلحاق الضرر بهم فإنها بلا شك من الكبائر, ويكفي لإثبات ذلك قول العزيز الحكيم: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} (¬2) , وجاء في معرض الذم للمكذبين قول العزيز الحكيم: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} (¬3) , كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يدخل الجنة نمام) وفي لفظ: (قتات) (¬4) . ¬

_ (¬1) - ورد البيت الأول منسوباً لإبراهيم المهدي كما في محاضرات الراغب ص159, وورد البيتان منسوبان إلى الكرزي كما في نهاية الآرب والمستطرف وروضة العقلاء ص140, والموسوعة الشعرية ص296. (¬2) - سورة الهمزة الآية (1) . (¬3) - سورة القلم الآيتان (10و11) . (¬4) - أخرجه مسلم في صحيحه باب بيان غلظ تحريم النميمة حديث (105) .

وقال الشاعر: إن النميمة نار ويك محرقة ... ففر عنها وجانب من تعاطاها (¬1) فالنميمة مضارها جسيمة, وآفتها عظيمة, فهي تقطع علائق المودة, وتبعث العداوة والبغضاء والشدة, فمن جعل النمام خليله هلك, ويرحم الله أبا العتاهية حيث يقول: مَن جَعَلَ النَمّامَ عَيناً هَلَكا ... مُبلِغُكَ الشَرَّ كَباغيهِ لَكا أما الأعشى الكبير فهو يقول: وَمَن يُطِعِ الواشينَ لم يَترُكوا لَهُ ... صَديقاً وَإِن كانَ الحَبيبَ المُقَرَّبا (¬2) أما صالح بن عبد القدوس فهو يرى أن من يخبرك بشتم أخ فهو الشاتم وذلك حيث يقول: من يُخبرك بِشَتمِ عَن أَخ ... فَهوَ الشاتِم لا من شَتَمَك ذاكَ شَيءٌ لم يُواجِهك بِهِ ... إِنَّما اللَومُ عَلى مَن أَعلَمَك كَيفَ لَم يَنصُركَ إِن كانَ أَخاً ... ذا حِفاظ عِندَ من قد ظَلَمَك قال الامام علي رضي الله عنه: يعمل النمام من ساعة فتنة اشهر. وقال الأمام الشافعي رحمه الله: من نمّ لك نم بك ومن اذا ارضيته قال فيك ما ليس فيك, واذا اغضبته قال فيك ما ليس فيك, وقال وهب ابن منبه رحمه الله: من مدحك بما ليس فيك فلا تأمن ان يذمك بما ليس فيك, وقال ¬

_ (¬1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج20ص163. (¬2) - الشعر والشعراء لابن قتيبة ج2ص576.

الحسن البصري رحمه الله, من نقل اليك حديثا, فاعلم انه ينقل الى غيرك حديثك. ولله در النابغة الذيباني حيث يقول: لَئِن كُنتَ قَد بُلِّغتَ عَنّي خِيانَةً ... لَمُبلِغُكَ الواشي أَغَشُّ وَأَكذَبُ (¬1) أما أبو الأسود الدؤلي فهو يقول: لا تُبدِيَنَّ نَميمَةً حُدِّثتَها ... وَتَحَفَّظَنَّ مِن الَّذي أَنباكَها إن الذي أهدى إليك نميمة ... سينم عنك بمثلها قد حاكها وقال آخر: تمشيت فينا بالنميمة وإنما ... تفرق بين الأصفياء النمائم ومما نسب إلى سليمان بن داود عليهما السلام أنه قال لابنه: "يا بني إياك والنميمة فإنها أحد من السيف". وقال أبو حاتم رحمه الله: "الواجب على الناس كافة مجانبة الأفكار في السبب الذي يؤدي إلى البغضاء والمشاحنة بين الناس, والسعي فيما يفرق جمعهم ويشتت شملهم, ولا يقبل سعاية الواشي بحيلة من الحيل لعلمه بما يرتكب الواشي من الإثم في العقبى بفعله". (¬2) ¬

_ (¬1) - ديوان النابغة الذيباني ص27, والموسوعة الشعرية ص296. والنابِغَة الذُبياني: هو زياد بن معاوية بن ضباب الذبياني الغطفاني المضري، أبو أمامة (18ق. هـ/605م) , شاعر جاهلي من الطبقة الأولى، من أهل الحجاز، كانت تضرب له قبة من جلد أحمر بسوق عكاظ فتقصده الشعراء فتعرض عليه أشعارها. وكان الأعشى وحسان والخنساء ممن يعرض شعره على النابغة. كان حظياً عند النعمان بن المنذر، حتى شبب في قصيدة له بالمتجردة (زوجة النعمان) فغضب منه النعمان، ففر النابغة ووفد على الغسانيين بالشام، وغاب زمناً. ثم رضي عنه النعمان فعاد إليه. شعره كثير وكان أحسن شعراء العرب ديباجة، لا تكلف في شعره ولا حشو. عاش عمراً طويلاً. (¬2) - روضة العقلاء ص141.

قصة لعمر بن عبد العزيز رحمة الله:

فالواجب على العاقل لزوم السلامة بترك التجسس عن عيوب الناس مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه. قصة لعمر بن عبد العزيز رحمة الله: روي ان عمر بن عبد العزيز دخل عليه رجل, فذكر عنده وشاية في رجل اخر, فقال له عمر: إن شئت حققنا هذا الامر الذي تقول فيه وننظر فيما نسبته اليه, فإن كنت كاذبا فأنت من اهل هذه الاية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (¬1) , وإن كنت صادقا فأنت من اهل هذه الاية: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} (¬2) , وإن شئت عفونا عنك فقال: العفو ياامير المؤمنين , لاأعود الى مثل ذلك ابدا. سوء الظن سوء الظن يقود إلى التجسس وإفساد ما بين الراعي والرعية, ولهذا ورد في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلا تَحَسَّسُوا وَلا تَجَسَّسُوا وَلا تَحَاسَدُوا وَلا تَدَابَرُوا وَلا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا) (¬3) . وقد قيل: التجسس من شعب النفاق كما أن حسن الظن من شعب الإيمان, والعاقل يحسن الظن باخوانه وينفرد بغمومه وأحزانه, كما أن ¬

_ (¬1) - سورة الحجرات الآية (6) . (¬2) - سورة القلم الآية (11) . (¬3) - أخرجه البخاري في صحيحه باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر حديث (5717) , ومسلم في صحيحه باب تحريم الظن والتجسس حديث (2563) .

الجاهل يسيء الظن باخوانه

الجاهل يسيء الظن باخوانه ولا يفكر في جنايته وأشجانه, ولقد أحسن الذي يقول: ما يستريح المسيء ظناً ... من طول غم وما يريح وقل وجه يضيق إلا ... ودونه مذهب فسيح من خفف الله عنه هبت ... من كل وجه إليه ريح والجسم حيث استقر هاد ... والروح جوالة تسيح كم تذبح الأم من بنيها ... كل بنيها لها ذبيح لن يهلك المرء من سماح ... وقل ما يفلح الشحيح قال أبو حاتم رضي الله عنه: "سوء الظن على ضربين: أحدهما منهي عنه بحكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم, والآخر مستحب, فأما الذي نهى عنه فهو استعمال سوء الظن بالمسلمين كافة, وأما الذي يستحب من سوء الظن فهو كمن بينه وبين آخر عداوة أو شحناء في دين أو دنيا يخاف على نفسه مكره فحينئذ يلزمه سوء الظن بمكائده ومكره كي لا يصادفه على غرة بمكره فيهلكه", قال الشاعر: وحسن الظن يحسن في أمور ... ويمكن في عواقبه ندامة وسوء الظن يسمج في وجوه ... وفيه من سماجته حزامه (¬1) ¬

_ (¬1) - روضة العقلاء ص101و102.

ثمرة النميمة

ثمرة النميمة العاقل يجانب النميمة لأنها تثمر هتك الأستار, وتدفع إلى إفشاء الأسرار, وتورث الضغائن, وترفع المودة, وتجدد العداوة, وتبدد الجماعة, وتهيج الحقد, وتزيد الصد, فمن وشيء إليه عن أخ كان الواجب عليه معاتبته على الهفوة إن كانت, وقبول العذر إذا اعتذر, وترك الإكثار من العتب مع توطين النفس على الشكر عند الحفاظ, وعلى الصبر عند الضياع, وعلى المعاتبة عند الإساءة, قال الشاعر: أعتاب اخواني وابقي عليهم ... ولست لهم بعد العتاب بقاطع واغفر ذنب المرءِ إن زل زلة ... إذا ما أتاها كارها غير طائع وأجزع من لوم الحليم وعذله ... وما أنا من جهل الجهول بجازع وقد قيل أن ابن الزبير رضي الله عنهما عاتب معاوية في شيء فدخل عليه فقال: يا أمير المؤمنين اسمع أبيات اعتبتك فيها, قال: هات, فأنشده: لَعَمرُكَ ما أَدري وَإِنّي لأَوجَلُ ... عَلى أَيِّنا تَغدو المَنِيَةِ أَوَّلُ وَإِنّي عَلى أِشياءَ مِنكَ تريبُني ... قَديماً لَذو صَفحٍ عَلى ذاكَ مُجمِلُ إِذا أَنتَ لَم تُنصِف أَخاكَ وَجَدتَهُ ... عَلى طَرَفِ الهِجرانِ إِن كانَ يَعقِلُ (¬1) وروي أن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "لا تكثر العتاب فإن العتاب يورث الضغينة والبغضة وكثرته من سوء الأدب", قال الشاعر: إذا كنت في كل الإمور معاتباً ... صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه فعش واحداً أو صل أخاك فإنه ... مقارف ذنب مرة ومجانبه إذا أنت لم تشرب مرارا على القدى ... ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه ¬

_ (¬1) - روضة العقلاء ص143. والأبيات من قصيدة طويلة وردت في ديوان معن بن أوس المزني, وهو شاعر مخضرم شهد الجاهلية والإسلام وتوفي سنة 64هـ.

ذو الوجهين

ذو الوجهين يذم الناس ذا الوجهين ويلومونه, ويبغضونه, ويمقتونه, قال الشاعر: ومن كان ذا وجهين بين صحابه ... فذلك عند الله غير وجيه ويرحم الله صالح بن عبد القدوس حيث يقول: قُل لِلَّذي لَست أَدري مِن تَلونه ... أَناصح أَم علي غش يُداجيني إِنّي لاَكثر مِمّا سَمتني عَجباً ... يَد تشح وَاِخرى مِنك تَأسوني تَغتابَني عِندَ اِقوام وَتَمدحني ... في آخَرينَ وَكل عَنكَ يَأتيني (¬1) فمن خلّص سجيته وأنفت أخلاقه عن التلون فقد خلص ونجى, قال ابن عبدل: ولستُ بِذي وَجْهَيْنِ في مَنْ عَرَفْته ... ولا البخلُ فَاعْلَمْ منْ سمائي ولا أرضي (¬2) أما عبد الله بن محمد القحطاني (¬3) فهو يرى أن ذا الوجهين شر البرية حيث يقول: لا تَمشِ ذا وَجهَينِ مِن بَينِ الوَرى ... شَرُّ البَريَّةِ مَن لَهُ وَجهانِ فالعاقل من يحفظ لسانه وعينه فرب عين أنم من لسان وطرف اشد من سيف وأوجع من حتف, وقال هارون الرشيد لأبي عمرو الشفلفي: فلان نم ¬

_ (¬1) - حماسة البحتري ص263, والموسوعة الشعرية ص298. وهي في ديوان صالح بن عبد القدوس (¬2) - الأمالي للقالي ج2ص261, والموسوعة الشعرية ص298. (¬3) - أبو محمد بن عبد الله بن محمد الأندلسي القحطاني السلفي المالكي. كان فقيها حافظاً جمع تاريخاً لأهل الأندلس وقال أبو سعيد الإدريسي في تاريخ سمرقند أنه كان من أفضل الناس ومن ثقاتهم. وقال السمعاني: كان فقيهاً حافظاً في طلب العلم إلى المشرق والمغرب له (قصيدة نونية مطبوعة) .

بك, فقال: يا أمير المؤمنين إن فلان لو كان بينك وبين الله واسطه لسعى بك إليه, قال العباس بن الأحنف: أناسٌ أمِنّاهُم فنَّموا حديثَنا ... فلما كَتَمنا السرَّ عنهم تقَوَّلوا ومن قول أبي دهبل: أَمِنّا أُناساً كُنتِ تَأتَمِنينَهُم ... فَزادوا عَلَينا في الحَديثِ وَأَوهَموا وَقالوا لَنا ما لَم نَقُل ثُمَّ كَثَّروا ... عَلَينا وَباحوا بِالَّذي كُنتُ أَكتُمُ وفي الأمثال السائرة: "فلان أنم من الزهر", قال ابن الرومي: أَنَمُّ بما اسْتَوْدَعْتُهُ من زُجاجَةٍ ... تَرَى الشئَ فيها ظاهِراً وهو باطنُ وقال آخر: قد كانَ صدرُك للأسرارِ جَندلَةً ... ضَنِينةً بالذي تُخفِي نَواحِيها فصارَ مِن بَثِّ ما اسُتودِعْتَ جَوهرةً ... رقيقةً تَسْتَشِفُّ العَينُ ما فِيها (¬1) ¬

_ (¬1) - محاضرات الراغب ص160. والأبيات في ديوان للسرّي بن أحمد بن السرّي الكندي أبو الحسن. شاعر أديب من أهل الموصل. المتوفى سنة 366 هـ.

الفصل العشرون الأمانة

الفصل العشرون الأمانة

الأمانة

الأمانة الأمانة: هي كل مايؤمن عليه المرء من امر ونهي, وشأن من دين ودنيا, وهي خلق من اخلاق المسلم الاصلية التي تنبع من عقيدته, وتدل على صدق اتجاهه وشرف غايته. وبمعناها الحقيقي في نظر المسلم صفة نفسية تملي على صاحبهاسلوكا لايتبدل ازاء ما يعهد اليه القيام به, وكل ما يلتزمه ويتحمل مسؤليته, وتشمل حياة الانسان كلها (¬1) . وفي الذكر الحكيم {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} (¬2) , {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (¬3) فالأمانة من الفضائل الإنسانية, والخلال التي تستقيم بها أحوال البشرية, فالإنسان ملزم بالتحلي بها, فهي من الفضائل الخلقية التي تدعو إليها الفطرة السليمة, وهي من جملة الالتزامات التي يطالب بها الإنسان لاشتمالها على التكليف الشرعي والالتزام الأخلاقي والقانوني, فالشرائع السماوية والنظم الوضعية تتفق على اعتبارها من الالتزامات الخلقية التي يسأل المكلف عنها ويحاسب على تضييعها, وتأتي في رأس جدول الأعمال الحسنة والأخلاق الفاضلة في جميع المجتمعات ذات الديانات السماوية وغيرها, وحتى في العصر الجاهلي الذي كان يحوي دنايا ورذائل, فإنه رغم ذلك كان يحوي بعض خلال مكارم الأخلاق التي جاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليؤكدها ويتممها كما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وفي لفظ: (صالح الأخلاق) (¬4) , ولا يزال أهل الفضل من الناس يثنون عليها في مختلف البلدان في كل زمان ومكان, وقد أشاد المجتمع العربي بالأمانة ورفع مكانة الأمين والأمناء في الجاهلية والإسلام, وجعلها من الصفات الرئيسة التي يسوّد بها, وأكبر شاهدٍ على ذلك ما ورد في آثار العرب وقصصهم وأخبارهم وأمثالهم, ومن ذلك قول لبيد: وَإِذا الأَمانَةُ قُسِّمَت في مَعشَرٍ ... أَوفى بِأَوفَرِ حَظِّنا قَسّامُها (¬5) وقول زهير: وَحِفظي لِلأَمانَةِ وَاِصطِباري ... عَلى ما كانَ مِن رَيبِ الزَمانِ أما النابغة فهو يقول: سأرعى كلما استودعت جهدي ... وقد يرعى أمانته الأمين (¬6) وقد ضرب العرب بوفاء السموأل (¬7) الأمثال ما ذلك إلا لأنه ضحى بابنه من أجل الوفاء بحفظ الأمانة, فقيل: "أوفى من السموأل". قصة السموأل ذكر الميداني: أن امرئ القيس لما أراد الخروج إلى قيصر استودع السموأل دروعاً فلما مات امرئ القيس غزى ملك من ملوك الشام فتحرز ¬

_ (¬1) - دليل السائلين ص 59 (¬2) - سورة ال عمران آية (75) (¬3) - سورة النساء أية (58) (¬4) - أخرجه البيهقي في سننه الكبرى باب بيان مكارم الأخلاق حديث (20571) . (¬5) - ديوان لبيد ص180. (¬6) - ديوان النابغة ص162. (¬7) - هو السموأل بن غريظ بن عاديا الأزدي شاعر جاهلي يهودي من سكان خيبر.

منه السموأل فأخذ الملك ابناً له وكان خارجاً من الحصن فصاح الملك بالسموأل, فأشرف عليه فقال: هذا ابنك في يدي وقد علمت أن امرئ القيس ابن عمي ومن عشيرتي وأنا أحق بميراثه فإن دفعت إليَّ الدروع وإلا ذبحت ابنك, فقال: أجّلني, فأجله فجمع أهل بيته ونساءه وشاورهم فكل أشاره أن يدفع الدروع ويستنقذ ابنه فلما أصبح أشرف عليه, وقال: ليس إلى دفع الدروع سبيل فاصنع ما أنت صانع, فذبح الملك ابنه وهو مشرف ينظر إليه, ثم انصرف الملك بالخيبة, فوافى السموأل بالدروع الموسم فدفعها إلى ورثة امرئ القيس وقال في ذلك: وَفَيتُ بِأَدرُعِ الكِندِيِّ إِنّي ... إِذا ما خانَ أَقوامٌ وَفَيتُ وَقالوا: إِنَّهُ كَنزٌ رَغيبٌ ... فَلا وَاللَهِ أَغدِرُ ما مَشَيتُ (¬1) وإلى ذلك يشير الأعشى حيث يقول: كُن كَالسَمَوأَلِ إِذ سارَ الهُمامُ لَهُ ... في جَحفَلٍ كَسَوادِ اللَيلِ جَرّارِ إلى أن قال: وَقالَ: لا أَشتَري عاراً بِمَكرُمَةٍ ... فَاِختارَ مَكرُمَةَ الدُنيا عَلى العارِ وَالصَبرُ مِنهُ قَديماً شيمَةٌ خُلُقٌ ... وَزَندُهُ في الوَفاءِ الثاقِبُ الواري ولقد كان العرب في الجاهلية يفاخرون بالأمانة وينتصرون لها, ولقد انتصر العرب في حربهم ضد الفرس في يوم ذي قار في القصة المشهورة حينما رفض هاني بن مسعود الشيباني تسليم ما استودع من الدروع فاجتمع العرب وقاتلوا الفرس وانتصروا وكان ذلك مفخرة لهم, والقصة ¬

_ (¬1) - مجمع الأمثال للميداني ص374.

مبسوطة في كتب التأريخ, لا داعي لذكر تفاصيلها نظراً لشهرتها, ومن أراد التوسع فليرجع إلى مظانها من كتب التأريخ (¬1) . وقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قومه من أول نشأته متحليياً بالأمانة, واشتهر بها, وفي ذلك يقول عمه أبو طالب موضحاً لأمانة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومصدقاً وشاهداً له بها: إن الأمين محمداً في قومه ... عندي يفوق منازل الأولاد (¬2) ويقول: ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية دينا (¬3) أما أحمد شوقي فهو يقول واصفاً لأمانة محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم ومنكراً على من أنكروا نبوئته بقوله: لَقَّبتُموهُ أَمينَ القَومِ في صِغَرٍ ... وَما الأَمينُ عَلى قَولٍ بِمُتَّهَمِ فالأمانة والثقة أساس المعاملات, والأمانة خلق قويم ودين مستقيم؛ دعا الإسلام إليها, وحث عليها, وكيف تستقيم أحوال البشرية بدون أدائها والحفاظ عليها؟ ¬

_ (¬1) - انظر: تأريخ الطبري لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، تحقيق مصطفى السيد وطارق سالم، ج2 من ص193 إلى ص213 , المكتبة التوفيقية القاهرة مصر, والكامل في التأريخ للإمام العلامة عمدة المؤرخين أبي الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف بابن الأثير الجزري الملقب بعز الدين، المتوفى 630هـ، ج1ص (436-443) , الناشر دار الفكر 1398م , ومعجم البلدان ج4ص333وما بعدها. (¬2) - ديوان أبي طالب جمعه وعلق عليه عبد الحق العاني ص108. (¬3) - ديوان أبي طالب جمعه وعلق عليه عبد الحق العاني ص108.

قال الشاعر: وإنني لأرى من لا حياء له ولا ... أمانة وسط القوم عريانا (¬1) وقد جاءت الشريعة الإسلامية لتحث على الأمانة بمفهومها الواسع؛ فهي تشمل الدين كله عبادات ومعاملات, وفضائل خلقية واجتماعية, وهذا المفهوم تميز به الدين الإسلامي الحنيف, وجاء في الذكر الحكيم: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (¬2) . فمن حافظ على الأمانة سلم, ومن أدّاها غنم, فإذا طلبت الخير فاطلبه في أداء الأمانة, وإذا عملت البر فتحر فيه أداء الأمانة, وإذا أردت العز فالزم في سلوكك الأمانة, وأدِّ في مسئوليتك الأمانة, وتعامل مع أهل الصدق والأمانة تفز بفضل الله ورضوانه, فمن لزم الأمانة صلحت أعماله, واستقامت أحواله, واحتاط لنفسه, ومن أدى الأمانة أطاع ربه وصلح أمره, وكان بعيبه بصيراً, ولم تفسد الشهوة دينه, ولم تزل الشبهة يقينه, وفي الأمانة حفظ للكرامة, وأساس للتقوى, وحرز يقي الانزلاق في المعاصي, ويبعد الإنسان عن المخازي, فالزم الأمانة تلزمك الاستقامة, فمن ضيع الأمانة ضاع, وسقط في وحل الخيانة, فلا تتضجر من حفظها وأدائها, ولا تفرط فيها تفرط في حق نفسك, فإن من زرع خيراً حصد أجراً, واستفاد شكراً, ومن وقع في الخيانة عرض نفسه للمهانة, ومن ضيع ذمة اكتسب مذمة. ¬

_ (¬1) - ورد هذا البيت في الموسوعة الشعرية ص162 من غير نسبة إلى شاعر معين وأورده الماوردي أيضا في أدب الدنيا والدين ص258. (¬2) - سورة الأحزاب الآية (72) .

تقدير الناس للأمانة

تقدير الناس للأمانة الأمانة من الأخلاق العملية التي يتفق الناس على أهميتها في الحياة لأنها تعني أن يكون الإنسان أميناً في عبادته, أميناً في عمله, أميناً في حديثه, أميناً في مجتمعه, أميناً في سلوكه, أميناً مع نفسه, فالنفوس بفطرتها التي فطرها الله عليها تميل إلى تقدير الأمانة والأمناء, فإنهم وإن قصروا في المحافظة عليها إلا أنهم يقدرون الأمانة كأحسن سياسة. فالقاعدة العامة المشتركة في تقدير الأمناء أن الإنسان بفطرته يحب أن يعامله الآخرون بتقدير واحترام, فإذا أحب أن يكونوا معه أمناء فليكن معهم أميناً, وكفى بالمرء فخراً وعزاً أن يوصف بالأمانة, قال الأعشى: وَإِنَّ اِمرُؤٌ أَسدى إِلَيكَ أَمانَةً ... فَأَوفِ بِها إِن مِتَّ سُمّيتَ وافِيا فللأمانة أهمية كبرى في التعامل مع الناس, وللأمانة أهمية كبرى في أداء الفرائض والواجبات, وفي السلوك والمعاملات, فيجب أن تكون أميناً في رأيك, وفي مشورتك ونصحك, فقد جاء في الحديث النبوي الشريف: (المستشار مؤتمن) (¬1) , والأمانة مطلوبٌ أداؤها في الحكم, وفي السلوك, وحتى مع المخالفين في الدين, فقد جاء في الذكر الحكيم: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ} (¬2) , فمنزلة الأمانة رفيعة يقدرها العقلاء, ويلتزمها الفضلاء, فالتاجر يجب أن يكون أميناً, والزارع فيما يزرع ويحصد يجب أن يكون أميناً, والصانع فيما يصنع ويبدع يجب أن يكون أميناً, والعالم فيما يعلم وينتج يجب أن يكون أميناً, والموظف فيما يعمله ويؤديه يجب أن يكون أميناً, والمؤذن أمين مؤتمن, والصلاة أمانة, والزكاة أمانة, والحج أمانة, والسر أمانة, والعمل أمانة, والوديع أمين, ولا يؤدي الأمانة إلا كريم, ولا يخون فيما ائتمن عليه إلا ذميم, وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (تقبلوا لي ستاً أتقبل لكم الجنة: إذا حدث أحدكم فلا يكذب, وإذا وعد فلا يخلف, وإذا ائتمن فلا يخن) (¬3) وفي رواية: (اضمنوا لي ستاً أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثم, وأوفوا إذا وعدتم, وأدوا إذا ائتمنتم) (¬4) . قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أَدِّ الأَمانَةَ وَالخيانَةَ فَاِجتَنِب ... وَاِعدِل وَلا تَظلِم يَطيبُ المَكسَبُ الأمانة في الإيمان بالله وعبادته لقد أنزل الله الأمانة في جذور قلوب المؤمنين من عباده, فطرهم عليها, وأرشدهم إليها, وحمّلهم إياها, فالمؤمن مفطور على الأمانة وسلامة الخلق, ومأمورٌ بأداء الأمانة والحفاظ عليها, فلا يجتمع الإيمان والخيانة أبداً, ولا يجتمع الإيمان والكفر أبداً, ولهذا جاء في الحديث النبوي الشريف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يجتمع الإيمان والكفر في قلب امرئ, ولا يجتمع الصدق والكذب جميعا, ولا تجتمع الأمانة والخيانة جميعاً) (¬5) , وجاء في رواية أخرى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يطبع المؤمن على ¬

_ (¬1) - أخرجه أبو داود في سننه باب في المشورة حديث (4463) . (¬2) - سورة البقرة الآية (283) . (¬3) - أخرجه أبو يعلى في مسنده حديث (4257) , والحاكم في المستدرك كتاب الحدود باب اضمنوا لي ستا حديث (8067) . (¬4) - أخرجه أحمد في المسند عن عبادة بن الصامت (21695) , وابن حبان في صحيحه باب الصدق والأمر بالمعروف حديث (271) , والحاكم في المستدرك كتاب الحدود باب اضمنوا لي ستاً حديث (8066) . (¬5) - أخرجه احمد في المسند عن أبي هريرة حديث (8577) .

كل خلة إلا الخيانة والكذب) (¬1) , فلا يستقيم إيمان عبد دون المحافظة على الأمانة فقد جاء في الحديث: (لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له) (¬2) , وقد أمر الله جل وعلا بالمحافظة على الصلوات وأداء الفرائض والواجبات وجعل ذلك أمانة يسأل عنها المرء يوم القيامة, فلا بد للمؤمن من أن يتصف بالأمانة, فقد وصف الحق سبحانه وتعالى المؤمنين بأنهم يراعون أمانتهم وجعل الأمانة مظهراً من مظاهر وحدتهم فقال جل شأنه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (¬3) , قال سيد قطب: "ذلك أن الأمانة صفة دائمة لهم في كل حين, وما تستقيم حياة المجتمع إلا أن تؤدى فيه الأمانات, وتراعى فيه العهود, ويطمئن كل ما فيها على هذه القاعدة الأساسية للحياة المشتركة الضرورية لتوفير الثقة والأمن والاطمئنان" (¬4) . قلتُ: الأمانة داخلة في كل شيء: في الصلاة والزكاة والحج والوضوء والطهارة وغير ذلك, ففي الحديث النبوي: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن) (¬5) , وقد جاء في حديث أخر: (لا يؤم رجل قوماً فيخص نفسه بالدعاء دونهم فإن فعل فقد خانهم) (¬6) , وقال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً ¬

_ (¬1) - أخرجه احمد في المسند عن أبي أمامة حديث (22224) . (¬2) - أخرجه البيهقي في السنن الكبرى باب ما جاء في الترغيب في أداء الأمانة حديث (12470) , وأحمد في المسند عن أنس ابن مالك حديث (12406) . (¬3) - سورة المؤمنون الآية (8) . (¬4) - في ضلال القرآن للأستاذ سيد قطب, ج4ص2456, الطبعة الشرعية التاسعة1400هـ 1980م, دار الشروق, مصر. (¬5) - رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب ما يجب على المؤذن من تعهد الوقت حديث (517) , وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود ج1ص55, (¬6) - رواه أبو داود في كتاب الطهارة حديث (90) , وأشار إلى ضعفه الألباني, وحسنه شعيب الأرنؤط وعبد القادر الأرنؤط في تحقيق زاد المعاد ج1ص264.

ترك الأمانة نفاق

جَهُولاً} (¬1) يعم جميع الأمانات من حقوق الله على عباده ومن حقوق العباد بعضهم على بعض ومما يؤتمنون به, ومما يؤيد ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} (¬2) . ترك الأمانة نفاق إن لكل شيء علامة, وعلامة النفاق الخيانة, جاء في الحديث النبوي الشريف: (آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ, وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ, وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ) (¬3) . الأمانة في الولايات الأمانات في الولايات من أكبر الأمانات التي تطوق صاحبها, فمن استعمل العدل وشكر الحق, وتباعد عن ظلم الخلق؛ فقد أدى الأمانة, ومن أسعد اخوانه, وحسن مقاله, وصان نعمته, وأدى فرائضه؛ فقد أدى الأمانة, ومن غش رعيته, واتبع هواه؛ فقد خان أمانته, وفرط في ديانته, جاء في الحديث النبوي الشريف تحذير الولاة من الغش في واجباتهم: (مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) (¬4) , وهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستشعر مسئولية أمانة الخلافة في البحث عن الأمناء والنصحاء فيقول: (أنا مسئول عن أمانتي وما أنا فيه, ومطلع على ما بحضرتي بنفسي إن شاء الله, لا أكله إلى أحد ولا أستطيع ما بعد منه إلا بالأمناء وأهل النصح منكم للعامة, ولست أجعل امامي أحداً سواهم إن شاء الله) (¬5) , وجاء في الحديث النبوي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من استعمل رجلا من عصابة وفي تلك العصابة من هو أرضى لله منه فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين) (¬6) وفي رواية: (من ولي من أمر المسلمين شيئاً، فأمر عليهم أحداً محاباة فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً حتى يدخل جهنم) (¬7) , وجاء في رسالة الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى الأشتر رضي الله عنه: (أنظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً ولا تولهم محاباة وأثرة، فإنها جماع من شعب الجور والخيانة, وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة، فإنهم أكرم أخلاقاً، وأصح أعراضاً وأقل في المطامع إشراقاً، وأبلغ في عواقب الأمور نظراً، ثم أَسْبِغ عليهم الرزق فإن ذلك قوة لهم على استصلاح ¬

_ (¬1) - سورة الأحزاب الآية (72) . (¬2) - سورة النساء الآية (58) . (¬3) - أخرجه البخاري في صحيحه باب علامة المنافق حديث (33) , ومسلم في صحيحه باب خصال المنافق حديث (59) . (¬4) - رواه مسلم في كتاب الإمارة باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار حديث (142) . (¬5) - انظر تأريخ الطبري ج4ص215. (¬6) - الحاكم في المستدرك، كتاب الأحكام، حديث (7023) . (¬7) - الحاكم في المستدرك، كتاب الأحكام، حديث (7024) .

أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك وثلموا أمانتك) , قال أبو مسلم العماني: أمانة الله تسطيع الأداء لها ... إذا علمت بعون الله ما شرعا وله أيضاً: أحسن أمانتك التي قلدتها ... طوق الحمامة ما تسر وما ظهر لقد اتجرت على الذين تؤمهم ... فاختر على الخسران ربح المتجر قد قلدوك أمانة مضمونة ... فاحذر ضمان مضيع كل الحذر واعرف لهاتيك الأمانة قدرها ... ليس الضمان بها ضماناً يغتفر وقال المؤيد في الدين (¬1) : أمَّةٌ ضَيَّعَ الأمانَةَ فِيهَا ... شَيْخُها الخَامِل الظَّلومُ الجَهولُ أما الشريف الرضي فهو يقول: وَما كُلُّ مَن لَم يُعطِ نَهضاً بِعاجِزٍ ... وَلا كُلُّ لَيثٍ خادِرٍ بِجَبانِ وَإِنَّكَ ما اِستَرعَيتَ مِنّي سِوى فَتىً ... ضَمومٍ عَلى رَعيِ الأَمانَةِ حانِ حَفيظٍ إِذا ما ضَيَّعَ المَرءَ قَومُهُ ... وَفِيٍّ إِذا ما خُوِّنَ العَضُدانِ فتولية القوي الأمين هو مطلب أهل التقى من الصالحين, وكأنها شرط في صحة الولاية وطلبها, ولهذا حكى الله تعالى عن يوسف عليه السلام ¬

_ (¬1) - هذا البيت للمؤيد في الدين (390 - 470 هـ / 999 - 1077 م) هبة الله بن أبي عمران موسى بن داؤد الشيرازي. ولد في شيراز, وكان باكورة أعماله اتصاله بالملك البويهي أبو كاليجار الذي أعجب به واستمع إليه، وحضر مجالس مناظرته مع العلماء من المعتزلة والزيدية والسنة. خرج المؤيد إلى مصر سنة 439. وقد كان من ألمع الشخصيات العلمية والسياسية التي أنتجها ذلك العصر، فقد كان عالماً متفوقاً، قوي الحجة في مناظراته ومناقشاته مع مخالفيه. قال عنه أبو العلاء المعري: والله لو ناظر أرستطاليس لتغلب عليه. وقد تمكن من إحداث إنقلاب عسكري على الخليفة العباسي القائم بأمر الله سنة 450 وأجبره على مغادرة البلاد ورفع راية الدولة الفاطمية فوق بغداد. ومن ذلك كله استحق لقب داعي دعاة الدولة الفاطمية.

قوله: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (¬1) , وقد شهدت ابنة شعيب لموسى عليه السلام بالأمانة والقوة قبل أن يكون نبياً وحكى المولى جل وعلا ذلك في كتابه فقال: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ* فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} (¬2) , وقد قال ابن عباس في تأويل (القوي الأمين) : "قوي فيما ولي وأمين فيما استودع". قال الشاعر: حاملُ النارِ والحديدِ قويٌّ ... والذي يحمل الأمانة أقوى (¬3) ومما لا شك فيه أن الأمانة والقوة هما الركنان المقصودان في القدرة على العمل وإدارته, والحفاظ عليه وأدائه بدون تفريط أو خلل, فالبيعة والاستفتاء والانتخاب كلها أمانة فإياك أن تضيعها فتضعها في غير أهلها, وقد جاء في محكم التنزيل: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم ¬

_ (¬1) - سورة يوسف الآية (55) . (¬2) - سورة القصص الآيات (23-26) . (¬3) - هذا البيت ينسب لأحمد الكاشف.

بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} (¬1) . فالواجب على من ولي أمانة الأمة أن ينظر في أحوال الرعية وأن لا تلهيه جلبة الملك عن أداء الأمانة, قال الشاعر: لا يَستَوي ملك تلهيه مملكة ... وَذو ضَرائر لا يَنتابه الوسن عار عليك عمارات مشيدة ... وَللرعية دور كلها دِمَن فانظر إِلَيهم فعين اللَه ناظرة ... هم الأَمانة وَالسلطان مؤتمن (¬2) أما احمد شوقي فيقول: إِن أَنتَ أَطلَعتَ المُمَثِّلَ ناقِصاً ... لَم تَلقَ عِندَ كَمالِهِ التَمثيلا فَاِدعوا لَها أَهلَ الأَمانَةِ وَاِجعَلوا ... لأولى البَصائِرِ مِنهُمُ التَفضيلا وقد نسب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في خطبة له: (ألا وإني وجدت صلاح ما ولاني الله سبحانه وتعالى بالأمانة والأخذ بالقوة) (¬3) . قلت: وفي ذلك الوصول إلى الغاية وأداء أمانة الولاية, ولا تعني القوة في الولاية العنف وعدم مراعاة الرفق, فإن الله سبحانه وتعالى يحب الرفق في الأمر كله, فمن تولى أمانات المسلمين فرفق بهم استحق دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ) (¬4) . ¬

_ (¬1) - سورة النساء الآية (58) . (¬2) - هذه الأبيات لأحمد بن علوان. (¬3) - عيون الأخبار ج1ص117. (¬4) - رواه مسلم في كتاب الإمارة باب فضيلة الإمام العادل حديث (1828) .

فالراعي يجب عليه الرفق برعيته والإحسان في تدبير سياسته, فقد جاء في الحديث النبوي: (ألا كلكم راعٍ وكل راعٍ مسئول عن رعيته, فالأمير الذي على الناس راعٍ وهو مسئول عن رعيته) (¬1) . فالعاقل لا يأتمن ذا سلوك وضيع ولا يصطنع من فاته العقل, لأن من غش نفسه في سلوكه لا يحترز من غش غيره فلا يأمن أن يغش من حيث ينصح, أما من لا عقل له فربما أفسد من حيث يظن أنه يصلح وذلك مما يعيي توقيه ويفوت تداركه وتلافيه, وإنما يؤتمن المؤمن القوي صاحب الخلق الرضي والسلوك المرضي. وما ضياع الأمانة في الولايات كافة إلا في تولية من لا أمانة له, وقد عد ذلك النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم من علامات الساعة حيث يقول: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة, قيل: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا اسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) (¬2) , وقد ذكر بعض شراح الحديث أنه ينبغي تولية أهل الأمانة والإيمان والصلاح في أمور المسلمين عموماً كالخلافة والإمارة والقضاء والإفتاء وغير ذلك فإذا ولي غيرهم فقد ضيعت الأمانة. (¬3) ¬

_ (¬1) - رواه البخاري في كتاب الجمعة باب الجمعة في القرى والمدن حديث (893) , ورواه مسلم واللفظ له في كتاب الإمارة باب فضيلة الإمام العادل حديث (1829) . (¬2) - رواه البخاري في كتاب الرقاق باب رفع الأمانة حديث (6496) . (¬3) - انظر فتح الباري للإمام ابن حجر ج11ص434.

الأمانة في الأسرة

الأمانة في الأسرة الأسرة نواة المجتمع واللبنة الأساسية فيه فمن رعى فيها فريضة الأمانة أداها, ووفى فيها ما عليه من الرعاية والديانة, حصل له الحظ الأوفر والجزاء الأكبر, فقيام الرجل بحق زوجته أمانة, وتربية الأولاد على البر والتقوى وحسن التعامل أمانة, وفي الحديث النبوي: (وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ أَلا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) (¬1) , والرعاية بمعنى الحفظ والأمانة, فالحديث دل على أن كل هؤلاء المذكورين فيه على اختلاف مراتبهم مؤتمنون يجب عليهم الوفاء بأمانتهم, وقد قال النووي في شرحه للحديث: "الراعي: هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما قام عليه وهو ما تحت نظره, ففيه أن كل من كان تحت نظره شيء فهو مطالب بالعدل فيه والقيام بمصالحه في دينه ودنياه ومتعلقاته" (¬2) , وذلك مأخوذ من ظاهر الحديث. فالنصوص من القرآن الكريم والسنة النبوية تدل على أنه يتساوى كل من الرجل والمرأة في المسئولية على حفظ الأمانة وأدائها مع مراعاة خصوصية كل منهما في القوامة والحفظ والتربية وتدبير شئون الأسرة وحفظ الأسرار, وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الأَمَانَةِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ ¬

_ (¬1) - رواه البخاري في كتاب الجمعة باب الجمعة في القرى والمدن حديث (893) , ومسلم واللفظ له في كتاب الإمارة باب فضيلة الإمام العادل حديث (1829) . (¬2) - شرح صحيح مسلم للنووي ج12ص213.

أمانة الزوجة تقتضي حفظ أسرار زوجها

ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا) (¬1) , وفي رواية: (إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا) (¬2) , فالحديث صريح في وجوب المحافظة على الأمانة وحفظ الأسرار بين الزوجين, وان الأزواج الذين ينشرون أسرار أزواجهم شر الناس عند الله تعالى منزلة يوم القيامة. أمانة الزوج تقتضي عدم جواز تخوين أهله إن الزوج الأمين يرعى زوجته ويكرمها ويحافظ على أمانته فيها ويرحمها, ويشعرها بالأمان ولا يتخونها, فالغيرة المذمومة في الأزواج هي تلك التي تدعوهم إلى طلب التماس عثرات زوجاتهم أو التجسس عليهن وتخوينهن ومقتهن في أخلاقهن, فقد جاء في الحديث: (أن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ لَيْلاً يَتَخَوَّنُهُمْ أَوْ يَلْتَمِسُ عَثَرَاتِهِمْ) (¬3) . أمانة الزوجة تقتضي حفظ أسرار زوجها الزوجة مؤتمنه على حفظ أسرار زوجها, وحفظ أمواله, وتربية أولاده, ومراعاة عدم الخروج من منزله إلا بإذنه, وعدم إيطاء فراش الزوج من يكره, فلا تدخل أحداً منزله وهو يكره دخوله, فالزوجة مؤتمنة وملزمة بإطاعة زوجها في غير معصية, والمرأة الصالحة الأمينة هي التي تحفظ معروف زوجها وتطيعه فيه, وفي الذكر الحكيم: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا ¬

_ (¬1) - أخرجه مسلم في صحيحه باب تحريم افشاء سر المرأة حديث (1437) . (¬2) - أخرجه مسلم في صحيحه باب تحريم افشاء سر المرأة حديث (1436) . (¬3) - أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الإمارة باب كراهة الطروق وهو الدخول ليلاً لمن ورد من سفر حديث (715) .

تربية الأولاد وتعليمهم أمانة

حَفِظَ اللهُ} (¬1) , فالمرأة مؤتمنة على حفظ نفسها وعرضها فلا تتبرج ولا تتبذل, وقد روي عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال: (من الأمانة أن المرأة اؤتمنت على فرجها) , وقال جرير (¬2) يرثي امرأته في عفافها: كانَت إِذا هَجَرَ الحَليلُ فِراشَها ... خُزِنَ الحَديثُ وَعَفَّتِ الأَسرارُ تربية الأولاد وتعليمهم أمانة إن تربية الأولاد وتهذيبهم وتعليمهم أمور الدنيا والدين أمانة يجب أداؤها, فتوجيه الأولاد للمعالي وتربيتهم على الفضيلة وتعويدهم على البر والأخلاق الحميدة وطلب الرزق من وجوه الحلال وتعليمهم الصلاة والصيام والزكاة أمانة, فالله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (¬3) , وقد أوضح النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمانة تربية الأولاد في قوله: (ألا كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته ... الخ) الحديث السالف بيانه, فالزوجان مؤتمنان على تربية أولادهما على الفضيلة وإبعادهم عن الرذيلة وتعليمهم ما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم, وقد قال ابن القيم رحمه الله: فمن أهمل تعلم ولده ما ينفعه وتركه سدى فقد أساء إليه غاية الإساءة, وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الأباء وإهمالهم لهم, وترك ¬

_ (¬1) - سورة النساء الآية (34) . (¬2) - جرير بن عطية الخطفي من بني تميم ولد سنة 30هـ ومات في اليمامة سنة 115هـ , انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان ج1ص321. (¬3) - سورة التحريم الآية (6) .

الأمانة في الأخلاق والمعاملات

تعليمهم فرائض الدين وسننه, فأضاعوها صغاراً فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا أباءهم كباراً. (¬1) , قال ابن قم الزبيدي: خير ما ورث الرجال بنيهم ... أدب صالح وحسن ثناء ويرحم الله شوقي حيث يقول: فَرُبَّ صَغيرِ قَومٍ عَلَّموهُ ... سَما وَحَمى المُسَوَّمَةَ العِرابا وَكانَ لِقَومِهِ نَفعاً وَفَخراً ... وَلَو تَرَكوهُ كانَ أَذىً وَعابا أما الإمام علي بن أبي طالب فهو يقول: حَرِّض بنيكَ عَلى الآدابِ في الصِغَرِ ... كَيما تَقَرَّ بِهِم عَيناكَ في الكِبَرِ فَإِنَّما مَثَلُ الآدابِ تَجمَعُها ... في عِنفُوانِ الصِبا كَالنَقشِ في الحَجَرِ الأمانة في الأخلاق والمعاملات تعد الأمانة خاصية إنسانية في العلاقات الاجتماعية من حيث تعامل الفرد مع الآخرين, سواءً كان مع جاره أو مع مجتمعه أو مع أسرته أو مع قبيلته, ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوصى برعاية أمانة الجار وحفظ حقوقه فقال: (وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ, قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: الَّذِي لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ) (¬2) , فالعاقل حري به أن يبني علاقته مع الآخرين من الأباعد والأقارب من الأفراد والجماعات والدول على أساس الأمانة, ومن ثم يكون أميناً في علاقته معهم, حافظاً لعهده وسره, وقد جاء في محكم التنزيل: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} (¬3) . ومن أشد الخيانة أن يجلس الرجل فيطمئن إلى أخيه فيفشي سره وينقل عنه ما لا يحب, وقد جاء في الحديث النبوي: (إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهي أمانة) (¬4) , ويرحم الله حسان بن ثابت حيث يقول: وَأَمينٍ حَديثُهُ سِرُّ نَفسي ... فَوَعاهُ حِفظَ الأَمينِ الأَمينا وقد جاء في الأمثال السائرة: "قلوب العقلاء حصون الأسرار", وإنما تتعزز الثقة بالناس وتزدهر حياتهم وتنمو تجارتهم بالأمانة, وفي الحديث (التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ) (¬5) , فالأمناء هم الذين يرعون واجبات العبادات والمعاملات, فلا يمكن أن ينهض مجتمع لا تؤدى فيه الأمانة. فأداء الأمانات من الأمور الأساسية التي تقوم عليها نهضة المجتمعات في كافة المجالات, ألا ترى أن الله جل وعلا يقول: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (¬6) , ولا بد للحياة من ضوابط ترتب علاقة الفرد مع نفسه ومع الناس, وهي تتمثل في الغالب الأعم في الوفاء بعقود المعاوضات وعقود التبرعات ¬

_ (¬1) - تحفة المودود بأحكام المولود لابن القيم, تحقيق عبد القادر الأرنؤط , ص139, الناشر دار عالم الكتب الرياض, الطبعة الأولى 1412هـ. (¬2) - رواه البخاري في كتاب الآداب باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه حديث (5670) . (¬3) - سورة الإسراء الآية (34) . (¬4) - رواه الترمذي ما جاء أن المجالس أمانة حديث (1959) , وحسنه الألباني. (¬5) - أخرجه الترمذي في صحيحه باب ما جاء في التجار حديث (1209) . (¬6) - سورة النساء الآية (58) .

الخيانة مذمة وندامة

ونحوها, فمن أدى في ذلك الأمانة فقد أدى ما يجب عليه. وإنما تشرف الأمة ويعلو بنيانها ويسعد أبناؤها بالمحافظة على الأمانة وأداؤها, قال كعب بن زهير: أَرعى الأَمانَةَ لا أَخونُ أَمانَتي ... إِنَّ الخَؤونَ عَلى الطَريقِ الأَنكَبِ (¬1) الخيانة مذمة وندامة الخيانة من الصفات المشئومة والخلال المذمومة, وقد عدها بعض العلماء من الكبائر, وعرفها الجاحظ بأنها: الاستبداد بما يؤتمن الإنسان عليه من الأموال والأعراض والحرم, وتملك ما يستودع, ومجاحدة مودعه, وفيها أيضاً: طي الأخبار إذا ندب لتأديتها, وتحريف الرسائل إذا تحملها فصرفها عن وجوهها (¬2) . وهي في اللغة: مشتقة من مادة (خ ون) , قال ابن فارس: الخاء والواو والنون أصل واحد يقال: خانه يخونه خوناً وخيانة (¬3) . والخيانة ضد الأمانة (¬4) . وعند فقهاء القانون جريمة موضوعها: استيلاء شخص أو تبديده بسوء قصد أو بغير وجه حق لمال كان أميناً أو واضع يد عليه (¬5) . ¬

_ (¬1) - ديوان كعب بن زهير ص189, والموسوعة الشعرية ص162. (¬2) - تهذيب الأخلاق لأبي عثمان الجاحظ, فرَّعه وعلق عليه أبو حذيفة ابراهيم بن محمد ص31 , دار الصحابة للتراث في مصر الطبعة الأولى 1410هـ1989م, والأمانة في الاسلام وأثرها في المجتمع تأليف الدكتور عبد اللطيف بن ابراهيم ابن عبد اللطيف الحسين عضو هيئة التدريس والدراسات الإسلامية في الأحساء جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ص107, الناشر: دار ابن الجوزي الطبعة الأولى 1426هـ. (¬3) - معجم المقاييس للعلامة أبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا المتوفي سنة 395هـ, ص358. الناشر: دار الفكر بيروت لبنان الطبعة الثانية 1428هـ1998م. (¬4) - مفردات الراغب ص168. (¬5) - معجم المصطلاحات القانونية للدكتور عبد الواحد كرم ص215, الناشر: عالم الكتاب ومكتبة النهضة العربية بيروت الطبعة الاولى 1407هـ1987م.

الخيانة أسوأ ما يبطنه الإنسان

وقد تضافرت النصوص الربانية والأحاديث النبوية على تحريمها والتحذير منها, وتكرر لفظ الخيانة ومشتقاتها في القرآن الكريم أكثر من ثلاثين موضعاً (¬1) , منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬2) . وجاء في الحديث النبوي: (أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ) (¬3) أي لا تقابل خيانة من خان بخيانة مثلها, فالخيانة لا تباح فيها العقوبة بالمثل, وإنما جعلت عقوبة خائن الأمانة في الدنيا التعزير والضمان. والخيانة شر كلها لما فيها من مخالفة الحق وخيانة الخلق والضرر بهم, والخائن لا تقبل شهادته ولا تصح روايته, وقد قضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك حيث يقول: (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة) (¬4) أي لا تقبل, وفي رواية أخرى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رد شهادة الخائن والخائنة) (¬5) . والخيانة شؤم في الدنيا عذاب في الآخرة, ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ:) ذكر منهم: (وَالْخَائِنُ الَّذِي لاَ يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ وَإِنْ دَقَّ إِلاَّ خَانَهُ) (¬6) . والخيانة صفة المنافقين والمشركين والكفار والجاحدين من لا يحبهم الله رب العالمين, وفي الذكر الحكيم: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} (¬7) , وفي سورة الحج: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} (¬8) . الخيانة أسوأ ما يبطنه الإنسان الخيانة مبغوضة عند الله سبحانه وتعالى في جميع صورها ومظاهرها, فلا وسيلة لحفظ الإيمان إلا بتجنبها واتقاء ضررها والمسارعة إلى التوبة منها والبعد عنها, فالخيانة أسوء ما يبطنه الإنسان, وقد كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يستعيذ منها فقد جاء في الأدعية المأثورة: (اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع ومن الخيانة فإنها بئست البطانة) (¬9) . قال الأعور الشمي: ¬

_ (¬1) - انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم بحاشية المصحف الشريف. وضعه: محمد فؤاد عبد الباقي, ص248 , الناشر: دار المعرفة بيروت لبنان, الطبعة الرابعة 1414هـ1994م. (¬2) - سورة الأنفال الآية (27) . (¬3) - رواه أبو داود في كتاب البيوع باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده حديث (3535) , وصححه الألباني. (¬4) - أخرجه احمد في المسند حديث (6411) . (¬5) - رواه أبو داود في كتاب الأقضية باب من ترد شهادته حديث (3600) , وهو حديث حسن. (¬6) - رواه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار حديث (2865) . (¬7) - سورة الأنفال الآية (58) . (¬8) - سورة الحج الآية (38) . (¬9) - رواه الإمام الحافظ المحدث أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي المتوفى سنة 303هـ, في سننه كتاب الاستعاذة باب الاستعاذة من الخيانة حديث (5469) , الطبعة الثانية, مطبوع مع شرح السيوطي، وحاشية السندي, بيروت 1412هـ,1992م.

لا تأمنن امرءاً خان امرءاً أبداً ... إنّ من الناسِ ذا وجهين خوانا (¬1) ولله در القائل: ألا رب من تغتشه لك ناصحٌ ... ومؤتمن بالغيب غير أمين (¬2) فمن حنث في أيمانه اخل بأمانته وإيمانه, وتمادى في غروره وعنفوانه؛ ومن نكث فإنما ينكث على نفسه, وما يخون الأمانة لبيب, ولا يفرط فيها حبيب, قال صالح بن عبد القدوس: لا أَخونُ الخَليلَ في السِرِّ حَتّى ... يَنقُل البَحر في الغَرابيل نَقلا اِو تُمورُ الجِبالِ مور سَحاب ... مُثقِلاتِ وَعت من الماءِ حَملا (¬3) أما جميل العذري فهو يقول: لَحا اللَهُ مَن لا يَنفَعُ الوَعدُ عِندَهُ ... وَمَن حَبلَهُ إِن مُدَّ غَيرُ مَتينِ وَمَن هُوَ ذو وَجهَينِ لَيسَ بِدائِمٍ ... عَلى العَهدِ حَلافٌ بِكُلِّ يَمينِ (¬4) ¬

_ (¬1) - الشعر والشعراء لابن قتيبة ج2ص643 , تحقيق احمد شاكر دار التراث العربي الطبعة الثالثة 1977م , والموسوعة الشعرية ص201. (¬2) - حماسة البحتري ص175 , والموسوعة الشعرية ص201. (¬3) - معجم الأدباء لياقوت الحموي ج3ص421, الناشر: دار الكتب العلمية بيروت الطبعة الأولى 1411هـ, والموسوعة الشعرية ص202. وينسب هذان البيتان لصالح بن عبد القدوس. (¬4) - بهجة المجالس ج2ص580.

الفصل الحادي والعشرون الحلم

الفصل الحادي والعشرون الحِلم

الحلم

الحِلم الحِلمُ: ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب, ويشتمل على الصبر والاناءه والرفق والسكون مع القدرة والقوة. وفي المصباح: حلم حلما: صفح وستر, وهو صفة من صفة الله الحليم. وفي الذكر الحكيم {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) } من سورة البقرة, وفي سورة ال عمران يقول الحليم المنان {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) } , والحلم من الخلال الحميدة, والصفات الرشيدة, وهو حلية المتقين، وسمة أولي العزم من النبيئين والمرسلين، ولارتفاع قدر الحلم فان الله جل وعلا تسمى به وسمى خليله إبراهيم عليه السلام ووصفه به فقال جل شأنه {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} (¬1) . وبشر الحق سبحانه وتعالى إبراهيم عليه السلام بغلام يتصف بالحلم فقال سبحانه {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} (¬2) . فالحليم من الناس عظيم الشأن، رفيع المكان، محمود السيرة، رضي الفعل، والحليم ما أغناك جده، وألهاك هزله، والحليم من يستلهم في كل أمر خاتمته، ويتدبر من كل شي عاقبته والحليم من يتمعن النظر في السؤال ويتحلم عن الجهال، واللئيم يسرع إلى السؤال ويعرض عن النوال وقديم ¬

_ (¬1) - سورة هود (75) . (¬2) - سورة الصافات (101) .

قيل: (الحليم من لم يكن حلمه لفقد النصرة وعدم القدرة، والجواد من لم يكن جوده لدفع الأعداء، وطلب الجزاء، والصموت من لم يكن صمته لكلّة لسانه وقلة بيانه, والمنصف من لم يكن إنصافه لضعف يده، وقوة خصمه) (¬1) . من غرس شجرة الحلم اقتنى ثمرة السلم، ومن صحة ديانته تمت مروءته، لان الديانة تصد عن المحارم، وقديم قيل: (أربعة تترقى إلى أربعة: العاقل إلى الرئاسة، والرائي إلى السياسة، والعِلم إلى التصدير، والحِلم إلى التوقير) ، وإنما يعرف الحليم باحتماله، والحليم من يتحلم عن سهو الذنوب، ويترك البحث عن مستور العيوب والحِلم: الأناءة وضبط النفس, وفي مفردات الراغب: الحلم ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب (¬2) . وفي لسان العرب والقاموس: الحِلْمُ بالكسر الأَناةُ والعقل وجمعه أَحْلام وحُلُومٌ (¬3) , وفي التنزيل العزيز (أمْ تَأْمُرُهُم أَحْلامُهم) بهذا قال جرير: هَلْ مِنْ حُلُومٍ لأَقوامٍ فَتُنْذِرَهُم ... ما جَرَّبَ الناسُ من عَضِّي وتَضْرِيسي؟ وقال أبو حاتم: الحلم: (اسم يقع على زم النفس عن الخروج عند الورد عليها ضد ما تحب إلى ما نهي عنه وقال. الحلم يشتمل على المعرفة والصبر والأناة والتثبت، ولم يقرن شي إلى شي أحسن من عفو إلى مقدره (¬4) , والحلم أجمل ما يكون من المقتدر على الانتقام، والحلم خلق حميد فتحل به يحبك الله ويحبك الناس, وفي الحديث النبوي أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال للأشج حين قدم عليه في وفد عبد القيس: (إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ) (¬5) ، وفي رواية: (الْحِلْمَ وَالتُّؤَدَةَ) (¬6) ، قال الشاعر: وما الحلم إلا ردك الغيض في الحشا ... وصفحك بالمعروف والصدر واغر (¬7) وقال أخر: وليس يتم الحلم للمرء راضياً ... إذا هو عند السخط لم يتحلم كما لا يتم الجود للمرء موسراً ... إذا هو عند العسر لم يتجشم (¬8) أما الأحنف بن قيس فهو يرى أن الحليم يكظم غيظه ويضحك عند سماع الأذى وفؤاده يتقد من حر ما يجد حذراً في الأمر وذلك مستفاد من قوله: ولربما ضحك الحليم من الأذى ... وفؤاده من حره يتأوْه ولربما شكل الحليم لسانه ... حذر الجواب وانه لمفوهُ (¬9) أما صلاح الدين الصفدي فهو يرشد إلى ضرورة استشعار الحلم في كل الأمور وعدم التسرع وذلك حيث يقول: واستشعر الحلم في كل الأمور ولا ... تسرع ببادرة يوماً إلى رجل وان بليت بشخص لا خلاق له ... فكن كأنك لم تسمع ولم يقل ¬

_ (¬1) - الفرائد والقلائد ص (40) . (¬2) - مفردات الراغب ص (136) . (¬3) - لسان العرب ج12ص (145) . والقاموس المحيط ص1096. (¬4) - روضة العقلاء ص (170) . (¬5) - رواه مسلم في صحيحه باب الأمر بالإيمان حديث (17) . (¬6) - رواه ابن ماجه في سننه باب الحلم حديث (4187) . (¬7) - النوادر لأبي علي القالي ص (217) , الناشر: دار الكتب العلمية بيروت لبنان. (¬8) - العقد الفريد ص (141) . (¬9) - العقد الفريد ص (142) .

الحلم حلية العلم

ولله در بشار حيث يقول: قُل ما بَدا لَكَ مِن زورٍ وَمِن كَذِبٍ ... حِلمي أَصَمُّ وَأُذني غَيرُ صَمّاءِ (¬1) قال الاكثم بن صيفي رحمه الله دعامة العقل الحلم, وجماع الامر الصبر وقال على بن ابي طالب رضي الله عنه: حلمك على السفيه يكثر انصارك عليه. وقال الاحنف بن قيس: أفة الحلم الذل. قال الشاعر: وَلا خَيرَ فِي جَهلٍ إِذَا لَم يَكُن لَهُ ... حَلِيمٌ إِذَا ما أَورَدَ الأَمرَ أَصدَرا وَلا خيرَ فِي حِلمٍ إِذَا لَم تَكُن لَهُ ... بَوَادِرُ تَحمي صَفوَهُ أَن يُكَدَّرا فَفِي الحِلمِ خَيرٌ مِن أُمورٍ كَثيرةٍ ... وفِي الجَهلِ أَحياناً إِذا ما تَعَذَّرا (¬2) الحلم حلية العلم الحلم حلية العلم وعلة السلم، والسلم علة السلامة وسبب الاستقامة، والحليم لا يجاري السفيه ولا يماريه, قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم. قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: وَذي سَفهٍ يُخاطِبُني بِجَهلٍ ... فَأَكرَهُ أَن أَكونَ لَهُ مُجيبا يَزيدُ سَفاهَةً وَأَزيدُ حُلماً ... كَعودٍ زادَ بِالإِحراقِ طِيبا ¬

_ (¬1) - ديوان بشار ص (32) . (¬2) - هذه الأبيات للنابغة الجعدي.

الحليم حاذق لبيب

الحليم حاذق لبيب الحليم حاذق يحترس من نفسه كما يحترس من غيره ويصون نفسه عن الدناءة والوقوع في المعاصي فهو كما قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: وَمُحتَرِسٍ مِن نَفسِهِ خَوف ذِلَّةٍ ... تَكونُ عَلَيهِ حُجَّةً هِيَ ما هِيَا فَقَلَّصَ بردَيهِ وَأَفضى بِقلبِهِ ... إِلى البِرِّ وَالتَقوى فَنالَ الأَمانيا وَجانِبَ أَسبابَ السَفاهَةِ وَالخَنا ... عَفافاً وَتَنزيهاً فَأَصبِح عاليا وَصانَ عِن الفَحشاءِ نَفساً كَريمَةً ... أَبَت هِمَّةً إِلا العُلى وَالمَعالِيَا تَراهُ إِذا ما طاشَ ذو الجَهلِ وَالصِبى ... حَليماً وَقوراً صائِنَ النَفسِ هاديا لَهُ حِلمُ كَهلٍ في صَرامَةِ حازِمٍ ... وَفي العَينِ إِن أَبصَرَت أَبصَرَت ساهيا يَروقُ صَفاءَ الماءِ مِنهُ بِوَجهِهِ ... فَأَصبَحَ مِنهُ الماءُ في الوَجهِ صافيا وَمِن فَضلِهِ يَرعى ذِماماً لِجارِهِ ... وَيَحفَظُ مِنهُ العَهدَ إِذ ظَلَّ راعيا صَبوراً عَلى صَرفِ اللَيالي وَرُزئِها ... كَتوماً لأَسرارِ الضَميرِ مُداريا لَهُ هِمَّةٌ تَعلو عَلى كُلِّ هِمَّةٍ ... كَما قَد عَلا البَدر النُجوم الدَراريا الحلم ثبات ورفعة الحلم ثبات ورفعة فمن أراد أن يسود في قومه ويوقر في أهله فليكن حليما. قال أبو حاتم رضي الله عنه: العاقل يلزم الحلم عن الناس كافه، فان صعب ذلك عليه فليتحالم، وأول الحلم: المعرفة ثم التثبت، ثم العزم، ثم التصبر، ثم الصبر، ثم الرضى، ثم الصمت والغضاء، وما الفضل إلا للمحسن إلى المسيء فأما من

أحسن إلى المحسن، وحلم عمن لم يؤذه فليس ذلك بحلم ولا إحسان (¬1) ، قال شاعر: إذا أنا كافيت الجهول بفعله ... فهل أنا إلا مثله إذ أحاوره؟ ولكن إذا ما طاش بالجهل طائش ... علي فاني بالتحلم قاهره وقال أخر: إذا المرء لم يصرف عذاباً من الأذى ... حياء، ولم يغفر لأخرق مذنب فلم يصطنع إلا قليلاً صديقه ... ومن يدفع العوراء بالحلم يغلب قال الأمام علي رضي الله عنه: ليس الخير ان يكثر مالك وولدك, ولكن الخير ان يكثر علمك ويعظم حلمك, والا تباهي الناس بعبادة الله وحده, اذا احسنت حمدت الله تعالى واذا اسأت استغفرت الله تعالى. وقال الحسن رضي الله عنه: اطلبوا العلم وزينوه بالوقالوقار والحلم. وقال أبو العتاهية: أَلَم تَرَ أَنَّ الحِلمَ لِلجَهلِ قاطِعٌ ... وَأَنَّ لِسانَ الرُشدِ لِلغَيِّ مُسِكتُ وله أيضاً: ذو الحِلمِ في جَنَّةٍ تَرُدُّ سِها ... مَ الجَهلِ عَنهُ إِن جاهِلٌ جَهِلا وقد روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتوخ الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه) (¬2) ، فمن أراد أن يسود قومه تحلى بالحلم قال الشاعر. ¬

_ (¬1) - روضة العقلاء ص (172) . (¬2) - ورد مرفوعا عن النبي صلى الله علي وآله وسلم عند الخطيب البغدادي في كتابه: اقتضاء العلم العمل.. حديث حسن

الحليم ذو عزة

الم تر أن الحلم زين مسوّد ... لصاحبه والجهل للمرء شائن لصاحبه فكن دافناً للشر بالخير تسترح ... من الهم إن الخير للشر دافن ولأبي العتاهية: ما أَزيَنَ الحِلمَ لأَربابِهِ ... وَغايَةُ الحِلمِ تَمامُ التُقى وله أيضاً: وَقارُ الحِلمِ يَقرَعُ كُلَّ جَهلٍ ... وَعَزمُ الصَبرِ يَنهَضُ بِالجَليلِ ويقول ابن شيخان السالمي: ومن ترقى بمرقى الحلم ما عرضت ... في قصده حاجة إلا وحصَّلَها الحليم ذو عزة الحلم حلية رفيعة يحسن أن يتحلى به الملوك والعبد المملوك, فقد وورد في حدث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا حَلِيمَ إِلاَّ ذُو عِزَّةٍ وَلا حَكِيمَ إِلاَّ ذُو تَجْرِبَةٍ) (¬1) . وفي رواية: (لا حَلِيمَ إِلاَّ ذُو عَثْرَةٍ وَلا حَكِيمَ إِلاَّ ذُو تَجْرِبَةٍ) (¬2) , أي انه لا يحصل له الحلم ويوصف به حتى يركب وتنخرق عليه ويعثر فيها فيعتبر بها ويستبين مواضع الخطاء ويتجنبها, وقال أبو حاتم: العرب تضيف الاسم إلى الشيء للقرب إلى التمام وتنفي الاسم عن الشيء للنقص من الكمال، فلما كان الغالب ¬

_ (¬1) - رواه احمد في المسند حديث (10634) , وأوره العجلوني في كشف الخفاء ومزيل الاباس عما اشتهر من الأحاديث على الألسنة الناس ج (2) ص (362) طبعه دار الإحياء بيروت. (¬2) - رواه الترمذي في سننه باب ما جاء في التجارب حديث (1956) .

على المرء إلا يكون حليماً حتى يكون ذا عثرة نفى النبي صلى الله عليه وآله وسلم اسم الحليم عمن لم يكن بذي عثرة، لنقصه عن الكمال (¬1) . والحليم شأنه رفيع لا يهين نفسه ولا يسيء إلى أهله, والعاقل لا يفارق الحلم ما وجد لاستعماله سبيلا, والحلم لا يكون إلا عن قدره. قال الشاعر: كُلُّ حِلمٍ أَتى بِغَيرِ اِقتِدارٍ ... حُجَّةٌ لاجِئٌ إِلَيها اللِئامُ (¬2) وقال سالم ابن واضبه: ان من الحلم ذلا أنت عارفه ... والحلم عن قدرة فضل من الكرم (¬3) وقال المتنبي: إِذا قيلَ رِفقاً قالَ لِلحِلمِ مَوضِعٌ ... وَحِلمُ الفَتى في غَيرِ مَوضِعِهِ جَهلُ ويقول ابن زيدون (¬4) : حَليمٌ تَلافى الجاهِلينَ أَناتُهُ ... إِذِ الحِلمُ عَن بَعضِ الذُنوبِ عِقابُ أما صالح ابن جناح فهو يقول: لَئِن كُنتُ مُحتاجاً إِلى الحِلمِ إِنَّني ... إِلى الجَهلِ في بَعضِ الأَحايِينِ أَحوَجُ ¬

_ (¬1) - روضة العقلاء ص (170) . (¬2) - هذا البيت ينسب للمتنبي. (¬3) - محاضرة الأدباء ص (95) . (¬4) - ابن زيدون: (394-463هـ/1003-1070م) أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب بن زيدون المخزومي الأندلسي، أبو الوليد. وزير، كاتب وشاعر من أهل قرطبة، انقطع إلى ابن جهور من ملوك الطوائف بالأندلس، فكان السفير بينه وبين ملوك الأندلس فأعجبوا به. واتهمه ابن جهور بالميل إلى المعتضد بن عباد فحبسه، فاستعطفه ابن زيدون برسائل عجيبة فلم يعطف. فهرب واتصل بالمعتضد صاحب إشبيلية فولاّه وزارته، وفوض إليه أمر مملكته فأقام مبجّلاً مقرباً إلى أن توفي باشبيلية في أيام المعتمد على الله ابن المعتضد. ويرى المستشرق كور أن سبب حبسه اتهامه بمؤامرة لإرجاع دولة الأمويين. وفي الكتاب من يلقبه بحتري المغرب، أشهر قصائده: أضحى التنائي بديلاً من تدانينا. ومن آثاره غير الديوان رسالة في التهكم بعث بها عن لسان ولاّدة إلى ابن عبدوس وكان يزاحمه على حبها، وهي ولاّدة بنت المستكفي. وله رسالة أخرى وجهها إلى ابن جهور طبعت مع سيرة حياته في كوبنهاغن وطبع في مصر من شروحها الدر المخزون وإظهار السر المكنون.

قصة للرشيد

وَلي فَرَسٌ لِلحِلمِ بِالحِلمِ مُلجَمٌ..... وَلي فَرَسٌ لِلجَهلِ بِالجَهلِ مُسرَجُ فَمَن شاءَ تَقويمي فَإِنّي مُقَوَّمٌ ... وَمن شاءَ تَعويجي فَإِنّي مُعَوَّجُ وَما كُنتُ أَرضى الجَهلَ خَدناًوَصاحِباً ... وَلَكِنَّني أَرضى بِهِ حينَ أُحرَجُ (¬1) وله من قصيده أخرى يقول فيها: إذا كنت بين الحلم والجهل مائلا ... وخيرت أنا شئت فالحلم أفضل ولكن إذا أنصفت من ليس منصفا ... ولم ير فضلاً منك فالجهل أفضل (¬2) أما الفرزدق فهو يقول: أَحلامُنا تَزِنُ الجِبالَ رَزانَةً ... وَتَخالُنا جِنّاً إِذا ما نَجهَلُ (¬3) ويقول ابن مجير الأندلسي: ليت الشبابَ الذي ولت نضارتُهُ ... أعطانِي الحِلمَ فيما كان أعطاني فلم تكن مِنةٌ للشيبِ أحملُها ... ولم يكن من سروري بعضُ أحزاني قال أبو عبيد: من أمثالهم في الحلم: "إذا نزا بك الشر فابعد -أي فاحلم ولا تسارع إليه-", ومنه قول الآخر: "الحليم مطية الجهول -أي يحتمل جهله ولا يؤاخذه به, يضُرب في وجوب الإغضاء عن الجاهل-", وقولهم: "لا ينتصف حليم من جاهل", وقولهم أيضاً: "أخِّر الشر فإن شئت تعجلته", وقولهم في الحليم: إنه لواقع الطير ولساكن الريح", وقولهم في الحلماء: "كأنما على رؤسهم الطير", ومنه قولهم: "إنما أسمع فأذر", وقولهم: "حلمي أصم وأذني غير صماء -يضرب به الحليم للجهول أي أعرض عن الخنا بحلمي وإن سمعته بأذني-". (¬4) قصة للرشيد اختار الرشيد رجلا صالحا يوليه القضاء. فجاء اليه الرجل وقال: يا أمير المؤمنين , إني لا احسن القضاء ولست بفقيه. قال له الرشيد: إنما فيك ثلاث خلال: لك الشرف والشرف يمنع صاحبه من الدناءه, وفيك الحلم والحلم يمنع صاحبه من العجلة, ومن لم يعجل قل خطأه, وانت تشاور في امرك ومن شاور كثر صوابه. واما الفقه فنحضر لك من تتفقه على يديه, وولاه الرشيد القضاء فما وجد فيه مطعنة (¬5) . ولله در أبي العتاهية حيث يقول: فَيا رَبِّ هَب لي مِنكَ حِلماً فَإِنَّني ... أَرى الحِلمَ لَم يَندَم عَلَيهِ حَليمُ وَيا رَبِّ هَب لي مِنكَ عَزماً عَلى التُقى ... أُقيمُ بِهِ ما عِشتُ حَيثُ أُقيمُ أَلا إِنَّ تَقوى اللَهِ أَكرَمُ نِسبَةٍ ... تَسامى بِها عِندَ الفَخارِ كَريمُ إِذا ما اجتَنَبتَ الناسَ إِلا عَلى التُقى ... خَرَجتَ مِنَ الدُنيا وَأَنتَ سَليمُ الحليم اسم من أسماء الله تعالى الحليم اسم من أسماء الله الحسنى فقد ورد في الحديث النبوي: (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) (¬6) ، وقد عُد منها ¬

_ (¬1) - ونسبت هذه الأبيات أيضا لمحمد بن حازم الباهلي , ولمحمد بن وهيب الحميري , والله أعلم. (¬2) - الموسوعة الشعرية (92) . (¬3) - سمط اللألي لأبي عبيد البكري ج (1) ص (218) , تحقيق عبد العزيز الميني 1354هـ, الموسوعة الشعرية ص (192) . (¬4) - العقد الفريد ج3ص50. (¬5) - دليل السائلين ص 216 (¬6) - صحيح البخاري باب ان لله مائة اسم إلا واحداً حديث (6957) .

(الحليم) في رواية الترمذي, ونقل أبو حاتم عن ضمرة قال: الحلم ارفع من العقل لان الله تبارك وتعلى تسمى به (¬1) . وقال الاقليشي أن اتصاف الله سبحانه بمعنى الحلم يعني البراءة عن الطيش, فمعلوم بالبرهان المودي إلى معرفة كمال الله تعالى، أما اتصافه بالحلم بمعنى تأخير العقوبة أو رفعها، فاحدهما: معلوم بالمشاهدة والثاني بالموارد النقلية وإجماع أهل الملة الحنيفة. وقال أبو سليمان الخطابي: الحليم:هو ذو الصفح والأناءة الذي لا يستفزه غضب، ولا يستخفه جهل جاهل ولا عصيان عاص، ولا يستحق الصافح مع العجز اسم الحليم، إنما الحليم هو الصفوح مع القدرة المتأني الذي لا يعجل بالعقوبة. وقيل في معنى الحليم: أنه الذي يدر على خلقه النعم الظاهرة والباطنة مع معاصيهم وكثرة زلاتهم، فيحلم عن مقابلة العاصين بعصيانهم. ويستعتبهم كي يتوبوا ويمهلهم كي ينوبوا. (¬2) قال الحليمي: في معنى الحليم: انه الذي لا يحبس إنعامة وإفضاله عن عباده لأجل ذنوبهم، ولكن يرزق العاصي كما يرزق المطيع، ويبقيه وهو منهمك في معاصيه كما يبقي البر التقي، وقد يقيه الآفات والبلايا، وهو غافل لا يذكر فضلا عن أن يدعوه كما يقيه الناسك الذي يسأله (¬3) ، وفي الذكر ¬

_ (¬1) - روضة العقلاء ص (170) . (¬2) - شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة للعلامة سعيد بن وهاف القحطاني ص (105) الطبعة (10) 1425هـ. (¬3) - البيهقي في الأسماء والصفات ص (72) , والجامع لأسماء الله الحسنى دراسة وتحقيق حامد احمد الطاهر الطبعة الأولى 1423هـ دار الفجر للتراث القاهرة.

ثمرة معرفة اسم الله الحليم

الحكيم {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (¬1) ، وفي سورة الحج يقول الحق: {لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} (¬2) . ثمرة معرفة اسم الله الحليم من عرف أن ربه حليم على من عصاه وجب عليه هو أن يحلم على من خالف أمره فذاك به أولى حتى يكون حليماً فينال من هذا الوصف قدراً يكسر سورة غضبه ويرفع الانتقام عمن أساء إليه، بل يتعود الصفح حتى يعود الحلم له سجية، وكما تحب أن يحلم عنك مالكك، فاحلم أنت عمن تملك الإساءة إليه، لأنك متعبد بالحلم, والصبر قد يكون داخلاً تحت الحلم، إذ كل حليم صابر وقد وُصف الله عز وجل بالصبر كما فيٍ حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: (لَيْسَ أَحَدٌ أَوْ لَيْسَ شَيْءٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ, إِنَّهُمْ لَيَدْعُونَ لَهُ وَلَدًا وَإِنَّهُ لَيُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ) (¬3) ، وبناءً على هذا فوصف الله تعلى بالصبر يأتي بمعنى الحلم, ومعنى وصفه بالحلم هو تأخير العقوبة عن المستحقين لها فمن عرف هذا الاسم حفظ الود، وأحسن العهد، وأنجز الوعد وستر العيوب التي راءها، ولم يستفزه الخلق بطغيانهم وعصيانهم (¬4) ، قال الشاعر: وَفي الحِلمِ وَالإِسلامِ لِلمَرءِ وازِعٌ ... وَفي تَركِ طاعاتِ الفُؤادِ المُتَيَّمِ ¬

_ (¬1) - سورة البقرة (235) . (¬2) - سورة الحج (59) . (¬3) - صحيح البخاري باب الصبر على الأذى حديث (5748) , وصحيح مسلم باب صفة القيامة حديث (2804) . (¬4) - الجامع للأسماء الحسناء ص (98) .

دعاء الله باسمه الحليم

بَصائِرُ رُشدٍ لِلفَتى مُستَبينَةٌ.... وَأَخلاقُ صِدقٍ عِلمُها بِالتَعَلُّمِ (¬1) وقال زهير بن أبي سلمى: وَفي الحِلمِ إِدهانٌ وَفي العَفوِ دُربَةٌ ... وَفي الصِدقِ مَنجاةٌ مِنَ الشَرِّ فَاِصدُقِ (¬2) وفي محكم التنزيل: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (¬3) . دعاء الله باسمه الحليم نسألك اللهم يا حليم يا عظيم يا من تعاليت عن الشبه والنظير، أن ترزقنا من الحلم ما تزين به أخلاقنا وترضى به عنا في أقوالنا وأفعالنا وأعمالنا، إنك حليم رحيم كريم وصلى الله على محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. ويرحم الله أبا مسلم العماني حيث يقول: أتيت ذنوباً يا غفور فكن لها ... وقد تبت منها يا حليم مبدلا وله أيضاً: الله بسم الله عبدك مسرف ... وعظيم حلمك يا حليم هو الأمل ومن قصيدة أخرى له: سيدي يا غفور قد تبت فاغفر ... وتجاوز عن قبح سوءة فعلي سيدي يا حليم عادتك الحلـ ... ـم ومن عادتي اقترافي وبطلي أما عبد الرحيم البرعي فهو يقول: ¬

_ (¬1) - البيان والتبيين للجاحظ جزء (1) ص (197) , والموسوعة الشعرية ص (194) . وينسب البيتان لكثير عزة. (¬2) - فصل المقال لأبي بكر البكري ص (328) , والموسوعة الشعرية ص (190) . (¬3) - سورة آل عمران (134) .

كَريم منعم برّ لَطيف ... جَميل الستر للداعي مجيب حَليم لا يعاجل بالخَطايا ... رَحيم غيم رحمته يصوب

الفصل الثاني والعشرون الرفق

الفصل الثاني والعشرون الرفق

الرفق

الرفق الرفق: لين الجانب بالقول والفعل والاخذ بالاسهل مالم يكن مكروها او حراما, وهو خلاف العنف وسبب كل خير, والرفق من سمات المؤمن التي زين الأسلام بها حياته. والرفق من الخلال الجميلة، والصفات الحميدة، والفضائل الجليلة، فمن استعمل الرفق في أموره غنم، ومن ركب العنف ندم، ومن اقتحم اللجة اتلف المهجة، ومن أعجبته آراؤه غلبته أعداءه، ومن اقتحم الأمور لقي المحذور، ومن جعل الرفق دليله كان الإحسان رفيقه، والأناه نصيبه، وتجنب في أموره العجل، ولم يقع في مستنقع الزلل، والرفق مفتاح الرزق، صنيعه يصل إلى القلوب، ويرضى عن صاحبه علام الغيوب، وصاحب الرفق أليف محبوب، فمن جعل الرفق حليته حسنت سيرته، وتالّف الأضداد، ووصل إلى المراد، ومن جانب الرفق جانب السلامة، ووقع فيما يوجب الندامة والملامة، وعجل في أموره، وزال سروره، فالعجول مخطئ وان ملك، والمتأني مصيب وان هلك، فمن أعطي الرفق فقد أعطي حظه من الخير، وأحبه الله والناس، وفي الحديث النبوي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنْ الرِّفْقِ فَقَدْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنْ الْخَيْرِ) (¬1) ، قال الذهبي رحمه الله: وعن نصر بن على قال دخلت على المتوكل، فإذا هو يمدح الرفق فأكثر، فقلت يا أمير المؤمنين أنشدني الأصمعي: ¬

_ (¬1) - سنن الترمذي باب ما جاء في الرفق حديث (2013) .

الرفق يحبه الله

لم أرَ مثل الرفق في لينه ... اخرج للعذراء من خدرها من يستعن بالرفق في أمره ... يستخرج الحية من جُحرها (¬1) وفي الأمثال السائرة: من لانت كلمته وجبت محبته وقيل: الكلمة الينة تخرج الحية من جحرها, والأناة نجاة قال الشاعر: والرِفقُ يُمنٌ وَالأَناةُ سَعادَةٌ ... فَتَأَنَّ في أَمرٍ تُلاقِ نَجاحا (¬2) أما سابق البربري فهو يقول: إِذا زَجَرتَ لَجُوجا زِدتَه عُلَقا ... ولجَّتِ النَّفسُ منهُ في تَمَادِيها فَعُد عليه إذا ما نَفسُه جَمَحت ... باللينِ مِنكَ فإنَّ اللِّينَ يَثنيِها الرفق يحبه الله الرفق يحبه الله فكن رفيقاً بالناس تغنم وتسلم، وتظفر بما تحلم، وتبتعد عن الذم، وتتألف القلوب، وتكون عند الله وعند الناس محبوبا. قال أبو حاتم رضي الله عنه: الواجب على العاقل لزوم الرفق في الأمور كلها، وترك العجلة والخفة فيها، إذ الله تعالى يحب الرفق في الأمور كلها، ومن منع الرفق منع الخير، كما أن من أعطي الرفق أعطي الخير، ولا يكاد المرء يتمكن من بغيته في سلوك قصده في شي من الأشياء على حسب الذي يحب إلا بمقارفة الرفق ومفارقة العجلة (¬3) . ¬

_ (¬1) - سير أعلام النبلاء ج (12) ص (134) والموسوعة الشعرية ص (205) . (¬2) - هذا البيت ينسب إلى النابغة الذبياني وينسب أيضا إلى الإمام علي رضي الله عنه. (¬3) - روضه العقلاء ص (176) .

وما ذكره أبو حاتم صحيح خليق الأخذ به، ففي الحديث النبوي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ) (¬1) . فمن تحلى بالرفق أقال العثرات، وأغضى عن الهفوات وفي الهدي النبوي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ) (¬2) أي أهل المروءة والصلاح, والعثرات هي الزلات. فالمحظوظ من أخذ بالمنهاج السوي وتبع الهدي النبوي، واجتنب التعالي والخرق، ولم يظلم من الناس احداً، وابتعد عن التعالي والخرق، ففي الحديث النبوي الشريف: (لا يكون الخرق في شي إلا شانه، وإن الله رفيق يحب الرفق) (¬3) ، وفي صحيح مسلم: (إِنَّ الرِّفْقَ لا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ وَلا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ) (¬4) ، والعاقل يحب ما يحبه الله، ولا يرضى لنفسه إلا بما يرضى به الله، والرفق يمن، والعنف زلل وفشل. قال الشاعر: الرفق يمن سيلقى اليمن صاحبه ... والخرق منه يكون العنف والزلل والحزم أن يتأنى المرء فرصته ... والكف عنها إذا ما أمكنت فشل والبر لله خير الأمر عاقبة ... والله للبر عون ماله مثل ¬

_ (¬1) - صحيح البخاري باب الرفق في الأمر كله حديث (5678) . (¬2) - الأدب المفرد الجامع للآداب النبوية للإمام محمد بن إسماعيل البخاري ص (135) طبعة دار المعرفة بيروت 1424هـ2003م, وسنن أبي داود باب في الحدود حديث (4375) . (¬3) - الأدب المفرد ص (135) . (¬4) - صحيح مسلم باب فضل الرفق حديث (2594) .

التزام الرفق ومباينة العنف

خير البرية قول خيرهم عملا.....لا يصلح القول حتى يصلح العمل (¬1) وروي انه كتب عمر رضي الله عنه إلى معاوية يعاتبه في التأني: أما بعد فان التفهم في الخير زيادة ورشد، وانه من لا ينفعه الرفق يضره الخرق، ومن لا تنفعه التجارب لا يدرك المعاني- أو قال: المعالي-, ولا يبلغ الرجل مبلغ الري حتى يغلب حلمه جهله وتصبره شهوته، ولا يدرك ذلك إلا بالقوة والحلم (¬2) ، وفي الحديث: (إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَيْهِ مَا لا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ) (¬3) ، قال الشاعر: بني إذا مسك الضر فاتئد ... فالرفق أولى بالأريب وأحرز فلا تحمين عند الأمور تعززاً ... فقد يورث الذل الطويل التعزز (¬4) التزام الرفق ومباينة العنف قال أبو حاتم رضي الله عنه: العاقل يلزم الرفق في الأوقات، والاعتدال في الحالات، لان الزيادة على المقدار في المبتغى عيب، كما أن النقصان في ما يجب من المطلب عجز، وما لم يصلحه الرفق لم يصلحه العنف، ولا دليل امهر من رفق، كما لا ظهير أوثق من العقل، والرفق أوثق من العقل، ومن الرفق يكون الاحتراز، وفي الاحتراز ترجى السلامة، وفي ترك الرفق يكون الخرق، وفي لزوم الخرق تخاف الهلكة (¬5) . ¬

_ (¬1) - أورد هذه الأبيات بن حبان في روضة العقلاء ص (176) وقال وأنشدني المنتصر بن بلال الأنصاري وذكر الأبيات. (¬2) - روضه العقلاء ص (178) . (¬3) - سنن أبي داود باب في الرفق حديث (4807) , وجاء أيضاً في سنن ابن ماجه باب الرفق حديث (3688) . (¬4) - الأدب المفرد ص (137) . (¬5) - روضه العقلاء ص (177) .

الرفيق من الأسماء الحسنى

ومن صحب العنف في أعماله تضعضعت أحواله، وانتقضت عليه رجاله، وأدبر بعد الإقبال، ووقع في البوار والوبال، قال الشاعر: إذا ما أتيت الأمر من غير بابه ... تصعب حتى لا ترى فيه مرتقى وان الذي يصطاده الفخ أن أتى ... على الفخ كان الفخ اعتى واضيقا وفي الذكر الحكيم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (¬1) . قصة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: خرج عمر بن الخطاب من المدينة قاصدا بيت المقدس ومعه راحلة وغلام, فلما صار في ظاهر المدينة قال لغلامه: نحن اثنان والراحلة واحدة, فإن ركبت انا ومشيت انت ظلمتك, وان ركبت انت ومشيت انا ظلمتني, وإن ركبنا الاثنان, قصمنا ظهرها فالنقسم الطريق مثالثة, واخذ عمر رضي الله عنه يركب مرحلة, ويقود مرحلة, وتمشي الراحلة امامهما. الرفيق من الأسماء الحسنى عد بعض العلماء الرفيق في أسماء الله الحسنى، ولم يرد في القران اسماً ولا فعلاً, ولكن ورد في صحيح مسلم: (إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ) ، أي متصف بصفة الرفق. ¬

_ (¬1) - سورة آل عمران (159) .

رفيق فعيل بمعنى فاعل. وقال المازري: رفيق: صفة فعل، وهي ما يخلقه الله من الرفق بعباده، وقال النووي: فيه تصريح بتسميته سبحانه وتعالى ووصفه برفيق، وفيه فضل الرفق, والحث على التخلق به، وذم العنف (¬1) . وفي النهاية: الرفق لين الجانب وهو خلاف العنف (¬2) ، وهو سبب كل خير، والرفيق أيضا ضد الأخرق وهو مشترك، وقيل أصل الرفق الاحتيال لإصلاح الأمور وإتمامها، والله تعالى عن ذلك ما يليق بجلاله سبحانه فهو الرفيق أي: الكثير الرفق، وقد يجيء الرفق بمعنى الإرفاق وهو الإعطاء إذ هو الميسر والمسهل لأسباب الخير مُحِلها والمعطي لها، وقد يجيء الرفق بمعنى التمهل في الأمور والتأني فيها (¬3) . فالله تعالى رفيق في أفعاله، خلق المخلوقات كلها بالتدريج شيئاً فشيئا بحسب حكمته ورفقه، مع انه قادر على خلقها دفعة واحده (¬4) ، وقال الخطابي قوله: إن لله رفيق معناه ليس بعجول، وإنما يعجل من يخاف الفوت، فأما من كانت الأشياء في قبضته وملكه فليس يعجل فيها (¬5) . ¬

_ (¬1) - شرح النووي على صحيح مسلم ج8ص407. (¬2) - النهاية في غريب الحديث والأثر ج2ص602. (¬3) - الجامع لأسماء الله الحسنى ص (147) . (¬4) - شرح أسماء الله الحسنى للقحطاني ص (183) . (¬5) - الجامع لأسماء الله الحسنى ص (148) .

ثمرة معرفة اسمه تعالى الرفيق

ثمرة معرفة اسمه تعالى الرفيق إذا عرف الإنسان أن الله جل وعلى رفيق يحب الرفق ويثيب عليه ما لا يثيب على غيره، ويسهل من المطالب ما لا يتأتى لغيره تحلى بالرفق في أقواله وأفعاله، فكان لين الجناب بالقول والفعل واخذ بالأسهل والأيسر من الأمور، فمن تدبر المخلوقات كلها وعرف أن الله خلقها شيئاً فشيئاً بحسب حكمته ورفقه مع قدرته على خلقها دفعة واحدة، وجب عليه أن يكون رفيقاً في أقواله وأفعاله وترك العجلة في أموره وجميع أحواله لأن العجلة من الشيطان، فمن تعجّل في أموره وأحواله قل ما تفارقه الخيبة والخسران، ومن تدبر الشرائع كيف أتى بها الله شيئاً بعد شيء شهد من ذلك العجب العجيب. فالمتأني الذي يأتي الأمور بسكينه ووقار إتباعاً لسنن الله في الكون وإتّباعاً لهدي نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم سيجد أن بهديه وطريقه تتيسر له الأمور، وبالأخص الذي يحتاج إلى أمر الناس ونهيهم وإرشادهم فانه مضطر إلى الرفق واللين (¬1) ، وفي الذكر الحكيم {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (¬2) . ومن أذاه الخلق بالأقوال البشعة وصان لسانه عن مشاتمتهم، ودافع عن نفسه برفق ولين، اندفع عنه من أذاهم ما لا يندفع بمثل مقالهم وفعالهم، ومع ذلك فقد كسب الرحمة والطمأنينة والرزانة والحلم (¬3) ، وفي الذكر الحكيم: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ ¬

_ (¬1) - شرح أسماء الله الحسنى للقحطاني ص (184) . (¬2) - سورة النحل (125) . (¬3) - الحق الواضح المبين ص (63) .

حَمِيمٌ} (¬1) ، فالمؤمن رفيق في أخلاقه، رفيق في أعماله وتعامله، رفيق مع أهله وإخوانه، رفيق في رعيته، رفيق في شجاعته وسياسته، رفيق في وصيته وجميع أحواله، ويرحم الله أبا العتاهية حيث يقول: الرِفقُ يَبلُغُ ما لا يَبلُغُ الخَرَقُ ... وَقَلَّ في الناسِ مَن يَصفو لَهُ خُلُقُ وفي الأمثال السائرة: "الرفق يمن والخرق شؤم"، قال الميداني: اليمن: البركة، والرفق الاسم من رفق به يرفق، وهو ضد العنف، والذي في المثل من قولهم (رفق الرجل فهو رفيق) وهو ضد الخُرق من الأخرق، والمثل يضرب في الأمر بالرفق والنهي عن سوء التدبير (¬2) ، لان الرفق مطلوب في كل الأحوال حتى عند النصر والظفر. قال شوقي: إن تكن ظافراً فكُنْه برفقِ ... فشجاعٌ بغيرِ رفقٍ جبانُ إن عندي لكل شيءٍ تماما ... وتمامُ الشجاعةِ الإِحسانُ ويرى المتنبي أن الرفق بالجاني عتاب فيقول: تَرَفَّق أَيُّها المَولى عَلَيهِم ... فَإِنَّ الرِفقَ بِالجاني عِتابُ أما ابن زريق البغدادي (¬3) فهو يرى أن الرفق خير من التأنيب والعذل فيقول: لا تَعذَلِيه فَإِنَّ العَذلَ يُولِعُهُ ... قَد قلت حَقاً وَلَكِن لَيسَ يَسمَعُهُ جاوَزتِ فِي لَومهُ حَداً أَضَرَّبِهِ ... مِن حَيثَ قَدّرتِ أَنَّ اللَومَ يَنفَعُهُ فَاستَعمِلِي الرِفق فِي تَأِنِيبِهِ بَدَلاً ... مِن عَذلِهِ فَهُوَ مُضنى القَلبِ ُموجعُهُ ويرى ابن الهباريه (¬4) لزوم الرفق بالرعية وذلك في أرجوزته التي يقول فيها: حفظ الحُقوق الضائِعه ... وَضع الندى مواضعه إِزالة المناكر ... خطابة المنابر الرفق بِالرعايا ... إِزالة الشكايا ويقول أيضا: الرفق بالرعيه ... مِن كَرَم السجيه ويرشد ابن الهباريه إلى سلوك سبيل الرفق والتاني فيقول: فَكُن كَثير الحفظ وَالتوقى ... وَسالِكاً فيهِ سَبيل الرفق ويقول: نعم الرَّفيق الرفق ... بئس القرين الخرق أما بن معصوم فهو يرى أن من لوازم وشروط الصداقة والصحبة الرفق والمحبة فيقول: ¬

_ (¬1) - سورة فصلت (34) . (¬2) - الميداني في مجمع الأمثال ص (305) . (¬3) - ابن زريق البغدادي (المتوفى 420هـ /1029م) أبو الحسن علي (أبو عبد الله) بن زريق الكاتب البغدادي, انتقل إلى الأندلس وقيل إنه توفي فيها, وله هذه القصيده العينية اوردنا منها الثلاثة الابيات وقد اسمى هذه القصيده قمر في بغداد ومطلعها: ... لا تعذليه فإن العذل يولعه ... قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعه (¬4) - ابن الهبارية (414 - 509هـ / 1023 - 1115م) محمد بن محمد بن صالح العباسي الهاشمي نظام الدين أبو يعلى, ابن الهبّارية: سمي بذلك نسبة إلى هبّار جده لأمه شاعر هجاء ولد في بغداد، وأقام مدة في أصبهان، وفيها ملكشاه ووزيره نظام الملك. وله مع الوزير أخبار، فقد كان شاعراً خفيف الظل طيب النفس ظريفاً. قال ابن خلكان: كان شاعراً مجيداً حسن المقاصد، لكنه كان خبيث اللسان كثير الهجاء، والوقوع في الناس لا يكاد يسلم من لسانه أحد. وتوفي في كرمان, من كتبه (الصادح والباغم-ط) أراجيز في ألفي بيت على أسلوب كليلة ودمنة، و (نتائج الفطنة في نظم كليلة ودمنة - ط) ، و (فلك المعاني) ، و (ديوان شعر) أربعة أجزاء.

دعاء الله باسمه الرفيق

صَداقَةُ الإخوانِ ... الخلَّصِ الأَعوانِ لها شُروطٌ عِدَّة ... على الرَخا والشِدَّه الرِفقُ والتلطُّفُ ... والودُّ والتعطُّفُ ويرحم الله أبا الفتح البستي حيث يقول: ورافِقِ الرَّفْقَ في كُلَّ الأمورِ فلَمْ ... يندّمْ رَفيقٌ ولم يذمُمْهُ إنسانُ دعاء الله باسمه الرفيق اللهم يا رفيق يا قدير يا علي يا كبير يا من هو على كل شيء قدير نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن ترزقنا والمؤمنين الرفق وحسن التدبير في كل قول وعمل انك على كل شيء قدير، وان تجنبنا الخرق والحمق وسوء الأخلاق، وان تحبب إلينا الإيمان، وترزقنا التسامح والتعاون مع جميع المؤمنين، والرفق بالآباء والاخوان والخلق أجمعين، وان تجعل ذلك كله محل رضوانك يا رفيقاً بالخلق أجمعين وصلى الله على محمد النبي الأمين وعلى آله وأصحابه والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين.

الفصل الثالث والعشرون الصبر

الفصل الثالث والعشرون الصبر

الصبر

الصبر الصبر: مشتق من صبر اذا حبس ومنع, وهو حبس النفس عن الجزع وحملها على مايقتضيه الشرع والعقل, وحبس اللسان عن التشكي والتسخظ, والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحوها. وانواع الصبر ثلاثة: صبر على ماامر الله به, وصبر عما نها الله عنه, وصبر على ماقدره الله من المصائب, وفي الذكر الحكيم {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (¬1) , وفي سورة الزمر يقول الحق جل وعلى {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬2) والصبر من الفضائل الخُلقية الذي تعود الإنسان السكينة والاطمئنان، وتكون بلسماً لجراحه، ودواءً لمرضه وبلائه، فالصابر يتلقى المكاره بالقبول فيحبس نفسه عن السخط فيتحلى بالسكينة والوقار، والصبر سبب لحصول الضياء في القلب، والهدوء في الطبع، لأن الصابر يعلم أن حبس النفس في الطاعة، وحبسها عن المعصية شجاعة، فالصابر يرى في الشدة حكمه فعليه أن يتلقاها بالرضا ليظفر بالثواب والأجر، والجاهل يضجر ويحزن ويكتئب، ولولا الصبر لانهار الإنسان من البلاء الذي ينزل عليه، ولأصبح عاجزاً عن السير في ركب الحياة على النحو الذي يحبه الله، وقد عني القران بالصبر ومدحه، ورفع قدره وأعلى منزلته، وأثنى على المتحلين به ثناء لا مزيد عليه، وذكره في القران نحو سبعين مرة مما يدل على عظم أمره وعلو شأنه، فهو أساس لكثير من الفضائل بل هو أمها، لأنه يربي ملكات الخير في النفس. وقد قال بعض العلماء: "الشجاعة هي الصبر على مكاره الجهاد، والعفاف هو الصبر على الشهوات، والحلم هو الصبر على المثيرات، والكتمان هو الصبر على إذاعة الأسرار". (¬3) والصابرون مؤيدون بمعونة الله، وصاحب الصبر مهتدٍ مستضيء بنور الله, وفي الحديث النبوي الشريف: (وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ) (¬4) ، والصبر خير كله، ومن يتصبر يصبره الله، ومن يتحمل المكاره والمصائب يعنه الله ويساعده، وفي الحديث النبوي أن رسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: (وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ) (¬5) ، وما رزق الله أحداً خيراً من الصبر، والصابر يحبه الله ويكرمه ويثيبه ويقدمه، كما قال جل شأنه {وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (¬6) ، والصبر عزيمة ورشد، وثبات ونجاح، وفي الذكر الحكيم {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬7) ، وقال علي بن أبي طاب رضي الله عنه: (عليكم بالصبر، فانه ¬

_ (¬1) - سورة البقرة آية (45) . (¬2) - سورة الزمر آية (10) . (¬3) - روح الدين الإسلامي تأليف العلامة عفيف عبد الفتاح طباره، ص (214) , الطبعة (27) 1988م، دار العلم للملايين بيروت لبنان. (¬4) - رواه مسلم في صحيحه باب فضل الوضوء حديث (223) . (¬5) - رواه البخاري في صحيحه باب الاستعفاف عن مسألة حديث (1400) . (¬6) - سورة آل عمران (146) . (¬7) - سورة الزمر (10) .

الصبر مفتاح النجاح

لا إيمان لمن لا صبر له) ، وقد قيل الكمال في ثلاث الثبات في الدين، وإصلاح المال، والصبر على النوائب. الصبر مفتاح النجاح الصبر مفتاح النجاح، وسبب الفلاح، وقديماً قيل: من علامة حسن النية الصبر على الرزية، ويرحم الله علي بن الجهم حيث يقول: سهِّل على نفسك الأمورا ... وكن على مرها صبورا وان ألمَّت صروف دهر ... فاستعن الواحد القديرا فكم رأينا أخا هموم ... أعقب من بعدها سرورا ورب عسر أتى بيسر ... فصار معسوره يسيرا ويقول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إِصبِر قَليلاً فَبَعدَ العُسرِ تَيسيرُ ... وَكُلُّ أَمرٍ لَهُ وَقتٌ وَتَدبيرُ وَلِلمُهَيمِنِ في حالاتِنا نَظَرٌ ... وَفَوقَ تَقديرِنا لِلّهِ تَقديرُ وإذا كان المؤمن يعلم أن الله مصدر كل خير، وهو أولى بعرفان الجميل، وهو الذي يعين على الصبر، ويثيب عليه صبر صبراً جميلا، وليعقوب عليه السلام في الصبر الجميل مخاطباً أولاده الذي سولت لهم أنفسهم إلقاء يوسف عليه السلام في غيابة الجب ما حكاه الله في التنزيل {وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (¬1) . ¬

_ (¬1) - سورة يوسف (18) .

وقد أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يصبر، وان يهجر أهل الأذى هجرا جميلا أولئك الذين كانوا يقلون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يقابل إساءتهم بمثلها بل يعفو عنهم فقال جل شأنه: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} (¬1) . قال الشاعر: صبراً جميلاً على ما ناب من حدث ... والصبر ينفع أحياناً إذا صبروا الصبر أفضل شيء تستعين به ... على الزمان إذا ما مسك الضرر وقد قال الإمام علي رضي الله عنه: أَلا فَاصبِر عَلى الحَدَثِ الجَليلِ ... وَداوِ جَواكَ بِالصَبرِ الجَميلِ وَلا تَجزَع وَإِن أُعسِرتَ يَوماً ... فَقَد أَيسَرَت في الزَمَنِ الطَّويلِ وَلا تَيأَس فَإِنَّ اليَأسَ كُفرٌ ... لَعَلَّ اللَهَ يَغني مِن قَليلِ وَلا تَظُننْ بِرَبِّكَ غَيرَ خَيرٍ ... فَإِنَّ اللَهَ أَولى بِالجَميلِ وَإِنَّ العُسرَ يَتبَعُهُ يَسارٌ ... وَقَولُ اللَهِ أَصدَقُ كُلَّ قيلِ فَلَو أَنَّ العُقولَ تَجُرُّ رِزقاً ... لَكانَ الرِزقُ عِندَ ذَوي العُقولِ وَكَم مِن مُؤمِنٍ قَد جاعَ يَوماً ... سَيُروى مِن رَحيقٍ سَلسَبيلِ وفي الأمثال السائرة: "الصبر مفتاح الفرج" (¬2) ، وقيل: إن العاقل يتعزى فيما ينزل به من مكروه بأمرين: الأول: بما يبقى له من الأجر، والأخر: رجآء الفرج، والجاهل يجزع فيما ينزل به لأمرين: خوف الشماتة, وضيق الحال، ويخاف التقي لما ينزل به بأمرين: الأول منهما: في مصيبته استكبارُهُ ما أتى به، والأخر: خوف ما هو اشد منه (¬3) ، ولهذا فان التقي لا يكون إلا صابرا، وقديم قيل: صبرك عن محام الله أيسر من صبرك على عذاب الله، وفي الأمثال السائرة: صبر ساعة أطول للراحة (¬4) ، ويقال لا تلقى العاقل إلا نافياً للهم عن قلبه بأحد أمرين منها: إن كان لما آتى من مكروه مدفعا فاحتال له بعقل، وان لم يكن لما أتاه مدفع كان الحيلة فيه الصبر، وقد نسب إلى بعض الرهبان انه قال: من احتمل المحنه وصبر رضي بتدبير الله وشكر، كشف الله له عن منفعتها حتى يقف على المستور عنه من مصلحتها (¬5) ، وقيل للمحن أوقات ولأوقاتها غايات، قال علي بن الجهم: هِيَ النَفسُ ما حَمَّلتَها تَتَحَمَّلُ ... وَلِلدَّهرِ أَيّامٌ تَجورُ وَتَعدِلُ وَعاقِبَةُ الصَبرِ الجَميلِ جَميلَةٌ ... وَأَفضَلُ أَخلاقِ الرِجالِ التَفَضُّلُ وَلا عارَ أَن زالَت عَن الحُرِّ نِعمَةٌ ... وَلكِنَّ عاراً أَن يَزولَ التَجَمُّلُ ويرحم الله عبد الله بن ثابت حيث يقول: الصبر من كرم الطبيعة ... والمن مفسدة الصنيعة والحر امنع جانباً ... من ذروة الجبل المنيعة (¬6) وللإمام علي رضي الله عنه: ¬

_ (¬1) - سورة المزمل (10) . (¬2) - مجمع الأمثال للميداني ص (418) . (¬3) - انس المسجون وراحة المحزون ص (52) . (¬4) - مجمع الأمثال للميداني ص (418) . (¬5) - انس المسجون وراحة المحزون ص (51) . (¬6) - عبد الله بن ثابت المقري سكن ببغداد ومات بالرملة سنه 1308هـ , وانظر تاريخ بغداد جز (9) ص (426) .

الصبر يعقبه الفرج

الصَبرُ مِفتاحُ ما يُرجّى ... وَكُلُّ خَيرٍ بِهِ يَكونُ فَاِصبِر وَإِن طالَتِ اللَيالي ... فَرُبَّما طاوَعَ الحُزُونُ وَرُبما نِيلَ بِاِصطِبارٍ ... ما قيلَ هَيهاتَ ما يَكونُ وله أيضا: لا تَكرَهِ المَكروهَ عِندَ نُزولِهِ ... إِنَّ المَكارِهَ لَم تَزَل مُتَبايِنَه كَم نِعمَةٍ لَم تَستَقِلّ بِشُكرِها ... لِلّهِ في طَيِّ المَكارِهِ كامِنَه أما الفرزدق فهو يقول: الدَهرُ يَومانِ ذا ثَبتٌ وَذا زَلَلُ ... وَالعَيشُ طَعمانِ ذا صابٌ وَذا عَسَلُ كَذا الزَمانُ فَما في نِعمَةٍ بَطَرٌ ... لِلعارِفينَ وَلا في نِقمَةٍ فَشَلُ سَعادَةُ المَرءِ في السَرّاءِ إِن رَجَحَت ... وَالعَدلُ أَن يَتَساوى الهَمُّ وَالجَذَلُ وَما الهُمومُ وَإِن حاذَرتَ ثابِتَةً ... وَلا السُرورُ وَإِن أَمَّلتَ يَتَّصِلُ فَما الأَسى لِهُمومٍ لابَقاءَ لَها ... وَما السُرورُ بِنُعمى سَوفَ تَنتَقِلُ لَكِنَّ في الناسِ مَغروراً بِنِعمَتِهِ ... ما جاءَهُ اليَأسُ حَتّى جاءَهُ الأَجَلُ الصبر يعقبه الفرج بالصبر يرتفع البلاء، وتحل السكينة، ويأتي الفرج، وقد قيل: إنكم لا تدركون ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون، فلا يبلغ المرء ما يؤمل إلا بالصبر على ما يكره، وقد قيل: انتظار الفرج بالصبر عباده، وقال الإمام على بن أبي طالب رضي الله عنه: إِنّي أَقولُ لِنَفسي وَهيَ ضَيِّقَةٌ ... وَقَد أَناخَ عَلَيها الدَهرُ بِالعَجَبِ صَبراً عَلى شِدَّةِ الأَيامِ إِنَّ لَها ... عُقبى وَما الصَبرُ إِلاّ عِندَ ذي الحَسَبِ سَيفتَحُ اللَهُ عَن قُربٍ بِنافِعَةٍ ... فيها لِمِثلِكِ راحاتٌ مِن التَعَبِ

الصبر والرضا به

ويرحم الله إسماعيل بن صلاح الأمير حيث يقول: لا تضق بالأمر صدرا ... واعتمد صبرا وشكرا إن في القران حرفا ... جاء للمكروه بشرا ان بعد العسر يسرا ... ان بعد العسر يسرا ان يسرا مع يسر ... يطردان العسر قسرا رب يسر كامن قد ... ظنه الإنسان ضرا ان في تدبير أمر العـ ... ـالم الكلي سرا حكمة دقت وجلت ... عند رب العرش قدرا انه لابد يحلو ... ما تجرعناه مرا وإذا الشدة زادت ... وتناهت فهي بشرا (¬1) وقال أخر: إِنَّ الأُمُورَ إِذا انْسدَّتْ مَسالِكُها ... فالصَّبْرُ يَفْتَحُ منها كُلَّ ما ارْتَتَجَا لا تَيْأَسَنَّ وإِن طالَتْ مُطالَبَةٌ ... إِذا اسْتَعَنْتَ بصَبْرٍ أَنْ تَرَى فَرَجا أَخْلِقْ بذِى الصَّبْرِ أَنْ يَحْظَى بحاجَتِهِ ... ومُدْمِنِ القَرْعِ للأَبْوابِ أَنْ يَلِجَا (¬2) وجاء في شعر جميل صدقي الزهاوي: تمسك بحبل الصبر في كل كربة ... فلا عسر إلا سوف يعقبه يسر أما الخنساء فهي ترى أن الصبر يعقبه السرور فهي تقول: فَإِن تَصبِرِ النَفسُ تُلقَ السُرورَ ... وَإِن تَجزَعِ النَفسُ أَشقى لَها وفي الذكر الحكيم: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (¬3) . الصبر والرضا به الصبر جماع الأمر، ونظام الحزم، ودعامة العقل، وبذر الخير، وحيلة من لا حيلة له. قال أبو حاتم رضي الله عنه: يجب على العاقل إذا كان مبتدئاً أن يلزم عند ورود الشدة سلوك الصبر، فإذا تمكن حينئذ يرتقي من درجة الصبر إلى درجة الرضا، فليلزم التصبر لأنه أول مراتب الرضا ولو كان الصبر من الرجال لكان كريما، إذ هو بذل الخير وأساس الطاعات، وقيل: أول درجة الاهتمام ثم التيقظ، ثم التثبت، ثم التصبر، ثم الرضا، وهو النهاية في الحالات, وقيل: ما نال عبد شيئاً من جسم الخير من نبي أو غيره إلا بالصبر (¬4) ، ولهذا أمر الله عباده المؤمنين بالصبر ووعدهم بعظيم الأجر فقال جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬5) ، وقال جل ¬

_ (¬1) - هو العلامة أبو محمد إسماعيل بن صلاح بن محمد الحسني اليمني المعروف بالأمير، والد البدر المنير محمد بن إسماعيل صاحب التصانيف الفائقة، وقد وردت هذه الأبيات في ترجمة إسماعيل الأمير في نشر العرف لنبلاء اليمن بعد الألف، للعلامة محمد بن محمد زباره، طبعة مركز الدراسات والبحوث ج (1) ص (374) . (¬2) - هذه الأبيات نسبت لمحمد بن زنجي البغدادي، وانظر شرح الحماسة لأبي تمام ج (2) ص (641) , وفي البيان والتبيين للجاحظ، والشعر والشعراء لأبن قتيبه ورد ذكر البيتين الأولين لمحمد بن بشير ورويت لغيرهم. ونسبت أيضا لابن يسير الرياشي , وأيضاً لمحمد بن حازم الباهلي, والله أعلم. (¬3) - سورة آل عمران (186) . (¬4) - روضة العقلاء ص (126) . (¬5) - سورة آل عمران (200) .

شأنه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬1) ، فمن تأزر بالصبر ورضي بما قدره الله استحق الأجر، والمؤمن يعلم أن ما أصابه لم يكن يخطئه، وما أخطئه لم يكن ليصيبه. كما ورد ذلك في حديث ابن عباس ووصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم له: (يَا غُلامُ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ على اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْخَلائِقَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يُعْطُوكَ شَيْئًا لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُعْطِيَكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، أَوْ يَصْرِفُوا عَنْكَ شَيْئًا أَرَادَ أَنْ يُصِيبَكَ بِهِ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا سَأَلْتَ فَسَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَلَمَ قَدْ جَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ) (¬2) . الصبر عواقبه محمودة، وما قدَّره الله كائن, فالعاقل يقابل الشدائد والمحن بالرضا والتسليم لينال ثواب الصبر، ويظفر بتدبير الأمر، قال الشاعر: إِذا عَقَدَ القَضاءُ عَلَيكَ أَمراً ... فَلَيسَ يَحُلُّهُ إِلا القَضاءُ (¬3) وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: دَعِ الأَيّامَ تَفعَلُ ما تَشاءُ ... وَطِب نَفساً إِذا حَكَمَ القَضاءُ وَلا تَجزَع لِحادِثَةِ اللَيالي ... فَما لِحَوادِثِ الدُنيا بَقاءُ وَكُن رَجُلاً عَلى الأَهوالِ جَلداً ... وَشيمَتُكَ السَماحَةُ وَالوَفاءُ وَإِن كَثُرَت عُيوبُكَ في البَرايا ... وَسَرَّكَ أَن يَكونَ لَها غِطاءُ تَسَتَّر بِالسَخاءِ فَكُلُّ عَيبٍ ... يُغَطّيهِ كَما قيلَ السَخاءُ وَلا تُرِ لِلأَعادي قَطُّ ذُلاً ... فَإِنَّ شَماتَةَ الأَعدا بَلاءُ وَلا تَرجُ السَماحَةَ مِن بَخيلٍ ... فَما في النارِ لِلظَمآنِ ماءُ وَرِزقُكَ لَيسَ يُنقِصُهُ التَأَنّي ... وَلَيسَ يَزيدُ في الرِزقِ العَناءُ وَلا حُزنٌ يَدومُ وَلا سُرورٌ ... وَلا بُؤسٌ عَلَيكَ وَلا رَخاءُ إِذا ما كُنتَ ذا قَلبٍ قَنوعٍ ... فَأَنتَ وَمالِكُ الدُنيا سَواءُ والصبر من التقوى قال جل شأنه {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (¬4) ، فبالصبر على ما تكره تنال ما تحب، وبالصبر عن ما تحب تنجو مما تكره، وقيل: ثمرة القناعة الراحة، وثمرة التواضع المحبة، وثمرة الصبر الظفر، وقد حكى الله عن امة صبروا استخلافهم في الأرض وجعلهم أئمة فقال جل شأنه {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (¬5) ، ونسب إلى الفضل بن سهل أنه قال: إن في العلل نعماً لا ينبغي للعقلاء أن ¬

_ (¬1) - سورة النحل (97) . (¬2) - رواه الطبراني في المعجم الكبير باب (3) ج (9) ص (331) حديث (11243) . (¬3) - جاء هذا البيت في قصيدة للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه , ونسب أيضاً لجميل بثينة. (¬4) - سورة البقرة (177) . (¬5) - سورة السجدة (24) .

يجهلوها منها: تمحيص للذنب، وتعرض للثواب -ثواب الصبر-, وإيقاظ من الغفلة، وإذكار بالنعمة في حال الصحة، واستدعاء للتوبة، وحض على الصدقة، وفي قضاء الله وقدره يعد الخيار (¬1) . وجاء في شعر أميه بن أبي الصلت: تَجري الأَمور عَلى حُكم القَضاء وَفي ... طيّ الحَوادِث مَحبوبٌ وَمَكروهُ فَرُبّما سَرَّني ما بِتّ أَحذَرهُ ... وَرُبَّما ساءَني ما بتُّ أَرجوهُ (¬2) وفي أمثال العرب: "من أراد طول البقاء فليوطن نفسه على المصائب". وقولهم: "المصيبة للصابر واحدة, وللجازع اثنتان". وقال أكثم بن صيفي: حيلة من لا حيلة له الصبر. وذكروا عن بعض الحكماء أنه أصيب بابن له فبكى حولاً ثم سلا, فقيل له: ما لك لا تبكي؟ قال: كان جرحاً فبرأ. قال أبو خراش الهذلي: بَلى إِنَّها تَعفو الكُلومُ وَإِنَّما ... نُوَكَّلُ بِالأَدنى وَإِن جَلَّ ما يَمضي ومن ذلك قولهم: "لا تلهف على ما فات", وقولهم: "هون عليك ولا تولع بإشفاق" (¬3) , وهذا المثل مأخوذ من قول ابن حذاق: هَوِّن عَلَيكَ وَلا تَولَع بِإِشفاق ... فَإِنَّما مالُنا لِلوارِثِ الباقي ¬

_ (¬1) - انس المسجون وراحة المحزون ص (59) . (¬2) - الموسوعة الشعرية ص (74) . (¬3) - العقد الفريد ج3ص52.

الحر الصابر لا يريق ماء وجهه

فالصبر على المكاره تحمد عواقبه, ولهذا قيل: "عواقب المكاره محمودة", وقيل: "عند الصباح يحمد القوم السرى", وقولهم: "لا تدرك الراحة إلا بتعب", قال ابن عبدربه: أخذ هذا المثل حبيب فقال: على أنني لم أحوِ مالاً مجمعاً ... ففزت به إلا بشمل مبددِ ولم تعطني الأيام نوماً مسكناً ... ألذ به إلا بنوم مشردِ وأحسن منه قوله: بَصُرتَ بِالراحَةِ الكُبرى فَلَم تَرَها ... تُنالُ إِلّا عَلى جِسرٍ مِنَ التَعَبِ الحر الصابر لا يريق ماء وجهه الصابر لا يريق ماء وجهه ولا يظهر التأفف والتضجر من حكم ربه، فحفظ ماء الوجه يعني عدم الابتذال والإسراف في الطلب، ورحم الله علي بن الجهم حيث يقول: أَقِلّي فَإِنَّ اللَومَ أَشكَلَ واضِحُهْ ... وَكَم مِن نَصيحٍ لا تُمَلُّ نَصائِحُهْ مَتى هانَ حُرٌّ لَم يُرِق ماءَ وَجهِهِ ... وَلَم تُختَبَر يَوماً بِرَدٍّ صَفائِحُهْ سَأَصبِرُ حَتّى يَعلَمَ الصَبرُ أَنَّني ... أَخوهُ الَّذي تُطوى عَلَيهِ جَوانِحُهْ وَأَقبَلُ مَيسورَ الزَمانِ وَإِنَّما ... أَرى العَيشَ مَقصوراً على مَن يُسامِحُهْ فالظفر والنصر والفرج والعز والفلاح تأتي مع الصبر قال الشاعر: صَبِّرِ النَفسَ عِندَ كُلِّ مُلِمٍّ ... إِنَّ في الصَبرِ حيلَةَ المُحتالِ لا تَضيقَنَّ في الأُمورِ فَقَد تُكـ ... ـشَفُ غَمّاؤُها بِغَيرِ اِحتِيالِ

رُبَّما تَجزَعُ النُفوسُ مِنَ الأَمـ.... ـرِ لَهُ فُرجَةٌ كَحَلِّ العِقالِ (¬1) ولبعضهم: قد يصاب الجبان في أخر الصف ... وينجو مقارع الأبطال وللإمام الشافعي رضي الله عنه: صُنِ النَفسَ وَاِحمِلها عَلى ما يَزينُها ... تَعِش سالِماً وَالقَولُ فيكَ جَميلُ وَلا تولِيَنَّ الناسَ إِلّا تَجَمُّلاً ... نَبا بِكَ دَهرٌ أَو جَفاكَ خَليلُ وَإِن ضاقَ رِزقُ اليَومِ فَاِصبِر إِلى غَدٍ ... عَسى نَكَباتُ الدَهرِ عَنكَ تَزولُ (¬2) ولإبراهيم بن عباس الصولي: ولربّ نازِلة يَضيق بِها الفَتى ... ذَرعاً وَعند اللَّه مِنها مَخرَج كَمَلَت فَلَمّا اِستكملَت حَلَقاتُها ... فُرجت وَكانَ يَظُنُّها لا تُفرَج وقال القاضي شمس الدين احمد بن خلكان في وفيات الأعيان انه ما ردد هذين البيتين من نزلت به نازلة إلا فرج الله عنه، وقد جاء في شعر الحكمة: وكل شديدة نزلت بقوم ... سيأتي بعد شدتها رخاء فان الضغط يحويه وعاء ... ويتركه إذا فرغ الوعاء وما ملئ الإناء وسد إلا ... ليخرج ما به امتلئ الإناء (¬3) أما الإمام إبراهيم بن قيس الهمداني الحضرمي فهو يرى انه بالصبر يبلغ ما يؤمله وذلك حيث يقول: ¬

_ (¬1) - تنسب هذه الأبيات لعبيد بن الأبرص ونسبها بعض العلماء إلى أميه بن أبي الصلت والله اعلم. (¬2) - نسبت هذه الأبيات للشافعي, وكذلك للإمام علي, رضي الله عنهما. (¬3) - نسبت هذه الأبيات لقيس بن الخطيم, ونسبت أيضا إلى الربيع بن أبي الحقيق, ونسبت لعلي بن مقلة, والله اعلم.

الصبور في الأسماء الحسنى

الصبر يبلغني المأمول والجلد ... والطيش يبعدني عن ذاك والخرد فالحُر لا يبلغ مأموله إلا بالصبر، ولا يسود قومه إلا بالصبر، ولا يدبر سياسته إلا بالصبر، ولا يتعامل مع جيرانه وإخوانه وأبناء زمانه إلا بالصبر. قال الإمام علي ابن أبي طالب رضي الله عنه: اصبِر عَلى الدَهرِ لاتَغضَب عَلى أَحَدٍ ... فَلا يرى غَيرَ ما في الدَهرِ مَخطوطُ وَلا تَقيمَن بِدارٍ لا انتِفاعَ بِها ... فَالأَرضُ واسِعَةٌ وَالرِزقُ مَبسوطُ أما ابن الوردي فهو يقول: دارِ جارَ الدارِ إنْ جارَ وإنْ ... لمْ تجدْ صبراً فما أحلى النقلْ الصبور في الأسماء الحسنى الصبور من أمثله المبالغة (صبار وصبور) ابلغ من الصابر، والصبور في أسماء الله الحسنى وان لم يرد به التنزيل فقد ورد في الحديث النبوي الشريف (مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ يَدَّعُونَ لَهُ الْوَلَدَ ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ) (¬1) ، وقد اختلف العلماء في تأويل الصبر على أقوال: الأول: انه من صفات ذاته سبحانه بمعنى انه حليم. الثاني: انه من صفات الذات لكن يرجع إلى تأخير العقوبة، والحليم يرجع إلى إسقاطها. الثالث: انه من صفات الفعل ويرجع إلى تأخير العقوبة. والظاهر أن الحلم أعم من الصبر، والذي دل عليه نص الحديث هو أن الصبور يرجع إلى الصبر إرادة تأخير العقوبة، ففيه إشارة إلى تأخير العقوبة عن الكبائر في الدنيا، فهو يعافي ويرزق بعد أن سمع أذى الظالمين، وادعاءهم أن لله ولداً تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيرا، فلا احد اصبر من الله وان كان لابد من معاقبة في الآخرة، فالصبر يرجع إلى تأخير العقوبة التي قدر الله لها وقتاً وحد لها أجلاً ممدوداً (¬2) . وقال الاقليشي: والصبر في وصف الله تعالى، يحتمل أن يكون وصفاً لذاته سلبياً، ويحتمل أن يكون وصفاً ذاتياً، ويحتمل أن يكون فعلياً. فأما الصفة السلبية: فلبراءته عن الطيش والعجلة، ولصبره عن دعوى المفترين، ولهذا أشار النبي صلى عليه وآله وسلم إذ قال: (لا احد اصبر من الله) . وأما الصفة الثابتة: فان روح الصبر وتحقيقه هو الثبات، والله سبحانه هو الثابت الذي لا يحول، والدائم الذي لا يزول، فان قلنا: إن الصبر بمعنى الثبوت صح انه وصف ذاتي. أما الصفة الفعلية: فهو أن يكون صبور من الصيغ المتعددة كضروب وقطوع من ضرب وقطع، فيكون الله تعالى اتصف بالصبور، لأنه صبر قلوب عباده الصابرين بخلق الصبر فيها، حتى لا تميل إلى دواعي الهوى (¬3) . فمن علم ما وجب لله سبحانه من العزة والجلال والعظمة والكمال والكبرياء والجلال، وعلم اقتداره سبحانه على ما يشاء، علم انه الصبور ¬

_ (¬1) - صحيح البخاري باب قول الله تعالى (ان الله هو) حديث (6830) . (¬2) - الجامع لأسماء الله الحسنى ص (183) . (¬3) - الجامع لأسماء الله الحسنى ص (184) .

على آذية من أذاه وافترى عليه، وعلم أن صبره سبحانه ليس حبس النفس على ما يكره، وعلم انه سبحانه لا يتألم بالإمهال، وكل ما يؤذى به أولياؤه فهو صبور عليه وهذه وجوه لا تصح إلا لله تعالى. وقد فرق ابن القيم في عدة الصابرين بين صبر الله تعالى وصبر العباد, وبين الصبر وبين الحلم، فقال: وصبر الله تعالى يفارق صبر المخلوق من وجوه متعددة منها: انه عن قدرة تامة، ومنها: انه لا يخاف الغوث، والعبد إنما يستعجل الخوف الغوث، ومنها انه لا يلحق بصبره الم ولا حزن ولا نقص بوجه ما، وظهور اسمه الصبور في العالم مشهود بالعيان كظهور اسمه الحليم. أما الفرق بين الصبر والحلم، فان الصبر ثمرة الحلم وموجبه، فعلى قدر حلم العبد يكون صبره، فالحلم في صفات الله تعالى أوسع من الصبر، ولهذا جاء اسم الحلم في القران في غير موضع (¬1) ، والمخلوق يحلم عن جهل ويعفو عن عجز، والرب تعالى يحلم مع كمال علمه ويعفو مع تمام قدرته، وما أضيف شي إلى شي أزين من حلم إلى علم، ومن عفو إلى اقتدار، ولهذا كان في دعاء الكرب وصفه سبحانه وتعالى بالحلم مع العظمة، وكونه حليم من لوازم ذاته سبحانه وتعالى. وأما صبره فمتعلق بكفر العباد، وشركهم ومسبّتهم له سبحانه، وأنواع معاصيهم وفجورهم، فلا يزعجه ذلك كله إلى تعجيل العقوبة, بل يصبر ¬

_ (¬1) - عدة الصابرين للامام العلامة بن قيم الجوزية شرح ومراجعة سعيد اللحام ص276, الطبعة الأولى دار الفكر اللبنانية بيروت 1992م.

ثمرة معرفة اسمه تعالى الصبور

على عبده ويمهله، ويستصلحه ويرفق به، ويحلم عنه حتى إذا لم يبق فيه موضع ليضعه أخذه أخذ عزيز مقتدر، بعد غاية الأعذار إليه، وبذل النصيحة له، ودعاءه إليه من كل باب. وهذا كله من موجبات صفات حلمه، وهي صفه ذاتيه لا تزول. وأما الصبر فإذا زال متعلقة، كان كسائر الأفعال التي توجد بوجود الحكمة، وتزول بزوالها. فتأمله انه فرق لطيف ما عثرت الحذاق بعثره، وقل من تنبه له ونبه عليه، وأشكل على كثير هذا الاسم وقالوا: لم يأت في القران، فاعرضوا عن الاشتغال به صفحاً، ثم اشتغلوا بالكلام في صبر العبد وأقسامه، ولو أنهم أعطوا هذا الاسم حقه لعلموا ان الرب تعالى أحق به من جميع الخلق، كما هو أحق باسم العليم، والرحيم، والقدير، والسميع، والبصير، والحي، وسائر أسمائه الحسنى ... وان التفاوت الذي بين صبره سبحانه تعالى وصبرهم كالتفاوت الذي بين حياته وحياتهم، وعلمه وعلمهم، وسمعه وسمعهم، وكذا سائر صفاته (¬1) . وقد قيل لما كان اسم الحليم قد ادخل في الأوصاف، واسم الصبور في الأفعال كان الحلم أصل الصبر، فوقع الاستغناء بذكره في القران عن اسم الصبور والله أعلم (¬2) . ثمرة معرفة اسمه تعالى الصبور إن المؤمن الذي يعرف أن الله جل وتعالى صبور وجب عليه أن يصبر ويتصابر، وان يقطع الالتفات عن غير الله، وان لا يتوكل في جميع أموره إلا على الله تعالى، وان يفرد الله تعالى بالخوف والرجاء، ودفع الضر وجلب الخير والنفع، فهو الذي يمس بالضر بمشيئته، ويدفعه بمشيئته، وفي الذكر الحكيم: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬3) ، وقوله جل: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (¬4) ، وقوله جل وعلا: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬5) ، فعلى المؤمن أن يصبر في البأساء والضراء، وأن يتحمل أذى الخلق، وان يكون صابراً في جده واجتهاده وجهاده، وان يحبس نفسه عن الشهوات، وان يصبر نفسه في الجلوس مع أهل الذكر والدعاء، ويبتعد عن طاعة النفس بولوج الشهوات وإتباع الأهواء، قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} (¬6) ، وقال جل شأنه: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (¬7) ، وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: الإيمان نصفان نصف صبر ¬

_ (¬1) - الجامع لأسماء الله الحسنى ص (184-186) , وعدة الصابرين للإمام بن القيم ص (276-277) بتصرف يسير. (¬2) - الجامع لأسماء الله الحسنى ص (187) , وعدة الصابرين ص (280) . (¬3) - سورة الأنعام (17) . (¬4) - سورة الأعراف (188) . (¬5) - سورة فاطر (2) . (¬6) - سورة الكهف (28) . (¬7) - سورة طه (132) .

ونصف شكر (¬1) ، ومن قهر نفسه عن دواعي الهوى ظفر، وذكر بعض العلماء أن الصبر ينقسم باعتبار حكمه إلى فرض ونفل ومكروه. فالصبر عن الوقوع في المحظورات فرض وكذلك الصبر على أداء الواجبات، وعلى المكاره نفل، والصبر على الأذى المحظور محظور، كمن تقطع يده وهو ساكت والصبر المكروه هو الصبر على الأذى يناله بجهة مكروهه في الشرع (¬2) ، فليس من معاني الصبر المحمود الخضوع والتسليم لأمر يحضره الشرع، وعدم إنكار المعاصي، فإذا كان هناك من يريد مراودة اهلك فترى ذلك وتسكت على ما يجري فهذا الصبر محرم، وإنما الصابر الذي ينكر المنكر، ويصبر على ما أصابه بسبب إنكاره للمنكر، ... وفي الذكر الحكيم ما حكاه الله عن لقمان الحكيم {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (¬3) ، والمؤمن يظهر الحق، ويجتهد في الطاعة، ويصبر على امتثال ما أمر الله به ورسوله، ويوصي نفسه بإتباع الحق كما يوصي غيره به, وصدق الله حيث يقول {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (¬4) . ¬

_ (¬1) - انظر هامش الترغيب والترهيب للمنذري ج (4) ص (304) , طبعة دار التراث العربي بيروت 1388هـ/1968م. (¬2) - هامش الترغيب والترهيب للمنذري ج (4) ص (304) . (¬3) - سورة لقمان (17) . (¬4) - سورة العصر.

دعاء الله باسمه الصبور

والصابر يحسن ظنه بربه، ويتبع ما جاء به نبي الله وخاتم رسله، ولا يجزع من شدة الأيام، ولا يفزع من تقلب الشهور والأعوام, فهو يحسن ظنه بربه في جميع الأحوال ولله در القائل: أحسن الظن برب عوَّدك ... حسناً أمس وسؤ أودك ان رباً كان يكفيك الذي ... كان منك الأمس يكفيك غدك ويرحم الله القائل: أما والذي لا خلد إلا لوجهه ... ومن ليس في العز المبين له كفوُ لئن كان طعم الصبر مُر مذاقه ... لقد يجتنى من غبّه الثمر الحلو دعاء الله باسمه الصبور يا الله يا صبور يا سميع يا بصير يا قوي يا مجيب يا قدير نسألك أن تصلي على محمد واله كما صليت على ابراهيم وان ترزقنا والمؤمنين الصبر على طاعتك وأداء الفرائض والواجبات التي افترضتها، واجعلنا من الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس وصبّرنا على بلائك، واجعلنا من الحامدين لك على آلائك وبلائك، وافرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين، واجعلنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين من عبادك وجميع المؤمنين انك صبور كريم مجيب عظيم وصلى الله وسلم على محمد النبي الأمي وآله وأزواجه وذريته وأصحابه والسائرين على نهجه إلى يوم الدين.

الفصل الرابع والعشرون العفو

الفصل الرابع والعشرون العفو العفو العفو: الصفح عن الذنب, وقيل ان العفو مأخوذ من عفت الريح الأثر اذا درسته, فكأن العافي عن الذنب يمحوه بصفحه عنه, والعفو من الصفات الحميدة، والخلال الطيبة الرشيدة، التي يتحلى بها المرء المؤمن الفاضل، فالعاقل يوطن نفسه على لزوم العفو عن الناس كافه، فمن تحلى بالعفو ساد وأحبه العباد، ورضي عنه رب الأرباب، وكتب له عظيم الأجر والثواب، ومن عفا عن الناس عفا الله عنه، والعفو من الإحسان، وقد مدح الله العفو في كثير من المواضع في القران فقال جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬1) ، وقد وصف الله المؤمنين الصادقين بقوله: {وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} (¬2) ، ودعا إلى مقابلة شرور الناس بالإحسان إليهم، فذلك ادعى إلى نزع العداوة من قلوبهم وإحلال المودة محلها فقال جل شأنه: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (¬3) ، ولما كانت بعض النفوس جبلت على الاعتداء فقد وضع سبحانه وتعالى علاجاً لمنعها من التمادي في غيها مقابلة السيئة بمثلها بدون ¬

_ (¬1) - سورة التغابن (14) . (¬2) - سورة الرعد (22) . (¬3) - سورة فصلت (34) .

إسراف أو اعتداء أو ظلم فقال سبحانه: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ* إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ* وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (¬1) . فمن أراد الأجر الجزيل والذكر الجميل، فعليه بالعفو عمن ظلمه والإحسان إلى من أساء إليه، ويرحم الله الشافعي حيث يقول: لَمّا عَفَوتُ وَلَم أَحقِد عَلى أَحَدٍ ... أَرَحتُ نَفسي مِن هَمِّ العَداواتِ إِنّي أُحَيّي عَدوّي عِندَ رُؤيَتِهِ ... لأَدفَعَ الشَرَّ عَنّي بِالتَحِيّاتِ وَأُظهِرُ البِشرَ لِلإِنسانِ أَبغَضُهُ ... كَأِنما قَد حَشى قَلبي مَوَدّاتِ وله أيضا: وَلَمّا قَسا قَلبي وَضاقَت مَذاهِبي ... جَعَلتُ الرَجا مِنّي لِعَفوِكَ سُلَّما تَعاظَمَني ذَنبي فَلَمّا قَرَنتُهُ ... بِعَفوِكَ رَبّي كانَ عَفوُكَ أَعظَما فَما زِلتَ ذا عَفوٍ عَنِ الذَنبِ لَم تَزَل ... تَجودُ وَتَعفو مِنَّةً وَتَكَرُّما أما بشار بن برد فهو يقول: فَخُذ مِن أَخيكَ العَفوَ وَاِغفِر ذُنوبَهُ ... وَلا تَكُ في كُلِّ الأُمورِ تُجانِبُه ¬

_ (¬1) - سورة الشورى (40-43) .

الكريم يعفو

الكريم يعفو العفو خلق كريم، وسلوك مستقيم، يتحلى به كرام الناس فخلق الكريم من الناس العفو، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعفو عمن ظلمه ويحسن إلى من يسيء إليه، ولمّا وفد عليه كعب بن زهير وانشده القصيدة التي مطلعها بانت سعاد ومنها: أُنبِئتُ أَنَّ رَسولَ اللَهِ أَوعَدَني ... وَالعَفُوُ عِندَ رَسولِ اللَهِ مَأمولُ مَهلاً هَداكَ الَّذي أَعطاكَ نافِلَةَ الـ ... ـقُرآنِ فيها مَواعيظٌ وَتَفصيلُ لا تَأَخُذَنّي بِأَقوالِ الوُشاةِ وَلَم ... أُذِنب وَلَو كَثُرَت عَنّي الأَقاويلُ فأعطاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم برده. أما احمد شوقي رحمه الله فهو يصف عفو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: وَإِذا عَفَوتَ فَقادِراً وَمُقَدَّراً ... لا يَستَهينُ بِعَفوِكَ الجُهَلاءُ وَإِذا رَحِمتَ فَأَنتَ أُمٌّ أَو أَبٌ ... هَذانِ في الدُنيا هُما الرُحَماءُ فالعاقل يترفع عن الأذى ويعفو عمن أساء, قال أبو حاتم رضي الله عنه: أغنى الناس عن الحقد من عظم عن المجازاة، واجل الناس مرتبة من صد الجهل بالحلم، وما الفضل إلا لمن يحسن إلى من أساء إليه، فأما مجازاة الإحسان إحسانا فهو المساواة في الأخلاق، فلربما استعملها البهائم في الأوقات، ولو لم يكن في الصفح وترك الإساءة خصلة تحمد إلا رجاحة النفس ووداع القلب لكان الواجب على العاقل أن لا يكدر وقته بالدخول

في أخلاق البهائم، بالمجازاة على الإساءة إساءة، ومن جازى بالإساءة إساءة فهو المسيء، وان لم يكن بادئا. قال هلال بن العلاء البهلولي: جعلت على نفسي منذ أكثر من عشرين سنه أن لا أكافئ أحدا بسوء، وذهبت إلى هذه الأبيات: لَمّا عَفَوتُ وَلَم أَحقِد عَلى أَحَدٍ ... أَرَحتُ نَفسي مِن هَمِّ العَداواتِ إِنّي أُحَيّي عَدوّي عِندَ رُؤيَتِهِ ... لأَدفَعَ الشَرَّ عَنّي بِالتَحِيّاتِ وَأُظهِرُ البِشرَ لِلإِنسانِ أَبغَضُهُ ... كَأنما قَد حَشى قَلبي مَوَدّاتِ (¬1) وقديماً قيل: من تمام الكرم أن تذكر الخدمة لك، وتنسى النعمة منك، وتنظر الرغبة إليك، وتتغابى عن الخيانة إليك. من تمام المروءة أن تنسى الحق لك، وتذكر الحق عليك. وتستكبر الإساءة منك، وتستصغر الإساءة إليك. من أحسن المكارم عفو المقتدر، وجود المفتقر (¬2) . قال الشاعر يصف كريماً: كَريمٌ لَه وَجهانِ وَجهٌ لَدى الرِضا ... أَسيلٌ وَوَجهٌ في الكَريهَةِ باسِلُ وَلَيسَ بِمُعطي العفوِ عَن غَيرِ قُدرَةٍ ... وَيَعفو إِذا ما أَمكَنَنَته المَقاتِلُ (¬3) فما أحوج الناس إلى العفو والتجاوز عن الإساءة والتحلي بالأخلاق الفاضلة، ففي العفو شرف الدنيا والآخرة. أما ابن أبي حصينه فهو يرى أن في العفو عن الحر تأديباً له فيقول: لَكَ الخَيرُ إِن يُجرِم رَعاياكَ فاغتَفر ... جَرائِمَهُم إِنَّ المُدَبَّرَ مَربُوبُ ¬

_ (¬1) - روضة العقلاء ص (133) . وتنسب هذه الأبيات للإمام الشافعي رحمه الله, كما سبق. (¬2) - الفرائد والقلائد ص (40) . (¬3) - ديوان إبراهيم بن هرمة.

العز في العفو

هَفَوا هَفوَةً مِن غَيرِ بُغضِ فَأُدِّبُوا ... بِعَفوِكَ إِنَّ العَفوَ لِلحُرِّ تَأَديبُ خُلِقتَ كَرِيماً لَم يَفتُكَ تَفَضُّلٌ ... وَطَولٌ وَلا أَخطاكَ حَزمٌ وَتَهذِيبُ فَعَفواً عَفا عَنكَ الإِله وَرَأفَةً ... فَعَفوُكَ مِن عَفوِ المُهَيمِنِ مَحسُوبُ تَرَبّى عَلى إِنعامِكَ الطِفلُ مِنهُمُ ... وَشَبَّ عَلى إِحسانِكَ المُردُ وَالشَيبُ ويرى أبو الطيب المتنبي أن في العفو تملكاً للأحرار حيث عبر عنه بقوله وما قتل الأحرار كالعفو عنهم وذلك في قصيدته التي يقول فيها: وَمَن يَجعَلِ الضِرغامَ بازاً لِصَيدِهِ ... تَصَيَّدَهُ الضِرغامُ فيما تَصَيَّدا رَأَيتُكَ مَحضَ الحِلمِ في مَحضِ قُدرَةٍ ... وَلَو شِئتَ كانَ الحِلمُ مِنكَ المُهَنَّدا وَما قَتَلَ الأَحرارَ كَالعَفوِ عَنهُمُ ... وَمَن لَكَ بِالحُرِّ الَّذي يَحفَظُ اليَدا إِذا أَنتَ أَكرَمتَ الكَريمَ مَلَكتَهُ ... وَإِن أَنتَ أَكرَمتَ اللَئيمَ تَمَرَّدا وَوَضعُ النَدى في مَوضِعِ السَيفِ بِالعُلا ... مُضِرٌّ كَوَضعِ السَيفِ في مَوضِعِ النَدى وما أروع قول ابن الآبار الاشبيلي: ومعرض بالغصن في حركاته ... تنل القلوب العفو من لحظاته وأطعت سلطان العفاف تكرما ... والمرء مجبول على عاداته العز في العفو من أراد الثواب الجزيل، واسترهان الود الأصيل، وتوقع الذكر الجميل، فليصل من قطعه، وليحسن إلى من أساء إليه، وليعفُ عمن ظلمه، وقد روى أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال: أحب الأمر إلى الله ثلاثة: العفو في القدرة، والقصد في الجدة، والرفق في العبادة، وما رفق احد بأحد في الدنيا إلى رفق الله به يوم القيامة، وعن بن عائشة قال كتب الحجاج إلى

عبد الملك: (انك اعز ما تكون أحوج ما تكون إلى الله، فإذا تعززت بالله فاعفُ فانك به تعز وإليه ترجع) ، وروى عن داود بن الزبرقان انه قال: قال أيوب) لا يَنْبُلُ الرجل حتى يكون فيه خصلتان: العفة عما في أيدي الناس، والتجاوز عنهم) ، قال أبو حاتم رضي الله عنه: الواجب على العاقل لزوم الصفح عند ورود الإساءة عليه من العالم بأسرهم، رجاء عفو الله عز وجل وعلا عن جناياته التي ارتكبها في سالف أيامه، لان صاحب الصفح إنما يتكلف الصفح بإيثاره الجزاء، وصاحب العقاب وإن انتقم كان إلى الندم اقرب، فأما من له أخ يودُّه فانه يتحمل عنه الدهر كله زلاته. قال الفضيل بن عياض: احتمل لأخيك إلى سبعين زلة، وقيل له: وكيف ذلك يا أبا على؟ قال: لان الأخ الذي آخيته في الله ليس يزل سبعين زلة. وأنشد علي بن محمد البسامي: إذا لم تجاوز عن أخ لك عثرة ... فلست غداً من عثرتي متجاوزا وكيف يرجيك البعيدُ لنفعه ... إذا كان عن مولاك برُّك عاجزا (¬1) وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: (مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ) (¬2) . ولما في العفو من العز والثواب والشرف الكبير فقد أمر الله به، وارشد إليه، فقال جل شأنه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ ¬

_ (¬1) - روضة العقلاء ص (132) . (¬2) - رواه مسلم في صحيحه باب استحباب العفو والتواضع حديث (2588) .

العفو في أسماء الله الحسنى

حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (¬1) ، وقد أمر الله جل وعلا بالمسارعة إلى مغفرته وإلى الجنة دار كرامته التي أعدها لأوليائه المتقين الذين ينفقون أموالهم في السراء والضراء والشدة والرخاء ويكظمون غيطهم, ويعفون عمن ظلمهم حيث يقول سبحانه: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ*الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ*وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ*أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (¬2) ، وقد روى ابن حبان عن هشام عن أبيه عن ابن عمر في هذه الآية: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (¬3) قال: أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعفو عن أخلاق الناس (¬4) . العفو في أسماء الله الحسنى العفو اسم من أسماء الله الحسنى الذي ورد في القران الكريم وفي سنة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والعفوُ هو الذي له العفو الشامل ¬

_ (¬1) - سورة آل عمران (159) . (¬2) - سورة آل عمران (133-136) . (¬3) - سورة الأعراف (199) . (¬4) - روضة العقلاء ص (135) .

الذي وسعه ما يصدر من عباده من الذنوب، سيما إذا أتوا بما يسبب العفو عنهم من الاستغفار والتوبة والإيمان والأعمال الصالحة، فهو كما قال جل شأنه: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (¬1) ، وفي سورة الحج يقول جل شأنه: {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} (¬2) ، وجاء في الحديث النبوي الشريف أن عائشة رضي الله عنها قالت: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي) (¬3) . قال أبو سليمان: العفو: وزنه فعول من العفو وهو بناء المبالغة، والعفو الصفح عن الذنب وقيل: إن العفو مأخوذ من عفت الريح الأثر إذا درسته، فكأن العافي عن الذنب يمحوه بصفحه عنه (¬4) ، ويجوز إجراؤه على المخلوق, وفي التنزيل: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} (¬5) ، وقيل العفو: هو الذي لم يزل ولا يزال بالعفو معروفاً، وبالغفران والصفح عن عباده موصوفاً، كل واحد مضطر إلى عفوه ومغفرته، كما هو مضطر إلى رحمته وكرمه، وقد وعد بالمغفرة والعفو لمن أتى بأسبابها (¬6) . ¬

_ (¬1) - سورة الشورى (25) . (¬2) - سورة الحج (60) . (¬3) - سنن الترمذي حديث (3513) . (¬4) - البيهقي في الأسماء والصفات ص (75) الجامع لأسماء الله الحسنى ص (203) . (¬5) - سورة آل عمران (134) . (¬6) - الاسماء والصفات ص75.

ثمرة التعرف على اسم الله العفو

وقال الحليمي في معنى العفو: انه الواضع عن عباده تبعة خطاياهم وآثامهم، فلا يستوفيها منهم، وذلك إذا تابوا واستغفروا أو تركوا لوجهه أعظم مما فعلوا ليكفر عنهم ما فعلو بما تركوا، أو بشفاعة من يشفع لهم، أو يجعل ذلك كرامة لذي حرمة لهم به وجزاء. وقيل: العفو في حق الله تعالى: عبارة عن إزالة أثار الذنوب بالكلية، فيمحوها من ديوان الكرام الكاتبين، ولا يطالب العباد بها يوم القيامة، وينسيها من قلوبهم كي لا يخجلوا عند تذكرها، ويثبت مكان كل سيئة حسنه، قال تعالى: {يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (¬1) ، وقال: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} (¬2) . والعفو أبلغ من المغفرة، لأن الغفران يشعر بالستر، والعفو يشعر بالمحو، والمحو أبلغ من الستر. والعفُوُّ هو الله سبحانه الذي يعطي الكثير، ويهب الفضل، ولا يعتب عليه المنعم البتة (¬3) . ثمرة التعرف على اسم الله العفوُ العاقل إذا عرف أن ربه عفو يصفح عن الذنب ويقبل التوبة ويعفو عن السيئات، وجب عليه أن يؤمن به ويتقرب إليه ويسأله العفو عن جميع الذنوب والآثام، فالله جل وعلا هو العفو، يعفو عمن يشاء، ويغفر لمن تاب وأناب، ويشمل الخلق جميعاً بعفوه إلا من أشرك وكفر بربه ومات على ذلك أعاذنا الله والمسلمين من ذلك, قال تعالى {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} (¬4) ، وقال جل شأنه {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ} (¬5) ، ثم انه يجب على من عرف أن ربه عفو كريم أن يستعمل العفو ويتخلق به حيى يدخل في مدح الله للعافين الذين أثنى الله عليهم بقوله: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (¬6) . وفي الحديث النبوي أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: (مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُءُوسِ الْخَلائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ) (¬7) ، والعاقل يسعى إلى تحصيل سبب العفو من الله بترك الذنوب والاستغفار وطلب العفو من الله جل وعلا. ولله در القائل: يَستَوجِبُ العَفوَ الفَتى إذا اعتَرف ... وتابَ ممَّا قَد جَناهُ واقتَرَف لقَولِهِ قُل لِلَّذينَ كفَرُوا ... إن يَنتَهوا يُغفَر لهم ما قَد سَلَف (¬8) أما الحسن بن هانئ المعروف بابي نواس فهو يقول في طلب العفو من الله: ¬

_ (¬1) - سورة الرعد (39) . (¬2) - سورة الفرقان (70) . (¬3) - شرح لأسماء الله الحسنى للرازي ص (325-326) ، والجامع لأسماء الله الحسنى ص (204) . (¬4) - سورة النساء (48) . (¬5) - سورة الأنفال (38) . (¬6) - سورة آل عمران (134) . (¬7) - سنن أبي داود باب من كظم غيظا حديث (4777) . (¬8) - أورد هذين البيتين صاحب الموسوعة الشعرية ونسبهما إلى ابن غلبون الصوري، ورويت لأبي سعيد الزبيري انظر الموسوعة الشعرية ص (242) ويتيمة الدهر للثعالبي ج (1) ص (316) والجامع لأحكام الله للقرطبي ج (7) ص (225) .

يا رَبِّ إِن عَظُمَت ذُنوبي كَثرَةً ... فَلَقَد عَلِمتُ بِأَنَّ عَفوَكَ أَعظَمُ إِن كانَ لا يَرجوكَ إِلّا مُحسِنٌ ... فَبِمَن يَلوذُ وَيَستَجيرُ المُجرِمُ أَدعوكَ رَبِّ كَما أَمَرتَ تَضَرُّعاً ... فَإِذا رَدَدتَ يَدي فَمَن ذا يَرحَمُ ما لي إِلَيكَ وَسيلَةٌ إِلا الرَجا ... وَجَميلُ عَفوِكَ ثُمَّ أَنّي مُسلِمُ فاطلب أخي من الله العفو يعف عنك فهو يحب العفو قال يحيى بن معاذ: لو لم يكن العفو أحب الأشياء إلى الله، لم يبتل بالذنب أكرم الخلق عليه قال الشاعر: يا رب أنت رجائي ... وفيك حسنت ظني يا رب فاغفر ذنوبي ... وعافني واعفُ عني العفو منك الاهي ... والذنب قد جاء مني والظن فيك جميل ... حقق بحقّك ظني (¬1) ولله در القائل: فيا ربِّ بردَ العفوِ هب لي إذا غلا ... من الحَر في يوم الحسابِ دِماغُ (¬2) فمن علم أن الله سبحانه وتعالى يشمل بالعفو من أناب إليه ورضي عنه، وجب عليه أن يأتي ما يكون سبباً لعفو الله من الإيمان، والتوبة، والاستغفار، والأعمال الصالحة، وأداء الواجبات، والإحسان إلى عباد الله، فمن كمال عفو الله انه مهما أسرف العبد ثم رجع إلى الله جل وعلا عفا عنه، ومن كمال عفوه انه جعل الإسلام يجب ما قبله، والحج يهدم ما قبله، والتوبة ¬

_ (¬1) - أورد هذه الأبيات الحافظ زين الدين بن رجب الحنبلي في لطائف المعارف جزء (1) ص (23) دون ان ينسبها لأحد. (¬2) - ديوان بن الحاج البلفيقي.

قصة للقمان مع ابنه

تجب ما قبلها أي تمحو ما قبلها، فالعفو فيه كفارة الذنوب، واللبيب من عفا عمن ظلمه وأحسن إلى من أساء إليه وطلب العفو من الله، قال الشاعر: يكفيك في العفو أن الله قرَّظهُ ... وَحْياً إلى خير من صلَّى ومن بُعِثَا (¬1) قصة للقمان مع ابنه وروي أن لقمان الحكيم قال لابنه: (أي بني، أي شيء أقل؟ وأي شيء أكثر؟ وأي شيء أحلى؟ وأي شيء أبرد؟ وأي شيء آنسى؟ وأي شيء أوحش؟ وأي شيء اقرب؟ وأي شيء ابعد؟ قال: أما أقل شيء: فاليقين، وأما أي شيء أكثر: فالشك، وأما أي شيء أحلى: فروح الله بين العباد يتحابون بها، وأي شيء أبرد: فعفو الله عن عباده، وعفو الناس بعضهم عن بعض، وأي شيء آنسى: حبيبك إذا أغلق عليك وعليه باباً واحداً، وأي شيء أوحش جسد إذا مات، فليس شيء أوحش منه، وأي شيء أقرب: فالآخرة من الدنيا، وأي شيء أبعد: فالدنيا من الآخرة) (¬2) . ويغفر الله للقائل: يا ربِّ أثقَلَتِ الأوزارُ ناصيتي ... وليس لي مزكأ يرجى ولا وَزَرٌ يا ربِّ أقوى قُواي الذنبُ مُقتَفِرا ... مَفاقري وأنا رُحماك أقتَفِرُ يا ربِّ بالَغتُ في العصيان وانتشرت ... منّي المعاصي ومنكَ العفوُ مُنتشِرُ (¬3) ¬

_ (¬1) - ديوان بن الرومي. (¬2) - روضة العقلاء ص (134) . (¬3) - ديوان ابن الطيب الشرقي الفاسي.

أما ابن المقرب العيوني فيقول: لَكِن عَفَونا وَكانَ العَفوُ عادَتَنا ... وَلَم نُؤاخِذ أَخا جُرمٍ بِما اِجتَرَما ويرى ابن الهباريه أن العفو عند القدرة يكون فيه شكر على النصر وذلك حيث يقول: إِذا استشرت فَاِنصح ... إِذا سُئلت فَاسمح العَفو عِندَ القُدرة ... شكر لحسن النصره وقد حكا الله تعالى أن يوسف عليه السلام قال لإخوته بعد أن اعترفوا بالذنب: {قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (¬1) ، وحكت كتب السيرة النبوية أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن انتصر على قريش يوم فتح مكة خاطبهم بقوله: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) ، ولله در القائل: داني القُطوفِ جَميلُ العَفوِ مُقتَدِرٌ ... ما ضاقَ مِنهُ لِجانٍ واسِعُ الكَرَمِ (¬2) ويرحم الله أبا الفتح البستي حيث يقول: ولقد جمعت من الذنوبِ فنونَها ... فاجمع من العفوِ الجميلِ فنونَهُ مَن كانَ يرجو عَفوَ مَن هو فوقَهُ ... عن ذنبِهِ فليعفُ عمّن دونَهُ أما شوقي فهو يقول: وَأَنتَ وَلِيُّ العَفوِ فَاِمحُ بِناصِعٍ ... مِنَ الصَفحِ ما سَوَّدتُ مِن صَفَحاتي ¬

_ (¬1) - سورة يوسف (92) . (¬2) - ديوان ابن جابر الأندلسي.

دعاء الله باسمه العفو

دعاء الله باسمه العفوُ اللهم يا عفو يا غفار يا غفور يا حليم نسألك أن تصلي على محمد وال محمد كما صليت على ابراهيم وعلى ال ابراهيم انك حميد مجيد وان تمحو عني وعن المسلمين جميع الذنوب والريب، وان تغفر لنا الذنوب التي توجب الغضب, يا الله يا عفو يا غفار يا غفور اغفر لنا فقد تعدينا الحدود، ونقضنا العهود فاعف عنا انك عفو كريم يا الله يا عفو يا رحيم يا غفور يا حليم اغفر لي هفوات لساني، وشهوات جناني، وما فعلته جوارحي واركاني، واغفر لآبائي، وأبنائي، وإخواني وجميع المسلمين انك عفو كريم, اللهم انك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا واجعل العفو من أخلاقنا وارضَ عنا وصلى الله وسلم على محمد إمام المتقين وختام المرسلين وعلى آله وصحبه والتابعين.

الفصل الخامس والعشرون الكرم

الفصل الخامس والعشرون الكرم

الكرم

الكرم الكرم: الانفاق بطيب النفس فيما يعظم خطره ونفعه, وهو بذل ما ينبغي من مال فيما ينبغي. والسخاء: سهولة الانفاق وتجنب اكتساب مالا يحمد, وهو الجود, وضده التقتير. وفي الشفاء للقاضي عياض: الكرم والجود والسخاء والسماحة معانيها متقاربة. والكرم شرف في النفس وشرف في الخلق، والكرم كثرة الخير ويسرته، والكريم يعطي من غير منّه، والكريم يقيل العثرة ولا يتتبع العورة، والكريم يلين إذا استعطف، واللئيم يقسو إذا ألطف، والكريم يجل الكرام، ويصفح عن اللئام. وفي المصباح المنير: كرم الشيء كرماً نفس وعز فهو كريم والجمع كرام وكرماء والأنثى كريمة وجمعها كريمات وكرائم, وكرائم الأموال نفائسها وخيارها, واسم المفعول مكرم. (¬1) وروي عن زيد بن ثابت أنه قال: ثلاث خصال لا تجتمع إلا في كريم: حسن المحضر، واحتمال الزلة، وقلت الملالة، وان كرام الناس أسرعهم مودة واقطعهم عداوة، وقيل: أكرم الناس من اتقى الله، والكريم التقي، والكريم لا يتعالى على الناس، والكرم فضل وشرف، فأكرم الناس اتقاهم وفي الذكر الحكيم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (¬2) ، وفي الحديث النبوي: (أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ؟ قَالَ: أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ, قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ, قَالَ: فَأَكْرَمُ ¬

_ (¬1) - المصباح المنير ص316. (¬2) - سورة الحجرات (13) .

النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ, قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ, قَالَ: فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي, قَالُوا: نَعَمْ, قَالَ: فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الإِسْلامِ إِذَا فَقِهُوا) (¬1) . ولله در المتنبي حيث يقول: عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ ... وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ وَتَعظُمُ في عَينِ الصَغيرِ صِغارُها ... وَتَصغُرُ في عَينِ العَظيمِ العَظائِمُ قال أبو حاتم رضي الله عنه: الكريم لا يكون حقوداً ولا حسوداً، ولا شامتاً، ولا باغياً، ولا ساهياً، ولا لاهياً، ولا فاجراً، ولا فخوراً، ولا كاذباً، ولا ملولا، ولا يقطع إلفه، ولا يؤذي إخوانه، ولا يضيع الحفاظ، ولا يجفو في الوداد، يعطي من لا يرجو، ويؤمن من لا يخاف، ويعفو عن قدرة، ويصل عن قطيعة. عن إبراهيم بن شكلة قال: (إن لكل شيء حياة وموتا، وإن مما يحيى الكرم مواصلة الكرماء، وإن مما يحيى اللؤم معاشرة اللئام) . وقال الشاعر: رأيت الحق يعرفه الكريم ... لصاحبه وينكره اللئيم إذا كان الفتى حسناً كريماً ... فكل فعاله حسن كريم إذا ألفيته سمجاً لئيماً ... فكل فعاله سمج لئيم (¬2) ¬

_ (¬1) - البخاري في صحيحه باب لقد كان في يوسف واخوته حديث (4412) . (¬2) - روضة العقلاء ص (136-137) .

خلق الكريم المحافظة على مكارم الأخلاق

خلق الكريم المحافظة على مكارم الأخلاق الكريم يحافظ على الأخلاق الفاضلة، فهو محمود الأثر في الدنيا، مرضي العمل في العقبى، يحبه القريب والقاصي، ويألفه المتسخط والراضي، ويفارقه اللئام ويصاحبه العقلاء والكرام، والكريم يحفظ المروءة، ويقيل العثرة، ويتعفف عن الحرام، ولا يستطيل على اللئام، ولا يسن ما يعقب الوزر والإثم، ولا يفعل ما يقبح الذكر والاسم، وليس من عادة الكرام سرعة الانتقام، ولا من شروط الكرم إزالة النعم، والكريم من كبرت همته، لا من كبرت عمته فمن كبرت همته كثرت قيمته، ومن كرم خلقه وجب حقه، ومن ساء خلقه ضاق رزقه، ومن أجاب السفيه سفه، ومن اعرض عن جوابه نبه، ومن قابل السخيف سخف، ومن كرم عن مقابلته شرف، وإذا كرمت السجيه حسنت الطوية، ومن كرم حلم، ومن تمام الكرم إتمام النعم، والكريم لا يستخف بشريف، ولا يميل إلى سخيف. وقد قيل: أن من مكارم الأخلاق الصون للعرض، والقيام للفرض، والأخذ بالفضل، والوفاء بالعهد، والانجاز بالوعد. وقيل: في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق, وقال الأصمعي: سمعت سيداً من قيس يقول لقومه: إنما أنا رجل منكم، ليس لي فضل عليكم، ولكن أبسط لكم وجهي، وأبذل لكم مالي، وأحفظ حريمكم، واقضي حقوقكم، وأعود مرضاكم، واتبع جنائزكم، فمن فعل هذا فهو مثلي، ومن زاد عليه فهو خير مني، ومن قصر عنه فانا خير منه. قيل له: فما حملك على هذا؟ قال: أحثكم على مكارم الأخلاق (¬1) . ¬

_ (¬1) - انس المسجون وراحة المحزون ص (216) .

الكريم يكرم ضيفه

وإلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينتهي الكرم ومكارم الأخلاق، ويرحم الله القائل: ما قالَ لا قَطُّ إِلا في تَشَهُّدِهِ ... لَولا التَشَهُّدُ كانَت لاءَهُ نَعَمُ إِذا رَأَتهُ قُرَيشٌ قالَ قائِلُها ... إِلى مَكارِمِ هَذا يَنتَهي الكَرَمُ (¬1) الكريم يكرم ضيفه الكريم يكرم ضيفه، ويكرم أهله، ويكرم جاره، وفي الحديث النبوي قال رسول الله عليه وآله وسلم: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ, وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ, وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ) (¬2) ، وفي الأمثال السائرة: "أكرم من العذيق المرجب" والعذيق النخلة يكثر حملها فيجعل تحتها دعامة وتسمى الرجبة، ويقولون: رجّبت النخلة، ونخلة مرجبة، وعذق مرجّب، فيقول: هو في الكرم كهذه النخلة من كثرة حملها (¬3) . يروى لحاتم الطائي أنه قال: وَإِنّي لَعَبدُ الضَيفِ ما دامَ ثاوِياً ... وَما فيَّ إِلا تِلكَ مِن شيمَةِ العَبدِ أما مسكين الدارمي فهو يقول: طَعامي طعام الضيف والرحل رحله ... ولم يلهني عنه غزال مقنعُ أَحدثه إِن الحَديثَ من القرى ... وَتعرف نفسي انه سوف يهجَعُ ¬

_ (¬1) - ديوان الفرزدق, والبيتين في مدح الإمام زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنه, وهي تنطبق على الصفات والخلال النبوية. (¬2) - البخاري في صحيحه باب اكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه حديث (5787) . (¬3) - مجمع الامثال للميداني ج (1) ص (127) .

الكريم يجود ولا يبخل

وقال آخر: وأكرم الضيف إذا ما جاء يطرقني ... قبل العيال على عسري وايساري ويرى الأمير الصنعاني أن حق الضيف هو الإكرام والإعزاز فيقول: وحق الضيف إكرام وعز ... ولا يلقى بهضم واهتضام أما عبد الله بن مبارك فهو يرشد بإحضار الطعام وبذله لمن يأكله فيقول: أحضر طعامك وابذله لمن أكلا ... واحلف على من أبى واشكُر لمن فعلا وما أروع ما قال عبد قيس بن خفاف البرجمي: وَالضَيفَ أَكرِمهُ فَإِنَّ مَبيتَهُ ... حَقٌّ وَلا تَكُ لُعنَةً لِلنُزَّلِ وَاِعلَم بَأَنَّ الضَيفَ مُخبِرُ أَهلِهِ ... بِمَبيتِ لَيلَتِهِ وَإِن لَم يُسأَلِ وَدَعِ القَوارِصَ لِلصَديقِ وَغَيرِهِ ... كَي لا يَرَوكَ مِنَ اللِئامِ العُزَّلِ وقد كان العرب يذمون من لا يكرم الضيف ويهجونه، وفي ذلك يقول الأخطل: قَومٌ إِذا اِستَنبَحَ الأَضيافُ كَلبَهُمُ ... قالوا لأُمِّهِمِ بولي عَلى النارِ والكريم من يكرم ضيفه ويؤنسه، قال الشاعر: يستأنس الضيف في ابياتنا ابداً ... فليس يعلم خلق اينا الضيف الكريم يجود ولا يبخل الكريم يصل رحمه، ويحسن إلى أهله، ويواسي المسكين، ويبذل المال لمن طلبه في وجوه البر، قال الحسن بن علي رضوان الله عليهم اجمعين: الكرم:

قصة لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم

التبرع بالمعروف قبل السؤال, والأطعام في الحل, والرأفة بالسائل مع بذل النائل. قال الشاعر: سابذل مالي كلما جاء طالب ... واجعله وقفاً على القرض والفرضِ فاما كريماً صنت بالجود عرضه ... واما لئيماً صنت عن لؤمه عرضي قصة لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم كان الرسول عليه الصلاة والسلام اجود الناس واسخاهم وقد اتاه رجل فسأله فأعطاه غنما سدّت مابين جبلين فرجع الى قومه, وقال: اسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقه (¬1) . وما سئل شيئا قط فقال لا (¬2) . قال بكر بن النطاح: كَريمٌ إِذا ما جِئتَ طالِبَ فَضلِهِ ... حَباكَ بِما تَحوي عَلَيهِ أَنامِلُه فَلَو لَم يَكُن في كَفِّهِ غَيرُ روحِهِ ... لَجادَ بِها فَليَتَّقِ اللَّهَ سائِلُه وَما بعثت في العالَمينَ فَضيلَةٌ ... مِنَ المَجدِ إِلّا مَجدُهُ وَفَضائِلُه اللؤم ضد الكرم يضاد الكرم اللؤم، فاللؤم صفة ذميمة، وخلة غير مستقيمة، واللئيم الدنيء الأصل، والشحيح النفس، والدنيء: الخسيس، فاحذر مجالسة اللئيم فالكرام لا يعاشرون اللئام قال الشاعر: ¬

_ (¬1) - صحيح مسلم باب ماسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث رقم (4275) (¬2) - صحيح البخاري باب حسن الخلق والسخاء حديث رقم (5574)

وَاِحذَر مُصاحَبَة اللَئيمِ فَإِنَّهُ ... يُعدي كَما يُعدي الصَحيح الأَجرَبُ (¬1) أما عبد الله فريج فهو يقول: وَاِحذَر مُصاحَبَة اللَئيم فَاِنَّهُ ... كَالقَحطِ في اِفعالِ خَير مُجدب فالكريم لا يصاحب اللئيم خوفاً من اكتساب شيء من أخلاق اللئيم، لأن الكريم يترفع عن اللؤم قال الشاعر: إِذا المَرءُ لَم يُدنَس مِنَ اللُؤمِ عِرضُهُ ... فَكُلُّ رِداءٍ يَرتَديهِ جَميلُ وَإِن هُوَ لَم يَحمِل عَلى النَفسِ ضَيمَها ... فَلَيسَ إِلى حُسنِ الثَناءِ سَبيلُ إِذا سَيِّدٌ مِنّا خَلا قامَ سَيِّدٌ ... قَؤُولٌ لِما قالَ الكِرامُ فَعُولُ (¬2) أما أبو العتاهية فهو يرى أن من لم ينفع الناس ولم يأمنوا أذاه فهو لئيم وذلك حيث يقول: وان امراً لم يربح الناس نفعه ... ولم يأمنوا منه الأذى للئيم وقال آخر: لا تطلبن إلى لئيم حاجة ... واقعد فانك قائماً كالقاعدي (¬3) والكريم يعرف الحق، واللئيم ينكره، والكريم فعاله حسنة، واللئيم فعاله سمجة منتنة، والكريم يفي بالعهد والوعد، واللئيم يغدر ويفجر ويخون قال الشاعر: ما بال قوم لئام ليس عندهم ... عهد وليس لهم دين إذا ائتمنوا ان يسمعوا ريبة طاروا بها فرحاً ... مني وما سمعوا من صالح دفنوا ¬

_ (¬1) - هو في ديوان صالح بن عبد القدوس، وأورده الدميري في حياة الحيوان الكبرى من غير أن ينسبه إليه. (¬2) - هذه الأبيات تنسب للسمؤال بن عدي. (¬3) - عيون الاخبار لابن قتيبه ج (3) ص (135) .

الكرم والبخل لا يتفقان

صم إذا سمعوا خيراً ذكرت به..... وان ذكرت بسوء عندهم اذنوا (¬1) أما المتوكل الليثي فهو يقول: إِنَّ الأَذِلَّةَ وَاللئامَ مَعاشِرٌ ... مَولاهُم المُتَهَضّمُ المَظلومُ وَإِذا أَهنتَ أَخاكَ أَو أَفردتَهُ ... عَمداً فَأَنتَ الواهِنُ المَذمومُ لا تَتَّبِع سُبُلَ السفاهَةِ وَالخَنا ... إِنَّ السفيهَ معنَّفٌ مَشتومُ وَأَقِم لِمَن صافيتَ وَجهاً واحِداً ... وَخَليقَةً إِنَّ الكَريمَ قَؤومُ لا تَنهَ عَن خُلُقٍ وَتأتيَ مِثلَهُ ... عارٌ عَلَيكَ إِذا فعلتَ عَظيمُ وفي أمثال العرب السائرة: "الأَم من راضع اللبن" راضع اللبن: هو رجل من العرب كان يرضع اللبن من حلمة شاته ولا يحلبها مخافة أن يسمع وقع الحلب في الإناء فيطلب منه، فمن هنا قالوا: لئيم راضع، وقال رجل يصف ابن عم له بالبعد من الإنسانية والمبالغة في التوحش والإفراط في البخل: أحب شيء إليه ان يكون له ... حلقوم واد له في جوفه غار لا تعرف الريح ممساه ومصبحه ... ولا تشب إذا امسى له نار لا يحلب الضرع لؤماً في الاناء ولا ... يرى له في نواحي الصحن اثار (¬2) الكرم والبخل لا يتفقان كرم الشيء كرماً نفس وعز فهو كريم والجمع كرام وكرماء، والأنثى كريمة وجمعها كريمات وكرائم (¬3) ، وكرام الرجال أكثرهم خيراً، وأشرفهم ¬

_ (¬1) - الموسوعة الشعرية ص (284) . (¬2) - مجمع الامثال للميداني ج (2) ص (251) . (¬3) - المصباح المنير ص (316) .

نفساً، وأكثرهم براً، وأجملهم صفحاً، وأكثرهم عطاءً، فان البخل في الشرع منع الواجب، وعند العرب منع السائل مما يفضل عنده (¬1) ، والبخل مذموم صاحبه، يوصف به اللئيم ويتعالى عنه الكريم، فمن كان ذا فضل ومال وبخل به عند الحاجة إليه استُغني عنه قال الشاعر: وَمَن يَكُ ذا فَضلٍ فَيَبخَل بِفَضلِهِ ... عَلى قَومِهِ يُستَغنَ عَنهُ وَيُذمَمِ وَمَن يَجعَلِ المَعروفَ مِن دونِ عِرضِهِ ... يَفِرهُ وَمَن لا يَتَّقِ الشَتمَ يُشتَمِ (¬2) أما الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فانه يرى أن البخل شر الآفات فيقول: إِذا اِجتَمَعَ الآفاتُ فَالبُخلُ شَرّها ... وَشَرٌّ مِنَ البُخلِ المَواعيدِ وَالمَطلُ (¬3) وفي أمثال العرب السائرة: "أبخل من مادر" وهو رجل من بني هلال ابن عامر بلغ بخله أنه سقى أبله فبقي في أسفل الحوض ماء قليل، فسلح فيه ومدر الحوض به، فسمي مادر لذلك، واسمه مخارق، وفي الأمثال أيضاً: "ابخل من الضنين بنائل غيره" مأخوذ من قول الشاعر: ¬

_ (¬1) - المصباح المنير ص (28) . (¬2) - ورد هذان البيتان في ديوان زهير بن أبي سلمى ص (80) ، وفي شرح المعلقات السبع منسوبه إلى زهير، وورد البيت الأول في ديوان مصطفى صادق الرافعي ضمن قصيدة مطلعها: بلادي هواها في لساني وفي دمي ... يمجدُها قلبي ويدعو لها فمي وجاء بعده البيت الثاني المنسوب لزهير: ومن يتقلبْ في النعيم شقيْ بهِ ... إذا كان من آخاهُ غيرُ منعم وهو جميل ولعل الرافعي قد أورد البيت: ومن يكُ ذا فضلٍ فيبخل بفضلهِ ... على قومهِ يستغنَ عنه ويذمم ... (على سبيل التضمين) . (¬3) - ورد هذا البيت في ديوان الإمام علي ص (185) ، وفي الموسوعة الشعرية منسوب إليه أيضا، وورد أيضا منسوبا إلى دعبل الخزاعي كما في ديوانه، وورد أيضا منسوباً إلى علي بن الجهم، ومنسوباً أيضا إلى الاقيشر الاسدي، والله اعلمً.

وَإِنَّ اِمرَأً ضَنَّت يَداهُ عَلى اِمرِئٍ ... بِنَيلِ يَدٍ مِن غَيرِهِ لَبَخيلُ (¬1) ومن أمثال العرب: "ما عنده خير ولا مير سواء هو العدم", يضرب للبخيل الذي إذا نزلت به كأنك نازل بالبلاء والموحلة", ومنه قولهم: "ما تبل إحدى يديه الأخرى". وقولهم: "البخيل يعتل بالعسر", ومنه قولهم: "قبل البكاء كان وجهك عابساً", ومنه: "قبل النفاس كانت مصفرة". وقولهم: "اغتنم ما يعطي البخيل وإن قل", ومنه: "خذ من الرضفة ما عليها, وخذ من جذع ما أعطاك". وقولهم: "البخيل يمنع غيره ويجود على نفسه", ومنه قولهم: "سمنكم هريق في أديمكم", ومنه: "يا مُهدِي المَال كُلْ ما أهدَيت", ومنه قول العامة: "الحمار جَلبَه والحمار أَكَلَه". وقولهم: "مات البخيل وماله وافر", ومنه: "مات فلان عريض البطان, ومات ببطنته لم يتفضفض منها شيء". وقولهم: "البخيل يعطي مرة", ومنه قولهم: "ما كانت عطيته إلا بيضة العقر. وهي بيضة الديك. قال الزبير: الديك ربما باض بيضة, وأنشد لبشار: قد زرتني زورة في الدهر واحدة ... ثنِّ ولا تجعلنها بيضة الديك ومنه قول الشاعر: ¬

_ (¬1) - العقد الفريد ج3ص52.

لا تَعجَبَنَّ لِخَيرٍ زَلَّ عَن يَدِهِ ... فَالكَوكَبُ النَحسُ يَسقي الأَرضَ أَحيانا (¬1) ومنه قولهم: "من الخواطئ سهم صائب". (¬2) أما إسحاق الموصلي فهو يرى أن البخل يزري بأهله وأن الناس يجعلون خلتهم وصداقتهم للكرام وأن البخيل لا خليل له فيقول: وآمرةٍ بالبُخلِ قلتُ لها اقصري ... فذلكَ شيٌ ما إليه سَبيلُ أرى الناسَ خلانَ الكرامِ ولا أرى ... بخيلاً له حتى المماتِ خليلُ وإني رأيت البُخل يُزري بأهلِهِ ... فأكرمتُ نفسي أن يُقال بَخيلُ والبخل مذموم وصاحبه منحوس مشئوم، ومادح البخيل نادم قال الشاعر: لا يُحمَدُ البخلُ أنْ دانَ الأنامُ به ... وحامدُ البخلِ مذمومٌ ومَدْحور (¬3) ويرى الإمام الشافعي رحمه الله انه لا يرجا السماحة من اللئيم البخيل وذلك حيث يقول: وَلا تَرجُ السَماحَةَ مِن بَخيلٍ ... فَما في النارِ لِلظَمآنِ ماءُ ولما كان البخل بهذه المكانة الشنيعة فقد نهت عنه الشريعة، لأنه يفضي إلى القطيعة، ويقضي على المودة بين الناس، فالبخيل يمنع الواجب، ولا تسمح نفسه الدنيئة ببذل شيء من ماله لمساعدة الضعفاء والفقراء، فتمتلئ قلوبهم حقداً عليه. ¬

_ (¬1) - البيت للخليل بن احمد, خاص الخاص ص22. (¬2) - العقد الفريد ج3 ص77. (¬3) - وردت هذه الابيات في ديوان علي بن الزقاق ص (185) ، وفي الموسوعة الشعرية ص (164) .

وإذا فشا البخل في امة كانت نتيجته انهيار روح التعاون بين أفراد المجتمع، ولهذا نفر الله من البخل في القران وجاء في سورة آل عمران: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (¬1) ، وقد وعد الله من يتخلص من هذه الرذيلة بالفلاح والفضيلة وفي الذكر الحكيم: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬2) . والبخيل على شدة تعلقه بالمال يبقى معوزاً، لان جمع المال مع عدم الانتفاع به ضرب من الفقر وقد أدرك هذه الحقيقة بعض الشعراء فقال: وَمَن يُنفِقِ الساعاتِ في جَمعِ مالِهِ ... مَخافَةَ فَقرٍ فَالَّذي فَعَلَ الفَقرُ وقال بعضهم: "الناس من خوف الفقر في فقر". وفي الذكر الحكيم: {هَاأَنتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (¬3) . الكرم أفضل ما يقتنى قال أبو حاتم رضي الله عنه: أجمع أهل التجارب للدهر، وأهل الفضل في الدين، والراغبون في الجميل: على أن أفضل ما اقتنى الرجل لنفسه في ¬

_ (¬1) - سورة آل عمران (180) . (¬2) - سورة الحشر (9) . (¬3) - سورة محمد (38) .

فخر الرجال كرمهم

الدنيا، واجل ما يدخر لها في العقبى هو لزوم الكرم، ومعاشرة الكرام، لان الكريم يحسن الذكر، ويشرف القدر، وهو طباع ركبها الله في بني آدم، فمن الناس من يكون أكرم من أبيه، ... وربما كان الأب أكرم من ابنه، وربما كان المملوك أكرم من مولاه، ورب مولى أكرم من مملوكه، قال الشاعر: رب مملوك إذا كشفته ... كان من مولاه أولى بالكرم فهو ممدوح على أحواله ... وترى مولاه يهجى ويذم وتراه كيف يعلو دائماً؟ ... وترى مولاه من تحت القدم وفتى تلقى اباه دونه ... وابا تلقاه اعلى واتم من بنيه، ثم لا يعتلُّ ان ... طلب المعروف منه بالصمم وكذلك الناس -فاعلم- ربُّنا ... قدر الاخلاق فيهم وقسم (¬1) فخر الرجال كرمهم الكرم هو الصفح والعطاء والبذل والسخاء، واصطناع المعروف، والكريم يجازي على الصنيعة ويثني على من يولي الجميل، وليس كرم الرجال بصباحة وجوههم. قال الشاعر: وما عظم الرجال لهم بفخر ... ولكن فخرهم كرم وخير (¬2) أما المتنبي فهو يقول: وَما الحُسنُ في وَجهِ الفَتى شَرَفاً لَهُ ... إِذا لَم يَكُن في فِعلِهِ وَالخَلائِقِ ¬

_ (¬1) - روضة العقلاء ص (138) . (¬2) - من شعر الحكمة لعباس بن مرداس.

الأكرم الكريم في أسماء الله الحسنى

أما ابن غريض فهو يقول: إِرفع ضَعيفَكَ لا يُحِربِكَ ضُعفَه ... يَوماً فَتُدرِكُهُ عَواقِبُ ما جَنى يَجزيكَ أَو يُثني عَلَيكَ وَإِنَّ مَن ... أَثنى عَلَيكَ بِما فَعَلتَ كَمَن جَزى إِنَّ الكَريمَ إِذا أَرادَ وِصالَنا ... لَم يُلفِ حَبلي واهِياً رَثَّ القُوى أَرعى أَمانَتَهُ وَأَحفَظُ غَيبَهُ ... جَهدي فَيَأتي بَعدَ ذَلِكَ ما أَتى (¬1) ويرى أمية بن أبي الصلت أن الكريم لا يغيره مرور الوقت فيقول: كَريمٌ لا يُغَيِّرُهُ صَباحٌ ... عَنِ الخُلُقِ السَنِيِّ وَلا مَساءُ فَأَرضُكَ كُلُّ مَكرُمَةٍ بَناها ... بَنو تَيمٍ وَأَنتَ لَها سَماءُ إِذا أَثنى عَلَيكَ المَرءُ يَوماً ... كَفاهُ مِن تَعَرُّضِهِ الثَناءُ الأكرم الكريم في أسماء الله الحسنى إن الله جل وعلا أكرم الأكرمين، فهو الذي يبتدئ بالنعمة من غير استحقاق، ويتبرع بالإحسان من غير سؤال، والكريم هو الذي يعطي الكثير ويعفو عن التقصير، وقد قيل: إن من كرم عفوه أن العبد إذا تاب بعد السيئة عفا عنه وكتب له مكانها حسنة وذلك في كتاب الله: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} (¬2) ، والكريم والأكرم تتقارب معانيها وقد وردا في القران ففي سورة الانفطار: ¬

_ (¬1) - اورد هذه الابيات ابن ابي الدنيا في قضاء الحوايج ص (71) ، ورويت هذه الابيات لزهير بن جناب الكلبي، وايضا روية لورقه بن نوفل، والله اعلم. (¬2) - سورة الفرقان (70) .

{يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} (¬1) ، وفي سورة النمل: {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (¬2) . أما اسمه سبحانه الأكرم فقد ورد في سورة العلق قال تعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (¬3) ، قال ابن تيمية في تفسير ذلك: سمى ووصف نفسه بالكرم، وبأنه الأكرم, بعد إخباره أنه خلق ليتبين انه ينعم على المخلوقين ويوصلهم إلى الغايات المحمودة، ولفظ الكرم جامع للمحاسن والمحامد لا يراد به مجرد الإعطاء بل الإعطاء من تمام معناه، فإن الإحسان إلى الغير تمام المحاسن, والكرم كثرة الخير ويسرته, والله سبحانه أخبر أنه الأكرم بصيغة التفضيل والتعريف لها, فدل على أنه الأكرم وحده بخلاف ما لو قال: (وربك أكرم) فانه لا يدل على الحصر، وقوله: (الأكرم) يدل على الحصر ولم يقل: (الأكرم من كذا) بل أطلق الاسم، ليبين انه الأكرم مطلقاً غير مقيد فدل على انه متصف بغاية الكرم الذي لا شيء فوقه ولا نقص فيه (¬4) . وقال العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى: الرحمن، الرحيم، البر، الكريم، الجواد، الرءوف، الوهاب؛ هذه الأسماء ¬

_ (¬1) - سورة الانفطار (6) . (¬2) - سورة النمل (40) . (¬3) - سورة العلق (3-5) . (¬4) - فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 16/293-296 -بتصرف يسير-، وشرح اسماء الله الحسنى ص (151-152) .

ثمرة معرفة اسم الله الكريم الأكرم

تتقارب معانيها، وتدل كلها على اتصاف الرب بالرحمة، والبر، والجود، والكرم، وعلى سعة رحمته ومواهبه التي عم بها جميع الوجود بحسب ما تقتضيه حكمته (¬1) . وبهذا يتضح أن الكريم والأكرم يؤديان معنى واحداً وهو كرم الله تعالى وجوده، وانه سبحانه وتعالى أكرم الأكرمين لا يوازيه كرم ولا يعادله فيه نظير، سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. ثمرة معرفة اسم الله الكريم الأكرم إذا عرف المكلف أن ربه كريم، وانه أكرم الأكرمين، وانه يعطي بغير حساب، ويبتدئ بالنعمة، ويعفو عن السيئات، وانه واهب الإنسان كل خير، وانه المتفضل عليه بجميع النعم، وجب عليه أن يؤمن أن الله تعالى أكرم الأكرمين لا يوازيه كرم ولا يعادل فيه نظير، وان يتخلق بخلق كريم في جميع أقواله وأفعاله التي يحب الله أن يكون الإنسان فيها كريماً، وان يتحلى بالكرم والجود والسماحة. فالمؤمن كما ورد في الحديث النبوي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ وَالْفَاجِرُ خِبٌّ لَئِيمٌ) (¬2) . فالواجب على المؤمن أن يبتعد عن اللؤم والدناءة، فالمؤمن الحق يطمع في إيثار جود الله وكرمه، فيجود بكل ما يقدر عليه من مال وجاه وعلم ¬

_ (¬1) - نقل ذلك العلامة سعيد بن علي القحطاني في كتابه شرح أسماء الله الحسنى ص (150) . (¬2) - أخرجه أبو داود في سننه باب في حسن العشرة حديث (4790) ، والترمذي في سننه باب ماجاء في البخيل حديث (1964) .

دعاء الله باسمه الكريم

وحكمة وبر ومساعدة وتعاون على البر والتقوى فنفس المؤمن كريمة تجود في أعمال البر كلها، والمؤمن أخلاقه حسنة كريمة، فهو كريم الأخلاق في نفسه، وكريم الأخلاق مع أهله وولده، وكريم في تعامله مع الناس، وكريم في عطائه، بعيد عن الدناءة واللؤم، فهو يقيل العثرات ولا يتتبع العورات، ومن أعظم كرماً من الله الذي إن أتاه عباده بالطاعة اليسيرة أعطاهم الثواب الجزيل، وشرفهم بالثناء الجميل، فكم له من نعم على العباد في كل يوم صادرة، ومنن وخيرات دارة وفي الذكر الحكيم: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬1) . دعاء الله باسمه الكريم يا الله يا كريم يا بار يا جواد يا رحمن يا رحيم، نسألك اللهم أن تصلي على محمد خاتم الانبياء والمرسلين وان تكرمنا والمؤمنين من خيرك وبرك برزق واسع حلال، وأن تتكرم علينا بالفردوس الأعلى في الجنة، وبرضاك عنا في الآخرة والحياة الدنيا، وأن تمطر علينا من سماء جودك أحب ألآلاء، وأن تجعل أخلاقنا كريمة، وأن توفقنا إلى كل عمل تحبه وترضاه يا كريم، وأن تكرمنا والمسلمين أجمعين باتباع نهج نبيك محمد عليه وعلى وآله أفضل الصلاة والتسليم، وأن تكرمنا والمؤمنين بالعفو والعافية يا بر يا جواد يا أكرم الأكرمين يا رحمن يا رحيم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ¬

_ (¬1) - سورة النحل (18) .

وصلى الله وسلم على محمد وآله الميامين وأصحابه المنتجبين وتابعيهم بإحسان من إخواننا المؤمنين يا أكرم الأكرمين. وقد أحسن القائل: قِف بالخضوع وَنادربك يا هو ... إِنَّ الكَريم يجيب من ناداه واطلب بطاعته رضاه فَلَم يزل ... بالجود يَرضى طالبين رضاه واسأله مسألة وَفضلا إنه ... مبسوطتان لسائليه يَداه واقصده منقطعا إليه فكل من ... يَرجوه منقطعا إليه كفاه شملت لطائفه الخَلائق كلها ... ما لِلخَلائق كافل إلا هو (¬1) وما أروع ما قاله ابو مسلم العماني: إلى كرم الله الكريم وجوده ... أوجه آمالي وأوفد رغبتي بباب الكريم الأكرم المكرم الذي ... له مطلق الإكرام أنزلت بغيتي بباب كريم الذات قدراً ورفعة ... كريم الصفات الطاهرات الزكية بباب كريم العفو عن أي مذنب ... بباب كريم الجود قبل الوسيلة بباب الكريم المطلق النفع والجدا ... بباب الكريم المبتدي بالعطية بباب الكريم المجزل الفيض والعطا ... بدون سؤال العبد من غير منة بباب كريم لم يُقَنِّط عصيه ... بباب كريم لا يبالي بنعمة بباب كريم لم يضع متوسلاً ... ولا لاجياً سبحانه بمضيعة بباب كريم الفعل من غير حاجة ... بباب كريم جابر كل خلة ببابك يا من بابه وجهة الرجا ... وإن قبحت بيني وبينك سيرتي فاكرم مقامي بالذي أنت أهله ... وما أنت أهل يا كريم لخيبتي ¬

_ (¬1) - ديوان البرعي.

الفصل السادس والعشرون العدل

الفصل السادس والعشرون العدل العدل العدل: في اللغة: الاعتدال والاستقامة والميل الى الحق, واصطلاحا: الاستقامة على طريق الحق بالاجتناب عما هو محظور دينا. اما في اصطلاح الفقهاء: العدالة استواء احوال الانسان في دينه واعتدال اقواله وافعاله. وفي الذكر الحكيم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (¬1) وفي سورة الشورى يقول الحق سبحانه وتعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَاأَنزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (¬2) والعدل من المثل العلياء وهو صفة جميلة، وخلة حميدة، وهو اسم من أسماء الحق تبرك وتعالى تقدست بالجلال والكمال اسماؤه، والعدل صفة من صفات العلي المتعالي تنزهت عن التأويل والتبديل صفاته، والعدل اسم لشريعة الله وحكمه, قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬3) ، وبالعدل أمر الله قال تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (¬4) ، والعدل واحد من أغلى وأسمى مقومات الحياة، والعدل مبدء أساسي دبر به رب الكون نظامه، وأسس عليه وجوده ودورانه، ¬

_ (¬1) - سورة النساء اية (58) . (¬2) - سورة الشورى (15) (¬3) - سورة الأنعام (115) . (¬4) - سورة النحل (90) .

والعدل رسالة رب الأرض والسماء، وتحقيقه واحد من مهمة الرسل والأنبياء، والعدل وطيدة الحكم الصالح ودعامته المتينة، والعدل له معنى جليل تطمئن إليه النفوس، وترتاح إليه الأفئدة، وبه تصان القيم، وتستقر المبادئ، ويتضاعف شعور المواطن بالانتماء إلى وطنه، وبالعدل يعلو بناء الإنسان، وبه يصان دمه وماله وعرضه، وقديماً قيل: بالعدل ثبات الأشياء، وبالجور زوالها، ونسب للاسكندر انه قال لجماعة من الهند: لم صارت شُرَط بلادكم قليلة؟ قالوا: لاعطائنا الحق من أنفسنا، ولعدل ملوكنا وحسن سيرتهم فينا. فقال لهم: أيهما أفضل العدل أم الشجاعة؟ قالوا: إذا ستعمل العدل، استغنى عن الشجاعة، وقيل: العدل ميزان البارئ, ولذلك كان مبرأً من كل زيغ وميل، وقيل لأنوشروان: أي الجنن أقوى؟ قال: الدين، قيل: فأي العدد أقوى، قال: العدل، وقيل لأردشير: من الذي لا يخاف احداً؟ قال: الذي لا يخافه احد. فمن عدل في حكمه، وكف عن ظلمه نصره الحق، وأطاعه الخلق, وصفت له النعمى، وأقبلت عليه الدنيا, فتهنأ بالعيش، واستغنى عن الجيش. وملك القلوب، وأمن الحروب. وصارت طاعته فرضاً، وظلت رعيته جنداً. وأن أول العدل أن يبدأ المرء بنفسه، فيلزمها كل خلة زكية، وخصلة رضية. ومذهب سديد، ومكسب حميد، لتسلم عاجلاً، وتسعد آجلاً. وأول الجور أن يعمد إليها، فيجنبها الخير، ويعودها الشر، ويكسبها الآثام، ويعقبها المذام، فيعظم وزرها، ويقبح ذكرها (¬1) . قال الشاعر: عليكَ بالعَدلِ إنْ وُلِّيتَ مملكَةً ... واحذَر مِنَ الجَورِ فيها غايَةَ الحَذَرِ ¬

_ (¬1) - الفرائد والقلائد ص (4-6) .

العدل في الكلام

فالعدلُ يُبقيهِ أنَّى احتَلَّ من بَلَدٍ ... والجَورُ يَفنيهِ في بَدْوٍ وفي حَضَرِ (¬1) أما الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهو يقول: أَدِّ الأَمانَةَ وَالخيانَةَ فَاِجتَنِب ... وَاِعدِل وَلا تَظلِم يَطيبُ المَكسَبُ (¬2) ويرى صالح بن عبد الله بن مغفل أن الجور في الناس لا تخفى معالمه, فيقول: والجور في الناس لا تخفى معالمه ... والعدل من دنه الاستار والظلم العدل في الكلام والعدل في الكلام يحفظ الإنسان، ويعزز مكانة المتكلم بين الاخوان, وقد جاء في القرآن: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (¬3) ، فمن لم يكن عادلاً في كلامه تسبب في قطيعة أرحامه، ومعاداة اخوانه، ومن الإنصاف أن تنصف أخاك وتكف أذاك, قال الشاعر: إِذا أَنتَ لَم تُنصِف أَخاكَ وَجَدتَهُ ... عَلى طَرَفِ الهِجرانِ إِن كانَ يَعقِلُ أما المتنبي فهو يقول: وَلَم تَزَل قِلَّةُ الإِنصافِ قاطِعَةً ... بَينَ الرِجالِ وَلَو كانوا ذَوي رَحِمِ ¬

_ (¬1) - ديوان ابي الفتح البستي ص (81) ، والموسوعة الشعرية ص (230) . (¬2) - ديوان الامام علي ص (50) . (¬3) - سورة الأنعام (152) .

العدل في الشهادة

العدل في الشهادة إن ميزان العدل يجب أن لا يميل مع الهوى، ولا يتزحزح مع العصبية، ولا يتأرجح مع العداوة، ولا يحيف مع الشنأن وفي الذكر الحكيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬1) ، وفي سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (¬2) . العدل في الولاية من عدل في ولايته ظفر بغايته، وأمن في بداية أمره ونهايته, وفي الحديث النبوي: (إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا) (¬3) . ومما نسب إلى انوشروان انه قال: ما عدل من جار وزيره، ولا صلح من فسد مشيره، ومما يعين على العدل اصطناع من يؤثر التقى، واطراح من يقبل الرشا، واستكفاء من يعدل في القضية، واستخلاف من يشفق على الرعية. ¬

_ (¬1) - سورة المائدة (8) . (¬2) - سورة النساء (135) . (¬3) - أخرجه مسلم في صحيحه باب فضيلة الامام العادل حديث (1827) .

وصف الحسن البصري للإمام العادل

وقال الأحنف بن القيس: من ظلم نفسه كان لغيره اظلم، ومن هدم دينه كان لمجده اهدم (¬1) . وقديماً قيل: العدل نتيجة العقل، والعفو نتيجة الشرف، ومن عدل في سلطانه استغنى عن أعوانه، والعدل ميزان الله وضعه للخلق، ونصبه للحق، فلا تخالفه في ميزانه، ولا تتعد حدوده وأحكامه، وفي الذكر الحكيم النبأ اليقين قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (¬2) . وقال الشاعر: أرى العدل عند الناس مثل حروفه ... غدا مهملا لا يشغلون به جولا ولكنه عند العزيز شريعة ... منزلة لن تقبل الدهر تبديلا لقد جمل الدنيا به خالق الورى ... وكمل أحكام السياسة تكميلا (¬3) وصفُ الحسن البصري للإمام العادل لقد أورد ابن عبدربه في العقد الفريد رسالة الحسن البصري إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز، وقد أجاد وأفاد في وصف الإمام العادل فقال: "إعلم يا أمير المؤمنين أن الله جعل الإمام العادل قوام كل مائل، وقصد كل جائر، ¬

_ (¬1) - الفرائد والقلائد ص (7) . (¬2) - سورة الحديد (25) . (¬3) - وردت هذه الابيات في ديوان احمد فارس الشدياق.

وصلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف، ونصفة كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالراعي الشفيق على إبله، الرفيق بها، الذي يرتاد لها أطيب المراعي، ويذودها عن مراتع الهلكة، ويحميها من السباع، ويكنها من أذى الحر والقر. والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأب الحاني على ولده، يسعى لهم صغاراً، ويعلمهم كباراً؛ يكتسب لهم في حياته، ويدخر لهم بعد مماته. والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأم الشفيقة البرة الرفيقة بولدها، حملته كرها، ووضعته كرها، وربته طفلاً تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، ترضعه تارة وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته، وتغتم بشكايته. والإمام العدل يا أمير المؤمنين وصي اليتامى، وخازن المساكين، يربي صغيرهم، ويمون كبيرهم. والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالقلب بين الجوارح، تصلح الجوارح بصلاحه، وتفسد بفساده والإمام العدل يا أمير المؤمنين هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم. فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملكك الله عز وجل كعبد ائتمنه سيده، واستحفظه ماله وعياله، فبدد المال وشرد العيال، فأفقر أهله وفرق ماله, واعلم يا أمير المؤمنين أن الله أنزل الحدود ليزجر بها عن الخبائث والفواحش، فكيف إذا أتاها من يليها! وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده، فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم! واذكر يا أمير المؤمنين الموت وما بعده، وقلة أشياعك عنده، وأنصارك عليه، فتزود له ولما بعده من الفزع الأكبر, واعلم يا أمير المؤمنين أن لك منزلاً غير منزلك الذي أنت فيه،

يطول فيه ثواؤك، ويفارقك أحباؤك، يسلمونك في قعره فريداً وحيداً. فتزود له ما يصحبك يوم يفر المرء من أخيه. وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه واذكر يا أمير المؤمنين " إذا بعثر ما في القبور. وحصل ما في الصدور "، فالأسرار ظاهرة، والكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. فالآن يا أمير المؤمنين وأنت ممهل قبل حلول الأجل، وانقطاع الأمل. لا تحكم يا أمير المؤمنين في عباد الله بحكم الجاهلين، ولا تسلك بهم سبيل الظالمين، ولا تسلط المستكبرين على المستضعفين؛ فإنهم لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، فتبوء بأوزارٍ مع أوزارك، وتحمل أثقالاً مع أثقالك. ولا يغرنك الذين يتنعمون بما فيه بؤسك، ويأكلون الطيبات في دنياهم بإذهاب طيباتك في آخرتك. ولا تنظر إلى قدرتك اليوم، ولكن انظر إلى قدرتك غداً وأنت مأسور في حبائل الموت، وموقوف بين يدي الله في مجمع من الملائكة والنبيين والمرسلين، وقد عنت الوجوه للحي القيوم. إني يا أمير المؤمنين، وإن لم أبلغ بعظتي ما بلغه أولو النهى من قبلي، فلم آلك شفقة ونصحاً، فأنزل كتابي إليك كمداوي حبيبه يسقيه الأدوية الكريهة لما يرجو له في ذلك من العافية والصحة. والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته" (¬1) . ولله در القائل: ما كان أهدأنا بالاً وأحسننا ... حالاً وأبعدنا عن كل عدوان إذ الحكومة عدلٌ في يدي ملكٍ ... صافي السريرة ذي رفق وإيمان ¬

_ (¬1) - العقد الفريد لابن عبد ربه ج (1) ص (9-10) .

العدل في القضاء بين الناس

نمسي ونصبح في حرية ولنا....على صروف الليالي كل سلطان (¬1) العدل في القضاء بين الناس القضاء قبس من نور الله الحق. لانه القوام على اقامة العدل. به بعث الله انبياءه ورسله. ليقيموا حجته على خلقه. قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} من سورة الحديد, فالكتاب والميزان نزلا من عند الله أعدل الحاكمين, وبهما بعث الانبياء والرسل واستخلفهم واتباعهم في الارض, ليعلموا كلمته, ويقيموا حكمه, ويحققوا عدله, الذي قامت به الأرض والسموات, ولهذا كان القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة كما يقول الخليفة العادل عمر بن الخطاب في مستهل رسالته الى ابي موسى الأشعري حين ولاه قضاء الكوفة, فقد حمل القضاء امانة تحقيق العدل, والى ساحته يهرع الناس جميعا يلتمسون فيه العدل والنصفة فالناس كلهم في ساحته سواء, لاقوي لديه ولاضعيف, ولاشريف امامه ولامشروف, لايرهب احد من قوته ولا يستخف بحق احد لهوانه وضعف حيلته, فهو حصن الامان لمن داهمه الخواف, وهو سيف الحق يبتر كل يد تمتد الى حرمات الناس, لتهدر دماءهم او تهتك أعراضهم, او تستبيح مالهم, او توهن من عزائمهم, في اتباع لمعروف او نهي عن منكر, ويرحم الله ابابكر الصديق حيث يقول: الا ان اقواكم الضعيف حتى اخذ الحق له, واضعفكم ¬

_ (¬1) - ديوان احمد الكاشف.

القوي عندي حتى اخذ الحق منه, ورضي الله عن عمر بن الخطاب حيث خاطب ابا موسى الاشعري: بقوله سو بين الناس في وجهك وعدلك, ومجلسك, حتى لايطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك. فالعدل أساس الملك، والعدل أساس الحكم، وإذا كان العدل لا يتحقق من تلقاء نفسه، إذ ليس للإنسان أن يقضي لنفسه بنفسه وإنما تحقيق العدل هو واجب الدولة ورسالتها ينقطع لفرائضه، ويصبر على مناسكه، ويتجرد له القضاء نظاماً شاملاً متكاملاً مستقراً مستقلاً محايداً، ويسعى به حثيثاً بين الناس فكان لا بد من إحياء هذه الفريضة إعلاءً لرسالة العدل, والعمل على ضمانة استقلاله, فالقضاء دون ضمانات تؤكد استقلال رجاله لا يعد بقضاء عادل, وإنما هو انصياع لمركز القوة في الخصومة. وفي محكم التنزيل: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} (¬1) . فمن قضى بالعدل سلم، ومن مال عن العدل هلك وندم, قال الشاعر: إِذا خَانَ الأميرُ وكاتباهُ ... وقاضِي الأَرْضِ داهَنَ في القَضاءِ فَوَيْلٌ ثُمَّ وَيْلٌ ثُمَّ وَيْلُ ... لِقاضِي الأَرْضِ منْ قَاضِي السَّماءِ وإِنْ كانَ الوِدادُ لِذِي وِدادٍ ... يُزْحْزِحُهُ عَنِ الحَقِّ الْجَلاءِ فَلاَ أَبْقاهُ رَبُّ العَرْشِ يَوْماً ... وكَحَلَهُ بِمِيلٍ مِنْ عَماءِ (¬2) ¬

_ (¬1) - سورة النساء (58) . (¬2) - وردت هذه الابيات في ديوان الإمام الشوكاني رحمه الله، وقد ورد البيتان الاولان في امالي الزجاجي تحقيق عبد السلام هارون دار الجيب بيروت لبنان الطبعة الثانية 1407هـ, وفي المستطرف للابشيهي منشورات دار الندوة بيروت لبنان, من دون نسبة إلى قائل معين والله سبحانه وتعالى اعلم, والموسوعة الشعرية ص534.

قصة رواها الأمام علي بن ابي طالب رضي الله عنه

فالقضاة هم ضمير امتهم ورمز ارادتها ومعقد رجائها في اعلا كلمة الحق والعدل, التي اودعها خالقهم امانه مقدسة بين ايديهم لينطقوا في امرها بعد بذل الجهد ولهذا كان القاضي هو الركيزة الاساسية التي تقوم عليها خدمة العدالة في أي نظام قضائي فتحقيق العدالة يتوقف اساسا على حسن وسلامة ودقة من يتولى القضاء فإذا اسئ اختيار القاضي ضاع العدل, فقاض عادل وامام فاضل خير من مطر وابل, وفي الأمثال السائرة: عناية القاضي خير من شاهدي عدل, ومن لم يرض بحكم موسى رضي بحكم فرعون, وقال الشاعر: ظهور العدل يمحوا كل شر ... إذا جاء الصباح مضى الظلام وفي أمثال العرب: إذا كذب القاضي فلا تصدقه, ومن خصمه القاضي الى من يشتكي (¬1) , فاذا تركت عملية اختيار القاضبي للأهواء فقد عمت البلوى وكيف يحقق العدل غير الأكفاء الذين لايقدرون خطورة الرسالة ولا يبالون بثقل الأمانة, وليس شئ اضر بالعدالة من ان يقوم عليها من لايدرك كنهها او لايشعر بقدسيتها. قال الشاعر: وكنا نرجي ان نرى العدل ظاهرا ... فأعقبنا بعد الرجاء قنوط متى تصلح الدنيا ويصلح اهلها ... وقاضي قضاة المسلين يلوط (¬2) ورحم الله شوقي حيث يقول: رَبّوا عَلى الإِنصافِ فِتيانَ الحِمى ... تَجِدوهُمُ كَهفَ الحُقوقِ كُهولا فَهوَ الَّذي يَبني الطِباعَ قَويمَةً ... وَهوَ الَّذي يَبني النُفوسَ عُدولا وَيُقيمُ مَنطِقَ كُلِّ أَعوَجِ مَنطِقٍ ... وَيُريهِ رَأياً في الأُمورِ أَصيلا وقال آخر: والخصم لا يرتجى النجاح له ... يوماً إذا كان خصمه القاضي (¬3) ويرحم الله ابن عطية حيث يقول: لا يثبت الحق المبين لحاكم ... في الحق حتى ينطق الخصمانِ (¬4) قصة رواها الأمام علي بن ابي طالب رضي الله عنه عن عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلام قَالَ: (بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُرْسِلُنِي وَأَنَا حَدِيثُ السِّنِّ وَلا عِلْمَ لِي بِالْقَضَاءِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ سَيَهْدِي قَلْبَكَ وَيُثَبِّتُ لِسَانَكَ فَإِذَا جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْكَ الْخَصْمَانِ فَلا تَقْضِيَنَّ حَتَّى تَسْمَعَ مِنْ الآخَرِ كَمَا سَمِعْتَ مِنْ الأَوَّلِ فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يَتَبَيَّنَ لَكَ الْقَضَاءُ, قَالَ: فَمَا زِلْتُ قَاضِيًا أَوْ مَا شَكَكْتُ فِي قَضَاءٍ بَعْدُ) (¬5) . قصة روتها خولة بنت قيس روي عن خولة بنت قيس إمراة خمزة بن عبد المطلب انها قالت: كان على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وسق من تمر لرجل من بني ساعدة, فأتاه يقتضيه, فقضاه تمرا دون تمره فأبى ان يقبله, فقال: اترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم, ومن احق بالعدل من رسول ¬

_ (¬1) - معجم كنوز الأمثال ص 128 (¬2) - نسب البيتان في وفيات الأعيان وفي شرح مقامات الحريري الى ابي حكيمة راشد بن اسحاق الكاتب, وفي شذرات الذهب الى المأمون في القاضي يحيى بن اكثم, وهما بدون نسبة في ثمار القلوب, وانظر معجم كنوز الأمثال والحكم ص 129 (¬3) - ورد هذا البيت في التمثيل والمحاضرة لأبي منصور الثعالبي. (¬4) - تمام الفتون في شرح رسالة بن زيدون للصفدي تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم, الناشر المكتبة العصرية صيدى بيروت. (¬5) - أخرجه أبو داود في سننه باب كيف القضاء حديث (3111) .

العدل يحبه الله والظلم لا يحبه

الله صلى الله عليه وسلم؟ فاكتحلت عيناء رسول الله صلى الله عليه وسلم بدموعه ثم قال: (صدق ومن احق بالعدل مني! لاقدس الله امة لايأخذ ضعيفها حقه من شديدها ولا يتعتعه) ثم قال: (ياخولة عديه واقضيه فإنه ليس من غريم يخرج من عند غريمه راضيا الا صلت عليه دواب الارض ونون البحار, وليس من عبد يلوي غريمه وهو يجد إلا كتب الله عليه في كل يوم وليلة إثما (¬1)) العدل يحبه الله والظلم لا يحبه إن العادل المقسط في حكمه وما ولي يحبه الله، ويظله الله في ظله، ويفوز العادل بالجنة، ويحظى بمحبة الله، ويعد العادل من أفضل خلق الله جل وعلا, وفي الحديث النبوي: (إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا) (¬2) ، في الذكر الحكيم: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (¬3) ، أما الظلم فهو سبب هلاك الأمم، وفساد الذمم، والطريق إلى جهنم قال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} (¬4) ، وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً} (¬5) ، والله لا يحب الظالمين, ولقد جاء في سورة آل عمران: {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (¬6) . ¬

_ (¬1) - المعجم الكبير للطبراني حديث (592) (¬2) - أخرجه مسلم في صحيحه باب فضيلة الامام العادل حديث (1827) . (¬3) - سورة المائدة (42) . (¬4) - سورة يونس (13) . (¬5) - سورة الكهف (59) . (¬6) - سورة آل عمران (57) .

الظلم في الأمثال السائرة

ولله در القائل: أَما وَاللَهِ إِنَّ الظُلمَ لومُ ... وَما زالَ المُسيءُ هُوَ الظَلومُ إِلى دَيّانِ يَومِ الدينِ نَمضي ... وَعِندَ اللَهِ تَجتَمِعُ الخُصومُ سَتَعلَمُ في الحِسابِ إِذا اِلتَقَينا ... غَداً عِندَ الإِلَهَ مَنِ المَلومُ (¬1) ويرحم الله الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث يقول: لا تَظلِمَنَّ إِذا ما كُنتَ مُقتَدِراً ... فَالظُلمُ مَرتَعُهُ يُفضي إِلى النَدَمِ تَنامُ عَينُكَ وَالمَظلومُ مُنتَبِهٌ ... يَدعو عَلَيكَ وَعَينُ اللَهِ لَم تَنَمِ أما محمد بن عيسى بن طلحة فهو يقول: ولا تعجل على احد بظلم ... فان الظلم مرتعه وخيم (¬2) الظلم في الأمثال السائرة والظلم قبيح ومرتعه وخيم، وفي الأمثال السائرة: "الظلم مرتعه وخيم"، وقال حنين بن خشرم السعدي, أي عاقبته مذمومة، وجعل للظلم مرتعاً لتصرف الظالم فيه، ثم جعل المرتع وخيماً لسوء عاقبته إما في الدنيا وإما في العقبى, وفي الحديث النبوي ما يجري مجرى الأمثال السائرة أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (¬3) ، وفي اختلاط القوم وتساويهم في الفساد ظاهراً وباطناً تقول العرب: ظلة الغنم عبيثة واحدة، وذلك إذا لقي الغنم غنماًَ أخرى فاختلط بعضها ببعض. ¬

_ (¬1) - وردت هذه البيات في ديوان أبي العتاهية، كما انه وردت في ديوان الامام علي مع اختلاف في بعض الالفاظ والله اعلم. (¬2) - ورد هذا البيت في نهاية الارب للنويري ج (3) ص (289) ، والعقد الفريد ج (2) ص (180) ، والموسوعة الشعرية ص (228) غير منسوب الى شاعر باسمه، ويروى فان البغي مصرعه وخيم والمعنى متقارب. (¬3) - أخرجه البخاري في صحيحه باب الظلم ظلمات يوم القيامة حديث (2315) .

وفي أمثال العرب عن الظلم والبغي والمكر الكثير, ومن ذلك قولهم: "أظلم من حية" لان الحية تجيء إلى جحر غيرها فتدخله وتغلبه عليه، وكذلك قولهم: "أظلم من أفعى", يقال: انك لتظلمني ظلم الأفعى. قال الشاعر: وأنت كالأفعى التي لا تحتفر ... ثم تجيء سادرة فتنجحر وقد كثرت أمثال العرب وأشعار الشعراء بظلم الذئب من ذلك قولهم: (أظلم من الذئب) , و (من استرعى الذئب ظلم) و (مستودع الذئب اظلم) و (كافأه مكافأة الذئب) . قال الميداني: وأما ما جاء في أشعارهم فحكى ابن الأعرابي أن اعرابياً ربى بالبادية ذئباً فلما شب افترس سخلة له، فقال الأعرابي: فرست شويهتي وفجعت طفلاً ... ونسواناً وأنت لهم ربيب نشأت مع السخال وأنت طفل ... فما أدراك أن أباك ذيب إذا كان الطباع طباع سوء ... فليس بمصلح طباعاً أديب وقال آخر: وأنت كجرو الذئب ليس بآلف ... أبي الذئب إلا أن يخون ويظلماً (¬1) أما قولهم: "أظلم من الليل" فهذا يراد من الظلمة, وإن قال بعضهم: هذا شاذ أن يبنى أفعل التفضيل من الاظلام، وليس كما ظن، فإن ظلم يظلم ظلمة لغة في أظلم إظلاماً، وإذا صح هذا فالبنى وقع على سمته وقاعدته، ¬

_ (¬1) - مجمع الامثال للميداني ج1ص (445-446) .

دعوة المظلوم لا ترد

وإنما نسب إلى الظلم لأنه يستر السارق وغيره من أهل الريبة (¬1) ، ... وقولهم: "كالأرقم إن يقتل ينقم, وإن يترك يلقم", يقول: إن قتلته كان له من ينقم له منك وإن تركته قتلك. وقولهم في الانتصار من الظلم: "هذه بتلك والبادئ أظلم", ومنه: "من لم يذد عن حوضه يهدم", وهذا المثل لعله أخذ من قول الشاعر: وَمَن لا يَذُد عَن حَوضِهِ بِسِلاحِهِ ... يُهَدَّم وَمَن لا يَظلِمِ الناسَ يُظلَمِ (¬2) فقد أصاب الشاعر في صدر البيت وأخطأ في عجزه. وفي الذكر الحكيم: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} (¬3) . وقولهم في الظلم ترجع عاقبته على صاحبه: "من حفر مغواة وقع فيها". والمغواة: البئر تحفر للذئاب ويجعل فيها جدي ليصيده فيصطاد (¬4) . ومنه قولهم: "من حفر حفرة لأحيه وقع فيها". وفي أمثال العامة: "من ظلم لا بد يظلم". ويرى صالح بن عبد الله بن مغفل أن من ظلم سيبتلى بظالم فيقول: وما منْ يَدٍ إلا يَدُ اللهِ فوقَها ... ولا ظالم إلا سيبلى بظالم دعوة المظلوم لا ترد دعاء المظلوم يستجيب له الله, فلا تظلم عباد الله حتى لا تعرض نفسك لدعاء المظلومين، فينتقم منك الجبار القوي القهار العظيم، ويرحم الله الإمام علي رضي الله عنه حيث يقول: ¬

_ (¬1) - الميداني ج1ص447. (¬2) - هذا البيت ينسب لزهير بن أبي سلمى. (¬3) - سورة الحج الآية (60) . (¬4) - العقد الفريد ج3ص87.

الشرك أعظم أنواع الظلم

أَدِّ الأَمانَةَ وَالخيانَةَ فَاِجتَنِب ... وَاِعدِل وَلا تَظلِم يَطبُ المَكسَبُ وَاِحذَر مِن المَظلومِ سَهماً صائِباً ... وَاِعلَم بِأَنَّ دُعاءَهُ لا يُحجَبُ أما ابن الوردي فهو يحذر من دعوات المظلومين في الأسحار فيقول: إياكَ منْ عسفِ الأنامِ وظلمِهِمْ ... واحذرْ منَ الدعواتِ في الأسحارِ وإن ابتليتَ بزلةٍ وخطيئةٍ ... فاندمْ وبادرْها بالاستغفارِ واسألْ إلَهكَ عصمةً وحمايةً ... فالسيئاتُ قواصفُ الأعمارِ وفي السنة النبوية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ) (¬1) . الشرك أعظم أنواع الظلم وإذا كان الظلم بكل أشكاله قبيح فإن الشرك بالله أعظمه، وأكثره خطراً، وابلغه ضرراً، فلا تشرك بالله تهلك، ويحبط عملك وفي الذكر الحكيم فيما حكاه الله عن لقمان الحكيم: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (¬2) ، ولقد خاطب الله نبيه الكريم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬3) . لئيم من يظلم قرابته إذا كان الظلم كله سيئ فإن من أسوء الظلم ظلم القرابة، فهو يدل على الخساسة والنذالة والدناءة قال الشاعر: ¬

_ (¬1) - أخرجه البخاري في صحيحه باب الاتقاء والحذر من دعوة المظلوم حديث (2316) . (¬2) - سورة لقمان (13) . (¬3) - سورة الزمر (65) .

عاقبة الظلم

وَظُلمُ ذَوي القُربى أَشَدُّ مَضاضَةً ... عَلى المَرءِ مِن وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ وقال آخر: حذار بني البغي لا تقربنه ... حذار فان البغي وخم مراتعه (¬1) عاقبة الظلم إذا كان الظلم يعني وضع الشيء في غير موضعه، فان عواقبه ذميمة وخيمة، وفي الحديث القدسي: (يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا) (¬2) ، وجاء في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (¬3) ، وجا في شعر الحكمة للإمام الشافعي رضي الله عنه: إِذا ما ظالِمُ استَحسَنَ الظُلمَ مَذهَباً ... وَلَجَّ عُتُوّاً في قَبيحِ اِكتِسابِهِ فَكِلهُ إِلى صَرفِ اللَيالي فَإِنَّها ... سَتُبدي لَهُ ما لَم يَكُن في حِسابِهِ فَكَم قَد رَأَينا ظالِماً مُتَمَرِّداً ... يَرى النَجمَ تيهاً تَحتَ ظِلِّ رِكابِهِ فَعَمَّا قَليلٍ وَهُوَ في غَفَلاتِهِ ... أَناخَت صُروفُ الحادِثاتِ بِبابِهِ فَأَصبَحَ لا مالٌ وَلا جاهُ يُرتَجى ... وَلا حَسَناتٌ تَلتَقي في كِتابِهِ وَجوزِيَ بِالأَمرِ الَّذي كانَ فاعِلاً ... وَصَبَّ عَلَيهِ اللَهُ سَوطَ عَذابِهِ وقريب من هذا ما جاء في شعر محرز بن خلف: إذا ظالم قد عاهد الظلم مذهباً ... وجار علواً في قبيح اكتسابه ¬

_ (¬1) - مجمع الحكم والامثال في الشعر العربي لاحمد قبش ص (306) ، دار الرشيد، الطبعة الثانيه 1403هـ. (¬2) - أخرجه مسلم في صحيحه باب تحريم الظلم حديث (2577) . (¬3) - أخرجه مسلم في صحيحه باب تحريم الظلم حديث (2578) .

العدل في الأسماء الحسنى

فكم قد راينا ظالماً متكبراً....يرى النجم تيهاً تحت ظل ركابه فلما تمارى واستطال بجوره ... اناخت صروف الحادثات ببابه فلا فضة تحميه عند انفضاضه ... ولا ذهب يثنيه عند ذهابه العدل في الأسماء الحسنى العدل اسم من أسماء الحق تبارك وتعالى، والعدل صفة من صفات الله تبارك وتعالى، والعدل أمر الله وكلماته، وقد جاء في القران الكريم: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬1) ، وجاء في سورة النحل: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (¬2) ، فهو العدل سبحانه في تدبيره وتقديره، وهو سبحانه موصوف بالعدل في فعله، وأفعاله جاريه على سنن العدل، والاستقامة ليس فيها شائبة جور أصلا، فهي كلها بين الفضل والرحمة، وبين العدل والحكمة (¬3) ، وقد جاء في صحيح البخاري وغيره: (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) ، وقد عد منها في رواية الترمذي: (الْحَكَمُ الْعَدْلُ) ، وإذا كانت كلماته العدل فهو العدل لان كلماته هي كلامه، والعدل في صفة الله تعالى يكون وصفاً ذاتياً بمعنى: سلب الجور -الظلم- عنه، فالله تعالى العادل المطلق فهو يتصرف في عباده بالعدل في فعله وقوله وقضائه، وأمره ونهيه، وثوابه وعقابه، فخبره كله ¬

_ (¬1) - سورة الانعام (115) . (¬2) - سورة النحل (90) . (¬3) - شرح اسماء الله الحسنى ص (139) ، وتفسير العلامة السعدي ج (5) ص (627) .

ثمرة معرفة اسمه تعالى العدل

صدق، وقضاؤه كله عدل، وأمره كله مصلحة، والذي نهى عنه كله مفسدة، وثوابه لمن يستحق الثواب بفضله ورحمته، وعقابه لمن يستحق العقاب بعدله وحكمته (¬1) ، فهو الحكم العدل، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلا حَزَنٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجِلاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي؛ إِلاَّ أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجًا, قَالَ: فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلا نَتَعَلَّمُهَا, فَقَالَ: بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا) (¬2) ، فقوله: (عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ) يتضمن جميع أقضيته في عبده من كل الوجوه من صحة وسقم، وغنى وفقر، ولذة وألم، وحياة وموت، وثواب وعقوبة, ... وغير ذلك، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ} (¬3) ، فكلما يقضي به الله على العبد فهو عدل فيه. ثمرة معرفة اسمه تعالى العدل إذا عرف المكلف أن أسماء الله سبحانه وتعالى كلها حسنى، وأنه العدل في كل أفعاله, وأن أحكامه كلها صواب وحق، وأنه سبحانه قد أوضح ¬

_ (¬1) - الجامع لاسماء الله الحسنى ص (195) . (¬2) - أخرجه احمد في سننه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حديث (3712) . (¬3) - سورة الشورى (30) .

دعاء الله باسمه وصفته العدل

السبل، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأزاح العلل، ومكن من أسباب الهداية والطاعة بالأسماع والأبصار والعقول، وهذا عدله، وأن لا عدلٌ على الإطلاق إلا لله وحده، وجب عليه أن يؤمن به، وأن يؤمن بأن كل قضاء الله عدل، وأن يسلم لأمر الله ونهيه وقضائه وقدره، وأن يتحلى بالعدل في أقواله وأفعاله وأحكامه امتثالا لأمر الله سبحانه, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (¬1) ، فالمؤمن يكون عادلاً مع نفسه وأهله يخاف الظالم من عدله، ويرجو المظلوم منه إعانته على اخذ حقه، فهو يسوي بين الفقير والغني، والضعيف والقوي، والقريب والأجنبي، ويعدل بين الأهل والعيال, ويأخذ بهدي النبي المختار صلى الله عليه وآله وسلم: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلادِكُمْ) (¬2) . ولله در احمد شوقي حيث يقول: لَم يُعادِ اللَهُ العَبيدَ وَلَكِن ... شَقِيَت بِالغَباوَةِ الأَغبِياءُ وَإِذا جَلَّتِ الذُنوبُ وَهالَت ... فَمِنَ العَدلِ أَن يَهولَ الجَزاءُ دعاء الله باسمه وصفته العدل يا الله يا حكم يا عدل نسألك أن تصلي على محمد وازواجه وذريته واصحابه والتابعين لهم باحسان الى يوم الدين وان تحملنا والمؤمنين على ¬

_ (¬1) - سورة النساء (135) . (¬2) - أخرجه البخاري في صحيحه باب الاشهاد في الهبة حديث (2447) .

فضلك وجودك وعفوك وغفرانك، وأن تلهمنا العدل مع أنفسنا وأهلنا وأولادنا واخواننا والخلق أجمعين، وأن تجعلنا من المقسطين في أقوالهم وأفعالهم المتبعين لسنة نبيك، وأن تكرمنا بالإيمان والأمان في الدنيا والآخرة، وأن تجعلنا في ظلك وفضلك يوم القيامة، وأن تسامحنا ولا تحاسبنا بعدلك يا كريم، فإننا يا الله يا عفو يا كريم نسألك أن تعفو عنا، وتحملنا على عفوك، وتجعل منازلنا في الفردوس الأعلى من الجنة يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على محمد النبي الأمين وعلى آله الطاهرين وأصحابه الراشدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. سبحان ذي العدل ما قدمت مظلمتي ... إلا تناولها عدل من الله سبحان ذي الحكم لا ميلٌ ولا شطط ... ولا معقب في حكم من الله سبحان ذي المنة الكبرى التي شملت ... بمنة الله أرجو منة الله سبحان ذي النعمة المحصي مطالبنا ... وليس تحصى بعدٍ نعمة الله (¬1) ¬

_ (¬1) - ديوان ابي مسلم العماني.

الفصل السابع والعشرون الصدق

الفصل السابع والعشرون الصدق الصدق الصدق: هو الأخبار عن الشئ على ماهو عليه, أي مطابقة الخبر للواقع, ويكون في القول والعمل والاعتقاد, والصدق حلية المتقين وصفة المرسلين, وبه جاء النبي الأمين, وفي الذكر الحكيم {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (¬1) , وفي سورة الاحزاب نباء نجاة الصادقين من العذاب {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (¬2) وفي سورة المائدة بيان منافع الصدق وفوائده, {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬3) والصدق صفة كمال ومدح، وخلة ثناء وحمد، وليست هناك صفة تكفل استقرار المجتمع، وتضمن الثقة بين الأفراد مثل الصدق، ولذلك اعتبر أساسا من أسس الفضائل الذي ينبنى عليه المجتمع الفاضل، وقد اعتبر بعض العلماء الصدق عنواناً لرقي الأمم، فإذا فقد المجتمع الصدق حل محله عدم الثقة، وفقدان التعاون، والصدق نجاة وعز، والكذب هلاك وذل، والصدق ضرورة من ضرورات المجتمع التي ينبغي أن ينال حظاً عظيماً من العناية في الأسرة، والمدرسة، والجامعات، والوزارات، والحقول، ¬

_ (¬1) - سورة الزمر اية (33) . (¬2) - سورة الاخزاب (23) . (¬3) - سورة المائدة (199) .

والمصانع، وكافة المؤسسات والمنتديات، والجمعيات والنقابات، فبالصدق ترد الحقوق، وبالصدق تحصل الثقة بين الناس، وبالصدق تزدهر الحياة، والصدق من ارفع الصفات الإنسانية، واقوي الدعائم التي يقوم عليها أي مجتمع ينشد فلاحاً ونجاحاً، ولما يتبوؤه الصدق من المكانة الرفيعة، والخلق الحميد، فقد دعاء الله المؤمنين للتخلق به فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬1) . والصادق هو الله جل وعلا, نطق به القران اسماً وفعلاً للمولى تبارك وتعالى, فقد جاء في سورة الأنعام: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ} (¬2) ، وقال سبحانه: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً} (¬3) ، وقال تبارك اسمه: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً} (¬4) ، والصدق وعد الله، والصدق كلام الله, والصدق صفة من صفات النبيين والمؤمنين، ومن لزم الصدق وتحلى به ظفر وغنم. بالصدق تعمر الديار, وتصح الأخبار, وتدار المصانع, وتزدهر الحياة, وتحصل النجاة, ويرتفع قدر الإنسان, وتتعزز الثقة بين الاخوان, ويثمر التعاون, ويقوم العدل, ويعم الخير, ويكثر النفع, وتتطور البلاد. والعاقل لا يختار في إدارة الأعمال الهامة إلا أهل الصدق, قال الشاعر: لَيسَ بِالأَمرِ جَديراً ... كُلُّ مَن أَلقى خِطابا ¬

_ (¬1) - سورة التوبة (119) . (¬2) - سورة الأنعام (146) . (¬3) - سورة النساء (87) . (¬4) - سورة النساء (122) .

الصدق يألفه الكريم

أَو سَخا بِالمالِ أَو قَد ... دَمَ جاهاً وَاِنتِسابا أَو رَأى أُمِّيَّةً فَاِخـ ... ـتَلَب الجَهلَ اِختِلابا فَتَخَيَّر كُلَّ مَن شَبـ ... ـبَ عَلى الصِدقِ وَشابا وَاِذكُرِ الأَنصارَ بِالأَمـ ... ـسِ وَلا تَنسَ الصِحابا (¬1) الصدق يألفه الكريم يتحلى الكريم من الناس بالصدق ويتخلق به، والكذب يألفه الخب اللئيم ويهلك به، قال طرفه ابن العبد: الصدق يألفه الكريم المرتجى ... والكذب يألفه الدنئ الاخيب وفي الأمثال السائرة: لايكذب الرائد اهله, وقيل من صدق الله نجا, ومن صدقت لهجته ظهرت حجته, والصدق سفينة النجاة, وقال الشاعر: عود لسانك قول الصدق تحظ به ... إن اللسان لما عودت معتاد موكل بتقاضي ما سننت له ... فاختر لنفسك وانظر كيف ترتاد أما صفي الدين الحلي فقد عبّر عن قول الصدق بلفظ الخير وذلك حيث يقول: عَوِّد لِسانَكَ قَولَ الخَيرِ تَنجُ بِهِ ... مِن زَلَّةِ اللَفظِ بَل مِن زَلَّةِ القَدَمِ وَاِحرِز كَلامَكَ مِن خِلٍّ تُنادِمُهُ ... إِنَّ النَديمَ لَمُشتَقٌّ مِنَ النَدَمِ والصدق مهما صادفته عقبات وأشواك؛ فعاقبته السلامة، ومآله النجاح، وآخر أمرك فيه الفوز والفلاح.. قال الشاعر: عليك بالصدق ولو انه ... احرقك الصدق بنار الوعيد ¬

_ (¬1) - هذه الأبيات لاحمد شوقي رحمه الله.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: عليك بالصدق وان قتلك, ولأن يضعني الصدق - وقلما يضع- أحب الي من ان يرفعني الكذب- وقلما يفعل- وقال بعض الحكماء: الصدق منجيك وإن خفته, والكذب مرديك وإن امنته. وقال الشاعر: عليك بالصدق في كل الأمور ولا ... تكذب فأقبح ما يزري بك الكذب وقال الجاحظ رحمة الله: الصدق والوفاء توأمان, والحلم والصبر توأمان فيهن تمام كل دين, وصلاح كل دنياء, وأضدادهما سبب كل فرقة, وأصل كل فساد. قال الشاعر: ما أحسن الصدق في الدنيا لقائله ... وأقبح الكذب عند الله والناس أما احمد شوقي فهو يرى أن الإنسان لا يكون صادقاً في قوله حتى يصدقه فعله وذلك حيث يقول: وَالمَرءُ لَيسَ بِصادِقٍ في قَولِهِ ... حَتّى يُؤَيِّدَ قَولَهُ بِفِعالِهِ وفي السنة النبوية أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: (عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا) (¬1) . ¬

_ (¬1) - أخرجه مسلم في صحيحه باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله حديث (2607) .

الصدق يرفع المرء في الدارين والكذب يهوي به في الحالين

الصدق يرفع المرء في الدارين والكذب يهوي به في الحالين قال أبو حاتم رضي الله عنه: الصدق يرفع المرء في الدارين والكذب يهوي به في الحالين، ولو لم يكن في الصدق خصلة تحمد، إلا أن المرء إذا عرف به قبل كلامه عند من يسمعه، لكان الواجب على العاقل أن يبلغ مجهوده في رياضة لسانه، حتى يستقيم له على الصدق ومجانبة الكذب والعيّ في بعض الأوقات خير من النطق، لأن كل كلام أخطأ صاحبه موضعه فالعيّ خير منه (¬1) ، والصدق نجاة وشرف. قال الشاعر: وَفي الحِلمِ إِدهانٌ وَفي العَفوِ دُربَةٌ ... وَفي الصِدقِ مَنجاةٌ مِنَ الشَرِّ فَاِصدُقِ (¬2) والصدق فلاح وأمان، والصدق يدعو إلى حسن الخاتمة، ويدل على سجية كاملة، وفطرة سليمة، وخليقة مستقيمة، والصدق يزيد المسلم نورا وثباتاً على الحق، والصدق يجلب محبة الله ورسوله، ومحبة الناس، والصدق يهدي إلى البر، والبر التوسع في فعل الخير، بحيث يشمل الإيمان, وإنفاق المال, وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة, والوفاء بالعهد, والصبر الذي أرشد إليه الإسلام وجعله سبباً للفلاح والنجاح, وفي الذكر الحكيم: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (¬3) ، فقد بينت الآية صفات أهل الصدق في إيمانهم وأخلاقهم، وحصرتهم بالإشارة إليهم (أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) ، والصادق يستحق كل ثناء وإطراء، ويعد الصادق من الأخيار الأبرار، ولقد نعت الله النبيين بالصدق فقال في حق خليل الرحمن ابراهيم عليه السلام: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً} (¬4) ، وقال في حق ادريس عليه السلام: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً} (¬5) . والصدق وفاء وإخلاص، وعزيمة وثبات, وفي الذكر الحكيم: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} (¬6) ، وقد اثنا الله على نبيٍ من أنبيائه بصدقه ووفائه بوعده فقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً} (¬7) ، ونعت الله به نبينا فقال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (¬8) , وقد بعث الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالصدق ولقب بالصادق الأمين, ليعلم الناس الصدق في إيمانهم وأخلاقهم ومعاملاتهم, لأن الصدق يكون في القول, وفي النية والإرادة, وفي العزم, وفي الوفاء, وفي العمل, فالصادق في إيمانه ناجحٌ, والصادق في تجارته رابحٌ, ولو ألقيت نظرك على أسواق العالم لوجدت أن ¬

_ (¬1) - روضة العقلاء ص (46) بتصرف يسير. (¬2) - ديوان زهير بن ابي سلمى. (¬3) - سورة البقرة (177) . (¬4) - سورة مريم (41) . (¬5) - سورة مريم (56) . (¬6) - سورة الأحزاب (23) . (¬7) - سورة مريم (54) . (¬8) - سورة الزمر (33) .

الكذب يضاد الصدق ويجانبه فتجنبه

الرابحين في تجارتهم الذين تحسن أحوالهم, ويتكاثر الوافدون عليهم, وتحسن سمعتهم, وتحصل الثقة بهم؛ هم أهل الصدق, فالصدق يدر على الصادقين الخير الوفير, والبر والعز, والسلامة والأمن في الدنيا قبل الآخرة, فالصدق طمأنينة وفضيلة وخيرات وفيرة. الكذب يضاد الصدق ويجانبه فتجنبه الكذب خصلة رذيلة ذميمة تدل على النفاق ومساوئ الأخلاق، ضرره كبير على الأسرة والمجتمع, من تحلى به هلك وعثر، فهو منافي للإيمان، ومجافي للإسلام، وفي الحديث (لا يَجْتَمِعُ الإِيمَانُ وَالْكُفْرُ فِي قَلْبِ امْرِئٍ وَلا يَجْتَمِعُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ جَمِيعًا وَلا تَجْتَمِعُ الْخِيَانَةُ وَالأَمَانَةُ جَمِيعًا) (¬1) ، وفي الذكر الحكيم: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِأَيَاتِ اللهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (¬2) ، وقيل: الكذب عار لازم وذل دائم، وقيل: ما عز ذو كذب ولو اخذ القمر بيده، وما ذل ذو صدق ولو اتفق العالم عليه (¬3) ، قال الشاعر: لا يكذب المرء إلا من مهانته ... أو فعلة السوء أو من قلة الادبِ لبعض جيفة كلبٍ خير رائحة ... من كذبة المرء في جد وفي لعبِ وقال آخر: إِيّاكَ مِن كَذَبِ الكَذوبِ وَإِفكِهِ ... فَلَرُبَّما مَزَجَ اليَقينَ بِشَكِّهِ وَلَرُبَّما كَذَبَ اِمرُؤٌ بِكَلامِهِ ... وَبِصَمتِهِ وَبُكائِهِ وَبِضِحكِهِ ولبعض الشعراء: إذا عرف الإنسان بالكذب لم يزل ... لدى الناس كذاباً ولو كان صادقا فان قال لم تصغِ له جلساؤه ... ولم يسمعوا منه ولو كان ناطقا أما الإمام على بن أبي طالب فهو يحذر من مصاحبة الكاذب فيقول: وَدَعِ الكَذوبَ فَلا يَكُن لَكَ صاحِباً ... إِنَّ الكَذوبَ لَبِئسَ خِلاً يُصحَبُ (¬4) مضرة الكذب قيل: "دع الكذب فانه يضرك حيث ترى انه ينفعك، وعليك بالصدق فانه ينفعك حيث ترى انه يضرك"، وقيل: "إذا كذب السفير بطل التدبير، وإذا كذب الرائد هلك الوارد"، وقيل: الصدق عز والباطل ذل، وقيل: "من عرف بالصدق جاز كذبه، ومن عرف بالكذب لم يجز صدقه"، وقيل: "اجعل قول الكذب ريحاً لتستريح", وقالوا: "نزه سمعك عن سماع الكذب كما تنزه لسانك عن التفوه به", وقيل: "من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين, وقيل: "إياك أن تكون للكذب راوياً وواعياً", وفي السنة النبوية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ) (¬5) . وقال الشاعر: ¬

_ (¬1) - أخرجه احمد في المسند عن أبي هريرة حديث (8577) . (¬2) - سورة النحل (105) . (¬3) - روضة العقلاء ص (54) . (¬4) - ورد هذا البيت في ديوان الامام علي رضي الله عنه , وورد في ديوان صالح بن عبد القدوس, والله سبحانه أعلم. (¬5) - أخرجه البخاري في صحيحه باب اثم من كذب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديث (109) .

وَلا خَيرَ في عَيشٍ يَكونُ قِوامُهُ ... بِمِحنَةِ مَكذوبٍ وَمِدحَةِ كَذّابِ (¬1) أما عمر بن أبي ربيعة فهو يقول: لِلناسِ فَضلُكِ في حُسنِ الصَفاءِ وَفي ... صِدقِ الحَديثِ وَشَرُّ الخُلَّةِ الكَذِبُ وقال بشار بن برد: الصِدقُ أَفضَلُ ما حَضَرتَ بِهِ ... وَلَرُبَّما ضَرَّ الفَتى كَذِبُه وله أيضا: لي حِيلَةٌ في مَن يَنُمـ ... ـمُ وَلَيسَ في الكذّابِ حيلَه مَن كانَ يَخلُفُ ما يَقو ... لُ فَحيلَتي فيهِ قَليلَه ولسليمان الصولة: لي حيلةٌ في من ينمـ ... ـم بصون أسراري الجليله حفظ اللسان بما ألمـ ... ـم وليس في الكذاب حيله من كان يخلق ما يقو ... ل فداؤه يُعدي خليله ودواؤه صعبٌ يطو ... ل فحيلتي فيه قليله وفي الذكر الحكيم: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} (¬2) . ¬

_ (¬1) - الشاعر هو ابن شرف القيرواني. (¬2) - سورة الزمر (60) .

مكانة الصدق رفيعة

مكانة الصدق رفيعة أجمع الفقهاء والعلماء على ثلاث فيها النجاة: الإسلام الخالص عن البدعة والهوى، والصدق لله تعالى في الأعمال، وطيب المطعم. وقال محمد سعيد المروزي: إذا طلبت الله بالصدق آتاك الله مرآة بيدك حتى تبصر كل شيء من عجائب الدنيا والآخرة. (¬1) وللصادقين مكانة رفيعة يرضونها في الجنة تخصهم قال تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} (¬2) ، وروى عبيد الله بن محمد التميمي عن أبيه قال: (كان عمر بن الخطاب بمنى فعطش، فانتهى إلى عجوز، فاستسقاها ماءاً, فقالت: ما عندنا، فقال: لبناً، فقالت: ما عندنا، فبدرت جارية، فقالت لها: تكذبين وما تستحيين؟ ثم قالت لعمر: هذا السقاء فيه لبن، فسأل عمر عن الجارية فإذا أبوها ثقفي فخطبها على عاصم بن عمر، فزوجها منه، فولد له منها أم عاصم، فتزوجها عبد العزيز بن مروان، فولدت له عمر بن عبد العزيز بن مروان رحمة الله عليه) (¬3) , والمرء مسئول عن إيمانه وصدقه وعن وفائه بعهده, وفي الذكر الحكيم: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً} (¬4) . الصادق في أسماء الله وصفاته نطق به القرآن اسماً وفعلاً قال تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ} (¬5) , وقال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً} (¬6) , وقال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً} (¬7) , وقال: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} (¬8) . والصادق في وصفه سبحانه صفة ذاتيه له راجعة إلى معنى كلامه, إذ الصدق هو ما تضمنه كلامه وهو المتكلم به, قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ} (¬9) , فالله تعالى صادق في قوله, صادق في حديثه, صادق في وعده, خاطب عباده فأخبرهم بما يرضيه عنهم ويسخطه عليهم, وبما لهم من الثواب عنده إذا أرضوه, ومن العقاب لديه إذا أسخطوه, فصدقهم ولم يغررهم ولم يلبس عليهم, قاله الحليمي. (¬10) وقال بعض العلماء: أنه لم يرد في القرآن, وقد أنكر عليهم بعض الباحثين وقال: عجباً لهؤلاء الأئمة مع تبحرهم في كتاب الله تعالى والبحث في معانيه وتفسيره وتلاوته ليلاً ونهاراً كيف غفلوا عن هذا الاسم العظيم, حتى يقولوا: إنه لم يرد في القرآن وإنما ورد فعله؟! فكأنهم -رحمهم الله- ¬

_ (¬1) - الترغيب والترهيب للمنذري تحقيق مصطفى محمد عمارة المجلد الثالث ص601. (¬2) - سورة القمر (55) . (¬3) - روضة العقلاء ص (45-46) . (¬4) - سورة الأحزاب (7-8) . (¬5) - سورة الأنعام (146) . (¬6) - سورة النساء (122) . (¬7) - سورة النساء (87) . (¬8) - سورة الزمر (74) . (¬9) - سورة آل عمران (152) . (¬10) - الجامع لأسماء الله الحسنى ص181.

لم يقرءوا سورة الأنعام لكن الذهول والنسيان يعتري الإنسان, والكمال إنما هو لذي الجلال. (¬1) ويجوز إجراء هذا الوصف منكراً على العبد من غير خلاف, وفي الذكر الحكيم: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} (¬2) , {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (¬3) . يقال: صدق الرجل فهو صادق وصدوق للمبالغة. وأما قوله تعالى: {وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬4) , فالألف واللام إنما جاءت للتعريف والتفخيم لكثرة تصديقهم, وسمي أبو بكر رضوان الله عليه بالصديق لتصديقه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل ما جاء به عن ربه, والصِّدِّيق -بوزن فِعِّيل للمبالغة- سماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فيما رواه علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم أجمعين, والصِّدِّيق هو الدائم الصدق الذي كثر صدقه في قوله وعمله وصدق الله في آياته وشواهده ودلائله وأسمائه وصفاته وأفعاله وحكمه وكلماته. ثمرة معرفة هذا الاسم الجليل إذا عرف المكلف أن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه صادق في أقواله وأفعاله وجب عليه أن يؤمن بأنه لا أحد أصدق من الله, وأن أقواله الحق وأفعاله وحديثه ووعده ووعيده كلها صدق, ثم يجب عليه أن يتحلى بالصدق في جميع أقواله وأفعاله, لأن الصدق درجة رفيعة وحلة سنية جليلة, وهو ¬

_ (¬1) الجامع لأسماء الله الحسنى ص180. (¬2) - سورة الأحزاب (23) . (¬3) - سورة مريم (54) . (¬4) - سورة التوبة (119) .

أصل لكل حال, وأسٌ لكل فضيلة, وامتثالاً لقول الحق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬1) , وامتثالاً لقول الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (عليكم بالصدق ... الحديث) , ولأن كل من صدق وتحقق من صدقه فقد نجا, فعليك أخي بدوام الصدق تكتب صديقاً, وتكون من الصادقين الذين بذلوا المجهود من أنفسهم لربهم فيما بينهم وبينه فاستحقوا مدحه والثناء عليه بما جاء في كتابه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} (¬2) , وفي الحديث النبوي: (الصدق طمأنينة والكذب ريبة) (¬3) . وروي عن الفضيل بن عياض أنه قال: (ما من مضغة أحب إلى الله من لسان صدوق, وما من مضغة أبغض إلى الله من لسان كذوب) , وفي الحديث النبوي: (فإن أحببتم أن يحبكم الله ورسوله فادوا إذا أؤتمنتم واصدقوا إذا حدثتم وأحسنوا جوار من جاوركم) (¬4) , وفي رواية: (أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة, وصدق حديث, وحسن خليقة, وعفة في طعمة) (¬5) . ¬

_ (¬1) - سورة التوبة (119) . (¬2) - سورة الأحزاب (23) . (¬3) - أخرجه الترمذي في سننه باب صفة القيامة حديث (2518) . (¬4) - الآحاد والمثاني للإمام محمد بن عمرو بن الضحاك أبو بكر الشيباني المتوفى سنة (287هـ) ج3ص81 حديث (1397) , الناشر دار راية الرياض الطبعة الأولى 1411هـ1991م. (¬5) - أخرجه احمد في المسند عن عبد الله بن عمرو حديث (6652) .

دعاء الله الصادق الكريم

دعاء الله الصادق الكريم اللهم يا أصدق القائلين, ويا أكرم الأكرمين, ويا أرحم الراحمين, نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا ان تصلى على محمد النبي الامين وأن تجعلنا من الصادقين في إيماننا وجميع أقوالنا وأفعالنا وأن تدخلنا والمؤمنين مدخل صدق وأن تجعل منازلنا والمؤمنين في دار كرامتك بالفردوس الأعلى من الجنة وأن تبوء لنا فيها مقعد صدق كرماً منك وفضلاً يا أرحم الراحمين, وصلى الله وسلم على محمد وعلى آل محمد وأصحابه وتابعيه بإحسان إلى يوم الدين. ولأبي مسلم العماني: الحمد لله استعطي الجزاء به ... في مقعد الصدق مجلى الحمد لله الحمد لله أحياني وعلمني ... وساسني وهداني الحمد لله الحمد لله أغناني وآثرني ... وقام بي ورعاني الحمد لله الحمد لله عافاني وأكرمني ... وخصني وحباني الحمد لله الحمد لله أعطاني وخولني ... وسد أبواب فقري الحمد لله الحمد لله زكاني وسددني ... وحاطني وكفاني الحمد لله الحمد لله تمجيداً لعزته ... وجهد عبد يبث الحمد لله الحمد لله ذي الحمد الحميد وما ... عساه أبلغه في الحمد لله الحمد لله أنعشني وصل على ... محمد مع أهل الحمد لله وله أيضاً: سبحانه له البقا والسبق ... من وعده الوعد الأتم الصدق

وصدق أسمائك عجل المدد بصدق لا إله إلا الله والنصر والتفريج والفتح القريب

الفصل الثامن والعشرون الصديق والجليس

الفصل الثامن والعشرون الصديق والجليس

الصديق والجليس

الصديق والجليس الصديق: سمي الصديق صديقا لصدقه, وسمي الخليل خليلا لان محبته تتخلل القلب, فلا تدع فيه خللا الا ملأته. وفي الذكر الحكيم {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (¬1) , والصداقة سجية كريمة, وفضيلة عليا, وجليس الانسان صديقه وصاحبه, وهو اما ان يكون صالحا او فاسدا, ونقصد بالجليس الصالح: الصديق الفاضل المتحلي بالأخلاق الكريمة. وهو الذي ترتاح اليه النفس ويطمئن به الفؤاد وتنتعش الروح. ويقصد بجليس السوء: الصديق اوالصاحب الذي فسدت طباعه وساءت اخلاقه (¬2) . ويتحقق نجاح الانسان اذا احسن اختيار جليسة وصديقه فحسن اختيار الصديق والجليس فلاح ونجاح, وتوفيق وصلاح, فالصديق الصالح زينة في الرخاء, وعدة البلاء, وعون على الأعداء, فالعاقل من ألزم نفسه صحبة الأخيار وفارق مجالسة الأشرار, لأن مودة الأخيار سريع اتصالها بطيء انقطاعها, ومودة الأشرار سريع انقطاعها بطيء اتصالها, فرأس الفضائل اصطناع الأفاضل ورأس الرذائل اصطناع الأراذل, ومن حسن صفاه وجب اصطفاؤه, ومن اصطنع الكرام نسب إليه الإحسان, ومن جالس اللئام فقد الإنعام, وتفرق عنه الإخوان. وقد روي عن الحارث بن وجيه قال: سمعت مالك بن دينار يقول: إنك إن تنقل الحجارة مع الأبرار خير من أن تأكل الخبيص (¬3) مع الفجار. ¬

_ (¬1) - سورة الزخرف آية (67) (¬2) - دليل السائلين ص 154 (¬3) - الخبيص نوع من الحلوى يصنع من التمر مخلوطاً بالسمن.

وفي الحديث النبوي الشريف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً) (¬1) . قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وحدة المرء خير من جليس السوء, وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ما من شئ ادل على شئ, ولاالدخان على النار, من الصاحب على الصاحب, وروى أبو حاتم: أن جعفر بن محمد قال: من كان فيه ثلاث فقد وجب له على الناس أربع: إذا خالطهم لم يظلمهم, وإذا حدثهم لم يكذبهم, ... وإذا وعدهم لم يخلفهم, وعلى الناس: أن يظهروا عدله, وأن تكمل فيهم مروءته, وأن يجب عليهم أخوته, وأن يحرم عليهم غيبته. قال الشاعر: أصحب خيار الناس أين لقيتهم ... خير الصحابة من يكون ظريفاً والناس مثل دراهم ميزتها ... فرأيت فيها فضة وزيوفا (¬2) وفي الحديث النبوي (لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ (¬3)) وللإمام علي رضي الله عنه في اختيار الصديق والقرين: هُمومُ رِجالٍ في أُمورٍ كَثيرَةٍ ... وَهَمّي مِنَ الدُنيا صَديقٌ مُساعِدُ يَكونُ كَروحٍ بَينَ جِسمَينِ قُسِّمَت ... فَجِسمُهُما جِسمانِ وَالروحُ واحِدُ ¬

_ (¬1) - أخرجه مسلم في صحيحه باب استحباب مجالسة الصالحين حديث (2628) . (¬2) - روضة العقلاء ص81. (¬3) - رواه ابو داود حديث رقم (4192)

وله أيضاً: وَاِختَر قَرينَكَ وَاِصطَفيهِ تَفاخُراً ... إِنَّ القَرينَ إِلى المُقارَنِ يُنسَبُ وَإِذا الصَديقَ رَأَيتَهُ مُتقَلِّباً ... فَهوَ العَدُوُّ وَحَقُّهُ يُتَجَنَّبُ لا خَيرَ في وُدِّ اِمرِئٍ مُتَمَلِّقٍ ... حُلوِ اللِسانِ وَقَلبُهُ يَتَلَّهَبُ يَلقاكَ يَحلِفُ أَنَّهُ بِكَ واثِقٌ ... وَإِذا تَوارى عَنكَ فَهوَ العَقرَبُ يُعطيكَ مِن طَرَفِ اللِسانِ حَلاوَةً ... وَيَروغُ مِنكَ كَما يَروغُ الثَعلَبُ وللإمام الشافعي رضي الله عنه: إِذا المَرءُ لا يَرعاكَ إِلا تَكَلُّفاً ... فَدَعهُ وَلا تُكثِر عَلَيهِ التَأَسُّفا فَفي الناسِ أَبدالٌ وَفي التَركِ راحَةٌ ... وَفي القَلبِ صَبرٌ لِلحَبيبِ وَلَو جَفا فَما كُلُّ مَن تَهواهُ يَهواكَ قَلبُهُ ... وَلا كُلُّ مَن صافَيتَهُ لَكَ قَد صَفا إِذا لَم يَكُن صَفوُ الوِدادِ طَبيعَةً ... فَلا خَيرَ في وِدٍّ يَجيءُ تَكَلُّفا وَلا خَيرَ في خِلٍّ يَخونُ خَليلَهُ ... وَيَلقاهُ مِن بَعدِ المَوَدَّةِ بِالجَفا وَيُنكِرُ عَيشاً قَد تَقادَمَ عَهدُهُ ... وَيُظهِرُ سِرّاً كانَ بِالأَمسِ قَد خَفا سَلامٌ عَلى الدُنيا إِذا لَم يَكُن بِها ... صَديقٌ صَدوقٌ صادِقُ الوَعدِ مُنصِفا وفي الذكر الحكيم: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} (¬1) , وورد عن الحسن البصري في تفسير الآية قال: حلماء علماء صبّر ثبّت إن ظلموا لم يظلموا, وإن بغي عليهم لم يبغوا, قد براهم الخوف كأنهم القداح. ¬

_ (¬1) - سورة الفرقان الآية (63) .

اصطفاء الصديق من الأخيار

قال أبو حاتم: الواجب على العاقل أن يستعيذ بالله من صحبة من إذا ذكر الله لم يعنه, وإن نسي لم يذكره, وإن غفل حرضه على ترك الذكر, ومن كان أصدقاؤه أشراراً كان هو شرهم, وكما أن الخير لا يصحب إلا البررة, كذلك الرديء لا يصحب إلا الفجرة, فإن المرء إذا اضطره الأمر فليصحب أهل المروءات. قال عبد الواحد بن زيد: جالسوا أهل الدين من أهل الدنيا ولا تجالسوا غيرهم فإن كنتم لا بد فاعلين فجالسوا أهل المروءات فإنهم لا يرفثون في مجالسهم. (¬1) وفي الذكر الحكيم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} (¬2) . اصطفاء الصديق من الأخيار إن صداقة الأخيار, ومصاحبة المؤمنين الأبرار, ومحبتهم؛ تنجي من الهلكة والبوار, وتنقذ من الوقوع في الوحل والعار, وتجنب الإنسان العثرة والندم, قال الشاعر: وصاحب خيار الناس تنجُ مسلماً ... وصاحب شرار الناس يوماً فتندما (¬3) أما لبيد بن ربيعة فهو يقول: ما عاتَبَ الحُرَّ الكَريمَ كَنَفسِهِ ... وَالمَرءُ يُصلِحُهُ الجَليسُ الصالِحُ الجليس الصالح كحامل المسك كما ورد في الحديث إما يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة, والجليس الصالح يدل على الخير, ويورث الشرف, فإن آخيته كان لك قوة, فالواجب على العاقل أن لا يغفل عن مؤاخاة الاخوان, وإعدادهم للنوائب والحدثان, ونسب إلى محمد بن واسع أنه قال: "لم يبقَ من العيش إلا ثلاثٌ: الصلاة في الجماعة ترزق فضلها وتكفى سهوها, وكفاف المعاش ليست لأحد من الناس عليك فيه منة ولله عليك فيه تبعة (¬4) , وأخ محسن العشرة".وقال محمد بن عمران الضيى: وما المرء إلا بإخوانه ... كما تقبض الكف بالمعصمِ ولا خير في الكف مقطوعةً ... ولا خير في الساعد الأجذمِ وقال آخر: أَخاكَ أَخاكَ إِنَّ مَن لا أَخاً لَه ... كَساعٍ إِلَى الهَيجا بِغَيرِ سِلاحِ فصل جناح أخيك في الخير تؤجر, وصل جناح أخيك بالأجر تظفر, واصطفِ من تختاره لصداقتك وتؤاخيه, قال الشاعر: إِنَّ اَخاكَ الحَقّ مَن كانَ مَعَك ... وَمَن يَضِرُّ نَفسَهُ لِيَنفَعَك وَمَن إِذا ريبَ الزَمانُ صَدَعَك ... شَتَّتَ فيكَ شَملَهُ لِيَجمَعَك (¬5) ¬

_ (¬1) - روضة العقلاء ص82. (¬2) - سورة الكهف الآية (28) . (¬3) - أحكام القرطبي ج13ص20 , والموسوعة الشعرية ص307. (¬4) - أي تبعة كثيرة وإلا فكل نعمة من نعم الله مهما رأيتها صغيرة فإن الله يحاسب عليها (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) . (¬5) - هذان البيتان للإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي الله عنه.

وقليل من الناس من يتخلق بالوفاء ويلتزم في اختيار الصديق الوفاء, فالأخ الصديق هو الذي ينصرك مظلوماً بالعون, وينصرك حينما تكون ظالماً بردك عن ظلمك, كما جاء في الحديث النبوي الشريف: (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا, فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ, قَالَ: تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ) (¬1) . فالعاقل يصطفي جليسه ومن يؤاخيه, فلا يؤاخي اللئام, ولا يصادق أصحاب الدناءة والمذام, لأن اللئيم كالحية الصماء لا يوجد عندها إلا اللدغ والسم, وإنما يؤاخي الكريم الكرام, وقد روي عن سعيد بن المسيب أنه قال: وضع عمر بن الخطاب رضي الله عنه للناس ثمانية عشر كلمة كلها حكم, قال: ما كافأت من يعصي الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه, وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك, ولا تظنن بكلمة خرجت من مسلم شراً وأن تجد لها محملاً, ومن تعرض للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن, ومن كتم سره كانت الخيرة في يديه, وعليك باخوان الصدق فعش في أكنافهم, ولا تعرض لما لا يعنيك, ولا تسأل عما لم يكن فإن فيما كان شغل عما لم يكن, ولا تطلبن حاجة إلى من لا يحب لك نجاحها, ولا تصحبن الفاجر فتتعلم فجوره, واعتزل عدوك, واحذر صديقك إلا الأمين, ولا أمين إلا من خشي الله, وتخشع عند القول, وذل عند الطاعة, واعتصم ¬

_ (¬1) - أخرجه البخاري في صحيحه باب يمين الرجل لصاحبه أنه أخوه حديث (6552) .

عند المعصية, واستشر في أمرك الذين يخشون الله, يقول الله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (¬1) . قال أبو حاتم رضي الله عنه: العاقل لا يؤاخي إلا ذا فضل في الرأي والدين والعلم والأخلاق الحسنة, ذا عقل نشأ مع الصالحين, لأن صحبة بليد نشأ مع العقلاء خير من صحبة لبيب نشأ مع الجهال. قال الشاعر لا يغرنك صديق أبدا ... لك في المنظر حتى تخبره كم صديق كنت منه في عمى ... غرني منه زماناً منظره كان يلقاني بوجه طلق ... وكلام كالآلي ينثره فإذا فتشته عن غيبه ... لم أجد ذاك لود يضمره فدع الإخوان إلا كل من ... يضمر الود كما قد يظهره فإذا فزت بمن يجمع ذا ... فاجعلنه لك ذخراً تذخره (¬2) أما محمد مصطفى الماحي فهو يرى أن الخل الناصح أهدى وأنفع من الأخ الشقيق فيقول: ولرب خل ناصحٍ مترفقٍ ... أهدى وأنفع من أخٍ وشقيقِ وقال آخر: تَكَثَّر مِنَ الإِخوانِ ما اِسطَعتَ إِنَّهُم ... بُطونٌ إِذا اِستَنجَدتَهُم وَظُهورُ ومَا بكَثيرٍ أَلفُ خِلٍّ لِعاقِلٍ ... وَإِنَّ عَدُوّاً واحِداً لَكَثيرُ ¬

_ (¬1) - سورة فاطر الآية (28) . (¬2) - روضة العقلاء ص72و73.

صداقة الأشرار عار

صداقة الأشرار عار العاقل يستعيذ بالله من مصاحبة الأشرار, ومعاشرة الأنذال, فمصاحبة الأشرار داء عيا, وبلاء وأذى, فصديق من هذا القبيل ما هو إلا كالجاسوس يتتبع العثرات, ويدل على العورات, ما رأى من صالح دفنه, وما رأى من سيء أذاعه, وفي الأدعية المأثورة: (وأعوذ بك من خليل ماكرٍ عيناه تراني وقلبه يرعاني إن رأى حسنة دفنها وإن رأى سيئة أذاعها) . فالصديق والجليس السيئ إن ذكرت الله لم يعنك, وإن نسيت لم يذكرك, وإن غفلت ولهوت حرضك على اتباع الهوى واللهو وترك الذكر والخير, فمن كان أصدقاؤه أشراراً كان شرهم, قال الشاعر: وَصاحِبِ السوء كَالداءِ العياءِ إِذا ... ما اِرفَضَّ في الجِلدِ يَجري هاهنا وَهنا يَبدي وَيخبرُ عَن عَوراتِ صاحِبه ... وَما يَرى عِندَهُ من صالِحٍ دَفَنا (¬1) أما صالح بن عبد القدوس فيقول: شر الاِخلاء مَن تَسعى لِترضيه ... وَلا يَزال عَلَيك الدَهر غَضبانا وله أيضاً: تجنب قرين السوء واصرم حباله ... فإن لم تجد عنه محيصاً فداره وأحبب حبيب الصدق وأحذر مراءه ... تنل منه صفو الود ما لم تماره وله أيضاً: وَاِحذَر مُصاحَبَة اللَئيمِ فَإِنَّهُ ... يُعدي كَما يُعدي الصَحيح الأَجرَبُ وَدع الكَذوب فَلا يَكن لَكَ صاحِباً ... إِن الكَذوب يَشين حراً يَصحب (¬2) ¬

_ (¬1) - الأمالي للقالي ج2ص182 , والموسوعة الشعرية ص311. والبيتان للمقنع الكندي. (¬2) - ورد هذان البيتان في ديوان صالح بن عبد القدوس, وكذلك في ديوان الإمام علي رضي الله عنه, والله أعلم.

التلون في الصداقة

أما محمد البغدادي فهو يرى أن من لم تتوفر فيه سلامة الصدر والصدق وكتمان السر فإنه يباع ولو بكف من رماد وذلك حيث يقول: إذا المرء أخطأه ثلاث ... فبعه ولو بكف من رمادِ سلامة صدره والصدق منه ... وكتمان السرائر في الفؤادِ (¬1) التلون في الصداقة إن التلون في الصداقة مذموم, فالعاقل يحافظ على صديقه وجليسه, وإن من أعظم العيوب التلون في وداد الصديق, وكثرة التأفف والضيق, قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: وَلا خَيرَ في وِدِّ اِمرِئٍ مُتَلَّونٍ ... إِذا الريحُ مالَت مالَ حَيثُ تَميلُ جَوادٌ إِذا اِستَغنَيتَ عَن أَخذِ مالِهِ ... وَعِندَ اِحتِمالِ الفَقرِ عَنكَ بَخيلُ فَما أَكثَرَ الإِخوان حينَ تَعدّهُم ... وَلَكِنَهُم في النائِباتِ قَليلُ وقد قيل في صداقة المتلون: مودته متنقلة كتنقل الأفياء, وأخُوته متلونة كتلون الحرباء, قال الشاعر: قُل لِلَّذي لَست أَدري مِن تَلونه ... أَناصح أَم علي غش يُداجيني تَغتابَني عِندَ اِقوام وَتَمدحني ... في آخَرينَ وَكل عَنكَ يَأتيني وقال آخر: أخ لي كأيام الحياة اخاؤه ... تلون ألوان عليَّ خطوبها إذا عبت منه عيبة فتركته ... دعتني منه خلة لا أعيبها ¬

_ (¬1) - الموسوعة الشعرية ص314.

فراق الصديق المتلون

فراق الصديق المتلون قال اسحاق الموصلي: "ذكرت للعباس العلوي رجلاً فقال: دعني أتذوق طعم فراقه, فهو والله لا تشجى له النفس, ولا يدمى لفراقه الجفن". وقيل: "لا تصحب من لا يرى لك في الود مثلما ترى له". وقيل: "شغل المرء بمشتغل عنه مسقطة من العيون وإقباله على معرض عنه معرضة به لسوء الظنون", قال الشاعر: إذا لم يزل صاحبي يلتوي ... فقطع قرابته أروج مفارقة جليس السوء أجهل الناس من استأنس بالوحدة, واستكثر من الخلوة, وقيل: اياك من العزلة فإن في ملاقاة الناس معتبراً نافعاً, ومتعضاً واسعاً, فإن البيت رمس ما لزمته, قال الشاعر: وحدة الإنسان خير ... من جليس السوء عنده وجليس الخير خيرٌ ... من جلوس المرء وحده (¬1) وفاء الصديق نعم الخل الرضي, والصديق الوفي, والجليس الذكي التقي, فمن لا وفاء له لا خلق له, وفي الأمثال السائرة: الصديق عند الضيق, وحافظ على الصديق ولو في الحريق. ¬

_ (¬1) - محاضرات الراغب صص245.

قال ابوالعتاهية: أُحِبُّ مِنَ الإِخوانِ كُلَّ مُؤاتِ ... وَفِيٍّ يَغُضُّ الطَرفَ عَن عَثَراتي يُوافِقُني في كُلِّ خَيرٍ أُريدُهُ ... وَيَحفَظُني حَيّاً وَبَعدَ وَفاتي وَمَن لي بِهَذا لَيتَ أَنّي أَصَبتُهُ ... فَقاسَمتُهُ مالي مِنَ الحَسَناتِ تَصَفَّحتُ إِخواني فَكانَ أَقَلُّهُم ... عَلى كَثرَةِ الإِخوانِ أَهلَ ثِقاتِ وقال اخر: وَكُلُّ أَخٍ يَقولُ أَنا وَفِيٌّ ... وَلَكِن لَيسَ يَفعَلُ ما يَقولُ سِوى خِلٍّ لَهُ حَسَبٌ وَدينٌ ... فَذاكَ لِما يَقولُ هُوَ الفَعولُ (¬1) أما الشافعي رضي الله عنه فهو يقول: إِذا لَم أَجِد خِلاً تَقِيّاً فَوِحدَتي ... أَلَذُّ وَأَشهى مِن غَوِيٍّ أُعاشِرُه قال أبو حاتم رضي الله عنه: الواجب على العاقل إذا رزقه الله ود امرئ مسلم صحيح الوداد محافظاً عليه أن يتمسك به, ثم يوطن نفسه على صلته إن صرمه, وعلى الإقبال عليه إن صد عنه, وعلى البذل له إن حرمه, وعلى الدنو منه إذا باعده, حتى كأنه ركنٌ من أركانه, وإن من أعظم عيب المرء تلونه في الوداد, فالعاقل لا يقصر في تعهد الوداد, ولا يكون ذا لونين, وذا قلبين, بل يوافق سره علانيته, وقوله فعله, ولا خير في متآخيين ينمو بينهما الخلل ويزيد في حالهما الدغل, قال الشاعر: وكم من صديق وده بلسانه ... خؤون بظهر الغيب لا يتندم يضاحكني كرهاً لكيما أوده ... وتتبعني منه إذا غبت أسهم (¬2) ¬

_ (¬1) - هذان البيتان لحسان بن ثابت. (¬2) - روضة العقلاء ص83.

مصاحبة الجاهل والأحمق

وقال آخر: أف وتف لمن مودته ... إن زلت عنه سويعةً زالت إن مالت الريح هكذا أو كذا ... مال مع الريح حيثما مالت (¬1) ولبعض الشعراء: وما أحب إذا أحببت مكتتماً ... يبدي العداوة أحياناً ويخفيها تظل في قلبه البغضاء كامنةً ... فالقلب يكتمها والعين تبديها والنفس تعرف في عيني محدثها ... من كان من سلمها أو من أعاديها عيناك قد دلتا عيني منك على ... أشياء لولاهما ما كنت أدريها مصاحبة الجاهل والأحمق الناس في أخلاقهم وأوصافهم أجناس وإن كان أصلهم واحداً, فإنهم يختلفون باختلاف البيئات التي تربوا فيها, والأمور التي نشأوا عليها, ولهذا اعتبر الناس باخدانهم -أي أصدقاءهم- وروي عن مالك أنه قال: الناس أشكال كأجناس الطير: الحمام مع الحمام, والغراب مع الغراب, والبط مع البط, والصعو (¬2) مع الصعو, وكل إنسان مع شكله. قال الشاعر: يقاس المرء بالمرء إذا ما هو ماشاه ... وذو العُر (¬3) إذا ما احتك ذا الصحة أعداه وللشيء من الشيء مقاييس وأشباه ... وللروح على الروح دليل حين يلقاه ¬

_ (¬1) - بهجة المجالس ج2ص720 , والموسوعة الشعرية ص313. (¬2) - الصعو: طائر أصغر من العصفور أحمر الرأس. (¬3) - العُر: بظم العين الجرب.

وقال آخر: إِنَّ القُلوبَ لأَجنادٌ مُجَنَّدَةٌ ... لِلَّهِ في الأَرضِ بِالأَهواءِ تَختَلِفُ فَما تَعارَفَ مِنها فَهوَ مُؤتَلِفٌ ... وَما تَناكَرَ مِنها فَهوَ مُختَلِفُ وفي الحديث النبوي: (الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ) (¬1) . وقال أبو حاتم رضي الله عنه: العاقل يجتنب مواشاة المريب في نفسه, ويفارق صحبة المتهم في دينه, لأن من صحب قوماً عرف بهم, ومن عاشر أمرءاً نسب إليه, والرجل لا يصاحب إلا مثله أو شكله, فإذا لم يجد المرء بداً من صحبة الناس تحرى صحبة من زانه إذا صحبه, وإن رأى منه حسنة عدّها, وإن رأى منه سيئةً سترها, وإن سكت عنه ابتدأه, وإن سأله أعطاه (¬2) , وذلك لا يكون في أحمق أو جاهل, ... لأن الجاهل يجهل حق الصداقة وحظها, والأحمق إن لم يعدك من حمقه تدنست بعشرته, بل ربما أصابك ضررٌ من صداقته, فإنك إن أعرضت عنه اغتم, وإن أقبلت عليه اغتر, وإن حلمت عنه جهل عليك, وإن أحسنت إليه أساء إليك, قال الشاعر: لا تصحب الجاهـ ... ـل إياك وإياه فكم من جاهل أردى ... حليماً حين آخاه ¬

_ (¬1) - أخرجه مسلم في صحيحه باب الأرواح جنود مجندة حديث (4773) . (¬2) - روضة العقلاء ص88.

يقاس المرء بالمرء ... إذا ما هو ماشاه وللشيء من الشيء ... مقاييس وأشباه وللقلب على القلب ... دليل حين يلقاه قال مسكين الدارمي: اتقِ الأحمق أَن تصحبه ... إِنَّما الأَحمق كالثوب الخلق كُلما رقعت منه جانباً ... حرّكته الريح وهناً فانخرق أَو كصدع في زجاج فاحش ... هَل ترى صدع زجاج متفق وَإِذا جالسته في مجلسٍ ... أَفسد المجلس منه بالخرق وإِذا نهنهته كي يرعوي ... زاد جهلا وَتَمادى في الحمق واذا الفاحش لاقى فاحشاً ... فهناكم وافق الشن الطبق إِنَّما الفحش ومن يعتاده ... كَغُراب السوء ما شاء نعق أَو حمار السوء إِن أَشبعته ... رمح الناس وان جاع نهق وَغلام السوء إِن جوَّعته ... سرق الجار وان يشبع فسق أَيُّها السائل عما قد مَضى ... هَل جديد مثل ملبوس خلق أَنا مسكين لمن انكرني ... ولمن يعرفني جد نطق لا أَبيع الناس عرضي إِنَّني ... لَو أَبيع الناس عرضي لنفق وقال آخر: لن يسمع الأحمق من واعظ ... في رفعه الصوت وفي همه لن تبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه والحمق داء ما له حيلة ... ترجى كبعد النجم في لمسه

وقيل: "لا تؤاخ الفاجر فإنه يزين لك فعله, ويحب لو أنك مثله, ويزين لك أسوء خصاله, ومدخله عليك ومخرجه من عندك شين وعار. ... ولا الأحمق فإنه يجتهد بنفسه لك ولا ينفعك, وربما أراد أن ينفعك فيضرك, فسكوته خير من نطقه, وبعده خير من قربه, وموته خير من حياته. ... ولا الكذاب فإنه لا ينفعك معه عيش, ينقل حديثك, وينقل الحديث إليك, حتى كأنه ليحدث بالصدق فيصدق. (¬1) وقال بعض الحكماء: "من أخلاق الحمق: العجلة والخفة والجفاء والغرور والفجور والسفه والجهل والتواني والخيانة والظلم والضياع والتفريط والغفلة والسرور والخيلاء والفجر والمكر, وإن استغنى بطر, وإن افتقر قنط, وإن فرح أشر, وإن قال فحش, وإن سأل ألح, وإن قال لم يحسن, وإن قيل له لم يفقه, وإن ضحك نهق, وإن بكى خار". وقيل: "يعرف الأحمق بست خصال: الغضب من غير شيء, والإعطاء في غير حق, والكلام من غير منفعة, والثقة بكل أحد, وإفشاء السر, وأن لا يفرق بين عدوه وصديقه, ويتكلم ما يخطر على قلبه, ويتوهم أنه أعقل الناس". وقال أبو حاتم بن حيان الحافظ: من علامات الحمق سرعة الجواب, وترك التثبت, والإفراط في الضحك, وكثرة الالتفات, والوقيعة في الأخيار, والاختلاط بالأشرار. فمن ابتلي بصحبة الأحمق فليكثر من حمد الله على ما وهب له مما حرمه ذاك. قال محمد الشامي: ¬

_ (¬1) - روي هذا الكلام عن الإمام علي رضي والله عنه.

صداقة الكسلان ومجالسته

لنا جليس تركٌ للأدب ... جليسه من قوله في تعب يغضب جهلاً عند حال الرضى ... ومنه يرضى عند حال الغضب (¬1) صداقة الكسلان ومجالسته من علامة الخذلان مصاحبة الكسلان, ومفارقة الاخوان, والبعد عن خلال الإيمان, قال الشاعر: لا تصحب الكسلان في حاجة ... كم صالح بفساد آخر يفسد عدوى البليد إلى الحديد سريعة ... والجمر يوضع في الرماد فيخمد (¬2) فالكسل الداء, والعاقل لا يكسل بل يجد ويجتهد في عمله, والمؤمن يستعيذ بالله من الكسل ويشمر للجد في العمل, وفي الحديث النبوي الشريف: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ) (¬3) . صداقة العدو أعقل الناس من استطاع أن يحول العدو إلى صديق, لا أن يتذلل للعدو ويداهنه في الصداقة خشية ضره, فذلك نكد ومرض, قال المتنبي: وَمِن نَكَدِ الدُنيا عَلى الحُرِّ أَن يَرى ... عَدُوّاً لَهُ ما مِن صَداقَتِهِ بُدُّ ¬

_ (¬1) - أخبار الحمقى والمغفلين تصنيف الحافظ جمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن الجوزي القرشي البغدادي, شرحه عبد الأمير مهنى, ص37, الناشر: دار الفكر اللبناني الطبعة الأولى 1410هـ1990م. (¬2) - هذا البيت ينسب للخوارزمي , وانظر الموسوعة الشعرية ص312. (¬3) - أخرجه البخاري في صحيحه باب من غزا بصبي للخدمة حديث (2679) .

من الصداقات ما يؤذي

وقال آخر: وَاللَيث يُظهِرُ أن يَراك تَوَدُّداً ... مِن رَوعه وَالقَلب فيهِ ضَغائن وقيل: "من عاشر الاخوان بالمكر كافؤه بالغدر", قال الشاعر: إِذا أَنتَ فَتَّشتَ القُلوبَ وَجَدتَه ... قُلوبَ الأَعادي في جُسومِ الأَصادِقِ (¬1) وقال آخر: عدوُّكَ من صديقك مستفادٌ ... فلا تستكثرنَّ من الصِّحاب فإن الداءَ أكثرَ ما تراهُ ... يكونُ من الطعام أو الشرابِ من الصداقات ما يؤذي الصداقة قوة وأخوة, والغالب عليها النفع, ومنها ما يضر وينفع, قال المتنبي: وَمِنَ العَداوَةِ ما يَنالُكَ نَفعُهُ ... وَمِنَ الصَداقَةِ ما يَضُرُّ وَيُؤلِمُ أما منصور بن اسماعيل الفقيه فهو يقول: احذَر عدوَّك مرَّةً ... واحذَر صَديقَكَ ألف مَرَّه فَلَرُبَّما اِنقَلَبَ الصَّديـ ... ـقُ فَكانَ أَعلَمَ بالمَضَرَّة وفي الحديث النبوي الشريف: (أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْمًا مَا) (¬2) . أما عبد الله البردوني فهو يرى في الصداقات ما يؤذي وذلك حيث يقول: ¬

_ (¬1) - هذا البيت للشريف الرضي. (¬2) - أخرجه الترمذي في سننه باب ما جاء في الاقتصاد في الحب حديث (1997) .

الاحتمال للصديق واستبقاء وده

والصداقات كالعداوات تؤذي ... فسواء من تصطفي أو تعادي وقال آخر: وزهَّدني في الناس معرفتي بهم ... وطُول اختياري صاحباً بعد صاحبِ فلم تُرِني الأيامُ خِلّاً تسرُّني ... بَواديه إلا ساءني في العواقبِ ولا صِرتُ أدعوهُ لدفعِ ملمّةٍ ... من الدهر إلا كان إحدى النوائبِ الاحتمال للصديق واستبقاء وده العاقل يحتمل لإخوانه وأصدقائه, ولا يقصر في تعهد وداد أصدقائه, فإن أعجز الناس من قصر عن طلب الإخوان, وأعجز منه من ظفر بذلك منهم فأضاع مودتهم, وأكثر معاتبتهم, قال الشاعر: أَخوكَ الَّذي إِن رِبتَهُ قالَ إِنَّما ... أَرَبتُ وَإِن عاتَبتَهُ لانَ جانِبُه إِذا كُنتَ في كُلِّ الذُنوبِ مُعاتِباً ... صَديقَكَ لَم تَلقَ الَّذي لا تُعاتِبُه فَعِش واحِداً أَو صِل أَخاكَ فَإِنَّهُ ... مُفارِقُ ذَنبٍ مَرَّةً وَمُجانِبُه إِذا أَنتَ لَم تَشرَب مِراراً عَلى القَذى ... ظَمِئتَ وَأَيُّ الناسِ تَصفو مَشارِبُه (¬1) وقال آخر: وَكُنتُ إِذا الصَديقُ أَرادَ غَيظي ... وَأَشرَقَني عَلى حَنَقٍ بِريقي غَفَرتُ ذُنوبَهُ وَصَفَحتُ عَنهُ ... مَخافَةَ أَن أَعيشَ بِلا صَديقِ (¬2) ¬

_ (¬1) - هذه الأبيات لبشار بن برد. (¬2) - ذيل الأمالي للقالي ج3ص111, والموسوعة الشعرية ص307. والبيتان ينسبان لأبي زبيد الطائي , وينسبان أيضا إلى كثير عزه , والله أعلم.

فإذا لم تجد صديقاً صادقاً فإن الانفراد والخلوة أجمع لدواعي السلوة, وفيها الراحة من مداراة الناس والسلامة من شرهم, قال الشاعر: وَقالوا لِقاءُ الناسِ أُنسٌ وَراحَةٌ ... وَلَو كُنتُ أَرضى الناسَ ماكُنتُ مُفَردا (¬1) وقال أبو الدرداء: كان الناس ورقاً لا شوك فيه, وقد صاروا شوكاً لا ورق فيه, إذا نافرتهم نفروك وإن تركتهم ما تركوك. (¬2) فإذا تأذى الإنسان بالجليس وقلَّ من الأصدقاء الأنيس فلا تجعل من نفسك صديقاً للأشرار, ولا تشتغل عن الله بمداناة الفجار, قال الشاعر: طب عن الأمة نفساً ... وارض بالوحدة أنساً لست بالواجد خلاً ... أو ترد اليوم أمسا فإذا أردت الصاحب فالله يكفيك, وإن أرت أنيساً فالقرآن يؤنسك ويؤاسيك. ¬

_ (¬1) - هذا البيت للشريف الرضي. (¬2) - محاضرات الراغب ص255.

الفصل التاسع والعشرون الأخلاق الحسنة

الفصل التاسع والعشرون الأخلاق الحسنة

الأخلاق الحسنة

الأخلاق الحسنة الأخلاق الحسنة هي الدعامة الأولى لحفظ كيان الأمم, فلا تنهض الجماعات البشرية, ويعلو بنيانها, وتستقيم أحوالها, وتسمو حضارتها؛ إلا بالأخلاق الحسنة الفاضلة, فهي الركيزة الأساس في بناء كل مجتمع ينشد المحبة والإخاء, ويحرص على النهضة والبناء, ومن أجل ذلك كانت رسالة الأنبياء تحث على الأخلاق الفاضلة, وفي الحديث النبوي الشريف: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلاقِ) (¬1) , فالخلق الحسن يعني بسط الوجه, وبذل الندى, وكف الأذى, فتحلى أخي بالخُلق الحسن تكن من الناس قريباً, وفيما بينهم حبيباً, وقد قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (حسن الخلق في ثلاث خصال: إجتناب المحارم, وطلب الحلال, والتوسعة على العيال) , وقد روى مسلم في صحيحه والترمذي في سننه من حديث النواس ابن سنعان رضي الله عنه قال: (سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبِرِّ وَالإِثْمِ: فَقَالَ: الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ) (¬2) . وقال الغزالي: الخَلق والخُلق عبارتان مستعملتان معاً، يقال: فلان حسن الخلق والخلق -أي حسن الباطن والظاهر- فيراد بالخلق الصورة الظاهرة، ويراد بالخلق الصورة الباطنة. وذلك لأن الإنسان مركب من جسد مدرك ¬

_ (¬1) - أخرجه أحمد في المسند عن أبي هريرة حديث (8595) . (¬2) - أخرجه مسلم في صحيحه باب تفسير البر والإثم حديث (4632) , والترمذي في سننه باب ما جاء في البر والإثم حديث (2311) .

الخلق الحسن منزلة رفيعة

بالبصر ومن روح ونفس مدرك بالبصيرة. ولكل واحد منهما هيئة وصورة إما قبيحة وإما جميلة. فالنفس المدركة بالبصيرة أعظم قدراً من الجسد المدرك بالبصر. (¬1) الخُلق الحسن منزلة رفيعة للخلق الحسن منزلة رفيعة يبلغ بها الإنسان الدرجات العالية في الدنيا والآخرة, فمن حسنت أخلاقه وجبت محبته, ونال مراده, وفي الحديث النبوي الشريف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاقًا، الْمُوَطَّئُونَ أَكْنَافًا، الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ، الْمُلْتَمِسُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَنَتَ، الْعَيْبَ) (¬2) . وقيل: "في حسن الأخلاق سعة كنوز الأرزاق", وقيل: "صفاء الأخلاق من نقاء الأعراق, وإنما تحيا الأمم بأخلاقها", ويرحم الله شوقي حيث يقول: إِنَّما الأُمَمُ الأَخلاقُ ما بَقِيَت ... فَإِن هُمُ ذَهَبَتْ أَخْلاقُهُم ذَهَبُوا (¬3) وله أيضاً: وَإِنَّما الأُمَمُ الأَخلاقُ ما بَقِيَت ... فَإِن تَوَلَّت مَضَوا في إِثرِها قُدُما (¬4) ¬

_ (¬1) - إحياء علوم الدين للإمام الغزالي ج2ص253. (¬2) - أخرجه الطبراني في الكبير عن أبي هريرة ج19ص80 حديث (183) . (¬3) - هذا البيت أورده احمد قبش في كتابه مجمع الحكم والأمثال ص240, ونسبه لأحمد شوقي وليس في ديوانه الذي بين أيدينا. (¬4) - ديوان شوقي ج1ص259 , والموسوعة الشعرية ص157.

التآلف والحب بحسن الخلق

ولله در القائل: ولو أنني خيرت كل فضيلة ... ما اخترت غير مكارم الأخلاقِ والعاقل من يحفظ على الأخلاق الفاضلة لأنها تجارة رابحة, وفي الحديث النبوي الشريف: (مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ) (¬1) . في حسن الخلق التقرب إلى الرحمن, والأخذ بهدي محمد عليه أفضل الصلاة والسلام, وفي ذلك دليل على كمال الإيمان, وفي حسن الخلق التوسعة على الأهل والأولاد والإخوان, والإحسان إلى الجيران, والابتعاد عن خطوات الشيطان, وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (عليك بحسن الخلق، وطول الصمت، فوالذي نفس محمد بيده ما عمل الخلائق عملا أحب إلى الله منهما) (¬2) , فحسن الخلق زيادة في الخير, وكسب للمعروف, وتقدم وعلو, وفي حسن الخلق نماء, وزيادة في العمر, ودليل على الشرف, ويرحم الله القائل: أحب مكارم الأخلاق جهدي ... وأكره أن أعيب وأن أعابا وأصفح عن سباب الناس حلماً ... وشر الناس من يهوى السبابا التآلف والحب بحسن الخلق بحسن الخلق تألف الاخوان, وطاعة الرحمن, وهو باب من أبواب الإحسان, ففي الحديث النبوي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يا أبا هريرة عليك بحسن الخلق) ، قال أبو هريرة رضي الله عنه: ... وما حسن الخلق يا رسول الله؟ قال: (تصل من قطعك وتعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك) ، ولا يخفى أن ثمرة الخلق الحسن الألفة وانقطاع الوحشة ومهما طاب المثمر طابت الثمرة، وكيف وقد ورد في الثناء على نفس الألفة سيما إذا كانت الرابطة هي التقوى والدين وحب الله من الآيات والأخبار والآثار ما فيه كفاية ومقنع، قال الله تعالى مظهراً عظيم منته على الخلق بنعمة الألفة: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬3) وقال: {فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (¬4) أي بالألفة. ويرحم الله القائل: وما المرء إلا حيث يجعل نفسه ... ففي صالح الأخلاق نفسك فاجعلِ (¬5) استحباب اكتساب الأخلاق الفاضلة حتى تكون خُلقاً وطبعاً دأب الفاضل ودينه تعلم الأخلاق الفاضلة, واكتساب الأخلاق الحسنة, فإنه لن يبلغ الإنسان ما يريده من الأخلاق الحسنة حتى يبحث عنها ويتعلمها, فالعاقل من يسعى لاكتساب علم الأخلاق التي تبحث عن معنى الخير والشر, وتبين ما ينبغي أن تكون عليه معاملة الناس مع بعضهم بعضاً, حتى ينير علم الأخلاق سبيله, ويكون هدفه ودينه, فهو أقوى الدعائم التي تحفظ كيان الأمم, ولهذا نرى الباحثين والفلاسفة يتفقون على ضرورة ¬

_ (¬1) - أخرجه أبو داود في سننه باب ما جاء في حس الخلق حديث (4166) . (¬2) - أخرجه الطبراني في الأوسط عن أبي ذر حديث (7304) . (¬3) - سورة الأنفال الآية (63) . (¬4) - سورة آل عمران الآية (103) . (¬5) - البيت لمنقر بن فروة , وانظر البيان والتبيين للجاحظ ج2ص103 , والموسوعة الشعرية ص157.

اكتساب الأخلاق الفاضلة لأنها تصلح الفرد نفسه والمجتمع في جملته, فكما أن الفرد يزكو وتحسن أعماله بالأخلاق الفاضلة, فكذلك يفسد بالأخلاق الفسادة, وتفسد المجتمعات أيضاً بشيوع الصفات والأخلاق السيئة في آحادها, ولهذا فإن أول ما تتوجه عناية المصلحين والفلاسفة والمشرعين العاملين على إنهاض الجماعات البشرية إلى الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة لأنها الدعامة الأولى في بناء كل مجتمع سليم, ولم يبالغ (شاتوبريان) حين قال: "الأخلاق أساس كل مجتمع". (¬1) ولله در القائل: فَلَم أَجِدِ الأَخلاقَ إِلا تَخَلُّقاً ... وَلَم أَجِدِ الأَفضالَ إِلا تَفَضُّلا (¬2) وقال آخر: وَفي الحِلمِ وَالإِسلامِ لِلمَرءِ وازِعٌ ... وَفي تَركِ طاعاتِ الفُؤادِ المُتَيَّمِ بَصائِرُ رُشدٍ لِلفَتى مُستَبينَةٌ ... وَأَخلاقُ صِدقٍ عِلمُها بِالتَعَلُّمِ (¬3) أما حاتم الطائي فهو يقول: تَحَمَّل عَنِ الأَدنَينَ وَاِستَبقِ وُدَّهُم ... وَلَن تَستَطيعَ الحِلمَ حَتّى تَحَلَّما (¬4) وقال آخر: كذاك أُدّبت حتى صار من خلقي ... أني وجدت ملاك الشيمة الأدب (¬5) ¬

_ (¬1) - روح الدين الإسلامي ص204. (¬2) - روح الدين الإسلامي ص204. (¬3) - البيت ينسب لأبي تمام. (¬4) - ورد هذا البيت لحاتم الطائي, وورد في الموسوعة الشعرية منسوباً للمتلمس والله أعلم. (¬5) - الموسوعة الشعرية ص160.

ولكن بعض الشعراء يرى غلبة الخَلق على التخلق, والطبع على التطبع, وفي ذلك يقول محمد الاشبيلي: وكل إلى طبعه عائد ... وإن صده المنع عن قصده كذا الماء من بعد اسخانه ... يعود سريعاً إلى برده ويرى آخر أن من شب على شيء شاب عليه وأن الشيخ لا يترك أخلاقه حتى يوارى في ثرى رمسه فيقول: وَالشَيخُ لا يَترُك اِخلاقه ... حَتّى يُواري في ثَرى رمسه (¬1) ولابن بسام الشنتريني: يا أَيُّها المُتَحَلِّي غَيرَ شِيمَتِهِ ... إِنَّ التَخَلُّقَ يَأتي دُونَهُ الخُلُقُ (¬2) وقال آخر: إذا ما طلبت شيمةً غير شيمةٍ ... طبعت عليها لم تجبك الطبائع أما ذو الأصبع العدواني فهو يقول: كُلُّ اِمرِئٍ صائِرٌ يَوماً لِشيمَتِهِ ... وَإِن تَخَلَّقَ أَخلاقاً إِلى حينِ وقال آخر: ارجع إلى خلقك المعروف ديدنه ... إن التخلق يأتي دونه الخُلق أما اسحاق الخريمي فهو يقول: الناسُ أَخلاقُهُم شَتّى وَإِن جُبِلوا ... عَلى تَشابُهِ أَرواح وَأَجسادِ ¬

_ (¬1) - البيت ينسب لصالح بن عبد القدوس. (¬2) - ورد هذا البيت في الذخير في محاسن أهل الجزيرة لابن بسان الشنتريني.

من حسن الله خلقه ينبغي أن يحسن خلقه

والظاهر أن من عود نفسه الفضيلة والخلق الحسن اعتادها, قال عبد الله ابن المبارك: خَالِق الناسَ بِخُلقٍ حَسَن ... لا تَكُن كَلباً عَلى الناسِ تَهر (¬1) وفي الحديث النبوي الشريف: (اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ) (¬2) . من حسّن الله خَلقه ينبغي أن يحسن خُلقه إن من أكرمه الله بحسن الخَلق يبغي أن يكون حسن الخُلق, وقد قيل أن الخُلق عبارة عن هيئة في النفس راسخة عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية فإن كانت الأفعال بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحدودة شرعاً وعقلاً سميت تلك الأفعال خلقاً حسناً, وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقاً سيئاً. (¬3) وفي الحديث النبوي: (أطلبوا الخير عند حسان الوجوه) (¬4) , وفي الذكر الحكيم: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬5) , وفي سورة التغابن يقول العزيز الحكيم: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ ¬

_ (¬1) - وورد في الموسوعة الشعرية لمحمد بن زنجي البغدادي. (¬2) - أخرجه الترمذي في سننه باب ما جاء في معاشرة النساء حديث (1910) . (¬3) - دليل السائلين ص193. (¬4) - أخرجه الطبراني في الأوسط ج6ص176, وفي الكبير ج11ص81. (¬5) - سورة غافر الآية (64) .

الْمَصِيرُ} (¬1) , فسبحان من أحسن خلق الإنسان وأوجد من العدم الصور الحسان, وجاء في سورة الرحمن مزيد بيان: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (¬2) , فمن خلقه الله في أحسن تقويم وجب عليه أن يكون من المحسنين الشاكرين للعزيز الرحيم: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ* وَطُورِ سِينِينَ* وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ* لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (¬3) . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (خالطوا الناس بالأخلاق وزايلوهم بالأعمال) . وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: "إن العبد لبيلغ بحسن خُلقه أعلى درجات الجنة وهو غير عابد, ويبلغ بسوء خُلقه أسفل درجات جهنم وهو عابد". وقال يحيى بن معاذ رحمه الله: "حسن الخُلق حسنة لا تضر معها كثرة السيئات, وسوء الخُلق سيئة لا تنفع معها كثرة الحسنات" (¬4) . وإن حسن الوجه إذا كان حسن الأخلاق كان قريباً من الله قريباً من الناس, يحبهم ويحبوه, ويألفهم ويألفوه, يسعى بالبر ويعين عليه, بحسن أخلاق المرء تنصلح أحواله, وتزكو أعماله, وتحسن طويته, وتكبر همته, ويعظم نفعه, قال الشاعر: حَسَنُ الوَجْهِ والخَلائِقِ والعَهْدِ ... كريمُ الأقْوالِ والأفْعالِ ¬

_ (¬1) - سورة التغابن الآية (3) . (¬2) - سورة الرحمن الآيات (1-4) . (¬3) - سورة التين الآيات (1-4) . (¬4) - دليل السائلين ص185.

قصة خروج جابر مع رسول الله (ص) في غزوة ذات الرقاع

يُشْرِقُ الدَّسْتُ منه بين جمالٍ.... رائعٍ باهرٍ وبينَ جَلالِ فهو كالجَوْنَةِ المُضيئَةِ للأعْيُنِ ... لكنْ مَحَلُّها جِدُّ عالِ (¬1) وقال آخر: حَسَنُ الوجهِ وَالصّفاتِ جَميعاً ... مُرتَضى الفِعلِ أَشرَفُ الشرفاءِ (¬2) وقال أبو العتاهية: وَسِعَ الناسَ بِخُلقٍ حَسَنٍ ... لَم يَضِق شَيءٌ عَلى حُسنِ الخُلُق كُلُّ مَن لَم تَتَّسِع أَخلاقُهُ ... بَعُدَ الإِحسانُ مِنهُ وَسَحُق قصة خروج جابر مع رسول الله (ص) في غزوة ذات الرقاع عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ مُرْتَحِلاً عَلَى جَمَلٍ لِي ضَعِيفٍ فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ جَعَلَتْ الرِّفَاقُ تَمْضِي وَجَعَلْتُ أَتَخَلَّفُ حَتَّى أَدْرَكَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ فَقَالَ: (مَا لَكَ يَا جَابِرُ؟) قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْطَأَ بِي جَمَلِي هَذَا, قَالَ: (فَأَنِخْهُ) وَأَنَاخَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ, ثُمَّ قَالَ: (أَعْطِنِي هَذِهِ الْعَصَا مِنْ يَدِكَ) , أَوْ قَالَ: ¬

_ (¬1) - هذا البيت ينسب لسعد بن محمد بن سعد بن الصيفي التميمي أبو الفوارس, الملقب بـ (الحيص بيص) , (492-574هـ/1098-1178م) شاعر مشهور من أهل بغداد كان يلقب بأبي الفوارس نشأ فقيهاً وغلب عليه الأدب والشعر وكان يلبس زي أمراء البادية ويتقلد سيفاً ولا ينطق بغير العربية الفصحى, وتوفي ببغداد عن 82عاماً, له (ديوان شعر-ط) الجزء الأول منه ببغداد ورسائل أورد ابن أبي أصيبعة نتفاً منه. (¬2) - هذا البيت ينسب للمفتي عبد اللطيف بن علي فتح الله, (ت 1260هـ1844م) أديب من أهل بيروت، تولى القضاء والإفتاء, له نظم جيد في (ديوان-ط) و (مقامات-خ) ، و (مجموعة شعرية-خ) بخطه، ألقاها في صباه سنة 1200هـ‍في خزانة الرباط 1745 كتاني.

(اقْطَعْ لِي عَصًا مِنْ شَجَرَةٍ) قَالَ: فَفَعَلْتُ, قَالَ: فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ فَنَخَسَهُ بِهَا نَخَسَاتٍ ثُمَّ قَالَ: (ارْكَبْ) , فَرَكِبْتُ, فَخَرَجَ وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ يُوَاهِقُ نَاقَتَهُ مُوَاهَقَةً, قَالَ: وَتَحَدَّثَ مَعِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ فَقَالَ: (أَتَبِيعُنِي جَمَلَكَ هَذَا يَا جَابِرُ؟) قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلْ أَهَبُهُ لَكَ, قَالَ: (لا وَلَكِنْ بِعْنِيهِ) , قَالَ: قُلْتُ: فَسُمْنِي بِهِ, قَالَ: (قَدْ قُلْتُ أَخَذْتُهُ بِدِرْهَمٍ) قَالَ: قُلْتُ: لا إِذًا يَغْبِنُنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ, قَالَ: (فَبِدِرْهَمَيْنِ) , قَالَ: قُلْتُ: لا, قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يَرْفَعُ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ الأُوقِيَّةَ, قَالَ: قُلْتُ: فَقَدْ رَضِيتُ, قَالَ: (قَدْ رَضِيتَ) قُلْتُ: نَعَمْ, قُلْتُ: هُوَ لَكَ, قَالَ: (قَدْ أَخَذْتُهُ) , قَالَ: ثُمَّ قَالَ لِي: (يَا جَابِرُ هَلْ تَزَوَّجْتَ بَعْدُ) , قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: (أَثَيِّبًا أَمْ بِكْرًا) , قَالَ: قُلْتُ: بَلْ ثَيِّبًا, قَالَ: (أَفَلا جَارِيَةً تُلاعِبُهَا وَتُلاعِبُكَ) , قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَبِي أُصِيبَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ بَنَاتٍ لَهُ سَبْعًا فَنَكَحْتُ امْرَأَةً جَامِعَةً تَجْمَعُ رُءُوسَهُنَّ وَتَقُومُ عَلَيْهِنَّ, قَالَ: (أَصَبْتَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ) , قَالَ: (أَمَا إِنَّا لَوْ قَدْ جِئْنَا صِرَارًا أَمَرْنَا بِجَزُورٍ فَنُحِرَتْ وَأَقَمْنَا عَلَيْهَا يَوْمَنَا ذَلِكَ وَسَمِعَتْ بِنَا فَنَفَضَتْ نَمَارِقَهَا) , قَالَ: قُلْتُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا مِنْ نَمَارِقَ, قَالَ: (إِنَّهَا سَتَكُونُ فَإِذَا أَنْتَ قَدِمْتَ فَاعْمَلْ عَمَلاً كَيِّسًا) , قَالَ: فَلَمَّا جِئْنَا صِرَارًا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ بِجَزُورٍ فَنُحِرَتْ فَأَقَمْنَا عَلَيْهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ فَلَمَّا أَمْسَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ دَخَلَ وَدَخَلْنَا, قَالَ: فَأَخْبَرْتُ الْمَرْأَةَ الْحَدِيثَ وَمَا قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ, قَالَتْ: فَدُونَكَ فَسَمْعًا وَطَاعَةً, قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَخَذْتُ بِرَأْسِ الْجَمَلِ فَأَقْبَلْتُ بِهِ حَتَّى أَنَخْتُهُ عَلَى بَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسْتُ فِي الْمَسْجِدِ قَرِيبًا مِنْهُ قَالَ وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ فَرَأَى الْجَمَلَ, فَقَالَ: (مَا هَذَا؟) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا جَمَلٌ جَاءَ بِهِ جَابِرٌ, قَالَ: (فَأَيْنَ جَابِرٌ؟) فَدُعِيتُ لَهُ, قَالَ: (تَعَالَ -أَيْ يَا ابْنَ أَخِي- خُذْ بِرَأْسِ جَمَلِكَ فَهُوَ لَكَ) , قَالَ: فَدَعَا بِلالاً, فَقَالَ: (اذْهَبْ بِجَابِرٍ فَأَعْطِهِ أُوقِيَّةً) , فَذَهَبْتُ مَعَهُ فَأَعْطَانِي أُوقِيَّةً وَزَادَنِي شَيْئًا يَسِيرًا, قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَنْمِي عِنْدَنَا وَنَرَى مَكَانَهُ مِنْ بَيْتِنَا. (¬1) إن في هذه القصة من الخُلق الكريم ما يدل على علو مكانة محمد صلى الله عليه وآله وسلم, ولطف معاشرته, وفكاهة محاورته, ولين خطابه, وهو ما يدفع العاقل إلى حسن الإقتداء به صلى الله عليه وآله وسلم, ويستفاد من ذلك أن حسن الخلق هو أفضل ما اقتنى الإنسان لنفسه في الدنيا وأجل ما يذخر له في العقبى, ولله در القائل: ما مِن جَميلٍ مِنَ الدُنيا وَلا حَسَنٍ ... إِلا وَأَكثَرُهُ في ذَلِكَ الخُلُقِ (¬2) وإلى هنا تم بحمد الله وعونه وتوفيقه ويليه الجزء الثاني ¬

_ (¬1) - أخرجه أحمد في المسند حديث (14495) . (¬2) - هذا البيت لأبي تمام.

المحتويات مقدمة ... 3 الفصل الأول ... 9 العلم هو إدراك الشيء بحقيقته ... 11 بقاء العلم ... 14 العلم عون الدين ... 16 العلم يرفع الله به الوضيع ... 17 العلم عنوان العز ... 18 أشرف العلوم ... 20 مبادئ العلوم ... 21 الجد في طلب العلم ... 22 محبة العلم ... 25 تعظيم العلم ... 25 تكريم المعلم ... 26 المعلم الذي لا يؤدي واجبه ... 28 المعلم الذي يخالف علمه عمله ... 29 حق التعليم مكفول للصغير والكبير ... 29 ترك المعاصي سبب في حفظ العلوم وجمعها ... 33 إنفاق العلم وعدم جواز كتمه ... 34 القصة في الحديث النبوي ... 35 الجهل يضاد العلم ... 35 الفتيا بغير علم إثم ... 38 العليم الخبير في أسماء الله الحسنى ... 39 علم الله جل وعلا علم تفرده به ... 44

ثمرة معرفة اسم الله تعالى العليم الخبير ... 45 دعاء الله باسمه العالم العليم ... 48 الفصل الثاني ... 51 العقل ... 53 العقل والهوى متعاديان ... 56 عداوة العاقل خير من صداقة الأحمق ... 60 العقل مناط التدبر وطريق الهدى والرشاد ... 60 العقل نوعان: مطبوع ومسموع ... 63 الإنكار على من لم يُعمِل عقله ... 64 إغفال العقل ... 65 التجارب تزيد في العقل ... 65 الأدب النفسي ودوره في تنمية العقل ... 66 كمال العقل ... 67 القصة ... 68 الفصل الثالث ... 75 الإنسانية أصلها واحد ... 77 القصة ... 80 الأمثال العربية ... 81 الإسلام يدعو إلى الأخوة والتعاون ... 84 مبدأ الوحدة الإنسانية والمساواة البشرية ... 87 نجاح الأفراد والأمم وأثر الاتفاق والاختلاف على الأسرة الإنسانية ... 88 مراحل نمو خَلق الإنسان تدل على أن الله وحده الخالق المنان ... 96 الخالق في أسماء الله الحسنى ... 100 ثمرة معرفة اسم الله الخالق وحده لا شريك له ... 101 دعاء الله باسمه الخالق ... 103 الفصل الرابع ... 105 القلم ... 107 القلم تحيا به الأمم وتتعلّم ... 108 دور القلم في سعادة الأمم وشقاؤها ... 109

القلم الالكتروني ... 113 الكتابة الإلكترونية: ماهيتها وطبيعتها ... 114 القوة الثبوتية للكتابة الالكترونية ... 116 تسمية ما يكتب فيه عند العرب ... 119 الكَتبُ إنشاؤه وزبره ... 126 السطر ... 128 الكتاب عرضه وحفظه ... 128 الحفيظ والمحصي من أسماء الله الحسنى ... 130 ثمرة معرفة اسم الله الحفيظ الحافظ المحصي ... 134 دعاء الله باسمه الحفيظ الحافظ المحصي ... 137 الفصل الخامس ... 139 الإيمان ... 141 النجاة في الإيمان بالله ... 143 الرفعة بالإيمان ... 144 الإيمان بالقضاء والقدر ... 145 القدر في القرآن ... 150 الرضا والتسليم دليل الإيمان ... 154 قصة إيمان أهل الكهف في القرآن ... 155 الإيمان بالله يزيل الهم ... 156 من يؤمن بالله يهدي قلبه ... 157 الخلال الدنيئة ليست من صفات المؤمن ... 158 النفاق يضاد الإيمان ... 158 الإيمان بالغيب ... 161 إخبار المنجم عن علم الغيب كذب والتصديق به كفر ... 164 علم الفلك والنجوم ... 166 الإيمان بأسماء الله وصفاته ... 168 الذكر يقوي الإيمان ... 170 ذكر الله في جوف الليل ... 172

ذكر الله شرف ونعمة ... 173 الدعاء يقوي الإيمان ... 174 من تقرب إلى الله بالدعاء ضمن الإجابة ... 175 المؤمن من أسماء الله الحسنى ... 176 ثمرة التعرف على اسم الله المؤمن ... 177 دعاء الله باسمه المؤمن ... 178 الفصل السادس ... 179 العمل ... 181 العمل سبب الغنى ... 182 البكور في طلب الرزق ... 184 الحرفة أو الصنعة ضرورة ... 187 أصناف الصناعات ... 188 إتقان العمل ... 190 البحث عن العمل ... 193 القصة ... 193 إعطاء العامل أجره ... 194 إعطاء العامل حظه من الراحة ... 194 بعث الهمم على العمل ... 195 الباعث في أسماء الله الحسنى ... 196 ثمرة معرفة اسم الله الباعث ... 198 الدعاء باسم الله الباعث ... 199 الفصل السابع ... 201 السفر والسياحة ... 203 حقيقة السفر ... 204 السفر فيه قضاء الحوائج ... 206 التغيير بالسفر يكسر (الروتين) وينقي الفكر ... 207 علاج (الروتين) الممل ... 210 تأكد من قدرتك الصحية على السفر ... 212

آداب السفر ... 213 الابتسامة والبهجة في السفر ... 219 الاستمتاع بالسفر والسياحة لا يعني السقوط في الوحل ... 233 حاجة المسافر إلى قراءة شيء من القرآن في أسفاره ... 237 المشي يعين على الطاعة ويجلب السعادة ... 241 العز والشرف في التنقل ... 244 أخطار السفر في هذا الزمن قليلة فتمتع بنعمته الكبيرة ... 246 الطائرات السابحات في الجو ... 249 السفر يهدي إلى التعرف على عظمة الصانع جلت قدرته ... 250 الهادي من أسماء الله الحسنى ... 252 ثمرة معرفة اسم الله الهادي ... 256 دعاء الله باسمه الهادي ... 258 الفصل الثامن ... 261 الحرية والإباء ... 263 الحرية التي ليس عليها ضوابط ... 265 الحرية ليس لها ثمن ... 266 لوم الحر نجاة له ... 268 الحر لا يريق ماء وجهه ... 269 الحر يأبى الذل والهوان ... 270 الحر يقاوم الطغيان ... 271 الحر يحفظ الود ... 290 فقد الحر رزيئة ... 291 الفصل التاسع ... 293 الوطن ... 295 حب الوطن ووصفه ... 297 دعائم المواطنه ... 301 خيانة الأوطان جناية ... 307 مرارة الغربة عن الأوطان ... 309

وطن العرب والمسلمين واحد ... 310 خصوصية الوطن الأول ... 313 في الانتقال عن الأوطان ... 313 الفصل العاشر ... 317 المال ... 319 حب المال ... 321 السعي في طلب المال وإصلاحه ... 322 إنفاق المال في وجوه البر ... 325 لا تبخل عن بذل المال ... 326 فتنة المال وميل الناس إلى صاحبه ... 327 ذهاب المال ... 328 الغنى والفقر ... 331 دعاء الله بأسمه الغني المغني الرزاق ... 344 الفصل الحادي عشر ... 345 المُلك والسياسة ... 347 الملك هبة الله الواحد المنان ... 349 عدل السلطان ... 351 الرفق والكرم في السياسة ... 353 اختيار الوزراء ... 353 مما يستعان به على السياسة ... 357 فساد بطانة السلطان ... 359 السياسة الرعناء ... 360 خساسة السياسة ... 361 السياسة الرشيدة والملك المحبوب ... 362 طاعة السلطان ... 364 المَلِك مالك المُلك والمليك في الأسماء الحسنى ... 364 ثمرة معرفة اسمه جل وعلا الملك ... 371 دعاء الله باسمه الملك والمَالِك ملك الملُك ... 372 الفصل الثاني عشر ... 375

الشُكر ... 377 استدامة النعمة بالشكر ... 379 شكر الخالق واجب ... 381 من شكر الله شكر الناس ... 383 الشكر فيه الزيادة ... 386 الثناء على أهل الشكر ... 386 الشكر أمان من العذاب ... 388 سؤال الشكر من الله نعمة ... 388 جحود النعمة والإعراض عن الشكر سبب في الهلاك ... 390 الشكور الشاكر من أسماء الله الحسنى ... 391 ثمرة معرفة هذا الاسم ... 392 الفصل الثالث عشر ... 395 الكِبر ... 397 الكِبر يغضب الجبار, ويكون سبباً في دخول النار ... 398 المتكبرون شرار الناس ... 399 الكِبر بطر الحق ... 399 أسباب الكبر ... 401 قصه للأحنف بن قيس ... 404 الكبير والمتكبر في أسماء الله الحسنى ... 404 ثمرة معرفة اسم الله الكبير المتكبر ... 406 دعاء الله باسمه الكبير المتكبر ... 407 الفصل الرابع عشر ... 409 التواضع ... 411 التواضع فريضة, والعُجب رذيلة ... 414 قصة لهارون الرشيد مع اللأمام مالك ... 418 الفصل الخامس عشر ... 421 الحُب ... 423 الحب أنواع ... 423

مفردات الحب ... 424 ضرورة الحب وحاجة الناس إليه ... 425 امنح الثقات محبتك ... 428 الإفراط في الحب لغير الله غير مرغوب ... 431 الحب وآدابه ... 432 آفات الحب ... 432 الحب زينة الحياة ... 433 حب الجمال نعمة ... 433 حب الله ... 434 محبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ... 437 من تمام محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم محبة آله وما يحب ... 438 أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر محبةً له ولأهل بيته ... 438 محبة الصحابة من تمام محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ... 439 محبة المؤمنين ... 440 محبة الله لعبده أعظم نعمة ... 441 الفصل السادس عشر ... 451 الجمال ... 453 جمال الإنسان ... 454 جمال الأنعام ... 457 جمال الكون ... 464 الجميل في أسماء الله الحسنى ... 466 ثمرة معرفة اسم الله الجميل ... 467 دعاء الله باسمه الجميل الجليل ... 470 الفصل السابع عشر ... 473 الحسد ... 475 الحاسد جاحد ... 476 ليس المؤمن بحسود ... 476 الحسد خطير وعلاجه عسير ... 478

الحسد ذميم فلا تتخلق به ... 481 الكرام من الناس تُحسد ... 482 علاج الحسد ... 484 الفصل الثامن عشر ... 487 الغيبة ... 489 حد الغيبة ... 490 من اغتاب أغتيب ... 492 قصة للحسن البصري رحمه الله ... 493 علاج الغيبة ... 493 الصمت وأدب اللسان ... 495 الإصغاء إلى الغيبة ... 497 الأعذار المرخصة في الغيبة ... 497 الفصل التاسع عشر ... 499 النميمة ... 501 سوء الظن ... 504 ثمرة النميمة ... 505 ذو الوجهين ... 507 الفصل العشرون ... 509 الأمانة ... 511 تقدير الناس للأمانة ... 516 الأمانة في الإيمان بالله وعبادته ... 517 ترك الأمانة نفاق ... 519 الأمانة في الولايات ... 519 الأمانة في الأسرة ... 525 أمانة الزوج تقتضي عدم جواز تخوين أهله ... 526 أمانة الزوجة تقتضي حفظ أسرار زوجها ... 526 تربية الأولاد وتعليمهم أمانة ... 527 الأمانة في الأخلاق والمعاملات ... 528

الخيانة مذمة وندامة ... 530 الخيانة أسوء ما يبطنه الإنسان ... 532 الفصل الحادي والعشرون ... 535 الحِلم ... 537 الحلم حلية العلم ... 540 الحليم حاذق لبيب ... 540 الحلم ثبات ورفعة ... 541 الحليم ذو عزة ... 543 الحليم اسم من أسماء الله تعالى ... 546 ثمرة معرفة اسم الله الحليم ... 548 دعاء الله باسمه الحليم ... 549 الفصل الثاني والعشرون ... 551 الرفق ... 553 الرفق يحبه الله ... 554 التزام الرفق ومباينة العنف ... 556 الرفيق من الأسماء الحسنى ... 557 ثمرة معرفة اسمه تعالى الرفيق ... 558 دعاء الله باسمه الرفيق ... 562 الفصل الثالث والعشرون ... 563 الصبر ... 565 الصبر مفتاح النجاح ... 567 الصبر يعقبه الفرج ... 570 الصبر والرضا به ... 572 الحر الصابر لا يريق ماء وجهه ... 576 الصبور في الأسماء الحسنى ... 578 ثمرة معرفة اسمه تعالى الصبور ... 581 دعاء الله باسمه الصبور ... 584 الفصل الرابع والعشرون ... 585 العفو ... 587

الكريم يعفو ... 588 العز في العفو ... 591 العفو في أسماء الله الحسنى ... 593 ثمرة التعرف على اسم الله العفوُ ... 595 دعاء الله باسمه العفوُ ... 600 الفصل الخامس والعشرون ... 601 الكرم ... 603 خلق الكريم المحافظة على مكارم الأخلاق ... 605 الكريم يكرم ضيفه ... 606 الكريم يجود ولا يبخل ... 607 اللؤم ضد الكرم ... 608 الكرم والبخل لا يتفقان ... 610 الكرم أفضل ما يقتنى ... 614 فخر الرجال كرمهم ... 615 الأكرم الكريم في أسماء الله الحسنى ... 616 ثمرة معرفة اسم الله الكريم الأكرم ... 618 دعاء الله باسمه الكريم ... 619 الفصل السادس والعشرون ... 621 العدل ... 623 العدل في الكلام ... 625 العدل في الشهادة ... 626 العدل في الولاية ... 626 وصفُ الحسن البصري للإمام العادل ... 627 العدل في القضاء بين الناس ... 630 قصة روتها خولة بنت قيس ... 633 العدل يحبه الله والظلم لا يحبه ... 634 الظلم في الأمثال السائرة ... 635 دعوة المظلوم لا ترد ... 637

الشرك أعظم أنواع الظلم ... 638 لئيم من يظلم قرابته ... 638 عاقبة الظلم ... 639 العدل في الأسماء الحسنى ... 640 ثمرة معرفة اسمه تعالى العدل ... 641 دعاء الله باسمه وصفته العدل ... 642 الفصل السابع والعشرون ... 645 الصدق ... 647 الصدق يألفه الكريم ... 649 الصدق يرفع المرء في الدارين والكذب يهوي به في الحالين ... 651 الكذب يضاد الصدق ويجانبه فتجنبه ... 653 مضرة الكذب ... 654 مكانة الصدق رفيعة ... 655 الصادق في أسماء الله وصفاته ... 656 ثمرة معرفة هذا الاسم الجليل ... 658 دعاء الله الصادق الكريم ... 659 الفصل الثامن والعشرون ... 663 الصديق والجليس ... 665 اصطفاء الصديق من الأخيار ... 668 صداقة الأشرار عار ... 672 التلون في الصداقة ... 673 فراق الصديق المتلون ... 674 مفارقة جليس السوء ... 674 وفاء الصديق ... 674 مصاحبة الجاهل والأحمق ... 676 صداقة الكسلان ومجالسته ... 680 صداقة العدو ... 680 من الصداقات ما يؤذي ... 681

الاحتمال للصديق واستبقاء وده ... 682 الفصل التاسع والعشرون ... 685 الأخلاق الحسنة ... 687 الخُلق الحسن منزلة رفيعة ... 688 التآلف والحب بحسن الخلق ... 689 استحباب اكتساب الأخلاق الفاضلة حتى تكون خُلقاً وطبعاً ... 690 من حسّن الله خَلقه ينبغي أن يحسن خُلقه ... 693 قصة خروج جابر مع رسول الله (ص) في غزوة ذات الرقاع ... 695 المحتويات ... 699

صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحِكم والأمثَال الجزء الثاني تأليف: القاضي حسين بن محمد المهدي عضو المحكمة العليا للجمهورية اليمنية راجعه الأستاذ العلامة عبد الحميد محمد المهدي

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف سجل هذا الكتاب بوزارة الثقافة بدار الكتاب برقم إيداع (449) لسنة 2009م

الفصل الثلاثون التوكل على الله

الفصل الثلاثون التوكل على الله

التوكل على الله

التوكل على الله التوكل على الله هو تفويض الأمر إلى الله عز وجل, والثقة بحسن النظر فيما امر به, فهو اثر من اثار الايمان وخلق ارشد اليه القرآن, فالذي يؤمن بان الله سبحانه وتعالى بيده تصاريف الحياة, وبيده النفع والضر, يكون قويا سويا في خلقه, حكيما في تصرفه مطيعا لله, ومتبعا لهدي نبيه يعيش مطمئنا فلا يفزعه المستقبل, ولا مايحدث في الحياة من مفاجئات اذ لا محل في نفسه للخوف, والقلق والاضطراب, فهو يستعيض الخوف بسكينة وأطمئنان إلى عدل الله ورحمته, ولهذا فإن الايمان يجب ان يصاحبه التوكل, فمن يؤمن بالله يهد قلبه وفي الذكر الحكيم: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} (¬1) فالمتوكل على الله يعمل ولا يعجز, ويفوض امره إلى الله ويثق بعونه ونصره وتأييده قال الشاعر: لا تجزعن متى اتكلت على الذي ... ما زال مبتدئاً يجود ويفضل ولقد يريح أخو التوكل نفسه ... إن المريح لعمرك المتوكل (¬2) واذا كانت المدنية اليوم قد افلحت بعض الشي في تيسير العيش والترفيه عن الناس فإنها قد فشلت في بث السكينة في النفس, فلا يزال القلق ¬

_ (¬1) - سورة هود الآية (123) . (¬2) - هذان البيتان ليحيى بن زياد الحارثي160 هـ /- 776 م شاعر، من أهل الكوفة، له في السّفاح والمهدي العباسيين مدائح، وهو ابن خال السّفاح. أقام ببغداد مدة ولم يحمد زمانه فيها، فخرج عنها. وفي أمالي المرتضى: (كان يعرف بالزنديق، وكانوا إذا وصفوا إنساناً بالظرف قالوا هو أظرف من الزنديق، يعنون يحيى لأنه كان ظريفاً) ، توفي في أيام المهدي.

والخوف بشتى صوره يصيطر على مختلف مجالات الحياة, فالخوف على المستقبل الاقتصادي والاجتماعي, والخوف من الفشل والخوف من الصحة وكل هذه الامور تترك في النفس الانسانية متاعب نفسية, وليس سوء الصحة الذي يعتري كثيرا من الناس إلا ستارا لمخاوف عميقة القرار, وقد جاءت الشريعة الاسلامية بما هو علاج للخوف والقلق والاضطراب فأرشد الحق سبحانه وتعالى عباده المؤمنين إلى تفويض الامر اليه والتوكل في كل الامور عليه حتى لايثبط الفشل هممهم قال تعالى: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (¬1) . وقال سبحانه {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (¬2) بل قد جاء في القرآن الكريم حصر صفات المؤمنين في الخشية من الله ووجل القلوب عند ذكره, وزيادة الإيمان عند تلاوة اياته والتوكل عليه, والانفاق ممارزقهم الله فقال جل شأنه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (¬3) أتى بصيغة الحصر والقصر لصفات المؤمنين فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} خافت وفزعت لمجرد ذكر الله استعظاماً لشأنه {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ} آيات القرآن {زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} وتصديقاً، وهذه هي الصفة الثانية من صفات المؤمنين، والصفة الثالثة هي رجوع المؤمنين إلى الله واعتمادهم عليه ¬

_ (¬1) - سورة الشورى الآية (36) . (¬2) - سورة المائدة الآية (11) . (¬3) - سورة الانفال الآية (2) .

ولذلك وصفهم بقوله: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} , قال الإمام ابن كثير: أي لا يرجون سواه ولا يقصدون إلا إياه ولا يلوذون إلا بجنابه ولا يطلبون الحوائج إلا منه ولا يرغبون إلا إليه ويعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن, وأنه المتصرف في الملك وحده لا شريك له ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب، ولهذا قال سعيد بن جبير: التوكل على الله جماع الإيمان (¬1) .اما الانفاق فالظاهر أن في قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} يشمل النفقة الواجبة على الأهل والولد وذي القربى، وصدقة التطوع، والزكاة المفروضة، وما ينفق في مصالح الأمة، لأن التعبير بالإنفاق أعم من التعبير بالزكاة، وهذا الوصف للمؤمنين بأنهم مما رزقهم الله ينفقون أموالهم من أقوى أمارات الإيمان، ولهذا فقد جاء الحصر والقصر بعد هذه الصفات الخمس في الآية بالإشارة إليهم أولئك هم المؤمنون حقاً، أي أولئك الموصوفون بتلك الصفات هم دون سواهم ممن لم يتصف بها المؤمنون إيماناً حقاً (¬2) . وجاءت في سورة ابراهيم اخبارا عن رسل الله إلى الامم الماضية: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْوَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (¬3) قال العلامة محمد بن عبد الله الغشم: ألا ولا يحزنك الامتحانات وتقنطك وتوهي توكلاتك وتغلطك, ولا يغرنك الاستدراجات ونعم الدنيا ونحو ذلك. وكن رجلا رجله في الثرى ... وهامة همته في الثريا واكتف بالله تعالى يكفك ويجعل الخيرات في كفك إن شاء الله تعالى, {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (¬4) , وَرُدِّ الخيرة إلى الله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} (¬5) وهو الرؤوف الرحيم الحليم الكريم العلي العظيم. (¬6) التوكل عبادة قلبية التوكل عبادة قلبية قال ابن الجوزي: التوكل اعتماد القلب على الوكيل وحده, وذلك لا يناقض حركة البدن في التعلق بالأسباب ولا ادخار المال, فقد قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} أي قواما لأبدانكم (¬7) , وقال الشيخ محمد رشيد رضا: في تفسيره المنار: فَالتَّوَكُّلُ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ، وَالْعَمَلُ بِالْأَسْبَابِ مَحَلُّهُ الْأَعْضَاءُ وَالْجَوَارِحُ، وَالْإِنْسَانُ مَسُوقٌ ¬

_ (¬1) - ابن كثير ج2 ص287. (¬2) - مؤلفنا خلاصة الكلام في تفسير ايات الاحكام, ج2 ص883. (¬3) - سورة ابراهيم الآية (11) . (¬4) - سورة الطلاق الآية (2-3) . (¬5) - سورة القصص الاية (68) . (¬6) - انظر كتاب روح العلوم في تفسير كلام الله الحي القيوم, للعلامة الزاهد العابد أويس قرنه وكينعي زمانه بدر الدين/ محمد بن عبد الله بن علي الغشم رحمه الله, نسخة مخطوطة, في تاريخ 3جماد الاولى سنة 1316هـ بقلم العلامة/ محمد بن حسين بن علي بن محمد بن عبد الله بن احمد بن عبد الله بن علي الغشم. رحمهم الله جميعا. (¬7) - تلبيس إبليس لمؤلفه/ جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي, ص 248 (المتوفى: 597هـ) الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، لبنان الطبعة: الطبعة الأولى، 1421هـ/ 2001م.

القوة في التوكل على الله

إِلَيْهِ بِمُقْتَضَى فِطْرَةِ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ (¬1) وفي السنة النبوية أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ هُمْ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (¬2) وفي الذكر الحكيم: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا* الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} (¬3) القوة في التوكل على الله في التوكل على الله قوة وعزة وأمن وسكينة وعزيمة وطمأنينة وأخذ بالاسباب واعتماد على الله الملك الوهاب وفي الذكر الحكيم: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (¬4) وقد وعد الله من يتوكل عليه بالمعونة والتأييد والتوفيق والتسديد قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (¬5) وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال حسبنا الله ونعم الوكيل قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ ¬

_ (¬1) - تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) لمؤلفه: العلامة محمد رشيد بن علي رضا (المتوفى: 1354هـ) الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب1990 م جزء 4 ص 170. (¬2) - اخرجه البخاري في صحيحة باب ومن يتوكل على الله فهو حسبه حديث رقم (5991) . (¬3) - سورة الفرقان الاية (58 -59) . (¬4) - سورة آل عمران الاية (159) . (¬5) - سورة الطلاق الاية (3) .

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالُوا {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (¬1) فالتوكل على الله يعني تفويض الامر والاعتماد عليه والثقة به, وعدم الركون التام إلى الاسباب الدنيوية والغفلة عن خالقها ومدبرها الذي يمنح القوة والعون والذي بيده الضر والنفع والمنع والعطاء قال الشاعر: وما دابّةٌ إلاَّ على الله رزقُها ... وخاب الذي من غيره يبتغي الرفدا وكيف يُذِلّ المرء نفساً لِلُقمةٍ ... يحاولها من مِثله يَبذل الجهدَا ولو أخلصُوا حق التوكل صادفوا ... بلا سبب رزقاً من الله ممتدّا ولكن على الآلاتِ والخلقِ عوّلوا ... فجاء لأجل الخلق رزقهم كدَّا وخاتمةُ الأمر الخلاصُ فمن حَظِي ... به منحةً يستوجب الفوز والحمدا (¬2) وفي الحديث النبوي الشريف: ان رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قال: لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا (¬3) وقال الشاعر: تَوَكَّل عَلى اللَّهِ العَظيمُ جَلالُهُ ... وَسَلِّم إِلَيهِ الأَمرَ تَسلَمْ وَتغنَمِ أَلَم تَكُنِ الأَسبابُ مَخلوقَةً لَهُ ... وَهَل خالِقٌ غَيرُ العَليمِ المُعَظَّمِ ¬

_ (¬1) - اخرجه البخاري في صحيحه باب ان الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم حديث رقم (4197) . (¬2) - هذه الابيات لابن شيخان السالمي. (¬3) - اخرجه الترمذي باب في التوكل على الله حديث رقم (2266) .

بِمَنعٍ وَإِعطاءٍ وَبُؤسٍ وَأَنعُمِ (¬1) حَكيم بِما قَد شاءَ يَقضي بِحُكمِهِ وقال اخر: واغنم زمانك راحة وتروحا ... ودع الهموم فإنها محض الضرر وادخل ميادين التوكل والرضا ... واشكر على ما ساء من حال وشر واقتد بتاج الأصفيا علم الهدى ... زين الوجود محمد خير البشر (¬2) وفي الحديث النبوي: (من سره ان يكون اقوى الناس فليتوكل على الله) (¬3) التوكل على الله واتخاذ الأسباب التوكل على الله من اعظم الاسباب التي يحصل بها النجاح والفلاح وعدم اهمال الاسباب التي اوجدها الله لعباده وجعلها سبيلا للوصول إلى مراده, وقد قيل لبعض الحكماء: ماالفرق بين اليقين والتوكل؟ قال: اما اليقين فهو ان تصدق الله بجميع اسباب الاخرة, والتوكل ان تصدق الله بجميع اسباب الدنيا, وقال الامام ابن القيم رحمه الله: فإن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المراد ودفع المكروه, بل هو أقوى الأسباب على الاطلاق. ويقول: التوكل القيام بالأسباب المأمور بها, فمن عطلهالم يصح توكله, كما أن القيام بالأسباب المفضية الى حصول الخير يحقق رجاءه, فمن ¬

_ (¬1) - هذه الابيات لعبد اللطيف بن علي فتح الله. أديب من أهل بيروت، تولى القضاء والإفتاء? - 1260 هـ / ? - 1844 م له نظم جيد في (ديوان -ط) و (مقامات -خ) ، و (مجموعة شعرية -خ) بخطه، ألقاها في صباه سنة 1200هـ‍في خزانة الرباط 1745 كتاني. (¬2) - هذه الابيات لعبد الله بن علوي الحداد وانظر ديوانه الدر المنظوم. (¬3) - كتاب التوكل على الله تاليف ابي بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان القرشي المعروف بابن ابي الدنيا ص 50 الناشر مؤسسة الكتب الثقافية بيروت لبنان الطبعة الاولى 1413هـ 1993م.

لم يقم بها كان رجاؤه تمنيّا, كما أن من عطّلها يكون توكله عجزا وعجزه توكلا (¬1) .وذلك حق, فالأدب الذي ارشدت الشريعة الاسلامية اليه هو اتخاذ الاسباب بحسب ما يعلمه الانسان من سنن الله تعالى في نظام الاسباب وارتباطها بالمسببات معتقدا ان الاسباب مايعقل منها وما لايعقل لم تكن اسبابا الا بتسخير الله تعالى, وان مايناله باستعمالها فهو من فضل الله الذي سخرها وجعلها اسبابا وعلمه ذلك, فتبارك الذي علم بالقلم علم الانسان مالم يعلم, قال الشيخ محمد رضى: وَأَمَّا تَرْكُ الْأَسْبَابِ وَتَنَكُّبُ سُنَنُ اللهِ تَعَالَى فِي الْخَلْقِ وَتَسْمِيَةُ ذَلِكَ تَوَكُّلًا فَهُوَ جَهْلٌ بِاللهِ وَجَهْلٌ بِدِينِهِ وَجَهْلٌ بِسُنَنِهِ الَّتِي أَخْبَرْنَا بِأَنَّهَا لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ (¬2) ويرحم الله الامام الشوكاني: حيث يقول: لَقَدْ عَجِبْتُ ومَا في الدَّهْرِ منْ عَجَبِ ... فَشَأْنُهُ غَيْرُ مُحْتاج إِلى الْعَجَبِ لَكِنْ إذا خَفِيَتْ أسْبابُ حادِثَةٍ ... كانَ التَّعَجُّبُ مَحْمولاً على السَّبَبِ (¬3) وفي الامثال السائرة: احفظ مافي الوعاء بشد الوكاء, وقديما قيل لاتشرب السم اتكالا على الترياق, ومن تذكر بُعد السفر استعد, وفي امثال العرب: من الكَيس ختم الكِيس (¬4) وذلك لاينافي التوكل, وان من الحزم الاخذ بالاسباب. ¬

_ (¬1) - القوائد لابن القيم ج 1 ص 88. (¬2) - المنار ج9 ص (493-494) . (¬3) - انظر ديوان الامام الشوكاني. (¬4) - معجم كنوز الامثال ص 112, مصدر سابق.

السنة النبوية ترشد إلى الأخذ بالأسباب

قال الشاعر: لاتسع للامر حتى تستعد له ... سعي بلا عدة قوس بلا وتر لم ينج نوح ولم يغرق مكذبه ... حتى بنى الفلك بالالواح والدسر السنة النبوية ترشد إلى الأخذ بالأسباب الاعتماد على الله لايتعارض مع اتخاذ الأسباب واتخاذ الاحتياطات اللازمة فقد ارشد النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه إلى ذلك, ففي سنن الترمذي عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ قَالَ اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ (¬1) , فالتوكل لايكون الا مع اتخاذ الاسباب الظاهرة, ولنا في رسول الله قدوة حسنة اذ اعد لهجرته من مكة إلى المدينة اعدادا محكما واخذ بكل سبب ممكن, ورغم ذلك فقد استطاع بعض فرسان قريش ان يصلوا إلى الغار ويقفوا على بابه حتى اصاب الصديق رضي الله عنه جزع او فزع ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم طمئنه وهو عند ذلك, وقد فوض الامر الى الله بعد اخذه بالأسباب وتوكله على الله القوي القادر على كل شيء, يقول لصاحبه قولا يذهب الحزن, ويبرؤ من الفزع والألم ما حكى القرآن الحكيم من الاحكام والحكم: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬2) . ¬

_ (¬1) - الترمذي حديث رقم (2441) . (¬2) - سورة التوبة الاية (40) .

قال الشاعر: تَوَجَّهْ إِلى مَولاكَ وَاِرضَ بِفَصلِهِ ... تَوَكَّلْ عَلى الرَّحمَنِ في الأَمرِ كُلِّهِ فَما خابَ حقّاً مَن عَليهِ تَوكَّلا أَلا كُلُّ مَقدورٍ يَكونُ بِعِلمِهِ ... فَكُن رَجُلاً لِلحقِّ مِن أَهلِ فَهمِهِ وَسَلِّم إِلَيهِ الأَمرَ تَحظَ بِحُكمِهِ ... وَكُن واثِقاً بِاللَّهِ وَاِصبِرْ لِحُكمِهِ (¬1) وقال اخر: تَوَكَّل عَلى الرَحمَنِ في كُلِّ حاجَةٍ ... أَرَدتَ فَإِنَّ اللَهَ يَقضي وَيَقدِرُ مَتى ما يُرِد ذو العَرشِ أَمراً بِعَبدِهِ ... يُصِبهُ وَما لِلعَبدِ ما يَتَخَيَّرُ وَقَد يَهلِكُ الإِنسانُ مِن بابِ أَمنِهِ ... وَيَنجو لَعَمرُ اللَهِ مِن حَيثُ يَحذَرُ (¬2) التوكل على الله يذهب الهم والحزن التوكل على الله زاد روحي يجعل المؤمن يتغلب على الخوف والقلق, وهو الذي يعطي المؤمن بسمة امام احلك الساعات التي تمر به, ويهبه سكينة النفس التي حرم منها كثير من سكان هذه الارض, والتوكل على الله يقوي الهمة ولا يضعفها, ويشجع على العمل ولايؤدي الى الكسل ولكن لابد ان يسبقه التشاور والاخذ بالاسباب كما ارشد إلى ذلك العزيز الوهاب: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِفَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (¬3) وقد روى ابن ابي الدنيا عن سعيد بن جبير, قال: (التوكل على الله جماع الإيمان) (¬4) ومتى اعتمد القلب على الله ولم يستسلم للاوهام وتوكل على الله ووثق به اندفعت عنه الهموم والغموم وكثير من الاسقام القلبية والبدنية, وحصل للقلب من القوة والانشراح والسرور مالا يمكن التعبير عنه, فالمتوكل على الله قوي القلب لاتزعجه الحوادث لعلمه أن ذلك من ضعف النفس ومن الخور والخوف, فهو يعلم ان الله سبحانه وتعالى قد تكفل من توكل عليه بالنصر والتاييد والكفاية, فهو يثق بالله ويطمئن لوعده فيزول همه وقلقه ويتبدل عسره يسرا وترحه فرحا قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (¬5) وقد ورد في السنة أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَضَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ لَمَّا أَدْبَرَ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (¬6) وقال الشوكاني وفي الحديث دليل على أنه لا يقال هذا الدعاء إلا إذا غلبه أمر وعجز عن دفعه, قوله نعم الوكيل أي نعم الكفيل بأمور عباده العالم بها فهو المستقل بالأمور, وكلها موكولة إليه (¬7) , وروى الحاكم من حديث ابي هريرة ان ¬

_ (¬1) - هذه الابيات للمفتي فتح الله عبد اللطيف سبق ترجمته. (¬2) - هذه الابيات لابي العتاهية. (¬3) - سورة آل عمران الاية (159) . (¬4) - كتاب التوكل على الله تاليف ابي بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان القرشي المعروف بأبن ابي الدنيا ص 48 الناشر مؤسسة الكتب الثقافية بيروت لبنان الطبعة الاولى 1413هـ 1993م. (¬5) - سورة الطلاق الاية (3) . (¬6) - اخرجه ابي داود في سننه باب الرجل يحلف على حقه حديث رقم (3143) . (¬7) - تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين للشوكاني الناشر / دار القلم - بيروت - لبنان - 1984م ص 296.

القيام بالاسباب يحقق التوكل

النبي صلى الله عليه واله وسلم قال: (ما كربني أمر إلا تمثل لي جبرئيل عليه السلام فقال: يا محمد قل توكلت على الحي الذي لا يموت والحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا) (¬1) قال الشاعر: واغنم زمانك راحة وتروحا ... ودع الهموم فإنها محض الضرر وادخل ميادين التوكل والرضا ... واشكرعلى ما ساء من حال وشر واقتد بتاج الأصفيا علم الهدى ... زين الوجود محمد خير البشر (¬2) القيام بالاسباب يحقق التوكل الذي يحقق التوكل على الله هو القيام بالاسباب المامور بها؛ فمن عطلها لم يصح توكله؛ فلم يكن التوكل داعية للبطالة, او الاقلال من العمل البتة. بل كان له الاثر العظيم في اقدام عظماء الرجال على جلائل الاعمال التي يسبق إلى ظنونهم ان استطاعتهم وما لديهم من الاسباب الحاضرة يقصران عن ادراكها, ذلك ان التوكل من اقوى الاسباب في حصول المراد ودفع المكروه, بل هو اقوى الاسباب على الاطلاق, فاعتماد القلب على قدرة الله وكرمه ولطفه يستأصل جراثيم الياس ومنابت الكسل, ويشد ظهر الامل ¬

_ (¬1) - المستدرك على الصحيحين للحاكم كتاب باب الدعاء والتكبير حديث رقم (1876) وقال عنه الحاكم حديث صحيح الاسناد. (¬2) -هذه الابيات في ديوان الحداد: عبد الله بن علوي بن محمد بن أحمد المهاجر بن عيسى الحسيني (1044-1132هـ/1634-1720م) , الناشر: مؤسسة عبد الحفيظ البساط بيروت, الطبعة الثانبة 1421هـ.

الذي يلج به الساعي اغوار البحار العميقة, ويقارع به السباع الضارية في فلواتها (¬1) , هذا هو التوكل في الحقيقة, فاذا فسر بانه قبض اليد عن العمل وطررح الاسباب جملة فذلك تفسير لايقره الشرع الذي يقول {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (¬2) ويقول: {فامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (¬3) ويقول: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬4) ومااقترن العزم الصحيح بالتوكل على من بيده ملكوت كل شئ الا كانت العاقبة رشدا ونجاحا, قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (¬5) وما جمع قوم بين الاخذ بالاسباب, وقوة التوكل على الله الا احرزوا الكفاية لأن يعيشوا سعداء وما بذل احد جهده وسعى في الامور النافعة سعيه واستعان بالله عليها, واتاها من ابوابها ومسالكها الا وأدرك مقصوده, فإن لم يدركه كله ادرك بعضه, وان لم يدرك منه شئا لم يلم نفسه, ولم يذهب عمله سدى خصوصا اذا ثابر ولم يتضجر (¬6) فان الله يثيبه على ذلك. ولعظم شان التوكل اكثر الله من ذكره في القران العظيم ¬

_ (¬1) - الهمة العالية معوقاتها ومقوماتها تأليف العلامة محمد بن ابراهيم الحمد, ص208-209 ,الطبعة السابعة 1426هـ2006م الناشر دار ابن خزيمة الرياض. (¬2) - سورة الانفال الاية (60) . (¬3) - سورة الملك الاية (15) . (¬4) - سورة الجمعة الاية (10) . (¬5) - سورة آل عمران الاية (159) . (¬6) - الهمم العالية ص 210.

قصة وردت في الهدي النبوي

وبين حسن العاقبة للمتوكلين قال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (¬1) وقال جل شانه: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (¬2) وقال سبحانه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} (¬3) قصة وردت في الهدي النبوي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ فَجَعَلَ النَّبِيُّ وَالنَّبِيَّانِ يَمُرُّونَ مَعَهُمْ الرَّهْطُ وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ حَتَّى رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ قُلْتُ مَا هَذَا أُمَّتِي هَذِهِ؟ قِيلَ بَلْ هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ, قِيلَ انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ فَإِذَا سَوَادٌ يَمْلَأُ الْأُفُقَ, ثُمَّ قِيلَ لِي انْظُرْ هَا هُنَا وَهَا هُنَا فِي آفَاقِ السَّمَاءِ فَإِذَا سَوَادٌ قَدْ مَلَأَ الْأُفُقَ, قِيلَ هَذِهِ أُمَّتُكَ وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ هَؤُلَاءِ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ, ثُمَّ دَخَلَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ, فَأَفَاضَ الْقَوْمُ وَقَالُوا: نَحْنُ الَّذِينَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاتَّبَعْنَا رَسُولَهُ فَنَحْنُ هُمْ أَوْ أَوْلَادُنَا الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْإِسْلَامِ فَإِنَّا وُلِدْنَا فِي ¬

_ (¬1) - سورة آل عمران الاية (160) . (¬2) - سورة آل عمران الاية (129) . (¬3) - سورة آل الفرقان الاية (58) .

الْجَاهِلِيَّةِ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَخَرَجَ فَقَالَ: هُمْ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَلَا يَكْتَوُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (¬1) . الوكيل, الكفيل في اسماء الله الحسنى الوكيل, الكفيل, جاء ذكرهما في كلام الله العلي الكبير فجاء ذكر اسم الله الوكيل في القرآن الكريم اربعة عشر مرة منها: قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (¬2) وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} (¬3) وقوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (¬4) وقوله تعالى: {فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} (¬5) وقوله تعالى: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا} (¬6) ومعنا الوكيل: القيم الكفيل بأرزاق العباد يدبر امورهم ويتولى شؤنهم ويسخِّر مايحتاجون اليه فهو الوكيل او هو الذي اوكل اليه كل امر. ¬

_ (¬1) -اخرجه البخاري في صحيحه باب يدخل الجنة سبعون الفا بغير حساب حديث رقم (6059) . (¬2) - سورة الزمر الاية (62) . (¬3) - سورة النساء الاية (81) . (¬4) - سورة هود الاية (12) . (¬5) - سورة يوسف الاية (66) . (¬6) - سورة الاسراء الاية (2) .

قَالَ الْحَلِيمِيُّ: الْوَكِيلُ هُوَ الْمُوَكَّلُ وَالْمُفَوَّضُ إِلَيْهِ، عِلْمًا بِأَنَّ الْخَلْقَ وَالأَمْرَ لَهُ سبحانه لا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْ دُونِهِ شَيْئًا (¬1) . وقال أبو سليمان: ويقال معناه أنه الكفيل بأرزاق العباد والقائم عليهم بمصالحهم، وحقيقته أنه يستقل بالأمر الموكول إليه، ومن هذا قول المسلمين حسبنا الله ونعم الوكيل، أي نعم الكفيل بأمورنا والقائم بها (¬2) . واما اسم الله الكفيل فقد ورد ذكره في القرآن الكريم مرة واحدة وذلك في قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (¬3) . وورد في السنة في قصة الرجل من بني إسرائيل، الذي أسلفَ آخَرَ ألفَ دينار، وفيه أنه قال: (( ... اللهم إنك تعلم أني كنت تبلغت فلاناً ألف دينار، فسألني كفيلاً، فقلت: كفى بالله كفيلاً، فرضي بك)) (¬4) . ومعنى الكفيل: المتكفل بامور الخلق وارزاقهم والمتكفل بكل شؤنهم في الدنيا والاخرة, ويأتي بمعنى الشهيد والوكيل والرقيب, وقد ذكر بعض الباحثين ان الوكيل هو: الحفيظ, والكفيل, والمقصد, والكافي (¬5) . ¬

_ (¬1) - الاسماء والصفات للبيهقي. (¬2) - الاسماء والصفات للبيهقي, والجامع لأسماء الله الحسنى ص309. (¬3) - سورة النحل الاية (91) . (¬4) - اخرجه البخاري في صحيحه باب الكفالة في القرض والديون بالأبدان. (¬5) - ذكر ذلك حامد احمد الطاهر في الجامع لاسماء الله الحسنى ص309 مصدر سابق.

ثمرة التعرف على اسمه سبحانه وتعالى الوكيل الكفيل

اما الدكتور محمد راتب النابلسي: فهو يقول: الوكيل هو اسم من اسماء الله تبارك وتعالى, هذا الاسم بالتعريف الدقيق هو القيم الكفيل بارزاق العباد. ومن هذا العرض يتبين ان الوكيل اسم من اسماء الله تبارك وتعالى الحسنى, وان من معانيه ان الحق سبحانه وتعالى القيم الكفيل بارزاق العباد يدبر امورهم ويتولى شؤنهم وانه سبحانه وتعالى المتفرد بحفظ الخلق وكفايتهم القادر على تسخير كل مايحتاجون اليه واليه يرجع الأمر كله. ثمرة التعرف على اسمه سبحانه وتعالى الوكيل الكفيل ان من ثمرة التعرف على اسمه سبحانه وتعالى الوكيل الكفيل الايمان به وتفويض الامور إلى الله تعالى بما يحصل للمؤمن به حقيقة التوحيد, فاذا توجه العبد إلى الله متوكلا عليه تولاه بحسن رعايته, وختم له بجميل ولايته, فالمتوكل على الله يكون قويا في ايمانه, كريما في اخلاقه, محبا لخالقه, محبا لاخوانه, يعلم ان الله بيده حياته ورزقه, وبيده من فوقه ومن تحته, وبيده اقرب الناس اليه وابعد الناس عنه, وبيده الضر والنفع فهو على كل شي وكيل قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (¬1) فاذا اردت ان تكون اقوى الناس فتوكل على الله, واذا ¬

_ (¬1) - سورة الانعام الآية (102) .

دعاء الله باسمه الوكيل الكفيل

ارت ان تكون اكرم الناس فاتق الله, وما توكل على الله احد وخيب ظنه, ولا توكل على الله احد الا وكفاه واغناه, فتدبر اخي قول الحق جل وعلى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (¬1) , وفي مدارج السالكين: التوكل نصف الدين والنصف الثاني الإنابة فإن الدين استعانة وعبادة, فالتوكل هو الاستعانة, والإنابة هي العبادة (¬2) , وفي الحديث النبوي مَنْ قَالَ يَعْنِي إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ يُقَالُ لَهُ كُفِيتَ وَوُقِيتَ وَتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ) (¬3) دعاء الله باسمه الوكيل الكفيل ياالله ياوكيل ياكفيل يا علي يا عظيم يا مجيب الدعاء نسالك اللهم باسمائك الحسنى وصفاتك العلا يا الله يا وكيل يا من هو على كل شيئ قدير ان تكفني في كل اموري وان تنصرني وتحفظني وترزقني وتكفلني وتوفقني فاني توكلت عليك يا الله توكُّلَ مفوض ورغبت اليك رغبة مُلح ومتعرض فأنلني والمؤمنين من معروفك في الدارين ما تصلح لي وللمؤمنين به امور الدنيا والأخرة وتبلغنا به الدرجات العلا من الجنة وان تعطيني من خيرك وفضلك ¬

_ (¬1) - سورة آل عمران الآية (173) . (¬2) - مدارج السالكين الكتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين, لمؤلفه الامام العلامة ابن قيم الجوزية: محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي, ج 2 ص 113 ,الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت الطبعة الثانية، 1393 - 1973 تحقيق: محمد حامد الفقي. (¬3) - اخرجه الترمذي باب ماجاء ما يقول اذا خرج من بيته حديث رقم (3348) .

الذي لا راد له ورحمتك التي لاممسك لها انك على كل شي قدير: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬1) ومن دعائه صلى الله عليه وآله وسلم اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ الْحَقُّ وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ وَقَوْلُكَ حَقٌّ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ حَقٌّ اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَوْ لَا إِلَهَ غَيْرُكَ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ (¬2) ¬

_ (¬1) - سورة الممتحنة الآية (4-5) . (¬2) - اخرجه البخاري في صحيحه باب التهجد بالليل حديث رقم (1053) .

الفصل الواحد والثلاثون الشورى

الفصل الواحد والثلاثون الشورى الشورى بالشورى تبنى المجتمعات الفاضلة والدول القوية، ويحصل النصر وتستمال القلوب، ويتعاون أهل الشورى من أجل بناء الأوطان وعمارة الأرض وإرضاء الرب, قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (¬1) وقال تعالى حكاية عن ملكة سبا: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} (¬2) والشورى هي من أهم خصائص الأمة الإسلامية والشرائع الربانية، فهي من صفات المؤمنين الموحدين الذين استجابوا لله رب العالمين كما ورد ذلك في الذكر الحكيم، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَأهم يُنْفِقُونَ} (¬3) ولأهمية الشورى جاء ذكرها في هذه الآية بين الصلاة والزكاة، فقد وصف الله المؤمنين بأنهم الذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأدوا الزكاة وكان منهج الشورى هو منهجهم. وقد قال بعض الباحثين إن سياق النص قد نبه عليه بعض المؤصلين والبلاغيين من حيث أن لفظ وجملة (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) جاءت متوسطة بين الصلاة والزكاة لتدل بتنبيه عبارة النص وإشارته على ضرورة مداومتها بما يشبه ¬

_ (¬1) - سورة آل عمران الاية (159) . (¬2) - سورة النمل الاية (32) . (¬3) - سورة الشورى الآية (38) .

الصلاة والزكاة, وعموم خطاب الآية الكريمة هو من الوجوب الشمولي في الأمة. فمفهوم الأمر جاء بطبيعة الخبر والمدح وهو أعظم من الأمر الصريح عند البيانيين من علماء اللغة الذين قرروا أن طرق الأمر الحتمي في اللغة تصل إلى ثمانية وعشرين وجهاً (¬1) . وجاء في السنة النبوية ان النبي صلى الله عليه واله وسلم قال (الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ) (¬2) وفي لفظ لابن ماجه (إِذَا اسْتَشَارَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُشِرْ عَلَيْهِ) (¬3) وقال حكيم: المشورة موكل بها التوفيق لصواب الرأي, وفي امثال العرب اول الحزم المشورة, قال حافظ ابراهيم: يا رافِعاً رايَةَ الشورى وَحارِسَها ... جَزاكَ رَبُّكَ خَيراً عَن مُحِبّيها رَأيُ الجَماعَةِ لا تَشقى البِلادُ بِهِ ... رَغمَ الخِلافِ وَرَأيُ الفَردِ يُشقيها وقال اخر: شاور أخا الحزم إن تُدهى بمشكلة ... فالمستبدون لا يخلون من نَدَمِ ليس التفرُّد بالآراء ممتدحاً ... ولو تفرَّد مبدي الرأَي بالحِكمِ فالحزم بالرأي أن تُبدى مشاورةً ... إلى الثقاة أولي الإرشاد والهممِ إن يشكل الأمر شاور من بهِ ثقةٌ ... ديناً ورشداً فتأَمن زلة القَدَمِ واحذر مشاورة الملَّاق إن بها ... افشاءَ سرٍّ وَما يلقيك بالعَدَمِ كَما الوجوب على المرء المشير بأن ... يبدي اتباعاً لأمر الدين والذممِ ¬

_ (¬1) - انظر مولفنا الشورى في الشريعة الاسلامة دراسة مقارنة بالديمقراطية والنظم القانونية ص (9-10) , الناشر مكتبة الارشاد صنعاء الطبعة الاولى 1428هـ 2007. (¬2) - اخرجه ابو داود في سننه باب في المشورة حديث رقم (4463) وابن ماجه باب المستشار مؤتمن حديث رقم (3735) والترمذي في سننه باب ان المستشار مؤتمن حديث رقم (2747) . (¬3) - اخرجه ابن ماجه حديث رقم (3737) .

الشورى بركة

إني نصوحٌ لأرباب المشاكل عن ... إيثار خيرِ ذوي الحاجات في الأممِ (¬1) ولبعض الشعراء: وإن باب أمر عليك التوى ... فشاور لبيباً ولا تعصه (¬2) الشورى بركة قال القرطبي: الشورى بركة، وروى سهل بن سعد الساعدي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ما شقي قط عبد بمشورة، وما سعد باستغناء رأي) (¬3) وفي الحديث (ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار) (¬4) . قال العجلوني: رواه الطبراني في الصغير، والقضاعي عن أنس، وفي سنده ضعيف، وما أحسن ما قيل: شاور سواك إذا نابتك نائبة ... يوماً وإن كنت من أهل المشورات فالعين تلقى كفاحاً من نآى ودنى ... ولا ترى نفسها إلا بمرآة ¬

_ (¬1) - هذه الابيات لحنا الأسعد حنا بن أسعد بن جريس أبي صعب اللبناني المعروف بحنا بك الأسعد. 1235 - 1315 هـ / 1820 - 1897 م متأدب له نظم، من مشايخ الموارنة في نواحي البترون تعلم العربية والسريانية وسافر مع الأمير بشير الشهابي (سنة 1840) إلى مالطة وإسطنبول فقرأ بعض العلوم الإسلامية وعاد إلى لبنان (1850) فأنشأ في بيت الدين مطبعة حجرية. وبعد فتنة 1860 أقامه المتصرف داود باشا رئيساً للقلم العربي، فاستمر إلى أن توفي. له (ديوان -ط) بالعربية والتركية. (¬2) -- هذا البيت مما اشتهر في ذلك وقبله: إذا كنت في حاجة مرسلاً ... فأرسل حكيماً ولا توصه وإن باب.... ونص الحديث إلى أهله ... فإن الوثيقة في نصه إذا المرء أضمر خوف الإله ... تبين ذلك في شخصه (¬3) - القرطبي 4 / 252 , وقد ورد الحديث في مسند الشهاب تأليف العلامة المحدث محمد بن سلامة بن جعفر, أبو عبد الله القضاعي المتوفى سنة 454هـ ج2ص6 حديث (773) الناشر مؤسسة الرسالة بيروت الطبعة الثانية 1407هـ1986م. (¬4) - المعجم الصغير تأليف العلامة المحدث سليمان بن احمد بن أيوب, أبو القاسم الطبري, ج2ص175 حديث (980) , الناشر المكتب الاسلامي بيروت الطبعة الأولى 1405هـ1985م. ومسند الشهاب للقضاعي ج2ص7 حديث (774) .

وقال النجم: روى ابن أبي الدنيا في العقل عن زائدة. قال: إنما نعيش بعقل غيرنا - يعني المشاورة، ولبعضهم: الناس ثلاثة: فواحد كالغذاء لا يستغنى عنه، وواحد كالدواء يحتاج إليه في بعض الأوقات، وواحد كالداء لا يحتاج إليه أبداً. وللخطيب في تلخيص المتشابه - عن قتادة - قال: الرجال ثلاثة: رجل ونصف رجل ولا شيء، فأما الذي هو رجل: فرجل له عقل ورأي يعمل به وهو يشاور. وأما الذي هو نصف رجل: فرجل له عقل ورأي يعمل به وهو لا يشاور. وأما الذي هو لا شيء: فرجل له عقل وليس له رأي يعمل به وهو لا يشاور. قال النجم: ليس من عاش بعقله ... مثل من عاش بفضله إنما الفضل ما انضم ... حجى الناس بعقله وكذا الجاهل من لم ... يرفي الناس كمثله نفسه يبصرها كا ... ملة من فرط جهله (¬1) وصحيح ما ذكره النجم - فإنك إن شاورت مجرباً للأمور، فإنه يعطيك من رأيه ما يقع عليه غالياً وأنت تأخذه مجاناً، فيكون من الحمق ترك المشاورة. أما الدكتور محمد عبد القادر أبو فارس - فيقول عن الشورى أنها مدرسة تربوية للأمة تظهر من خلالها شخصيتها وتحقق ذاتها وهي سبب من ¬

_ (¬1) - كشف الخفاء ومزيل الألباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، للعجلوني: وهو المفسر المحدث الشيخ إسماعيل بن محمد العجلوني الجراحي - 2/186 الطبعة الثالثة 1352هـ - دار إحياء التراث العربي.

أسباب النصر على أعدائها, حقق المسلمون بها انتصاراتهم على أعدائهم وأضحوا سادة الأمم بعد أن كانوا رعاة الشاء والغنم. (¬1) قلت: وليس ذلك فحسب وإنما حققوا بها العدالة وحصل لهم بها المودة والألفة وقد أحسن بشار بن برد في قوله: إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... برأي لبيب أو نصيحة حازم ولا تحسب الشورى عليك غضاضة ... فريش الخوافي تابع للقوادم (¬2) وقال أخر: خليلَيَّ ليس الرأي في صدر واحد ... أشيرا علي اليوم ما تريانِ (¬3) وفي الأثر: ما سعد أحد برأيه ولا شقي عن مشورة غيره. وإذا كانت الشورى من الأهمية بذاك المكان، فإنها ليست قصراً على شؤون الحكم والسياسة، وإنما تشمل كل ما لم يرد فيه نص قطعي من الأمور العامة والخاصة وكل ما فيه صلاح للأمة والأسرة. وكل ما فيه رعاية مصلحة أو دفع مفسدة، فقد أرشد القرآن الكريم إلى التشاور في ذلك حتى في فطام الرضيع وفصله عن ثدي أمه، قال تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ ¬

_ (¬1) - د. محمد عبد القادر أبو فارس: النظام السياسي في الإسلام ص76 دار الفرقان- عمان - الأردن 1986م. (¬2) - ولهذين البيتين رواية أخرى وردت في الموسوعة الشعرية وهي: إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... برأي حكيمٍ أو نصيحة حازم ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... مكان الخوافي قوة للقوادم. وهناك رواية ثالثة وردت في ديوان بشار المطبوع في لبنان سنة 1413هـ , جاء فيها: إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... برأي لبيب أو مشورة حازم ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فإن الخوافي قوة للقوادم. والجميع من حيث المعنى والوزن والروية صحيح. (¬3) - ورد هذا البيت مستشهداً به في الامالي لأبي علي اسماعييل بن القاسم القالي, ج1ص44 , وفي الموسوعة الشعرية. للكاتب والاديب والواعظ والخطيب بدر بن عبد الله بن عبد الكريم الناصر ص145 , الطبعة الأولى 1426هـ2006م, دار العاصمة بالمملكة العربية السعودية الرياض ص9.

الشورى لغة واصطلاحا

أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) (¬1) . الشورى لغة واصطلاحا الشورى هي في الاصل: الاستخراج أو اختبار الشيئ لمعرفة حاله, وقيل هي استخراج اراء في المساله بغية الاحاطة بجوانبها لاصابة الخير, وتجنب الزلل. وهي اسم مصدر اشتور بمعنى التشاور, أي اشار عليه بمعنى امره ونصحه, ودله على الصواب, وشاوَرَهُ في الامر طلب منه المشورة، قال الراغب: التشاور والمشاورة والمشورة: استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض من قولهم: شرت العسل إذا اتخذته من موضعه واستخرجته منه، وشرت العسل وأشرته: أخرجته (¬2) , الشورى: اصطلاحاً طلب الرأي من أهله، وإجالة النظر فيه، وصولاً إلى الرأي الموافق للصواب (¬3) . أما الشيخ أحمد محيي الدين العجوز - فعرفها بقوله: ¬

_ (¬1) - سورة البقرة أية (233) . (¬2) - المفردات في غريب القرآن 273 للراغب: أبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني (502هـ) تحقيق وضبط: محمد خليل عيتاني - الطبعة الثالثة 1422هـ - 2001م - دار المعرفة. بيروت - لبنان. (¬3) - انظر مولفنا الشورى في الشريعة الاسلامة دراسة مقارنة بالديمقراطية والنظم القانونية ص (9-10) , الناشر مكتبة الارشاد صنعاء الطبعة الاولى 1428هـ 2007.

الفرق بين الشورى والمشورة

الشورى: هي تبادل الآراء في أمر من الأمور لمعرفة أصوبها وأصلحها لأجل اعتماده والعمل به. (¬1) الفرق بين الشورى والمشورة الشورى تكون عامة في كل رأي والمشورة تكون خاصة في الرأي الملزم، وهناك فرق بين الشورى والمشورة عند بعض العلماء، وفي ذلك يقول الدكتور محمود الخالدي: إذا ما نظرنا بدقة في النصوص التفصيلية الواردة في الشورى نجد أن مدلول كلمة الشورى يختلف عن مدلول كلمة المشورة, إذ تعني الشورى أخذ الرأي مطلقاً، ما كان ملزماً لرئيس الدولة وما لم يكن ملزماً, سواءً الذي يرجح فيه قوة الدليل كالأمور التشريعية وما يرجح فيه جانب الصواب كالأمور الفنية والفكرية فجاء التعبير فيها عاماً في كل الأمور. أما المشورة فإنها وردت في النصوص على أنها أخذ الرأي الملزم لرئيس الدولة فقط، والدليل على أن المشورة أخص من الشورى وأنها أخذ الرأي الملزم فقط عدة أمور: أولاً: وردت كلمة المشورة في الحديث للدلالة على أخذ الرأي الملزم فقط وذلك في قوله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: (وأيم الله لو أنكما تتفقان لي على أمر واحد ما عصيتكما في ¬

_ (¬1) - الشيخ أحمد محيي الدين العجوز: مناهج الشريعة الإسلامية 2/128 مكتبة المعارف - بيروت 1401هـ 1981م.

مشورة أبداً) ، وفي لفظ: (لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما) (¬1) فقد اقترنت كلمة المشورة بصفة الإلزام, والصيغة تفيد ذلك، وهذا واضح في قوله صلى الله عليه وآله وسلم (ما خالفتكما) (ما عصيتكما) ، ومن مناسبة الحديث يتضح أن المشورة لا تكون إلا في أخذ الرأي على سبيل الإلزام لأنه رأي يرشد إلى عمل من الأعمال من أجل القيام به، وما كان كذلك كان ملزماً لأن الترجيح إنما يكون لرأي الأغلبية فتكون المشورة أخص من الشورى لأنها في الرأي الملزم فقط. ثانياً: إن كلمة المشورة الواردة في الحديث وإن كانت اسم جنس ولكنها لا تدل على العموم لأن اسم الجنس حتى يدل على العموم لا بد أن يقترن بأل أو يضاف، فإذا لم يقترن بأل ولم يضف فلا يدل على العموم، وهي وإن كانت نكرة ولكنها لا تدل على العموم لأن النكرة لا تدل على العموم إلا إذا اقترنت بنفي فالنكرة في سياق النفي تعم, أما في الإثبات فليست من ألفاظ العموم، فلا يكون الدليل عاماً في كل شورى فيكون الحديث نصاً في موضوع من موضوعات الشورى العامة، وهو الرأي الملزم ويرجح فيه جانب الأكثرية فقط، وكذلك ما قاله الخليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد إتمام بيعة الانعقاد للصديق أبي بكر رضي الله عنه: فلا يغرن امرأ أن يقول أن بيعة أبي بكر رضي الله عنه كانت فلتة فتمت، وأنها وإن كانت كذلك إلا أن الله قد وقى شرها وليس فيكم من ¬

_ (¬1) - مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني , مسند الشاميين , رقم الحديث (17990و17309) - طبعة بيت الأفكار الدولية 2004م.

الفرق بين الشورى العامة والديمقراطية

تنقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر فمن بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فإنه لا بيعة له هو، ولا الذي بايعه (¬1) . الفرق بين الشورى العامة والديمقراطية الشورى في النظام الإسلامي صورة من صور المشاركة في الحكم تستمد جذورها من أصول الدين وجذوره، وهي من أهم المبادئ الشرعية التي يقوم عليها النظام السياسي في الإسلام، بل إن بعض الباحثين يرى أن الشورى هي النظام السياسي ذاتة، وليس واحداً من مبادئه، أو قاعدة من قواعده، نظراً لما يترتب على الشورى في المنظور الإسلامي من بيان العلاقة بين الحاكم وأهل الشورى، والتزام الدولة بالقواعد المشروعة (¬2) . والشورى قاعدة أساسية في النظام الإسلامي، وأصل من أصول الشريعة الإسلامية ومن عزائم الأحكام فيها، وهي بهذا المعنى كما يقول الدكتور فؤاد محمد النادي لا تقتصر على كونها من القواعد الأساسية للنظام السياسي الإسلامي فحسب، وإنما تمثل الإطار العام والنطاق الذي يجب أن تعمل في حدوده كافة السلطات الحاكمة في الدولة الإسلامية التشريعية والتنفيذية والقضائية، وهي بذلك تحول دون الاستبداد بالرأي أو الانفراد ¬

_ (¬1) - السيرة النبوية لابن هشام - حققها وضبطها ووضع فهارسها مصطفى السقا وإبراهيم الأنباري وعبد الحفيظ شلبي - الناشر دار إحياء التراث- بيروت - ج4 - ص 308. وانظر ايضا نظام الشورى في الإسلام - تأليف الدكتور عمر الخالدي - مكتبة الرسالة الحديثة - عمان الأردن - الطبعة الأولى سنة 1406هـ (¬2) -الشورى في الإسلام - رؤية نيابية- تجربة المملكة العربية السعودية ص3 , بحث منشور على الانترنت.

به، الأمر الذي يؤدي إلى الرأي الصواب وتحقيق وحدة الأمة وتأليف القلوب بين أفرادها. (¬1) اما الديمقراطية: بمفهومها الأساسي فهي تعني حكم الشعب لنفسه دون أن تستأثر طبقة أو جماعة أو فرد بهذا الحكم, ومن دون أن يصبح كل أفراد الشعب حكاماً، فيصبحوا بحاجة عندئذ إلى شعوب يحكمونها. (¬2) وبهذا التعريف تأتي الديمقراطية رديفة للشورى في بعض الوجوه من حيث إعطاء حق المشاركة للشعوب في صناعة القرار وإدارة شؤون الحكم، عدا أن الشورى نظام تميزت به الشريعة الإسلامية باعتباره جزءاً من العقيدة، بينما الديمقراطية نظام وضعي أي من وضع الإنسان فهي نظام سياسي إجتماعي غربي النشأة عرفه الغرب من الحقبة اليونانية ودخل عليه تطوير في الحضارة المعاصرة, كما أنها تنظم العلاقة بين الفرد والمجتمع والدولة من منطلق مبدء المساواة بين المواطنين، ومنح حق المشاركة في صنع التشريعات، وسن القوانين التي تنظم الحياة العامة وفق مبدء أن الشعب مصدر السلطات، فالسلطة في النظام الديموقراطي هي للشعب بواسطة الشعب (¬3) . ¬

_ (¬1) - د. فؤاد محمد النادي: رئيس قسم القانون العام بجامعة صنعاء وأستاذ القانون العام المساعد بجامعة الأزهر- موسوعة الفقه السياسي ونظام الحكم في الإسلام - الكتاب الخامس: مبدأ المشروعية وضوابط خضوع الدولة للقانون في الفقه الإسلامي ص 220 الطبعة الثانية 1400هـ - 1980م - دار الكتاب الجامعي. (¬2) - د. هاني سليمان الطعيمات: حقوق الإنسان وحرياته الأساسية ص249 الطبعة العربية الأولى 2001م. دار الشروق للنشر والتوزيع. (¬3) - انظر مولفنا الشورى في الشريعة الاسلامة مصدر سابق ص32.

في الشورى قوة واخوة

في الشورى قوة واخوة في الشورى القوة والاخوة والمحبة وقديما قيل اذا نويت فاستشر واذا مضيت فاستخر ومن استشار استبصر قال الشاعر: الرأي كالليل مسوداً جوانبه ... والليل لا ينجلي إلا بإصباح فاضمم مصابيح أراء الرجال إلى ... مصباح رأيك تزدد ضوء مصباح (¬1) وقد جاء في العقد الفريد لابن عبدربه أن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ذكر في المشورة سبع خصال: استنباط الصواب، واكتساب الرأي، والتحصن من السقطة، والتحرز من الملامة، والنجاة من الندامة، وإلفة القلوب، واتباع الأثر (¬2) . وجاء في جواهر الأدب أن بيهس الكلبي قال: عقل الفتى ليس يغني عن مشاورةٍ ... كحدة السيف لا تغني عن البطل إن المشاور إما صائبٌ غرضاً ... أو مخطئٌ غير منسوبٍ إلى الخطل (¬3) قال الراغب الأصفهاني: قيل إن الأحمق من قطعه العُجب عن الاستشارة، والاستبداد عن الاستخارة، فالرأي الواحد كالسجيل، والرأيان كالخيطين، والثلاثة إصرار لا ينقض. (¬4) ¬

_ (¬1) -أورد هذين البيتين العلامة والأديب الكبير أحمد بن محمد بن عبدربه الأندلسي في العقد الفريد, ج1ص60 ,طبعة دار إحياء التراث العربي ومؤسسة التاريخ العربي, بيروت, لبنان, ووردت في الموسوعة الشعرية للكاتب والأديب والواعظ والخطيب بدر بن عبد الله بن عبد الكريم الناصر ص145 الناشر دار العاصمة الرياض المملكة العربية السعودية الطبعة الأولى 1427هـ2006م. (¬2) - العقد الفريد للملك السعيد لأبي سالم محمد بن طلحة القرشي النصيبي المتوفى سنة652-ص42. طبع في القاهرة بمطبعة الوطن 1306هـ. (¬3) - جواهر الادب للعلامة أحمد الهاشمي -بيروت لبنان , الطبعة الخامسة والثلاثين 1416هـ. (¬4) - الذريعة إلى مكارم الشريعة 192 - للشيخ أبي القاسم الحسين بن محمد بن المفضل الراغب الأصفهاني رحمه الله تعالى - الطبعة الأولى 1400هـ - 1980م - دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان.

لاخير في امر ابرم من غير مشورة

وصحيح ما ذهب إليه الراغب، فإن رأيين خير من واحد، وقديماً قيل: ورأيان خير من واحد، ورأي الثلاثة لا ينقض، ولذا يقال: من أُعِجبَ برأيه ضل، ونقل القرطبي عن الحسن البصري والضحاك أنهما قالا: ما أمر الله نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم، وإنما أراد أن يعلمهم ما في المشاورة من الفضل، ولتقتدي به أمته بعده، ولقد أحسن القائل: شاور صديقك في الخفي المشكل ... واقبل نصيحة ناصح متفضل فالله قد أوصى بذاك نبيه ... في قوله (شاورهم) و (توكل) (¬1) لاخير في امر اُبرم من غير مشورة أثر عن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: لا خير في أمر أبرم من غير مشورة. ولهذا يقال: الخطأ مع المشورة أصلح من الصواب مع الإنفراد والاستبداد. وفي الامثال السائرة ما هلك امرءٌ بعد مشورة وليس الخبير كالمشير (¬2) وقد نقل صاحب العقد الفريد - في الشورى - أقوالاً مشهورة، وحكماً مأثورة نلخصها فيما يأتي: 1) لا معين أقوى من المشورة ولا عون أنفع من العقل. فالمشورة تقوي العزم وتمنح النجاح وتوضح الحق وتبسط العذر وتزحزح عن مواقف الندامة، والعقل يهدي صاحبه إلى الأخذ بثمرة المشورة. 2) 3) ¬

_ (¬1) - الجامع لأحكام القرآن 4/250 لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري الخزرجي الأندلسي القرطبي (المتوفى في 9شوال سنة671هـ) . (¬2) - معجم كنوز الامثال ص79.

الشورى والزاميتها

4) من استشار ذوي الرأي والمعرفة في فعل ما عناه فقبل المشورة منهم واقتدى بآرائهم فيها ولم يعدل عنها وعن قويم نهجها قل أن يخفق مسعاه ويفوت مطلوبه، فإن أعجزه القدر فهو معذور غير ملوم. 5) من ترك المشورة وعدل عنها، فلم يظفر بحاجته صار هدفاً لسهام الملام ومضغة في أفواه العاذلين. 6) من فضل المشورة أنها تكشف لك طباع الرجال. فمتى طلبت اختبار رجل فشاوره في أمرٍ من الأمور يظهر لك من رأيه وفكره وعدله وجوره وخيره وشره مكانته. من أكثر الاستشارة لم يعدم عند الإصابة مادحاً وعند الخطأ عاذراً (¬1) الشورى والزاميتها إنه مما لا شك فيه أن الشورى واحدة من المبادئ التي يقوم عليها نظام الحكم, أمر بها الشارع سبحانه وتعالى لتكون أداة لتقويم الفكر وتدعيم الرأي ووحدة الصف واحترام العقل الذي زود الله به الإنسان وفضله على كثير مما خلق من خلقه تفضيلاً، والشورى يمكن أن تتوحد بها الصفوف فتتوحد الأمة حتى تكون كالبنان أو كالبنيان يشد بعضه بعضاً, والشورى فيها تطييب للنفوس وجمع للكلمة واستخراج للرأي السديد, فالقرآن يأمر الرسول بالمشاورة، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يأخذ برأي الأغلبية, وقد استدل القائلون بوجوب الشورى وإلزاميتها بعدة أدلة من الكتاب والسنة من ذلك قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً ¬

_ (¬1) - العقد الفريد. ص 58.

فضل الشورى

غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (¬1) , وجه الاستدلال أن هذه الآية نزلت بعد غزوة أُحد والتي كان قرار الخروج فيها مبنياً على الشورى وأخذه صلى الله عليه وعلى آله وسلم برأي الأكثرية فنزلت هذه الآية بعد النتائج الأليمة التي حلت بالمسلمين تأمر الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالعفو عنهم والاستغفار والمشاورة حتى لا يظن ظان بضرورة استبعاد الشورى, فإذا أمر الله بها رسوله, وهو أرجح الناس عقلاً, فالأمر في حق غيره من قادة المسلمين أولى وأوجب, فصيغة الأمر عند علماء الأصول تفيد الوجوب ما لم ترد قرينة تصرفه عن ذلك, وهذه الصيغة (وَشَاوِرْهُمْ) صيغة أمر وهي تدل على وجوب الشورى ولم ترد نصوص أخرى تصرفها إلى الندب, بل جاءت النصوص الأخرى من الكتاب والسنة تؤكد هذا الوجوب وتؤيده، ويقول الفخر الرازي في التفسير الكبير: ظاهر الأمر للوجوب, فقوله (وَشَاوِرْهُمْ) يقتضي الوجوب (¬2) . فضل الشورى قال الماوردي: اعْلَمْ أَنَّ مِنْ الْحَزْمِ لِكُلِّ ذِي لُبٍّ أَنْ لَا يُبْرِمَ أَمْرًا وَلَا يُمْضِيَ عَزْمًا إلَّا بِمَشُورَةِ ذِي الرَّأْيِ النَّاصِحِ، وَمُطَالَعَةِ ذِي الْعَقْلِ الرَّاجِحِ. ¬

_ (¬1) - سورة آل عمران الآية (159) . (¬2) - التفسير الكبير للفخر الرازي العلامة: محمد بن عمر بن الحسين الرازي الشافعي المعروف بالفخر الرازي أبو عبد الله فخر الدين, ولد بالري من أعمال فارس, من تصانيفه الكثيرة: مفاتيح الغيب من القرآن الكريم الموسوم بمفاتيح الغيب ج1- ص1292.

قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: نِعْمَ الْمُؤَازَرَةُ الْمُشَاوَرَةُ وَبِئْسَ الِاسْتِعْدَادُ الِاسْتِبْدَادُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الرِّجَالُ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ تَرِدُ عَلَيْهِ الْأُمُورُ فَيُسَدِّدُهَا بِرَأْيِهِ، وَرَجُلٌ يُشَاوِرُ فِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ وَيَنْزِلُ حَيْثُ يَأْمُرُهُ أَهْلُ الرَّأْيِ، وَرَجُلٌ حَائِرٌ بِأَمْرِهِ لَا يَأْتَمِرُ رُشْدًا وَلَا يُطِيعُ مُرْشِدًا. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: إنَّ الْمَشُورَةَ وَالْمُنَاظَرَةَ بَابَ رَحْمَةٍ وَمِفْتَاحَ بَرَكَةٍ لَا يَضِلُّ مَعَهُمَا رَأْيٌ وَلَا يُفْقَدُ مَعَهُمَا حَزْمٌ. وَقَالَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ: مَنْ أُعْجِبَ بِرَأْيِهِ لَمْ يُشَاوِرْ، وَمَنْ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ كَانَ مِنْ الصَّوَابِ بَعِيدًا. وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ: الْمُشَاوِرُ فِي رَأْيِهِ نَاظِرٌ مِنْ وَرَائِهِ. وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: الْمُشَاوَرَةُ رَاحَةٌ لَك وَتَعَبٌ عَلَى غَيْرِك. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الِاسْتِشَارَةُ عَيْنُ الْهِدَايَةِ وَقَدْ خَاطَرَ مَنْ اسْتَغْنَى بِرَأْيِهِ (¬1) .قلتُ: وقد وصف الله المؤمنين الموحدين بأن أمرهم شورى بينهم, ليدل على أن نظام الشورى أرقى النظم وأسماها, وأن الاستبداد في الحكومات وفي كل الأمور التي ينبغي التشاور فيها ليس من نظام الدين ولا من شأن المؤمنين, وأن الأمة التي تتخذ الشورى منهجاً وسلوكاً هي الأحرى بالإكبار والتقدير, ولله در القائل: اقرن برأيك رأي غيرك واستشر ... فالحق لا يخفى على اثنين للمرئ مرآة تريه وجهه.....ويرى قفاه بجمع مرآتين ¬

_ (¬1) - ادب الدنيا والدين تأليف الامام على بن محمد بن حبيب الماوردي ص 301 الطبعة الاولى 1427هـ 2006م الناشر الشركة الجزائرية اللبنانية.

الخلال المطلوب توافرها في المشير

الخلال المطلوب توافرها في المشير من حق العاقل ان يضيف إلى رأيه رأي العلماء, ويجمع إلى عقله عقول الحكماء, ويحسن اختيار المشير, ويديم الاسترشاد, ويترك الاستبداد, فالرأي الفرد ربما زل, والعقل الفرد ربما ضل, وزلة الرأي تأتي على الفرد فتضعفه, وتأتي على الملك وتؤدي إلى الهلك, فمن التوفيق حسن اختيار المشير, وقديما قيل من احسن الوفاء استوجب الاصطفاء, ومن استشار الرشيد عمل بمشورته, ومن استنصح الصديق وبنى على نصيحته لم يفته حزم ولم يغلبه خصم, ومن استشار العاقل فيما ينويه, واسترشد العالم فيما يأتيه صحت له الامور, وصلح به الجمهور, واستنار منه القلب, وسهل عليه الصعب. فمن جهل المرء وسخفه وسقم رأيه وضعفه ان يتصور في نفسه ويتقرر في حسه. ان في استمداد الاراء واستشارة النصحاء ما يزري به, ويضع من قدره فيستبد بالتدبير ويعرض عن المشير؛ فيبقى في ظلمة الحيرة, ويحصل على الهم والحسرة, فإذا اشكلت عليك الامور, وتغير لك الجمهور فارجع الى رأي العقلاء, وافزع إلى استشارة النصحاء ولا تأنف من الاسترشاد, ولا تستنكف من الاستمداد, فإن تسأل وتسلم, خير من ان تستبد وتندم, ولاتستشر الجاهل بالامور فإن من استرشد الجاهل ضل, ومن جهل موضع قدمه زل, وفي الامثال السائرة: جهل المشير قتل المستشير, واذا استشرت الجاهل اختار لك الباطل, فاستعن بذوي العقول لتدرك المامول فمن

استشار ذوي الالباب, سلك سبيل الصواب (¬1) وقد ذكر الماوردي في المشير خصالا خمسا نلخصها في الاتي: الخصلة الاولى: عَقْلٌ كَامِلٌ مَعَ تَجْرِبَةٍ سَالِفَةٍ فَإِنَّ بِكَثْرَةِ التَّجَارِبِ تَصِحُّ الرَّوِيَّةُ. وَقَدْ رَوَى أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {اسْتَرْشِدُوا الْعَاقِلَ تَرْشُدُوا وَلَا تَعْصُوهُ فَتَنْدَمُوا} (¬2) . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ لِابْنِهِ مُحَمَّدٍ: احْذَرْ مَشُورَةَ الْجَاهِلِ وَإِنْ كَانَ نَاصِحًا كَمَا تَحْذَرُ عَدَاوَةَ الْعَاقِلِ, إذَا كَانَ عَدُوًّا فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يُوَرِّطَك بِمَشُورَتِهِ فَيَسْبِقَ إلَيْك مَكْرُ الْعَاقِلِ وَتَوْرِيطُ الْجَاهِلِ. وَقِيلَ لِرَجُلٍ مِنْ عَبْسٍ: مَا أَكْثَرُ صَوَابِكُمْ؟ قَالَ: نَحْنُ أَلْفُ رَجُلٍ وَفِينَا حَازِمٌ وَنَحْنُ نُطِيعُهُ فَكَأَنَّا أَلْفُ حَازِم. وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ: وَمَا كُلُّ ذِي نُصْحٍ بِمُؤْتِيك نُصْحَهُ ... وَلَا كُلُّ مُؤْتٍ نُصْحَهُ بِلَبِيبِ وَلَكِنْ إذَا مَا اسْتَجْمَعَا عِنْدَ صَاحِبٍ ... فَحُقَّ لَهُ مِنْ طَاعَةٍ بِنَصِيبِ وَالْخَصْلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ ذَا دِينٍ وَتُقًى، فَإِنَّ ذَلِكَ عِمَادُ كُلِّ صَلَاحٍ وَبَابُ كُلِّ نَجَاحٍ. ¬

_ (¬1) - الفرائد والقلائد تأليف ابي الحسين محمد بن الحسين الأهوازي ص (59-61) بتصرف, الناشر دار الرازي, طبعة دار ابن حزم بيروت لبنان 1427هـ 2006 الطبعة الاولى. (¬2) - السيوطي في الجامع الصغير باب حرف الألف حديث رقم (975) .

وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الدِّينُ فَهُوَ مَأْمُونُ السَّرِيرَةِ مُوَفَّقُ الْعَزِيمَةِ. رَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: {مَنْ أَرَادَ أَمْرًا فَشَاوَرَ فِيهِ امْرَأً مُسْلِمًا وَفَّقَهُ اللَّهُ لِأَرْشَدَ أُمُورِهِ} . وَالْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ نَاصِحًا وَدُودًا، فَإِنَّ النُّصْحَ وَالْمَوَدَّةَ يُصَدِّقَانِ الْفِكْرَةَ وَيُمَحِّضَانِ الرَّأْيَ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: لَا تُشَاوِرْ إلَّا الْحَازِمَ غَيْرَ الْحَسُودِ، وَاللَّبِيبَ غَيْرَ الْحَقُودِ، وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: مَشُورَةُ الْمُشْفِقِ الْحَازِمِ ظَفَرٌ، وَمَشُورَةُ غَيْرِ الْحَازِمِ خَطَرٌ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: أَصْفِ ضَمِيرًا لِمَنْ تُعَاشِرُهُ ... وَاسْكُنْ إلَى نَاصِحٍ تُشَاوِرُهُ وَارْضَ مِنْ الْمَرْءِ فِي مَوَدَّتِهِ ... بِمَا يُؤَدِّي إلَيْك ظَاهِرُهُ مَنْ يَكْشِفْ النَّاسَ لَم يَجِدْ أَحَدًا ... تَصِحُّ مِنْهُمْ لَهُ سَرَائِرُهُ أَوْشَكَ أَنْ لَا يَدُومَ وَصْلُ أَخٍ ... فِي كُلِّ زَلَّاتِهِ تُنَافِرُهُ وَالْخَصْلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ سَلِيمَ الْفِكْرِ مِنْ هَمٍّ قَاطِعٍ، وَغَمٍّ شَاغِلٍ، فَإِنَّ مَنْ عَارَضَتْ فِكْرَهُ شَوَائِبُ الْهُمُومِ لَا يَسْلَمُ لَهُ رَأْيٌ وَلَا يَسْتَقِيمُ لَهُ خَاطِرٌ. وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: كُلُّ شَيْءٍ يَحْتَاجُ إلَى الْعَقْلِ وَالْعَقْلُ يَحْتَاجُ إلَى التَّجَارِبِ. وَكَانَ كِسْرَى إذَا دَهَمَهُ أَمْرٌ بَعَثَ إلَى مَرَازِبَتِهِ فَاسْتَشَارَهُمْ فَإِنْ قَصَّرُوا فِي الرَّأْيِ ضَرَبَ قَهَارِمَتِهِ وَقَالَ: أَبْطَأْتُمْ بِأَرْزَاقِهِمْ فَأَخْطَئُوا فِي آرَائِهِمْ.

وَقَالَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ: وَلَا مُشِيرَ كَذِي نُصْحٍ وَمَقْدِرَةٍ ... فِي مُشْكِلِ الْأَمْرِ فاخْتَرْ ذَاكَ مُنْتَصِحًا وَالْخَصْلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ فِي الْأَمْرِ الْمُسْتَشَارِ غَرَضٌ يُتَابِعُهُ، وَلَا هَوًى يُسَاعِدُهُ، فَإِنَّ الْأَغْرَاضَ جَاذِبَةٌ وَالْهَوَى صَادٌّ، وَالرَّأْيُ إذَا عَارَضَهُ الْهَوَى وَجَاذَبَتْهُ الْأَغْرَاضُ فَسَدَ. وَقَدْ قَالَ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ: وَقَدْ يَحْكُمُ الْأَيَّامَ مَنْ كَانَ جَاهِلًا ... وَيُرْدِي الْهَوَى ذَا الرَّأْيِ وَهُوَ لَبِيبُ وَيُحْمَدُ فِي الْأَمْرِ الْفَتَى وَهُوَ مُخْطِئٌ ... وَيُعْذَلُ فِي الْإِحْسَانِ وَهُوَ مُصِيبُ فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْ هَذِهِ الْخِصَالُ الْخَمْسُ فِي رَجُلٍ كَانَ أَهْلًا لِلْمَشُورَةِ وَمَعْدِنًا لِلرَّأْيِ، فَلَا تَعْدِلْ عَنْ اسْتِشَارَتِهِ اعْتِمَادًا عَلَى مَا تَتَوَهَّمُهُ مِنْ فَضْلِ رَأْيِك، وَثِقَةً بِمَا تَسْتَشْعِرُهُ مِنْ صِحَّةِ رَوِيَّتِك، فَإِنَّ رَأْيَ غَيْرِ ذِي الْحَاجَةِ أَسْلَمُ، وَهُوَ مِنْ الصَّوَابِ أَقْرَبُ، لِخُلُوصِ الْفِكْرِ وَخُلُوِّ الْخَاطِرِ مَعَ عَدَمِ الْهَوَى وَارْتِفَاعِ الشَّهْوَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {رَأْسُ الْعَقْلِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ التَّوَدُّدُ إلَى النَّاسِ، وَمَا اسْتَغْنَى مُسْتَبِدٌّ بِرَأْيِهِ، وَمَا هَلَكَ أَحَدٌ عَنْ مَشُورَةٍ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ هَلَكَةً كَانَ أَوَّلُ مَا يُهْلِكُهُ رَأْيَهُ} (¬1) . ¬

_ (¬1) - انظر ادب الدنيا والدين للامام الماوردي ص (302-304) .

الحكمة في الشورى

الحكمة في الشورى الحكيم من الناس من يستشير وياخذ بالحكمة ويجتنب الاستبداد بالرأي, والحكيم من يضع الاشياء في مواضعها فيبحث عن الحق من اجل اصابة الصواب, وموافقة الحق والعدل في القول والعمل, فالانسان لايكمل بنفسه وانما يستعين بالله وحده, ويستشير غيره من أهل الشورى حتى تكون اقواله وافعاله منتظمة محكمه, سائرة على منهج العدل الذي امر الله به, فمن أراد حسن التدبير, والحكم بأمر العزيز القدير, فليجعل الشورى سبيله ومنهجه ودليله, فان ذلك من الحكمة, وفيه طاعة لله, وفضل من الله فاساله أن يعطيك التوفيق والحكمة, فهو يؤتي الحكمة من يشأ, وهو المعطي لجميع الاشياء, وفي الذكر الحكيم: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًاوَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (¬1) واعلم اخي انه لا حكيم على الاطلاق الا العزيز الوهاب, ولن تكون حكيما الا باتباع امر الله وامر نبيه صلى الله عليه واله وسلم, فاحرص على الاتباع وابتعد عن الاستبداد والابتداع, فالمؤمن الحق حكيم, وحكمته يستقيها من معرفته بالله, فاستمد منه الحكمة, ومن الحكمة ان تتعرف على افضل المعلومات بافضل العلوم وتستشير ثم تتكل على العزيز القدير, واعلم ان العلم المطلق انما هو لله العزيز الحكيم, الذي لا يحتاج إلى مشير ولا وزير والذي احسن كل شئ خلقه واتقنه واحسن تدبيره وتقديره وهو على كل شئ قدير. الحكيم من اسماء الله الحسنى الحكيم من اسماء الله الحسنى وقد ورد في كتاب الله تعالى وفي سنة نبيه في عدة مواضع منها قوله جل وعلى في سورة البقرة: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬2) وفي سورة النساء قوله تبارك وتعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬3) وقوله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} (¬4) وفي سورة الأنعام قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (¬5) وفي سورة النور قوله سبحانه: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} (¬6) وورد في السنة النبوية من حديث ابي هريرة عند الترمذي: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً غَيْرَ وَاحِدٍ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) وعد منها: (الحكيم) (¬7) وفي صحيح مسلم من حديث: مُوسَى الْجُهَنِيُّ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ عَلِّمْنِي كَلَامًا أَقُولُهُ قَالَ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا وَالْحَمْدُ ¬

_ (¬1) - سورة البقرة الاية (269) . (¬2) - سورة البقرة الاية (228) . (¬3) - سورة النساء الاية (26) . (¬4) - سورة النساء الاية (130) . (¬5) - سورة الانعام الاية (18) . (¬6) - سورة النور الاية (10) . (¬7) - باب ماجاء في عقد التسبيح باليد حديث رقم (3429) .

لِلَّهِ كَثِيرًا سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ قَالَ فَهَؤُلَاءِ لِرَبِّي فَمَا لِي قَالَ قُلْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي (¬1) والحكيم له عدة معان منها: حكيم على وزن فعيل, بمعنا مفعل, تقول جرح اليم بمعنى مؤلم, فحكيم بمعنا محكم, ومعنا المحكم المتقن والله جل وعلا حكيم في خلقه وتقديره وحكيم في جميع اقواله وافعاله, وقال ابن جرير الحكيم الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل: وقال في موضع: حكيم فيما قضى بين عباده من قضاياه (¬2) وقال الامام ابن كثير: الحكيم في افعاله واقواله فيضع الاشياء في محلها بحكمته وعدله. وقَالَ الْحَلِيمِيُّ فِي مَعْنَى الْحَكِيمِ: الَّذِي لا يَقُولُ وَلا يَفْعَلُ إِلاَّ الصَّوَابُ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُوصَفَ بِذَلِكَ لأَنَّ أَفْعَالَهُ سَدِيدَةٌ، وَصُنْعَهُ مُتْقَنٌ، وَلا يَظْهَرُ الْفِعْلُ الْمُتْقَنُ السَّدِيدُ إِلاَّ مِنْ حَكِيمٍ، كَمَا لا يَظْهَرُ الْفِعْلُ عَلَى وَجْهِ الاخْتِيَارِ إِلاَّ مِنْ حَيٍّ عَالِمٍ قَدِيرٍ. قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: الْحَكِيمُ هُوَ الْمُحْكِمُ لِخَلْقِ الأَشْيَاءِ صُرِّفَ عَنْ مِفْعَلٍ إِلَى فَعِيلٍ، وَمَعْنَى الإِحْكَامِ لِخَلْقِ الأَشْيَاءِ إِنَّمَا يَنْصَرِفُ إِلَى إِتْقَانِ التَّدْبِيرِ فِيهَا، وَحُسْنِ التَّقْدِيرِ لَهَا (¬3) . وقال القحطاني: (الحكيم) الموصوف بكمال الحكمة وبكمال الحكم بين المخلوقات، فالحكيم هو واسع العلم والإطلاع على مبادئ الأمور ¬

_ (¬1) - باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء حديث رقم (4862) . (¬2) - جامع البيان ج1 ص (436) ج2 ص (363) . (¬3) -الاسماء والصفات للبيهقي ج1 ص 67.

ثمرة معرفه اسم الله الحكيم

وعواقبها، واسع الحمد، تام القدرة، غزير الرحمة فهو الذي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها في خلقه وأمره، فلا يتوجه إليه سؤال، ولا يقدح في حكمته مقال. وقال القرطبي: الحكيم جل جلاله وتقدست أسماؤه ورد في الذكر الحكيم اكثر من موضع وجاء في حديث ابي هريرة واجمعت عليه الأمه ولا خلاف في إجرائه على المخلوق وصفا. ومن هذا العرض يتبين أن الله حكيم في خلقه وتقديره, وحكيم في شرعه وأحكامه, وحكيم في جميع اقواله وافعاله, وقد وصف الله جل وعلا القرأن الكريم بالحكيم واقتضت حكمته أن يكون القران حكيما ومحكما, وانه لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من عزيز حكيم, قال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (¬1) وفي سورة لقمان {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} (¬2) فالقرأن حكيم في اسلوبه وبيانه, حكيم في هدايته ورحمته, وحكيم في امره ونهيه, وحكيم في ايضاحه وبيانه, وحكيم في وعده ووعيده, وحكيم في ترغيبه وترهيبه, وحكيم في تشريعه, فما شرعه الله فيه لعباده من الاحكام والمعاملات مبنية على الحكمة قال تعالى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬3) وقال في آية المواريث: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (¬4) وجاء في سورة التحريم في حكم اليمين النبأ اليقين, قال تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (¬5) فما شرعه الله لعباده في القرأن الحكيم جاء في منتهى الحكمة والاحكام فهو تشريع الحكيم العليم الذي لا يدخل في حكمه خلل ولا زلل, فمن اخذ بذلك فقد اهتدى, ومن أعرض عنه فقد ضل ضلالا مبينا, فإن كنت تريد الحكمة والامن والسلامة والسعادة والفلاح فتعلم احكامه وحلاله وحرامه من القرأن الحكيم ومن هدي النبي الكريم تكن حكيما. ثمرة معرفه اسم الله الحكيم اذا علم المرء ان الله جل وعلى خالقه ورازقه حكيم, خلق الخلق واتقن صنعه, وخلق كل شئ واحكم تدبيره وتقديره, وانه سبحانه وتعالى خلق الخلق لحكمة عظيمة, وغاية جليله وهي عبادته قال جل شانه {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (¬6) وانه سبحانه وتعالى الحكيم في اقواله وافعاله, الحكيم في تشريعه, وان الامور كلها بيده تجري وفق حكمته وتدبيره وتقديره سبحانه وتعالى, وحده لاشريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير, وجب عليه ان يؤمن به ويوحده سبحانه لاشريك له ولاند له ولامثيل في اسمائه وصفاته (ليس كمثله شيئ وهو السميع البصير) , فهو سبحانه لايقول ولا يفعل الا الصواب, والمؤمن يصف ربه الحكيم بما وصف به نفسه من صفات التعظيم والمدح, ويسأله الحكمة, ويتخلق بالاخلاق الحسنة, ويجعل اعماله وافعاله كلها لله فيضع الاشياء في محلها فلا يحكم الا بالحق والعدل, ¬

_ (¬1) - سورة هود الاية (1) . (¬2) - سورة لقمان الاية (2) . (¬3) - سورة الممتحنة الاية (10) . (¬4) - سورة النساء الاية (11) . (¬5) - سورة التحريم الاية (2) . (¬6) - سورة الذاريات الايات (56-58) .

ولا يتعامل مع الناس الا بالصدق والامانة, وان يجعل أعماله متصفة بالحكمة, ويحرص ان يكون حكيما في عمله حكيما في صنعته حكيما في وظيفته, حكيما في تعليمه حكيما في ادارته حكيما في اخلاقه حكيما في اهله ومجتمعه وادارة شؤنه, يتنزه عن ظلم غيره ويترفع عن فعل مالا ينبغي, فالحكيم من الناس هو من يتحلى بالاخلاق الفاضله ويتخلق باخلاق الله الحكيم الذي علّم الحكمة, وكانت شريعته واوامره ونواهيه التي يجب ان يلتزم بها الانسان جارية على الحكمة, فالحكيم الذي يفعل ماينبغي, بالقدر الذي ينبغي, وفي الوقت الذي ينبغي, وبالمكان الذي ينبغي, اخذا بما علَّمه الله, ومستقيما كما يحب الله فهذا هو الحكيم, الحكيم الذي يتقي الله, ويسعى إلى نفع الناس ابتغاء ثواب الله, والحكيم الذي يغض بصره ويحفظ فرجه وفضول كلامه ويؤدي الفرائض والواجبات التي فرضها الله, فأنت اخي حين تطبق امر الله تكون حكيما وحينما تتبع نهج محمد صلى الله عليه وآله وسلم تكون حكيما, وأنت أخي بالحكمة يمكن ان تكون اسعد الناس, فلو ان الله اعطاك مالاً ولم تكن حكيما فيه, متبعا لمنهج العدل الذي اراده الله وكنت مبذرا فيه فستكون سفيها, مع انه في الامكان ان تكون اسعد الناس بدخل قليل اذا اتبعت منهج الملك الجليل, ولكنك بالحمق والمخالفة لاوامر الله يمكن ان تشقى بالدخل الكثير لانفاقك المال بالاسراف والتبذير فيما يغضب الملك الجليل, ولو اعطاك الله الصحة, ولم تحافظ على هذه النعمة, وتستغلها فيما يعود عليك من الخير في طاعة الله, واستهلكت هذه الصحة في سفاسف الأمور لم تكن حكيما, فأي شيئ اعطيته ولم تستعمل فيه الحكمة فانك لم تكن حكيما, وسوف يكون حسرة عليك يوم القيامة, وانظر إلى فرعون وقارون فإن المال والجاه لم ينفعهما مع البغي والاستبداد, لأنهما أعرضا عن الحكمة في امر الله ونهيه, وتدبر معي اخي قول العزيز الحكيم: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} (¬1) وانظر اخي فضل الله عليك, واحسانه اليك, فإن تفضل الله عليك بالحكمة والعلم فهذا العطاء من نوع ما أعطى الانبياء, فاحمد الله, وان اعطاك مالا فقل الحمد لله, وان زادك صحة فاحمد لله, وان زادك قوة فاحمد لله, وان اعطاك سلطانا وجاها فاحمد لله, وان اعطاك صحة وأولادا فقل الحمد لله مقتديا بخليل الله ابراهيم عليه السلام الذي حكا الله عنه في لقرآن الحكيم حمده للرب الكريم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} (¬2) , وعليك ان تضع الامور في نصابها وتستشير أهل الفضل والصلاح, فالأصل ان يكون المؤمن حكيما, يستعمل الحكمة ويطلب من الله المزيد والرحمة قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (¬3) وقال تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (¬4) وصلوات الله وسلامه على عبده ونبيه ورسوله ابراهيم فقد نادى الرب الكريم: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬5) فاستجاب له العزيز الحكيم, ¬

_ (¬1) - سورة الانفطار الايات (6-8) . (¬2) - سورة ابراهيم الاية (39) . (¬3) - سورة آل عمران الايات (164) . (¬4) - سورة البقرة الايات (269) . (¬5) - سورة البقرة الايات (129) .

دعاء الله باسمه الحكيم

فسبحانه من رحيم كريم, وجاء في الذكر الحكيم: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (¬1) . دعاء الله باسمه الحكيم ياالله ياحكيم يارزاق ياوهاب ارزقني الحكمة وفصل الخطاب وعرفني معرفة الخطا من الصواب, وفهمني معنى (انما يتذكر اولو الالباب) , واجعلني والمؤمنين في الفردوس الاعلا من الجنة انك انت الكريم العزيز الحكيم الوهاب ووفقني والمؤمنين للعمل بالسنة والكتاب وصلى الله وسلم على محمد نبي الرحمة معلم الحكمة وعلى آله والاصحاب. ¬

_ (¬1) - سورة الجمعة الآية (1-2) .

الفصل الثاني والثلاثون النصيحة

الفصل الثاني والثلاثون النصيحة النصيحة النصيحة كلمة جامعة معناها حيازة الخير للمنصوح له, وهي مأخوذة من: نصح الرجل ثوبه: اذا خاطه, وشبه فعل الناصح فيما يتحراه للمنصوح له لسد الخيط خلل الثوب واصلاحه. وقيل انها ماخوذه من: نصحت العسل اذا صفيته من الشمع, وهي عماد الدين وقوامه, وفي الذكر الحكيم اخبار عن نوح عليه وعلى نبينا افضل الصلاة والتسلايم فيما حكاه الله عنه: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (¬1) وفي الامثال السائرة: من لزم العافية سلم ومن قبل النصيحة غنم وقال ابو الدردآء رضي الله عنه: ان شئتم لأنصح لكم: ان احب عباد الله إلى الله الذين يحببون الله تعالى إلى عباده ويعملون في الارض نصحا. وقال حكيم: ودّك من نصحك وقلاك من مشى في هواك. ولشرف النصيحة وعلو شأنها كانت خلقَ النبيين, وسبيلَ المتقين, وفي الذكر الحكيم حكى الله عن هود عليه وعلى نبينا افضل الصلاة والتسليم: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} (¬2) وفي السنة النبوية أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ الدِّينُ النَّصِيحَةُ قُلْنَا لِمَنْ قَالَ لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ (¬3) , وفي روضة العقلاء: الواجب على العاقل لزوم النصيحة للمسلمين كافة, وترك الخيانة ¬

_ (¬1) - سورة الاعراف الاية (62) . (¬2) - سورة الاعراف الاية (68) . (¬3) - اخرجه مسلم باب بيان ان الدين النصيحة حديث رقم (82) .

لهم بالاضمار والقول والفعل معا, اذ المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يشترط على من بايعه من اصحابه: النصح لكل مسلم, مع اقامة الصلاة, وايتاء الزكاه (¬1) , قال الشاعر: اذا خلت النصيحة حين تسدي ... من الاخلاص مجتها القلوب (¬2) وقال اخر: لا تَبخَلَن بِالنُصحِ إِنَّ ضُؤولَةً ... بِالمَرءِ غِشُّ المُستَشيرِ المُجهَدِ وَأَجِب أَخاكَ إِذا اِستَشارَكَ ناصِحاً ... وَعَلى أَخيكَ نَصيحَةً لا تَردُدِ (¬3) اما ابوالاسود الدؤلي يقول: فَما كُلُّ ذي لُبٍّ بِمؤتيكَ نُصحَهُ ... وَما كُلُّ مؤتٍ نَصحَهُ بِلبيبِ وَلَكِن إِذا ما استَجمَعا عِندَ واحِدٍ ... فَحقٌّ لَهُ مِن طاعَةٍ بِنَصيبِ وقال اخر: النصح ارخص ما باع الرجال فلا ... تردد على ناصح نصحا ولا تلم ان النصائح لاتخفى مناهجها ... على الرجال ذوي الالباب والفهم ¬

_ (¬1) - روضة العقلاء ص (157) مصدر سابق. (¬2) - ورد هذا البيت في الموسوعة الشعرية منسوبا لمحمد سليم الجندي وكذلك في الشوارد لابن خميس. (¬3) - عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب? - 129 هـ / ? - 746 م من شجعان الطالبيين وأجوادهم وشعرائهم، وكان فتاكاً سيء الحاشية طلب الخلافة في أواخر دولة بني أمية (سنة 127 هـ) بالكوفة وبايع له بعض أهلها، وخلعوا طاعة بني مروان. وأتته بيعة المدائن. ثم قاتله عبد الله بن عمر (والي الكوفة) فتفرق عنه أصحابه (سنة 128 هـ) فخرج إلى المدائن، ولحق به جمع من أهل الكوفة فغلب بهم على حلوان والجبال وهمذان وأصبهان والري وقصده بنو هاشم كلهم حتى أبو جعفر (المنصور) واستفحل أمره، فجبي له خراج فارس وكورها. وأقام باصطخر، فسير أمير العراق (ابن هبيرة) الجيوش لقتاله فصبر لها ثم انهزم إلى شيراز ومنها إلى هراة فقبض عليه عاملها وقتله خنقاً بأمر أبي مسلم الخراساني, وضع الفراش على وجهه فمات وقيل مات في سجن أبي مسلم سنة 131 هـ.

خير الاخوان اكثرهم مبالغة في النصيحة

اما ابوالعتاهية فهو يقول: لَو بَذَلتُ النُصحَ الصَحيحَ لِنَفسي ... لَم تَذُق مُقلَتايَ طَعمَ الرُقادِ لَو بَذَلتُ النُصحَ الصَحيحَ لِنَفسي ... هِمتُ أُخرى الزَمانِ في كُلِّ وادِ خير الاخوان اكثرهم مبالغة في النصيحة ان خير الاخوان اشدهم مبالغة في النصيحة, كما ان خير الاعمال احمدها عاقبة, واحسنها اخلاصا وفي الامثال السائرة: (ضرب الناصح خير من تحية الشاني) وقيل يجب ان يكون للعاقل نصيحة مقبولة, وقيل ليس الناصح باولى بالنصيحة من النصوح له. قال الحسن: المؤمن شعبة من المؤمن, وهو مراة اخيه؛ ان راى منه مالايعجبه سدده وقومه, ونصحه في السر والعلانية. وفي الامثال السائرة: "من احبك نهاك ومن ابغضك اغراك" وقيل "النصيحة آمن من الفضيحة", وفي الحديث النبوي (مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا) (¬1) وقال ابن الرومي: غَشَّ من أخَّرَ النصيحة عمْداً ... عن إمام عليه جُلُّ اعتمادِهْ ليس يُوْهي أخاك شدُّكَ إيَّا ... هُ به بل يزيدُه في اشتدادِهْ وقال عبد الله بن معاوية: وَإِن قالَ لي ماذا تَرى يَستَشيرُني ... أَخي لَم أُشِر إِلّا بِما كُنتُ فاعِلاً ويروى لاوس ابن حجر: وان قال لي ماذا ترى يستشيرني ... فلم يك عندي غير نصح وارشاد ¬

_ (¬1) - صحيح مسلم, باب قول النبي من غشنا, حديث رقم (146) .

النصح لايجب في العلانية

اما ابن حمديس فهو يقول: لي صديقٌ محْضُ النصيحة كالمر ... آه إذ لا تريك منها اختلالا فَتُريكَ اليمينَ منك يميناً ... بالمحاذاةِ والشمالَ شمالا ولله در القائل: وَمِن أَعظَمِ التَقوى النَصيحَةُ أَنها ... مِنَ الدينِ أَضحَت مِثلُ أُسِّ بِنائِهِ (¬1) النصح لايجب في العلانية النصيحة محاطة بالتهمة ولهذا فانه لاينبغي ابداؤها الا سرا غالبا (¬2) , لأن من وعظ اخاه علانية فقد شانه. ومن وعظه سرا فقد زانه, وقديما قيل: علامة الناصح اذا اراد زينة المنصوح له ان ينصحه سرا, وعلامة من اراد شينة ان ينصحه علانية, ورحم الامام الشافعي حيث يقول: تَعَمَّدني بِنُصحِكَ في اِنفِرادي ... وَجَنِّبني النَصيحَةَ في الجَماعَه فَإِنَّ النُصحَ بَينَ الناسِ نَوعٌ ... مِنَ التَوبيخِ لا أَرضى اِستِماعَه وَإِن خالَفتَني وَعَصِيتَ قَولي ... فَلا تَجزَع إِذا لَم تُعطَ طاعَه اما ابوالعتاهية فيقول: يريك النصيحة عند اللقاء ... ويبريك في السر بري القلم ¬

_ (¬1) - هذا البيت لاحمد بن علي مشرف. (¬2) - قولنا غالبا نحترز بها من بعض احوال النصيحة التي يجوز ابداؤها سرا وعلانية خاصة في بعض ماتعلق من النصيحة لله ولكتابه, ومن ذلك الخضوع لله ظاهرا وباطنا والرغبة في محابه بفعل طاعته والرهبة من سخطه بترك معاصيه سرا وعلنا ووصفه سبحانه وتعالى بما هو اهله, وتعليم كتاب الله ونحو ذلك من الامور التي لاغضاضة من ابداء النصح علانية فيها.

عدم قبول النصيحة حسرة وندامة

وفي الامثال السائرة: النصح بين الملا تقريع, وقال سفيان قلت لمسعر: تحب ان يخبرك رجل بعيوبك؟ قال: اما ان يجي انسان فيوبخني بها فلا, واما ان يجي ناصحا فنعم. قال ابن المبارك: كان الرجل اذا رأى من اخيه مايكره امره في ستر, ونهاه في ستر؛ فيؤجر في ستره, ويؤجر في نهيه. فأما اليوم اذا فانه اذا رأى احدٌ من احدٍ ما يكره استغضب اخاه, وهتك ستره. قلت وقد افاد ابن المبارك واجاد, فالناصح انما يبتغي بنصحه الاجر والثواب من العزيز الوهاب, أما اذا قصد غير ذلك من امور الدنيا التي يبتغي من ورائها جاها او مالا فربما ذهبت اماله وانقطع رجاؤه ولم يتحقق من وراء نصيحته نفع قال الشاعر: ولرب راج حيل دون رجائه ... ومؤمل ذهبت به الامال أما من قصد بالنصح رضاء الله وحده ونفع اخوانه واصلاح شؤنهم فلن فلن يهتك ستر اخوانه ولن يضيع اجر نصحه واحسانه, قال الشاعر: ان كان حمدي ضاع في نصحكم ... فان اجري ليس بالضائع عدم قبول النصيحة حسرة وندامة من لم يقبل نصيحة العاقل تتعاظم عليه المشاكل, وقديما فيل من لم يقبل نصيحة اخوانه عاد ضرره عليه كالمريض الذي يترك مايصف له الطبيب ويعمد إلى ما يشتهيه فيهلك, فمن اعرض عن الحكماء واستخف بنصيحة العلماء ضل فالحزم الاخذ بالنصيحة, والبعد عن العجب الذي يؤدي إلى الهلكة والفضيحة, وفي الامثال السائرة: من اتم النصح الإشارة بالصلح, فمن استغنى بعقله ضل, ومن اكتفى برايه زل, والعاقل يلوم نفسه ولا يعجب برايه بل

الغش في النصيحة

يصلح من اعماله قبل ان يلومه صديق ناصح او عدو كاشح, فمن اصلح نفسه صلح له اخوانه وكان الناس تبعا له, وقديما قيل: اربعة تدل على صحة الراي: طول الفكر, وحفظ السر, وفرط الاهجتهاد, وترك الاستبداد (¬1) ,وقال الشاعر: اذا نصحت لذي عجب لترشده ... فلم يطعك فلا تنصح له أبدا فإن ذا العجب لا يعطيك طاعته ... ولا يجيب إلى ارشاده احدا الغش في النصيحة الغش في النصيحة خيانة, وتضييع للأمانه, ولكن قد يستغش الناصح ولايصغى إلى نصيحة الرجل الصالح, وقديما قيل: وقد يستغش المرء من لايغشه, ويقبل نصيحة عدوه: قال محمد بن زنجي البغدادي الشاعر: فكم من عدو معلن لك نصحه ... علانية والغش تحت الاضالع وكم من صديق مرشد قد عصيته ... فكنت له في الرشد غير مطاوع وما الأمر إلا بالعواقب إنها ... سيبدو عليها كل سر وذائع واما ابن المقرب فهو يقول: وَمَن يَستَمِع في قَومِهِ قَولَ كاشِحٍ ... أُصيبَت كَما شاءَ المُعادي مَقاتِلُه وَما كُلُّ مَن يُبدي المَوَدَّةَ ناصِاً ... كَما لَيسَ كُلُّ البَرقِ يَصدُقُ خائِلُه (¬2) ¬

_ (¬1) - الفرائد والقلائد ص71. (¬2) - هذان البيتان لابن المقرّب العيوني572 - 629 هـ / 1176 - 1231م علي بن المقرب من منصور بن المقرب بن الحسن بن عزيز بن ضبّار الربعي العيوني جمال الدين أبو عبد الله. شاعر مجيد، من بيت إمارة، نسبته إلى العيون (موضع بالبحرين) وهو من أهل الأحساء في السعودية، أضطهده أميرها أبو المنصور علي بن عبد الله بن علي وكان من أقاربه، فأخذ أمواله وسجنه مدة. ثم أفرج عنه فأقام على مضض، ورحل إلى العراق، فمكث في بغداد أشهراً، وعاد فنزل هجر ثم في القطيف، واستقر ثانية في الأحساء محاولاً استرداد أمواله وأملاكه ولم يفلح. وزار الموصل سنة 617هـ، للقاء الملك الأشرف ابن العادل، فلما وصلها كان الأشرف قد برحها لمحاربة الإفرنج في دمياط. واجتمع به في الموصل ياقوت الحموي، وروى عنه بيتين من شعره، وذكر أنه مدح بالموصل بدر الدين - لؤلؤاً - وغيره من الأعيان.

احذر نصائح الشيطان فانها غش وبهتان

احذر نصائح الشيطان فانها غش وبهتان احذر اخي تلبيس الشيطان وغشه فربما خدعك بزعم النصيحة واوقعك في البلاء والفضيحة, وسيرك الى مستنقعات الرذيلة, فاحذر نصائحه فانها غش وتدليس, فلا تتبع خطوات ابليس, واستعذ بالله من وسوسته واتباع خطواته, ألا تراى غشه لأبينا ادم وأُمِّنا حواء بقصد ابداء سوآتهما واخراجهما من الجنة, فغشهما في نصحه وقسَمِه انه لهما من الناصحين مين وبهتان, فلا تركن إلى تزيينه, ولا تنخدع بسراب كذبه في نصحه فانها الخديعة, وتدبر قول العزيزالحكيم: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ *فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} (¬1) النصيحة لله ولكتابه ولرسوله وأئمة المسلمين وعامتهم ¬

_ (¬1) - سورة الاعراف الايات (19الى22) .

ان الاخلاص لله بالقول والعمل نصح ودين, فناصح العمل خالصه, وفي غريب القران: النصح تحري فعل او قول فيه صلاح لصاحبه: {وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} (¬1) وقد جاء في حديث تميم الداري رضي الله عنه يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (الدِّينُ النَّصِيحَةُ قُلْنَا لِمَنْ قَالَ لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ) (¬2) قال الخطابي: النصيحة كلمة جامعة معناها: حيازة المنصوح له. وهي من وجيز الكلام, بل ليس في الكلام كلمة مفردة تستوفى بها العبارة عن معنى هذه الكلمة. وهذا الحديث من الاحاديث التي قيل فيها انها احد ارباع الدين. وقال النووي: بل وحده محصل لفرض الدين كله, لانه منحصر في الامور التي ذكرها, فالنصيحة لله وصفه بما هو له أهل, والخضوع له ظاهرا وباطنا, والرغبة في محابِّه بفعل طاعته والرهبة من مساخطه بترك معاصيه والجهاد في رد العاصين له. وروى الثوري عن عبد العزيز بن رفيع عن ابي ثمامه صاحب علي قال: قال الحواريون لعيسى عليه السلام: ياروح الله من الناصح لله؟ قال: الذي يقدم حق الله على حق الناصح. والنصيحة لكتاب الله تعلمه وتعليمه واقامة حروفه في التلاوة وتحريرها في الكتابة وتعلم معانيه وحفظ حدوده والعمل بما فيه وذب تحريف المبطلين عنه. والنصيحة لرسوله تعظيمه ونصره حيا وميتا واحياء سنته بتعلمها وتعليمها والاقتداء به في اقواله وافعاله ومحبة اتباعه. ¬

_ (¬1) - سورة الاعراف الايات (79) . (¬2) - اخرج مسلم حديث رقم (82) .

والنصيحة لآئمة المسلمين اعانتهم على ماحملوا القيام به وتنبيههم عند الغفلة وسد خلتهم عند الهفوة وجمع الكلمة عليهم ورد القلوب النافرة اليهم, ومن اعظم نصيحتهم دفعهم عن الظلم بالتي هي احسن, ومن جمله أئمة المسلمين أئمة الاجتهاد وتقع النصيحة لهم ببث علومهم ونشر مناقبهم وتحسين الظن بهم. والنصيحة لعامة المسلمين الشفقة عليهم والسعي فيما يعود نفعه عليهم وتعليمهم ماينفعهم وكف وجوه الاذى عنهم, وان يحب لهم ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه (¬1) . وفي الحديث فوائد اخرى يطول شرحها منها ان الدين يطلق على النصيحة لكونه سمى النصيحة دينا, وقد ورد عند الترمذي من حديث ابي هريرة بالتكرار (الدِّينُ النَّصِيحَةُ ثَلَاثَ مِرَارٍ) (¬2) وذلك فيه تعظيم لشأن النصيحة. قال الشاعر: وقم بالنصح ان النصح دين ... به تجزى الجزيل من العطاء فقد اوصى النبي به ثلاثا ... فقدمه لدى كشف الغطاء وجاء في حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه: (بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ) (¬3) قال في الفتح: التقييد بالمسلم للاغلب وإلا فالنصح للكافر معتبر بأن يدعى إلى الإسلام ويشار عليه بالصواب إذا استشار (¬4) , فاحرص اخي على بذل النصيحة تكن ¬

_ (¬1) - مشار الى ذلك في هامش الترغيب والترهيب للمنذري, ج2 ص576. (¬2) - اخرجه الترمذي في سسنه باب ما جاء في النصيحة حديث رقم (1849) . (¬3) - اخرجه البخاري حديث رقم (55) ومسلم حديث رقم (83) . (¬4) - فتح الباري ج1 ص140.

مصلحا رشيدا, فأنت حينما تستجيب لامر الله وتقبل على تطبيق منهج الله تفوز بتعلم علم العليم وقدرة القدير ورحمة الرحيم وحكمة الحكيم, فأسعد انسان هو الذي يبحث عن منهج الله ليطبقه في حياته ليكون سعيدا رشيدا مستقيما, قال العلماء: الرشد هو النصح والاستقامة, والرشد خلاف الغي والضلال, اما الاستقامة فهي تعني: ان تتحرك تحركا صحيحا, ان تصل إلى قصدك النبيل باسلم الطرق والا تحيد عن الحق, وانت حينما تتصل بالله تطهر نفسك من كل ادرانها فلا تحقد ولا تتكبر ولا تبخل بالنصيحة فأنت رشيد, لأنك تسير على صراط مستقيم تتصل بالله وتعلم انك بالنصيحة تفوز بالدنيا والاخرة تنصح لله ولكتابه ولرسوله وللائمة المسلمين وعامتهم, انك بالنصيحة والحكمة تصلح الزوجة الفاسده, وتعلم أبناءك الفرائض والسنن, وانك بالحمق تفسد الزوجة الصالحة وتهلك وتضيع الاولاد النجباء, وانك بالنصيحة بجميل الكلام وطيبه تصلح الاخوان وتكسبهم وتحافظ على الفرائض والسنن وتسعد في الدنيا والاخرة, فأنت تعلم ان الله رشيد ارشدنا الى طاعته وعبادته وارشد الخلائق إلى هدايته ذو الحبل الشديد, والامر الرشيد فاذا كنت مع الله الرشيد فلن تضل ابدا وفي الذكر الحكيم: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} (¬1) . ¬

_ (¬1) - سورة الكهف الاية (17) .

الرشيد من اسماء الله الحسنى

الرشيد من اسماء الله الحسنى اسم الله الرشيد اشار اليه التنزيل فقال: {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} (¬1) وقال: {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} (¬2) وجاء في السنة النبوية في حديث ابي هريرة عند الترمذي: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً غَيْرَ وَاحِدٍ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) وعد منها: (الرشيد) (¬3) قال الحليمي: الرشيد هو المرشد وهذا مما يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم يعني في خبر الأسامي ومعناه الدال على المصالح والداعي إليها، وهذا من قوله عز وجل. {وهيئ لنا من أمرنا رشدا} فإن مهيئ الرشد مرشد وقال تعالى: {ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا} فكان ذلك دليلا على أن من هداه فهو وليه ومرشده (¬4) . وقال الدكتور محمد راتب النابلسي: من اسماء الله الحسنى الرشيد. صيغة الرشيد فعيل , وصيغة فعيل في علم الصرف تعني المبالغة فهناك اسم فاعل, وهناك اسم فاعل مبالغ فيه. تقول مثلا: صادق: اسم فاعل, وصدوق اي كثير الصدق, فهذا مبالغة اسم فاعل, بوزن فعول اما الاسم (الرشيد) فهو على وزن فعيل, وماذا يعني اسم المبالغة في حق ذات الله عز وجل؟ يعني شيئين. فهو يعني عددا ونوعا.. فكل افعال الله عز وجل رشيدة هذا عدد, والرشيد , اذا وصف الله بهذا الوصف فهو الرشد المطلق (هذا نوع) فالله عز وجل مطلق, ¬

_ (¬1) - سورة الكهف الاية (10) . (¬2) - سورة الكهف الاية (17) . (¬3) - باب ماجاء في عقد التسبيح باليد حديث رقم (3429) . (¬4) - الاسماء والصفات للبيهقي ص (201-202) .

فعلمه مطلق, قدرته مطلقة, يجب ان تعلم علم اليقين ان الله سبحانه وتعالى في كل اسمائه وصفاته مطلق (¬1) . والرشد قد يكون وصفا ذاتيا الله تعالى وقد يكون فعليا اما كونه ذاتيا فراجع إلى العلم والارادة؛ لأن الرشد في اللسان يقع على العاِلم بما يقدم ويؤخر فيتصف الله به من طريق كمال علمه واتقان صنعه ووجود العالم منه على النظام الجميل, والذي هو عليه على مقتضى علمه الرشيد, واما كونه من صفات السلب فهو بمعنى تعاليه عن السفه وصفات النقص التي تشوب المخلوق, اذا عدم الرشد في العلم والعمل, واما كونه من اصفات الافعال فيكون فعيل بمعنى مفعل (¬2) . والذي يتضح من هذا العرض ان اسم الله رشيد ياتي بمعنى راشد اي حكيم في كل اقواله وافعاله وتدبيره لشؤن الخلق حكيم في كل شيئ, وذاك مايدل على كمال علمه واتقان صنعه وعظيم قدرته. وياتي بمعنى مرشد اي يرشد عباده إلى الصواب والى طريق الحق والى الدين المستقيم والى المصالح التي ينتظم بها شؤن خلقه جل وعلا. ولا خلاف في جواز اجرائه على العبد بغير خلاف قال سبحانه وتعالى مخبرا عن قوم شعيب: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} (¬3) وقال سبحانه {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} (¬4) ثمرة معرفة اسم الله الرشيد ¬

_ (¬1) - موسوعة اسماء لله الحسنى ج3 ص (201) . (¬2) - الجامع لاسماء الله الحسنى ص (133) . (¬3) - سورة النساء الاية (6) . (¬4) - سورة هود الاية (87) .

اذا علم المكلف ان الله سبحانه وتعالى هو الرشيد المرشد الراشد على الاطلاق في جميع الامور, وانه ارشد الخلق إلى طريق الحق والى المصالح التي ينتظم بها وجودهم والى كل مايحتاجون اليه وجب عليه ان يؤمن به لأنه هو الذي ارشده إلى الايمان به والى منهج العدل والى الدين القيم بما انزله في القرآن الحكيم, وان يحسن معاملة مولاه بما امره به ونهاه عنه, لأن في ذلك غاية الرشد, دل على ذلك قوله صلى الله علية وآله وسلم: (مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ وَلَا يَضُرُّ اللَّهَ شَيْئًا) (¬1) فقد بين صلى الله عليه وآله وسلم ان الرشد في طاعة الله, والغي في معصيته, فعلى المؤمن ان يرشد عباد الله إلى طاعة الله وعبادته, وان يخلص لهم النصيحة في ذلك, ويحذرهم حبائل العصيان, واتباع خطوات الشيطان, فالرشيد الذي يرشد الناس إلى طاعة الله, ويعلم ان الله جل وعلا اسعده بارشاده, وارشده إلى دينه وكتابه, وارشده إلى محبته ومحبة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم, فالانسان اذا اتصف بهذه الصفات وكان متبعا لهدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مستقيما في اخلاقه وسلوكه كان رشيدا, ونال من الله حظا مجيدا, ولله سبحانه وتعالى عليه في هذه المنة والفضل, وقد امتن الله على ابراهيم عليه السلام من قبل, فقال سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} (¬2) فاذا كنت اخي مع الله الرشيد, فستكون سعيدا رشيدا, فالله جل وعلا هو الذي الهم ¬

_ (¬1) - اخرجه ابي داود في سننه باب الرجل يخطب على قوس حديث رقم (925) . (¬2) - سورة الانبياء الاية (51) .

دعاء الله باسمه الرشيد

أهل الرشد إلى طاعته, وهو الذي ارشد الخلائق إلى هدايته, فانظر إلى الفتية الذين امنوا بربهم وسالوه الرحمة والرشاد, كما حكى الله عنهم ذلك في محكم الكتاب فقال: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} (¬1) والرشيد من الناس من اخلص الطاعة لله, والغني من اثر القناعة, فاغتنم عمرك في طاعة ربك قبل ان يذهب شبابك وتنقضي اوقاتك, قال الشاعر: مَضى مِن شَبابِكَ ما قَد مَضى ... فَلا تُكثِرَنَّ عَلَيه البُكا وَشَعَّلَ شَيبُكَ مِصباحَهُ ... وَلَستَ الرَشيدَ أَما قَد تَرى (¬2) دعاء الله باسمه الرشيد ياالله ياحكم يارشيد ارشدني والمؤمنين إلى أحب الأعمال اليك والى كل اسم قد عظم لديك واعني ياالله يارشيد إلي الوقوف ببابك الكريم والعكوف بين يديك, وارشدني إلى كل عمل يقربني اليك وأسعدني بإرشادك واهدني إلى كل عمل ينفعني وينفع عبادك, وأبعدني والمؤمنين عن الغي والمهالك, (اللَّهُمَّ ذَا الْحَبْلِ الشَّدِيدِ وَالْأَمْرِ الرَّشِيدِ أَسْأَلُكَ الْأَمْنَ يَوْمَ الْوَعِيدِ وَالْجَنَّةَ يَوْمَ الْخُلُودِ مَعَ الْمُقَرَّبِينَ الشُّهُودِ الرُّكَّعِ السُّجُودِ الْمُوفِينَ بِالْعُهُودِ إِنَّكَ رَحِيمٌ وَدُودٌ وَأَنْتَ تَفْعَلُ مَا تُرِيدُ اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا هَادِينَ مُهْتَدِينَ غَيْرَ ضَالِّينَ وَلَا مُضِلِّينَ سِلْمًا لِأَوْلِيَائِكَ وَعَدُوًّا لِأَعْدَائِكَ, نُحِبُّ بِحُبِّكَ مَنْ أَحَبَّكَ وَنُعَادِي بِعَدَاوَتِكَ مَنْ خَالَفَكَ, اللَّهُمَّ ¬

_ (¬1) - سورة الكهف الاية (10) . (¬2) - هذان البيتان لابن المعتز.

هَذَا الدُّعَاءُ وَعَلَيْكَ الْإِجَابَةُ وَهَذَا الْجُهْدُ وَعَلَيْكَ التُّكْلَانُ, اللَّهُمَّ اجْعَلْ لِي نُورًا فِي قَلْبِي وَنُورًا فِي قَبْرِي وَنُورًا مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَنُورًا مِنْ خَلْفِي وَنُورًا عَنْ يَمِينِي وَنُورًا عَنْ شِمَالِي وَنُورًا مِنْ فَوْقِي وَنُورًا مِنْ تَحْتِي وَنُورًا فِي سَمْعِي وَنُورًا فِي بَصَرِي وَنُورًا فِي شَعْرِي وَنُورًا فِي بَشَرِي وَنُورًا فِي لَحْمِي وَنُورًا فِي دَمِي وَنُورًا فِي عِظَامِي, اللَّهُمَّ أَعْظِمْ لِي نُورًا وَأَعْطِنِي نُورًا وَاجْعَلْ لِي نُورًا, سُبْحَانَ الَّذِي تَعَطَّفَ الْعِزَّ وَقَالَ بِهِ سُبْحَانَ الَّذِي لَبِسَ الْمَجْدَ وَتَكَرَّمَ بِهِ, سُبْحَانَ الَّذِي لَا يَنْبَغِي التَّسْبِيحُ إِلَّا لَهُ, سُبْحَانَ ذِي الْفَضْلِ وَالنِّعَمِ, سُبْحَانَ ذِي الْمَجْدِ وَالْكَرَمِ, سُبْحَانَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) (¬1) وصلى الله على محمد وآله وصحبه والتابعين له باحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا يا ارحم الراحمين. ¬

_ (¬1) - سنن الترمذي حديث رقم (3341) .

الفصل الثالث والثلاثون التقوى

الفصل الثالث والثلاثون التقوى

التقوى

التقوى التقوى ان يجعل العبد بينه وبين مايخافه ويحذره وقاية تقيه منه. فتقوى العبد لله ان يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك, وهي امتثال اوامره واجتناب نواهيه. ويدخل في التقوى الكامله فعل الواجبات وترك المحرمات والشبهات, وربما دخل فيها بعد ذلك فعل المندوبات وترك المكرهات وهي اعلا درجات التقوى (¬1) , وفي الذكر الحكيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬2) وفي السنة النبوية: (اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ) (¬3) وقال ابو العتاهية: إِذا المَرءُ لَم يَلبَس ثِياباً مِنَ التُقى ... تَقَلَّبَ عُرياناً وَإِن كانَ كاسِيا وله ايضا: وَإِذا بَحَثتُ عَنِ التَقِيِّ وَجَدتُهُ ... رَجُلاً يُصَدِّقُ قَولَهُ بِفِعالِ وَإِذا اِتَّقى اللَهَ اِمرُؤٌ وَأَطاعَهُ ... فَتَراهُ بَينَ مَكارِمٍ وَمَعالِ وعَلى التَقِيِّ إِذا تَرَسَّخَ في التُقى ... تاجانِ تاجُ سَكينَةٍ وَجَلالِ وقال اخر: وخير لباس المرء طاعة ربه ... ولا خير فيمن كان لله عاصيا ¬

_ (¬1) - دليل السائلين ص112. (¬2) - سورة آل عمران الاية (102) . (¬3) - سنن الترمذي حديث رقم (1910) .

التقوى فضيلة

واما امية ابن أبي الصلت فهو يقول: وَحَلَّ المُتَّقونَ بِدارِ صِدقٍ ... وَعَيشٍ ناعِمٍ تَحتَ الظِلالِ لَهُم ما يَشتَهونَ وَما تَمَنّوا ... مِنَ الأَفراحِ فيها وَالكَمالِ التقوى فضيلة التقوى فضيلة اراد بها القرآن احكام ما بين الانسان والخلق, واحكام ما بين الانسان وخالقة, ولذلك تدور هذه الكلمة ومشتقاتها في اكثر ايات القرآن الاخلاقية والاجتماعية, والمراد بها ان يتقي الانسان ما يغضب ربه وما فيه ضرر لنفسه او اضرار بغيره, الا ترى ان كلمة التقوى في اصل معناها جعل النفس في وقاية, ولا تجعل النفس في وقاية الا بالنسبة فيما يخاف, فخوف الله اصلها, والخوف يستدعي العلم بالمخوف, ومن هنا كان الذي يعلم الله هوالذي يخشاه, وكان الذي يخشاه هو الذي يتقيه, فالمتقون هم الذين يقون انفسهم عذاب الله وسخطه في الدنيا والأخرة, وذلك بالوقوف عند حدوده وامتثال اوامره واجتناب نواهيه, وهو لايامر الا بما فيه خير للانسانية, ولا ينهى الا عما يضرها (¬1) , فخشية الله والتقوى توأمان لايصل الانسان إلى السعادة الا بهما, فلولا التقوى والخشية من الله لاسترسل الإنسان في شروره, وانكب على شهواته, واضاع حياته, فخشية الله المقرونة بالتقوى تربي الضمير الانساني وتجعله متحليا بالاخلاق الفاضلة كريما شجاعا بعيدا عن الرذائل, يحافظ على حق الله وحق عباده, وفي ¬

_ (¬1) - روح الدين الاسلامي ص211.

صفة التقوى والمتقين عند العلماء

الذكر الحكيم على ذلك دليل وشاهد, قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (¬1) وفي امثال العرب: "السعيد من اتقى الله" قال الشاعر: ولست ارى السعادة جمع مال ... ولكن التقي هو السعيد (¬2) وقال اخر: إِذا ما خَلَوتَ الدَهرَ يَوماً فَلا تَقُل ... خَلَوتُ وَلَكِن قُل عَلَيَّ رَقيبُ وَلا تَحسَبَنَّ اللَهَ يَغفَلُ ساعَةً ... وَلا أَنَّ ما يَخفى عَلَيكَ يَغيبُ (¬3) صفة التقوى والمتقين عند العلماء قال الامام علي بن ابي طالب: التقوى هي الخوف من الجليل, والعمل بالتنزيل, والرضا بالقليل, والاستعداد ليوم الرحيل, وقال ابن عباس رضي الله عنهما: المتقون الذين يحذرون من الله عقوبته, ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به, وقال ابوهريريرة رضي الله عنه: حينما سئل عن التقوى: هل اخذت طريقا ذا شوك؟ قال: نعم, قال فكيف صنعت؟ قال اذا رايت الشوك عزلت عنه او جاوزته او قصرت عنه, قال ذاك التقوى. وقال الحسن رحمه الله: ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرا من الحلال مخافة الحرام. وكان ابوبكر الصديق رضي الله عنه يقول في خطبته: اما بعد فاني اوصيكم بتقوى الله, وان تثنو عليه بما هو اهله, وان تخلطوا الرغبة بالرهبة, ¬

_ (¬1) - سورة النور الآية (52) . (¬2) - نسب هذا البيت للحطيئة في الموسوعة الشعرية. (¬3) - ينسب هذان البيتان لأبي العتاهية, وتنسب ايضا للحسن الاباضي, ولابي نواس, ولصالح بن عبد القدوس, والله اعلم.

التقوى في القرآن الحكيم

وتجمعوا الالحاف بالمساله فان الله عز وجل أثنى على زكريا واهل بيته فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (¬1) ولله در القائل: مَنْ يَتَّقِ الله يُحْمَد في عَواقِبِه ... وَيكفِهِ شَرَّ مَنْ عزُّوا ومَنْ هانوا واشدُدْ يَدْيكَ بحَبلِ الدِّينِ مُعتَصِماً ... فإنَّهُ الرُّكْنُ إنْ خانَتْكَ أركانُ مَنِ استعانَ بغَيرِ اللهِ في طَلَبٍ ... فإنَّ ناصِرَهُ عَجزٌ وخِذْلانُ (¬2) التقوى في القرآن الحكيم لقد وصف القرآن التقوى بانها صيانة النفس عن كل مايضر ويؤذي, والابتعاد عن كل مايحول بين الانسان والغايات النبيلة التي بها كماله في جسمه وروحه, ولهذا وصف الله المتقين بانهم الذين تحلوا بالفضائل الإنسانية الحقة (¬3) ففي القرآن الحكيم يقول الرب العظيم: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (¬4) فالمتصفون بهذه الصفات السامية هم الذي وصفهم الله بصفة ¬

_ (¬1) - سورة الانبياء الاية (90) . (¬2) - هذه الابيات لابي فتح البستي. (¬3) - الروح الانساني ص 211. (¬4) - سورة البقرة الاية (177) .

ثمرات التقوى

التقوى, وابان صدق ايمانهم, وعلو مقامهم, ومما لاريب فيه ان المتقين يتحلون بخلال حميدة, واخلاق كريمة, اشار اليها القرآن في اكثر من آية. فالعدل واحد من اغلا واسمى مقومات الحياة من التقوى قال تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (¬1) والعفو خلق كريم, وسلوك مستقيم من التقوى, قال تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (¬2) والاستقامة مع الاعداء هي من التقوى قال تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (¬3) وللتقوى ثمار طيبة, ولو ان العالم عرف التقوى لانطفأت ثورة الشر وساد السلام في ربوعه, وهل ينال الرحمة ويظفر بالحكمة, ويحظى بالثواب العظيم, ويفوز بجنة النعيم إلا أهل الايمان والتقوى, وفي الذكر الحكيم: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (¬4) ثمرات التقوى ان من ثمار الايمان والتقوى نيل رحمة الله والامن من الخوف يوم القيامة, قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬5) . ومن ثمرات التقوى البشرى بان يكون الله مع المتقين يعينهم وينصرهم ويحفظهم ويرزقهم, قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (¬6) . ومن ثمرات التقوى ايضا تنوير البصيرة بالعلم والحكمة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (¬7) فالفرقان ما يفرق بين شيئين ملتبسين او اشياء مشتبهة, فثمرة التقوى هي نور البصيرة الذي يفرق بين الحق والباطل, واختيار طريق النجاة ومن ثمرات التقوى البشرى بتكفير الذنوب, وحصول عظيم الاجر, قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} (¬8) . ومن ثمرات التقوى نيل رحمة الله والفوز بنوره وتوفيقه قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} (¬9) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ¬

_ (¬1) - سورة البقرة الاية (177) . (¬2) - سورة البقرة الاية (237) . (¬3) - سورة التوبة الاية (7) . (¬4) - سورة آل عمران الاية (15) . (¬5) - سورة يونس الايات (62الى 64) . (¬6) - سورة النحل الاية (128) . (¬7) - سورة الانفال الاية (29) . (¬8) - سورة الطلاق الاية (5) . (¬9) - سورة الاعراف الاية (156) .

آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬1) . فالتقوى قوة وعفاف, واستقامة واخلاص, وبالتقوى يحافظ الانسان على الفرائض والواجبات, ويبتعد عن المحرمات, وبالتقوى تستقيم النفوس, وتوصل الأرحام, ويفتح الله على المتقين ابواب الخيرات, وينزل عليهم البركات, وفي الذكر الحكيم: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬2) . فأهل التقوى في امان وايمان, وراحة واطمئنان, قلوبهم طاهرة وامورهم ميسرة, ومن ثمرات التقوى اليسر والسهولة في امور المتقين, فقد بشرهم الله بقوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (¬3) . اذا كان القلق والغم الذي يصيب الانسان يسبب له الاحباط فان المتقين قد بشرهم الله بالخروج من المحن التي تسبب الهم والغم, والقلق والاضطراب, ووعدهم بالرزق والخروج من المحن. ¬

_ (¬1) - سورة الحديد الاية (28) . (¬2) - سورة الاعراف الاية (96) . (¬3) - سورة الطلاق الاية (4) .

المتقون يستشعرون عظمة الله ويدركون رقابته

ومن ثمرات التقوى البشرى بالخروج من الغم والمحن, وحصول الرزق الواسع والنعم, قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (¬1) . ومن ثمرات التقوى ان المتقين يتقبل الله اعمالهم, ويصلح احوالهم, وينجيهم الله من العذاب, قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (¬2) وقال تعالى: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬3) فاحرص اخي على التقوى فانها افضل عدة, وخير زاد, يقضي على الفساد, ويوصلك إلى المراد, قال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (¬4) وفي الامثال السائرة: (اوثق العرى كلمة التقوى) . وقديما قيل: (التقوى رئيس الاخلاق) و (التقوى هي العدة الوافية والجُنة الواقية) (¬5) قال الشاعر: مَوتُ التَّقيِّ حياةٌ لا انقِطَاعَ لها ... قد مات قَومٌ وَهُم في النَّاسِ أحيَاءُ (¬6) وقال اخر: لا شي اعلى من التقوى وصحبتها ... ان التقي عزيز حيث ماكانا اما الاعشى فهو يقول: إِذا أَنتَ لَم تَرحَل بِزادٍ مِنَ التُقى ... وَلاقَيتَ بَعدَ المَوتِ مَن قَد تَزَوَّدا نَدِمتَ عَلى أَن لا تَكونَ كَمِثلِهِ ... وَأَنَّكَ لَم تُرصِد لِما كانَ أَرصَدا (¬7) المتقون يستشعرون عظمة الله ويدركون رقابته من عرف الله عظمه, وخاف رقابته, فاذا تمكن المرء لمعرفة الله وحده في اسمائه وصفاته خافه, واتقاه في امور دينه ودنياه, وبلغ درجة المتقين قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬8) فالمراقبة لله تجعل الانسان من المتقين, والعلماء يرون ان المراقبة لله حال يصير العبد فيها ذاكراً لله بقلبه ان شغل لسانه, لان الله مطلع عليه دائما, وشعور العبد ان الله مطلع عليه سمو وارتقاء, وخوف ورجاء, وتعظيم لخالق جميع الاشياء, وخضوع وتوحيد, وورع وتقوى, فلتكن اخي من أهل التقوى تكن سعيدا, وتعرف على اسماء الله الحسنى وصفاته العلى تكن رشيدا, وتفهم معنا اسم الله الرقيب الشهيد, فهو الحافظ الذي لايغيب, والموفق لكل امر سديد, وفي الحديث النبوي الشريف: (إن أفضل إيمان العبد أن يعلم العبد أن الله معه حيثما كان) (¬9) وفي الذكر الحكيم: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ ¬

_ (¬1) - سورة الطلاق الايتان (2و3) . (¬2) - سورة المائدة الاية (27) . (¬3) - سورة الزمر الاية (197) . (¬4) - سورة الزمر الاية (61) . (¬5) - كنوز الامثال ص 351. (¬6) - هذا البيت لسابق بن عبد الله البربري. (¬7) - ونسب هذان البيتان ايضا لسابق بن عبد الله البربري, والله سبحانه اعلم. (¬8) - سورة النساء الاية (1) . (¬9) - اخرجه السيوطي في جمع الجوامع حديث رقم (885) , واورده علا الدين المتقي في كنز العمال حديث رقم (1340) وعزياه الى الحكيم عن عبادة بن الصامت, وقال الهيثمي في مجمع الزوايد, رواه الطبراني في الاوسط والكبير وقال: تفرد به عثمان بن كثير: ولم أر من ذكره بثقة ولا جرح. ورواه ايضا الحكيم في نوادر الاصول, والبيهقي في الاسماء والصفات وابونعيم في الحلية وقال غريب من حديث عروة.

الرقيب الشهيد من اسماء الله الحسنى

مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (¬1) الرقيب الشهيد من اسماء الله الحسنى اسم الله الرقيب ورد ذكره في القرآن في ثلاثة مواطن في سورة النساء والمائدة والاحزاب ففي فاتحة سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬2) وفي سورة المائدة يقول الله سبحانه: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (¬3) وفي سورة الاحزاب يقول الحق سبحانه وتعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} (¬4) والرقيب اسم من اسماء الله الحسنى يعني انه سبحانه وتعالى المطلع على ما اكنته الصدور, القائم على كل نفس بما كسبت, الحافظ للمخلوقات المراقب لجميع احوال الانسان والمطلع على ¬

_ (¬1) - سورة يونس الاية (61) . (¬2) - سورة النساء الاية (1) . (¬3) - سورة المائدة الاية (117) . (¬4) - سورة الاحزاب الاية (52) .

سرائره, الشهيد على كل شي, اما اسم الله الشهيد فقد ورد في القرآن في اكثر من موضع منها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (¬1) وقوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (¬2) وقوله تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} (¬3) ويعني اسم الله الشهيد انه المطلع على كل شي, فهو يشهد على كل شي اذ لايخفى عليه شي, وقد قال بعض العلماء ان الرقيب من اسماء الله الحسنى واسمه جل وعلا الشهيد مترادفان. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى: (الرقيب) و (الشهيد) مترادفان، وكلامها يدلُّ على إحاطة سمع الله بالمسموعات، وبصره بالمبصرات، وعلمه بجميع المعلومات الجلية والخفية، وهو الرقيب على ما دار في الخواطر، وما تحركت به اللواحظ، ومن باب أولى الأفعال الظاهرة بالأركان، قال تعالى: {إن الله كان عليكم رقيباً} (¬4) {والله على كل شيء شهيد} (¬5) ولهذا كانت المراقبة التي هي من أعلى أعمال القلوب هي التعبد لله باسمه الرقيب الشهيد، فمتى علم العبد أنَّ حركاته الظاهرة والباطنة قد أحاط الله بعلمها، واستحضر هذا العلم في كل أحواله، أوجب له ذلك ¬

_ (¬1) - سورة الحج الاية (17) . (¬2) - سورة المجادلة الاية (6) . (¬3) - سورة الاسراء الاية (96) . (¬4) - سورة النساء الاية (1) . (¬5) - سورة المجادلة الاية (6) .

ثمرة معرفة اسم الله الرقيب, الشهيد

حراسة باطنة عن كل فكر وهاجس يبغضه الله، وحفظ ظاهره عن كل قول أو فعل يسخط الله، وتعبَّد بمقام الإحسان فعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه، فإن الله يراه (¬1) . فإذا الله كان رقيباً على دقائق الخفيات، مطلعاً على السرائر والنيات، كان من باب أولى شهيداً على الظواهر والجليات، وهي الأفعال التي تفعل بالأركان أي الجوارح (¬2) . ثمرة معرفة اسم الله الرقيب, الشهيد اذا عرف المكلف ان الله سبحانه وتعالى رقيب عليه وعلى كل مخلوق, وأنه المطلع على الضمائر, الشاهد على السرائر الذي يعلم ويرى, ولا يخفى عليه السر والنجوى, وانه على كل شي شهيد عليم, وجب عليه ان يؤمن به, قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (¬3) فمن اللوازم القطعية للايمان باسم الله الرقيب الشهيد الاستقامة, فمن صح علمه بان الله عليه رقيب شهيدلم يفن عمره في البطاله, ولم ينفق اوقاته في الغفلات, بل يصل اوقاته في طاعة الله ليله ونهاره, وجهده بكده في احساسه, واختلاف انفاسه, فمن راقب الله في سره وجهره واتقاه في امره ونهيه, اوصله ذلك إلى الصراط المستقيم, فهو يحب الاّيراه الله الا فيما يحب ¬

_ (¬1) - الحق الواضح المبين ص (58و59) . (¬2) - شرح القصيدة اللنونية للهراس 2/88. (¬3) - سورة ق الاية (16) .

سبحانه, قال ابن القيم: المراقبة دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه. فاستدامته لهذا العلم واليقين هي المراقبة, وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه رقيب عليه ناظر إليه سامع لقوله وهو مطلع على عمله كل وقت وكل لحظة وكل نَفَس وكل طرفة عين والغافل عن هذا بمعزل عن حال أهل البدايات فكيف بحال المريدين فكيف بحال العارفين قال الجريري: من لم يحكم بينه وبين الله تعالى التقوى والمراقبة؛ لم يصل إلى الكشف والمشاهدة وقيل: من راقب الله في خواطره عصمه في حركات جوارحه (¬1) . فالزم التقوى تفز في الدنيا والاخرة, ولا تنس ان الله شهيد عليك رقيب على كل اقوالك وافعالك واقوالك. ورحم الله الشافعي حيث يقول: إِنَّ لِلَّهِ عِباداً فُطَنا ... تَرَكوا الدُنيا وَخافوا الفِتَنا نَظَروا فيها فَلَمّا عَلِموا ... أَنَّها لَيسَت لِحَيٍّ وَطَنا جَعَلوها لُجَّةً وَاِتَّخَذوا ... صالِحَ الأَعمالِ فيها سُفُنا وقال اخر: وَلا تَحسَبَنَّ اللَهَ يَغفَلُ ساعَةً ... وَلا أَنَّ ما يَخفى عَلَيكَ يَغيبُ إِذا ما خَلَوتَ الدَهرَ يَوماً فَلا تَقُل ... خَلَوتُ وَلَكِن قُل عَلَيَّ رَقيبُ (¬2) ¬

_ (¬1) - مدارج السالكين ج2ص65. (¬2) - ينسب هذان البيتان لأبي العتاهية, وتنسب ايضا للحسن الاباضي, ولابي نواس, ولصالح بن عبد القدوس, والله اعلم.

دعاء الله باسمه الرقيب, الشهيد

دعاء الله باسمه الرقيب, الشهيد ياالله يارقيب ياشهيد يامن هو على كل شي شهيد, ومن كل شي قريب ياالله يا رقيب ياشهيد علمك في البعيد كالقريب وفقني إلى كل مايرضيك ... من العمل والقول السديد, واستر ما علمت مني من قول او عمل معيب, وجنبني المعاصي وكل عمل مريب ياالله يارقيب ياشهيد, شهدت ما خلقت قبل ان تخلقهم فتغمد ماشهدت مني ومنهم وثبتني على الايمان واهدني إلى ماتحب من القول والعمل الرشيد واحفظني والمؤمنين من الشيطان وعمله, انك على كل شي شهيد وتوفني مسلما, والحقني بالصالحين, واغفرلي ولوالدي, وللمؤمنين, ياالله يارقيب ياشهيد يامجيب, وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه, ومن اتبع هداه كما صليت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم في العالمين انك حميد مجيد

الفصل الرابع والثلاثون الحياء

الفصل الرابع والثلاثون الحياء

الحياء

الحياء الحياء خلق يبعث على ترك القبيح, ويمنع من اتباع الهوا والتقصير في حق ذي الحق, ومن تخلق بالحياء صان عرضه, ودفن مساوئه, ونشر محاسنه, ومن قل حياؤه ذهب سروره, وهان على الناس, ومن جمع بين الحياء والسخاء تقدم على اقرانه, وظفر بمودة جلسائه واخوانه, والحياء من الايمان, وقد قيل في حقيقته بانه: هو انقباض النفس عن اتيان امر مخافة الذم, ويكون في ثلاثة اوجه: 1. الحياء من الله تعالى, عند الاهتمام بمباشرة ماخطر على الانسان, ويكون بامتثال اوامره جل وعلا, والكف عن زواجره. 2. الحياء من الناس ويكون بكف الاذى وترك المجاهرة بالقبيح. وهذا النوع من الحياء يكون من كمال المرؤة وحب الثناء. 3. حياء الانسان من نفسه, ويكون بالعفة وصيانة الخلوات وفي الذكر الحكيم: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} (¬1) وفي الحديث النبوي الشريف: (دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنْ الْإِيمَانِ) (¬2) وقال ابن قتيبة: معناه ان الحياء يمنع صاحبه من ارتكاب المعاصي كما يمنع الايمان, فسمي ايمانا كما يسمى الشي باسم ما قام مقامه. وقال الراغب: والحياء انقباض النفس عن القبائح (¬3) . وقال 4. ¬

_ (¬1) - سورة الاحزاب الاية (53) . (¬2) - صحيح البخاري باب الحياء من الايمان حديث رقم (23) . (¬3) - مفردات الراغب ص140.

الحياء في القرآن الكريم

5. الحليمي: (حقيقة الحياء خوف الذم بنسبة الشر إليه, وقال غيره: إن كان في محرم فهو واجب وإن كان في مكروه فهو مندوب وإن كان في مباح فهو العرفي وهو المراد بقوله: الحياء لا يأتي الا بخير, ويجمع كل ذلك أن المباح أنما هو ما يقع على وفق الشرع اثباتا ونفيا, وحكي عن بعض السلف رأيت المعاصي مذلة فتركتها مروأة فصارت ديانه, وقد يتولد الحياء من الله تعالى من التقلب في نعمه فيستحيي العاقل أن يستعين بها على معصيته, وقد قال بعض السلف: خف الله على قدر قدرته عليك واستحي منه على قدر قربه منك والله أعلم (¬1)) وقال الشاعر: يَعيشُ المَرءُ ما اِستَحيا بِخَيرٍ ... وَيَبقى العودُ ما بَقِيَ اللِحاءُ فَلا وَاللَهِ ما في العَيشِ خَيرٌ ... وَلا الدُنيا إِذا ذَهَبَ الحَياءُ إِذا لَم تَخشَ عاقِبَةَ اللَيالي ... وَلَم تَستَحيِ فَاِفعَل ما تَشاءُ (¬2) الحياء في القرآن الكريم قال الفيروز ابادي: الحياء فى القرآن على ثلاثة أَوجه: الأَوّل: بمعنى الاستبقاءِ للخدمة: {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} (¬3) أَى يستبقونهنّ للخدمةِ. الثانى: بمعنى التَّرك والإِعراض: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً} (¬4) أَى لا يترك. الثالث: بمعنى استعمال الحياءِ. وهو لغة: انقباض النَّفْس عن القبيح وتركه, يقال حي فهو حَيّ، واستحيا فهو مُسْتَحىٍ. وقيل: استحَيى فهو مُسْتَح. وفى الحديث "إِنَّ الله يستحْيي من ذى الشَّيبَة المُسلم أَن يعذَّبه" (¬5) وليس المراد به: انقباض النَّفس، وإِنَّما المراد به: تركُ تعذيبه. وعلى هذا ما يروى (إِنَّ الله حيُّي) أَى تارك للمقابح، فاعل المحاسن (¬6) . وفى الحديث "إِذا لم تستحْىِ فاصنع ما شتئت" (¬7) فضل الحياء الحياء خلق كريم, والحياء من الايمان, فمن استحياء من الحق فقد كمل ايمانه وتم دينه, وكان ذلك عنوان تقواه, فعاقبة الاستحياء النجاة والسلامة من ادران النقائص, ودخول الجنة, وثواب الحياء كنوز مدخرة, واجر جزيل في الاخرة, ولله در القائل: أَأَذكُرُ حاجَتي أَم قَد كَفاني ... حَياؤُكَ إِنَّ شيمَتَكَ الحَياءُ ¬

_ (¬1) - فتح الباري ج1ص75. (¬2) - هذه الابيات لابي تمام. (¬3) - سورة البقرة الاية (49) . (¬4) - سورة البقرة الاية (26) . (¬5) - لم نجده بهذا الفظ الذي اورده الفيروز ابادي ولكن اورده العجروني بلفظ (إن الله يستحيي أن يعذب شيبة شابت في الإسلام) هكذا ذكره الغزالي في الدرة الفاخرة، ورواه السيوطي في الجامع الكبير عن ابن النجار بسند ضعيف بلفظين آخرين: أحدهما إن الله ليستحيي من عبده وأمته يشيبان في الإسلام يعذبهما, ثانيهما إن الله عز وجل يستحيي من ذي الشيبة إذا كان مسددا كروما للسنة أن يسأله فلا يعطيه انتهى. وانظر كشف الخفاء ج1 ص244. (¬6) - بصائر ذوي التمييز ج2ص155. (¬7) -البخاري في الادب المفرد باب الحياء حديث رقم (597) .

قليل الحياء ممقوت

كَفاهُ مِن تَعَرُّضِهِ الثَناءُ (¬1) إِذا أَثنى عَلَيكَ المَرءُ يَوماً وقال اخر: وَرُبَّ قَبيحَةٍ ما حالَ بَيني ... وَبَينَ رُكوبِها إِلّا الحَياءُ وَكانَ هُوَ الَّذي أَلهى وَلكِن ... إِذا ذَهَبَ الحَياءُ فَلا دَواءُ (¬2) وقال ابي: عليك بالحياء والانفة, فانك ان استحييت من الغضاضة اجتنبت من الخساسة وان انفت من الغلبة لم يتقدمك احد في مرتبة. وقيل أحي حياءك بمجالسة من يستحيى منه. ويغفر الله للمتنبي حيث يقول: وَأَوجُهُ فِتيانٍ حَياءً تَلَثَّموا ... عَلَيهِنَّ لا خَوفاً مِنَ الحَرِّ وَالبَردِ وَلَيسَ حَياءُ الوَجهِ في الذِئبِ شيمَةً ... وَلَكِنَّهُ مِن شيمَةِ الأَسَدِ الوَردِ اما عبد الله بن محمد الاندلسي فهو يقول: وَإِذا خَلَوتَ بِرِيبَةٍ في ظُلمَةٍ ... وَالنَفسُ داعيَةٌ إِلى الطُغيانِ فاِستَحي مِن نَظَرِ الإِلَهِ وَقُل لَها ... إِنَّ الَّذي خَلَقَ الظَلامَ يَراني قليل الحياء ممقوت التبجح وقلة الحياء تسبب المصائب وتجلب غضب الله الخالق, وقديما قيل: قليل الحياء سيء السيرة, خبيث السريرة, يرتكب الجرام الموبقات, قلبه خال من الرأفة والرحمة, قد حل به القسوة والجفوة. وعدم الحياء مصيبة ودمار, تجلب سخط الجبار, ويكون سببا لدخول النار وقليل الحياء ذليل حقير, لايوقر الكبير ولا يرحم الصغير, ولا يستحيي من الله العلى الكبير, فاحذر اخي من مجالسة قليلي الحياء, قال الشاعر: اني لارى من لاحياء له ... ولاامانة وسط القوم عريانا وقال اخر: إِذا رُزِقَ الفَتى وَجهاً وَقاحاً ... تَقَلَّبَ في الأُمورِ كَما يَشاءُ وَلَم يَكُ لِلدَواءِ وَلا لِشَيءٍ ... يُعالِجُهُ بِهِ عَنهُ غَناءُ وَرُبَّ قَبيحَةٍ ما حالَ بَيني ... وَبَينَ رُكوبِها إِلّا الحَياءُ (¬3) الحياء من الايمان الحياء من الله, ان تحفظ حدوده, وتمتثل اوامره, وتكف عن زواجره ونواهيه, فالعاقل يستحيي ان يستعين بنعم الله على معاصيه, وفي الحديث ان النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ) (¬4) وقد كان الحياء من الايمان لانه للدين خلق, فحركات المستحيي وسكناته كلها في طاعة الله, والمستحيي اعماله صالحة, وهيئته جميلة يكسوها الوقار والهيبة وتحفها الزينة والاجلال ولو مثل كان رجلا صالحا (¬5) , (وما كان الحياء في شي الا زانه) (¬6) , كما ورد ذلك في السنة النبوية وجاء في الحديث: الحياء والإيمان قرنا جميعا فإذا رفع أحدهما ¬

_ (¬1) - هذان البيتان لامية ابن ابي الصلت. (¬2) - هذان البيتان لـ (علي بن الجهم) . (¬3) - هذه الابيات لعلي بن الجهم. (¬4) - صحيح مسلم باب عدد شعب الايمان حديث رقم (50) . (¬5) - ورد ذلك من حديث عائشة مرفوعا عند الطبراني بلفظ (لوكان الحياء رجلا كان رجلا صالحا) . (¬6) - ورد ذلك في حديث انس عند ابن ماجه بلفظ (ما كان الحياء في شي الا زانه) .

رفع الآخر (¬1) , فلزوم الحياء عند مجانبة مانهى الله عنه فرض, ولزوم الحياء عند مقارفة ماكره الناس فضل, فلا تترك اتيان ماامرالله به حياءً من خلقه, الا ترى ان الحق سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} (¬2) قال البيضاوي: {إِنَّ ذَلِكُمْ} اللبث {كَانَ يُؤْذِي النبي} لتضييق المنزل عليه وعلى أهله وإشغاله بما لا يعنيه. {فَيَسْتَحِي مّنكُمْ} من إخراجكم قوله: {والله لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحق} يعني أن إخراجكم حق فينبغي أن لا يترك حياء كما لم يتركه الله فأمركم بالخروج (¬3) . وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم اشد حياء من العذراء في خدرها, وقد روي انه قال صلى الله عليه وآله وسلم: اسْتَحْيُوا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ قَالَ لَيْسَ ذَاكَ وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى وَلْتَذْكُرْ الْمَوْتَ وَالْبِلَى وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ (¬4) . وقد احسن من قال: وليس بمنسوب إلى العلم والنهي ... فتى لا ترى فيه خلائق أربعُ فواحدة: تقوى الإله التي بها ... ينال جسيم الخير والفضل اجمع وثانية: صدق الحياء فإنه ... طباع عليه ذو المروءة يطبع وثالثة: حلم إذا الجهل أطلعت ... إليه خبايا من فجور تَسَرَّعُ ورابعة: جود بملك يمينه ... إذا نابه الحق الذي ليس يدفع حياء الانسان من نفسه العاقل من عود نفسه لزوم الحياء وستحيي من نفسه, وقديما قيل: من يستحيي من الناس ولايستحيي من نفسه فلا قدر لنفسه عنده, فمن استحيا في سريرته كما يستحيي من الناس في علانيته استحيى من الله وكمل ايمانه, قال رجل للنعمان اوصني قال استحي من الله كما تستحيي من رجل من عشيرتك (¬5) , وقال زيد بن ثابت: من لايستحيي من الناس لايستحيي من الله, قال الشاعر: اِذا قَل ماء الوَجهِ قَل حَياؤُهُ ... وَلا خَير في وَجه اِذا قَل ماؤُه ¬

_ (¬1) - المستدرك على الصحيحين حديث رقم (58) . (¬2) - سورة الاحزاب الاية (53) . (¬3) - تفسير البيضاوي ج 2ص 19. (¬4) - سنن الترمذي حديث رقم (2382) . (¬5) - محاضرة الادباء للراغب ص 125.

الخير كله في الحياء

حَياءُكَ فَاِحفَظه عَلَيكَ فَإِنَّما....... يَدل عَلى فَضلِ الكَريم حَياؤُه (¬1) الخير كله في الحياء قال أبو حاتم إن المرء إذا اشتد حياؤه صان عرضه ودفن مساويه ونشر محاسنه ومن ذهب حياؤه ذهب سروره ومن ذهب سروره هان على الناس ومُقِت ومن مُقِت أوذى ومن أوذى حزن ومن حزن فقد عقله ومن أصيب في عقله كان أكثر قوله عليه لا له ولا دواء لمن لا حياء له ولا حياء لمن لا وفاء له ولا وفاء لمن لا إخاء له (¬2) , فمن لزم الحياء كان قويا في ايمانه كريما في خلقه يؤمن ان الله معه يسمع ويرى, وانت اخي اذا كنت تؤمن ان الله معك يسمعك ويراك, وانت في بيتك وانت في عملك وانت في الطائرة او على ظهر السفينة او في غابة او في اعماق البحار اوبطون الاودية يسمعك ان نطقت او سكت, وان ناجيته بخواطرك او بلسانك فهو سميع بصير مجيب, فانك اخي ستكون قويا في ايمانك سويا في سلوكك تستحيي من الله وتستعين به فهو معك اينما كنت, دعاؤك مسموع, وطلبك ملبى, وهذا نبي الله يونس عليه السلام: ينادي الله في بطن الحوت وظلمة البحر فيستجيب له: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} (¬3) وهذا ايوب نبي الله عليه السلام: يصاب بالمرض والضرر فينادي الله الذي ¬

_ (¬1) - هذان البيتان لصالح بن عبد القدوس. (¬2) - روضة العقلاء ص 49. (¬3) - سورة الانبياء الاية (87-88) .

السميع البصير من اسماء الله الحسنى

يسمع ويرى فيستجيب له: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} (¬1) اما هؤلا الذين يقترفون المعاصي والاثام فانهم اقبلوا على المعاصي لأنهم لايشعرون ان الله معهم يسمع ويرى, فلم يستحيوا من الله ولامن الناس ولا من انفسهم, وتوهموا ان تلك المعاصي تسعدهم ولم يدركوا انها مهلكة لهم, فانت اخي اذا رايت الحق حقا فستاتيه واذا رايت الباطل باطلا فستجتنبه, فالرؤية والبصر نور وبرهان يقذفه الله في قلوب المخلصين من عباد الله المستحيين من الله حق الحياء, وتامل اخي في قصة نبي الله يوسف عليه السلام: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (¬2) وسئل الجنيد: بما يستعان على غض البصر؟ قال بعلمك ان نظر الله اليك اسبق إلى ماتنظره, وكان الامام احمد ينشد: وَلا تَحسَبَنَّ اللَهَ يُغفِلُ ما مَضى ... وَلا أَنَّ ما يَخفى عَلَيهِ يَغيبُ إِذا ما خَلَوتَ الدَهرَ يَوماً فَلا تَقُل ... خَلَوتُ وَلَكِن قُل عَلَيَّ رَقيبُ (¬3) وكان ابن السماك ينشد: يامدمن الذنب اما تستحي ... والله في الخلوة ثانيكا غرك من ربك امهاله ... وستره طول مساويكا فاذا عرف الانسان ان الله هو السميع البصير استحيى من الله وكان عاقلا يزين باطنه بالمراقبة وظاهره بالمحاسبة, فمن تعرف على اسم الله السميع البصير, فاز بالخير الكثير واستحيي من الله العلي الكبير. السميع البصير من اسماء الله الحسنى السميع البصير من اسماء الله الحسنى وقد ورد اسم الله السميع البصير في القرآن الحكيم: في عدة مواضع في القرآن الكريم منها: قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬4) وفي قوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬5) وفي سورة المجادلة: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (¬6) وجاء في السنة النبوية في حديث ابي هريرة عند الترمذي: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً غَيْرَ وَاحِدٍ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) وعد منها: (السميع البصير) (¬7) ومعنى السميع البصير الذي ¬

_ (¬1) - سورة الانبياء الاية (83-84) . (¬2) - سورة يوسف الاية (24) . (¬3) - هذان البيتان لابوالعتاهية. (¬4) - سورة غافر الاية (20) . (¬5) - سورة الشورى الاية (11) . (¬6) - سورة المجادلة الاية (1) . (¬7) - باب ماجاء في عقد التسبيح باليد حديث رقم (3429) .

احاط سمعه بجميع المسموعات, والبصير الذي احاط بصره بحميع المبصرات في الارض والسموات, وفي كل المخلوقات, فقد احاط علمه وسمعه وبصره بجميع الكائنات, فسبحان من تحيرت العقول في عظمته, وسعت متعلقات صفاته, الذي خاطب نبيه بقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ *وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬1) وقال الخطابي: (السميع بمعنى السامع، إلا أنه أبلغ في الصفة، وبناء فعيل بناء المبالغة، وهو الذي يسمع السر والنجوى، سواء عنده الجهر والخفت، والنطق والسكوت) (¬2) وقال ابن القيم: (السميع الذي قد استوى في سمعه سر القول وجهره وسع سمعه الأصوات فلا تختلف عليه أصوات الخلق ولا تشتبه عليه ولا يشغله منها سمع عن سمع ولا تغلطه المسائل ولا يبرمه كثرة السائلين, قالت عائشة الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول الله وإني ليخفى علي بعض كلامها فأنزل الله عز وجل (قد سمع الله قول التى تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير) (¬3) وقال الدكتور محمد راتب النابلسي: الله عزوجل سميع لكل الموجودات, كل ماسواه يسمعه دون حاسة كبني البشر, دون آلة دون البشر, هناك آلة تلتقط الاصوات عند المخلوقات, او هناك حاسة لديهم ¬

_ (¬1) - سورة الشعراء الايات (217الى220) . (¬2) - الاسماء والصفات للبيهقي ص79. (¬3) - طريق الهجرتين لابن القيم ص212.

ثمرة معرفة اسم الله السميع البصير

تسمع الاصوات, لكن الله جل جلاله, ليس كمثله شيئ (¬1) . وقال القحطاني: وكثيراً ما يقرن الله بين صفة السمع والبصر فكل من السمع والبصر محيط بجميع متعلقاته الظاهرة والباطنة, فالسميع الذي أحاط سمعه بجميع المسموعات، فكل ما في العالم العلوي والسفلي من الأصوات يسمعها سرّها وعلنها وكأنها لديه صوت واحد، لا تختلط عليه الأصوات، ولا تخفى عليه جميع اللغات، والقريب منها والبعيد والسر والعلانية عنده سواء: {سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف باليل وسارب بالنهار} (¬2) ، وسمعه تعالى نوعان: أحدهما: سمعه لجميع الأصوات الظاهرة والباطنة الخفية والجلية، وإحاطته التامة بها. الثاني: سمع الإجابة منه للسائلين والداعين والعابدين فيجيبهم ويثيبهم، ومنه قوله تعالى: {إن ربي لسميع الدعاء} (¬3) وقول المصلي (سمع الله لمن حمده) أي استجاب) (¬4) ثمرة معرفة اسم الله السميع البصير من عرف ان الله جل وعلا سميع بصير وجب عليه الايمان به وزين باطنه بالمراقبة وظاهره بالمحاسبة وسار خائفا من الله حييا منه, يهابه ان يراه حيث راه, او يفتقده حيث اقتضاه فهو يعلم انه بمرءى من الله تعالى ومسمع فلا يستهين بنظر الله اليه واطلاعه عليه , ولهذا فان ثمرة معرفة ان الله السميع البصير مراقبة الله في كل ماياتي ويذر فلا يكون نظره الا عبرة, فهو ان نظر إلى مصنوعة الله الدالة على كمال قدرته وتمام حكمته وشمول علمه ونفوذ اردتة ازداد ايمانا وبصيرة وتدبر في ايات الله الدالة على كمال قدرتة قال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬5) وقال تعالى: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (¬6) وقال جل شانه: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} (¬7) فأحسن سماعك لكتاب الله وهو يهدي القلوب إلى علام الغيوب ويسوق الارواح الى ديار الافراح, فاسعد انسان هو الذي يبحث عن منهج الله ليطبقه في حياته لانه لن يفاجأ ولن يشعر بالاحباط اطلاقا, خطه البياني صاعدا صعودا مستمرا لانه يتحرك وفق خبرة السميع البصير فما في الارض انسان الا ويتمنى شيئين: السلامة والسعادة ولن يحصل عليهما الانسان الا بطاعة السميع البصير الذي لايخفى عليه شيء في الارض ولا في السماء, وان اشكل عليه امر دعى بما كان يدعو به عمر رضي الله عنه: (اللهم ارنا الحق حقا ورزقنا اتباعة, وارنا الباطل باطلا ورزقنا اجتنابه) واحسن في دعائه واحسن في سماعه لكتاب الله وسنة رسوله ¬

_ (¬1) - موسوعة اسماء الله الحسنى ج2 ص405. (¬2) - سورة الرعد الاية (10) . (¬3) - سورة ابراهيم الاية (39) . (¬4) - شرح اسماء الله الحسنى ص44. (¬5) - سورة يونس الاية (101) . (¬6) - سورة الانعام الاية (99) . (¬7) - سورة البقرة الاية (259) .

دعاء الله باسمه السميع البصير

واحسن في عمله وتدبر قول الرحمن: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (¬1) وقوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} (¬2) فكن اخي رجلا قد شمر بهمة وعزيمة لإدراك اماله من الخير مستعينا بالله السميع البصير الذي يسمع ويرى وقد روي ان عمر بن الخطاب الخليفة الراشد قال لاصحابه: تمنوا.. فتمنوا فقال: أما انا فاتمنى دارا كهذه مملوءة رجالا مثل ابي عبيدة عامر بن الجراح!!.. ما قرت عيني ولا امتلاءت امآلا احب اليها من رجال يمشون على الارض ورؤوسهم تطاول السماء أمان واحلام!.. لكن لدينهم.. لمنهجهم.. لرسالتهم.. لمجدهم ... واشوقاه إلى قوم يؤمنون ان الله معهم يسمع ويرى يطيعونه ويعبدونه تمتلؤ بهم الارض خيرا ويباهي الله بهم الملائكة!! والهفاه عليهم!! دعاء الله باسمه السميع البصير ياالله ياسميع يابصير ياقوي ياقدير ياقريب يامجيب اسألك ان تسمع دعائي وان تسمع قلبي مرادك ليعي, وان تسمع منادي الجنة مسمعي, وان تبصرني ياالله ياسميع يابصير في جميع اموري, وان تستر ماعلمت من عيوبي وان تغفر برحمتك ذنوبي فانك ياالله انت السميع البصير القوي القدير ¬

_ (¬1) - سورة الاعراف الاية (241) . (¬2) - سورة الزمر الاية (17و18) .

واجعلني لك من المشاهدين, وفي حماك من القائمين انك على كل شيء قدير واغفرلي ولوالدي والمؤمنين وصلى الله على محمد واهل بيته واصحابه وازواجه وذريته والتابعين له باحسان إلى يوم الدين ويغفر الله للقائل: وَعِلْمُكَ كَافٍ يَا سَمِيعُ فَكُنْ إذَنْ ... بَصِيراً بِحَالِي مُصْلِحَاً مُتَقَبِّلاَ (¬1) ¬

_ (¬1) - هذا البيت لعبد القادر الجيلاني.

الفصل الخامس والثلاثون الشباب

الفصل الخامس والثلاثون الشباب

الشباب

الشباب الشباب قوة وفتوة وحركة ونشاط, وامل وعمل, والشباب مرحلة من مراحل العمر التي يَكتمل فيها بناء جسم الانسان, وتبرز فيها مواهبه, وتظهر شخصيته, ويعلو بنيانه, والشباب الحداثة, وكذا الشبيبة, وفي مرحلة الشباب يحقق الانسان احلامه, ويشتد عوده, وتظهر قوته, وتتجدد صحته, وتبرز مواهبه, ويتحول ضعفه إلى قوة, وفي الذكر الحكيم: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} (¬1) . والشباب صدر حياة الانسان وغرتها, فاذا قضى الانسان شرخ شبابه وريعانه في طاعة الحق واكرام الخلق, وانفق في البر فتوته, شبابه وعنفوانه, كان تاجا للخير وعنوانه, وفي الحديث الشريف: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ إِمَامُ عادل وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ) (¬2) فالانسان لايمل الشباب في حضر ولا سفر حتى تتصرم ايامه وتاتي الشيخوخة فتريه اسقامه. قال الشاعر: آلَةُ العَيشِ صِحَّةٌ وَشَبابٌ ... فَإِذا وَلَّيا عَنِ المَرءِ وَلّى ¬

_ (¬1) - سورة الروم الاية (54) . (¬2) - اخرجه البخاري, باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة حديث رقم (620) . ومسلم, باب فضل اخفاء الصدقة حديث رقم (1712) .

لَ حَياةً وَإِنَّما الضَعفَ مَلّا (¬1) وَإِذا الشَيخُ قالَ أُفٍّ فَما مَل والشباب بهجة وسرور, ونفرة وغرور, فالشاب اللبيب لايستخف بشريف, ولايميلن إلى سخيف, ولايقولن هجرا, ولا يفعلن شرا, ولله درالقائل: يا رافِلاً في الشَّبابِ الوَحْفِ مُنتشِياً ... مِنْ كأسِهِ هلْ أصابَ الُّرشْدَ نَشْوانُ لا تَغتَرِرْ بشَبابٍ وارِفٍ خَضِلٍ ... فكَمْ تَقدَّمَ قَبَل الشّيْبِ شُبّانُ (¬2) اما ابوالعتاهية فهو يقول: أَلا ان الشباب ثياب لبس ... وَما الاموال الا كالظلال فان يبل الشباب فكل شيء ... سمعت به سوى الرحمن بال وقال اخر: خُذْ من شبابِكَ صفوَ العيش مبتدِراً ... فقد أتاكَ نذيرُ الشَّيْبِ يبتَدِرُ واستوفِ حظَّكَ منهُ قبل فُرقَتِه ... بحيثُ لا أثَرٌ يبقَى ولا خَبَرُ بقيَّةٌ من شَبابٍ بانَ أكثرُهُ ... كأنَّهُ ليلُ وَصْلٍ كادَ ينحَسِرُ فاعرِفْ لها حقَّها واشدَدْ يديكَ بها ... فإنّهُ الصفْوُ يأتي بعدَهُ الكَدَرُ (¬3) اما ابو الحسن التهامي فهو يقول: شَيئانِ يَنقَشِعانِ أَوَّل وَهلَةٍ ... ظِلُّ الشَبابِ وَخِلَّةُ الأَشرارِ لا حَبَّذا الشيب الوَفيُّ وَحَبَّذا ... شَرخ الشَبابِ الخائِنِ الغَدّارِ ¬

_ (¬1) - هذان البيتان لابي الطيب المتنبي. (¬2) - هذان البيتان لابي الفتح البستي. (¬3) - هذه الابيات للطغرائي.

مكانة الشباب

فَإِذا اِنقَضى فَقَد انقَضَت أَوطاري وَطري مِنَ الدُنيا الشَباب وَروقه قصرت مَسافَته وَما حَسَناتُهُ ... عِندي وَلا آلاؤُهُ بِقِصارِ (¬1) مكانة الشباب بالشباب تعمر البلدان, ويتعاون الاخوان, وتعمر الجامعات والمدارس, فالشباب في حياة الامم طاقات مبدعة, وزهور متفتحة, وقوة هادرة, ان وجهت نحو النمو السليم كانت الحياة عامرة بالعلم والايمان, والحب والوءام, ترفرف عليها اعلام السعادة, والشباب في كل عصر ومصر اساس لبناء المجتمع, ولبناء الحياة بكل اطيافها بناء سليما, فالنظر إلى مستقبل الامة يعني العناية بالشباب من اجل استنهاض مكامن القوة التي تجري في اوصال الأمة, فالشباب في حياة الانسان مجموع طاقات جامحة, فان كانت موجهة نحو الاستقامة والخير تهيئ للامة خير كبير, اما اذا تركت هذه الطاقات تتجه نحو الشذوذ والانحراف فانه يتهيؤ للامة كلها من هذه الطاقات شر كبير, ولهذا ندرك اهمية اعداد الشباب, والمحافظة عليهم, فالشباب بحيويته ¬

_ (¬1) - هذه الابيات للتهامي أبو الحسن علي بن محمد بن فهد التهامي, ? - 416 هـ / ? - 1025 م, من كبار شعراء العرب، نعته الذهبي بشاعر وقته. مولده ومنشؤه في اليمن، وأصله من أهل مكة، كان يكتم نسبه، فينتسب مرة للعلوية وأخرى لبني أمية. وانتحل مذهب الاعتزال، وسكن الشام مدة، ثم قصد العراق والتقى الصاحب ابن عباد، وعاد فتقلد الخطابة بجامع الرملة، واتصل بالوزير المغربي فكان من أعوانه في ثورته على الحاكم الفاطمي، قال الباخرزي: (وقصد مصر واستولى على أموالها، وملك أزمة أعمالها، ثم غدر به بعض أصحابه فصار ذلك سبباً للظفر به، وأودع السجن في موضع يعرف بالمنسي حتى مضى لسبيله) . ونقل ابن خلكان عن كتاب مجهول في يوميات مصر خبر مقتله في دار البنود بمصر، وكان يسجن فيها من يراد قتله، وذلك يوم 9 جمادى الأولى 416هـ. وفي (نضرة الإغريض) نوادر من أخباره، منها أن حسان الطائي أقطعه حماة لقصيدة قالها في مدحه. ولم يثبت ابن خلكان قصيدته المشهورة (حكم المنية في البرية جار) لأنها كما قال من القصائد المحدودة.

ونشاطه يشكل امداداً قويا لحياة المجتمع كله وهل تبنى الحياة الا بسواعد الشباب قال الشاعر: حيَّ الشبابَ وقُلْ سلا ... ماً إنَّكُمْ أَملُ الغَدِ صَحَّتْ عزائمكُمْ على ... دْفعِ الأَثيمِ المعْتدي واللهُ مَدَّ لكُمْ يداً ... تَعْلو على أقوى يدِ وطني أزُفُّ لكَ الشَّبا ... ب كأَّنهُ الزَّهَرُ النَّدي لا بُدَّ مِن ثَمرٍ لهُ ... يُوْماً وإنْ لمْ يَعْقِدِ (¬1) وفي امثال العرب: الشباب باكورة الحياة, وقيل الشباب مظنة الجهل, وقيل مطية الجهل, فالشاب الذي لايتعلم سرعان مايسوقه عمله إلى مايورث الندم, ولهذا قيل الشباب شعبة من الجنون, لان الشباب طامح جامح, وانما يهذبه العلم, ويجمله الخلق الحسن, ويرفع من مكانته الايمان, فتوق اخي سكرة الشباب, ومصاحبة الاشرار, وفي امثال العرب: سكر الشباب اشد من سكر الشراب, فلا يقودك بسكره الى حتفك فان النفس امارة بالسوء فلا تقودك اليه فغرام الشباب تشتهيه النفوس, قال الشاعر: وغرام الشباب اشهى الى النفس ... وان كان في المشيب الوقار (¬2) ¬

_ (¬1) - هذه الابيات لإبراهيم طوقان, 1323 - 1360 هـ / 1905 - 1941 م, إبراهيم بن عبد الفتاح طوقان شاعر غزل، من أهل نابلس (بفلسطين) قال فيه أحد كتابها: (عذب النغمات، ساحر الرنات، تقسم بين هوى دفين ووطن حزين) تعلم في الجامعة الأمريكية ببيروت، وبرع في الأدبين العربي والإنكليزي، وتولى قسم المحاضرات في محطة الإذاعة بفلسطين نحو خمس سنين، وانتقل إلى بغداد مدرساً، وكان يعاني مرضاً في العظام، فأنهكه السفر فمات شاباً. (¬2) - هذا البيت للعالم والاديب والشاعر الكبير القاسم بن علي بن هتيمل.

الشباب وانتهاز الفرصة واغتنام الوقت

الشباب وانتهاز الفرصة واغتنام الوقت ان الشباب اذا اغتنم وقته وانتهز الفرصة في تحقيق هدف والوصول الى غرض شريف وصل الى هدفه وحقق مطلبه فالفرصة ثمينة وانتهازها دليل الحزم, وعنوان العقل والجد ومهما حفظ الانسان من الحكم وكانت رغباته صالحة فلن تتحسن اخلاقه وتقوا الا اذا انتهز كل فرصة تسنح له قال البارودي: بَادِر الْفُرْصَةَ وَاحْذَرْ فَوْتَهَا ... فَبُلُوغُ الْعِزِّ في نَيْلِ الْفُرَصْ وَاغْتَنِمْ عُمْرَكَ إِبَّانَ الصِّبَا ... فَهْوَ إِنْ زَادَ مَعَ الشَّيْبِ نَقَصْ فَابْتَدِرْ مَسْعَاكَ وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ ... بَادَرَ الصَّيْدَ مَعَ الْفَجْرِ قَنَصْ (¬1) ان الوقت راس مال الانسان وان ساعات العمر هي انفس ماعني بحفظه ونحن نعيش في زمن محدود, ليل ونهار يتعاقباين بانتظام, وحياة مقسمة تقسيما محدودا, صبا فشباب, فكهولة فشيخوخة, ولكل قسم عمل خاص لايليق ان يعمل في غيره, كالزرع اذا فات اوانه لم يصح ان يزرع في غيره. ¬

_ (¬1) - هذه الابيات للعلامة محمود سامي البارودي1255- 1322 هـ / 1839 - 1904 م محمود سامي باشا بن حسن حسين بن عبد الله البارودي المصري أول ناهض بالشعر العربي من كبوته، في العصر الحديث، وأحد القادة الشجعان، جركسي الأصل من سلالة المقام السيفي نوروز الأتابكي (أخي برسباي) . نسبته إلى (إيتاي البارود) ، بمصر، وكان لأحد أجداده في عهد الالتزام, مولده ووفاته بمصر، تعلم بها في المدرسة الحربية. ورحل إلى الأستانة فأتقن الفارسية والتركية. الأولى في ثورة كريد سنة1868، والثانية في الحرب الروسية سنة 1877،وتقلب في مناصب انتهت به إلى رئاسة النظار، واستقال. ولما حدثت الثورة العرابية كان في صفوف الثائرين، ودخل الإنجليز القاهرة، فقبض عليه وسجن وحكم بإعدامه، ثم أبدل الحكم بالنفي إلى جزيرة سيلان. حيث أقام سبعة عشر عاماً، أكثرها في كندا تعلم الإنجليزية في خلالها وترجم كتباً إلى العربية وكفَّ بصره وعفي عنه سنة 1317هـ‍فعاد إلى مصر. أما شعره فيصح اتخاذه قاتحة للأسلوب العصري الراقي بعد إسفاف النظم زمناً غير معتبر. له (ديوان شعر -ط) ، جزآن منه، (ومختارات البارودي -ط) أربعة أجزاء..

فاغتنم الشاب قبل الشيخوخة والهرم فما فات من الزمن لا يعود فالصبا اذا فات فات ابدا, والشباب اذا مر مر ابدا, والزمن المفقود لايعود ابدا, قال الشوكاني رحمه الله: " فان من ارسل عنان شبابه في البطالات, وحل رباط نفسه فاجراها في ميادين اللذات -ادرك من اللذة الجسمانية من ذلك بحسب ما يتفق له منها, ولا سيما اذا كان ذا مال وجمال, ولكنها تنقضي عنه اللذة, وتفارقه هذه الحلاوة- اذا تكامل عقله ورجح فهمه, وقوي فكره؛ فانه لايدري عند ذلك مايدهمهم من المرارات التي منها الندامة على ما اقترفه من معاصي الله , ثم الحسرة على ما فوته من العمر في غير طائل, ثم على ما انفقه من المال في غير حله, ولم يفز من الجميع بشيء, ولا ظفر من الكل بطائل. (¬1) اما ابو العتاهية فهو يقول: عَلِمتَ يا مُجاشِعُ بنَ مَسعَدَه ... أَنَّ الشَبابَ وَالفَراغَ وَالجِدَه مَفسَدَةٌ لِلمَرءِ أَيُّ مَفسَدَة يا لِلشَبابِ المَرِحِ التَصابي ... رَوائِحُ الجَنَّةِ في الشَبابِ ان الانسان لا يستطيع ان يتصور همم الشباب على حقيقتها ويستنهض مكامن القوة فيها حتى يرى اثار الرجال التي كتب تاريخها قبل ان ترحل من على وجه الارض, وحكي عن ثعلب انه كان لايفارقه كتاب يدرسه فاذا ¬

_ (¬1) - مشار الى ذلك في كتاب الهمة العالية لفضيلة الدكتور محمد بن ابراهيم الحمد, ص243, الناشر دار ابن خزيمة المملكة العربية السعودية الرياض, الطبعة السابعة 1426هـ 2005م.

الشباب يخلفه المشيب

دعاه احد الى دعوة, شرط عليه ان يوسع له مقدار المتكأة من الجلد يضع فيها كتابا ويقرأ.. وصدق قائلهم: ما شابَ عَزمي وَلا حَزَمي وَلا خُلقي ... وَلا وَفائي وَلا ديني وَلا كَرَمي وَإِنَّما اِعتاضَ رأسي غَيرَ صِبغَتِهِ ... وَالشَيبُ في الرأسِ دونَ الشيب في الشيمِ (¬1) الشباب يخلفه المشيب الشباب يمر وتاتي الشيخوخة والمشيب فاستنهض همتك في العمل الصالح الذي يبقى ذخره واجره قبل المشيب قال الشاعر: من عاشَ أخلقتِ الأيّامُ جدّتهُ ... وخانَهُ الثقتانِ السمعُ والبصرُ قالت عهدتُكَ مجنوناً فقلتُ لها ... إنّ الشبابَ جنونٌ برؤه الكبَرُ (¬2) وقال اخر: نَقَض المشيبُ قوى الشباب ولم يَزل ... شَيْبُ الفتى لشبابِهِ نقَّاضا لا بأسَ أَن نشرَ المشيبُ قِناعَه ... إِنَّ الجواهرَ تَقْبلُ الأعراضا يا صاح ما في الشيبِ من عهد الصِّبا ... عِوَضٌ له أُضحى به معتاضا (¬3) اما المستوغر فهو يقول: سَلني أُنَبِّئكَ بِآياتِ الكِبَر ... نَومُ العِشاءِ وَسُعالٌ بِالسَحَر وَقِلَّةُ النَومِ إِذا اللَيلُ اِعتَكَر ... وَقِلَّةُ الطُعمِ إِذا الزادُ حَضَر وَسُرعَةُ الطَرفِ وَتَحميجُ النَظَر...... وَتَركُكَ الحَسناءَ في قُبلِ الطُهُر وَالناسُ يَبلَونَ كَما يَبلى الشَجَر ¬

_ (¬1) - هذان البيتان للتهامي. (¬2) - هذان البيتان لأحمد بن أبي فنن188 - 278 هـ / 803 - 891 م أحمد بن صالح بن أبي معشر، أبو عبد الله بن أبي فنن. شاعر عباسي، كان مولى لبني هاشم. كان من الشعراء المشهورين في عصره حيث كان يجتمع مع عدد من شعراء عصره كل جمعة في القبة المعروفة بهم في جامع المدينة في بغداد أمثال علي بن الجهم، ودعبل له شعر جيد.. (¬3) - هذه الابيات للصنوبري.

البكاء على الشباب

البكاء على الشباب مما لاريب فيه ان الانسان اذا ضيع شيئا ندم وتحسر عليه, فكيف به اذا اضاع اجمل ايام حياته واكثرها عطاءً, وهل الانسان الا ذلك الطفل الصغير الذي تحرص على تربيته واكرامه, فاذا وصل الى مرحلة شبابه واخذ من الحياة ارابه, في حيوية ونشاط وابداع وتقوى وصلاح, سعدت الامة وتعاظم بناؤها, وزدهرت ايامها, وتبدل شقاؤها سعادة وراحة, فايام الشباب هي ايام البناء الثقافي والاقتصادي والاجتماعي ومرحلة العطاء الذي يؤدي الشباب فيه واجبهم نحو الامة والوطن, فالتطور الايجابي والنمو السليم لايكون الاحيث يكون شباب الامة في عافية, ومن اجل ذلك فان الاعداء لايضعون هممهم لافساد الامة والقضاء على خيراتها وقدراتها الا باتجاههم نحو افساد شبابها, ذلك لانهم يفهمون انها لاتنهض الامة الابسواعد الشباب, ولاتكون ناجحة في مناهجها التربوية والثقافية الا حين يتحصن شبابها بالعلم والمعرفة, ويتجهون نحو عبادة خالقهم وبناء اوطانهم, فاذا اضاع الانسان شبابه باتباع طرق الشيطان والانخداع لمكايد الاعداء فانه سيندم ويبكي, ويتحسر على ما مضى وانقضى من ايام شبابه في غير صلاح ولا اصلاح, وفي الحديث النبوي الشريف: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسال عن شبابه فيما ابلاه وعن عمره فيما افناه وعن ماله من

اين اكتسبه وفيما انفقه) (¬1) وقديما قيل: ان العرب لم تبك شيئا بكاءها على الشباب وفواته وضياعه, قال ابو العتاهية: بَكيتُ عَلى الشَبابِ بِدَمعِ عَيني ... فَلَم يُغنِ البُكاءُ وَلا النَحيبُ فَيا أَسَفا أَسِفتُ عَلى شَبابِ ... نَعاهُ الشَيبُ وَالرَأسُ الخَضيبُ عَريتُ مِنَ الشَبابِ وَكانَ غَضّاً ... كَما يَعرى مِنَ الوَرَقِ القَضيبُ فَيا لَيتَ الشَبابَ يَعودُ يَوماً ... فَأُخبِرُهُ بِما صَنَعَ المَشيبُ وقال اخر: وَوَدعني الشَباب وَكُنت أَسعى ... إِلى داعي الشَباب إِذا دَعاني وَاِن يَفن الشَباب فَكُل شَيء ... مِن الدُنيا فَلا يَغرُرك فَاِني (¬2) القوة في الشباب ولكنها تنتهي الى ضعف, فالله وحده هوالقوي, وهو الذي يهب اسباب القوة والفتوة, فان كنت شابا فلاتغتر بقوتك, فهؤلاء قوم عاد عصو الله وقالوا من اشد منا قوة فاخذهم الله بذنوبهم كما حكى الله ذلك في كتابه: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ} (¬3) . ¬

_ (¬1) - المعجم الأوسط للمؤلف العلامة: أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني, الناشر: دار الحرمين - القاهرة، 1415هـ تحقيق: طارق بن عوض الله بن محمد , عبد المحسن بن إبراهيم الحسيني, حديث رقم (4710) . (¬2) - هذان البيتان لنصيب بن رباح. (¬3) - سورة فصلت الايتان (15-16) .

فالله جل وعلا هو القوي المتناهي بالقوة, والتي تتصاغر كل قوة امام قوته وعظمته فهو الذي اعطا الملائكة قوة عظيمة, وهو الذي اعطا الجن القوة, وهو الذي علم الانسان واعطاه القوه, وتدبر قول القوي العزيز حكاية عن قوم سبا حينما قالوا لملكتهم: {نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} (¬1) هل اغنى ذلك عنهم من شيء؟ وكيف انبرى عفريت من الجن ليخبر سليمان بقدرته على نقل عرش بلقيس من ارض سبا الى ارض الشام؟ وكيف استطاع الذي عنده علم من الكتاب ان ياتي بعرش بلقيس في لحظ عين؟ فشكر سليمان ربه, وفي الذكر الحكيم النبأ اليقين: {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (¬2) فقوة الشباب تؤل الى الضعف وقوة الخلق جميعا مستمدة من قوة الله, فلو تخلى عنهم لأصبحوا ضعفاء ايا كانت قوتهم او اسلحتهم, فان قوتهم تتلاشى ولها نهاية محتومة, فالله وحده القوي الذي له كمال القوة والعظمة فهو غالب لايغلب وقادر لايعجز فلا يلحقه ضعف في ذاته, ولا في صفاته, ولا في افعاله, فقوته فوق كل قوة, فاعتمد عليه, فانه ينجيك ويوفقك ¬

_ (¬1) - سورة النمل الاية (33) . (¬2) - سورة النمل الايات (38-40) .

ويهديك وفي سورة هود يقول الملك الجليل: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} (¬1) قال الشاعر: اذا كنت يا هذا قويا فلا تكن ... غريرا فكم خيل بفرسانها تكبو (¬2) وقال اخر: فما ظالم إلا ويجزي بظلمه ... وما محسنٌ إلا يوفى ولا هضم (¬3) فلا تضعف ولا تقلق ولا تيأس ولايهولنك قوة الاشخاص فانهم اذا استكبروا في الارض بغير الحق فان الذي منحهم هذه القوة قادر على ان يسلبهم في اي لحظة, فالله اذا اعطى ادهش واذا سلب فتش واذا اخذ بطش قال تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬4) فاعمل في شبابك ولاتكسل, ولاتعاند الله القوي فانه اذا قال فعل, واعلم ان الله القوي مع المؤمن التقي يدفع عنه وينصره وفي سورة الحج: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ ¬

_ (¬1) - سورة هود الاية (66) . (¬2) - ورد هذا البيت في الموسوعة الشعرية لبدر الدين الحاق. (¬3) - هذا البيت لأحمد بن علي بن حسين بن مشرف الوهيبي التميمي. ? - 1285 هـ / ? - 1868 م فقيه مالكي، كثير النظم، سلفي العقيدة، من أهل الأحساء بنجد تعلم ودرّس وتوفي فيها، ولي قضاءها مدة. له منظومات في التوحيد، ومدائح جمعت في (ديوان ابن مشرف -ط) .. (¬4) - سورة الانفال الاية (52) .

القوي المتين العزيز القادر المقتدر في اسماء الله الحسنى

صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (¬1) فالله القوي هو الذي خلقك وربى جسدك, وهو الذي اعطاك الشباب والقوة وهو الذي يعطيك ويمنعك ويقلب احوالك, فهو القوي وحده فاطمئن وتوكل عليه, والتفت اليه وأقبل عليه, وأخلص له, ولا تلتفت الى سواه لانهم لاشيء الى جانبه وتعرف على اسمه القوي يرزقك ويعافك ويكفك, وفي سورة الشورى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} (¬2) القوي المتين العزيز القادر المقتدر في اسماء الله الحسنى هذه الاسماء العظيمة معانيها متقاربة, فقد ورد اسم الله القوي في القرآن الكريم مقترنا باسم الله العزيز في عدة مواضع, منها قوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (¬3) وقوله جل شانه: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (¬4) ومنها قوله تعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} (¬5) ومنها قوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (¬6) وورد ايضا ¬

_ (¬1) - سورة الحج الاية (40) . (¬2) - سورة الشورى الاية (19) . (¬3) - سورة الحج الاية (40) . (¬4) - سورة الحج الاية (74) . (¬5) - سورة الشورى الاية (19) . (¬6) - سورة المجادلة الاية (21) .

مقترنا باسم الله المتين قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (¬1) وجاء في السنة النبوية في حديث ابي هريرة عند الترمذي: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً غَيْرَ وَاحِدٍ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) وعدّ منها: (القوي المتين) (¬2) قال القرطبي واجمعت عليه الامة ولاخلاف في اجرائه وصفا على العبد (¬3) , وفي التنزيل: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} (¬4) وفي سورة النمل: {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} قَالَ: أَبُو سُلَيْمَانَ: الْقَوِيُّ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْقَادِرِ، وَمَنْ قَوِيَ عَلَى شَيْءٍ فَقَدْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَاهُ التَّامَّ الْقُوَّةِ الَّذِي لا يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ الْعَجْزُ فِي حَالٍ مِنَ الأَحْوَالِ، وَالْمَخْلُوقُ وَإِنْ وُصِفَ بِالْقُوَّةِ، فَإِنَّ قُوَّتَهُ مُتَنَاهِيَةٌ، وَعَنْ بَعْضِ الأُمُورِ قَاصِرَةٌ (¬5) . قلت وياتي اسم الله القوي في الترتيب مع اسمه المتين, فبينهما مشاركة في اصل المعنى, فقد نقل بعض العلماء ان الخطابي قال (المتين) الشديد القوي الذي لاتنقطع قوته, ولا تلحقه في افعاله مشقة, ولا يمسه لغوب (¬6) , وقال القرطبي: في اسم الله المتين ورد به التنزيل وجاء في حديث ابي هريرة واجمعت عليه الامة, وتاوله بعض العلماء على ان معنى (المتين) قوته (¬7) . قرأ ابن محيصن وغيره {الرَّزَّاقُ} {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} أي الشديد القوي. وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب والنخعي {الْمَتِينِ} بالجر على النعت للقوة. وقرأ الباقون بالرفع على النعت لـ {الرَّزَّاقُ} أو {ذُو} من قوله: {ذُو الْقُوَّةِ} أو يكون خبر لمبتدأ محذوف (¬8) , واما اسمه سبحانه وتعالى العزيز فقد ورد في القرآن مقترنا باسمه القوي وباسمه الحكيم وباسمه الرحيم وباسمه الغفار وباسمه الغفور وباسمه الحميد وتكرر في القرآن في عدة مواضع منها قوله تعالى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬9) وفي قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (¬10) وقوله تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} (¬11) وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (¬12) وقوله تعالى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (¬13) وقال القرطبي: (العزيز) جاء في الكتاب والسنة واجمع عليه علماء الامة. وجاء معرفا ومنكرا, ولا خلاف في جواز اجرائه على غير الله تعالى كما قال في كتابه: {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ ¬

_ (¬1) - سورة الذاريات الاية (58) . (¬2) - باب ماجاء في عقد التسبيح باليد حديث رقم (3429) . (¬3) - الاسنى في شرح اسماء الله الحسنى, للقرطبي, ص328. (¬4) - سورة القصص الاية (26) . (¬5) - الاسماء والصفات للبيهقي ص 117. (¬6) - مختصر النهج الاسمى في شرح اسماء الله الحسنى, تاليف محمد الحمود النجدي, ص290, الناشر مكتبة الامام الذهبي, الطبعة الثانية 1428هـ 2007م. (¬7) - الاسنى للقرطبي ص333. (¬8) - تفسير القرطبي ج17 ص56. (¬9) - سورة البقرة الاية (209) . (¬10) - سورة الشعراء الاية (9) . (¬11) - سورة ص الاية (66) . (¬12) - سورة فاطر الاية (28) . (¬13) - سورة ابراهيم الاية (1) .

الْحَقُّ} (¬1) قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْعَزِيزُ هُوَ الْمَنِيعُ الَّذِي لا يُغْلَبُ، وَالْعِزُّ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْغَلَبَةِ، يُقَالُ مِنْهُ: عَزَّ يَعُزُّ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ، يُقَالُ مِنْهُ: عَزَّ وَيَعَزُّ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى نَفَاسَةِ الْقَدْرِ، يُقَالُ مِنْهُ: عَزَّ الشَّيْءُ يَعِزُّ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، فَيُتَأَوَّلُ مَعْنَى الْعَزِيزِ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لا يُعَادِلُهُ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ لا مِثْلَ لَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (¬2) . اما اسم الله القادر والقدير والمقتدر: فقد وردت في كتاب الله تعالى: في عدة مواضع منها قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ} (¬3) وقوله تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} (¬4) وقوله تعالى: {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} (¬5) . ومنها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬6) وقوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} (¬7) . ومنها قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} (¬8) . ¬

_ (¬1) - سورة يوسف الاية (51) . (¬2) - الاسماء والصفات للبيهقي, ص96. (¬3) - سورة الانعام الاية (65) . (¬4) - سورة المرسلات الايات (20-23) . (¬5) - سورة المؤمنون الاية (18) . (¬6) - سورة البقرة الاية (20) . (¬7) - سورة النساء الاية (149) . (¬8) - سورة الكهف الاية (45) .

وقال القرطبي (¬1) : القادر والقدير والمقتدر جل جلاله وتقدست اسماؤه اتفقت عليه الامة في الكتاب والسنة ... وجميعها من القدرة, وهي القوة ولاخلاف في اجرائها على العبد وصفا. يقال رجل قادر اذا كان قويا على الشيء مستطيعا له, وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لابي ذر وقد شاهد سطاه: (ياايها القدير الله اقدر منك) (¬2) وقال الدكتور النابلسي: القادر والمقتدر.. اما من القدرة او من التقدير, وفرق بين القدرة والتقدير, القدرة القوة, والتقدير متعلق بالعلم والمهارة, فلذلك جاء في بعض المعاجم ان القدير من صفات الله عز وجل, يكون من التقدير ويكون من القدرة. (¬3) قلت الظاهر ان القادر في اسماء الله الحسنى وصفاته العلا معناه المتمكن من الفعل بلا واسطة, فهو القادر على ايجاد المعدوم واعدام الموجود, فهوالذي اوجد الكون وهو القادر على اعدامه, قال تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} (¬4) وقال سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬5) وقال جل شانه: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ ¬

_ (¬1) - الاسنى للقرطبي ص314. (¬2) - الذي في صحيح مسلم من حديث ابي مسعود البدري قال كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي بِالسَّوْطِ فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِي اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ فَلَمْ أَفْهَمْ الصَّوْتَ مِنْ الْغَضَبِ قَالَ فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ يَقُولُ اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ قَالَ فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِي فَقَالَ اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ قَالَ فَقُلْتُ لَا أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا) حديث رقم (3135) . (¬3) - موسوعة الاسماء الحسنى ج3 ص27. (¬4) - سورة لقمان الاية (28) . (¬5) - سورة يس الاية (82) .

ثمرة معرفة اسم الله القوي المتين العزيز القادر المقتدر

الْعَلِيمُ} (¬1) فهو سبحانه وتعالى قادر ذو مقدرة يصرف الامور كيفما شاء فهو الذي لايعجزه شيء, فهو سبحانه وتعالى قادر ذو مقدرة وتقدير فهو المقدر بقضائه, المدبر لشؤن الكون بقدرته وحكمته قال تعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} (¬2) وقال سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (¬3) اما المقتدر: فهوالذي يقدر على اصلاح الخلائق على وجه لايقدر عليه الا الله قال تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} (¬4) ثمرة معرفة اسم الله القوي المتين العزيز القادر المقتدر اذا عرف المكلف وعلم ان الله سبحانه وتعالى القوي المتين العزيز القادر المقتدر وان القوة لله جميعا وانه سبحانه وتعالى وحده لاشريك له, لاراد لقضائه, ولا معقب لحكمه, ولاغالب لامره, يعز من يشاء, وينصر من يشاء, ويخذل من يشاء, وان العزيز من اعزه الله, والذليل من اذله الله, والمنصور من نصره الله والمخذول من خذله, وان العزّة لله جميعا, وجب عليه ان يؤمن به سبحانه الملك القوي المتين العزيز القادر الممقتدر, وان يشهد ان الكمال والحمد والغناء التام والعزة كلها لله, فهو القوي الذي لاتنقطع قوته, ولا تلحقه في افعاله مشقة, ولا يمسه لغوب, فذلك قوة للمؤمن لانه يزيل عن نفسه الخوف والقلق باعتماده على اقوى الاقوياء ¬

_ (¬1) - سورة يس الاية (81) . (¬2) - سورة المرسلات الاية (23) . (¬3) - سورة القمر الاية (49) . (¬4) - سورة الكهف الاية (45) .

وهو الله عز وجل, فحال المؤمن امام الله انه يرى ويعلم ان كل الخلق بيد الله وهو مع الله وذلك سر قوة المؤمن, الا ترى ان الحق سبحانه وتعالى يقول على احد لسان انبياءه: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬1) فالانسان المؤمن اذا شعر بقوة الله وقدرته وعزته وحكمته فانه يقوى على خصمه وعلى شهواته وعلى اعدائه, اما اذا شعر بالضعف وغاب عنه حقيقة الايمان بقوة الله وعزته وقدرته فانه قد يضعف ومع الضعف الذلة والخنوع والتذلل والشعور بالنقص والخوف وبذل ماء الوجه, قال الشاعر: إِنَّ الهَوانَ حِمارُ القَومِ يَعرِفُهُ ... والحُرُّ يُنكِرُهُ والرَّسلَةُ الأُجُدُ وَلَن يُقيمَ عَلى خَسفٍ يُسامُ بِهِ ... إِلاّ الأَذَلاّنِ عَيرُ الأَهلِ وَالوَتِدُ (¬2) وقال اخر: أَلا إِنَّما التَقوى هُوَ العِزُّ وَالكَرَم ... وَحُبُّكَ لِلدُنيا هُوَ الذُلُّ وَالعَدَم واما سلطان الخطاب فهو يقول: وعافَتْ وُرُودَ الذُّلِّ لي نَفْسُ ماجِدٍ ... ترى سَفَها وِرْدي له وخَبالا (¬3) ¬

_ (¬1) - سورة هود الاية (56) . (¬2) - المتلمس الضبعي, ? - 43 ق. هـ / ? - 580 م جرير بن عبد العزى، أو عبد المسيح، من بني ضُبيعة، من ربيعة. شاعر جاهلي، من أهل البحرين، وهو خال طرفة بن العبد. كان ينادم عمرو بن هند ملك العراق، ثم هجاه فأراد عمرو قتله ففرَّ إلى الشام ولحق بآل جفنة، ومات ببصرى، من أعمال حوران في سورية. وفي الأمثال: أشأم من صحيفة المتلمس، وهي كتاب حمله من عمرو بن هند إلى عامله بالبحرين وفيه الأمر بقتله ففضه وقُرِأ له ما فيه فقذفه في نهر الحيرة ونجا. (¬3) - السلطان الخطاب475 - 533 هـ / 1082 - 1138 م السلطان الخطاب بن الحسن بن أبي الحفاظ الحجوري. أحد شعراء القرن السادس الهجري من أهل اليمن، متصوف، فارس، في شعره لين وقسوة وله هجاء مر لمخالفيه في العقيدة.

فلو كنت اخي مع الله فسترفع راسك دون كبر, ودون استطالة على احد, ودون عدوان, لأنك تشعر ان الله معك وان الله القوي لن يتركك ولن يسلمك الى خصومك, فالله عز وجل قادر على ان يعطي وقادر على ان ياخذ, وقد وعد المنحرف والمعرض بمعيشة ضنك, ووعد المستقيم بحياة طيبة والله القوي العزيز قادر على ان يحقق وعده ووعيده, فافعال الله كلها تطابق اقواله في كتابه, ومطابقة افعاله لأقواله شهادة منه بانه القوي العزيز القادر المقتدر وان القرآن الكريم كلامه قال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} (¬1) فاياك والشك في قوة الله وعزته وقدرته فان ذلك راس البلاء فاعتقد جازما ان الله على كل شيء قدير, يعطيك, ويغنيك, ويقويك, ويحفظك, ويؤيدك, ويحميك, ويشفيك, ويعافيك, فاياك والشك فانه راس الشر, فقو اعتقادك في الله, فانه اذا لم يساورك شك بان الله على كل شيء قدير فانت في كنف الله وفي رحمته ورعايته, فتوجه اليه, واجعل عملك كله في الله, واقطع الامال بسواه, فهذا هو الدين وهذا هو التوحيد الخالص, فتطلع الى رب المخلوقين والى من بيده القدرة والقوة والعزة, وهذا لايعني ان تترك الاسباب ولكن اتجه الى الله خالق الاسباب ومهيئها ومقدر الامور ومدبرها, فالانسان وان كانت له قدرة فانها ناقصة, فاذا اعتمد على قوة الله وقدرته شعر بالقوة, فمن آمن بقوة الله شعر بالضعف, فالانسان ضعيف, ولهذا فان المؤمن لايفتأ يقول: انشاء الله في كل احواله, فان جاءه ¬

_ (¬1) - سورة المعارج الاية (40) .

خير قال: هذا من فضل الله, وان نجح في عمل قال: هذا بتوفيق الله, وان رزقه الله مالاً قال: هذا من كرم الله, وان ادبه الله عز وجل قال هذا من رحمة الله, فان ابتلي المؤمن صبر وحمد الله فكان خيرا له, وان اصاب نعمة شكر الله فكان خيرا له, وهذا هو حال المؤمن الذي استشعر قوة الله وعزته وقدرته وتقديره وتصريفه للامور, ولم يجعل للشك سبيلا الى قلبه, قال الشاعر: الشك والوهم رأس الشر والحذر ... والجد والصبر باب الفوز والظفر والعزم والحزم لا ينجي من القدر ... سلم هديت لماضي الحكم واصطبر واسأل من اللَه كشف البؤس والضرر حسن ظنونك في المولى ترى البشرى ... فالرب عند ظنون العبد فلتدر جاء الحديث بذا فاصغ إلى الذكرى ... والبس من الصبر سربالاً لدى الضجر واسأل من اللَه كشف البؤس والضرر لا تجزعن ولا تيأس من الفرج الذكرى ... وقل إذا لح خطب الضيق والحرج الضجر اشتد أزمة إن تشتد تنفرجي ... فالعسر باليسر متبوع على الأثر واسأل من اللَه كشف البؤس والضرر روح فؤادك من هم ومن حزن الذكرى ... فإنه تعب للروح والبدن وارجع إلى اللَه في السراء والمحن ... رجوع مفتقر مضطر منكسر واسأل من اللَه كشف البؤس والضرر كم شدة ضاق منها الصدر والنادى ... تخوف القلب منها شرها العادي

أمست فما أصبحت حتى بداباد من لطف ربك لم يبق ولم يذر واسأل من اللَه كشف البؤس والضرر وللنوائب والأكدار أوقات ... إذا انقضت تنقضي منها إقامات وفي التحرك قبل الوقت آفات ... فاسكن لها وارتقب يا قلب واصطبر واسأل من اللَه كشف البؤس والضرر وإن قولك لم هذا وكيف وهل ... من اعتراض على الرحمن عز وجل قل قدر اللَه ما شاء الإله فعل ... إذا غلبت كما قد صح في الخبر واسأل من اللَه كشف البؤس والضرر قل حسبي اللَه ذو العرش الذي يعلم ... بالسر والجهر واستسلم له تسلم ولا تقل لو كذا كان كذا تندم ... وارض بمر القضا تنج من الخطر واسأل من اللَه كشف البؤس والضرر فرب أمر مهول يضجر الإنسان ... في طية موجبات العفو والغفران وفي عواقبه الخيرات والإحسان ... فارم العواقب وادخل روضة الفكر واسأل من اللَه كشف البؤس والضرر وبشر القلب بالأفراح والفرح ... وبالعوافي من الأكدار والترح الفكر وبالهنا والمنى والفوز بالمنح ... من فضل ربك واشكر مدة العمر واسأل من اللَه كشف البؤس والضرر قل يا سميع الدعا يا عالم الأسرار ... يا كاشف الضر يا غفار يا قهار يا جابر الكسر يا جبار يا ستار ... إليك فوضت أمري وانتهى نظري

واسأل من اللَه كشف البؤس والضرر باعدتي يا رجائي في المهمات ... ومفزعي وملاذي في الملمات ضاقت بما حال حالاتي وأوقاتي ... فاكشفه في عجل يابارئ الصور واسأل من اللَه كشف البؤس والضرر إليك وجهت وجهي وانتهى سيري ... ولم أُرَجِّ لكشف البؤس والضير سواك يا رب يا فتاح بالخير ... سبحانك اللَه يا ركني ويا وزري واسأل من اللَه كشف البؤس والضرر يا ذا الجلال وذا الإكرام والإعظام ... يا مالك الملك يا ذا الطَّول والإنعام يا رب يا رب ثبتنا على الإسلام ... والحق والصدق واحفظنا من الغير واسأل من اللَه كشف البؤس والضرر (¬1) ان من ثمار الايمان بقوة الله وعزته وقدرته استفادة الانسان معرفة مخافة الله تعالى واجلاله والاعتماد على قوته, ويستفيد المؤمن ايضا ان يكون قويا في دينه متينا في يقينه متمتعا بطاعة ربه, فيمتنع عند ذلك عن ظلم الناس. احيانا يغيب على الانسان استشعار قوة الله وقدرته وعزته فيظلم الناس ويعتدي عليهم ويتحداهم, وياخذ مافي ايديهم ويهينهم, فياتي عقاب الله الرادع له, فالانسان ان اعتز بالله شعر بالقوة, وان راى قوة الله شعر بالضعف امامه, فتادب اخي باداب الله, فانت بحاجة الى ان تعرف قوة الله وعزته وقدرته, كيف تقف عند حدك, ورحم الله عبدا عرف قدر نفسه ولم يتعد طوره وأمن الناس شره, واستمد العز والقوة والقدرة من الله واعتمد في كل الامور عليه. ¬

_ (¬1) - هذه الابيات للسيد العلامة/ عبد الله بن علوي الحداد, سبق ترجمته في الجزء الاول, وانظر ديوانه الدر المنظوم لذوي العقول والفهوم.

دعاء الله باسمه القوي المتين العزيز القادر المقتدر

دعاء الله باسمه القوي المتين العزيز القادر المقتدر ياالله ياقوي يامتين ياعزيز ياقادر يامقتدر ياكريم اسالك ان تصلي على محمد النبي الامين وآله وان تقويني على طاعتك لأنال منك الرضا وان تجملني بالتقى, وان تنصرني على العدى, وان تحمل ضعفي واولادي واخواني المؤمنين على قوة اسمك القوي لافوز واكفى, فانت القادر على ماخلقت ومالم تخلق فاقدرني على طاعتك, وجنبني التعوق, وهبني بالعفو والعافية ماتعطي وترزق, ياالله ياقوي يامقتدر كلما احاط به علمك في حكمك فاستجبلي ماسالتك من خير وبر, وتفضل علي فيما لم اسالك من كل خير في علمك, واجعل عقلي مقتدرا على هوا نفسي بعظيم اسمائك وصفاتك, ياالله يامعز أعزني بعزك لانال منك عزا وزدني اليك افتقارا, وذللني لعظمتك والجلال, وذلل لي جبابرة خلقك وكلما يصعب من الامور, ياالله يامعز يامذل ياقوي ياقدير يامقتدر وفقني لطاعتك, وأصلح جميع احوالي بحولك وقوتك, وأسكني الفردوس الأعلى من الجنة, واغفرلي ولوالدي وللمؤمنين والمؤمنات ياعزيز يارحيم ياقادر يامقتدر ياقريب يامجيب, وصل على محمد وآل محمد كما صليت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم انك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم في العالمين انك حميد مجيد, وسلم تسليما كثيرا.

الفصل السادس والثلاثون صلة الرحم وبر الوالدين

الفصل السادس والثلاثون صلة الرحم وبر الوالدين صلة الرحم وبر الوالدين ان صلة القرابة والاحسان اليهم من اعظم القربات, وانفع الاعمال التي يكون بها صلاح المجتمع والاسرة, ويضاعف الله لمن يصل القرابه الحسنات وفي مختار الصحاح: (الرحم القرابة) (¬1) وسميت القرابة رحما لانها داعية التراحم بين الاقرباء, والمراد محبتهم وموالاتهم والاحسان اليهم, او هي اثر من اثار الرحمة, فالقاطع لها منقطع من رحمة الله, والرحم يجب مواصلتها بالتوادد, والتناصح, والعدل والانصاف, والقيام بالحقوق الواجبة, والنفقة على القريب المعسر, والتغافل عن زلاته, وصلة الرحم تكون بالمال وبالعون على الحاجة وبدفع الضرر وبطلاقة الوجه وبالدعاء, وايصال ماامكن من الخير ودفع ماامكن من الشر وفي الذكر الحكيم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬2) وقال جل شانه: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} (¬3) وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬4) وفي الحديث النبوي الشريف: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ ¬

_ (¬1) - مختار الصحاح للرازي, ص238, مصدر سابق. (¬2) - سورة النساء الاية (1) . (¬3) - سورة الرعد الاية (21) . (¬4) - سورة الانفال الاية (75) .

الْآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ ... ) (¬1) وفي رواية: (الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ) (¬2) وفي فتح الباري لابن حجر: قال بن أبي جمرة الوصل من الله كناية عن عظيم إحسانه وإنما خاطب الناس بما يفهمون, ولما كان أعظم ما يعطيه المحبوب لمحبه الوصال وهو القرب منه وإسعافه بما يريد ومساعدته على ما يرضيه وكانت حقيقة ذلك مستحيلة في حق الله تعالى عرف أن ذلك كناية عن عظيم إحسانه لعبده (¬3) وقال الامام علي بن ابي طالب رضي الله عنه: واخفض جناحك للقرابة كلهم ... بتذلل واسمح لهم ان أذنبوا واما عبيد السلامي فهو يقول: وَحَسبُكَ من جَهلِ وَسوءِ صَنيعَةٍ ... مُعاداةُ ذي القُربى وإِن قيلَ قاطِعُ وَلكن أَواسيهِ وأنسى ذُنوبَهُ ... لترجِعَهُ يَوماً إِليَّ الرَواجِعُ (¬4) وقال اخر: واصِل ذَوي الأَرحامِ مِنكَ وَإِن جَفوا ... فَوِصالُهُم خَيرٌ مِنَ الهِجرانِ (¬5) ¬

_ (¬1) - اخرجه البخاري حديث رقم (5673) . (¬2) - اخرجه مسلم حديث رقم (4635) . (¬3) - فتح الباري لابن حجر ج10 ص417. (¬4) - هذان البيتان لعبيد بن عبد العزى السلامي. شاعر جاهلي أحد بني سلامان بن مفرج وهو ابن عم الشنفري وهو أزدي. وهو من الشعراء الجاهليين المجيدين ففي شعره قوة ومتانة ولغة عالية وتعبير رصين. وقد اختار له ابن ميمون صاحب منتهى الطلب ثلاث قصائد هي من عيون الشعر العربي. (¬5) - هذا البيت لعبد الله محمد القحطاني.

صلة الرحم قوة وسعادة

صلة الرحم قوة وسعادة ان صلة الارحام قوة واخوة, فمن اعانه اخوانه عظم شانه, وكثر اعوانه فصلة العشيرة نعمة كبيرة, فبادر بالاحسان اليهم يكثر مالك, ويسعد حالك, ويبارك في عمرك, فواسهم بالمال واحسن اليهم في المقال, فمن لم ينفع الاهلَ مالُه مات ولم تجزع عليه اهله واقاربه, قال الشاعر: أَخاكَ أَخاكَ إِنَّ من لا أَخاً لَه ... كساعٍ الى الهيجا بغير سلاحِ وإِن ابن عم المرء فاعلم جناحُه ... وَهَل ينهضُ البازي بغير جناح (¬1) وفي الامثال السائرة: بالساعد تبطش الكف, ولن يعجز القوم اذا تعاونوا, وفي الحديث (الْبَرَكَةَ مَعَ الْجَمَاعَةِ) (¬2) وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ (¬3) , فمن وصل قرابته واخوانه اضاف الى قوته قوتهم, وفي امثال العرب: كدر الجماعة خير من صفو الفرقة, واذا تفرقت الغنم قادتها العنز الجرباء, (¬4) قال الشاعر: كونُوا جميعَاً يا بَنِيَّ إِذا اعتَرى ... خَطْبٌ ولا تتفرقُوا آحادَا تأبَى القِداحُ إِذا اجتمعْنَ تكسُّراً ... وإِذا افترقْنَ تكسَّرتْ أفرادَا (¬5) وقال اخر: وَقُل كونوا جَميعاً في اِئتِلافٍ ... يَزِد رِفدُ البِلادِ مِنَ المَواتِ ¬

_ (¬1) - هذان البيتان لمسكين الدارمي. (¬2) - سنن ابن ماجه حديث رقم (3287) . (¬3) - صحيح مسلم, حديث رقم (4867) . (¬4) - كنوز الامثال ص312. (¬5) - هذان البيتان للطغرائي وقيل لغيره.

قصة للاكتم بن صيفي

وَتَحيَوا وَالهَناءَةَ ما سَعَيتُم...... وَيَنبِغُ فيكُمو فَذُّ الدُهاةِ فالمرء يتقوى باقاربه, فليس الدلو الا بالرشاء, والقدر الا الافاثي, فاحسن الى اقاربك, فالاقربون اولى بالمعروف, وفي الذكر الحكيم: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (¬1) . قصة للاكتم بن صيفي روي ان اكتم بن صيفي دعا اولاده عند موته فاستدعى بضمامة من السهام وتقدم الى كل واحد ان يكسرها فلم يقدر احد على كسرها ثم بددها وتقدم اليهم ان يكسروها فاستهلوا كسرها فقال كونوا مجتمعين ليعجز من ناوأكم عن كسركم كعجزكم (¬2) . وقال عبد العنبري: إِذا ما أَرادَ اللَّهُ ذُلَّ قَبيلَةٍ ... رَماها بِتَشتيتِ الهَوى وَالتَّخاذُلِ واما المقنع الكندي فهو يقول: وَإِن الَّذي بَيني وَبَين بَني أَبي ... وَبَينَ بَني عَمّي لَمُختَلِفُ جِدّا أَراهُم إِلى نَصري بِطاءً وَإِن هُمُ ... دَعَوني إِلى نَصرٍ أَتيتُهُم شَدّا فَإِن يَأكُلوا لَحمي وَفَرتُ لحومَهُم ... وَإِن يَهدِموا مَجدي بنيتُ لَهُم مَجدا وَإِن ضَيَّعوا غيبي حَفظتُ غيوبَهُم ... وَإِن هُم هَوَوا غَييِّ هَوَيتُ لَهُم رُشدا وَإِن بادَهوني بِالعَداوَةِ لَم أَكُن ... أَبادُهُم إِلّا بِما يَنعَت الرُشدا ¬

_ (¬1) - سورة البقرة الاية (180) . (¬2) - محاضرة الادباء ص144.

القريب له حق فلا تخذله

وَإِن قَطَعوا مِنّي الأَواصِر ضَلَّةً......وَصَلتُ لَهُم مُنّي المَحَبَّةِ وَالوُدّا وَلا أَحمِلُ الحِقدَ القَديمَ عَلَيهِم ... وَلَيسَ كَريمُ القَومِ مَن يَحمِلُ الحِقدا (¬1) ويغفر الله لشوقي حيث يقول: وَنَحنُ في الشَرقِ وَالفُصحى بَنو رَحِمٍ ... وَنَحنُ في الجُرحِ وَالآلام ِإِخوانُ القريب له حق فلا تخذله لاتخذل قرابتك ولاتستبد برايك, تظفر في امرك, صل قريبك وقوّمه ان اعوج, وحاول اصلاحه وان فسد, وفي امثال العرب: (ادناك ادناك وان رفضك وقلاك. ويدك منك وان كانت شلاء) وفي امثال العرب السائرة ايضا: اكل لحمي ولا أدعهُ لِآكل (¬2) , وهذا المثل يضرب لمن يصيب نفسه وعشيرته بالمكروه ويابى ان يصيبهم به غيره. ويراد به ايضا نصر القريب على الغريب, وان كان بينك وبينه تنافر, قال الشاعر: فَإِن كُنتُ مَأْكولاً فَكُن خَيرَ آكِلٍ ... وَإِلَّا فَأَدرِكني وَلَمّا أُمَزِّقِ (¬3) ¬

_ (¬1) - هذه الابيات للمقنع الكندي محمد بن عميرة بن أبي شمر بن فرعان بن قيس بن الأسود عبد الله الكندي. شاعر، من أهل حضرموت. مولده بها في (وادي دوعن) ، اشتهر في العصر الأموي، وكان مقنعاً طول حياته، و (القناع من سمات الرؤساء) كما يقول الجاحظ. وقال التبريزي في تفسيره لقبه: المقنع الرجل اللابس سلاحه، وكان مغط رأسه فهو مقنع، وزعموا أنه كان جميلا يستر وجهه، فقيل له: المقنع! وفي القاموس والتاج: المقنع، المغطى بالسلاح أو على رأسه مغفر خوذة. قال الزبيدي: وفي الحديث أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) زار قبر أمه في ألف مقنع أي في ألف فارس مغطى بالسلاح.. (¬2) - كنوز الامثال ص12. (¬3) - هذا البيت للممزق العبدي شأس بن نهار بن أسود بن جزيل بن حيي بن عاس بن سود بن عذرة بن منبه. شاعر جاهلي، هو ابن أخت المثقب العباسي (العائذ بن محصن بن ثعلبة المتوفى سنة 36 ق. هـ 587 م) . له شعر في المفضليات..

معاداة ذوي القربا وقطيعتهم

وقال اخر: أخي أنت دِرْعي إنْ ألمّت مُلِمّةٌ ... وإن فدحتْني عابساتُ النوازل أخي أنت من نفسي دماؤك من دمي ... فإن كنتُ مأكولاً فكنْ خيرَ آكل أأرمي أخي يا ويلَ ما صنعتْ يدي ... فيا ليتها كانتْ بغيرِ أنامل (¬1) وفي الحديث (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ قَالَ تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ) (¬2) معاداة ذوي القربا وقطيعتهم من تعمد ذم اقربائه دل على دناءة اخلاقه, واعترف بلؤم اعراقه, ومن انكر حسن الصنيعة, استوجب قبح القطيعة, ومن امتن في هبته وعطائه بالغ في اساءته وخيلائه ومن رجع في هبته, بالغ في خسته, ومن رضي لنفسه بالاساءة, شهد على نفسه بالرداءة, ومن اغلق عن اخيه بابه, ذم اليه خلقه وادابه, ومن بخل على نفسه بخيره لم يجد به على غيره, ومن تصرف على حكم المروءة دل على شرف الابوة. ومن كرم على الاقرباء دل على كرامة الاباء, فلا تسء الى من احسن اليك من القرابة ولاتعن على من انعم عليك, والتزم الادب مع الاقرباء, والاعتدال مع الاصدقاء, فانت تعلم ان ¬

_ (¬1) - هذه الابيات لعلي الجارم1299 - 1368 هـ / 1881 - 1949 م علي بن صالح بن عبد الفتاح الجارم. أديب مصري، من رجال التعليم له شعر ونظم كثير، ولد في رشيد، وتعلم في القاهرة وإنجلترة، واختير ليكون كبير مفتشي اللغة العربية بمصر. ثم وكيلاً لدار العلوم حتى عام (1942) ، مثل مصر في بعض المؤتمرات العلمية والثقافية، وكان من أعضاء المجمع اللغوي وتوفي بالقاهرة فجأة، وهو مصغ إلى أحد أبنائه يلقي قصيدة له في حفلة تأبين لمحمود فهمي النقراش. له (ديوان الجارم-ط) أربعة أجزاء، (قصة العرب في إسبانيا - ط) ترجمة عن الإنكليزية. و (فارس بن حمدان-ط) ، (شاعر ملك-ط) ، وقد شارك في تأليف كتب أدبية منها: (المجمل-ط) ، و (المفصل-ط) وكتب مدرسية في النحو والتربية.. (¬2) - صحيح البخاري, باب يمين الرجل لصاحبه انه اخوه اذا خاف, حديث رقم (6438) .

الادب ادبان: ادب شريعة وادب سياسة, فادب الشريعة ما أدى الى قضاء الفرض, وادب السياسة ما أعان على عمارة الارض, وانت مع القرابة محتاج لهما, حتى تؤدي مالهم من الواجب المفترض, وتجعل منهم قوة لك, فعادة الكرام الجود, وعادة اللئام الجحود, فاذا اذنبت فاعتذر, واذا اذنب اليك فاغتفر, فالمعذرة بيان العقل, والمغفرة برهان الفضل, واياك ان تسن فيهم مايعقب الوزر والاثم, قال الشاعر: تلوم على القطية من اتاها ... وانت سننتها في الناس قبلي وقال اخر: إِذا كانَ في صَدرِ ابنِ عَمِّكَ إِحنَةً ... فَلا تَستَثرها سَوفَ يَبدو دَفينُها وَإِن حَمأَةُ المَعروفِ أَعطاكَ صَفوَها ... فَخُذ عَفوَهُ لا يَلتَبِس بِكَ طينُها (¬1) اما الشريف الرضي فهو يقول: لِلذُلِّ بَينَ الأَقرَبينَ مَضاضَةٌ ... وَالذُلُّ ما بَينَ الأَباعِدِ أَروَحُ وَإِذا رَمَتكَ مِنَ الرِجالِ قَوارِصٌ ... فَسِهامُ ذي القُربى القَريبَةِ أَجرَحُ ولله در القائل: وَإِنَّ اِمرِءاً لا يَتَّقي سُخطَ قَومِهِ ... وَلا يَحفَظُ القُربى لغَير مُوَفَّقِ (¬2) ¬

_ (¬1) - هذان البيتان لابي الطَمحان القَيني45 ق. هـ - 30 هـ / 578 - 650 م حنظلة بن شرقي، أحد بني القين، من قضاعة. شاعر، فارس، معمر، مخضرم عاش في الجاهلية، وكان فيها من عشراء الزبير بن عبد المطلب، وهو ترب له، أدرك الإسلام وأسلم ولم ير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) . وقيل في اسمه ونسبه: ربيعة بن عوف بن غنم بن كنانة بن القين بن جسر. وفي الأغاني: كان جيد الشعر وهو صاحب البيت المشهور: أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه (¬2) - هذا البيت لابي زبيد الطائي.

فوائد اعطاء ذوي القربى

وقال اخر: وَظُلمُ ذَوي القُربى أَشَدُّ مَضاضَةً ... عَلى المَرءِ مِن وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ (¬1) وفي صحيح مسلم من حديث جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ (¬2) قَالَ سُفْيَانُ يَعْنِي قَاطِعَ رَحِمٍ, وقال علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم لولده: يابني لاتصحبن قاطع رحم فاني وجدته ملعونا في كتاب الله في ثلاثة مواضع. وقال الحسن البصري رحمه الله: اذا اظهر الناس العلم, وضيعوا العمل, وتحابوا بالالسن, وتقاطعوا بالارحام, لعنهم الله فاصمهم واعمى ابصارهم. وفي الذكر الحكيم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ* أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} (¬3) فوائد اعطاء ذوي القربى إن اعطاءك ذوي القرباء من مالك, وايتاءهم من الخير الوافر من حلالك به تنصلح احوالك, ويعود ذلك عليك بنفع عظيم, وفضل عميم, فلايفوتك هذا الفضل فتحرم من الاجر, ونلخص لك من تلك الفوائد مايذكرك بتلك الفضيلة, ويدفعك الى الاحسان, والإبتعاد عن الرذيلة, في الامور التالية: 1. 2. ¬

_ (¬1) - هذا البيت لطرفه بن العبد. (¬2) - صحيح مسلم حديث رقم (4636) . (¬3) - سورة محمد الاية (22و23) .

1. ايتاء ذوي القربى احسان امر به الرحمن, وفيه صلة للارحام, قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} (¬1) اي احسنوا الى الوالدين واحسنوا الى ذوي القربى, واعطاؤهم المال فيه احسان اليهم, وانعام عليهم. 2. اعطاء ذوي القربى سبب في رضوان الله واحسانه, ففي الحديث النبوي: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ قَالَتْ الرَّحِمُ هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنْ الْقَطِيعَةِ قَالَ نَعَمْ أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ قَالَتْ بَلَى يَا رَبِّ قَالَ فَهُوَ لَكِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (¬2) . 3. اعطاء ذوي القربى سبب لاستجلاب مودة القربى ومحبتهم, ففي الحديث النبوي: جُبِلَتِ الْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا وَبُغْضِ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهَا (¬3) . 4. اعطاء ذوي القربى فيه دليل على الشفقة على الاهل من القرابة, وفي الذكر الحكيم يقول العزيز الحكيم: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ} (¬4) . 7. 8. ¬

_ (¬1) - سورة النساء الاية (36) . (¬2) - البخاري في صحيحه باب من وصل وصله الله, حديث رقم (5528) . (¬3) - اورده السيوطي في الجامع الصغير ونسبه الى ابن عدي في الكامل, وابي نعيم في الحلية, وصحح البيهقي في شعب الايمان وقفه ورمز اله السيوطي بالضعف, وانظر الجامع الصغير حرف الجيم حديث (3579) . (¬4) - سورة الاسراء الاية (26) .

5. اعطاء ذوي القربى يعتبر صدقة وصلة, فاذا اعطيتهم من مالك حصلت على اجر الصدقة والصلة, وفي البخاري عَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ أَنَّهَا أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِكِ (¬1) 6. ان افضل الصدقة هو ما اعطيته ذوي القربى, وفي الحديث النبوي: إِنَّ أَفْضَلَ الصَّدَقَةِ الصَّدَقَةُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ (¬2) . 7. اعطاء ذوي القربى فيه كفارة للذنب, وفي الحديث النبوي: ان رجلا اتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني أذنبت ذنبا كبيرا فهل لي من توبة؟ قال: ألك والدان؟ قال: لا قال: فلك خالة قال: نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبرها إذا (¬3) . 8. عطاء ذوي القربى فيه بسط الرزق, وبركة العمر, بسبب التوفيق الذي يحصل لمن يعطي رحمه, بعمارة الوقت بما ينفع الانسان في الدنيا والاخرة, وقد سبق حديث من احب ان يبسط له في رزقه ... الخ. 13. 14. ¬

_ (¬1) - صحيح مسلم, باب فضل النفقة والصدقة على الاقربين والزوج حديث رقم (1666) . (¬2) - احمد في المسند حديث رقم (22430) . (¬3) - المستدرك على الصحيحين للحاكم حديث رقم (7261) .

9. اعطاء ذوي القربى يقرب من الجنة, ويباعد من النار, ففي الحديث أَنَّ أَعْرَابِيًّا عَرَضَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي سَفَرٍ فَأَخَذَ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ أَوْ بِزِمَامِهَا ثُمَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي بِمَا يُقَرِّبُنِي مِنْ الْجَنَّةِ وَمَا يُبَاعِدُنِي مِنْ النَّارِ قَالَ فَكَفَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نَظَرَ فِي أَصْحَابِهِ ثُمَّ قَالَ لَقَدْ وُفِّقَ أَوْ لَقَدْ هُدِيَ قَالَ كَيْفَ قُلْتَ قَالَ فَأَعَادَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ دَعْ النَّاقَةَ (¬1) . 10. اعطاء ذوي القربى سبب للشفاء من الامراض, والاسقام, ففي الحديث الشريف: داووا مرضاكم بالصدقة (¬2) وافضل الصدقة على ذوي القربى. والمتتبع لنصوص القرآن والسنة النبوية سيجد الكثير من الفوائد والمنافع التي تتحصل للانسان باعطائه لقرابته مما اعطاه الله, وقد اشرنا الى بعض من ذلك, ويكفي العاقل اللبيب ان يتدبر في قول العزيز الحكيم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} (¬3) وقوله تعالى: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬4) ¬

_ (¬1) - مسلم في صحيحه باب بيان الايمان الذي يدخل به الجنة حديث رقم (14) . (¬2) - المعجم الاوسط للطبراني حديث رقم (1963) . (¬3) - سورة النحل الاية (90) . (¬4) - سورة الروم الاية (38) .

الوالدان من القرابة

الوالدان من القرابة والوالدان: هما أبو الإنسان وأمه, قال الراغب: الأب يقال له: والد, والأم: والدة, ويقال لهما: والدان (¬1) , وفي المصباح: الوالد: الأب وجمعه بالواو والنون, والوالدة: الأم وجمعها بالألف والتاء, والوالدان: الأب والأم للتغليب (¬2) , وقال الفيروزأبادي: الوالد: الأب, وهي والد ووالدة, وهما الوالدان, قيل على تغليب الذكر وقيل تثنية والد التي يطلق عليها, كما هو مصرح في القاموس (¬3) . أما التعريف الإصطلاحي للوالد: أي: الأب, فقد عرفه الجرجاني بقوله: هو حيوان يتولد من نطفته شخص أخر من نوعه (¬4) . وعرفت الموسوعة الفقهية الأب: بأنه رجل تولد من نطفته المباشرة على وجه شرعي أو على فراش إنسان أخر (¬5) . وتعريف الموسوعة أخص من تعريف الجرجاني, الذي يشمل الإنسان وغيره من الحيوانات ويشمل الوالد الشرعي وغير الشرعي, لهذا كان تعريف الموسوعة أخص وأضبط. ¬

_ (¬1) المفردات ص547. (¬2) المصباح المنير ص399. (¬3) بصائر ذوي التمييز ج5ص278. (¬4) التعريفات للجرجاني ص48. (¬5) الموسوعة الفقهية الصادرة عن وزارة الأوقاف الكويتية ج1ص126.

وأما الأم وان كانت في اللغة بإزاء الأب وتعم الوالدة القريبة والبعيدة وكل ما كان أصلاً لوجود الشيء أو تربيته أو إصلاحه أو مبدئه فإنه يقال له: أم, إلا أن المراد هنا بالوالدة: من ولدته. فالبر بالوالدين من انفع القربات, وقيل البر هوالاحسان وهو في حق الوالدين وحق الاقربين من الاهل ضد العقوق, وفي الذكر الحكيم: {وقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (¬1) أي: أمر وألزم وأوجب, قال الراغب: القضاء: فصل الأمر قولاً كان ذلك أو فعلاً وكل واحد منهما على وجهين: إلهي وبشري, فمن القول الإلهي قوله تعالى: {وقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} (¬2) وقال الشوكاني: أي أمر أمراً جازماً وحكماً قطعاً وحتماً مبرماً (¬3) بأن لا تعبدوا إلهاً غير الله, والنص القراني يفيد وجوب إفراد الله جل وعلا بالعبادة. {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} أي: وقضى بأن تحسنوا بالوالدين إحساناً, أو وأحسنوا بهما إحساناً, ولا يجوز أن يتعلق الجار والمجرور في قوله تعالى: {بِالْوَالِدَيْنِ} بـ {إِحْسَاناً} لأن المصدر لا يتقدم عليه ما هو متعلق به أي لا تتقدم عليه صلته (¬4) , ¬

_ (¬1) - سورة الاسراء الاية (23و24) . (¬2) المفردات ص406. (¬3) فتح القدير ج3ص218. (¬4) إعراب القرآن وبيانه ج5ص411.

{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ} إما: هي إن الشرطية زيدت عليها ما تأكيداً, ولذلك صح لحوق النون المؤكدة للفعل المضارع يبلغ الذي بني على الفتح لأتصاله بنون التوكيد الثقيلة وهو في محل جزم, وبلوغ الكبر إدراك الأبوين سن الشيخوخة, قال الراغب: البلوغ والبلاغ الإنتهاء إلى أقصى المقصد والمنتهى مكاناً كان أو زماناً أو أمراً من الأمور المقدرة وربما يعبر به عن المشارفة عليه وإن لم ينته (¬1) . والكبر -في النص القرآني-: هي سن الشيخوخة, قال الراغب: يقال فلان كبير أي مسن (¬2) , وقال الفيروزأبادي: أن بعض المفسرين قال: ورد الكِبْر والكِبَر على أثنى عشر وجهاً عد منها: بمعنى زيادة السن قوله تعالى: (¬3) {فَأَصَابَهُ الْكِبَر} و (¬4) {وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} , (¬5) وإنما خص بالذكر الكبر لأن في هذا السن يحصل الضعف والوالدان أحوج ما يكون فيه إلى البر والرعاية. {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} أف: كلمة تضجر وتبرم, وقال ابن الاعرابي: الأُف: الضجر وأصلها إذا سقط تراب أو رماد فنفخ الإنسان ليزيله فالصوت الحاصل هو أف, ثم توسعوا في الكلمة حتى أصبحت تقال لكل مكروه (¬6) , وقال الراغب: أصل الأُف: كل مستقذر من وسخ وقلامة ظفر وما يجري مجراهما, ويقال ذلك لكل مستخف استقذاراً له (¬7) . {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} النهر: الزجر والغلظة, أي: لا تزجرهما, يقال: نهره ينهره نهراً أي زجره. {وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} أي: ليناً لطيفاً حسناً طيباً. {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} أي: ألن جناحك وتواضع لهما بتذلل وخضوع, وورد في الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم, فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك, قال: ثم من؟ قال: أمك, قال: ثم من؟ قال: أمك, قال: ثم من؟ قال: أبوك) (¬8) , وقد جاء في سورة لقمان قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (¬9) , ولا يختص بر الوالدين بأن يكونا مسلمين بل إن كانا كافرين يبرهما ويحسن إليهما إن كان لهما عهد قال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ} (¬10) , وفي صحيح البخاري عن أسماء قالت: (قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش ومدّتهم إذ عاهدوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع أبيها فاستفتيت النبي صلى الله عليه وعلى آله ¬

_ (¬1) المفردات ص70. (¬2) المفردات ص423. (¬3) سورة البقرة (266) . (¬4) سورة آل عمران (40) . (¬5) بصائر ذوي التمييز ج4ص327. (¬6) صفوة التفاسير ج2ص157. (¬7) المفردات ص28. (¬8) أخرجه البخاري في صحيحه باب من أحق الناس بحسن الصحبة حديث (5626) , ومسلم في صحيحه باب بر الوالدين وأنهما أحق به حديث (2548) . (¬9) سورة لقمان (14) . (¬10) سورة الممتحنة (8) .

خير الدنيا والاخرة في بر الوالدين

وسلم فقلت: إن أمي قد قدمت راغبة أفأصلها؟ قال: نعم صلي أمك) (¬1) , وروي أيضاً عن أسماء قالت: (أتتني أمي راغبة في عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فسألت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أأصلها؟ قال: نعم) (¬2) . ويثبت حق الأم في البر والاحسان والارضاع لمجرد الولادة, وقد أدخل بعض العلماء الجدات باعتبار الجدة ولدت من ولدته فهي أم بعيدة, وقد نقل القرطبي عن ابن المنذر: أن الأجداد أباء والجدات أمهات فلا يغزُ المرءُ إلا بإذنهم قال: ولا اعلم دلالة توجب ذلك لغيرهم من الاخوة والقرابات (¬3) . خير الدنيا والاخرة في بر الوالدين ان بر الوالدين واكرامهما من العمل الذي يحبه الله تعالى, ويساوي الجهاد في سبيل الله, بل هو عند بعض العلماء افضل, ويساوي ثواب الحاج والمعتمر, ويوصل الى نعيم الجنة, ويزيد في العمر والرزق, ويسبب البركة في المال, فمن سره ان يضع الله له النجابة في إبنائه, فليكن بارا بوالديه, ومن احب الطهارة, والهداية, والتوفيق, فليكن محبا لواليه, ومن اراد ان يبره ابناؤه, فليبر والديه, فبر الوالدين يعتبر فرصة سانحة لضمان دخول الجنة, فمن ضيعها خاب وخسر, ففي الحديث: عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله ¬

_ (¬1) أنظر: الجامع لأحكام القرآن ج10ص240 , والحديث: أخرجه البخاري في صحيحه باب صلة المرأة أمها ولها زوج حديث (5634) . (¬2) أنظر: الجامع لأحكام القرآن ج10ص241 , والحديث: أخرجه البخاري في صحيحه باب صلة الوالد المشرك حديث (5633) . (¬3) الجامع لأحكام القرآن ج10ص241.

وَسَلَّمَ قَالَ رَغِمَ أَنْفُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ قِيلَ مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا فَلَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ (¬1) , وبر الوالدين يزيل الهموم, ويجلب اليسر والسرور, ويضمن النجاة, ويكون سببا السعادة, فقد قرن الله سبحانه رضاه برضاهما, في فأدّ حقوقهما تظفر بالسعادة في الدنيا والاخرة, قال الشاعر: وكم أب قد علا بابنٍ ذُرا شرف ... كما علا برسولِ اللَّهِ عدنان تَسْمُو الرِّجالُ بآباءٍ وآونةً ... تسمو الرجالُ بأبناءٍ وتزدان ولم أْقَصِّرْ بشيبانَ التي بلغتْ ... بها المبالغَ أعراقٌ وأغصان للِّهِ شيبانُ قوماً لا يشيبهمُ ... روع إذا الروعُ شابتْ منه وِلْدان (¬2) وقال اخر: لِأُمِّك حق لو علمت كثير ... كثيرك ياهذا لديه يسير فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي ... لها من جواها أنة وزفير وفي الوضع لو تدري عليها مشقة ... فمن غصص منها الفؤاد يطير وكم غسلت عنك الأذى بيمينها ... وما حجرها إلا لديك سرير وتفديك مما تشتكيه بنفسها ... ومن ثديها شرب لديك نمير وكم مرة جاعت وأعطتك قوتها ... حنانا وإشفاقا وأنت صغير فآها لذي عقل ويتَّبع الهوى ... وآها لأعمى القلب وهو بصير فدونك فارغب في عميم دعائها ... فأنت لما تدعو إليه فقير (¬3) ¬

_ (¬1) - صحيح مسلم, باب رغم انف من ادرك ابويه أو احدهما, حديث رقم (4627) . (¬2) - هذه الابيات لابن الرومي. (¬3) - اورد هذه الابيات الامام الذهبي في كتابه الكبائر دون نسبتها الى قائل معين.

حقوق الوالدين

حقوق الوالدين حقوق الوالدين عظيمة فلا تهملها, فبها تحصل على السعادة, وتنال الحسنى وزيادة, وقد قال بعض العلماء إن حقوق الوالدين على الولد سواء كان ذكراً أو أنثى عشرة: 1- أن الأبوين إذا احتاجا إلى طعام أو دواءٍ أو أحدهما، وجب على أولادهم القادرين إطعامهما ومعالجتهما. 2- إذا احتاجا إلى الكسوة، وجب على الولد كسوتهما. 3- إذا احتاجا إلى الخدمة وجبت خدمتهما، وهذا ليس تفضلاً وإنما يجب ذلك عند الضرورة. 4- إذا دعا الوالدان ولدهما وجب إجابتهما. 5- إذا أمر الوالد بأمر فيه طاعة وجب تنفيذه. 6- إذا تكلم الولد مع والديه وجب عليه أن يتكلم معهما باللين وبالكلام الحسن، لقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬1) وقوله {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا 7- ¬

_ (¬1) - سورة لقمان الاية (14و15) .

قصة اوردها القرطبي في التفسير

وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} (¬1) . 9- أن لا يدعو والده باسمه، بل يصفه بالأبوة. 10- إذا مشى معه أن يمشي خلفه تأدباً. وقيل أن يمشي خلفه نهاراً وأمامه ليلا 11- أن يرضى لهما ما يرضى لنفسه ويكره لهما ما يكره لنفسه. ??? أن يدعو لهما بالمغفرة والرحمة لقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (¬2) وأن يثني عليهما بالخير لقوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (¬3) . قصة اوردها القرطبي في التفسير ذكر الإمام القرطبي رحمه الله في كتابه الجامع لأحكام القرآن، قال: وقد روينا بالإسناد المتصل عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: يا رسول الله إن أبي أخذ مالي، فقال النبي: إئتني بأبيك، فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: إن الله عز وجل يقرؤك السلام ويقول لك: إذا جاءك الشيخ فاسأله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه، فلما جاء الشيخ قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ما بال ابنك يشكوك، أتريد أخذ ماله؟ فقال: سله يا رسول الله هل أنفقته إلا على إحدى عماته أو خالاته أو ¬

_ (¬1) - سورة النساء الاية (36) . (¬2) - سورة الاسراء الاية (24) . (¬3) - سورة لقمان الاية (14) .

على نفسي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إيه دعنا من هذا، أخبرني عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك؟ فقال الشيخ: والله يا رسول الله ما زال الله عز وجل يزيدنا بك يقيناً، لقد قلت في نفسي شيئاً ما سمعته أذناي، قال: قل وأنا أسمع، قال: قلت: غَذوَتُكَ مولوداً وَعُلتُكَ يافِعاً ... تُعَلُّ بِما أُحنيَ عَلَيكَ وَتَنهلُ إذا ليلة نابتك بالسقم لم أبت ... لسقمك إلا ساهراً أتململ كأني أنا المطروق دونك بالذي ... طُرقت به دوني فعيناي تهمل تخاف الردى نفسي عليك وإنها ... لتعلم أن الموت حتماً مؤجل فلما بلغت السن والغاية التي ... إليها مدى ما كنت فيك أُأَمل جعلت جزائي غلظة وفضاضة ... كأنك أنت المنعم المتفضل فليتك إذ لم ترع حق أبوتي ... فعلت كما الجار المجاور يفعل فأوليتني حق الجوار ولم تكن ... عليَّ بمال دون مالك تبخل قال: فحينئذٍ أخذ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بتلابيب ابنه وقال: (أنت ومالك لأبيك) (¬1) . ¬

_ (¬1) - أورده الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي في كتابه تفسير القرآن المسمى الجامع لأحكام القرآن ج10ص220 مطبعة دار الكتب. والحديث في مسند احمد، برقم (6919) .

عقوق الوالدين من الكبائر

عقوق الوالدين من الكبائر اذا كان حق الوالدين هو برهما والاحسان اليهما فان عقوقهما ينافي كل ذلك, وفي الحديث النبوي: قال أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلَاثًا قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ قَالَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ (¬1) فابتعد اخي عن عقوق الوالدين وعن جميع الكبائر, فاضرار عقوق الوالدين كثيرة وكبيرة, فلا تقع في هذه الجريرة, فهي محرمة كبيرة, توصل الى الجحيم, وتمنع من قبول العمل, وتقرب الاجل, فعاق الوالدين لايقبل عمله, وتعجل عقوبته, ومن عق والديه طمس الله بصيرته, ونزع منه الايمان, واسخط اهله عليه, فهو في الدنيا حقير فقير, وفي الاخرة بعيد من رحمة الله العلي الكبير, وعاق الوالدين لايجد شذا الجنّة ولاريحها, فابتعد من هذا الذنب الكبير, فان حق من تولا تربيتك, ورعايتك في صغرك ان تبره, وتحسن اليه, فكان حق والديك ان تبرهما, وتطيعهما, وتدعو لهما, وتحسن اليهما, فكم سعى والداك كي يوفرا لك حاجتك المادية, من طعام, وشراب, وكساء, وحاجات شتى, وكم قاما برعاية اخلاقك, وتثقيف طباعك, وتعليمك وارشادك, فانت مدين لهما كل حياتك, فتذكر ان حملك كان في بطن امك كرها, ووضعك كرها, وان حملك وارضاعك من لبن امك كان ثلاثين شهرا, وتذكر كم اماطا الاذا عن جسدك, وسهرا من اجل راحتك في صحتك ومرضك, واستمع الى كلام الرحمن في محكم القرآن: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬2) . فلا تنس ان والديك قد احسنا تربيتك, واصلاح شأنك, فكان حقهما ان تبرهما, وتحسن اليها, ولاتعقهما, ثم عليك الا تنس ان الله جل وعلا مرب ومدبر لخلقه, وانه الذي يمدك بكل ماتحتاج اليه, فهو الذي يربي نفوسنا, ويهدينا ويحسن الينا, ويعافينا, فلا تشرك به شيأ, فالاب اذا كان يربي اولاده لكنه لم يخلقهم, ولم يرزقهم, فنعمة الايجاد, ونعمة الامداد, ونعمة الارشاد والهدى, هي لله وحده, هي للرب الخالق, الذي اوجدك ولم تك شيا, امدك بما تحتاج اليه ثم هداك وعافاك, ورباك, فتعرف على اسم الرب سبحانه وتعالى, لتؤدي حقه, وتشكر له فضله واحسانه اليك: وفي الذكر الحكيم: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬3) فاسأل الرب سبحانه وتعالى يعطك, ويهدك, ويغنك, ويكفك فهو على كل شيء قدير, فلا تضق بك الدنيا, فتعرف عليه فانه اللطيف الخبير, فان اذنبت ووقعت في خطيئة فقل رب اني ظلمت نفسي, فهذا ابو البشرية ادم وزوجته حواء عليهما السلام حينما وقعا في الخطيئة: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬4) فاستجيب لهما فلا تياس من رحمة الله, واسالة المغفرة ¬

_ (¬1) - البخاري في صحيحه, حديث رقم (2460) . (¬2) - سورة لقمان الاية (14و15) . (¬3) - سورة غافر الاية (64) . (¬4) - سورة الاعراف الاية (23) .

والرحمة, فان الله سبحانه وتعالى يجيب من دعاه, وينصره على من عصاه, فلا يهولنك قوة عدوك ولا كثرته اذا كان عاصيا لله, فهذا نوح عليه السلام ينادي ربه بعد ان كذبه قومه فيستجاب له: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا * رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} (¬1) وهذا موسى عليه السلام قبل نبوأته يستغيثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬2) وهذا ايوب عليه السلام يصاب بالمرض والضرر فينادي ربه, وقد امر الله بذكره في محكم التنزيل فقال: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (¬3) وهذا عيسى عليه السلام ينادي ربه بان ينزل عليه مائدة من السماء فيستجاب له: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (¬4) وهذا سليمان عليه السلام ينادي ربه فيستجاب له: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ ¬

_ (¬1) - سورة نوح الاية (26-28) . (¬2) - سورة القصص الاية (16) . (¬3) - سورة ص الاية (41-43) . (¬4) - سورة المائدة الاية (114) .

الرب في اسماء الله الحسنى

الْوَهَّابُ} (¬1) , وهذا زكريا عليه السلام يذكرنا الله رحمته له ودعاءه لربه وستجابته له فيقول سبحانه: {كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا* قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا * يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا * قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا* فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} (¬2) وهذا محمد صلى الله عليه وآله وسلم واصحابه يستغيثون ربهم فيستجيب لهم: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬3) وليس اجابة الدعاء من الله جل وعلا مقصور على الانبياء, فالرب العظيم مالك الملك العظيم المالك لكل شيء والقادر على كل شيء والمنعم علينا بكل شيء يقول سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ* اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (¬4) . الرب في اسماء الله الحسنى الرب في اسماء الله الحسنى هوالخالق الرازق مالك الملك رب كل شيء ومليكه رب الاولين والاخرين, رب المشرقين ورب المغربين, رب السماوات والارض وما بينهما, رب الاخرة والاولى, رب العالمين لاشريك له في ملكه, ولا اله سواه, قال ابن الاثير: الربّ يُطْلقُ في اللُّغة على المالِك والسيد والمُدَبِّر والمُرَبِّي والقَيِّم والمُنْعِم ولا يُطلَقُ غيرَ مُضاف إلاَّ عَلَى الله تعالى, وإذا أُطلِقَ على غَيره أُضِيف فيقال رَبُّ كذا (¬5) . وقال ابن كثير: والرب هو: المالك المتصرف، ويطلق في اللغة على السيد، وعلى المتصرف للإصلاح، وكل ذلك صحيح في حق الله تعالى. [ولا يستعمل الرب لغير الله الا بالإضافة تقول: رب الدار, رب كذا، وأما الرب فلا يقال إلا لله عز وجل، وقد قيل: إنه الاسم الأعظم] (¬6) قلت: الرب اسم من اسماء الله الحسنى الا انه لم يرد في الاسماء التسعة والتسعين التي وردت في الحديث النبوي, وورد عند مسلم من حديث العباس رضي الله عنه (أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَقُولُ ¬

_ (¬1) - سورة ص الاية (35) . (¬2) - سورة مريم الايات (1-11) . (¬3) - سورة الانفال الاية (9-10) . (¬4) - سورة غافر الاية (60-62) . (¬5) - النهاية في غريب الحديث والاثر, تأليف العلامة/ أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري, ج2 ص450 الناشر: المكتبة العلمية - بيروت، 1399هـ - 1979م. تحقيق: طاهر أحمد الزاوى - محمود محمد الطناحي. (¬6) - تفسير ابن كثير, ج1 ص131.

ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا) (¬1) ولا يطلق غير مضاف الا اذا توجه الى الله تعالى: رب, او الرب, اما اذا اضيف فانه يتوجه الى الله تعالى, او الى عباده, كقولنا رب الدار اي صاحبها, اما دون اضافة ... رب او الرب فلا يتوجه الا الى الله تعالى, فهو رب كل شيء, وخالق كل شيء, {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬2) {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} (¬3) وقد ورد في كتاب الله في مواضع كثيرة جدا. فالله سبحانه وتعالى رب الأرباب, ومعبود العباد, ومالك الملك, وخالق جميع العباد ورازقهم, وكل رب سواه غير خالق ولا رازق, وكل مخلوق فملك بعد ان لم يكن, ومنتزع ذلك بيده, وانما يملك شيء دون شيء. وصفة الله مخالفة لهذا المعنى, فهذا الفرق بين صفات الخالق والمخلوقين (¬4) ليس كمثله شيء وهو السميع العليم فهو المربي لجميع عباده بالتدبير واصناف النعم, فعلى انه مدبر لخلقه ومربيهم ومصلحهم وجابرهم يكون صفة فعل, وعلى ان الرب المالك السيد يكون صفة ذات (¬5) . ¬

_ (¬1) - صحيح مسلم باب من رضي بالله ربا, حديث رقم (49) . (¬2) - سورة الاعراف الاية (54) . (¬3) - سورة الاعراف الاية (164) . (¬4) - مختصر النهج الاسمى, ص246. (¬5) - مختصر النهج الاسمى, ج1 ص247.

ثمرة معرفة اسم الله رب العالمين

ثمرة معرفة اسم الله رب العالمين اذا عرف المكلف ان ربه الله عز وجل رب كل شيء ومليكه, رب الارباب ورب الاولين, والاخرين رب السماوات والارضين مالك الملك لاشريك له في ملكه يؤتي الملك من يشاء, وينزع الملك ممن يشاء, ويعز من يشاء ويذل من يشاء ويسعد من يشاء, ويرفع من يشاء, ويخفض من يشاء, ويبسط الرزق لمن يشاء, ويستجيب لمن يشاء, ويحيي من يشاء, ويميت من يشاء, وانه يخلق كيفما يشاء ويحكم بما يشاء ولامعقب لحكمه, ولا شريك له في ملكه, ولا اله غيره, ولا رب سواه, ماشاء كان ومالم شيأ لم يكن, وانه لاحول ولاقوة الا بالله, وجب عليه ان يؤمن به, وان يعلم ان لارب على الحقيقة الا الله وحده, وان يحسن تربية من جعل التربيه اليه, فيقوم بامره, ومصالحه, كما قام الحق به, فيرقيه شيا فشيا, وطورا فطورا, ويحفظه مااستطاع جهده كما حفظه الله (¬1) . وان يكون مصلحا عابدا تائبا راجعا الى الله, فانت حينما تتخذ قرارا حكيما في صالح ايمانك يشرح الله لك صدرك, ويحفظك من بين يديك ومن خلفك, فربك الذي يرعاك, ويؤيدك, وينصرك, فبيد الله سبحانه وتعالى امور كل الخلق, بيده قلوب العباد, فهو رب كل شيء, بيده الرياح, وبيده الجبال, وبيده الارض, وبيده العواصف, وبيده, الاعاصير, وبيده الامطار, وبيده النبات, وبيده الاسباب والمسببات, وتأمل في قصة الفتية الذين امنوا بربهم وحكى الله قصتهم في ¬

_ (¬1) - الجامع لاسماء الله الحسنى ص138.

دعاء الرب المجيب العظيم بما ورد في القرآن الحكيم

سورة الكهف: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} (¬1) فربنا سبحانه وتعالى بيده العز, وبيد الغنا, وبيده المال, وبيده الصحة, وبيده الخير كله, وبيده الجنة, وبيده النار, فاعتصم بالله رب العالمين, في كل شؤنك وتوكل عليه, واسأله ان يشرح صدرك وييسر امرك: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬2) وقال الشاعر: بشر فؤادك بالنصيب الوافي ... من قرب ربك واسع الألطاف الواحد الملك العظيم فلذ به ... واشرب من التوحيد كأساً صافي واشهد جمالاً أشرقت أنواره ... في كل شيء ظاهراً لا خافي والبس لرب العرش في أقداره ... ثوباً من التسليم واف ضافي واستكف ربك كل هم إنه ... سبحانه البر اللطيف الكافي واسأله أن يلبسك ثوب إنابة ... وهداية وسلامة وعوافي واشكر على النعماء واصبر للبلا ... وتحل بالإفضال والإنصاف (¬3) ان ربنا سبحانه وتعالى يصلح امور العباد بجميع رعايته, ويصلح امور العابدين بحسن كفايته, ويصلح امور الوالدين بقديم عنايته, ويصلح امور قوم يستغنون بعطائه, ويصلح امور الخلق اجمعين, فاسأله اخي اصلاح امورك, وامور المؤمنين والخلق اجمعين, ولاتكن من القانطين فانه لايقنط من رحمة ربه الا الضالون, واعلم اخي ان من افضل الدعاء ماحكاه الله تعالى في القرآن الحكيم. دعاء الرب المجيب العظيم بما ورد في القرآن الحكيم {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (¬4) {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (¬5) {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (* رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬6) ¬

_ (¬1) - سورة الكهف الاية (13-14) . (¬2) - سورة الانعام الاية (17) . (¬3) - هذه الابيات للعلامة عبد الله الحداد. (¬4) - سورة البقرة الاية (286) . (¬5) - سورة آل عمران الاية (8-9) . (¬6) - سورة الممتحنة الاية (4-5) .

{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (¬1) {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (¬2) {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (¬3) . ¬

_ (¬1) - سورة آل عمران الاية (191-194) . (¬2) - سورة البقرة الاية (201) . (¬3) - سورة الحشر الاية (10) .

الفصل السابع والثلاثون الرحمة

الفصل السابع والثلاثون الرحمة

الرحمة

الرحمة الرحمة خلة حميدة, وصفة جليلة يتراحم بها الناس ويتعاضدون ويتعاونون ويتعاطفون, وهي في الانسان رقة في القلب تحملة على التفضل والاحسان, والرحمة من سمات المؤمن التي زين الاسلام بها حياته, والرحمة التامة هي افاضة الخير على المحتاجين, وارادته لهم عناية بهم, والرحمة من الله انعام وافضال, ومن الادميين رقة وتعطف, ينال بها الرضا والعفو, فمن رحم الناس رحمه الله, وبالرحمة ترضع الام وليدها, وتروم الناقة وحيدها, وبالرحمة نتعطف على ابنائنا الصغار, ونحسن الى ابائنا الكبار, وبالرحمة يتعطف الاغنياءُ على الفقراء ويكرمونهم ويحسنون اليهم, وبالرحمة نحسن الى الحيوان, ونكرم الاخوان, ونرحم الصغير, ونوقر الكبير, وبالرحمة اُمرنا بخفض الجناح للوالدين, والدعاء لهما, والأحسان اليهما, وفي الذكر الحكيم: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (¬1) وقال الشاعر: ارحم أُخَيَّ عباد الله كلهموا ... وانظر اليهم بعين العطف والشفقة (¬2) الرحمة من سماة المؤمنين الرحمة جاء بها الاسلام, واتصف بها سيد ولد عدنان المبعوث الى كافة الانام محمد عليه وعلى آله افضل الصلاة والسلام, وتحلى بها اصحابه الكرام, وفي ¬

_ (¬1) - سورة الاسراء الاية (24) . (¬2) - هذه البيت ورد في الموسوعة الشعرية منسوبا لمحمد الخسيكثي, انظر الموسوعة الشعرية لمحمد الناصر, ص (203) .

رحمة الله واثارها

الذكر الحكيم يقول العزيز الرحيم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (¬1) ويقول سبحانه وتعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (¬2) ويقول سبحانه وتعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (¬3) رحمة الله واثارها المسلم به انه لاشيء يضر بشخصية الانسان مثل التشاؤم, فهو من اخطر الامراض التي تصيب النفس وتعصف بها, وتقعدها عن العمل, وكثيرا ما يجرها الى الهلاك, ويجعلها ترتمي في الاخطار, وتقسو على الاخرين وعلى نفسها, لان الحياة تصبح في نظرها جحيما لايطاق, ولكن النفس المؤمنة بالله المدركة لرحمة الله لايغادرها الامل, فهي تعالج مشاكل الحياة بحكمة وصبر وايمان, فهي تنظر الى اثار رحمة الله وتطلب من الله الرحمة والعون لا يصيبها خيبة ولايدركها ملل, فهناك قوة روحية تدخل في نفوس المؤمنين, تبعدها عن القنوط, وتجعلها في فرح وسرور, فرحمة الله قريبة من المؤمنين المحسنين, وفي الذكر الحكيم: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (¬4) وفي سورة يونس يقول العزيز الحكيم: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (¬5) فقد جاء القرآن الحكيم بالرحمة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (¬6) ففي القرآن شفاء النفوس من اسقامها, والامها, وفي القرآن الهدى والرحمة: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (¬7) ومن رحمة الله ان خلق للانسان في هذه الحياة شريك حياة يانس اليه ويعينه على بناء اسرته وتحقيق رغبته, والامتاع بلذته, وحفظ نسله, وبناء داره, واعمار ارضه, قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (¬8) ومن رحمة الله ان خلق الليل والنهار, وجعل في الارض انهارا وبحارا, وانبت في الارض حدائق ذات بهجة وأزهارا وثمارا, قال تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬9) ومن رحمة الله انه يحيي الارض بعد موتها, ويفيض على الخلائق نعما لانحصي عددها, وينزل ¬

_ (¬1) - سورة الانبياء الاية (107) . (¬2) - سورة التوبة الاية (128) . (¬3) - سورة الفتح الاية (29) . (¬4) - سورة الاعراف الاية (56) . (¬5) - سورة يونس الاية (58) . (¬6) - سورة يونس الاية (57) . (¬7) - سورة الاسراء الاية (82) . (¬8) - سورة الروم الاية (21) . (¬9) - سورة القصص الاية (73) .

صلاح الانسان يكسبه رحمة الله

من السماء ماء فيحيي به الارض بعد موتها قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬1) . فما جاء به القرآن الكريم من شانه ان يكون شفاء لقلوب الملايين من المحرومين الذين يطلبون رحمة الله ويبتغون ثوابه , وينظرون الى الناس نظر رحمة وشفقة, ويسعون الى انقاذ الملايين وتعليمهم, والاحسان اليهم, فهم لايحسدون, ولا يستكبرون, ولا يتطاولون على عباد الله, لانهم ينتظرون من الله جل وعلا الرحمة, ويعلمون ان الله قد قسم بين العباد ارزاقهم بحكمة ورحمة, وقد جاء في الذكر الحكيم: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (¬2) صلاح الانسان يكسبه رحمة الله ان ايمان الانسان وصلاحه ينال بهما الرحمة من الله, والمحبة من الناس, والتوفيق في العمل, وتوصله الرحمة الى الجنة, وتبعده عن النار, وفي الذكر الحكيم: {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} (¬3) فتقوى الانسان وصلاحه وصلاته وزكاته واتباعه لهدي محمد عليه الصلاة والسلام تكسبه رحمة الله قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬4) فوائد الرحمة وضرر القسوة والجفوة للرحمة فوائد جمة ومنافع عظيمة, بها تنصلح احوال البشرية وتستقيم امورهم, ونلخص بعضا من هذه الفوائد في النقاط التالية: 1. ان رحمة الانسان للناس تكون سببا لرحمة الله له فمن يرحم الناس يرحمه الله, وقد كان خُلقه صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشريعته كلها رفقا ورحمة، وروي عنه أنه قال في الحث على الرحمة: (الراحمون يرحمهم الرحمن) (¬5) . وهذا يفيد أن الإنسان الذي يرحم الناس ويرحم الصغير ويتحلى بالرحمة في سلوكه وأدبه ومع أهله وولده أهلٌ لأن يرحمه الله جل وعلا، وقد روى البخاري في الأدب المفرد أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (ارحموا أهل الأرض يرحمْكم من في السماء) (¬6) روي: (يرحمُكم) مرفوعاً على الاستئناف البياني, 2. ¬

_ (¬1) - سورة الروم الاية (47-50) . (¬2) - سورة الزخرف الاية (32) . (¬3) - سورة الانبياء الاية (86) . (¬4) - سورة الاعراف الاية (156-157) . (¬5) - أخرجه الإمام أحمد في المسند، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، حديث (24430) . (¬6) - أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في الرحمة، حديث (4941) .

3. ويجوز جزمه لوقوعه في جواب الأمر، وقد روى هذا الحديث أيضاً أحمد في المسند وأبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وروى البخاري ومسلم أيضاً في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء) (¬1) ونظم ذلك ابن حجر بقوله: إن من يرحم أهل الأرض قد ... آن أن يرحمه من في السماء فارحم الخلق جميعاً إنما ... يرحم الرحمن منا الرحماء ولغيره: من يرحم الخلق فالرحمن يرحمه ... ويكشف الله عنه الضر والباسا ففي صحيح البخاري جاء متصلاً ... لا يرحم الله من لا يرحم الناسا وللعجلوني أيضاً: كن يا أُخَي رحيم القلب طاهره ... يرحمك مولاك بل يؤنسك إيناسا ففي الصحيحين ما معناه متصلاً ... لايرحم الله من لا يرحم الناسا (¬2) 4. ان الرحمة علامة الايمان, فلا يكتمل ايمان المرء حتى يكون رحيما في خلقه وتعاملة, وفي الحديث النبوي: (لن تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أدلكم على ما تحابون عليه قالوا: بلى يا رسول الله قال: أفشوا السلام بينكم تحابوا والذي نفسي بيده لن تدخلوا الجنة حتى تراحموا قالوا: 5. ¬

_ (¬1) - صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب ما جاء في قول الله تعالى: (إن رحمة الله قريب من المحسنين) ، حديث (7448) . (¬2) - كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، للمحدث الشيخ إسماعيل بن محمد العجلوني، الجرجاني ج1 ص110.

6. يا رسول الله كلنا رحيم قال: إنه ليس برحمة أحدكم ولكن رحمة العامة رحمة العامة) (¬1) . وقال الشاعر: ان كنت لا ترحم المسكين ان عدما ... ولا الفقير اذا يشكو لك العدما فكيف ترجو من الرحمن رحمته ... وانما يرحم الرحمن من رحما (¬2) 7. ان الرحمة تكون سببا في التوحد والقوة والتعاطف والاخوة, وفي الحديث النبوي (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) (¬3) . 8. ان رحمة أهل الارض جميعا تكون سببا في رحمة أهل السماء ففي الحديث النبوي: ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ (¬4) وفي الذكر الحكيم: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} (¬5) . 9. ان رحمة الاطفال والصغار فيه غرس للمحبة في قلوبهم, وكان صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعتبر تقبيل الأطفال من مظاهر حبهم والرحمة بهم، فقد روى البخاري من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخذ ابنه إبراهيم فقبله وشمه (¬6) .فقد ورد أنه كان يدخل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لسانه في فم الحسن بن علي ثم يقول: (اللهم إني أحبه فأحبه) (¬7) ، وكان يقول: (ريحانتاي حسنٌ وحسينٌ) (¬8) وقدم عليه مرة جماعة من الأعراب فقال أعرابي للنبي: تقبلون الصبيان فما نقبلهم، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أوَ أملكُ لَكَ أنْ نزع الله من قلبك الرحمة) (¬9) ,ويقول أنس: (ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم) (¬10) ومن أعجب ما روي عنه في رحمته للأولاد ما أورده الهيثمي عن أبي ليلى قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعلى صدره أو بطنه الحسين أو الحسن رضوان الله عليهما، فبال فرأيت بوله أساريع- أي طراً- فقمت إليه فقال: 10. ¬

_ (¬1) - الحاكم في المستدرك باب البر والصلة حديث رقم (7310) . (¬2) - ورد هذان البيتان في الموسوعة الشعرية منسوبة للحافظ زين الدين العراقي. (¬3) - صحيح مسلم باب تراحم المؤمنين حديث رقم (4685) . (¬4) - الترمذي باب ما جاء في رحمة الناس حديث رقم (1847) . (¬5) - سورة غافر الاية (7) . (¬6) - صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي: (إنا بك لمحزونون) ، حديث (1303) . (¬7) - أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب معرفة الصحابة، حديث (4844) . (¬8) - صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، حديث (5994) . (¬9) - صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، حديث (5998) - وأورده البغوي في شرح السنة ج13ص36) ، والبغوي هو أبو محمد الحسين بن سعود الفراء، تحقيق شعيب الأرناؤوط ومحمد زهير الشاوش: المكتب الإسلامي- بيروت- سنة 1403هـ- وأخرجه أحمد في المسند، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، حديث (23898) - وصحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته الصبيان والعيال، حديث (2317) . (¬10) - صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته الصبيان والعيال، حديث (2316) - وأحمد في المسند، ومسند أنس بن مالك، حديث (11847) .

11. (دعوا ابني هذا لا تفزعوه حتى يقضي بوله) ثم اتبعه الماء، وفي رواية: (لا تستعجلوه) (¬1) والرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يبين في هذه الأحاديث حق الطفل ومكانته, لا ينشغل عن بيان ذلك بالأمور السياسية أو غيرها، ولقد كان كما ذكر أسامة بن زيد في رواية للبخاري يأخذه فيقعده على فخذه ويقعد الحسن على فخذه الأخرى ثم يضمهما ويقول: (اللهم أرحمهما فإني أرحمهما) (¬2) . 12. ان من يرحم الضعفاء والمساكين ويحسن اليهم مبشر بالجنة, ففي الحديث النبوي: طوبى لمن تواضع من غير منقصة وذل في نفسه من غير مسكنة وأنفق مالا جمعه من غير معصية ورحم المساكين أهل المسكنة وخالط أهل الفقه والحكمة طوبى لمن ذل في نفسه وطاب كسبه وأصلح سريرته وعزل عن الناس شره طوبى لمن عمل بعلمه وأنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله (¬3) . وطوبى هي شجرة او مكانة في الجنة. 13. ان رحمة الحيوان والرفق به, وعدم مؤاذاته تكون سببا في رحمة الله, وفي الحديث النبوي: أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأَذْبَحُ الشَّاةَ وَأَنَا أَرْحَمُهَا أَوْ قَالَ إِنِّي لَأَرْحَمُ الشَّاةَ أَنْ أَذْبَحَهَا فَقَالَ (وَالشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا 14. ¬

_ (¬1) - الهيثمي، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: كتاب الطهارة، باب بول الصبي والجارية ج1ص289. (¬2) - صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب وضع الصبي على الفخذ، حديث (6003) . (¬3) - المعجم الكبير للطبراني حديث رقم (4615)

15. رَحِمَكَ اللَّهُ) (¬1) . وفي رواية لابن مسعود رضي الله عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر ومررنا بشجرة فيها فرخا حمرة فأخذناهما قال: فجاءت الحمرة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي تصيح فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من فجع هذه بفرخيها؟ قال: فقلنا: نحن قال: فردهما (¬2) . 16. ان انعدام الرحمة يعني القسوة والغلظة وهما من اسباب التنافر والتناحر وخراب الديار, وفي الذكر الحكيم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (¬3) . 17. الغلظة والقسوة والجفوة من اخلاق أهل النار ففي الحديث النبوي: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ, كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ (¬4) و {العتل} بضم العين والتاء وتشديد اللام: هو الغليظ الجافي. و {الجواظ} بفتح الجيم وتشديد الواو وبالظاء المعجمة: هو الجموع المنوع. وقيل الضخم المختال. وقيل الجواظ الغليظ الفظ كما في سنن ابي داود الْجَوَّاظُ الْغَلِيظُ الْفَظُّ (¬5) . 18. 19. ¬

_ (¬1) - مسند الامام احمد حديث رقم (15039) (¬2) - الحاكم في المستدرك وقال صحيح الاسناد حديث رقم (7599) (¬3) - سورة آل عمران الاية (159) . (¬4) - البخاري في صحيحه حديث رقم (4537) . (¬5) - سنن ابي داود باب في حسن الخلق, حديث رقم (4168) .

20. ان من اسباب قسوة القلب قطيعة الارحام, والاساءة الى الاخوان, والبعد عن ادراك نعم الرحمن, وعدم الاخذ بالقرآن, والاعراض عن هدي محمد عليه وعلى وآله افضل الصلاة والسلام, فقاسي القلب لايتعظ بالمواعظ, ولاينتفع بمواعظ السماء, ولا يعتبر بمصارع الامم, ولا يشكر لله النعم, وفي الذكر الحكيم: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬1) . 21. ان من اضرار القسوة انها تمنع من الخشوع عند ذكر الله, والخضوع لاوامره, فقاسي القلب لايخضع للحق, ولايتبع الحق, ولا يذكر الله ربه ورب كل الخلق, وقد جاء في التنزيل: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (¬2) فقاسي القلب اعمى البصيرة سيء السريرة, سلوكه مشين, وسلوكه غير مستقيم, لايعرف طريقه, ولايدرك نور الحقيقة, وفي الذكر الحكيم: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا 22. ¬

_ (¬1) - سورة الانعام الاية (42-43) . (¬2) - سورة الزمر الاية (22) .

23. يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (¬1) . علاج قسوة القلب ان التعرف على الله, وطلب رحمته, واتباع اوامره, والرجوع اليه, والتواضع له وعدم القنوط من رحمته, والاقلاع عن المعاصي, مما يقرب من رحمته, قال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬2) فما يعانيه العالم اليوم من تدهور في الاخلاق وانكباب على الرذائل, وانتشار للجرائم, انما هو ثمرة قسوة قلوب بعض البشر وغفلتها عن استحضار عظمة الله جل جلاله التي تجعل في القلب رهبة تحول بينه وبين الميل الى الشر, وتجعل منه مدركا لأنعم الله التي افاض بها على البشرية كلها, وافاض بها على كافة بني الانسان اكراما واحسانا وانعاما وافضالا, فاذا انغمس الانسان في المعاصي ضل وقنط من رحمته {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} (¬3) فما على اصحاب النفوس المتشائمة الا ان تيمم نحو ربنا جل وعلا وتطلب الرحمة منه سبحانه وتعالى, وتقلع عن المعاصي, وستدرك ان رحمة الله لايعجزها شيء في هذا الوجود, وهي قريبة ممن يعود الى الله, وستوصله الى بر الامان لينعم بالراحة والاطمئنان, والسعادة الدائمة في الدنيا والاخرة, ورحم الله الامام الشافعي حيث يقول: ¬

_ (¬1) - سورةالبقرة الاية (74) . (¬2) - سورة الانعام الاية (54) . (¬3) - سورة الحجر الاية (56) .

الرحمن الرحيم في اسماء الله الحسنى

وَلَمّا قَسا قَلبي وَضاقَت مَذاهِبي ... جَعَلتُ الرَجا مِنّي لِعَفوِكَ سُلَّما تَعاظَمَني ذَنبي فَلَمّا قَرَنتُهُ ... بِعَفوِكَ رَبّي كانَ عَفوُكَ أَعظَما فَما زِلتَ ذا عَفوٍ عَنِ الذَنبِ لَم تَزَل ... تَجودُ وَتَعفو مِنَّةً وَتَكَرُّما فَلَولاكَ لَم يَصمُد لِإِبليسَ عابِدٌ ... فَكَيفَ وَقَد أَغوى صَفِيَّكَ آدَما فَلِلَّهِ دَرُّ العارِفِ النَدبِ إِنَّهُ ... تَفيضُ لِفَرطِ الوَجدِ أَجفانُهُ دَما يُقيمُ إِذا ما اللَيلُ مَدَّ ظَلامَهُ ... عَلى نَفسِهِ مَن شِدَّةِ الخَوفِ مَأتَما فَصيحاً إِذا ما كانَ في ذِكرِ رَبِّهِ ... وَفي ما سِواهُ في الوَرى كانَ أَعجَما وَيَذكُرُ أَيّاماً مَضَت مِن شَبابِهِ ... وَما كانَ فيها بِالجَهالَةِ أَجرَما فَصارَ قَرينَ الهَمِّ طولَ نَهارِهِ ... أَخا السهدِ وَالنَجوى إِذا اللَيلُ أَظلَما يَقولُ حَبيبي أَنتَ سُؤلي وَبُغيَتي ... كَفى بِكَ لِلراجينَ سُؤلاً وَمَغنَما أَلَستَ الَّذي غَذَّيتَني وَهَدَيتَني ... وَلا زِلتَ مَنّاناً عَلَيَّ وَمُنعِما عَسى مَن لَهُ الإِحسانُ يَغفِرُ زَلَّتي ... وَيَستُرُ أَوزاري وَما قَد تَقَدَّما الرحمن الرحيم في اسماء الله الحسنى الرحمن الرحيم من اسماء الله الحسنى مشتقان من الرحمة, على وجه المبالغة, والرحمن اشد مبالغة من الرحيم, وهما اسمان دالان على انه سبحانه وتعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء وعمَّت كل حي, قال الخطابي: فالرحمن ذو الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم وأسباب معايشهم ومصالحهم، وعمت المؤمن والكافر، والصالح والطالح, وأما الرحيم فخاص للمؤمنين كقوله: (وكان بالمؤمنين رحيما) (¬1) وقال القرطبي: الرحمن الرحيم جل جلاله وتقدست اسماؤه نطق بهما التنزيل, وجاءا في حديث ابي هريرة, وتكررا في غير موضع في الكتاب والسنة واجمعت عليهما الامة (¬2) , قلت ذُكر (الرحمن) في القرآن الكريم سبعة وخمسين مرة منها قوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (¬3) وقوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (¬4) وقوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} (¬5) وقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (¬6) وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (¬7) وقوله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} (¬8) , اما اسمه جل وعلا الرحيم فقد ذكر في القرآن مائة واربع عشرة مرة, منها ماسلف الاشاره اليه ومنها قوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (¬9) ومنها قوله: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (¬10) ومنها: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬11) وسبق الإشارة الى ان ¬

_ (¬1) - الاسماء والصفات للبيهقي, ص91. (¬2) - الاسنى في شرح اسماء الله الحسنى, ص476. (¬3) - سورة الفاتحة الاية (1-3) . (¬4) - سورة البقرة الاية (163) . (¬5) - سورة مريم الاية (93) . (¬6) - سورة طه الاية (5) . (¬7) - سورة الاسراء الاية (110) . (¬8) - سورة الفرقان الاية (26) . (¬9) - سورة البقرة الاية (37) . (¬10) - سورة البقرة الاية (143) . (¬11) - سورة البقرة الاية (173) .

ثمرة معرفة اسم الله الرحمن الرحيم وفائدته

الاسمين مشتقان من الرحمة, الا ان اسم الله (الرحمن) يدل انه ذو الرحمة الشاملة لجميع الخلائق في الدنيا وللمؤمنين في الاخرة, فخص المؤمنين باسمه الرحيم فقال: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} (¬1) وقيل أن الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم فكان الأول للوصف والثاني للفعل, فالأول دال أن الرحمة صفته والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته (¬2) . وقيل اسم الرحمن مختص بالله تعالى, وقال ابن عباس في قوله تعالى (هل تعلم له سميا) قال لم يسمى الرحمن غيره. واكثر العلما على ان الرحمن مختص بالله عز وجل ولا يجوز ان يسمى به غيره, قال تعال: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} (¬3) وقال: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (¬4) فاخبر ان الرحمن هو المستحق للعبادة عز وجل, وقد قيل في اسمه (الرحمن) اسم الله الاعظم. (¬5) وقال ابن كثير: والحاصل أن من أسمائه تعالى ما يسمى به غيره، ومنها ما لا يسمى به غيره، كاسم الله والرحمن والخالق والرزاق ونحو ذلك؛ فلهذا بدأ باسم الله، ووصفه بالرحمن؛ لأنه أخص وأعرف من الرحيم؛ لأن التسمية أولا إنما تكون بأشرف الأسماء، فلهذا ابتدأ بالأخص فالأخص. (¬6) ثمرة معرفة اسم الله الرحمن الرحيم وفائدته اذا عرف المكلف ان الله سبحانه وتعالى الرحمن الرحيم ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء, وعمت كل حي, وان رحمته سبحانه وتعالى وسعت الخلق في ارزاقهم, ومعائشهم, ومصالحهم, وانه سبحانه وتعالى برحمته ارسل الينا رسله وهدانا من الضلالة وبصرنا من العمى, وعلمنا مالم نكن نعلم, وبرحمته سخر الليل والنهار وسخر الشمس والقمر والنجوم, واسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة, وجب عليه ان يؤمن به, وان يفرده بالعبودية, ويشكر له النعمة, وان يسأل من ربه الرحمة, فرحمة الله واسعة, وربه رحيم, سبغت رحمته غضبه كما في الحديث النبوي (ان رحمتي سبقت غضبي) (¬7) وهذا الحديث موافق لقوله تعالى {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (¬8) وجاء في حديث (إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْئَسْ مِنْ الْجَنَّةِ وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنْ النَّارِ) (¬9) وفي رواية (إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا وَأَخَّرَ اللَّهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (¬10) ومن ثمرة معرفة اسم الله الرحيم ان يكون المرء راحما لعباد الله محسنا اليهم مطيعا لله فيما امر ¬

_ (¬1) - سورة الاحزاب الاية (43) . (¬2) - بدائع الفوائد لابن القيم ص28. (¬3) - سورة الاسراء الاية (110) . (¬4) - سورة الزخرف الاية (45) . (¬5) - الاسنى للقرطبي, ص477. (¬6) - ابن كثير ج1 ص126. (¬7) - البخاري حديث رقم (6872) . (¬8) - سورة الانعام الاية (54) . (¬9) - البخاري حديث رقم (5988) . (¬10) - مسلم حديث رقم (4944) .

ونهى, فكلما اطاع الانسان ربه كان اقرب الى الله سبحانه وتعالى مستحقا لرحمته, وفي الذكر الحكيم: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (¬1) {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (¬2) {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (¬3) {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (¬4) {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (¬5) فرحمة الله يتخلق بها عباد الله الرحماء, فهي من الاخلاق العظيمة التي حض الله سبحانه عباده على التخلق بها, وانما الشقي من الناس الذي نزعت من قلبه الرحمة, لان ذلك معناه المنع من الدخول في رحمة الله, وفي الحديث النبوي (لاتنزع الرحمة الا من شقي) (¬6) فاسال الله الرحمة فانه كريم واعزم على ذلك فقد جاء في السنة النبيوة (لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ) (¬7) وفي الذكر الحكيم: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (¬8) ¬

_ (¬1) - سورة آل عمران الاية (132) . (¬2) - سورة الانعام الاية (155) . (¬3) - سورة النور الاية (56) . (¬4) - سورة الاعراف الاية (204) . (¬5) - سورة الاعراف الاية (56) . (¬6) - سنن ابي داود حديث رقم (4291) . (¬7) - البخاري حديث رقم (5864) ومسلم حديث رقم (4839) . (¬8) - سورة الانسان الاية (31) .

دعاء الله باسمه الرحمن الرحيم

دعاء الله باسمه الرحمن الرحيم يا الله يارحمن يا رحيم ياسميع ياعليم رحمتك نرجو فلاتكلنا الى انفسنا طرفة عين, ياالله يارحمن يارحيم ارحم تعلقي اليك وتملقي عليك وخضوعي بين يديك وارحم تضرعي, وتولني برحمتك واسكني الدرجات العلا من الجنة بفضلك ورحمتك, يا الله يا رحمن يا رحيم افض علي والمؤمنين من رحمتك التي لاراد لها ولاممسك, وتفضل علي ووالدي والمؤمنين والمؤمنات برحمتك واحسانك وكرمك وعفوك في الدنيا والاخرة, وكن بنا رحيما, وتوفني مسلما والحقني بالصالحين يا سميع يا عليم يا ارحم الراحمين وصلِّ اللهم على محمد وعلى آل محمد كما صليت على ابراهيم انك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على ابراهيم في العالمين انك حميد مجيد, وسلم تسليما كثيرا وارض اللهم على اصحاب نبيك وازواجه وذريته ومن تبعه باحسان الى يوم الدين. ورحم الله أباالعتاهية حيث يقول: أَيا رَبِّ يا ذا العَرشِ أَنتَ رَحيمُ ... وَأَنتَ بِما تُخفي الصُدورُ عَليمُ فَيا رَبِّ هَب لي مِنكَ حِلماً فَإِنَّني ... أَرى الحِلمَ لَم يَندَم عَلَيهِ حَليمُ وَيا رَبِّ هَب لي مِنكَ عَزماً عَلى التُقى ... أُقيمُ بِهِ ما عِشتُ حَيثُ أُقيمُ أَلا إِنَّ تَقوى اللَهِ أَكرَمُ نِسبَةٍ ... تَسامى بِها عِندَ الفَخارِ كَريمُ إِذا ما اجتَنَبتَ الناسَ إِلّا عَلى التُقى ... خَرَجتَ مِنَ الدُنيا وَأَنتَ سَليمُ

الفصل الثامن والثلاثون الحياة

الفصل الثامن والثلاثون الحياة

الحياة

الحياة الحياة انفاس معدوة, وساعات محدودة, يقضيها الانسان في نمو لازم, وتطور دائم, بين طفولة وصبا, وشباب وكهولة, وشيب وشيخوخة, بين امال وآلام, وافراح واتراح, وشدة ورخاء, ومرض وصحة, وضعف وقوة بين رياض نظرة, وروائح عطرة, وحدائق ذات بهجة, واشجار مثمرة, وانهار هادرة, وبحار متلاطمة, وجبال شاهقة, وسهول واسعة, وثمار طيبة, وهبها الله للانسان, وتفضل بها الكريم المنان, وسخر له الانعام, واحل له النبات والحيوان, ورزقه من السماء والارض, وانزل عليه الامطار وانبت له الثمار, وسخر له الارض في جميع الاقطار, ففيها حياته, واليها يعود بعد مماته, من رحلة يطويها الليل والنهار, وقد كان ترابا مواتا لايعرف عن الحياة شيئا, ولايدرك شيئا من تلك الاثار, وفي الذكر الحكيم: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬1) فسبحان من احيا الارض بعد موتها, وبدء خلق الانسان من طين ثم جعل نسله من ماء مهين, وصوره في احسن تقويم, وجعل الماء مادة الحياة في كل حين, ودحى الارض وزينها للناظرين: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ ¬

_ (¬1) - سورة البقرة الاية (28-29) .

الحياة جميلة فلا تضيعها

أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (¬1) فاختلاف النبات في الطعم رغم اتحاد التربة والماء نعمة ومنة, ودليل على القدرة واحكام الصنعة: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (¬2) وقال سبحانه {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (¬3) فسبحان من خلق الحياة ووهبها وجعل الماء اصل مادتها, ودليلا على ابداع صنعتها, وفي القرآن الحكيم يقول الرب العظيم: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (¬4) ويقول وهو العزيز الحكيم: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} (¬5) حقيقة علمية جاء بها القرآن وقررها, ولفت الأنظار اليها واظهرها, وادرك سرها العلماء, وفي هذا يقول بعض الباحثين ان معظم العمليات الكيماوية اللازمة للحياة والنمو تحتاج الى الماء, وهو العنصر الاساسي لاستمرار الحياة لجميع الكائنات والنبات (¬6) , وفي الذكر الحكيم {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (¬7) ويقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (¬8) الحياة جميلة فلا تضيعها الحياة التي وهبك الله جميلة فجملها بما يعود عليك نفعه, ولا تضيعها فعمرك محدود, ونفسك محسوب, فاعمرها بالايمان, وزينها بالتقوى, وازرع الخير فيها, يثمر زرعك ويطب دهرك, فمن ضيع حياته ندم, ومن استثمرها في عمل البر غنم, قال الشاعر: اذا كان راس المال عمرك فاحترز ... عليه من الانفاق في غير واجب فبين اختلاف الليل والصبح معرك ... يكر علينا جيشه بالعجائب (¬9) وقال اخر: ¬

_ (¬1) - سورة الانعام الاية (99) . (¬2) - سورة الرعد الاية (4) . (¬3) - سورة الزمر الاية (21) . (¬4) - سورة الملك الاية (1-2) . (¬5) - سورة الانبياء الاية (30) (¬6) - روح الدين الإسلامي ص 49. (¬7) - سورة البقرة الاية (27-28) . (¬8) - سورة البقرة الاية (164) . (¬9) - هذان البيتان لعمارة اليمني.

بالأمل والفال تصفو الحياة وبالعمل تتجدد

حياتك انفاس تعد فكلما ... مضى نفس منها نقصت بها جزءا اما الافوه الاودي فهو يقول: انما نعمة قوم متعة ... وحياة المرء ثوب مستعار وقال اخر: وما تؤخر من نفس وان حرصت ... على الحياة اذا ماجاء داعيها فاغتنم نعمة الحياة, وتمتع بنعم الله, وقوِّ اخلاقك مع الاحياء كي لاتكون في عداد الموتى, ورحم الله شوقي حيث يقول: وَجَدتُ الحَياةَ طَريقَ الزُمَر ... إِلى بَعثَةٍ وَشُؤونٍ أُخَر وَما باطِلاً يَنزِلُ النازِلون ... وَلا عَبَثاً يُزمِعونَ السَفَر فَلا تَحقِرن عالَماً أَنتَ فيهِ ... وَلا تَجحَدِ الآخَرَ المُنتَظَر وَخُذ لَكَ زادَينِ مِن سيرَةٍ ... وَمِن عَمَلٍ صالِحٍ يُدَّخَر وَكُن في الطَريقِ عَفيفَ الخُطا ... شَريفَ السَماعِ كَريمَ النَظَر وَلا تَخلُ مِن عَمَلٍ فَوقَهُ ... تَعِش غَيرَ عَبدٍ وَلا مُحتَقَر وَكُن رَجُلاً إِن أَتَوا بَعدَهُ ... يَقولونَ مَرَّ وَهَذا الأَثَر وله ايضا: المَجدُ وَالشَرَفُ الرَفيعُ صَحيفَةٌ ... جُعِلَت لَها الأَخلاقُ كَالعُنوانِ وَأَحَبُّ مِن طولِ الحَياةِ بِذِلَّةٍ ... قِصَرٌ يُريكَ تَقاصُرَ الأَقرانِ دَقّاتُ قَلبِ المَرءِ قائِلَةٌ لَهُ ... إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ وَثَواني فَاِرفَع لِنَفسِكَ بَعدَ مَوتِكَ ذِكرَها ... فَالذِكرُ لِلإِنسانِ عُمرٌ ثاني بالأمل والفال تصفو الحياة وبالعمل تتجدد الحياة جميلة بآمالها فسيحة واسعة, والحياة كلمة تعج بالامل, وتشرق بالآمال, وتهتف بالمعالي, والحياة فيها معنى الحركة والانجاز والامل, ويكفي كلمة الحياة شرفا انها عكس الموت, وضد التوقف, وهذه المعاني تكفي للفرح والشوق بفضل الله ورحمته واهب الحياة, فما عليك اخي الا ان تكون متفائلاً مسرورا بفضل الله وقضائه في هذه الحياة, فالتفاؤل هو النظرة الايجابية المشرقة والواثقة لمستقبل الاشياء, وعند اختفاء التفاؤل من اعماق الانسان فإن التشاؤم يحل محله بما فيه من اسداد للأُفق وظلام في النظرة المستقبلية للانسان, والتفاؤل دافع ايجابي محفز للانسان ليبحث بنفسية منفتحة عن كل ماينفعه في هذه الحياة, فليس هنالك ظلام مطلق, فبين تلال الظلام توجد شموع مضيئة, وقد جاء القرآن من عند الله ليبث التفاؤل والأمل, ويجدد الحياة والثقة بالله تعالى, ففي لحظة الضعف والانكسار يتنزل على نبي الله قول الحق سبحانه وتعالى {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (¬1) وفي لحظة طيش العدو وكبره ياتي الامل والتفاؤل في قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (¬2) بل قد جاء في الحديث القدسي (انا عند ظن عبدي بي فليظن بي ماشاء) (¬3) , ¬

_ (¬1) - سورة آل عمران الاية (139) . (¬2) - سورة التوبة الاية (32) . (¬3) - البخاري في صحيحة حديث رقم (6951) .

والتفاؤل هو الصخرة الصماء التي يتحطم على سطحها زعانف الاحباط والياس والقنوط, فالمتفائل لايعاني من الشلل الفكري والقنوط الروحي او الانهيار الجسدي عندما تتكالب عليه الازمات, وتكثر الامتحانات, وتضيق السبل, ويكثر الاعداء, فهو مبتسم متهلل الاساليب لايتوقف عن الابداع ولا يحقر اراء الاخرين ولا يقلل من شان مايراه او يعرض عليه من افكار بل يختار افضلها, والمتفائل مؤمن بالله واثق به يعلم ان القنوط والياس من عمل الشيطان, وفي الامثال السائرة"لا حياة مع الياس ولا ياس مع الحياة" وفي الذكر الحكيم يخبرنا العزيز الحكيم فيما حكاه على لسان نبيه يعقوب الكريم: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (¬1) فالتفاؤل يصبغ على صاحبه البهجة والانتعاش والحيوية والنورانية, وذلك ما يبعث على محبته في قلوب الاخرين, وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم (يُحِبُّ الْفَأْلَ الْحَسَنَ وَيَكْرَهُ الطِّيَرَةَ) (¬2) وقال ابن الرومي: قد أتَى عن نبيِّنا حبُّه الفأْ ... لَ مضيئاً بذلك البرهان وقال اخر: فاليوم يا علم الأعلام كل ذكي ... حي اللثام غدا بالأمن متشحا ¬

_ (¬1) - سورة يوسف الاية (87) . (¬2) - احمد في مسنده حديث رقم (8043) .

وكل فظٍّ رديِّ الخال منقبضاً..... وكل برٍّ حميد الفال منشرحا (¬1) وفي التفاؤل الرضا بقدر الله والسكينة بقضائه والاطمئنان الى مكتوبه, وهذه المعاني هي الحياة بمعناها الحقيقي وذوقها الرائع, وبلسمها العذب, فيالله مااروعها كلمة, ومن هنا يجب ان يدرك الاباء والتربويون والصحفيون وموجهو برامج الاعلام دورهم الكبير في اشاعة التفاؤل في عناصر المجتمع, والتحذير من هيمنة اليأس والقنوط وقطع الامال, فالمتشائمون لايصنعون مستقبلا ولايتغلبون على مصاعب الحياة, لانهم لايحملون نورا يضيء لهم الطريق, بينما المتفائلون يحملون نورا في قلوبهم وفي ارواحهم وفي بصائرهم وفي بصيرتهم. الحياة نقيض الموت الحياة نقيض الموت, فشتان بين الحياة والموت, وبين الأعمى والبصير, وبين المشرق والمغرب, وبين الاحياء والاموات, شتان بين انسان مليء السمع والبصر يتكلم ويتحدث ويبتسم, ويسأل ويجيب, ويفكر ويحاكم, وينتقل ويمشي, ويعمل في طاعة ربه, وبناء مجده, وبين انسان جثة هامدة, ملقى على الطريق, كما ان هناك فرقا كبيرا بين الحياة والموت فهناك فرق كبير بين قلب حي يذكر الله وبين قلب ميت, وفي الحديث النبوي (مَثَلُ ¬

_ (¬1) - هذا البيت لسليمان الصولة 1229 - 1317 هـ / 1814 - 1899 م سليمان بن إبراهيم الصولة. شاعر، كثير النظم، ولد في دمشق وتعلم بمصر وعاد إلى الشام في حملة إبراهيم باشا على البلاد الشامية، واستقر في دمشق فاتصل بالأمير عبد القادر الجزائري ولزمه مدة ثلاثين سنة، وله فيه قصائد، وسافر إلى مصر سنة 1883م فأقام إلى أن توفي بالقاهرة. له (ديوان -ط) ، وله: (حصن الوجود، الواقي من خبث اليهود - خ) .

الحياة تتقلب وتذهب فلا تغتر بها

الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ) (¬1) , وفي الذكر الحكيم: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (¬2) وفي سورة فاطر يقول العزيز الرحيم: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (¬3) وفي سورة الانعام يقول الكريم المنان: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬4) الحياة تتقلب وتذهب فلا تغتر بها لقد خلق الله الحياة لحكمة عظيمة, ابتدأها بعلمه, وامضاها بقدرته, فما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها, وما يعطه من خير وفضل فلا راد له, يخلق مايشاء ويختار وهو العزيز الغفار, من اطاعه سلم وظفر بمراده واستعد للسفر بمائة وزاده, ومن اعرض عن ذكر ربه وفضله ندم, سنن الله في هذه الحياة قائمة على الصواب, وقوانينه قائمة على العدل والحساب, جعل الحياة مرحلة اختبار للعباد, فمن احسن العمل طاب له الحصاد ومن اختار سلوك قضاء حياته فيما ينيله السعادة ظفر بمراده, وطابت له الحياة, وفي الذكر الحكيم: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬5) فمن عرف ثمار الاعمال كان حقيقا ان لايغرس مرا, ليحسن له بعد الممات ذكرا, وفي مقصورة بن دريد الازدي: إِنَّما المَرءُ حَديثٌ بَعدَهُ ... فَكُن حَديثاً حَسَناً لِمَن وَعى وقال اخر: كل إِلى الغايَةِ مَحثوث ... وَالمَرءُ موروث فَمَبعوث فَكُن حَديثاً حسناً سائِراً ... بَعدَك فَالدُنيا اِحاديثُ (¬6) ومن ابصر العاقبة فآثرها ادرك السلامة وأمن من الندامة, ومن اعرض عن منهج الله في هذه الحياة خاب وخسر, وندم وعثر, ولم يترك من الذنوب الا ماعجز عنه, فهو اشر بطر, فلتحمد نفسك على ما تركت من الذنوب عجزا, فالبصير من عرف ضره من نفعه, واستفاد في يومه من امسه, واحترز من كيد الشيطان ومن نفسه. قال المتنبي: إِنّي لَأَعلَمُ وَاللَبيبُ خَبيرُ ... أَنَّ الحَياةَ وَإِن حَرَصتَ غُرورُ وَرَأَيتُ كُلّاً ما يُعَلِّلُ نَفسَهُ ... بِتَعِلَّةٍ وَإِلى الفَناءِ يَصيرُ (¬7) وله ايضا: كَثيرُ حَياةِ المَرءِ مِثلُ قَليلِها ... يَزولُ وَباقي عَيشِهِ مِثلُ ذاهِبِ ¬

_ (¬1) - البخاري حديث رقم (5928) . (¬2) - سورة النحل الاية (21) . (¬3) - سورة فاطر الاية (22) . (¬4) - سورة الانعام الاية (122) . (¬5) - سورة النحل الاية (97) . (¬6) - هذان البيتان لصالح بن عبد القدوس. (¬7) - هذان البيتان للمتنبي.

وقال اخر: لم يدرِ من ظنَّ الحياةَ إقامة ... أنَّ الحياةَ تنقُّلٌ وترحُّلُ في كلّ يومٍ يقطعُ الإِنسانُ منْ ... دنياهُ مرحلةً ويدنو المَنْهَلُ فإذا يفارقُ دار منشأه امرؤٌ ... فله إلى دارِ المَعَادِ تنقل (¬1) اما الشريف الرضي فهو يقول: نِصفُ عَيشِ المَرءِ حُلمٌ وَالَّذي ... يَعقِلُ العاقِلُ مِنهُ كَالحُلُم وقال اخر: لَوْ كَانَ لِلْمَرْءِ فِكْرٌ فِي عَوَاقِبِهِ ... مَا شَانَ أَخْلاقَهُ حِرصٌ وَلا طَمعُ وَكَيْفَ يُدْرِكُ مَا فِي الْغَيْبِ مِنْ حَدَثٍ ... مَنْ لَمْ يَزَلْ بِغُرُورِ الْعَيشِ يَنْخَدِعُ دَهْرٌ يَغُرُّ وَآمَالٌ تَسُرُّ وَأَعْ ... مَارٌ تَمُرُّ وَأَيَّامٌ لَهَا خُدَعُ يَسْعَى الْفَتَى لأُمُورٍ قَدْ تَضُرُّبِهِ ... وَلَيْسَ يَعْلَمُ مَا يَأْتِي وَمَا يَدَعُ يَا أَيُّهَا السَّادِرُ الْمُزْوَرُّ مِنْ صَلَفٍ ... مَهْلاً فَإِنَّكَ بِالأَيَّامِ مُنْخَدِعُ دَعْ مَا يَرِيبُ وَخُذْ فِي مَا خُلِقْتَ لَهُ ... لَعَلَّ قَلْبَكَ بِالإِيْمَانِ يَنْتَفِعُ إِنَّ الْحَيَاةَ لَثَوبٌ سَوْفَ تَخْلَعُهُ ... وَكُلُّ ثَوْبٍ إِذَا مَا رَثَّ يَنْخَلِعُ (¬2) ¬

_ (¬1) - هذه الابيات لحازم القرطاجني 608 - 684 هـ / 1211 - 1285 م حازم بن محمد بن حسن، بن حازم القرطاجني أبو الحسن. أديب من العلماء له شعر، من أهل قرطاجنة شرقي الأندلس، تعلم بها وبمرسية وأخذ عن علماء غرناطة وإشبيلية وتتلمذ لأبي علي الشلوبين ثم هاجر إلى مراكش. ومنها إلى تونس، فاشتهر وعُمّر وتوفي بها. وله (ديوان شعر - ط) (¬2) - هذه الابيات لمحمود سامي البارودي1255 - 1322 هـ / 1839 - 1904 م محمود سامي باشا بن حسن حسين ابن عبد الله البارودي المصري. أول ناهض بالشعر العربي من كبوته في العصر الحديث، وأحد القادة الشجعان، جركسي الأصل من سلالة المقام السيفي نوروز الأتابكي (أخي برسباي) . نسبته إلى (إيتاي البارود) ، بمصر، مولده ووفاته بمصر، تعلم بها في المدرسة الحربية. ورحل إلى الأستانة فأتقن الفارسية والتركية، وله فيها قصائد ورجع إلى مصر فكان من قواد الحملتين المصريتين لمساعدة تركيا. الأولى في ثورة كريد سنة1868، والثانية في الحرب الروسية سنة 1877، وتقلب في مناصب انتهت به إلى رئاسة النظار، واستقال ولما حدثت الثورة العرابية كان في صفوف الثائرين، ودخل الإنجليز القاهرة، فقبض عليه وسجن وحكم بإعدامه، ثم أبدل الحكم بالنفي إلى جزيرة سيلان حيث أقام سبعة عشر عاماً، أكثرها في كندا تعلم الإنجليزية في خلالها وترجم كتباً إلى العربية وكفَّ بصره وعفي عنه سنة 1317هـ‍فعاد إلى مصر. أما شعره فيصح اتخاذه قاتحة للأسلوب العصري الراقي بعد إسفاف النظم زمناً غير معتبر. له (ديوان شعر -ط) ، جزآن منه، (ومختارات البارودي -ط) أربعة أجزاء..

تقلب الحياة يحث على عمارتها بالعمل الصالح

اما عبيد الله بن عبيد بن عتبه فهو يقول: فما صفا لامرء عيش يسر به ... إلا سيتبع صفوه كدرُ (¬1) تقلب الحياة يحث على عمارتها بالعمل الصالح ان الصحة في هذه الحياة يعقبها السقم, والقوة يتبعها الضعف, والسرور يخلفه الحزن, والحياة يتبعها الموت, وكل ذلك مما يدعوك الى التزود للحياة الباقية, فان هذه الحياة فانية, ولن يبقى منها الا العمل الصالح, فهو لك متجر رابح, وفي الذكر الحكيم: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} (¬2) ويرحم الله امير البيان العربي شكيب ارسلان حيث يقول: تقابلت الامور فكل مر ... يعاقبه اللذيذ المستطاب ولولا المر لم تشعر بعذب ... ولولا العذب لم يشعرك صاب وكل صعوبة فلها سهول ... وكل سهولة فلها عقاب أما لو لم يكن ظرفا نقيض ... لما قيل الخطاب له جواب ومن طلب الصواب ولم يقابل ... وجوه الامر أعجزه الطلاب ¬

_ (¬1) - انظر سير اعلام النبلاء للذهبي ج4 ص477, والبيت من قصيدة كتبها عبيد الله الى عمر بن عبد العزيز رحمهما الله تعالى, وعبيد الله هو: الامام الفقيه, مفتي المدينة, واحد الفقهاء السبعة وجده عتبة اخو عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما. (¬2) - سورة الكهف الاية (46) .

ومن عدم الصواب وقد نحاه........ بأحسن مايجدُّ فلا يعاب ومن خاض العباب بقصد ربح ... فان الدر ماضم العباب ومن حسب الحياة مدى طويلا ... يكذب ظنه الاجل القراب اذا ولى شباب المرء يوما ... فليس يعيد صبوته الخضاب ألا ليت الشباب يعود يوما ... تقول وانما ذهب الشباب فلا يشغل فؤادك في شباب ... عن العمل السماع أو الشراب ولا يقعدك عن عمل فراغ ... ولو لم يعقب العمل اكتساب وان المرء ان يلزم سكونا ... تولى هيكل الجسد الخراب ومن اضحى لامر غير كفؤ ... فأليق ما يليق به اجتناب سيعلم كل من عرف المعالي ... بأن الشغل للعليا نصاب (¬1) فاغتنم الحياة وجد في العمل قبل ان ياتي الاجل, وفي امثال العرب: (احرز امرا اجله) معناه ان الانسان لايملك ان يفر من اجله لانه مدركه اينما كان (¬2) وقال الميداني والزمخشري: هذا اصدق مثال قالته العرب. وفي امثال العرب ايضا (اذا انقطعت المدة لم تنفع العدة) اي اذا انتهى عمر الانسان لم تنفعه اي وسيلة للنجاة, فنفس المرء خطاه الى اجله غير انه لايدري متى يحل اجله فاستثمر الحياة ولا تضيعها, قال الشاعر: فَالعَيشُ نَومٌ وَالمَنِيَّةُ يَقِظَةٌ ... وَالمَرءُ بَينَهُما خَيالِ ساري وَالنَفسُ إِن رَضِيَت بِذَلِكَ أَو أَبَت ... مُنقادة بِأَزمَّة الأَقدارِ فاِقضوا مآرِبكم عُجَالاً إِنَّما ... أَعمارُكُم سِفرٌ مِنَ الأَسفارِ (¬3) وقال اخر: ضياع العمر في عبث ولهو ... ضلال لايشابهه ضلال فاذا اردت ان تفلح في حياتك وتؤدي واجبك باعمار الحياة واستثمارها, والنجاة من اثامها وأوزارها فعليك باصلاح نفسك, واصلاحها يتعين في اصلاح فكرك واصلاح شهوتك, واصلاح الفكر لايتم الا بتعليمها من العلوم ما تميز به بين الحق والباطل في الاعتقاد, وبين الصدق والكذب في المقال, وبين الجميل والقبيح في سائر الافعال, واما اصلاح الشهوة فان ذلك لايتم الابالتزام الفضيلة بالعفة, والابتعاد عن الرذيلة, والتحلم في الاخلاق, وكف النفس عن قضا وطر لايرضى به الخالق الرزاق, وفي الذكر الحكيم: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} (¬4) فالشهوة ليست مذمومة في ذاتها, ولهذا كان المطلوب منك ترويض قوة الشهوة واصلاحها, ¬

_ (¬1) - هذه الابيات لأمير البيان العربي في زمانه الاستاذ العالم الكبير شكيب ارسلان, المولود سنه 1286هـ في الشويفات الاقطاع الارسلاني بلبنان الذي بدأ حياته الادبية بنظم الشعر فاشتهر به ولما يعدُ السابعة عشرة من عمره وقد طبع في ذلك الوقت ديوانا جمع به اوائل شعره سماه (الباكورة) ولم يتوقف عند ذلك بل تبحر في مختلف العلوم اللغوية والثقافية والسياسية والشرعية وسخر قلمه لخدمة الاسلام والمسلمين وخدم المسلمين بصفاته القيمة واخلاقه الكريمة واوضح فضائح المستعمرين والمبشرين من النصارى وذلك في كتاباته وفي جميع المحافل العربية والدولية وفيما ضمنه كتاب حاضر العالم الاسلامي وهو مطبوع في اربعة مجلدات والكتاب هو ممتع لايستغني عنه طالب الحقيقة في كل زمان ومكان وان من ينظر جملة الى صنيع الامير شكيب ليجد بحرا زاخرا في الادب ليست اللؤلؤات النظومة في ديوانه الا شقائق للآلي النثورة منه في كل جانب, توفى رحمه الله في شهر محرم 1367هـ , وانظر هذه الابيات ضمن قصيدة مطلعها (لمن يا مي هاتيك القباب ... على جبل تضل بها الشعاب) وذلك في ديوانه المطبوع في مطبعة المنار بمصر سنه 1354هـ 11935م. (¬2) - مجمع الامثال للميداني, ص 382. والمستقصى للزمخشري ج1 ص63. وكنوز الامثال ص273. (¬3) - هذه الابيات للتهامي. (¬4) - سورة الشمس الاية (9) .

التحذير من الاغترار بالحياة الدنيا يعني عمارة الحياة بالعمل الصالح

فهي انما تكون مذموة اذا كانت مفرطه واهملها صاحبها ولم يوظفها فيما خلقت له وانما تجاوز واعتدى ولم يستمتع بالحلال في الفرج والمال, مع انه لا سبيل الى الاستمتاع بالحياة, والانتفاع بها الا بحفظ البدن, واعادة ما يتحلل منه, ولا سبيل لذلك الابالغذاء وطلب المال من الحلال, والاستمتاع بالحلال من النساء, فالشهوة محتاج اليها ومرغوب فيها وتقتضي الحكمة الإلاهية ايجادها وتزيينها, والاستعداد بذلك لنيل الحياة الدائمة في الدار الاخرة وفي الذكر الحكيم: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (¬1) . التحذير من الاغترار بالحياة الدنيا يعني عمارة الحياة بالعمل الصالح ان الاعتقاد بحياة اخرى افضل من الحياة الدنيا هو ما يشجع على العمل الصالح, وعلى التاخي والتعاون والتراحم, وهو الذي يدخل العزاء الى النفوس المعذبة التي اصابتها مصائب الحياة, كما ان هذا الاعتقاد يمد المؤمنين بقوة روحية تجعلهم لايبالون بمصائب الدنيا واتراحها, فليس للياس والاحباط من سبيل الى نفوسهم {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (¬2) فهم في عمل دائم يرجون ثواب الله ويخشون عقابه غير مغترين بلهو الحياة ومتعها, وفي الذكر الحكيم: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (¬3) وفي هذه الاية الكريمه مايدعو الى الايثار وطلب مغفرة الله ورضوانه, فوصف الحياة بالهو والزينه والتفاخر والتكاثر في الاموال والاولاد لايعني تحريم ذلك, وعدم جواز طلبه من الحلال وانما يعني ان كل ماتعجبون به انما هو في حقيقة الامر متاع زائل يشبه ذلك المطر الذي يعجب الزارعين ثم لايلبث ان يكون حطاما, فلا تغتروا بالدنيا فانكم اذا طلبتم رضوان الله فيما تعملون فستحصدون الخير في الحياة الباقية, وتنالون المغفرة, اما اذا اخذكم الغرور ونسيتم الرب الغفور فان هناك عذاباً شديداً, واحرى بالانسان ان يحرص على الباقيات الصالحات فيما يطلبه في هذه الحياة لينال الانسان الثواب ويكون قد استمتع بالحياة واستثمرها, وحصل على حياة باقية, وامن من الحساب ونجا من العذاب فهو لم يقصد الدنيا لذاتها, ولم يضيع في حياته اوقاتها, وفي سورة الكهف يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ ¬

_ (¬1) - سورة آل عمران الاية (14-15) . (¬2) - سورة التوبة الاية (51) . (¬3) - سورة الحديد الاية (20) .

الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا *الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} (¬1) فالقرآن الكريم يفضل الحيا ة الاخرة على الدنيا, ولاسبيل الى الوصول الى الاخرة الابعمارة هذه الحياة حسب اوامر الله ونواهيه لينال الانسان الحياة الدائمة غير مغتر بالحياة الدنيا حتى لايحمله ذلك على ظلم الناس بهذه الحياة: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (¬2) وفي سورة الانفال يقول الكبير المتعال: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬3) وفي سورة الأعلى {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} (¬4) واياك ان تغتر وتترك العمل او تحرم في هذه الحياة مااباحه الله لك واحل: {قل مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (¬5) . ¬

_ (¬1) - سورة الكهف الاية (45-46) . (¬2) - سورة العنكبوت الاية (64) . (¬3) - سورة الانفال الاية (67) . (¬4) - سورة الانفال الاية (16-19) . (¬5) - سورة الاعراف الاية (32) .

الايمان بالحياة الاخرة والتشويق لها ممايحث على عمارة الحياة الدنيا بالعمل الصالح

الايمان بالحياة الاخرة والتشويق لها ممايحث على عمارة الحياة الدنيا بالعمل الصالح ان تفضيل الحياة الاخرة على الحياة الدنيا, هو امر يبعث على عمارة الحياة الدنيا بالاعمال الصالحة لكي ينال الانسان حياة يتمتع فيها بالذائذ والطيبات دونما الام او متاعب او اعراض او كوارث او مصائب او مصاعب, فهي حياة لايعقبها الموت, وفي الذكر الحكيم: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (¬1) اي الحياة التي لا فناء بعدها, والشباب الذي لاشيخوخة ولا ضعف بعده, والمساكن التي لامثيل لها, والملابس والثياب من الحرير, فهي تحتوي على متع من النعيم مختلفة الانواع, ففيها صحائف الذهب والفضة التي فيها اطيب انواع الطعام, والذ اصناف الشراب, وفيها ماتشتهي الانفس وتلذ الاعين, يتمتع الرجال والنساء فيها على سواء فينعم النساء بما ينعم به الرجال, قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةََ} (¬2) وقال تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} (¬3) ويقول وهو العزيز الحكيم: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬4) ويقول سبحانه في وصف نعيم الجنة وبيان ان المؤمنين ورثوها بالعمل الصالح {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} (¬5) وفي سورة البقرة الخبر اليقين والامر بتبشير المؤمنين بالخير الوفير في تلك الحياة الاخرة في جنات عدن: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬6) فارث هذه الحياة الابدية انما ياتي به الله لمن آمن في هذه الحياة الدنيا, وعمل صالحا ولم يكن غليظ القلب كافرا بانعم الله, فالذي تنتهي حياته الى الموت, هو في حكم الميت, فاعمل لنفسك بما يحييها الله به حياة طيبة, فحياتك ليست اصيلة في وجودها فاذا اصاب جزءاً من اعضائك مرض او عطل اصبحت حياتك جحيما, اما في الاخرة فحياتك اذا اكرمك الله لايعروها مرض ولا يخالطها خوف, فقو صلتك بالله الذي وهبك الحياة, واعلم ان الله وحده هو دائم الحياة, فهو الحي الذي لايموت, وهو الذي يحيي ويميت, وهو يهب للانسان حياة بعد الممات يشقى الانسان فيها اذا خالف اوامر الله وتعدى حدوده, ويسعد في الحياة الاخرة اذا امن بالله وعمل صالحا, وفي الذكر ¬

_ (¬1) - سورة العنكبوت الاية (64) . (¬2) - سورة النساء الاية (124) . (¬3) - سورة الزخرف الاية (70) . (¬4) - سورة التوبة الاية (72) . (¬5) - سورة الزخرف الاية (68-73) . (¬6) - سورة البقرة الاية (25) .

الحي القيوم في اسماء الله الحسنى

الحكيم: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬1) واذا كان الله سبحانه وتعالى حي متصف بالحياة والقدرة والقوة والبقاء فهو الذي لم يسبق وجوده عدم ولا يلحق بقاؤه فناء, وهو الذي خلق الموت والحياة وبيده المنع والعطاء, وهو الذي يحيي من يشاء ويميت من يشاء, فانه خليق بالانسان العاقل ان يؤمن به سبحانه وتعالى, وان يتعرف عليه وعلى اسمه الحي القيوم, وان يدعوه, ويساله الحياة الطيبة ويتوكل عليه سبحانه وتعالى, وفي التنزيل يقول العزيز الرحيم: {الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬2) وفي سورة الفرقان يقول الكريم المنان: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} (¬3) وفي سورة غافر يقول جل شانه: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬4) . الحي القيوم في اسماء الله الحسنى الحي القيوم من اسماء الله الحسنى وقد جاء الاسمان متلازمان في ثلاثة مواضع في كتاب الله في قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (¬5) وقوله تعالى {الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (¬6) وقوله تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} (¬7) و (الحي القيوم) جمعهما في غاية المناسبة كما جمعهما الله في عدة مواضع في كتابه، وذلك أنهما محتويان على جميع صفات الكمال، فالحي هو كامل الحياة، وذلك يتضمن جميع الصفات الذاتية لله كالعلم، والعزة، والقدرة والإرادة، والعظمة، والكبرياء، وغيرها من صفات الذات المقدسة، والقيوم هو كامل القيومية وله معنيان: هو الذي قام بنفسه، وعظمت صفاته، واستغنى عن جميع مخلوقاته. وقامت به الأرض والسماوات وما فيهما من المخلوقات، فهو الذي أوجدها وأمدها وأعدها لكل ما فيه بقاؤها وصلاحها وقيامها، فهو الغني عنها من كل وجه وهي التي افتقرت إليه من كل وجه، فالحي والقيوم من له صفة كل كمال وهو الفعال لما يريد (¬8) , وقال الطبري: وأما قوله:"الحي" فإنه يعني: الذي له الحياة الدائمة، والبقاء الذي لا أول له بحد، ولا آخر له بأمد، إذ كان كل ما سواه فإنه وإن كان حيا فلحياته أول محدود وآخر ممدود، ينقطع بانقطاع أمدها، وينقضي بانقضاء غايتها (¬9) , وقال الزمخشري: ¬

_ (¬1) - سورة الانعام الاية (122) . (¬2) - سورة آل عمران الاية (1-6) . (¬3) - سورة الانفال الاية (58) . (¬4) - سورة غافر الاية (65) . (¬5) - سورة البقرة الاية (255) . (¬6) - سورة آل عمران الاية (1-2) . (¬7) - سورة طه الاية (111) . (¬8) - شرح اسماء الله الحسنى ص157. (¬9) - جامع البيان ج5 ص386.

ثمرة معرف اسم الله القيوم

(الحى) الباقي الذي لا سبيل عليه للفناء، وهو على اصطلاح المتكلمين الذي يصح أن يعلم ويقدر. و (القيوم) الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه (¬1) وقال ابن كثير: (الحي القيوم) أي: الحي في نفسه الذي لا يموت أبدا القيم لغيره (¬2) وقال القرطبي: الحي جل جلاله وتقدست اسماؤه نطق به القرآن, وجاء في حديث ابي هريرة واجمعت عليه الأمة, ويجوز اجراؤه على المخلوق (¬3) وقال في اسمه القيوم نطق به القرآن وجاء في حديث ابي هريرة واجمعت عليه الأمة وقيوم وقيام وقائم وقيم كله ورد في حقه سبحانه, ويجوز وصف العبد بانه قائم وقيم كما قال تعالى: {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً} (¬4) ولا يجوز قيوم على العبد لا منكرا ولا معرفا (¬5) . ثمرة معرف اسم الله القيوم اذا عرف المكلف ان الله سبحانه وتعالى حي قيوم لايحول ولا يزول القائم الدائم الذي له الحياة الدائمة والبقاء, وانه منزه عن مشابه الخلق فلا يجري عليه الموت او الفناء ولا تاخذه سنة ولا نوم يرفع ويخفض ويقبض ويبسط, ويرزق ويحيي ويميت, وانه يهب لاهل الجنة الحياة الدائمة, وانه قائم على كل نفس بما كسبت يحفظ ويجازي ويحاسب, وفي الذكر الحكيم: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} (¬6) وجب عليه ان يؤمن به ويتوكل عليه ويقدسه وينزهه , ¬

_ (¬1) - تفسير الزمخشري ص225. (¬2) - تفسير ابن كثير ج1 ص687. (¬3) -الاسنى في شرح اسماء الله الحسنى, ص377. (¬4) - سورة آل عمران الاية (75) . (¬5) - الاسنى المصدر السابق ص473. (¬6) - سورة طه الاية (111) .

دعاء الله باسمه الحي القيوم

ويعبده حق عبادته, فهو المدبر لامر الخلائق في السماء والارض, المصرف لشؤونها لانها ليست قائمة بنفسها بل محتاجة للحي القيوم الذي يرزقها ويحييها ويقيمها, ولا شك ان من عرف هذا في ربه توكل عليه, وانقطع قلبه عن الخلق اليه, ذلك انهم محتاجون مفتقرون مثله الى خالقهم في قيامهم وقعودهم وحياتهم ومماتهم وبعد مماتهم, في دينهم ودنياهم, فكيف يرجوهم بعد ذلك؟ وقد علم ان الله سبحانه وتعالى واهب الحياة ومالكها فله الكمال والقدرة التامة, وهو القيوم الذي له كمال القدرة فهو القائم بنفسه المقيم لغيره فلا قيام لغيره الا باقامته فهو القائم بتدبير ما خلق وله الحياة وله الممات, قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬1) وجاء في حديث انس بن مالك رضي الله عنه قال: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا وَرَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّي فَلَمَّا رَكَعَ وَسَجَدَ وَتَشَهَّدَ دَعَا فَقَالَ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ إِنِّي أَسْأَلُكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ تَدْرُونَ بِمَا دَعَا قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى (¬2) وجاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من قال أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ثلاثا غفرت له ذنوبه وإن كان فارا من الزحف (¬3) . دعاء الله باسمه الحي القيوم يا الله ياحي ياقيوم يابديع السماوات والارض انت الحي الذي لا يموت احيني بذكرك ووفقني لطاعتك وعبادتك, واحي ماكان لك مني ميتا, واحي دينك باهل التقى, واجعلني في جنتك أحي ابدا, وفي البرزخ والقبر اجعلني حيا مع الانبياء والشهداء لا اموت وافوت فانت الحي القيوم الكريم الرحيم بمن تشاء, واسألك ياحي ياقيوم ياذا الجلال والاكرام يا قيوم السماوات والارض ان تقيمني باسمك العظيم على صراط من انعمت عليهم من أهل النعيم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين, وان تلبسني تاج اسمك وسربال آلائك وشرفك العظيم, وان تحيي قلبي بذكرك وان تحييني والمؤمنين حياة طيبة يا محيي ياوهاب ياكريم وان تغفرلي ولوالدي وللمؤمنين وصل اللهم على محمد وعلى آل محمد كما صليت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم انك حميد مجيد, وسلم تسليما كثيرا. ورحم الله القائل: يا فَردَ يا حَيَّ يا قَيّومَ يا مَلِكاً ... يا أَولا أَزَلا يا آخِراً أَبدي أَنتَ الغَني عَنِ الأَمثالِ وَالشَرَكا ... أَنتَ المُقَدَّسُ عَن زَوجٍ وَعَن وَلَدِ أَنتَ الغِياثُ لِمَن ضاقَت مَذاهِبَهُ ... وَمَن أَلَمّ بِهِ خَطبٌ مِنَ الكَنَدِ أَنتَ القَريبُ المُجيبُ المُستَغاثُ بِهِ ... وَأَنتَ يا رَبِّ لِلراجينَ بِالرَصَدِ أَرجوكَ تَغفِر لي أَرجوكَ تَرحَمني ... أَرجوكَ تُذهِبُ ما عِندي مِنَ الأَوَدِ ¬

_ (¬1) - سورة الانعام الاية (162) . (¬2) - النسائي في سننه حديث رقم (1283) . (¬3) - المستدرك للحاكم جديث رقم (1884) .

أَرجوكَ تَهديني أَرجوكَ تُرشِدني..... لِما هُوَ الحَقُّ في فِعلي وَمُعتَقَدي أَرجوكَ تَكفيني أَرجوكَ تُغنيني ... بِفَضلِكَ اللَهُ يا رُكني وَيا سَنَدي أَرجوكَ تَنظُرَني أَرجوكَ تَنصُرَني ... أَرجوكَ تُصلِحَ لي قَلبي مَعَ الجَسَدِ أَرجوكَ تَعصِمَني أَرجوكَ تَحفَظُني ... يا رَبِّ مِن شَرِّ ذي بِغيٍ وَذي حَسَدِ أَرجوكَ تُحييني أَرجوكَ تَقبِضُني ... عَلى البَصيرَةِ وَالإِحسانِ وَالرُشدِ أَرجوكَ تُكرِمُني أَرجوكَ تَرفَعُني ... أَرجوكَ تُسكِنُني في جَنَّةِ الخُلدِ مَعَ القَرابَةِ وَالأَحبابِ وَاِشمَلنا ... بِالفَضلِ وَالجودِ في الدُنيا وَيَومَ غَدِ وَجَّهتُ وَجهي إِلَيكَ اللَهُ مُفتَقَراً ... لِنَيلِ مَعروفِكَ الجاري بِلا أَمَدِ وَلا بَرِحَت أَمَدَ الكَفِّ مَبتَهِلاً ... إِلَيكَ في حالَةِ الإِملاقِ وَالرَغَدِ وَقائِلاً بِاِفتِقارٍ لا يُفارِقُني ... يا سَيِّدي يا كَريمَ الوَجهِ خُذ بِيَدي (¬1) ¬

_ (¬1) - هذه الابيات للعلامة عبد الله الحداد.

الفصل التاسع والثلاثون الاستغفار

الفصل التاسع والثلاثون الاستغفار

الاستغفار

الاستغفار الاستغفار دواء الذنوب وشفاء القلوب, وبه النجاة, والأمان من الهلكة, فالاستغفار نعمة, وسبب في التخلص من كل بلاء ومحنه, وحصول كل خير ونعمة, وهو سبب لحصول الرزق, وبه تحصل على رضاء الرب, والتخلص من التلبس بالذنب, والاستغفار يعني طلب المغفرة من الله سبحانه وتعالى بالسان والقلب معا. وشرط قبوله: الاقلاع عن الذنب المستغفر منه, وفي الذكر الحكيم: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ *أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (¬1) وفي سورة النساء يقول الحق تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} (¬2) وفي سورة الزمر يقول الرؤف الرحيم: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬3) وجاء في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يُكْثِرُ مِنْ قَوْلِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ (¬4) . ¬

_ (¬1) - سورة آل عمران الاية (135-136) . (¬2) - سورة النساء الاية (110) . (¬3) - سورة الزمر الاية (53) . (¬4) - مسلم في صحيحه حديث رقم (749) .

الله يغفر الذنوب جميعا فلا تكن من القانطين

قال الشاعر: لَهَونا لَعَمرُ اللَهِ حَتّى تَتابَعَت ... ذُنوبٌ عَلى آثارِهِنَّ ذُنوبُ فَيا لَيتَ أَنَّ اللَهَ يَغفِرُ ما مَضى ... وَيَأذَنُ في تَوباتِنا فَنَتوبُ (¬1) وقال اخر: نوح الحمام على الغصون شجاني ... وراى العذول صبابتي فبكاني إن الحمام ينوح من خوف النوى ... وأنا انوح مخافة الرحمن الله يغفر الذنوب جميعا فلا تكن من القانطين ان الله جل وعلا قد جعل فرجا للمؤمن وجعل له فرصة للتخلص من ذنوبه فلا تيأس, ولا تكن محبطا, فالله جل وعلا يغفر الذنوب جميعا, ويدعوك الى الاستغفار والتوبة, فالشيطان يدعوك عند عمل معصية او ذنب الى الاستمرار فيه والاصرار عليه, فلا تتبع خطواته, ولا تصغ الى نصائحه فانه غاش, واسعد بالاستغفار, وبالتضرع الى العزيز الغفار, واستمع الى كلام الله عله يشرح صدرك ويزل همك وغمك: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (¬2) وفي الحديث القدسي (يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ (¬3)) فالشريعة سهلة ميسرة فلا تحزن ولا تقنط فاستغفر لذنبك فان في ذلك علاج نفسك وراحة بالك, واستقامة حالك, فالمقبل على الله بالاستغفار يبقى في الدنيا منتظم الحال مرفه البال, فالاستغفار من الذنب ¬

_ (¬1) - هذان البيتان لابي العتاهية. (¬2) - سورة طه الاية (82) . (¬3) - مسلم في صحيحه حديث رقم (4674) .

الاستغفار علاج للامراض النفسية

والاقلاع عنه وسيلة لنيل رحمة الله, ونيل الخيرات والعطايا في الحياة الدنيا, وفي الذكر الحكيم: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} (¬1) قال الشاعر: يا من عدى ثم اعتدى ثم اقترف ... ثم ارعوى ثم انتهى ثم اعترف ابشر بقول الله في اياته ... ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف (¬2) وقال اخر: ما زلت اعرف بالاساءة دائما ... ويكون منك العفو والغفران لم تنتقصني إن اسأت وزدتني ... حتى كان اساءتي احسان منك التفضل والتكرم والرضا ... أنت الإله المنعم المنان الاستغفار علاج للامراض النفسية الاستغفار فيه علاج للامراض النفسية, فاستشعار الانسان العفو عنه بالاستغفار يزيل العقد النفسية, والهموم الفكرية, فمما لاريب فيه ان المؤمن الذي يشعر برقابة الله عليه في كافة اعماله تقل اخطاؤه لامحاله, ولكن الانسان بطبيعته غير معصوم وهو بشر ضعيف, قد تزل قدمه فيقع في الخطا, ولكنه اذا اخطا ثاب الى رشده ونهض من كبوته, فهو يستغفر الله ليزيح ما علق به من الاثم, ثم يستانف طريقه الى الغاية التي خلق من اجلها (كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ ¬

_ (¬1) - سورة هود الاية (3) . (¬2) - هذان البيتان لعبد القادر بن طاهر التميمي.

التَّوَّابُونَ) (¬1) ولهذا فان الحق سبحانه وتعالى جعل للمخطئ طريقا يجد له بها عذرا بطلب المغفرة التي تؤدي الى محاسبة النفس ومراقبه الله فباستطاعة اي انسان ان يتوجه الى ربه مباشرة نادما طالبا لمغفرة الله ورضوانه, وذلك مايؤدي الى سكنة النفس وطهارتها وذهاب الكبت الذي يسبب عقدا نفسية, فقد قرر علماء النفس وعلى راسهم (فرويد) مؤسس مدرسة التحليل النفسي ان كافة الامراض النفسية ترجع الى الكبت الذي يسبب عقدا نفسية لاشفاء منها الا بما يسمونه التحليل النفسي الذي يتم بأن يجلس الانسان في عيادة الطبيب النفساني ويعترف امامه بأخطائه ... وهذا الاعتراف يقول عنه الاطباء انه صفة منطقية نفسية سلوكية تكشف عن اخطاء المريض فيراها ويشعر بها, فتتحدث مهادنة بين النفس والضمير فيسامح الضمير, واذا تسامح الضمير واستشعر الانسان العفو منه والصفاء بينه وبين النفس زالت العقد النفسية. والعقد النفسية ليست وهما, فكثيرا ماتسبب هذه العقد الصداع, واضطرابات القلب, وامراض الضغط العالي وغيرها من الامراض, واذا كان علاجها هو الاعتراف بالخطأ امام الطبيب ليتسامح الضمير فاي فرق بين الاعتراف امام الله وامام الطبيب, واي فرق بين غفران الله وتسامح الضمير (¬2) قلت: نظرية الاعتراف بالذنب والاستغفار هي نظرية جاء بها القرآن, وهي اكثر فائدة من نظرية الاعتراف امام الطبيب في عيادة الامراض النفسية, بل ان في ذلك شفاء للنفوس وبلسماً يشفي من امراض كثيرة وفيه نجاة ¬

_ (¬1) - ابن ماجة في سننه, باب ذكر التوبة حديث رقم (4241) . (¬2) - روح الدين الاسلامي ص186 نقلا عن كتاب الاسلام والعلم الحديث تاليف/ عبد الرزاق نوفل ص142.

الاستغفار وعمل الخير فيه تكفير للذنب

من عذاب الله وخروج من المحنة والابتلاء, وفي الذكر الحكيم: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} (¬1) فقد كان في هذا الاعتراف الفرج بعد الشدة والنجاة من الغم والفوز برضاء الله سبحانه وتعالى, وفي قوله جل وعلا {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} ارشاد للمؤمنين باتباع هذا النهج السوي الذي به الخروج من المضائق والفتن والمحن, وبه النجاة من النار, فاذا كان الاعتراف امام طبيب نفسي يشفي من كثير من الامراض النفسية مع ان الطبيب لايملك لنفسه فضلا عن غيره ضرا ولا نفعا الا بما شاء الله وقدّر, فكيف بالانسان اذا توجه لطلب المغفرة من الله, وقد ارشده الى ذلك, فهو الرب الكريم الرحيم, الذي يملك العفو, ويملك الشفاء, وبيده خير الدنيا والاخرى, وقد هدى ادم ودله على الاعتراف والاستغفار من الذنب قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (¬2) فنادى ادم وحواء ربهما بما حكاه الله سبحانه وتعالى: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬3) وهذا نوح عليه السلام يقول {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا* يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارً} (¬4) ولكن الاستغفار يتطلب التوبة بعده بالرجوع الى الله سبحانه وتعالى لكي ينال الانسان السعادة: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (¬5) ففي الاستغفار والتوبة الحصول على رضوان الله واحسانه وزوال الضيق وذهاب الهم والحزن والاستقامة في الحال والطاعة لله سبحانه وتعالى والتوسعة في الرزق وتبديل السيئات بالحسنات, فسارع الى طلب المغفرة لتفوز بالشفاء من امراض النفس واوهامها وعللها وادوائها لكي تعيش سعيدا رشيدا امنا معافا في الدنيا والاخرة وفي الذكر الحكيم: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (¬6) الاستغفار وعمل الخير فيه تكفير للذنب ايمان الانسان بأن الله سبحانه وتعالى يغفر الذنب ويخلص الانسان من الاثام ويجعل منه انسانا سويا يحب الله ويحب الخير لعباده, وقد جعل الله فرصة التطهر والتخلص من الاثام ممزوجة بالتزود من الحسنات, ففعل الخير للناس فيه تكفير للاثم وحث على عمل الصالحات, وفي الذكر الحكيم: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} (¬7) فايمان الانسان بأن الحسنات تذهب السيئات تجعل منه انسانا قادرا على النهوض من كبوته والخروج من محنته حتى وإن زلت قدمه ووقع في خطيئة استغفر واناب وفي القرآن العظيم: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ¬

_ (¬1) - سورة الانبياء الاية (87-88) . (¬2) - سورة البقرة الاية (37) (¬3) - سورة الاعراف الاية (23) (¬4) - سورة نوح الايايات (10-12) (¬5) - سورة هود الاية (3) . (¬6) - سورة آل عمران الاية (133) . (¬7) - سورة هود الاية (114) .

قصة لعمر بن الخطاب

خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬1) وفي الحديث النبوي (وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا) (¬2) وقال علي بن ابي طالب رضي الله عنه: العجب ممن يهلك ومعه النجاة, قيل: وما هي؟ قال الاستغفار. وقال قتادة رحمه الله: القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم. اما دائكم فالذنوب واما دوائكم فالاستغفار. وقال بعض العلماء رحمهم الله: العبد بين ذنب ونعمة لايصلحهما الا الحمد والاستغفار (¬3) . قصة لعمر بن الخطاب أَصَابَ النَّاسَ قَحْطٌ فِى عَهْدِ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فَصَعِدَ عُمَرُ الْمِنْبَرَ فَاسْتَسْقَى فَلَمْ يَزِدْ عَلَى الاِسْتِغْفَارِ حَتَّى نَزَلَ فَقَالُوا لَهُ: مَا سَمِعْنَاكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اسْتَسْقَيْتَ فَقَالَ: لَقَدْ طَلَبْتُ الْغَيْثَ بِمَفَاتِيحِ السَّمَاءِ الَّتِى بِهَا يُسْتَنْزَلُ الْمَطَرُ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا) (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) . وَرَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ مُطَرِّفٍ فَقَالَ: بِمَجَادِيحِ السَّمَاءِ (¬4) . الاستغفار سعادة وبشارة الاستغفار سبب سعة الرزق, وكذلك انجاب الاولاد ونجابتهم, ونزول الامطار وظهور الخيرات وحصول البركات وهذا يعني ان سعادة الدنيا وخيراتها ¬

_ (¬1) - سورة التوبة الاية (102) . (¬2) - الترمذي في سننه حديث رقم 1910. (¬3) - دليل السائلين ص42. (¬4) - البيهقي في السنن الكبرى حديث رقم (6653) .

الغفور الغافر الغفار من اسماء الله الحسنى

تنهال تترى بالاستغفار, وقد روي عن الربيع ابن صبيح ان رجلا اتى الحسن وشكا اليه الجدب فقال له: استغفر الله تعالى, واتى اخر فشكا اليه الفقر فقال له: استغفر الله تعالى, واتى اليه اخر فقال له ادعو الله سبحانه ان يرزقني ابنا فقال له استغفر الله تعالى, واتاه اخر فشكا اليه يباس بساتينه فقال له: استغفر الله تعالى, فقلنا اتاك رجال يشكون الوانا ويسالون انواعا وامرتهم كلهم بالاستغفار فقال ما قلت من نفسي شيئا انما اعتبرت قول الله تعالى حكاية عن نبيه نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا* يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارً} (¬1) فالاستغفار علاج للضعف البشري فالله سبحانه وتعالى غفار للذنوب, فتعرف على اسمه الغفار الغفور واستيقض من غفلتك فلولا ان الله سبحانه وتعالى غفار غفور يستر الذنب ويعفو عن السيئات ما كنا ندري ماذا سيحل بنا, ولكن الله سبحانه وتعالى بشرنا بانه الغفور الرحيم وانه يعفو عن السيئات وانه يمد من استغفر بالمال والبنين وانواع من الخيرات قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} (¬2) وقال جل شانه: {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬3) وفي سورة الانفال يقول الكبير المتعال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬4) . ولله در القائل: استغفر الله ذنبا غير محصيه ... رب العباد اليه الوجه والعمل الغفور الغافر الغفّار من اسماء الله الحسنى سمّى الله سبحانه وتعالى نفسه في احدى وعشرين آية في كتاب الله, منها قوله تعالى: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬5) وقوله تعالى: {أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬6) وقوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} (¬7) وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} (¬8) وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (¬9) واما اسمه (الغفار) فقد جاء في خمس ايات منها, قوله تعالى: {هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} (¬10) وقوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (¬11) فعلم ان (الغفور) في القرآن ورد اكثر بكثير من (الغفار) والغفار ابلغ من الغفور وكلاهما من ابنية المبالغة, وورد اسمه الغفور في حديث ابي هريرة رضي الله عنه عند الترمذي يرفعه الى النبي صلى الله عليه وآله ¬

_ (¬1) - سورة نوح الايات (10-12) (¬2) - سورة الحجر الايات (49-50) (¬3) - سورة الاعراف الاية (153) . (¬4) - سورة الانفال الاية (70) . (¬5) - سورة الانفال الاية (70) . (¬6) - سورة الشورى الاية (5) . (¬7) - سورة البروج الاية (14) . (¬8) - سورة الشورى الاية (23) . (¬9) - سورة فاطر الاية (28) . (¬10) - سورة الزمر الاية (5) . (¬11) - سورة طه الاية (82) .

وسلم والذي ورد فيه تعداد اسماء الله الحسنى ومنها اسمه (الغفور) , واما اسمه الغافر فقد نطق به التنزيل مرة واحدة قال تعالى: {حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (¬1) واصل الغفر في الغة: التغطية والستر يقال غفر الله له ذنوبه اي: ستره, والمغفرة: التغطية والمغْفَر: هو حلق يتقنع به المتسلح يقيه ويستره (¬2) ومعنا الاسماء في حق الله تعالى قال الزجاج: ومعنا الغفر في حق الله سبحانه وتعالى, هو الذي يستر ذنوب عباده ويغطيهم بستره (¬3) قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: الْعَفُوُّ وَزْنُهُ فَعُولٌ مِنَ الْعَفْوِ وَهُوَ بِنَاءُ الْمُبَالَغَةِ، وَالْعَفْوُ الصَّفْحُ عَنِ الذَّنْبِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْعَفْوَ مَأْخُوذٌ مِنْ عَفَتِ الرِّيحُ الأَثَرَ إِذَا دَرَسَتْهُ، فَكَأَنَّ الْعَافِيَ عَنِ الذَّنْبِ يَمْحُوهُ بِصَفْحِهِ عَنْهُ. وَمِنْهَا الْغَافِرُ: قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ قَالَ الْحَلِيمِيُّ: وَهُوَ الَّذِي يَسْتُرُ عَلَى الْمُذْنِبِ وَلا يُؤَاخِذُهُ بِهِ، فَيُشَهِّرُهُ وَيَفْضَحُهُ (¬4) , ويتبين من هذا العرض ان الله سبحانه وتعالى الغفور الذي يغفر الذنوب, وان الغفار هو المبالغ في الستر فلا يشهر الذنب لافي الدنيا ولا في الاخرة تقول غفر الله لك, واليوم يغفر الله لكم غفرا فهو الغفور والغفار والغافر, والايات الواردة في المغفرة كثيرة جدا منها: ما ورد بلفظ الماضي قال تعالى في ¬

_ (¬1) - سورة غافر الاية (1-3) . (¬2) - تفسير الاسماء للزجاج ص37. والنهاية في غريب الحديث والاثر, ج3 ص373. واللسان لبن منظور ج4 ص 3273, مادة غفر. (¬3) - تفسير الاسماء ص38. (¬4) - الاسماء والصفات للبيهقي ص149.

قصة داود عليه السلام: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} (¬1) وفي ذلك ما يشعر بان كل من استغفر الله بلسانه وقلبه غفر له, ومنها: ما ورد بلفظ المستقبل, قال تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬2) وفي ذلك ما يفيد انه مالك العفو والمغفرة فهو يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وقد اقتضت مشيئته انه يغفر ذنوب من اناب اليه ورجع اليه, قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬3) ومنها: ما ورد بلفظ الامر وفي ذلك ما يرشد الى تعليم العباد طلب العفو والمغفرة من الله سبحانه وتعالى: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (¬4) ومنها: ما ورد بلفظ المصدر: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (¬5) وفي ذلك ما يفهم طلب المغفرة من الله سبحانه وتعالى من جميع الذنوب فالمصدر كما هو معروف عند ائمة اللغة مفرد في اللفظ مجموع في المعنى فسبحان من اظهر الجميل وستر القبيح بالعفو والمغفرة, والذنوب من جملة القبائح التي سترها بارسال الستر عليها في الدنيا, وتجاوز عقوبتها في الاخرة فهو سبحانه وتعالى كامل المغفرة (¬6) وواسعها. ¬

_ (¬1) - سورة ص الاية (24-25) . (¬2) - سورة النساء الاية (48) . (¬3) - سورة الزمر الاية (53) . (¬4) - سورة البقرة الاية (286) . (¬5) - سورة البقرة الاية (85) . (¬6) - الجامع لاسماء الله الحسنى ص213.

ثمرة معرفة اسمه الغفور الغافر الغفار

ثمرة معرفة اسمه الغفور الغافر الغفار اذا علم المكلف ان الله سبحانه وتعالى هو الغفور الغافر الغفار على الاطلاق وبكل وجه من الاستحقاق, وان مغفرته لمن تاب بعد زلته منصوص عليه في الكتاب, فكل من اقلع عن زلته وصدق الله في توبته عفاالله عنه وغفر له وعاد كمن لاذنب له, قال تعالى: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (¬1) وقال: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (¬2) وجب عليه ان يؤمن به ويسأله المغفرة, ولا يقنط من رحمة الله, وذلك امر من لازمه ان يغفر لمن اذنب في حقه, ويحسن الى من اساء اليه, وان يستغفر الله من كل ذنب وقع فيه, وان يستغفر الله العظيم الذي لااله الا هو الحي القيوم من كل ما كره الله من قول وفعل وخاطر وخطيئة ونية دبر الصلوات وفي الاسحار لينال ثواب الله ومعفرته, وهداه وتوفيقه, وثناءه واكرامه, فقد مدح الله المستغفرين واثنى عليهم في محكم الذكر الحكيم فقال وهو الغفور الرحيم: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} (¬3) وقال سبحانه: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (¬4) وقال جل شانه: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (¬5) كما يجب على المؤمن ان يستتر عن الناس بذنبه ويعترف لربه ففي الحديث النبوي: كُلُّ أُمَّتِي ¬

_ (¬1) - سورة الانفال الاية (38) . (¬2) - سورة طه الاية (82) . (¬3) - سورة آل عمران الاية (16-17) . (¬4) - سورة الذاريات الاية (17-18) . (¬5) - سورة آل عمران الاية (135) .

سيد الاستغفار

مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ (¬1) , وفي صحيح البخاري ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ (¬2) وينبغي للمؤمن الذي عرف الله انه واسع المغفرة ان يستر غيره ولا يفضحه, ففي صحيح مسلم ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ لَا يَسْتُرُ عَبْدٌ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا إِلَّا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (¬3) , وان يتخلق بالغفران للاخرين فكما يحب المرء ان يغفر له فكذلك يغفر لمن اساء في حقه, وهذا يوسف عليه السلام بعد ان ظفر باخوته يقول ما حكا الله عنه في القرآن الكريم: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (¬4) ويقول سبحانه: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬5) . سيد الاستغفار ان صيغة من صيغ الاستغفار اذا داومت عليها صباحا ومساء ولم تتركها ثم مت في ليل او نهار كنت من أهل الجنة جاء في الحديث النبوي انه صلى الله عليه وآله وسلم قال: سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ إِذَا قَالَ حِينَ يُمْسِي فَمَاتَ دَخَلَ الْجَنَّةَ أَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِذَا قَالَ حِينَ يُصْبِحُ فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ مِثْلَهُ (¬6) دعاء الله باسمه الغفور الغافر الغفار اللهم يا غفور يا غفار يا غافر الذنب يا واسع المغفرة يا عظيم يا رحيم اغفرلي خطئي وعمدي وجدي وهزلي وما انت اعلم به مني فانت الغفور الرحيم, اللهم ياغفور ياغفار اغفرلي ذنبي كله دقه وجله اوله واخره سره وعلانيته فانه لايغفر الذنوب الا انت فاغفرلي مغفرة من عندك وارحمني انك انت الغفور الرحيم اسألك يا الله ياعفو يا غفور يا رحيم ان تغفرلي ولوالدي وللمؤمنين وان تمحو ذنوبي كلها وتدخلني الجنة بغير حساب فانت كريم رحيم وهاب اغفرلي وتب علي فاني ظلمت نفسي ظلما كثيرا فاغفرلي فانه لايغفر الذنوب الا انت ربنا اننا ظلمنا انفسنا وان لم تغفرلنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين وصلِّ اللهم على محمد وعلى آله واصحابه والتابعين له باحسان الى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا ورحم الله ابن الامير الصنعاني حيث يقول: لا تعاقب واجعل بعفوك ستراً ... أنت بالعفو والمكارم أحرى أنا عبد أتيت كل قبيح ... وارتكبت الذنوب سراً وجهرا ليس لي من ذخيرة أرتجيها ... ما سوى عفوه أرجيه ذخراً غافر الذنوب قابل التوب فاغفر ... لمسيء عليه نعماك تترى ¬

_ (¬1) - البخاري في صحيحه حديث رقم (5608) . (¬2) - البخاري في صحيحه باب تعديل النساء بعضهن بعضا, قطعة من حديث رقم (2467) . (¬3) - مسلم في صحيحه باب بشارة من ستر الله عيبه في الدنيا حديث رقم (4692) . (¬4) - سورة يوسف الاية (92) . (¬5) - سورة النور الاية (22) . (¬6) - البخاري في صحيحه حديث رقم (5848) .

الفصل الاربعون الإيثار

الفصل الاربعون الإيثار

الإيثار

الإيثار الإيثار صفة كريمة, وخلة حميدة, يتحلى بها الابرار ويتدثر بها الاحرار, ويتالف بها القلوب فصاحبه مكرم محبوب, والإيثار من الخلال النبيلة والصفات الحميدة, فهو شعار النفوس الكبيرة المحبة للخير, والمؤاسية للغير, والموثقة للمحبة. الإيثار: مصدر اثر يؤثر, وهو ان يجود الانسان بالشيء وهو محتاج اليه. والإيثار اعلى درجات السخاء, واعظم درجات الوفاء, والإيثار له اكبر الاثر في توثيق المحبة بين افراد المجتمع اذ يجعلهم متعاطفين متعاونين, بعكس الاثرة التي تجعل صاحبها مكروها منبوذا من المجتمع لانه لايريد ان يؤدي حقه فيه, والإيثار يجلب لصاحبه السعادة, ويجعله في مجتمعه محبوبا, وقد ذكر بعض العلماء المعاصرين ان من اهم مكتشفات علم النفس الحديث ما ثبت علميا ان سعادة الانسان لا تتحقق بغير تضحية النفس في سبيل الغير. (¬1) قلت وفي الإيثار اصلاح النفس, واكتساب الاجر, وعلو القدر, ومحبة الغير, وقديما قيل بالايثار على نفسك تملك الرقاب. وقيل: من آثر على نفسه استحق الفضيلة, وقال حكيم: من آثر على نفسه بالغ في المروءة, وقال علي بن ابي طالب رضي الله عنه: الإيثار اعلى الايمان, وفي الذكر الحكيم امتدح الحليم الكريم قوما تخلقوا به فقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ ¬

_ (¬1) - روح الدين الاسلامي ص221.

الْمُفْلِحُونَ} (¬1) وفي سورة الانسان يقول الكريم المنان: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (¬2) وفي سورة يوسف يذكر الله ما حكاه اخوة يوسف مما خص الله به يوسف: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} (¬3) وفي سورة طه حكى الله على لسان قوم عدم مؤآثرتهم لما جاء من البينات من عند الله على ما سواه فقال: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (¬4) فالعاقل لايرى معروفا صنعه وان كان كثيرا, ولو خاطر بنفسه وعرضها في وجوه المعروف لم ير ذلك عيبا. بل يعلم انما الخطر ان يؤثر الفاني بالباقي. فلا تعد غنيا من لم يشارك في ماله وجوه البر, ويؤثر ذلك غيره من اجل ارضا الحق, واسعاد الخلق, ولا يعد نعيما ما كان فيه تنغيص وسوء ثناء, وان كثر فهو قليل, ولا يعد الغنم غنما اذا ساق غرما, والمال ان لم تؤآثر فيه تغرم, وان آثرت فيه تغنم, والمغرم لايعد غرما اذا ساق غنما, فالحياة لا تُعمر الا بالايثار والمحبة والتعاون, فالايثار من الصفات الكريمة التي يتحلى بها الانسان واي منزلة ارفع من ان يفضل الانسان على نفسه غيره في الخير, فمن يسعى الى خدمة الانسانية تخدمه, ومن يؤثر الناس على نفسه يحبوه ويؤثروه, ويكرموه, ويعش سعيدا كريما محبوبا بعكس الاثرة التي قال في وصفها (سنت هلير) في شرح مذهب افلاطون: ان اكبر شر في الانسان هو عيب يرافقنا جميعا منذ الولادة, ¬

_ (¬1) - سورة الحشر الاية (9) . (¬2) - سورة الانسان الاية (8) . (¬3) - سورة يوسف الاية (92) . (¬4) - سورة طه الاية (72) .

الإيثار على النفس خلق كريم

وكل الناس يسامح نفسه فيه, ولهذا لاتجد من يبحث الخلاص منه, انهم يسمونه الحب الذاتي, ولا شك ان لهذا الحب الذاتي بعض المحل من الحق بل من الضروة لان الطبيعة هي التي ركبته فينا, ولكن ذلك لايمنع انه متى افرط فيه صار العلة العادية لجميع خطايانا. قد يتعامى الانسان بغاية السهولة عما يجب, فقد يسيء الحكم على ما هو حق وطيب وجميل متى ظن ان الواجب عليه ان يفضل دائما منافعه على منافع الحق, فأي انسان شاء ان يكون رجلا عظيما لا ينبغي له ان يحب ذاته ولا ما هو له, ولا ينبغي ان يحب الا الخير سواء في نفسه او في غيره, وإلا وقع من سلوكه في الف خطيئة لايمكن اجتنابها (¬1) الإيثار على النفس خلق كريم قال الشعراوي: الإيثار تفضيل شيء على شيء في مجال متساوٍ تقول: آثرتُ فلاناً على فلان، وهما في منزلة واحدة، أو أن معك شيئاً ليس معك غيره، ثم جاءك فقير فآثرْتَهُ على نفسك (¬2) . قال ابن الهبارية: الفَضل في الإِيثار ... وَالجود في الإعسار بذل فضول المال ... لَيسَ مِن الأَفضال وقال اخر: أنظر إلى الإِيثار كيف أصابه ... عين الكمال لنصرة الإِيثار فإذا نظرت إليه خلتك منته ... عن حملك الأسفار في الأسفار (¬3) ¬

_ (¬1) - مقدمة كتاب (الاخلاق) ليرصدو ترجمة الاستاذ/ لطفي السيد, ج1 ص66. (¬2) - تفسير الامام العلامة محمد متولي الشعراوي رحمه الله, ج1 ص5720. (¬3) - هذه الابيات للامير الصنعاني.

وجاء في كلام بعض العلماء: القليل من القليل احمد من الكثير الى الكثير, وقيل لبعض الحكماء: من اجود الناس؟ قال من جاد من قلة وصان وجه السائل من المذلة. وقيل ايضا: "جهد المقل افضل من غنا المكثر", وقال بعضهم "عامل سائر الناس بالانصاف, وعامل المؤمنين بالايثار" (¬1) , وقد جاء في السنة النبوية انه أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَابَنِي الْجَهْدُ فَأَرْسَلَ إِلَى نِسَائِهِ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُنَّ شَيْئًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَلَا رَجُلٌ يُضَيِّفُهُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ يَرْحَمُهُ اللَّهُ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ ضَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لَا تَدَّخِرِيهِ شَيْئًا قَالَتْ وَاللَّهِ مَا عِنْدِي إِلَّا قُوتُ الصِّبْيَةِ قَالَ فَإِذَا أَرَادَ الصِّبْيَةُ الْعَشَاءَ فَنَوِّمِيهِمْ وَتَعَالَيْ فَأَطْفِئِي السِّرَاجَ وَنَطْوِي بُطُونَنَا اللَّيْلَةَ فَفَعَلَتْ ثُمَّ غَدَا الرَّجُلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ ضَحِكَ مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (¬2) وقال الشاعر: وآثر ضيفه لما أتاهُ ... فظل وأهله يتلمظونا فسماه الإله بما أتاه ... من الإيثار باسم المُفْلِحينا (¬3) ¬

_ (¬1) - دليل السائلين ص83. (¬2) - البخاري في صحيحه باب قول ويؤثرون على انفسهم, حديث رقم (4510) . (¬3) - هذان البيتان للسيد الحميري.

الايثار في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم اساس في بناء الدولة الاسلامية

وقال اخر: طَرِيقَتُنَا الإيثارُ والبذلُ دائِماً ... بلا ريبَةٍ واللهُ أَغنى وأَكرَمُ (¬1) اما جميل صدقي فهو يقول. كسب الَّذي قد كانَ يؤثر غيره ... حَمداً فكانَ لِنفسه الإيثار الايثار في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم اساس في بناء الدولة الاسلامية ان الايثار الذي تحلى به اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعد مثلا اعلى وطريقا يحتذا, فقد رسم للانسانيه معاني الحب والكرم والاخلاص الذي تتمازج به الارواح وتتصافح به القلوب والذي اسس لبناء مجتمع فاضل, ودولة عادلة ملأت الافاق وعم نورها البسيطة, وكان للانصار رضي الله عنهم قصب السبق ومستحق الثناء فقد تبوأوا الدار والايمان, واحبوا المهاجرين, فكان ايثارهم قائماً على الود الصريح, والفهم الصحيح, فكانوا من شدة إيثارهم لإخوانهم المهاجرين يعرض الواحد منهم على أخيه المهاجر أنْ يُطلِّق له إحدى زوجاته ليتزوجها، وهذا لوْن من الإيثار لم يشهده تاريخ البشرية كلها؛ لأن الإنسان يجود على صديقه بأغلى ما في حوزته وملكه إلا مسألة المرأة، فما فعله هؤلاء الصحابة لونٌ فريد من الإيثار. وحين آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار هذه المؤاخاة اقتضت أنْ يرث المهاجر أخاه الأنصارى، فلما أعزَّ الله الإسلام، ووجد المهاجرون سبيلاً للعيش أراد الحق سبحانه أنْ تعود الأمور إلى مجراها الطبيعي، فلم تَعُدْ هناك ضرورة لأنْ يرث المهاجر أخاه الأنصاري (¬2) . فاذا عاد المسلمون الى سابق عهدهم عاد مجدهم وعلا شانهم واتحدت كلمتهم ورضي ربهم وقرب نصرهم ومن يعتصم بالله فقد هدي الى صراط مستقيم. ايثار الحياة الدنيا على الاخرة ان الله سبحانه وتعالى خلق الدنيا حلوة حضرة ياكل منها البر والفاجر, ويعيش فيها المجنون والعاقل, من عمرها بالعمل الصالح اطاع ربه, وطاب عيشه, وسعد وقته, وحسن معاده, وكانت التقوى زاده, والى الجنة ايابه, ومن اثرها وتعدى وبخل واعتدى, واختال وتجبر, وتغافل واغتر, وظلم وتكبر, ونسي الله العلي الاكبر, كان من الهالكين, وفي الاخرة من المعذبين, وفي الذكر الحكيم: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} (¬3) فالعاقل لا يغتر بالدنيا وزهرتها وحسنها وبهجتها ولا يشغله ذلك عن عبادة الله وعن العمل الصالح, وايثار الحياة الباقية بالاعمال الصالحة, والاخلاق الحسنة, وحسن التعامل مع الناس, فان ذلك يورث الحياة الباقية والنعم الدائمة, اما هذه الحياة وان عظم في عينك متاعها ونعيمها, وعمرانها وقصورها فان كل ذلك يصير الى الزوال, وتذهب بهجة الحياة, وتبيد حضرتها, فلا يبقى رئيس متكبر مؤمر, ولا ¬

_ (¬1) - هذا البيت لبهاء الدين الرواس. (¬2) - تفسير الشعراوي ج1 ص 7427. (¬3) - سورة الذاريات الايات (37-39) .

فقير مسكين محتقر الا ويجري عليهم كاس المنايا ثم يصيرون الى التراب, فيبلون ثم يبعثون, ثم يحاسبون, فالدنيا بحر طفاح, والناس في امواجها يعومون, فلا يغتر فيها الا كل خدّاع, ولا يركن اليها الا كل مناع للخير لايهمه التزود ليوم المعاد, فهو فيها مغرور يظلم العباد ويتعالى عليهم ويستكبر عن عبادة ربه وسماع نصح الخلق له, ورحم الله شوقي حيث يقول: وَكُلُّ بِساطِ عَيشٍ سَوفَ يُطوى ... وَإِن طالَ الزَمانُ بِهِ وَطابا وَلا يُنبيكَ عَن خُلُقِ اللَيالي ... كَمَن فَقَدَ الأَحِبَّةَ وَالصَحابا أَخا الدُنيا أَرى دُنياكَ أَفعى ... تُبَدِّلُ كُلَّ آوِنَةٍ إِهابا وَأَنَّ الرُقطَ أَيقَظُ هاجِعاتٍ ... وَأَترَعُ في ظِلالِ السِلمِ نابا وَمِن عَجَبٍ تُشَيِّبُ عاشِقيها ... وَتُفنيهِمِ وَما بَرَحَت كَعابا فَمَن يَغتَرُّ بِالدُنيا فَإِنّي ... لَبِستُ بِها فَأَبلَيتُ الثِيابا لَها ضَحِكُ القِيانِ إِلى غَبِيٍّ ... وَلي ضَحِكُ اللَبيبِ إِذا تَغابى جَنَيتُ بِرَوضِها وَرداً وَشَوكاً ... وَذُقتُ بِكَأسِها شُهداً وَصابا فَلَم أَرَ غَيرَ حُكمِ اللَهِ حُكماً ... وَلَم أَرَ دونَ بابِ اللَهِ بابا وَلا عَظَّمتُ في الأَشياءِ إِلّا ... صَحيحَ العِلمِ وَالأَدَبِ اللُبابا وَلا كَرَّمتُ إِلّا وَجهَ حُرٍّ ... يُقَلِّدُ قَومَهُ المِنَنَ الرَغابا وَلَم أَرَ مِثلَ جَمعِ المالِ داءً ... وَلا مِثلَ البَخيلِ بِهِ مُصابا فَلا تَقتُلكَ شَهوَتُهُ وَزِنها ... كَما تَزِنُ الطَعامَ أَوِ الشَرابا وَخُذ لِبَنيكَ وَالأَيّامِ ذُخراً ... وَأَعطِ اللَهَ حِصَّتَهُ اِحتِسابا

ان من افضل الزاد في المعاد اعتقاد المحامد الباقية, والسابقة لاكتساب الاخلاق العالية, فمن لزم الايثار ولزم معالى الاخلاق انتج له سلوكها فراخا تطير بالسرور, فما ضاع عمل ورث صاحبه مجدا, وقديما قيل" لولا المتفضلون مات المتجملون", فالمرء لايستحق اسم الايثار والكرم بالكف عن الاذى للناس وان كان محمودا الا ان يقرنه بالاحسان اليهم, والايثار لهم, فمن كثر في الخير رغبته, وحسن نيته وعمله, خلد الله ذكره, واجزل له الثواب, ومن كان عيشه وحده ولم يعش بعيشه غيره في جاه ولا مال فهو وان طال عمره قليل العمر سيء الذكر, والبائس من طال عمره في غير الخير, ومن لم يتاس بغيره في الخير كان عاجزا, كما ان من استحسن من نفسه ما يستقبحه من غيره كان كالغاش لمن تجب عليه نصيحته, ومن لم يكن همه الا الاثرة والاستبداد في نفسه وجاهه وماله وسلطانه, وكان كل همه بطنه وفرجه في هذه الدنيا عُد من البهائم, وقد قال سيد قطب في تفسير قوله تعالى: {بل تؤثرون الحياة الدنيا* والآخرة خير وأبقى} إن إيثار الحياة الدنيا هو أساس كل بلوى. فعن هذا الإيثار ينشؤ الإعراض عن الذكرى؛ لأنها تقتضيهم أن يحسبوا حساب الآخرة ويؤثروها. وهم يريدون الدنيا، ويؤثرونها. . وتسميتها {الدنيا} لا تجيء مصادفة. فهي الواطية الهابطة إلى جانب أنها الدانية: العاجلة: {والآخرة خير وأبقى} . . خير في نوعها، وأبقى في أمدها. وفي ظل هذه الحقيقة يبدو إيثار الدنيا على الآخرة حماقة وسوء تقدير. لا يقدم عليهما عاقل بصير (¬1) . ¬

_ (¬1) - في ظلال القرآن ج8 ص24.

والشاعر يرى ان الناس يتبعون صاحب المال ويحبون من يطعمهم فيقول: قد بلونا الناس في اخلاقهم ... فرايناهم لذي المال تبع وحبيب الناس من اطعمهم ... انما الناس جميعا بالطمع وقال سعيد بن عبد العزيز سمع الحسن بن علي ابي طالب رضي الله عنهما رجلا الى جنبه يسأل الله ان يرزقه عشرة الاف درهم, فانصرف فبعث بها اليه. فاين نحن من هذه الاخلاق؟ قال ابوحاتم: اهنأ الصنائع, واحسنها في الحقائق, واوقعها في القلوب, واكثرها استدامة للنعم, واستدفاعا للنقم, ما كانت خالية عن المن في البداءة والنهاية, متعرية عن الامتنان. وهو الغاية في الصنيعة, والنهاية في الاحسان.

الفصل الواحد والاربعون الاخلاص

الفصل الواحد والاربعون الاخلاص

الاخلاص

الاخلاص الاخلاص من الصفات الروحية التي تسمو بالمرء الى منزلة رفيعة من الخلق الانساني, والاخلاص يجعل الانسان متقنا في عمله, لطيفا في خلقه, نقيا في سلوكه, وفيا في تعامله, كريما في عطائه, صادقا في اخوته, مؤاديا لواجباته غير مشرك في عبادته لربه, وبالاخلاص ينال الانسان السعادة في الدنيا والاخرة. والاخلاص لله: هو ان ياتي الانسان بأعمال نقية, لا يشوبها رياء, قياما بالواجب, سواء في العبادات أو في سائر الاعمال, قاصدا بذلك وجه الله ورضاه (¬1) , وقيل الاخلاص: هو التعري عما دون الله تعالى. أي تصفيه العمل عن ملاحظة المخلوقين (¬2) . وفي الذكر الحكيم: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬3) ويقول سبحانه وهو الحكيم الخبير: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (¬4) ومن هذه النصوص يدرك الانسان العاقل ان الاخلاص روح الاعمال, فاي عمل يؤديه المرء ولا اخلاص فيه فليتأكد انه ¬

_ (¬1) - روح الدين الاسلامي ص198. (¬2) - دليل السائلين ص15. (¬3) - سورة آل عمران الاية (29) . (¬4) - سورة الكهف الاية (110) .

لا روح فيه, وفي الحديث النبوي ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ) (¬1) ان الشقاء الذي اصاب الناس مرده عدم الطاعة لله والاخلاص في العمل له, والايمان به, ولهذا فإن البعض من الناس قد يلعب بهم الهواء, ويغويهم الشيطان فيألهون بعض افراد جنسهم بالغلو في متابعتهم حتى علو في الارض, واستذلوا البشر, وساقوهم الى التناحر, واذا كانت عبادة الله هي اقصى غاية الخضوع له مع طاعته, والتحرر من عبادة المخلوقين, واتباع اهوائهم فانه مما يتعين على الانسان التوجه الى عبادة الله وحده والاخلاص في العمل واتقانه عبادة كان او معاملة او صناعة او زراعة..الخ, وفي القرآن الحكيم يبين لنا العزيز الرحيم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬2) فاتخاذ الانداد واتباع اهواء النفس والرياء والغايات الشخصية حاربها الاسلام ليحل محلها الاخلاص, ولهذا اولاه الاسلام اهتماما خاصا, وقرنه بالعبادة قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (¬3) وقال سبحانه: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (¬4) فالاخلاص لله في العمل شرط في قبوله فالله لا يقبل من الاعمال ولا يزكي الا ما كان خالصا لله, فان الله أغنى الاغنياء عن الشرك, وقد جاء في الحديث القدسي أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ (¬5) فالاخلاص هو الذي يجعل العمل نافعا مقبولا, ومن الحمق ان يوقن العاقل بان نفعه في شيء ثم لا ياتي ذلك الشيء, والاخلاص هو الذي يجعل من المرء انسانا سويا يخاف الله ويراقبه فيما ياتي ويذر من الاعمال, فالاسلام وهو بغية الارواح, وطلبة الاشباح, ومهبط السكينة, ومستقر الطمانينة, وضالة العقول, وخلاصة المعقول والمنقول, وامنية القلوب, وراس كل مطلوب, لايتم بدون اخلاص ولا يتمكن الانسان من ادراك تلك النعمة الكبرى دون اخلاص يتصف به ويطمئن به قلبه, فللقلوب سعاداة لا يحس بها من لم يكن مخلصا لله في عمله, ولا يدركها ذوو الاموال ولا ارباب المناصب الا بالاخلاص لله. وهل للناس مطلب غير ان يسعدوا في ظاهرهم وباطنهم, ودنياهم واخراهم سعادة تدفع عنهم شرور الحياة ومكارهها ثم تفيض عليهم من انواع السرور, وشرح الصدور, وبهجة الاسرار, وصفاء الانوار, مالم يعلمه الا الله سبحانه وتعالى, ثم تسلمهم بعد ذلك الى نعيم لايشوبه كدر, ولا يعتريه زوال, وملك ليس فيه عناء, ولا له انقضاء, ¬

_ (¬1) - النسائي في سننه حديث رقم (3089) . (¬2) - سورة البقرة الاية (21-22) . (¬3) - سورة البينة الاية (5) . (¬4) - سورة الزمر الاية (2) . (¬5) - مسلم في صحيحه باب من اشرك في عمله غير الله حديث رقم (5300) .

فالاخلاص لله يجعل الضمائر حية, والقلوب صافية, والاعمال متقنة, فالقوانين والنظم التي يضعها البشر وان كان في استطاعتها ان تفرض على الانسان رقابة خارجية على سلوكه, وتقرر قواعد تحيل المجرمين الى المحاكم بعد تحقيق النيابة ورجال الشرطة, ولكن ليس في استطاعتها ان تهب رجال النيابة العامة او الشرطة او القضاة ذمة ولا تمنحهم مخافة من الله ولا ان تعطي كل العاملين والموظفين مراقبة الله ولا تطهر القضاة من الاغراض والغايات, ولا ان تمنح الاطباء الاخلاص والنزاهة, فان كان في مقدورها واستطاعتها ان توجب الاحالة على الطبيب لتحديد سن الزواج مثلا, او تحديد الجريمة, ولكن ليس في استطاعتها ان تحمله ان يقرر الحقيقة مبتغيا ذلك وجه الله وسيجد اللص والغاش في عمله, والقاتل في تلك الدوائر ممن خلت نفسه من الاخلاص والخوف من الله سبحانه وتعالى مجالا واسعا للتلاعب بالقانون, اما مع الاخلاص والخوف من الله فانك ستجد العدل, والامن, والامانة, والصدق, والوفاء , وانظر كيف فعل الدين بالعرب عندما اعتنقوه بصدق واخلاص ومحبة, فقد نقلهم من الظلم والوحشية, وسفك الدماء, ووأد البنات, وفعل المنكرات, الى التسابق في ميادين الخيرات, واكتساب القربات, ومراقبة خالق الارض والسماوات. وبذلك كانوا ملوكا في الارض, ملوكا في السماء, بعد تلك الهمجية التي كانوا بها احط الامم على الاطلاق, فاذا فرطنا في عبادة ربنا, والاخلاص في اعمالنا عدنا اذل الامم على الاطلاق يطمع فينا كل طامع, ويهزؤ بنا كل قوي,

فاذا رايت العمل خاليا عن الاخلاص فذلك دليل فساد في المعتقد والاخلاق, بل هو نذير شؤم يحقق وجود انهدام الكائنات لدى قوم يعقلون. فبالسير على منهج الله والاخلاص في العبادة والعمل تتحقق المراقبة, فتنجبر الطبيعة, وتعلم ان عمل الخير اصلح لها, ومناط سعادتها, فتفعل ذلك ميلا اليه, ومحبة فيه, وتبتعد عن كل عمل مشين, ويرحم الله اباالعتاهية حيث يقول: وما من مخلص لله الا ... على اعماله اثر القبول وقال اخر: أنا الزعيم لمن يخلص لخالقة ... ويعمل الصالحات ان يحرز الرشدا ولله در شوقي حيث يقول: كُلُّ ما أَتقَنتَ مَحبوبٌ وَجيه ... مُتقَنُ الأَعمالِ سِرُّ اللَهِ فيه يُقبِلُ الناسُ عَلى الشَيءِ الحَسَن ... كُلُّ شَيءٍ بِجَزاءٍ وَثَمَن اِنظُرِ الآثارَ ما أَزيَنَها ... قَد حَباها الخُلدَ مَن أَتقَنَها وقد احسن من قال: ما دامَ رائِدَنا الإِخلاصُ في العَمَلِ ... لا بُدَّ نَبلغُ يَوماً غايَةَ الأَمَلِ أَمران مَن يَعتَصِم يَوماً بحَبلهما ... فَالنُجحُ رائِدهُ في أَيِّما عَملِ هُما الثَباتُ وَتَوحيدُ القُلوبِ لِذا ... إِلَيهِما قد دعانا خاتَمُ الرُسُلِ

الاخلاص تسبقه النية

الاخلاص تسبقه النية لما كانت الاعمال الخالصة لله وحده لابد لها من سابق نية وعزم نجد الاسلام يهتم بالنية هذه, ويجعلها محورا تدور عليه اعمال المؤمن, ففي الحديث النبوي (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) (¬1) والنية محلها القلب في كل موضع, لان حقيقتها القصد مطلقا. وقيل: المقارن للفعل. وذلك عبارة عن فعل القلب. قال البيضاوي: النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا من جلب نفع او دفع ضر. حالا او مآلا, والشرع خصصه بالارادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضاالله تعالى, وامتثال حكمه (¬2) . ولله در القائل: من اخلص النيات كان لقوله ... وقع وكان لفعله تاثير واما ابو نواس فهو يقول: فَإِذا نَزَعت عَنِ الغَوايَةِ فَليَكُن ... لِلَّهِ ذاكَ النَزعُ لا لِلناسِ النية الطيبة عنصر من عناصر التربية الخلقية تعتبر النية الطيبة عنصراً من عناصر التربية الخلقية التي تجعل الانسان عضوا ممتازا في المجموعة الانسانية, وقد جعلها الاسلام الاصل في قبول الاعمال عند الله خالصة له, وله بذلك السبق بان اعلنها قبل ان يعلنها (عما نويل كانت) فيلسوف الاخلاق الالماني اذ قال: ان حسن النية هو الكل في الكل في الاخلاق. قلت وذلك ما افهمه حديث انما الاعمال بالنيات, فالقاعدة الفقهية (الامور بمقاصدها) والسنة النبوية تقرر انه لا عمل لمن لانية له, وفي السنة النبوية: وَرُبَّ قَتِيلٍ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِنِيَّتِهِ (¬3) . وفي سنن ابن ماجة (إِنَّمَا يُبْعَثُ النَّاسُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ) (¬4) وفي الحديث: (ان الله يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ الْجَنَّةَ صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ) (¬5) , وعند النسائي من حديث ابي ذر (مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحَ كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى) (¬6) فالخير في الاسلام ليس خيرا الا اذا كان عن نية طيبة خالصة لوجه الله, والعمل الطيب ليس طيبا الا اذا استنار باوامره, ولا شك ان هذا مذهب جليل في تقدير الرجال والاعمال يصحح الاوضاع, ويسمو بالمجتمع الى مستوى رفيع من الكمال إذ يجعل الاقوال والاعمال منوطة بغاية واحدة ومثل اعلا هو الله فلا يحب المؤمن ولا يبغض ولا يفعل ولا يترك الا لله والله لا يامر الا بما كان خيرا للشخص وللمجموعة الانسانة (¬7) , ويرحم الله الامير الصنعاني حيث يقول: ¬

_ (¬1) - البخاري في صحيحه حديث رقم (1) . (¬2) - الاشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية, تاليف الامام جلال الدين عبد الرحمن السيوطي, ص30, المتوفى سنة 911هـ, الناشر دار الكتب العلمبة بيروت لبنان الطبعة الاولى 1399هـ 1979م. (¬3) - غاية المقصد في زوائد المسند باب رب قتيل بين الصفين ج1 ص 3492. (¬4) - ابن ماجة في سننه (4219) . (¬5) - ابو داود في سننه حديث رقم (2152) , والنسائي حديث رقم (3522) . (¬6) - النسائي في سننه حديث رقم (1765) . (¬7) - روح الدين الاسلامي ص199.

الرياء يناقض الاخلاص

اذا لم يكن لله فعلك خالصا ... فكل بناء قد بنيت خراب الرياء يناقض الاخلاص القلوب تمرض وقد تموت من مرضها ويموت بموتها الانسان وان كان جسمه لايزال معدودا في الاحيا, وفي مرض القلوب وموتها الهلكة بذاتها, وان من اخطر امراض القلوب مرض الرياء الذي هو اظهار فعل الخير رياء للناس ابتغاء ثنائهم, فذلك مميت للقلب, محبط للعمل لان العمل يتطلب الاخلاص, والرياء انما يكون من شخص قصر نظره, ورق دينه, وضعف يقينه لانه يتصور ان الناس اذا راوه بتلك الحالة الصالحة يحسنون الظن به ويعاملونه معاملة خاصة تترك في دنياه في سرور وسعة, اما من بعد نظره, وصدق ايمانه, واخلص في عبادته وعمله لله فانه يعلم ان الامر كله دنيا واخرى لله وحده لاشريك له الذي بيده الضر, وبيده النفع, وبيده العزة, وبيده الحياة, وبيده الموت, وبيده ازمة القلوب يقلبها كيف يشاء, وهو يعلم ان الله وحده يعز من يشاء, ويذل من يشاء, ويؤتي الملك من يشاء, وينزع الملك ممن يشاء, ويبسط الرزق لمن يشاء, ويمنعه عمن يشاء, وان عالم الانس وعالم الجن وعالم الملائكة ومن في الارض ومن في السماوات جميعا اعجز من ان يطيلوا اجلا, أو يكثروا رزقا, أو يجيروا من نائبة تنزل في الدنيا, أو في البرزخ, أو في الاخرة, واذا كانوا في هذا الضعف فلا قيمة اذا للتزلف لهم حتى بعبادة الله وحده الذي بيده ملكوت كل شيء, ولا تشتبه

عليه عبادة المرائين بعبادة المخلصين وأعمالهم, فكيف يرضى العاقل ان يدخل في عمله رياء يبطله, والله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (¬1) ويقول: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (¬2) ويقول: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (¬3) ويقول: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} (¬4) وفي الحديث النبوي (مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ) (¬5) قال الشاعر: ثَوب الرِياء يَشِفُّ عَن ما تَحتَهُ ... فَإِذا التحفت بِهِ فَإِنَّكَ عاري (¬6) وقال اخر: دع الرياء لمن لذّ الرياء له ... فانه الشرك فاحذر زلة القدم (¬7) اما محمود الوراق فهو يقول: أَظَهَروا لِلنّاسِ نُسكاً ... وَعَلى المَنقوشِ داروا وَلَهُ صاموا وَصَلّوا ... وَلَهُ حَجّوا وَزاروا ¬

_ (¬1) - سورة البقرة الاية (264) . (¬2) - سورة الانفال الاية (47) . (¬3) - سورة الماعون الاية (4-7) . (¬4) - سورة النساء الاية (38) . (¬5) - البخاري في صحيحه حديث رقم (6018) . (¬6) - هذا البيت لابي الحسن التهامي. (¬7) - المراد بالشرك هنا الشرك الاصغر, والبيت ورد في الموسوعة الشعرية غير منسوب لقائل بعينه.

الرياء من صفات المنافقين

وَلَهُ قاموا وَقالوا.... وَلَهُ حَلّوا وساروا لَو غَدا فَوقَ الثُرَيّا ... وَلَهُم ريشٌ لَطاروا وقال اخر: صلى وصام لامر كان يأمله ... حتى قضاه فما صلى ولا صاما (¬1) الرياء من صفات المنافقين الرياء يبطل العمل, ويقطع الامل, ويدل على النفاق والكسل, فهو من صفات المنافقين, وعمل الشياطين, وقد روي عن الامام علي بن ابي طالب رضي الله عنه انه قال: للمرائي ثلاث علامات: الكسل اذا كان وحده, وينشط اذا كان في الناس, ويزيد في العمل اذا اثني عليه وينقص اذا ذم. وقال الحسن رحمه الله: لا يزال العبد بخير ما علم الذي يفسد عمله, وروي ان عمر بن الخطاب رضي الله عنه راى رجلا يطأطئ رقبته: فقال يا صاحب الرقبة, ارفع رقبتك, ليس الخشوع في الرقاب, وانما الخشوع في القلوب (¬2) . وفي الذكر الحكيم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (¬3) ثناء الناس بشرى وليس مما يدفع للرياء ان ثناء الناس على من يتقن عمله ويحسن صنعه ويتقي ربه ويحافظ على الواجبات ويعظم شعائر ربه لايحمل من اخلص في عمله لربه على الغرور, ولا يدفعه الى التقصير في عمله. قال الفضيل بن عياض رحمه الله: ترك العمل لاجل الناس رياء, والعمل لاجل الناس شرك, والاخلاص ان يعافيك الله منهما. وقال عكرمة رحمه الله: ان الله يعطي العبد على نيته ما لا يعطيه على عمله لان النية لارياء فيها. قلت الغالب ان حركات المرائي لاتشتبه على الناس والناس لايجوز لهم ان يشككوا في عبادة شخص لان مدار صحة العبادة على النية, اما الاعمال الدنيوية فان الغش فيها لايخفى على كثير من الناس, ولكن الناس لايمدحون الشخص ويثنون عليه في الغالب حتى يدركو احسانه واتقانه للعمل, قال الشاعر: الناس اكيس من ان يمد حوا رجلا ... حتى يروا عنده اثار احسان وقال اخر: ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وان خالها تخفى على الناس تُعلم واذا اثناء الناس على شخص يعمل الخير فتلك بشارة له ففي الحديث النبوي: (أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنْ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ قَالَ تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ) (¬4) والله سبحانه وتعالى قد اثنى على المحسنين في ¬

_ (¬1) - ورد هذا البيت في الموسوعة الشعرية واخبار القضاة لابن حيان منسوبا لسلم الخاسر. (¬2) - دليل السائلين ص306. (¬3) - سورة النساء الاية (142) . (¬4) - مسلم في صحيحه حديث رقم (4780) .

من لازم الاخلاص لله الولاء والبراء

كتابه واخبر بانه ترك لهم الذكر الحسن فقال في حق نبي من انبيائه: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ *سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (¬1) من لازم الاخلاص لله الولاء والبراء ان من لازم الاخلاص لله سبحانه وتعالى موالاة المؤمنين والاحسان اليهم واعانتهم ونصرتهم والبراءة ممن يعاديهم, ويحاربهم في معتقدهم واخلاقهم وارضهم, فالايمان بالله ومحبته والاخلاص له, تقتضي موالاته ومحبة ما يحب ومن يحب, والبراءة ممن يكفر بالله, ويحارب المؤمنين فمن خصائص المجتمع المسلم أنه مجتمع يقوم على عقيدة الولاء والبراء، الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، والبراء من كل من حادّ الله ورسوله واتبع غير سبيل المؤمنين. وهاتان الخاصيَّتان للمجتمع المسلم هما من أهم الروابط التي تجعل من ذلك المجتمع مجتمعا مترابطاً متماسكاً، تسوده روابط المحبة والنصرة، التي تحمل مجتمعة على تحقيق رسالة الإسلام في الأرض، تلك الرسالة التي تقوم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودعوة الناس إلى الحق وإلى طريق مستقيم. فهاتان الفريضتان - الولاء والبراء - تجعلان من المجتمع المسلم مجتمعا مترابطا متعاضدا يؤدي رسالة الله ويسعى في تحقيقها، وهو في الوقت نفسه مجتمع مستقل عن الكفار كاره لهم، لا يخضع لهم بتبعية، ولا يدين ¬

_ (¬1) - سورة الصافات الاية (78-80) .

لهم بسلطان، من غير أن يمنعه ذلك من الإحسان إليهم والبر بهم - ما داموا غير محاربين لنا, فبهاتين الفريضتين تتعاضد الروابط الإيمانية بين المسلمين، وتتحدد الروابط بين المؤمنين والكافرين، فما أحوج الأمة اليوم إلى تفعيل هاتين الفريضتين، والعمل بهما حتى تتحقق لنا سيادتنا واخوتنا، فلا ندين بالولاء إلا لله ولرسوله وللمؤمنين، ولا نعادي إلا من حادَّ الله ورسوله وتنكب سبيل المؤمنين. وفي الذكر الحكيم: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} (¬1) {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (¬2) . ويقول القاضي مرشد علي العرشاني: بل ان الايمان ينتفي عند انتفاء الولاء, فلما كان الولاء فريضة من فرائض الاسلام فواجب على المسلم ان يؤدي هذه الفريضة, فيعطيها من يستحقها, ومن امر ان يواليه, فالله هو الولي (¬3) قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (¬4) الفرق بين المداهنة والمداراة وأثرهما على الولاء والبراء ¬

_ (¬1) - سورة آل عمران الاية (28) . (¬2) - سورة المائدة الاية (51) . (¬3) - الولاء والبراء للقاضي العلامة المجتهد المحقق مرشد بن علي العرشاني, ص66, الطبعة الرابعة 1427هـ 2006م الناشر مكتبة خالد بن الوليد صنعاء اليمن. (¬4) - سورة المائدة الاية (55-56) .

المداهنة: هي ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومصانعة الكفار والعصاة من أجل الدنيا والتنازل عما يجب على المسلم من الغيرة على الدين. ومثاله الاستئناس بأهل المعاصي والكفار ومعاشرتهم وهم على معاصيهم أو كفرهم وترك الإنكار عليهم مع القدرة عليه. قال الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬1) المداراة: هي درء المفسدة والشر بالقول اللين وترك الغلظة أو الإعراض عن صاحب الشر إذا خيف شره أو حصل منه أكبر مما هو ملابس له. كالرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل ولا سيما إذا احتيج إلى تأليفه. وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها، «أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما رآه قال: (بئس أخو العشيرة. وبئس ابن العشيرة) ، فلما جلس تطلق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلِّم في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه. فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلِّم: (يَا عَائِشَةُ مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشًا, إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ) (¬2) . فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله ¬

_ (¬1) - سورة المائدة الاية (78-80) . (¬2) - البخاري في صحيحه حديث رقم (5572) .

وَسَلِّم دارى هذا الرجل لما دخل عليه مع ما فيه من الشر لأجل المصلحة الدينية، فدل على أن المداراة لا تتنافى مع الموالاة إذا كان فيها مصلحة راجحة من كف الشر والتأليف أو تقليل الشر وتخفيفه، وهذا من مناهج الدعوة إلى الله تعالى. ومن ذلك مداراة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلِّم للمنافقين في المدينة خشية شرهم وتأليفًا لهم ولغيرهم (¬1) . وفي الامثال السائرة: "قارب الناس في عقولهم تسلم من غوائلهم" وفي الحديث:" أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله التودد للناس" (¬2) وقال الشاعر: ما دمت حيا فدار الناس كلهم ... فإنما انت في دار المداراة (¬3) ؤربيريري وقال زهير بن ابي سلمى: وَمَن لَم يُصانِع في أُمورٍ كَثيرة ... يَضرس بِأَنيابٍ وَيوطأ بمنسمِ ؤربيريري واذا كانت الحياة مليئة بالمشاكل ومحفوفة بالمخاطر وربما تنقلب حياة الانسان الى شقاء لاتفه الاسباب فانه بامس الحاجة الى ان يعلم ان الله هو الذي يحميه ويحفظه ويربيه ويرشده ويرعاه ويؤيده فيجعل الولاية المطلقة لله ولايتخذ من دونه اندادا فيضل عن سبيله ويخسر حياته في الدنيا والاخرة وفي الذكر الحكيم: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ ¬

_ (¬1) - اصول الايمان في ضوء الكتاب والسنة, لنخبة من العلماء, الناشر: وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية الطبعة الاولى 1421هـ. وكتاب التكملة للاحكام والتصفية من بواطن الاثام للامام احمد بن يحيى المرتضى, مطبوع ضمن الجزء 6 من البحر الزخار للامام المهدي, ص (500-507) الناشر مؤسسة الرسالة بيروت الطبعة الثانية 1394هـ. (¬2) - اورده السيوطي في جمع الجوامع, وعزاه للطبراني فى مكارم الأخلاق عن ابي هريرة حديث رقم (55) . (¬3) - نسب هذا البيت في معجم كنوز الامثال لابي سليمان الخطابي.

الولي المولى النصير الحميد في اسماء الله الحسنى

شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬1) فاذا اردت ان تخرج من الشقاء الى السعادة ومن الشدة الى الرخاء ومن الظلمات الى النور فتعرف على اسم الله الولي, واخلص لله في عبادتك واعمالك ولتكن موالياً لله ليكون الله وليك وكافلك وناصرك ومعينك ورازقك ومخرجك من الظلمات الى النور قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬2) وتدبر قول الله الولي الحميد فيما حكاه عن يوسف الصديق: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (¬3) فربنا سبحانه وتعالى هو الولي الحميد مستحق الثناء والحمد على توليه المؤمنين بنصرته ورعايته لهم ونعمته عليهم ولأنه جل ثناؤه جمع بين النعمتين الجليلتين: الحياة والعقل ووالى بين منحه وتابع الآءه ومننه, حتى فاتت العد فله الحمد كله وهو الولي الحميد. الولي المولى النصير الحميد في اسماء الله الحسنى وردت هذه الاسماء الجليلة في كتاب الله تعالى الولي والمولى والنصير والحميد والمبدء والمعيد. ومعنا الولي في اسماء الله الحسنى مالك التدبير والناصر لعباده المؤمنين فهو نصيرهم وظهيرهم يتولاهم بعونه وتوفيقه, وقد ¬

_ (¬1) - سورة الشورى الاية (9) . (¬2) - سورة البقرة الاية (257) . (¬3) - سورة يوسف الاية (101) .

ورد هذا الاسم في القرآن الكريم في ايات كثيرة منها قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (¬1) وقال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} (¬2) وقال تعالى: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬3) وقال تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} (¬4) وجاء في السنة النبوية: ان لله تسعة وتسعين اسما ... وعد منها (الولي) (¬5) وقال ابن جرير في قوله تعالى {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} (¬6) يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم قل يامحمد: للمشركين من عبدة الأوثان = "إن وليي"، نصيري ومعيني وظهيري عليكم = (الله الذي نزل الكتاب) عليّ بالحق، وهو الذي يتولى من صلح عمله بطاعته من خلقه (¬7) وقال الزجاج (الولي) هو فعيل, من الموالاه, والولي الناصر (¬8) .قَالَ الْحَلِيمِيُّ: الْوَلِيُّ هُوَ الْوَالِي، وَمَعْنَاهُ مَالِكُ التَّدْبِيرِ، وَلِهَذَا يُقَالُ لِلْقَيِّمِ عَلَى الْيَتِيمِ: وَلِيُّ الْيَتِيمِ، وَلِلأَمِيرِ الْوَالِي. قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: وَالْوَلِيُّ أَيْضًا النَّاصِرُ يَنْصُرُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ (¬9) اما المولى فقد ورد في القرآن الكريم في عدة ايات منها قوله تعالى: {فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (¬10) وقوله تعالى: {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} (¬11) وقوله تعالى: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (¬12) وقوله: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (¬13) وجاء في السنة النبوية انه حينما قال ابوسفيان يوم احد لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَلَا تُجِيبُون لَهُ قَالَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نَقُولُ قَالَ قُولُوا اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ (¬14) ومعنى هذا الاسم (المولى والناصر والمعين) وكذلك (النصير) : فعيل بمعنى فاعل: كما تقول قدير وقادر, وعليم وعالم, وقد ورد في عدة ايات في كتاب الله تعالى منها {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} (¬15) اي ولاية المحبة والتوفيق والنصر, اي هو وليهم بسبب اعمالهم الصالحة التي قدموها وتقربوا بها الى ربهم. قَالَ الْحَلِيمِيُّ: فِي مَعْنَى الْمَوْلَى: إِنَّهُ الْمَأْمُولُ مِنْهُ النَّصْرُ وَالْمَعُونَةُ، لأَنَّهُ هُوَ الْمَلِكُ وَلا مَفْزَعَ لِلْمُلُوكِ إِلاَّ مَالِكَهُ (¬16) ويصح اطلاق الولي والمولى على العباد فقد ورد ¬

_ (¬1) - سورة البقرة الاية (257) . (¬2) - سورة المائدة الاية (55) . (¬3) - سورة الانعام الاية (127) . (¬4) - سورة النساء الاية (45) . (¬5) - سبق تخريجه من رواية الترمذي. (¬6) - سورة الاعراف الاية (196) . (¬7) - جامع البيان للطبري ج13 ص323. (¬8) - مختصر النهج الاسمى ص298. (¬9) - الاسماء والصفات للبيهقي, ص174. (¬10) - سورة الحج الاية (78) . (¬11) - سورة آل عمران الاية (150) . (¬12) - سورة الانفال الاية (40) . (¬13) - سورة البقرة الاية (286) . (¬14) - البخاري في صحيحه حديث رقم (2812) . (¬15) - سورة محمد الاية (11) . (¬16) - الاسماء والصفات للبيهقي, ص175.

ذلك في التنزيل قال تعالى {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (¬1) {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬2) فاولياء الله هم محبوه وناصروا دينه: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬3) اما اسمه سبحانه وتعالى الحميد فقد ورد في القرآن الحكيم في عدة ايات: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} (¬4) وجاء في السنة النبوية في حديث ابي هريرة عند الترمذي الذي جاء فيه.. ان لله تسعة وتسعين اسما من احصاها دخل الجنة (¬5) وعد منها (الحميد) قال الحليمي: هو المستحق لأن يحمد لأنه جل ثناؤه بدأ فأوجد، ثم جمع بين النعمتين الجليلتين الحياة والعقل، ووالى بعد منحه، وتابع آلاءه ومننه، حتى فاتت العد، وإن استفرغ فيها الجهد، فمن ذا الذي يستحق الحمد سواه؟ بل له الحمد كله لا لغيره، كما أن المن منه لا من غيره، قال الخطابي: هو المحمود الذي استحق الحمد بفعاله، وهو فعيل بمعنى مفعول، وهو الذي ¬

_ (¬1) - سورة فصلت الاية (34) . (¬2) - سورة التوبة الاية (71) . (¬3) - سورة يونس الاية (62) . (¬4) - سورة الشورى الاية (28) . (¬5) - سبق تخريجه.

ثمرة معرفة اسم الله الولي المولى النصير الحميد

يحمد في السراء والضراء، وفي الشدة والرخاء، لأنه حكيم لا يجري في أفعاله الغلط ولا يعترضه الخطأ فهو محمود على كل حال (¬1) ثمرة معرفة اسم الله الولي المولى النصير الحميد اذا علم المكلف ان الله جل وعلا هو الولي الذي تولى امور العالم والخلائق وهو مالك التدبير وانه يتولى عبده بعبادته وطاعته والتقرب اليه, وانه مولى المؤمنين ينصرهم ويسددهم, وجب عليه ان يؤمن به, وان يبتعد عن معصيته, وان يطلب منه المعونة والنصر, ويوالي اولياءه, ويحسن الى عباده, فقد وعد الله بنصر من ينصر دينه وكتابه, فقال سبحانه: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (¬2) وقال: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬3) وقال ... {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (¬4) وقال سبحانه: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ} (¬5) وقد توعد سبحانه وتعالى من عادى اولياءه بالحرب كما جاء في الحديث قَالَ (مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ) (¬6) وهو سبحانه يتولى عباده المؤمنين ويوصل اليهم مصالحهم وييسر لهم منافعهم الدينية والدنيوية, فنعم المولى لمن تولاه, وقد كان من دعائه صلى الله عليه وآله وسلم (اللَّهُمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَأَنْتَ نَصِيرِي وَبِكَ أُقَاتِلُ) (¬7) وفي حديث اخر كان يقول (اللهم بك أصول وبك أجول ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) (¬8) فنصره الله واعزه, واحسن اليه, وكم لله من نعمة اولاها ومنة اسداها ورحمة فتحها لعباده المؤمنين فهو الولي الحميد, فله الحمد التام على جميع خلقه, وله الحمد على نعمه الظاهرة والباطنة, الدينية والدنيوية وله الحمد على ما صرفه من المكاره, وله الحمد لذاته, وله الحمد لصفاته, وله الحمد لافعاله, وله الحمد على خلقه, وله الحمد لذاته, فاحمده اخي تفز بخير الدنيا والاخرة, فهو الذي يستحق جميع المحامد باسرها, فنحمده على كل نعمة وعلى كل حال بمحامده كلها ماعُلم منها ومالم يُعلم, وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (ربنا ولك الحمد ملء السموات والارض وما بينهما وملء ما شئت) (¬9) , ويقول (أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) (¬10) , ثم يجب على المكلف ان يعتقد ان الحمد على الاطلاق انما هو لله, وان الالف واللام للاستغراق فهو مستحق للحمد كله ثم يجب عليه ان يسعى في خصال الحمد وهو التخلق بالاخلاق ¬

_ (¬1) - الاسماء والصفات ص160. (¬2) - سورة محمد الاية (7) . (¬3) - سورة الروم الاية (47) . (¬4) - سورة الحج الاية (40) . (¬5) - سورة آل عمران الاية (160) . (¬6) - البخاري في صحيحه حديث رقم (6021) . (¬7) - الترمذي في سننه حديث رقم (3508) . (¬8) - المعجم الاوسط حديث رقم (1003) . (¬9) - صحيح ابن خزيمة حديث رقم (612) . (¬10) - الترمذي في سننه حديث رقم (3305) .

دعاء الله باسمه الولي المولى النصير الحميد

الحميدة والافعال الجميلة, ويترك نقيضها ويدع سفاسفها (¬1) وان يجعل الحمد كله لله رب العالمين, فانه المحمود على ما خلقه وامر به ونهى عنه , وهو المحمود على فضله وانعامه على اوليائه وعلى جميع خلقه, فكل ذرة من ذرات الكون شاهدة بحمده, ولهذا سبح بحمده السموات والارض ومن فيهن {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} (¬2) . دعاء الله باسمه الولي المولى النصير الحميد اللهم ياوليي يامولآي وياناصري ياحميد الفعال اسالك ياالله ياوليي في الدنيا والاخرة الدرجات العلا من الجنة, والنجاة من النار, وان تجعلني لك وليا, واعوذ بك من سوء الخاتمة, واسالك ياالله ياولي ياحميد ان تحييني حميدا وان ترزقني عملا سديدا, وان تميتني راضيا مرضيا شهيدا, وان تنصرني نصرا مبينا واسالك التوفيق في كل قول وعمل وان توفقني لطاعتك وموالاة اوليائك ونصرة كتابك وسنة نبيك, وان تعينني على كل عمل يرضيك, وتجعلني ياالله حامدا لك في كل احوالي, وان تغفرلي ولوالدي وللمؤمنين وان تصلح اعمالي واعمالهم ياارحم الراحمين, اللهم ياولي ياحميد اني اعترف لك من صميم قلبي, وبكل جارحة من جوارح بدني, وبكل خلية من خلايا جسمي, ان كل نعمة مضت, او هي كإنة الان او ستكون في الدنيا او في الاخرة في السموات او في الارض علي او على غيري من إنس او جن او ¬

_ (¬1) - الاسنى للقرطبي, ص189. (¬2) - سورة الاسراء الاية (44) . وانظر تفصيل اوسع في طريق الهجرتين ص 192, والجامع لاسماء الله الحسنى ص 202.

ملك انك انت الله وحدك الذي خلقتها ومنحتها ليس لاحد فيها اي شرك او تدخل, فلك الحمد على ذلك حمدا كثيرا طيبا مباركا, سبحانك اللهم لااله الا انت, اعلم ان كرمك ياالله لاحد له, وان فضلك لا منتهى له فاسالك وارجوك ياولي ياحميد يامن لايحد كرمه ولاينتهي فضله, ياولي ياحميد ان تجعل اعترافي هذا وحمدي هذا عدد خلقك وزنة عرشك وعدد ذرات الوجود يدوم بدوامك ويتجدد في كل لحظة ونفس ابد الابدين, سبحانك لا احصي ثناء عليك, انت مولاي ومولى كل شيء فاغفرلي وارحمني واستجب دعاءي, وحقق بفضلك املي ورجاءي, انت وليي في الدنيا والاخرة توفني مسلما والحقني بالصالحين, ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم, واسالك يالله ان تصلي على محمد وآل محمد كما صليت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم وان تبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم انك حميد مجيد. ويرحم الله محمد بن ابراهيم الوزير (¬1) حيث يقول: اليك وجهت يامولاي امالي ... فاسمع دعائي وارحم ضعف احوالي ارجوك مولاي لانفسي ولاولدي ... ولاصديقي ولااهلي ولامالي لما عرفتك لم انظر الى احد ... فلا الرعية ارجوها والا الوالي ¬

_ (¬1) - هو الامام المجتهد الفاضل/ محمد بن ابراهيم بن علي بن المرتضى بن المفضل الوزير الحسني القاسمي صاحب الذهن الوقاد والمؤلفات الشهيرة منها ايثار الحق على الخلق وارشاد النقاد والروض الباسم وغير ذلك الكثير الكثير وله ديوان لايزال مخطوطا مولده بهجرة الظهراوين من شظب صعدة اليمن وتوفي سنة 840هـ, وانظر ترجمته في البدر الطالع للامام الشوكاني, وأعلام المؤلفين الزيدية للعلامة عبد السلام بن عباس الوجيه.

فلا تكلني الى من ليس يكلؤني....وكن كفيلي فانت الكافل الكالي واسقني كاس ودمن ودادك يا ... مولاي فهو شراب سلسل حالي فلا وحقك ماللقلب من شغف ... الا بحبك فلتشرح به بالي وفيه سلوان قلبي من علائقه ... وسلسبيلي وسلواي وسلسالي ومنه احيى ومن فقدي له مرضي ... ومرهمي ابداً منه وابلالي انا الفقير الى مولاي يرحمني ... في بطن لحد وحيش مظلم خالي هناك لحمي لدود القبر فاكهة ... والعظم والوجه مني في الثرى بالي انا الفقير الى مولاي يرحمني ... يوم القيامة من عنف وأهوالِ وان اكون بعيدا من تعطفه ... مقطعا عنه في الاباد امالي اني الفقير الى مولاي يحشرني ... في زمرة المصطفى المختار والال صلى الاله على ارواحهم ابدا ... ضعفا على قدر زخار وهطالِ

الفصل الثاني والاربعون السعادة

الفصل الثاني والاربعون السعادة

السعادة

السعادة السعادة خير وفير, وفضل كبير, وعمل صالح, ومشروع ناجح, ومتجر رابح, وايمان صادق, وبهجة وسرور, واخلاص وتوفيق, والسعادة قيمة فردية أو اجتماعية أو حضارية يسعى الانسان السوي للحصول عليها والوصول اليها, فهي يمن وبركة وامان وثقة, وفي اللغة: السَّعْد اليُمْن وهو نقيض النَّحْس والسُّعودة خلاف النحوسة والسعادة خلاف الشقاوة, يقال يوم سَعْد ويوم نحس (¬1) , والسعادة شعور مصدره اعماق الانسان, فهي تصدر من داخله بتناغم جسدي وعقلي ترتاح بها الارواح وتسعد, وتنعم بها الاجسام وتتلذذ, ينالها التقي, ويحرمها الشقي, فليس هناك من دواء يجلب السعادة غير الاخذ بأسبابها, والايمان بما وعد الله به لاصحابها, واتباع ما امر الله به في القرآن, واجتناب ما نهى الله عنه في شريعة الاسلام, واتباع نهج محمد عليه الصلاة والسلام, اذ لايمكن تحقيقها تجميع الثروة, أو السلطة, أو الشهرة مهما اجتمعت, دون الرجوع الى الى كتاب الله وسنة نبيه, فكم راينا من ثري شقي بماله, وانتحر بين رجاله, وجميل اكتئب ولم ينفعه جماله, وفنان ارهقه الطرب واصابه العطب, وبامكان من فقد السعادة ان يستعيدها اذا حالفه الصواب ورجع الى السنة والكتاب, فانه سيجد الحياة وضيئة والكون من حوله جميلا مملوءاً بالمسرات والامل, وسينهض الى اكتساب الصالحات بجميل العمل, وسيجد ان يومه خير من امسه, وانه ¬

_ (¬1) - لسان العرب مادة سعد.

لايحتاج الى كثير من الماديات ليحقق قدرا كبيرا من السعادة والنجاح والقوة, قال الشاعر: وَلَستُ أَرى السَعادَةَ جَمعَ مالٍ ... وَلَكِنَّ التَقيَّ هُوَ السَعيدُ وَتَقوى اللَهِ خَيرُ الزادِ ذُخراً ... وَعِندَ اللَهِ لِلأَتقى مَزيدُ وَما لا بُدَّ أَن يَأَتي قَريبٌ ... وَلَكِنَّ الَّذي يَمضي بَعيدُ (¬1) وقال اخر: إِنَّ السَعيدَ لَهُ في غَيرِهِ عِظَةٌ ... وَفي التَجارِبِ تَحكيمٌ وَمُعتَبَرُ (¬2) ان السعيد من اطاع ربه, وحسُن خلقه, واسعد اهله, واثمر عمله, وابتعد عن الرذيلة, وغرس في نفسه وفي الناس الفضيلة, وكان عونا لاخوانه, وشرفا لزمانه, فله في غيره عظة, وفي التجارب عبر, فهو يسعد نفسه وينجي اهله, وفي الحديث النبوي: (السعيد من وعظ بغيره) (¬3) والسعيد من ينجو من النار. قال الشاعر: ما إِن أُبالي إِذا أَرواحُنا قُبِضَت ... ماذا فَعَلتُم بِأَوصالٍ وَأَبشارِ تَجري المَجَرَّةُ وَالنَسرانِ عَن قَدَرٍ ... وَالشَمسُ وَالقَمَرُ الساري بِمِقدارِ وَقَد عَلِمتُ وَخَيرُ القَولِ أَنفَعُهُ ... أَنَّ السَعيدَ الَّذي يَنجو مِنَ النارِ (¬4) وقال اخر: ¬

_ (¬1) - هذه الابيات للحطيئة, ورويت هذه الابيات ايضا للنابغة الشيباني, والله اعلم. (¬2) - هذا البيت للحارث بن حلزة. (¬3) - المعجم الاوسط حديث رقم (7871) . (¬4) - هذه الابيات لابن ابي الحوساء.

وَما السَعادَةُ في الدُنيا لِذي أَمَلٍ ... إِنَّ السَعيدَ الَّذي يَنجو مِنَ النارِ (¬1) اما صالح بن عبد القدوس فهو يقول: يَشقى رِجال وَيَشقى آخرون بِهِم ... وَيُسعدُ اللَهُ اقواماً بِأَقوامِ وقال اخر: وإِذَا سَخَّرَ الإِلاَهُ أنَاسَا ... لِسَعِيدٍ فَإِنَّهُم سُعَدَاءُ (¬2) والسعادة نعمة تعمر بها الديار, وينتفي العار, وتحل الرحمة, وتطيب بها الثمار, وتعم الخيرات, وتحل البركات, ويتعاون الناس في كل الاوقات, وفي الحديث النبوي: مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ ثَلَاثَةٌ وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ ثَلَاثَةٌ مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ وَالْمَسْكَنُ الصَّالِحُ وَالْمَرْكَبُ الصَّالِحُ وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ الْمَرْأَةُ السُّوءُ وَالْمَسْكَنُ السُّوءُ وَالْمَرْكَبُ السُّوءُ (¬3) , والسعادة رضا بما كتب الله وقدر, والسعادة رحمة, وتعاون والفة, والسعادة ايمان واخلاص, ونجاح وفلاح, وخليق بالعاقل ان يعرف طريقها, ويلزم الاخذ باسبابها حتى لا يقع الخطأ عليه في اختيار الوضيع على الرفيع, وتقديمه الخسيس على النفيس, فالناس في متحرياتها طالب لخير, وهارب من شر, قال الشاعر: النَفسُ بِالشَيءِ المُمَنَّعِ مولَعَه ... وَالحادِثاتُ أُصولُها مُتَفَرِّعَه وَالنَفسُ لِلشَيءِ البَعيدِ مُريدَةٌ ... وَلِكُلِّ ما قَرُبَت إِلَيهِ مُضَيَّعَه ¬

_ (¬1) - هذا البيت لجحدر العكلي. (¬2) - هذا البيت لحمدون بن الحاج السلمي. (¬3) - احمد في المسند حديث رقم (1368) .

الاخذ باسباب السعادة في الدنيا سبب للحصول على السعادة في الاخرى

مَن عاشَ عاشَ بِخاطِرٍ مُتَصَرِّفٍ.....مُتَنَقِّلٍ في الضيقِ طَوراً وَالسَعَه وَالمَرءُ يَضعُفُ عَن عَزيمَةِ صَبرِهِ ... فَيَضيقُ عَن شَيءٍ وَعَنهُ بِهِ سَعَه وَالمَرءُ يَغلَطُ في تَصَرُّفِ حالِهِ ... وَلَرُبَّما اِختارَ العَناءَ عَلى الدِعَه كُلٌّ يُحاوِلُ حيلَةً يَرجو بِها ... دَفعَ المَضَرَّةِ وَاِجتِلابَ المَنفَعَه وَالمَرءُ لا يَأتيهِ إِلّا رِزقُهُ ... فَاِقنَع بِما يَأتيكَ مِنهُ في دِعَه (¬1) الاخذ باسباب السعادة في الدنيا سبب للحصول على السعادة في الاخرى ان رسل الله جاؤوا من عند الله لاقامة العدل, وتلطيف السلوك البشري, وتعليم الناس عبادة ربهم, وما يسعدهم وينفعهم في الدنيا والاخرة, وقد افاض الله على الانسان في هذه الحياة من النعم والخيرات, مايجعله ينعم ويبتهج ويكون مسرورا, وعندما ياخذ بتعاليم الشريعة فانه يحس بانه يعيش في مجتمع يرفق القوي فيه بالضعيف ويرعى الكبير الصغير, فتعم الطمأنينة كافة ابناءه فيحصل الرضا والتكافل والترابط بين كافة ابناء المجتمع, فالايمان حيمنا يتجاوز بالمظهر الى الروح والقلب والعقل فانه يؤثر في السلوك والشعور والتفكير فيحدث الانسجام بينما يقوله المرء ويفعله وبينما يؤمن به من القيم والمثل, وهذا يجعل بني الانسان في حالة تعارف وتالف مع ما كان وماهو كائن, مع رسالات الله ورسله اجمعين, وذلك ما يحمل في طياته السعادة والطمأنينة والهناء, وهو ما يعتلج في القلب والعقل والروح, فتفيض جوارح الانسان واحاسيسه خيرا وطيبه, فهو في أمن على حياته وفي أمن على مستقبله, فلااضطراب ولا تذبذب, فهو في تواصل ¬

_ (¬1) - هذه الابيات لابي العتاهية.

البحث عن السعادة

روحي مع خالق الاكوان, ينتظر الرحمة والسعادة الابدية التي يأتي بها الله في الحياة الاخرة, فهي اعلا السعادة واشرفها. قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذ} (¬1) وذلك هو الخير المحض, والفضيلة الصرف, والحياة الدائمة في الدار الاخرة, والعلم بلا جهل, والقدرة بلا عجز, والغنى بلا فقر, ولايمكن الوصول الى ذلك الا باكتساب الفضائل النفسية في الدنيا واستعمالها قال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} (¬2) . البحث عن السعادة كل من تراه على وجه الارض يبحث عن السعادة في عالم الارض, فكل من تراه يبحث عنها ويجتهد, ويجد في الوصول اليها, وقد يكون ذلك الباحث ملكا أو رئيسا أو زعيما رجلا أو امرأة كل هاؤلا وغيرهم من الناس على اختلاف وضعهم ومسؤلياتهم وظروف حياتهم يبحثون عن الحياة الطيبة, ويبحثون عن السعادة الدائمة, يبحث عنها اناس في ملك دولة يظنونه لايبلى, ويبحث عنها اخرون في زواج جميلة هيفاء, ويبحث عنها ثالث في مال يملؤ عليه بصره وقلبه, ويبحث عنها رابع في وظيفة أو سيارة أو حلم من احلام هذه الحياة, مع ان السعادة قريبة جدا ممن يطلبها في رسالة الله الى عباده عن طريق أنبيائه وعن طريق خاتم رسله, سيجدها في ¬

_ (¬1) - سورة هود الاية (108) . (¬2) - سورة الاسراء الاية (19) .

الايمان بالله والعمل الصالح, فالسعادة لاتعدو ان تكون ممارسة عملية لإحكام شريعة الله, وفي القرآن على ذلك دليل وشاهد: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬1) ولعل هذا المعنى هو الذي حدى بالحسن البصري رحمه الله ليقول: "والله لو يعلم الملوك وابناء الملوك مانحن فيه من السعادة لجالدونا عليه بالسيوف" اما العلامة محمد بن محمد المنصور (¬2) فهو يقول: قسما بربك إن لذةَ طاعةٍ ... لَتَفُوقُ لذاتِ الحُطامِ الفاني ما المالُ ما الأبناءُ ما جَاهٌ وما ... مُلكٌ وكأسٌ واحتضانُ غواني وقال اخر: ان السعادة امر ليس يدركه ... أهل السعادة الا بالمقادير مخزونة عن اناس طالبين لها ... وقد تساق الى قوم بتيسير (¬3) ان السعادة طاقة ايجابية نابعة من اعماق الانسان, لها قوه ولها مكونات من مبادئ واعمال, وقدر كل انسان يولد على كوكب الارض السعادة أو الشقاء, فالله تعالى يريد للانسان ان يكون سعيدا, ولكن قد تؤثر عوامل تربوية وبيئية كثيرة في نمط التفكير وعمل الانسان فيفقد هذه السعادة, ¬

_ (¬1) - سورة النحل الاية (97) . (¬2) - هو العلامة العابد الناسك الفاضل المجتهد/ محمد بن محمد بن اسماعيل المنصور الحسني اليماني من العلماء المعاصرين فيلسوف ومفكر اسلامي كبير وهو مرجع لعلماء الزيدية عرف بالاخلاق الكريمة والتواضع وله عدة ابحاث ومؤلفات مخطوطة وهو اديب كبير وشاعر فصيح له ديوان مطبوع اسماه لوامع من خواطر شواسع, وهذان البيتان من قصيدة له اسماها برق يماني مطلعها: (علمي بربي شامخ الاركان ... بالعقل اشهده وبالقرآن) . (¬3) - اورد هذين البيتين الراغب الاصبهاني, في محاضرات الادباء منسوبة لمحمد بن عمر الوراق.

وينظر الى جانب اخر وهو التعاسة والقنوط والشقاء, وهناك انماط فلسفية واجتماعية ودينية لبعض الشعوب والامم تكرس في الانسان فلسفة الحزن والالم والقنوط, وهذه الفلسفة قد تسهم في ازدياد التعساء اليائسين من البشر, وهو خلاف للفطرة التي فطر الله الناس عليها, وعلى النقيض مما جاء به القرآن الذي يرشد بني الانسان الى كل امر فيه سعادتهم ونجاتهم وفلاحهم, ويحذر من الاعراض عن منهج الله, والابتعاد عن ذكره وشكره, فذلك احد اسباب التعاسة والشقاء, وتدبر في قول الحق تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} (¬1) ولله در القائل: ان حياًّ يرى الفساد صلاحا ... او يرى الهدي والرشاد فسادا واقع في هلاكه مثلما اهلك ... سابور في السواد ايادا (¬2) ان السعادة التي تبحث عنها مصدرها الايمان واليقين, وخشية الله الخالق العظيم, فالشعور بالسكينة والرضا والهدوء والصفاء تصدر من اعماق الانسان وتغمر جوارحه وروحه فيغدو مرتاحا في نفسه, سمحا في اخلاقه, بعيدا عن الانفعال والقلق, فهو انسان مطمئن مرشح لان ينعم بصحة جيدة, يحظى بمحبة وتقدير زملائة واسرته ومجتمعه, ويعود عليه ذلك الهدوء ¬

_ (¬1) - سورة طه الاية (124-127) . (¬2) - هذان البيتان للعلامة محمد المنصور. وسابور: الملك المشهور في التاريخ, الملقب ب (ذو الاكتاف) اشهر الاقاصرة, واياد: قبيلة, شقيقة مضر الحمراء.

السعيد من صلح قلبه

بالسعادة والبهجة, والابتسامة الطيبة, حيث يظهر على وجهه انبساط من غير عبوس وابتسامة من غير جزع, وقد اشار القرآن الكريم الى الطمأنينة التي تحل بقلوب المؤمنين الذاكرين فقال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (¬1) ويرحم الله ابا العتاهية حديث يقول: وَإِذا اِتَّقى اللَهَ اِمرُؤٌ وَأَطاعَهُ ... فَتَراهُ بَينَ مَكارِمٍ وَمَعالِ عَلى التَقِيِّ إِذا تَرَسَّخَ في التُقى ... تاجانِ تاجُ سَكينَةٍ وَجَلالِ ويغفر الله لابي قاسم الشابي حيث يقول: لمْ أجدْ في الحَيَاةِ لحناً بديعاً ... يَسْتَبيني سِوى سَكينَةِ نَفْسي السعيد من صلح قلبه السعيد من صلح قلبه, وحسن نطقه, وعبد ربه, ووصل الى الناس خيره, وابعد عن الناس اذاه وشره, فليس لك من قلبين في جوفك تجعل من احدهما منبعا للسعادة والخير, وتجعل من الاخر منبعا للشقاوة والشر, وفي الذكر الحكيم: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} (¬2) فكان المراد أن الإنسان لا يمكن أن يكون له قلبان يجمع بهما بين الضدين وهو ابتغاء مرضات الله وابتغاء مرضات أعدائه بل له قلب واحد إذا صدق في التوجه إلى شيء لا يمكن أن يتوجه إلى ضده بالصدق والإخلاص، فيكون في وقت واحد مخلصا لله ومخلصا لأعداء دينه، ومن هذا الباب قول الشاعر وقد رمق سماء هذا المعنى: لو كان لي قلبان عشت بواحد ... وتركت قلبا في هواك يعذب فلو تملَّك قلبك حب الله, وحب رسوله, وحب شريعته, وحب الخير لعباده, وحب الفضيلة, وحب الايثار, وحب التعاون, وحب الاصلاح, وحب العلم, وحب العمل, وكراهية كل ما هو ضد لذلك, فانك ستكون سعيدا, وفي الحديث النبوي (أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ) (¬3) فمن اصلح قلبه نور الله بصيرته, وكان سعيدا في الدنيا والاخرة, وانما يصلح الانسان قلبه بالايمان والعمل الصالح, والابتعاد عن العجب والغل والحسد والرذائل, ويروى انه كَانَ الْحَسَنُ، يَقُولُ: "لِسَانُ الْعَاقِلِ مِنْ وَرَاءِ قَلْبِهِ، فَإِذَا عَرَضَ لَهُ قَوْلٌ نَظَرَ فَإِنْ كَانَ لَهُ قَالَ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ أَمْسَكَ. وَلِسَانُ الْأَحْمَقِ أَمَامَ قَلْبِهِ، فَإِذَا عَرَضَ لَهُ الْقَوْلُ قَالَ عَلَيْهِ أَوَّلَهُ" (¬4) فالسعيد من حفظ جوارحه وحفظ لسانه واطاع ربه, وعصى عدوه الشيطان, ولم يسع الى زرع الفتن وكفر النعم, والسعيد يحب الله ويحب الناس ولا يحتقرهم , والسعيد يامر بالمعروف, وينهى عن المنكر, والسعيد يحب الخير للناس, ويكره اذاهم, فهو متق لله وخائف منه, وفي الحديث النبوي: إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنِ إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنُ ¬

_ (¬1) - سورة الرعد الاية (28) . (¬2) - سورة الاحزاب الاية (4) . (¬3) - البخاري في صحيحه حديث رقم (50) . (¬4) - شعب الايمان للبيهقي حديث رقم (4371) .

القلب وما يعرض له من السعادة والشقاء

وَلَمَنْ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ فَوَاهًا (¬1) وفي الذكر الحكيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬2) . القلب وما يعرض له من السعادة والشقاء يطلق لفظ القلب اسما لمضغة في الفؤاد معلقة بالنياط أو بمعنى الفؤاد مطلقاً, ويقول بعضهم: ان القلب هو العلقة السوداء في جوف هذه المضغة الصنوبرية الشكل المعروفة, كأنه يريد أن هذا هو الأصل ثم جعله بعضهم اسما لهذه المضغة, وبعضهم توسع فسمى هذه اللحمة كلها حتى شحمها وحجابها قلباً, ويطلق اسماً لما في جوف الشيء وداخله, واسماً لشيء معنوي وهو النفس الإنسانية التي تعقل وتدرك وتفقه وتؤمن وتكفر وتتقي وتزيغ وتطمأن وتلين وتقسو وتخشى وتخاف، وقد نسبت إليه كل هذه المعاني في القران، والأصل في هذا أن أسماء الأشياء المعنوية مأخوذة من أسماء الأشياء الحسية, وقد أطلق على الشيء الذي يحيى به الإنسان ويدرك العقليات والوجدانيات كالحب والبغض والخوف والرجاء عدة أسماء منها القلب والروح والنفس واللب، وهناك مناسبة أخرى للقلب وهي قلب الحيوان وهو مظهر حياته الحيوانية ومصدرها وللوجدانيات النفسية, والعواطف تأثير في القلب الحسي يشعر به الإنسان, ومهما كانت المناسبة التي كانت سبب التسمية فلفظ القلب يطلق في القران بمعنى النفس المدركة والروح العاقلة التي يموت الإنسان بخروجها, منه قوله تعالى: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} (¬3) أي الأرواح لا هذه المضغ اللحمية التي لا تنتقل من مكانها، وقال تعالى: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} (¬4) أي نفوس وأرواح, وليس المراد أن القلب الحسي آلة العقل وقال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} (¬5) أي على نفسك الناطقة وروحك المدركة، وليس المراد بالقلب هنا المضغة اللحمية ولا العقل, لان العقل في اللغة ضرب خاص من ضروب العلم والإدراك، ولا يقال إن الوحي نزل عليه ولكن قد تسمي النفس العاقلة عقلا كما تسمى قلبا, وقد يعزى إلى القلب ويسند إليه ما هو من أفعال النفس أو انفعالاتها التي يكون لها اثر في القلب الحسي كقوله تعالى: {إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (¬6) وقوله تعالى: {لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} (¬7) وقوله تعالى: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} (¬8) . ولما كان القلب اعظم منه فقد جاء القرآن ليبين اسباب السعادة لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد, قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (¬9) فقد امتدح القرآن ¬

_ (¬1) - ابو داود في سننه حديث رقم (3719) . (¬2) - سورة الانفال الاية (24-25) . (¬3) سورة الأحزاب (10) . (¬4) سورة الحج (46) . (¬5) سورة الشعراء (193و194) . (¬6) ذكرت بنفس اللفظ في موضعين: سورة الأنفال (2) , وسورة الحج (35) . (¬7) سورة آل عمران (156) . (¬8) سورة التوبة (15) . (¬9) - سورة ق الاية (37) .

الشقي من طبع على قلبه

من استعمل قلبه وسمعه وبصره, وذم من لاينتفع بها فقال: {فتكون لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (¬1) وقال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (¬2) فالسمع والبصر كالاخوين يخدم كل واحد منهما صاحبه في ادراكه, وقد ينوب السمع عن البصر في ابلاغ القلب بما ياخذه, فاستخدم هذه النعمة, واجعل قلبك سعيدا تسعد, فاذا اسلم قلبك, وسلم فقد سعدت, فتدبر قول العزيز الحكيم: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (¬3) وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّكُمْ جِئْتُمْ مِنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيد، فَأَنْضَيْتُمَ الظَّهْرَ وَأَخْلَقْتُمَ الثِّيَابَ، وَلَيْسَ السَّعِيدُ مَنْ سَبَقَتْ دَابَّتُهُ، أَوْ رَاحِلَتُهُ، وَلَكِنَّ السَّعِيدَ مَنْ تُقُبِّلَ مِنْهُ. الشقي من طبع على قلبه الشقي من عصى ربه, واطاع الشيطان عدوه, وكثر شره, وعق اهله, والشقي من طبع على قلبه ونسي عقاب ربه, فهو شقي في عمله, شقي في نفسه, شقي في بلده ومجتمعه, منغمس في الشهوات المحرمة, متبع لهواه, ومعرض عن ذكر مولاه, فمعيشته ضنكه, وإن عمر القصور, ونكح اشباه الحور, فمتاعه يسير وعيشه حقير, وحسابه غير يسير, فهو يستعجل العذاب ¬

_ (¬1) - سورة الاعراف الاية (179) . (¬2) - سورة الحج الاية (46) . (¬3) - سورة الشعراء الاية (89) .

بظلمه للعباد, وبالتعالي والاستبداد, وفي الذكر الحكيم: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ *مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} (¬1) ويقول العزيز الحكيم: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} (¬2) والشقاوة هي الألم الذي يملك كل ملكات النفس لا يترك منها جانباً، يقولون: فلان شقي يعني مُضيَّق عليه ومُتعَب في كل أمور حياته، لا يرى راحة في شيء منها. وقال الشيخ محمد متولي الشعراوي في تفسير قوله تعالى: {غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا. .} (¬3) يريدون أن يُبِعِدوا المسألة عن أنفسهم ويُلْقون بها على الله تعالى، يقولون: يا رب لقد كتبتَ علينا الشقوة من الأزل، فلا ذنبَ لنا، وكيف نسعد نحن أنفسنا؟ يقولون: لو شاء ربنا ما فعلنا ذلك. ونقول لهم: لقد كتب الله عليكم أزلاً؛ لأنه سبحانة علم أنكم ستختارون هذا (¬4) . فسُوءِ الْقَصْدِ وَفَسَادِ النِّيَّةِ وَخُبْثِ السَّرِيرَةِ، وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ وَالصِّفَاتُ هِيَ الْأَصْلُ فِي الشَّقَاوَةِ وَعَلَيْهَا مَدَارُ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ, والشقي يجلب لنفسه ولأمته ومجتمعه الدمار, والشقاء في الدنياء والاخرة, وتدبر قول ¬

_ (¬1) - سورة الشعراء الاية (24-27) . (¬2) - سورة القصص الاية (61) . (¬3) - سورة المؤمنون الاية (106) . (¬4) - تفسير الشعراوي, ص6258.

الله مقلب القلوب فلا تغفل

العزيز الحكيم: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} (¬1) ولله در القائل: ما شَقوَةُ المَرءِ بِالإِقتارِ يُقتِرُهُ ... وَلا سَعادَتُهُ يَوماً بِإِكثارِ إِنَّ الشَقِيَّ الَّذي في النارِ مَنزِلُهُ ... وَالفَوزُ فَوزُ الَّذي يَنجو مِنَ النارِ أَعوذُ بِاللَهِ مِن أَمرٍ يُزَيِّنُ لي ... لَومَ العَشيرَةِ أَو يُدني مِنَ العارِ وَخَيرُ دُنيا يُنسِّي شَرَّ آخِرَةٍ ... وَسَوفَ يُنبئُني الجَبّارُ أَخباري لا أُدخُلِ البَيتَ أَحبو مِن مُؤَخِّرِهِ ... وَلا اِكسِّرُ في اِبنِ العَمِّ أَظفاري إِن يَحجُبِ اللَهُ أَبصاراً أُراقِبُها ... فَقَد يَرى اللَهُ حالَ المُدلَجِ الساري (¬2) الله مقلب القلوب فلا تغفل ان الله سبحانه وتعالى جعل قلوب عباده بيده, وما اكثر ما تضيق قلوب الاشقياء, وتلين قلوب السعداء, فالقلوب بيد الله, فهو الذي يسعدك, وهو الذي يقبض عنك كل سعادة, وقد ملك زمام كل شيء, واليه يرجع امر كل شيء, فاذا قبض القلب فهو لايفهم, واذا قبض العقل فانه لايدرك ولايتعلم, فاذا اطعت الله ورجعت اليه فان قلبك سيكون مفعما بالسعادة والرضا, فأنت تتقلب من حال الى حال, من حالة بسط الى حالة قبض, ومن حالة قبض الى حالة بسط, فقلبك يطلع عليه الله وينظر اليه, ففي ¬

_ (¬1) - سورة الشمس الاية (11-15) . (¬2) - هذه الابيات للمغيرة بن حبناء, وقيل ايضا انها ليزيد بن حبناء, والله اعلم.

الحديث النبوي (إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ) (¬1) , فاذا جاءك القبض اثر معصية او مخالفة او عدوان فهذا قبض معصية, وعلاج ذلك بالتوبة والرجوع الى الله, اما اذا كان القبض لغير ذلك او لامر لاتعرفه فإن ذكر الله يجعل القلب مطمئنا, وملازمة الاستغفار يذهب عنه الاوضار, فالله جل وعلا يقلب القلوب يقبضها ويبسطها, ولعلك تدرك ان الله اذا قبض عنك الأحوال الطيبة شعرت بالوحشة والضيق والحرمان, وشعرت انك مردود, واذا ذكرت الله وفوضت الامر اليه واستغفرت وتلوت القرآن من الله عليك بالتجلي, وشعرت بالخشوع والسرور, والانشراح والانس والسعادة, فكن على يقين, ان معك ميزانا اذا اعتديت وعصيت شعرت بالاكتأب, وضاق صدرك وان كانت دارك واسعة واموالك كثيرة فإن ذلك لايشعر بالسعادة, فلا تكن من الغافلين, قال الشاعر: ما بال قلبك قد الهاه عاجله ... من امر دنياه حتى فات اجله يا غافلا والمنايا غير غافلة ... هل رد حتف امرئ عنه تغافله (¬2) فبذكر الله تطمئن القلوب, وتشرق النفوس, وتسعد الحياة, ويزول الكدر, ويذهب الضيق والضجر, قال الشاعر: لاتضق ذرعا بحالٍ ... فالذي سواك حاضر وهو بي ارحم مني ... كلما دارت دوائر ¬

_ (¬1) - مسلم في صحيحه حديث رقم (4651) . (¬2) - هذان البيتان منسوبة في الموسوعة الشعرية لفتح بن محمد السعدي الدمياطي.

لاتخف لاتخش مهما......كنت للرحمن ذاكر (¬1) فما اكثر ما تضيق قلوب بعض الناس حتى تكاد تموت من الضيق, وتقسوا حتى تكاد تكون اقسى من الحجارة فهي كالصخر لاتلين, وفي الذكر الحكيم: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (¬2) ورضي الله عن الامام الشافعي حيث يقول: وَلَمّا قَسا قَلبي وَضاقَت مَذاهِبي ... جَعَلتُ الرَجا مِنّي لِعَفوِكَ سُلَّما وانما علاج القلوب الرجوع الى الله وملازمة ذكره وحمده, وشكره, ولعلك تدرك احيانا ان الفطرة تنطمس, فلا يدرك الانسان الصواب, وفي السنة النبوية ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ فَإِنْ زَادَ زَادَتْ فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬3) فاقتراف المعاصي تلو المعاصي والمخالفات تلو المحالفات والانغماس بالملاذات, والتطاول على خلق الله, وترك العبادات والطاعات, كل ذلك ينتهي الى اغفال القلب وتغليفه, وتدبر قول العزيز الحكيم: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (¬4) ويقول ¬

_ (¬1) - هذان الابيات للعلامة محمد بن محمد المنصور. (¬2) - سورة البقرة الاية (74) . (¬3) - سنن ابن ماجة حديث رقم (4234) . (¬4) - سورة الكهف الاية (28) .

سبحانه: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬1) اما اذا كنت تمشي في طريق الايمان وحصل لك وحشة, او ضيق فلعلها معالجة الاهية لطيفة لقلبك, وامتحان للبك, فعليك ان تصبر وتستغفر حتى تنجلي هذه الحالة بفضل الله وقدرته, وفي الحديث النبوي: (إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ) (¬2) وكان صلى الله عليه وآله وسلم (يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا قَالَ نَعَمْ إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ) (¬3) وفي الذكر الحكيم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (¬4) فالله عز وجل هو الذي بيده الخير كله, وهو الذي ان شاء ملأ قلبك رضا, وصدرك فرحا وسرورا, وملأ يدك رزقا وخيرا, وبسط لك العيش, ويسر لك العبادة وسبل الفلاح والنجاح, وان عصيته وأعرضت عن ذكره قبض عنك كل سعادة, وقبض عنك الفهم, وقبض قلبك, فلا يغنم ولا يرى نورا, فياتي التشاؤم والشقاء, فتعرف على الله في الشدة, يعرفك في الرخاء, واعلم ان الله القابض الباسط الخافظ الرافع المعز المذل المبدء المعيد بيده كل خير, فتعرف على اسمائه, وعلى شريعته, وعلى احكامه تعش سعيدا في الدنيا والاخرة. ¬

_ (¬1) - سورة البقرة الاية (7) . (¬2) - مسلم في صحيحه حديث رقم (4870) . (¬3) - الترمذي في سننه حديث رقم (2066) . (¬4) - سورة آل عمران الاية (8) .

القابض الباسط في اسماء الله الحسنى

القابض الباسط في اسماء الله الحسنى القابض الباسط من اسماء الله الحسنى معناها ان الله جل وعلى يقبض الارزاق والقلوب والارواح, ويبسط الارزاق والقلوب, وذلك تبع لحكمته ورحمته, وقد ثبت ورود اسم الله (القابض الباسط) جل جلاله وتقدست أسماؤه في السنة النبوية, ففي حديث انس رضي الله عنه قال: النَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ غَلَا السِّعْرُ فَسَعِّرْ لَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ) (¬1) وهذا الحديث صحيح اخرجه ابوداود والترمذي وبن ماجة والدارمي وابن حبان وغيرهم, وورد (القابض الباسط) في حديث ابي هريرة عند الترمذي (ان لله تسعة وتسعين اسما) .. وعد منها (القابض الباسط) ووردت فعلا في القرآن الكريم قال تعالى: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (¬2) وفي احاديث كثيرة منها ما رواه مسلم: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ) (¬3) ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (قَالَ يَقْبِضُ ¬

_ (¬1) - ابي داود في سننه حديث رقم (2994) . (¬2) - سورة البقرة الاية (245) . (¬3) - مسلم في صحيحه حديث رقم (4954) .

ثمرة معرفة اسم الله القابض الباسط

اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ) (¬1) قال الحليمي في معنى الباسط: إنه الناشر فضله على عباده يرزق ويوسع، ويجود ويفضل ويمكن ويخول ويعطي أكثر مما يحتاج إليه, وقال في معنى القابض: يطوي بره ومعروفه عمن يريد ويضيق ويقتر أو يحرم فيفقر قال أبو سليمان: وقيل القابض وهو الذي يقبض الأرواح بالموت الذي كتبه على العباد وقال: ولا ينبغي أن يدعى ربنا جل جلاله باسم القابض حتى يقال معه الباسط (¬2) . وقال ابن القيم رحمه الله: هُوَ قَابِضٌ هُوَ بَاسِطٌ هُوَ خَافِضٌ ... هُوَ رَافِعٌ بِالعَدلِ وَالمِيزَانِ وهو المُعزُّ لأهلِ طَاعَتِهِ وذَا ... عِزٌّ حَقِيقِيٌّ بِلاَ بُطلاَنِ وَهُوَ المُذِلُّ لِمَن يَشَاءُ بِذِلَّةِ الدَّ ... ارَينِ ذُل شَقَا وَذُلُّ هَوَانِ فهو سبحانه القابض الباسط, يقبض الارواح, ويقبض القلوب, ويبسط الارزاق لمن يشاء ويقبضه عمن يشاء, فهو الذي يطوي بره ومعروفه عمن يريد ويضيق ويقتر, وهو الذي ينشر فضله على عباده, ويوسع ويجود, فهو الذي يبسط رحمته على القلوب حتى تستضيء وتخرج من وضر الذنوب وتنشرح وتسعد وهو الذي يقبض القلوب فيضيقها حتى تصير حرجا كانما تصعد في السماء, ويبسطها بما يفيض عليها من معاني بره ولطفه واحسانه, قال تعالى: {فمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} (¬3) . ثمرة معرفة اسم الله القابض الباسط اذا عرف المكلف ان الله سبحانه وتعالى القابض الباسط والا قابض ولاباسط على الاطلاق الا هو سبحانه وتعالى وانه الذي يقبض الارواح والانفس والقلوب ويبسط الارزاق وانه الذي يبسط القلوب والالسنة والايدي, وانه الذي يبسط السحاب في السماء ويدبر شؤن العباد بحكمته وعدله ورحمته, وان السموات والارض قبضته, وان يده مبسوطة لمن تاب, وانه ينفق ويرزق كيف يشاء, قال تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} (¬4) وجب عليه ان يؤمن به وان يخافه من قبضه عنه منافع الدنيا والاخرة, وان يفرده بالعبادة ويخلص له العمل, وان يبسط قلبه لاحكام الله, ولسانه لذكره وشكره, ويده لبذل الواجبات والصدقات, وان يكون مبسوط القلب بمعرفة الله منشرح الصدر بنعم الله باسطا وجهه للناس, فاذا كنت ذا بسط في الجسم فابسطه في بالعبادة التي تفضي بك الى السعادة في الدنيا والاخرة, وان كنت ذا بسط في المال فابسط يدك في العطاء واعطف عن المساكين والضعفاء, وتألف به قلوب العلماء والحكماء, واعمر به المساجد والمساكن للضعفة والزمنا, وازل ما على عينك من الغطاء ولا ¬

_ (¬1) - البخاري في صحيحه حديث رقم (6038) . (¬2) - الاسماء ولاصفات للبيهقي ص 168. (¬3) - سورة الانعام الاية (125) . (¬4) - سورة المائدة الاية (64) .

دعاء الله باسمه القابض الباسط

تقبض عن الناس خيرك فيقبض قلبك فتضيق عليك الدنيا, ولاتتخلف عن اوامر الله فتشقى وتضيق عليك الدنيا, وتدبر قول الحق سبحانه وتعالى {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (¬1) وقال الغزالي: القابض الباسط من العباد من ألهم بدائع الحكم وأوتي جوامع الكلم فتارة يبسط قلوب العباد بما يذكرهم من آلاء الله عز وجل ونعمائه وتارة يقبضها بما ينذرهم به من جلال الله وكبريائه وفنون عذابه وبلائه وانتقامه من أعدائه (¬2) . دعاء الله باسمه القابض الباسط اللهم ياقابض ياباسط ياقوي ياقدير ياسميع يابصير اقبض اليك عنان املي, وزكِّ بجودك عملي, واختم بخيرك واحسانك اجلي, وابسط بالرجاء فيك دعائي, ولب بفضلك ندائي واشرح صدري ويسرلي امري, وابسط لي في رزقي من الحلال الطيب ووسع علي فيه, واجعل تقواك لباسي, وخوفك ردائي, واجعلني سعيدا في الدنيا والاخرة, وابسط علي وعلى والدي والمؤمنين رحمتك وفضلك واحسانك وبرك وكرمك وبركاتك ما ينفعنا وترفعنا به في الدنيا والاخرة ياارحم الراحمين, واسالك الدرجات العلا من الجنة, فانه لاقابض لمابسطت ولا باسط لما قبضت, ولا معطي لما منعت ولا ¬

_ (¬1) - سورة التوبة الاية (118) . (¬2) - المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى للعلامة محمد بن محمد الغزالي أبو حامد , تحقيق: بسام عبد الوهاب الجابي الناشر: الجفان والجابي - قبرص الطبعة الأولى، 1407 - 1987, ص 88.

مانع لما اعطيت وصلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم في العالمين انك حميد مجيد. وقد كان من ادعيته صلى الله عليه وآله وسلم: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ اللَّهُمَّ لَا قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ وَلَا بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ وَلَا هَادِيَ لِمَن أَضْلَلْتَ وَلَا مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ وَلَا مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ اللَّهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ وَرِزْقِكَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ يَوْمَ الْعَيْلَةِ وَالْأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْفِ اللَّهُمَّ إِنِّي عَائِذٌ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا وَشَرِّ مَا مَنَعْتَ اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَاجْعَلْنَا مِنْ الرَّاشِدِينَ اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَفْتُونِينَ اللَّهُمَّ قَاتِلْ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ اللَّهُمَّ قَاتِلْ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَهَ الْحَقِّ (¬1) . ¬

_ (¬1) - احمد في المسند حديث رقم (14945) واسناد الحديث حسن.

الفصل الثالث والاربعون الرضا

الفصل الثالث والاربعون الرضا

الرضا

الرضا الرضا هي حالة يتحلى بها الانسان السوي المؤمن التقي, والرضا صفة امتاز بها الانبياء والقديسون وبعض العابدين, وكل من وهبه الله نعمة التأمل, والخشوع الحق في صلاته, وفي نظرته لما أفاء الله عليه من نعم وخيرات لاتحصى. والرضا عكس الاحباط والسخط وانسداد الافق, والانسان الراضي هو انسان مبتهج في حياته, لايعرف الحزن ولا الكآبه والبؤس, والانسان الذي امتلأ قلبه ايمانا بالله ورضا بقضائة, هو الذي يدرك بكل جوارحه مااولاه الله من نعمه, فنعمة الايجاد والخلق ونعمة الصحة والابصار والسمع واللمس والتذوق والشم ونعمة تكامل الاعضاء والقدرة على الكلام والمشي, ونعمة الاسلام, ونعمة الامن والاستقرار, ونعمة الماكل والمشرب والملبس, والماء والطعام, والقدرة على النوم بدون مسكنات, ونعمة الزوجة والابناء والحفدة والاخوان والاخوات والوالدين والاقرباء, ووجود مجتمعات تتعارف وتتآلف, كل هذه نعم عظيمة تحتاج الى الشعور بالرضا, والتقدير, والامتنان, فالانسان الراضي هو انسان غمر الحب والطمأنينة والقناعة قلبه وتفكيره, فهو يعمل بجد وعزيمة, لايعرف الوهن ولا الحزن, يطيع الله ويتبع منهج نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم, فهو يذكر الله ويشكره ويعبده, فهو رآض بقسمة الله شاكر لانعمه, لا يعرف القلق ولا السخط ولا الحنق والا الغضب, يعمل الصالحات, ويسعى الى اكتساب الحسنات راضيا مرضيا, ان اصابته نعمآء شكر وان اصابته ضراء صبر ورضي, وفي الذكر الحكيم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ*جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} (¬1) الرضا يجلب السرور والبهجة, والسخط والغضب يجلبان الهم والحزن الرضا يجلب الطمأنينة والسكينة, ويساعد على التفكير في حل الازمات, فهو نعمة كبيرة يحتاجه كثير من الناس, ومن الاسباب الجالبة له التحرر من الافكار السالبة والجموح المادي غير المشروع كالنظر الى ماعند الغير من جمال أو ذكاء أو ثراء أو وجاهة أو بناء, أو سلطة, ومحاولة سلبه, فان ذلك سلوك غير مرضي, فتخلص منه تسعد وترضى, واسال الله من فضله تنل ماتتمنا, فالانسان الراضي يحب الخير للاخرين ولا يتمنى زوال نعمهم بل يشكر الله على مالديه من نعمة لو تحسسها وفتش عنها لوجدها, وربما وجد عنده من النعم مالم يكن عند غيره, فالانسان الراضي لايتكدر ولا يسخط ولا يغضب ولا يكذب ولا يتذكر الاسباب الجالبة للهم والحزن, بل يعمل ويثق بالله الذي بيده خير الدنيا والاخرة, والانسان الراضي عن الله انسان ذو طاقة ايجابية عالية, وله هالات كبيرة ناصعة وزاهية الالوان, وله تاثير في الغير ان خالطوه أو تحدثوا معه أو حتى جالسوه, فهو بفضل مايتمتع به من صفاء في الوجه وعمق في الابتسامة ينقل الى الاخرين الكثير من الامور الايجابية التي تساعدهم على الشعور ¬

_ (¬1) - سورة البينة الاية (7-8) .

بالانتعاش والسعادة والهدوء, اما السخط والغضب فهو يورث العداوة والكدر, والهم والحزن, فالانسان الغاضب الساخط يفقد حقوقه ان كان له حق بغضبه وسخطه, فالغضب والحزن عدواك فلا تصادقهما, والغضب والسخط من الشيطان فلا تأتهما, واستمع الى قول الله العلي العظيم في القرآن الكريم: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬1) وفي الحديث النبوي (أَلَا إِنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ تُوقَدُ فِي جَوْفِ ابْنِ آدَمَ أَلَا تَرَوْنَ إِلَى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَالْأَرْضَ الْأَرْضَ أَلَا إِنَّ خَيْرَ الرِّجَالِ مَنْ كَانَ بَطِيءَ الْغَضَبِ سَرِيعَ الرِّضَا وَشَرَّ الرِّجَالِ مَنْ كَانَ سَرِيعَ الْغَضَبِ بَطِيءَ الرِّضَا) (¬2) والرضا يخلصك من الظنون والهموم والاحزان, فارض عن الله, وارض بما انت فيه من الخير, ولاتخاصم ربك في اقضيته واحكامه, فابليس خاصم ربه في قضائه وحكمه, ولم يرض عنه تكريمه لادم عليه السلام, ونازع ربه عظمته وكبرياءه وحكمه فاخرجه الله من الجنة, فكن راضيا لتعيش سعيدا هانأ مبتسما مبتهجا متهلل الاسارير, قال الشاعر: ضل من يحسب الرضا هوانا ... او يراه على النفاق دليلا فالرضا نعمة من الله لم يسعد ... بها في العباد الا القليلا والرضا اية البراءة والايمان ... بالله ناصرا ووكيلا (¬3) ¬

_ (¬1) - سورة الاعراف الاية (200) . (¬2) - احمد في سننه حديث رقم (10716) . (¬3) - هذه الابيات للشاعر محمد مصطفى حمام.

والرضا نعمة فلا ترض الناس بسخط الله الذي اغدق عليك بهذه النعمة, ففي الحديث النبوي: مَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ (¬1) فانك ان رضيت عن امر مشين لم يرض عنك العزيز العليم فقد يعميك الرضا عن القبائح فترتكب الفضائح, ولله در الامام الشافعي حيث يقول: وَعَينُ الرِضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ ... وَلَكِنَّ عَينَ السُخطِ تُبدي المَساوِيا وَلَستُ بِهَيّابٍ لِمَن لا يَهابُني ... وَلَستُ أَرى لِلمَرءِ ما لا يَرى لِيا فَإِن تَدنُ مِنّي تَدنُ مِنكَ مَوَدَّتي ... وَإِن تَنأَ عَنّي تَلقَني عَنكَ نائِيا كِلانا غَنيٌّ عَن أَخيهِ حَياتَهُ ... وَنَحنُ إِذا مِتنا أَشَدُّ تَغانِيا اما الشريف الرضي فهو يقول: نَظَروا بِعَينِ عَداوَةٍ لَو أَنَّها ... عَينُ الرِضى لَاِستَحسَنوا ما اِستَقبَحوا وقال اخر: ولقد طلبت رضا البرية جاهدا ... فإذا رضاهم غاية لا تدرك وأرى القناعة للفتى كنزاً له ... والبر أفضل ما به يتمسك (¬2) ¬

_ (¬1) - الترمذي في سننه حديث رقم (2338) . (¬2) - هذان البيتان لسارة الاندلسي.

الرضا بما رضي الله به لك فلاح ونجاح

الرضا بما رضي الله به لك فلاح ونجاح الرضا يثمر الشكر وهو اعلى درجات الايمان بل هو حقيقته, فقل رضيت بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبيا ورسولا ففي الحديث ان (النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ مَا مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ إِنْسَانٍ أَوْ عَبْدٍ يَقُولُ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُرْضِيَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (¬1) رواه ابن ماجه وفي رواية لمسلم (أَنَّهُ قَالَ مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ) (¬2) وقال الشاعر: عساك ترضا وكل الناس غاضبة ... اذا رضيت فهذا منتهى املي وقال اخر: فَلَيتَكَ تَحلو وَالحَياةُ مَريرَةٌ ... وَلَيتَكَ تَرضى وَالأَنامُ غِضابُ وَلَيتَ الَّذي بَيني وَبَينَكَ عامِرٌ ... وَبَيني وَبَينَ العالَمينَ خَرابُ إِذا نِلتُ مِنكَ الوُدَّ فَالكُلُّ هَيِّنٌ ... وَكُلُّ الَّذي فَوقَ التُرابِ تُرابِ ويا لَيتَ شُربي مِن وِدادِكَ صافِياً ... وَشُربِيَ مِن ماءِ الفُراتِ سَرابُ (¬3) فارض اخي باحكام الله واقداره, ولا تسخط او تقلق او تغضب, لاترض فقط في امور توافق هواك وتسخط اذا حصل مايخالف مرادك فهذا ليس من صفات العارفين الذاكرين الشاكرين الموحدين لله رب العالمين, قال الشاعر: رضينا بك اللهم ربا وخالقا ... وبالمصطفى المختار نورا وهاديا ¬

_ (¬1) - ابن ماجة في سننه حديث رقم (3860) . (¬2) - مسلم في صحيحه حديث رقم (579) . (¬3) - تنسب هذه الابيات للحلاج, وينسب البيتان الاولات منها لابي فراس الحمداني. وقيل غير ذلك والله اعلم.

اخي انك لاتحمل الكرة الارضية على راسك فلا تتضجر وتظهر السخط والهم والجزع والحزن, فاعف عمن ظلمك, وتسامح عمن خاصمك, فقد تجد من بعض الناس مايؤذيك, فلا تقابل السيئة بمثلها, فقد نسب الى الحسن بن وهب انه قال من حقوق المودة اخذ العفو من الاخوان والاعفاء عن التقصير: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} (¬1) وقد قال علي بن ابي طالب رضي الله عنه في تفسير هذه الاية اي: الرضا بغير عتاب: العفو عاقبته الرضا والشعور بالسعادة والطمأنية (¬2) . وقد قال بعض الحكماء: "ان طلب الانصاف من قلة الانصاف" فالانسان اذا لم يكن متسامحا فانه لابد ان يجر نفسه الى ما يغضب, وانما التقي الرضي الذي يعفو ويصفح, في غير مايغضب ربه, واذا كان الانسان في بعض الاحيان لايرضي نفسه او لايرضا في بعض امور يقع فيها فكيف يرضى سجايا الناس كلها, قال الشاعر: وَمَن ذا الَّذي تُرضى سَجاياهُ كُلُّها ... كَفى المَرءَ نُبلاً أَن تُعَدَّ مَعايِبُهْ (¬3) فابدأ رحلتك مع اهلك مع زوجتك واطفالك مع مجتمعك بالرضا والابتهاج والابتسامة, ولا تبدأ رحلة حياتك مع مجتمعك ومع اهلك ومع اطفالك بالصراخ والشتم وتقطيب الوجه والتسخط والغضب, وكن لبيبا متسامحا, ¬

_ (¬1) - سورة الحجر الاية (85) . (¬2) - دع الحزن وابدأ الحياة, ص 123. (¬3) - ينسب هذا البيت لعلي بن الجهم, وينسب ايضا ليزي المهلبي, والله اعلم.

الرضا نعمة وسرور وحبور

ففي الحديث النبوي: (لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ) (¬1) وقال الشاعر: إِذا كُنتَ في كُلِّ الذُنوبِ مُعاتِباً ... صَديقَكَ لَم تَلقَ الَّذي لا تُعاتِبُه فعش واحداً أوصل اخاك فانه ... مقارف ذنب مرة ومجانبه إِذا أَنتَ لَم تَشرَب مِراراً عَلى القَذى ... ظَمِئتَ وَأَيُّ الناسِ تَصفو مَشارِبُه (¬2) الرضا نعمة وسرور وحبور الرضا بهجة ونعمة وراحة وطمأنينة, وسعادة وسكينة, فمن امتلأ قلبه رضا غمر الحب والقناعة قلبه وتفكيره, فنعمة الرضا نعمة عظيمة يمن الله على من يشاء من عباده فيفيض هذا الرضا سعادة ونورا وبهجة وسرورا وراحة بال, فمن اتبع القرآن واخذ بهدي محمد عليه الصلاة والسلام فقد اتبع رضوان الله, وقد خاطب الله أهل الكتاب بما فيه شفاء لاولي الالباب فقال سبحانه: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬3) . الله مااروع صور الحياة وما اجملها وما الذها, تلك الصور التي نرى فيها الرضا اكبر من كل كلمة واوسع من كل دائرة واعظم من كل مصيبة, ¬

_ (¬1) - مسلم في صحيحه حديث رقم (2672) . (¬2) - هذان البيتان لبشار بن برد. (¬3) - سورة المائدة الاية (15-16) .

هذه فحسب لحظات الحياة لمن اتبع رضوان الله وكان شاكرا لنعم الله راضيا بقدره ومدركا لخيراته الوفيرة في هذه الحياة, ان الجرح الذي ربما اصابك في قدمك يقابله عافية في سائر جوارحك, فلا تنظر الى جانب من الحياة دون ان تستشعر ماحولك من نعم الله في الجانب الاخر, لكي لاتسخط ولا تضجر, ولله در القائل: علمتني الحياة ان اتلقى ... كل الوانها رضا وقبولا ورايت الرضا يخفف اثقالي ... ويلقي على المأسي سدولا والذي الهم الرضا لاتراه ... ابد الدهر حاسدا او عذولا انا راض بكل ماكتب الله ... ومزجي اليه حمدا جزيلا انا راض بكل صنف من ... الناس لئيما الفيته او نبيلا لست اخشى من اللئيم اذاه ... لا ولن اسأل النبيل فتيلا فسح الله في فؤادي فلا ارضى ... من الحب والوداد بديلا علمتني الحياة ان لها طعمين ... مرا وسائغا معسولا فتعودت حالتيها.. قريرا ... وألفت التغيير والتبديلا نحن كالروض نضرة وذبولا ... نحن كالنجم مطلعا وافولا نحن كالريح ثورة وسكونا ... نحن كالمزن ممسكا وهطولا نحن كالظن صادقا وكذوبا ... نحن كالحظ منصفا وخذولا قد تسرى الحياة عني فتبدي ... سخريات الورى قبيلا قبيلا فاراها مواعظا ودروسا ... ويراها سواي خطبا جليلا

أمعن الناس في مخادعة.....النفس وضلوا بصائرا وعقولا عبدوا الجاه والنضار وعينا ... من عيون المها وخدا اسيلا الأديب الضعيف جاها ومالا ... ليس الا مثرثرا مخبولا والعتل القوي جاها ومالا ... هو اهدى هدى واقوم قيلا واذا غادة تجلت عليهم ... خشعوا او تبتلوا تبتيلا أكثر الناس يحكمون على الناس ... وهيهات ان يكونوا عدولا (¬1) وفي الحديث النبوي الشريف: (ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا) (¬2) والرضا بإلهية الله يتضمن عبادته والإخلاص له. أما الرضا بربوبيته فإنه يتضمن الرضا بتدبيره لعبده، ويتضمن إفراده بالتوكل عليه والاستعانة به، والثقة به والاعتماد عليه، وأن يكون راضيا بكل ما يفعله به. وفي الحديث النبوي: (وَارْضى بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ) (¬3) والرضا بنبيه رسولا يتضمن كمال الانقياد له. أما الرضا بدينه فإنه يتضمن الرضا بحكمه وامتثال أمره والانتهاء عن نهيه رضا كاملا. ¬

_ (¬1) - وردت هذه الابيات منسوبة الى الشاعر محمد مصطفى حمام, في فن الاستمتاع تاليف د/ احمد القصير, ص60, الطبعة الاولى 2009م-1430هـ. واوردها ايضا العلامة محمد الغزالي في كتابه جدد حياتك, ص (88و89) , (¬2) - مسلم في صحيحه حديث رقم (49) . (¬3) - سنن الترمذي حديث رقم (2227) .

الفرق بين الارادة والرضا

والرضا بالله ربا فرض ومن لم يرض بربه لم يصح له إسلام ولا عمل ولا حال (¬1) . وقال ابن تيمية: (المقدور يكتنفه أمران: التوكل قبله، والرضا بعده، فمن توكل على الله قبل الفعل، ورضي بالمقضي له بعد الفعل فقد قام بالعبودية، وقال بشر الحافي: يقول أحدهم توكلت على الله، يكذب على الله، لو توكل على الله لرضي بما يفعله الله به) . الفرق بين الارادة والرضا الرضا شرط في صحة العقود والمعاملات, ودليل على صحتها, والرضا بقضاء الله وقدره دليل على صحة ايمان صاحبه وصحة معتقده والرضا له تعريفات عديدة تختلف في عبارتها وتتحد في معناها ومنها: 1 - ارتفاع الجزع في أي حكم كان. 2 - استقبال الأحكام بالفرح. 3 - سكون القلب تحت مجاري الأحكام. وقد ورد في اللغة: الرِضا، وكذلك الرُضْوانُ بالضم. والمَرْضاةُ مثله. ورَضيتُ الشيء وارْتَضَيْتُهُ فهو مَرْضِيٌّ، وقد قالوا: مَرْضُوٌّ فجاءوا به على الأصلِ والقياسِ. ورَضيتُ عنه رِضى مقصورٌ، وهو مصدرٌ محضٌ، والاسم الرِضاءُ ممدودٌ. وسمع الكسائي رِضَوانِ وحِمَوانِ في تثنية الرِضا والحِمى. وعيشةٌ راضِيَةٌ، أي مَرْضِيَّةٌ. كقولهم: هَمٌّ ناصبٌ؛ لأنَّه يقال رُضيتُ معيشتُه على ما لم يسمَّ فاعله، ولا يقال رَضِيَتْ. ويقال: رَضيتُ به صاحباً. وربما قالوا: رَضيتُ عليه، بمعنى رَضيتُ به وعنه. وأنشد الأخفش: إذا رَضِيَتْ عَلَيَّ بنو قُشَيْرٍ ... لَعَمْرُ اللهِ أعجبني رِضاها (¬2) الفرق بين الارادة والرضا: أن إرادة الطاعة تكون قبلها والرضا بها يكون بعدها أو معها فليس الرضا من الارادة في شئ، وعند أبي هاشم رحمه الله: أن الرضا ليس بمعنى ونحن وجدنا المسلمين يرغبون في رضا الله تعالى ولا يجوز أن يرغب في لا شئ، والرضا أيضا نقيض السخط، والسخط من الله تعالى إرادة العقاب فينبغي أن يكون الرضا منه إرادة الثواب أو الحكم به. (¬3) التوافق بين الرضا والقناعة التوافق بين الرضا والقناعة عند من يحسن الصناعة ويحب لله ويحب من اطاعه, والقناعة خلة كريمة, وصفة جميلة, يترتب عليها الرضا والراحة والمطمأنينة فهي شعور غامر بالرضا يحدث نتيجة لايمان الانسان بقدر الله, وقد تحصل القناعة عند حصول المرء على مايستحقه من مكانة أو مال أو وضع اجتماعي يتوازى مع جهده المبذول فإن طمح الى مايستحيل الوصول اليه وليس له القدرة في الحصول عليه كان طموحه خياليا, وكذلك اذا طمع فيما في أيدي الناس فحاول الوصول اليه بغير وجه مشروع فان من كان حاله ذلك صاحبته مشاعر سلبية ضد الاخرين, وذلك قد يولد له ¬

_ (¬1) - مجلة البحوث الإسلامية ج 49 ص331-332. (¬2) - الصحاح للجوهري, ج1/ ص 257. (¬3) - الفروق اللغوية للعسكري, ص (34) .

احباطا, وفي الامثال العربية: "العبد حر اذا قنع, والحر عبد اذا طمع" وقديما قيل: "عش قنعا تكون ملكا" وقيل: "القناعة كنز لايفنى, والقناعة كنز لاينفد" وقيل: "خير الغنى القنوع" وفي الاثر: "ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس" وقيل: "من لم يكن قنعا لم يزل جزعا" (¬1) فالعاقل اللبيب يكون غنيا راضيا عاملا طموحا لما فيه الخير دون اعتداء على حقوق الاخرين, فالقناعة شعور ايجابي وليس هو الرضا بالادنى, وان كان النظر الى من هو ادنى يحدث الرضا في النفس: وفي الحديث (انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ) (¬2) فكن راضيا بما كتب الله مبتهجا بما متعك الله من نعمة السمع والبصر والصحة والمال والولد والاهل والاخوان واحدى هذه النعم تكفي للبيل ليكون راضيا مطمئناً فانما القناعة الرضا بما كتب والسعي الى اكتساب الخيرات والمسارعة الى اعمال الصالحات, فانعدام القناعة قد يجعل الانسان قلقا كثير التذمر والاضطراب لايبالي باقتراف سلوك غير اخلاقي لهذا فان القناعة تعين على الهدوء والتفكير السليم ومضاعفة الجهد. ورضي الله عن الامام علي حيث يقول: أَفادَتني القَناعَةُ كُلَّ عِزٍّ ... وَهَل عِزٌّ أَعَزُّ مِنَ القَناعَة فَصَيِّرها لِنَفسِكَ رَأسُ مالٍ ... وَصَيِّر بَعدَها التَقوى بِضاعَه ¬

_ (¬1) - كنوز الامثال, ص69. (¬2) - مسلم في صحيحه حديث رقم (5264) .

بأعمال البر ينال الانسان رضوان الله

تَحُز رِبحاً وَتُغن عَن بَخيلٍ.....وَتَنعَمُ في الجِنانِ بِصَبرِ ساعَه اما ابو الحسن النعيمي فهو يقول: إذا أظمأتك أكفُّ اللِئام ... كفتك القناعةُ شِبعاً وريّاً فكُن رجلاً رِجله في الثَرى ... وهامةُ همتهِ في الثُريّا أَبيّاً لنائلِ ذي ثروةٍ ... تراه بما في يديه أبيّا فإن إراقة ماءِ الحياةِ ... دونَ إراقةِ ماءِ المحيّا (¬1) وقال الطغرائي: يا وارداً سؤْرَ عيشٍ كلُّه كَدَرٌ ... أنفقتَ عُمرَكَ في أيامِكَ الأُوَلِ فيمَ اعتراضُكَ لُجَّ البحرِ تركَبُهُ ... وأنتَ تكفيك منه مصّةُ الوَشَلِ مُلْكُ القناعةِ لا يُخْشَى عليه ولا ... يُحتاجُ فيه إِلى الأنصار والخَوَلِ اما الثعالبي فهو يقول: هي القناعةُ فالزَمْها تعِشْ ملكاً ... لو لم يكنْ منكَ إلاّ راحةُ البدنِ وانظُرْ إلى مالكِ الدنيا بأجْمعِها ... هل راحَ منها بغيرِ القُطْنِ والكفنِ وقال اخر: ورايت اسباب القناعة اكدت ... بعرى الغنى فجعلتها لي معقلا والقناعة، بالفتح: الرضا بالقسم. وقد قنع بالكسر يقنع قناعة، فهو قنع وقنوع. وأقنعه الشئ، أي أرضاه. وقال بعض أهل العلم: إن القنوع قد يكون بمعنى الرضا، والقانع بمعنى الراضي، وهو من الاضداد. وأنشد: وقالوا قد زهيت فقلت كلا ... ولكني أعزني القنوع وقال لبيد: فمنهم سعيد آخذ بنصيبه ... ومنهم شقى بالمعيشة قانع وفى المثل: " خير الغنى القنوع، وشر الفقر الخضوع ". قال: ويجوز أن يكون السائل سمي قانعا لانه يرضى بما يعطى قل أو كثر، ويقبله ولا يرده، فيكون معنى الكلمتين راجعا إلى الرضا (¬2) . بأعمال البر ينال الانسان رضوان الله ان طاعتك لله تكون سببا في رضوان الله, فاذا احببت ان يكون الله راضيا عنك وان تكون عيشتك راضية واخلاقك مرضية واعمالك مقبولة فعليك بأعمال البر والبعد عن الهوى, فالزم التقوى, واقتف سبيل من اناب الى ربه واتبع سنة نبيه, وتدبر في قول العزيز الحكيم: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬3) ولقد كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قدوة في كل اقواله وافعاله وكان الصحابة رضي الله عنهم يقتدون به, فان اتبعتهم بإحسان فسيرضى الله عنك وترضى عنه فاسأل الله رضوانه والجنة واستعذ بالله من سخطه والنار, فالرضا يوجب للراضي الطمأنينة، وبرد القلب، وسكونه، وقراره، وينزل على العبد المتوكل ¬

_ (¬1) - ونسبت هذه الابيات ايضا لابن الحاج البلفيقي, والله اعلم. (¬2) - الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية للجوهري (¬3) - سورة التوبة الاية (100) .

السكينة التي لا أنفع له منها, كما أنه يفرغ قلبه ويقلل همه وغمه، فيتفرغ لعبادة ربه بقلب خفيف من أثقال الدنيا وهمومها وغمومها. ومن ثمرات الرضا: الفرح والسرور برضا الرب تبارك وتعالى: وفي الذكر الحكيم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} (¬1) . والبِرُ هو الصلة واسداء المعروف والمبالغة في الاحسان والبَرُ هو المحسن يقال فلان بار بوالديه اذا كان محسنا لهما وفي الحديث النبوي (رضا الرب في رضا الوالد وسخط الرب في سخط الوالد) (¬2) والبِرُ بالكسر الصلة والاحسان يقال فلان يبر رحمه اي يصلهم, والصلة: اتصال عطاء مع زيارة, فالاحسان منك مطلوب في كل الأحوال حتى مع من يخالفك في العقيدة فالله سبحانه وتعالى يقول: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (¬3) ان تبروهم اي ان تحسنو اليهم, فاذا لم يكن يصلي ولكن لايعاديك, انت ان احسنت الهي حملته على الصلاة, انت ان احسنت اليه حملته على حضور مجلس علم, انت اذا احسنت اليه حملته على الطاعة, كما يقول الدكتور محمد النابلسي: هذه الاية دقيقة المعنى جدا قد تلتقي في عملك وفي محيطك, وقد تلتقي مع اقربائك باندماج لايناصبك العداء ولاينكرون عليك تدينك, بل انهم ¬

_ (¬1) - سورة البقرة الاية (207) . (¬2) - الادب المفرد للبخاري حديث رقم (2) . (¬3) - سورة الممتحنه الاية (8) .

البر من اسماء الله الحسنى

اضعف من ان يتمسكوا بما انت عليه, هؤلاء يقدرونك لكن ليسوا ملتزمين لم يصطلحوا مع الله بعد, لم يقبلوا عليه, لكنهم لايناصبونك العداء, بل يقدرون فيك هذا الاتجاه الطيب, هذا التدين الصادق مثل هذه النماذج من الناس من الجريمة ان تسيء اليهم, فلا تعنفهم, لا تناصبهم العداء, استمل قلوبهم اليك. (¬1) وقال الشاعر: وَاللَهُ أَنجَحُ ما طَلَبتُ بِهِ ... وَالبِرُّ خَيرُ حَقيبَةِ الرَحلِ (¬2) وقال اخر: وَما البِرُّ إِلّا مُضمَراتٌ مِنَ التُقى ... وَما المالُ إِلّا مُعمَراتٌ وَدائِعُ (¬3) اما سابق البربري فهو يقول: إن التُّقَى خَيرُ زادٍ أنت حامِلُهُ ... والبرُّ أفضلُ شيءٍ نَالَه بَشَرُ وقال اخر: وَالإِثمُ مِن شَرِّ ما يُصالُ بِهِ ... وَالبِرُّ كَالغَيثِ نَبتُهُ أَمِرُ (¬4) وفي الذكر الحكيم: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬5) والبر مطلق عطاء الله واحسانه في الدنيا والاخرة فهو الذي يعطيك سعادة تملؤ القلب, وصحة تحفظ الانسان, وتقوم اللسان, وهيبة تعين على امور الدنيا والدين, فكل انواع الخير ينطوي تحت كلمة البر, والبر خير الدنيا والاخرة, وقيل البر كلمة باؤها مثلثة: ومعنى ذلك ان هناك بَرٌ بفتح الباء وبِر بكسرها وبُر بضمها فبضمها البُر: جمع برة من القمح, والبِر بالكسر هو الاحسان والصلة, وفي الامثال السائرة: "البر ان تعمل في السر عمل العلانية" وقيل: "خير البر عاجله" وفي الحديث الشريف (الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ) (¬6) والبَر بالفتح ضد البحر اي اليابسة, ومن الخَلْق من تتوالى منه اعمال البر, فهناك مبالغة, فمن تتوالى منه اعمال البر من الخلق يسمى بَرا, اما اذا كان هذا الاسم منسوبا الى الله عز وجل فهو بالفتح فاعل البر المحسن الى الخلق الذي اسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة, والله سبحانه وتعالى هو البر الرحيم, فتعرف على بره واحسانه ترضى عنه ويرضى عنك, وتعرف على اسمه البَرُ. البَرُ من اسماء الله الحسنى البر اسم من اسماء الله الحسنى ورد في القرآن الكريم مرة واحدة, وجاء في حديث ابي هريرة عند الترمذي واجمعت عليه الائمة, ويجوز اجراؤه على العبد, فقد ورد في التنزيل في قوله تعالى: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} (¬7) وفي قوله تعالى: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} (¬8) ومعنى هذا الاسم البَر: المحسن فهو البر المطلق الذي منه كل مبرة واحسان, فهو يحسن ¬

_ (¬1) - موسوعة اسماء الله الحسنى ج 2/ ص714. (¬2) - هذا البيت ينسب لمرؤ القيس وينسب ايضا لابن عابس الكندي. (¬3) - هذا البيت للبيد بن ربيعة. (¬4) - هذا البيت لزهير بن ابي سلمى. (¬5) - سورة المائدة الاية (2) . (¬6) - مسلم في صحيحه حديث رقم (4633) (¬7) - سورة مريم الاية (32) . (¬8) - سورة مريم الاية (14) .

الى الخلق ويصلح احوالهم الذي عم جميع الخلق ببره وغمرهم باحسانه فهو الذي لايقطع الاحسان بسبب العصيان, وهو الذي من على السائلين بحسن عطائه, وعلى العابدين بجميل جزائه (¬1) , وهو الذي يحسن الى من اساء, ويعفو عمن ظلم, ويغفر لمن اذنب, ويتوب على من تاب اليه, ويقبل عذر من اعتذر اليه, وهو سبحانه يتفضل على عباده, ويتم نعمته عليهم ويريهم مواقع بره وكرمه, فهو اللطيف الخبير, قال الخطابي: البر هو العطوف على عباده المحسن إليهم، عم بره جميع خلقه فلم يبخل عليهم برزقه، وهو البر بأوليائه إذ خصهم بولايته واصطفاهم لعبادته، وهو البر بالمحسن في مضاعفة الثواب له، والبر بالمسيء في الصفح والتجاوز عنه. وقال الحليمي: ومعناه الرفيق بعباده يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر، ويعفو عن كثير من سيئاتهم ولا يؤاخذهم بجميع جناياتهم، ويجزيهم بالحسنة عشر أمثالها، ولا يجزيهم بالسيئة إلا مثلها ويكتب لهم الهم بالحسنة ولا يكتب عليهم الهم بالسيئة (¬2) وقيل البر هو اللطيف بعباده, والبر هو الصادق وهو المحسن وهو المتفضل المعطي سبحانه فهو المحسن والبر على الاطلاق لايشابه بره بر المخلوقين ولاكرمه سبحانه وتعالى كرمهم ولا فضله فضلهم ولا احسانه احسانهم, فله الاحسان الكبير والفضل العظيم ليس كمثله شيء وهو السميع البصير, فكل بر واحسان وفضل وعطاء منه سبحانه وتعالى لاشريك له, اما الانسان فان بر واحسن فمما وهبه الله وتفضل به عليه ¬

_ (¬1) - المقصد الاسمى للغزالي, ص 100. (¬2) - الاسماء والصفات للبيهقي, ص 128.

ثمرة معرفه اسمه الله البر

ووفقه اليه لا اله الا هو وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. فهو البر الذي شمل الكائنات باسرها ببره وهبابته وكرمه فهو مولى الجميل ودائم الاحسان وواسع العطاء والكرم والرفق والبر فكل النعم الظاهرة والباطنة على الخلق اجمعين منه سبحانه وتعالى لايستغني مخلوق عن احسانه وبره طرفة عين, فله الحمد على ذلك كله في الدنيا والاخرة عدد خلقه وزنة عرشه ومداد كلماته وعدد ذرات الوجود تدوم بدوام الله وتتجدد في كل لحظة ووقت وحين وسبحان الله العظيم وبحمده مثل ذلك. ثمرة معرفه اسمه الله البَر اذا عرف المكلف ان الله سبحانه وتعالى هو البر الرحيم المحسن الى جميع عباده الرفيق بهم المكرم لهم الخالق لهم الرازق لهم المتفضل عليهم المدبر لشؤنهم الذي يعفو ويصفح عنهم, وجب عليه ان يؤمن به وان يبره بالتقرب اليه بعمل الطاعة واجتناب المعصية وان يبر بأهل طاعته وبوالديه فاذا كانت مبرة والدي الانسان واجبة فمبرة الرب الاعلى احرى واولى, فيتضاءل لعظمته, ويتصاغر لكبريائه, ويؤدي حقه اليه, ويقف نفسه عند حدها, ويبر ولاة الامر بالسمع والطاعة, ويبر عامة المسلمين بالنصح لهم (¬1) , ولك ان ترجو بر الله سبحانه وتعالى بكل انواعة وان تسارع الى عمل البر لتنال رضوانه وان تبر كل من تقدر على بره باحب اموالك اليك, وانفسها ¬

_ (¬1) - الجامع لاسماء الله الحسنى, ص45.

لديك, فان البر الرحيم المتفضل الكريم يقول في محكم الذكر الحكيم: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (¬1) وتدبر في ثناء العزيز العليم على يحيى وعيسى عليهما افضل الصلاة والتسليم حيث يقول في وصف عيسى عليه السلام: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} (¬2) ويقول سبحانه في وصف يحيى عليه السلام: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} (¬3) فتخلق اخي باخلاق أهل البر يرضى الله عنك وتكون بارا مع الابرار في دار النعيم: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ *وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (¬4) . وكن مشتغلا بأعمال البر واستباق الخير, ولا تضمر الشر لاحد او تؤذه فان البر هو الذي يحسن ولا يؤذي, وتذكر ان من كان الله بارا به فانه قد يعصم عن المخالفات نفسه, ويديم بفنون اللطائف انسه, ويوفق في طريق الخير اجتهاده, ويجعل التوفيق زاده, ويجعل قصده سداده, ويحميه من الوقوع في الموبقات بيمن اقباله, وبالتوبة فيما يقع فيه من الذنوب, وتذكر اخي ان انواع البر لاتحصى, فلا تنس المسارعة اليها, لكي ترضي الله فترضى, وفي الحديث النبوي: (البر لا يبلى والذنب لا ينسى والديان لا يموت فكن كما شئت فكما تدين تدان) (¬5) . ¬

_ (¬1) - سورة آل عمران الاية (92) . (¬2) - سورة مريم الاية (32) . (¬3) - سورة مريم الاية (12-14) . (¬4) - سورة الانفطار الاية (13-14) . (¬5) - جامع الاحاديث حديث رقم (10491)

دعاء الله باسمه البر

دعاء الله باسمه البَر يا الله يابر ياكريم يارحيم ارزقني من برك ما انال به رضاك ورحمتك واحسانك ياكريم واجعلني بارا بوالدي وباخواني المؤمنين وبالخلق اجمعين ياالله يا بر يارحمن يارحيم تفضل علي بالخلق الكريم, وغفرلي ولوالدي وللمؤمنين, وتوفني مسلما والحقني بالصالحين, ياالله اسالك من برك ما انال به رضاك وفضلك واحسانك وتوفيقك واكرامك لي في الدنيا والاخرة واسالك الدرجات العلى في الجنة ياسميع ياعليم وصلى الله وسلم على محمد وآله وصلحبه وازواجه وذريته ومن تبعه باحسان الى يوم الدين.

الفصل الرابع والاربعون الابتهاج والسرو

الفصل الرابع والاربعون الابتهاج والسرور الابتهاج والسرور الابتهاج والسرور هما الصورة المشرقة المريحة الجميلة لكل وجه, وعكسهما العبوس وتقطيب الحاجبين وهما الصورة المزعجة لكل انسان, فقد عد بعض العلماء السرور, والحبور, والجذل, والغبطة, والبهج, والفرح, والارتياح, والاغتباط, والاستبشار, الفاظا مترادفة (¬1) , وقد ذكر العلامة محمد محمود الرافعي: في شرحه للالفاظ المترادفة (فائدة) مما ذكر في ترتيب السرور: أول مراتبه الجذل والابتهاج ومنه (البهج) ثم الاستبشار ثم الارتياح ثم الفرح. وهو ترتيب حسن, ومما لاريب فيه ان المرء الذي يستشعر نعم الله الذي تحيطه من كل مكان لابد ان يكون راضيا مبتهجا مسرورا, والله جل وعلا خلق البشَر واغدق عليهم بنعمه وسخر لهم مافي السماوات والارض ووسعت رحمته كل شيء فكيف لايكون الانسان مبتهجا راضيا مسرورا, وقد سخر الحق سبحانه وتعالى لامتاع الانسان وتوفير مطعمه وماكله وملبسه ومسكنه ومركبه مافي السماوات والارض ويسّر له مايجعل حياته سهلة ممتعة وذلك كله يدعو الى الابتهاج والسرور وشكر المنعم انعامه, وان من الد اعداء القلب والسرور هو ضيق الافق, وعدم ادراك نعم الله وما تفيض به هذه الحياة وتشرق به من الانوار والخير, فنعم الله في هذه الحياة كثيرة, فما اروعها وما ¬

_ (¬1) - الالفاظ المترادفة للامام ابي الحسن علي بن عيسى الرماني المتوفى سنة 384هـ طبع المطبعة المحمودية التجارية بمصر الطبعة الثانية, ص9.

اجملها اذا تعرفت عليها وعلى العالم الذي تعيش فيها من خلال سنن الله فانك ستكون بفضل الله فارحا مسرورا تؤدي حق الله وتسعى في ادخال السرور الى قلوب المؤمنين, فهذا انس بن مالك يقول قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قضى لأحد من أمتي حاجة يريد أن يسره بها فقد سرني ومن سرني فقد سر الله ومن سر الله أدخله الله الجنة) (¬1) . قال الإمام أحمد: سرور الله تعالى حسن قبوله لطاعة عبده وارتضاؤه إياها. فالابتهاج والسرور الذي تحاول ان تدخله الى قلوب اخوانك وابنائك واهلك وابناء مجتمعك هو عمل يحبه الله وهو عمل يزرع في القلوب المودة والمحبة والاخاء, فاسع الى اكتساب هذا الخير العظيم, واياك والتضجر والتأفف والحزن والغضب واظهار الاكتئاب ومحاولة ادخال الحزن والالم الى قلوب الاخرين واظهار السرور بذلك فان ذلك سيكون سببا في هلاكك, فقد ورد مايدل على ذلك, فلا تغتر بزمن ساعدك, ولا بسلطان رفعك, ولا بكثرة عدتك وعددك, فان الامور تتحول وتتبدل, قال الشاعر: لِكُلِّ شَيءٍ إِذا ما تَمّ نُقصانُ ... فَلا يُغَرَّ بِطيبِ العَيشِ إِنسانُ هِيَ الأُمُورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ ... مَن سَرّهُ زَمَن ساءَتهُ أَزمانُ وَهَذِهِ الدارُ لا تُبقي عَلى أَحَدٍ ... وَلا يَدُومُ عَلى حالٍ لَها شانُ أَينَ المُلوكُ ذَوو التيجانِ مِن يَمَنٍ ... وَأَينَ مِنهُم أَكالِيلٌ وَتيجَانُ وَأَينَ ما شادَهُ شَدّادُ في إِرَمٍ ... وَأينَ ما ساسَه في الفُرسِ ساسانُ ¬

_ (¬1) - شعب الايمان للبيهقي حديث رقم (7635) .

من احب الاعمال الى الله ادخال السرور على عباده

وَأَينَ ما حازَهُ قارونُ من ذَهَبٍ.....وَأَينَ عادٌ وَشدّادٌ وَقَحطانُ أَتى عَلى الكُلِّ أَمرٌ لا مَرَدّ لَهُ ... حَتّى قَضوا فَكَأنّ القَوم ما كانُوا (¬1) اما الامام علي بن ابي طالب رضي الله عنه فهو يقول: رَأَيتُ الدَهرَ مُختَلِفاً يَدورُ ... فَلا حُزنٌ يَدومُ وَلا سُرورُ وَقَد بَنَتِ المُلوكُ بِهِ قَصوراً ... فَلَم تَبقَ المُلوكُ وَلا القُصورُ من احب الاعمال الى الله ادخال السرور على عباده ان من احب الاعمال الى الله ادخال السرور على قلب المؤمن, فلا تكن عابس الوجه, ولاتسء الى لاخرين فتسء الى نفسك, فمحاوله نفع الناس واكرامهم, وادخال السرور عليهم يرفع من مكانتك ويقربك من ربك, ويجعل الحياة مضيئة تشع بالحب وتفيض بالاخلاق الحسنة, والاعمال الصالحة يشعر فيها الانسان بدفئ الاخوة وحنان الابوة ورحمة القرابة لايحزن ولا يبتئس ولا يقنط, فالليل يعقبه الفجر ونور الصباح, والشدة يعقبها الرخاء, والضعف ينتهي الى القوة, والمرض والالم ينتهي الى الصحة والعافية, فكن واثقا بالله منشرح الصدر مبتهجا مسرورا فرحا بفضل الله ورحمته, قال الشاعر: يُرَاعُ الْفَتَى لِلْخَطْبِ تَبْدُو صُدُورُهُ ... فَيَأْسَى وَفِي عُقْبَاهُ يَأْتِي سُرُورُهُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّيْلَ لَمَّا تَرَاكَمَتْ ... دُجَاهُ بَدَا وَجْهُ الصََّاحِ وَنُورُهُ فَلَا تَصْحَبَنَّ الْيَأْسَ إنْ كُنْتَ عَالِمًا ... لَبِيبًا فَإِنَّ الدَّهْرَ شَتَّى أُمُورُهُ (¬2) وقال اخر: وان المساءة للمسرة موعد ... اختان رهن للعشية او غد (¬3) اما محمد عثمان جلال فهو يقول: رَأَيت الدَهر في فلكٍ يَدور ... فَلا يُحزنكَ ما فَعلَ الدهور وَإِن تَبع السُرورُ الحزن يَوماً ... فَلا حُزن يَدوم وَلا سُرور وَسُكان القُصور لَهُم قُبور ... وَسُكان القُبور لَهُم قُصور وفي الحديث النبوي ان رجلا جاء الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (أي الناس أحب إلى الله وأي الأعمال أحب إلى الله عز وجل فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دينا أو تطرد عنه جوعا) (¬4) وفي رواية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اي الاعمال افضل قال: ادخالك السرور على مؤمن اشبعت جوعته او كسوت عريه او قضيت له حاجة (¬5) . من لازم البهجة والسرور الابتسامة ¬

_ (¬1) - هذه الابيات لابي البقاء الرندي. (¬2) - وردت هذه الابيات في الموسوعة الشعرية وفي ادب الدنيا والدين غير منسوبة الى قائل بعينه. (¬3) - ورد هذا البيت في الموسوعة الشعرية غير منسوب لقائل بعينه, والمعنى ان المساءة تداول المسرة فهما كاختين تداول هذه هذه في حال. (¬4) - المعجم الصغير للطبراني حديث رقم (861) . (¬5) - المعجم الاوسط حديث رقم (5081)

الحياة تشرق كانها لحظة عمر الانسان فحسب؟ يرى الانسان الفجر وهو يزيح الظلام ويكشف سواده عن الناس فيرى الفجر وهو يعيد للانسان نشاطه وحيويته وطاقته وروحه في عالم الارض من جديد, ويكفي الانسان في هذه اللحظة وهو يرى الناس في بداية حياتهم في يوم جديد وفي يوم عمل ليبتسم فيه في وجه اخيه وفي وجه الحياة, وهل الحياة الا بسمة في زمن الفجر؟ فلماذا اخي لاتبتسم في وجه اخيك وانت تنظر الى هذه الصورة المشرقة المريحة الجميلة لهذه الحياة, وانت تعلم ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول (تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ) (¬1) فاعتبر الابتهاج والابتسامة عملا ايجابيا يقتضي رضا الله ومكافأة المتبسم باعتبار تبسمه نوعا من الصدقة, وهل تدري ان ابتسامتك في وجه اخيك فيه ادخال للسرور الى قلبه فهي تعبير عن الرضا والسرور والشعور بالسعادة لرؤية اخيك, وفي ذلك مدعاة للطمأنينة والثقة بالشخص المبتهج المبتسم فهي تزيد من جاذبية الانسان وقدرته على اقناع واستقطاب الاخرين دون عناء, كما ان الابتسامة والابتهاج تعبير عما يفيض من اعماق الانسان من رضا وسعادة وثقة بالنفس, وثقة بما عند الله وحبا واحتراما للاخرين ورغبة في ان يقدم لهم هدية مستمرة من خلال رؤيتهم لوجه متألق تغمره الابتسامة, ويسوده الارتياح, هذه الابتسامة والابتهاج تنعكسان من اعماق الانسان على تفكيره وروحه هدوءاً وسلاماً ¬

_ (¬1) - الترمذي في سننه حديث رقم (1879) .

وصفاء (¬1) . وفي الحديث الشريف: (لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ) (¬2) قال الشاعر: بشاشة وجه المرء خير من القرى ... فكيف بمن ياتي به وهو ضاحك وقال اخر: أَخو البِشرِ مَحمودٌ عَلى كُلِّ حالَةٍ ... وَلَن يَعدَمَ البَغضاءَ مَن كانَ عابِسا اما ابن رشيق القيرواني فهو يقول: ورب تقطب من غير بغض ... وبغض كامن تحت ابتسام وقال اخر: وَإِني لأَلقى الخَطب وَهوَ معبس ... بِوَجه نَضير ظاهر البشر باسم وقال شاعر اخر: واني لالقى المرء اعلم انه ... عدوي وفي احشائه الضغن كامن فامنحه بشري فيرجع قلبه ... سليما وقد ماتت لديه الضغائن وفي الحديث النبوي: (إِنَّ مِنَ الصَّدَقَةِ أَنْ تُسَلِّمَ عَلَى النَّاسِ، وَأَنْتَ مُنْطَلِقُ الْوَجْهِ) (¬3) اما المتنبي فهو يقول: إِذا نَظَرتَ نُيوبَ اللَيثِ بارِزَةً ... فَلا تَظُنَّنَّ أَنَّ اللَيثَ مُبتَسِمُ وهذا شاعر اخر يقول: قالَ: «السماءُ كئيبةٌ» وتجهَّما ... قلتُ: ابتسمْ يكفي التجهُّمُ في السما ¬

_ (¬1) - فن الاستمتاع, ص87. (¬2) - مسلم في صحيحه حديث رقم (4760) . (¬3) - شعب الايمان للبيهقي حديث رقم (7693) .

ادخال السرور على المسلمين سبب في غفران الذنب ودخول الجنة

قالَ: الصِّبا ولَّى! فقلتُ لهُ: ابتسمْ....لن يُرجعَ الأسفُ الصبِّا المتصرِّما! قال: الليالي جرَّعتني علقماً ... قلتُ: ابتسمْ، ولئنْ جرعتَ العلقما فلعلِّ غيركَ إن رآك مرنِّماً ... طَرَحَ الكآبة جانباً وترنَّما أتُراك تغنم بالتبرُّمِ درهماً ... أم أنت تخسرُ بالبشاشةِ مغنما؟ (¬1) ادخال السرور على المسلمين سبب في غفران الذنب ودخول الجنة ان اجمل هدية يقدمها الانسان لاخية الانسان هي ادخال السرور والبهجة الى نفسه بكشف كربة عنه او بذل معونة له او معالجة مريض , او مؤاساة فقير او تعليم جاهل او ارشاد ضال او كفالة يتيم او مساعدة اخيك الانسان على بناء مدرسة او مستشفى او شق طريق او بناء دار او غير ذلك من الامور التي يكفر الله بها الخطيأت, ويرفع بها الدرجات, وتورث المحبة, وتدخل البهجة والسرور الى القلب, فالعاقل لايرضى ان يعيش متسخطا غاضبا لايقدم الى الناس مايسرهم ويسعدهم وينقلهم الى عالم الافراح لبناء حياة طيبة, ففي الحديث النبوي الذي رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (ان من موجبات المغفرة ادخال السرور على اخيك المسلم) (¬2) وفي حديث اخر عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أدخل على أهل بيت من المسلمين سرورا لم يرض الله له ثوابا دون الجنة) (¬3) ان الابرار هم الذين يحبون عمل البر ويدخلون السرور على قلوب عباد الله وهم الذين يلقون من الله نضرة وسروراً وفي الذكر الحكيم: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا* عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا* يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} (¬4) . الفرح والسرور بفضل الله ورحمته نعمة ان من النعم العظيمة على الانسان ان يفرح بفضل الله ورحمته واحسانه وكرمه ودينه وشريعته وكتابه وعزة الاسلام ونصر المسلمين وان يظهر البشر والرضا بما وهبه الله من النعم, وان يكون فرحا بفضل الله وبرحمته لعباده واحسانه اليهم واكرامه لهم وهدايته, وفي الذكر الحكيم: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (¬5) فالاكتأب والحزن يجلب التشاؤم ويتسبب في شقاء الانسان وتعاسته. وقال العلامة عائض القرني: والذين مدحوا الحزنَ وأشادوا بهِ ونسبُوا إلى الشرعِ الأمر به وتحبيذهُ؛ أخطؤوا في ذلك؛ بلْ ما ورد إلاَّ النهيَّ عنهُ، والأمرُ بضدِّه، من الفرحِ برحمةِ اللهِ تعالى وبفضلهِ، وبما أنزل على رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم، والسرورِ بهدايةِ اللهِ، ¬

_ (¬1) - هذه الابيات لايليا ابو ماضي. (¬2) - المعجم الكبير للطبراني حديث رقم (2731) . (¬3) - المعجم الاوسط للطبراني حديث رقم (5719) . (¬4) - سورة الانسان الاية (5-11) . (¬5) - سورة يونس الاية (58) .

والانشراحِ بهذا الخيرِ المباركِ الذي نَزَلَ من السماءِ على قلوبِ الأولياءِ. وصحَّ عنه- صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قالَ: ((للهُ أفرحُ بتوبةِ عبدِه من أحدكم كان على راحلتِهِ، عليها طعامُهُ وشرابه، فضلَّت منهُ في الصحراء، فبحث عنها حتى أيِسَ، فنام ثم استيقظ فإذا هي عند رأسِه، فقال: اللهمَّ أنت عبدي، وأنا ربُّكَ. أخطأ من شَّدةِ الفرحِ)) . فأكثر من الاستغفارِ، لترى الفرَحَ وراحةَ البالِ، والرزق الحلالِ، والذرية الصالحةَ، والغيثَ الغزيرَ. قالَ إبراهيمُ بن أدهم: نحن في عيْشٍ لوْ علم بهِ الملوكُ لجالدونا عليهِ بالسيوفِ. وقال ابنُ تيمية: إنه ليمرُّ بالقلبِ حالٌ، أقولُ: إن كان أهلُ الجنةِ في مثلِ حالِنا إنهم في عيشٍ طيبٍ. وقال أيضاً: إنه ليمرُّ بالقلبِ حالاتٌ يرقصُ طرباً، من الفرحِ بذكرهِ سبحانه وتعالى والأنس به. وممَّا يجلُب الفرح والسُّرور: الأسْفارُ والتَّنقُّلُ في الدِّيارِ ورؤيةُ الأمصارِ، وعليك بثلاثة أطباء: الفرحِ والراحةِ والحِمْيةِ وإياك وثلاثة أعداءٍ: التشاؤمِ والوهمِ والقنوطِ. فاجعل الفرح شكراً، والحزن صبراً، والصمت تفكراً، والنظر اعتباراً، والنطقِ ذِكْراً، والحياء طاعةً، والموت أمنيةً (¬1) . ¬

_ (¬1) - مقتطفات وردت في كتاب العلامة الجليل والاديب الكبير عائض القرني (لا تحزن) اعدت ترتيبها حسب مقتضيات السياق وانظر, ص 127 وما بعدها.

الفصل الخامس والاربعون علو الهمة

الفصل الخامس والاربعون علو الهمة

علو الهمة

علو الهمة علو الهمة يرفع الانسان الى اعلا مقام وارفع مكان, فبالهمة العالية تستطيع تحصيل العلوم النافعة, وتعمر الدار الواسعة, وتحصل على تجارة رابحة, وتكون عونا لابناء مجتمعك واخوانك على قضاء حوائجهم واصلاح شؤنهم, وبالهمة العالية تؤدى الفرائض والواجبات كما يحب الله ويرضى, وبالهمة العالية تبنى الجامعات والمستشفيات وتشق الطرقات وتزدهر الزراعة وتكثر الخيرات, وتضاعف الحسنات, ويسارع المؤمنون الى عمل الخيرات, فعلو الهمة خلق رفيع, وغاية نبيله تتعشقها النفوس الكريمه, واليه يرجع مجموعة من الظواهر الخلقية, كالجد في الامور, والترفع عن الصغائر والدنايا, والطموح الى المعالي, وانما تعلو قيمة المرء وتسمو مكانته بقدر نصيبه من علو الهمة, ذلك ان علو الهمة يستلزم الجد والاباء, ونشدان المعالي, وتطلاب الكمال, والترفع عن الدنايا والصغائر ومحقرات الامور (¬1) , وقد قال بعض الباحثين: الهمة سلاح القلب للمعالي, وعون الجسد الى ركوب الاهوال, والحادي نحو لذائذ الامال.. وقد هتف بك ابن القيم رحمه الله تعالى قائلا: الهمة كالطائر العالي على الطيور لايرضى بمساقطهم ولاتصل اليه الافات التي تصل اليهم, فان الهمة كلما علت بعدت عن وصول الافات اليها وكلما نزلت قصرتها الآفات من كل مكان فان الافات قواطع وجواذب.. فعلو همة المرء عنوان فلاحه وسفول همته عنوان ¬

_ (¬1) - الهمة العالية ص107.

حرمانه.. وهتف بك ابن الجوزي حاديا فقال الهمة ماتقف الا لخساستها, والافمتى علت الهمة فلا تقنع بالدون.. وما قعد من قعد الا لدناءة الهمة وخساستها. واعلم أنك في ميدان سباق والأوقات تنتهب. ولا تخلد إلى كسل. فما فات ما فات إلا بالكسل. ولا نال من نال إلا بالجد والعزم فَكُن رَجُلاً رِجلُهُ في الثَرى ... وَهامَةُ هِمَّتِهِ في الثُرَيّا (¬1) علو الهمة تطلب المعالي المقربة إلى الحق عز وجل. ولكل جسم في النحول بلية ... وبلاء جسمي من تفاوت همتي ويدل على تفاوت الهمم أن في الناس من يسهر في سماع سمر ولا يسهل عليه السهر في سماع القرآن. والإنسان يحشر ومعه تلك الهمة، فيعطى على مقدار ما حصلت في الدنيا، فكما لم تتق إلى الكمال وقنعت بالدون قنعت في الآخرة بمثل ذلك. من علامة كمال العقل علو الهمة! والراضي بالدون دنيء!! (¬2) . ولم أر في عيوب الناس عيباً ... كنقص القادرين على التمام والهمة في اللغة: ماخوذة من الهم والهم اصل صحيح قال ابن منظور: والهِمَّةُ واحدةُ الهِمَمِ والمُهِمَّاتُ من الأُمور الشدائدُ المُحْرِقةُ (¬3) . ¬

_ (¬1) - هذا البيت للامام علي بن ابي طالب رضي الله عنه. (¬2) - هذه مقتطفات من كتاب صيد الخاطر للعلامة الزاهد الاديب جمال الدين بن الفرج عبد الرحمن بن ابي الحسن علي بن محمد بن عبيد الله ينتهي نسبه الى محمد بن ابي بكر الصديق رضي الله عنهم جميعا وعرف جدهم بالجوزي بجوزة كانت في داره بواسط, ولد تقريبا سنة 510هـ وتوفي سنة 597هـ الطبعة الرابعة مؤسسة الكتب القثافية بيروت لبنان. (¬3) - لسان العرب, ج12/ ص621.

بالهمم العالية تنال المراد فاستعذ بالله من الكسل

وقال ابن القيم في تعريف الهمة: فعلة من الهم وهو مبدأ الإرادة ولكن خصوها بنهاية الإرادة فالهم مبدأها والهمة نهايتها (¬1) والهمة توصف بالعلو, وتوصف بالدنو. فالهمة العالية هي النية الصادقة, والعزمة الجازمة, والارادة القوية الرفيعة (¬2) , اما الهمة الدانية: فهي ضعف النفس عن طلب المراتب العالية وقصور الامل عن بلوغ الغايات. وقيل هي ايثار الدعة, والرضا بالدون, والقعود عن معالي الامور, فاشحذ همتك ولا تكسل, فان العزيمة تأتي على قدر همم الرجال قال الشاعر: عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ ... وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ وَتَعظُمُ في عَينِ الصَغيرِ صِغارُها ... وَتَصغُرُ في عَينِ العَظيمِ العَظائِمُ بالهمم العالية تنال المراد فاستعذ بالله من الكسل ان الهمة تولد مع الانسان وانما تقصر بعض الههم في بعض الاوقات او تفتر, فمتى رايت في نفسك عجزا فاسأل المنعم واستعن بالله ولا تهن ولا تحزن, وان اصابك كسل فاستعذ بالله منه فلن تنال خيرا الا بطاعة الله فمن الذي استعان بالله ولم يعنه ومن الذي اعرض عن الله فمضى بفائدة؟ فلا يغرك الشيطان ويشجعك على الكسل والبعد عن العمل, وفي الدعاء المأثور: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ) (¬3) وفي الذكر الحكيم: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ¬

_ (¬1) - مدارج السالكين, ج3/ ص3. (¬2) - الهمة العالية للعلامة محمد بن ابراهيم الحمد, ص16. (¬3) - ابو داود في سننه حديث رقم (1330) .

وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬1) فاعمل اخي ولاتعجز وتستسلم للاوهام فالسر الكامن وراء كل المتميزين هو الهمم العالية وعدم الاستسلام لوسوسة الشيطان فالحياة افسح من لحظة يكتظ فيها مشاعر الاسى وكتل اليأس وتوهم حب السلامة والبقاء في القعود عن الهمم العالية قال الشاعر: حبُّ السلامةِ يُثْني همَّ صاحِبه ... عن المعالي ويُغرِي المرءَ بالكَسلِ فإن جنحتَ إليه فاتَّخِذْ نَفَقاً ... في الأرضِ أو سلَّماً في الجوِّ فاعتزلِ رضَا الذليلِ بخفضِ العيشِ يخفضُه ... والعِزُّ عندَ رسيمِ الأينُقِ الذُلُلِ (¬2) اما صفي الدين الحلي فهو يقول: حُبُّ السَلامَةِ يَثني عَزمَ صاحِبِهِ ... عن المعالي ويغيري المرء بالكسل ويقول عبد الحميد الرافعي مخمسا لقصيدة صفي الدين الحلي (حب السلامة) : ذو الحزم من يتغالى في مآربه ... ولو دهته المنايا في مذاهبه فقل لمن قد توانى عن مطالبه ... حب السلامة يثني عزم صاحبه عن المعالي ويغري المرء بالكسل لا يدرك المجد إلا من طوى السبلا ... كدا يحاول في الدنيا ثناً وعلا فان لزمت الحشايا فاقصر الاملا ... ودع غمار العلى للمقدمين على ركوبها واقتنع منهن بالبلل ¬

_ (¬1) - سورة التوبة الاية (105) . (¬2) - هذه الابيات للطغرائي.

وسر على اسم العلى والنفس واثقة ... بالعز مهماأعاقت عنه عائقة ولا يهجك إلى الأوطان بارقة ... ان العلى حدثتني وهي صادقه فيما تحدث ان العز في النقل ان عظيم الهمة لايشغل باله بامر صغير, ولا يقلب فكره في امر يسير, بل يقوم بجلائل الاعمال, وقد جرت سنة الله في خلقه الا ينهض الى المقاصد الجليلة, ويرمي الى الغايات البعيدة غير النفوس التي عظم حجمها, وكبرت هممها, قال الشاعر: وَمَنْ تَكُنِ العَلْياءُ هِمَّةَ نَفْسِهِ ... فَكُلُّ الَّذِي يَلْقَاهُ فيها مُحَبَّبُ (¬1) ولما كان مجد الاخرة اعظم المجد كان ابتغاؤه اعظم الغايات وكان هو الهم الاكبر لذوي الهمم العالية ممن يرجو الله والدار الاخرة قال الشاعر: ولِمْ أَنا راض أَن أُرَى وَاطِئَ الثَّرى ... ولي هِمَّةٌ لا ترتضي الأُفْقَ مَقْعَدا (¬2) والى هذا المعنى يشير قول النابغة الجعدي: بَلَغْنَا السَّمَاءَ مَجْدُنَا وَجُدُودُنَا ... وَإِنَّا لَنَبْغِي فَوْقَ ذَلِكَ مَظْهَرًا قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم: إِلَى أَيْنَ؟ قُلْتُ: إلى الْجَنَّةِ. قَالَ: نَعَمْ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ (¬3) وقال الامام الشوكاني: (وينبغي لمن كان صادق الرغبة قوي الفهم ثاقب النظر عزيز النفس شهد الطبع عالي الهمة سامي الغريزة أن لا يرضى لنفسه ¬

_ (¬1) - هذا البيت لمحمود سامس البارودي. (¬2) - هذا البيت لابن رشيق القيرواني. (¬3) - إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة للمؤلف: أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل البوصيري, ج6/ص146.

بالدون ولا يقنع بما دون الغاية ولا يقعد عن الجد والاجتهاد المبلغين له إلى أعلى ما يراد وأرفع ما يستفاد فإن النفوس الأبية والهمم العلية لا ترضى بدون الغاية في المطالب الدنيوية من جاه أو مال أو رئاسة أو صناعة أو حرفة حتى قال قائلهم: إذا غامرت في شرف مدوم ... فلا تقنع بما دون النجوم فطعم الموت في أمر حقير ... كطعم الموت في أمر عظيم وقال آخر مشيرا إلى هذا المعنى إذا لم تكن ملكا مطاعا ... فكن عبدا لخالقه مطيعا وإن لم تملك الدنيا جميعا ... كما تهواه فاتركها جميعا هما شيئان من ملك ونسك ... ينيلان الفتى شرفا رفيعا وقال آخر: فإما مكانا يضرب النجم دونه ... سرادقه أو باكيا لحمام وقد ورد هذا المعنى كثيرا في النظم والنثر وهو المطلب الذي تنشط إليه الهمم الشريفة وتقبله النفوس العلية (¬1) الهمة المضيئة والارادة القوية ان كثيرا من الناس تكمن فيه الهمة كمون النار في الزند, فهذه الهمة بحاجة الى من يوريها ويقدح زندها, فمهما حفظ الإنسان من الحكم وكانت رغباته صالحة فلن يكون منتجا الا اذا شحذ همته وقويت ارادته, وانتهز فرصته, فلاتصغرن همتهك, فقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه قال: "لاتصغرن همتكم, فاني لم ار اقعد عن المكرمات من صغر الهمم" (¬2) وقال الامام مالك رحمه الله: "عليك بمعالي الامور وكرائمها واتق رذائلها وما سف منها فان الله تعالى يحب معالي الامور ويكره سفاسفها" وقال بعض الحكماء: "الهمة راية الجد" وقال بعض البلغاء: "علو الهمم بذر النعم" (¬3) وقال الامام علي رضي الله عنه: إِذا أَظمَأتَكَ أَكُفُّ الرِجالِ ... كَفَتكَ القَناعَةُ شبعاً وَريّا فَكُن رَجُلاً رِجلُهُ في الثَرى ... وَهامَةُ هِمَّتِهِ في الثُرَيّا وقال اخر: إِنَّ لي هِمَّةً أَشَدَّ مِنَ الصَخ ... رِ وَأَقوى مِن راسِياتِ الجِبالِ (¬4) وقال احمد شوقي: "الطير يطير بجناحيه, والمرء يطير بهمته", وقال ابن القيم رحمه الله: "انما تفاوت القوم بالهمم لابالصور" (¬5) فمن علت همته, وخشعت نفسه, اتصل بكل جميل, ومن دنت همته وطغت نفسه اتصف بكل خلق رذيل (¬6) وقال الفت عجز العدة؛ فلو علت بك همتك ربا ¬

_ (¬1) - ادب الطلب ومنتهى الادب, للامام محمد بن علي الشوكاني رحمه الله, ص127, الناشر دار ابن حزم بيروت لبنان سنة النشر 1419هـ - 1998م. (¬2) - ادب الدنيا والدين للماوردي, ص319. (¬3) - ادب الدنيا والدين للماوردي, 319. (¬4) - هذا البيت لعنتر بن شداد. (¬5) - الفوائد لابن القيم, ص77. (¬6) - الفوائد لابن القيم , ص211.

المعالي راحت لك انوار العزائم (¬1) وقال الهمة العلية من استعد صاحبها للقاء الحبيب (¬2) وفي امثال العرب: "الارادة سر النجاح, وقدر الرجل على قدر همته, والهمة تلقح الجد العقيم" وقيل "الهمة جناح الحظ" (¬3) وقيل "من جد وجد" وللهمم العالية اسباب تبعثها وتعين على اسبابها وتحركها, منها حب الله والايمان به وابتغاء ثوابه ومحبته ومحبه عباده, ومحبة العمل واتقانه, فاذا استيقضت القلوب نشطت الاعضاء للاعمال الصالحة وتسابقت النفوس الى اكتساب الفضائل والمحامد, فالنفوس الشريفة لاترضى من الاشياء الا باعلاها وافضلها, واحمدها عاقبة, فهي لاترضى الهمم الدنيئه والاعمال الرذيلة فهي تتوق الى ما ينفعها وتحرص على ما يرفعها, قال ابو فراس الحمداني: إِنّي أَبيتُ قَليلَ النَومِ أَرَّقَني ... قَلبٌ تَصارَعَ فيهِ الهَمُّ وَالهِمَمُ وَعَزمَةٌ لايَنامُ اللَيلَ صاحِبُها ... إِلّا عَلى ظَفَرٍ في طَيِّهِ كَرَمُ وقال اخر: الجد في الجد والحرمان في الكسل ... فانصب تصب عن قريب غاية الأمل (¬4) ¬

_ (¬1) - الفوائد لابن القيم, ص77. (¬2) - الفوائد لابن القيم, ص76. (¬3) - كنوز الامثال ص108. (¬4) - هذا البيت لصلاح الدين الصفدي.

اسباب كسب الهمم العالية

قال ابن منظور العزم هو: الجِدُّ, عَزَمَ على الأَمر يَعْزِمُ عَزْماً, وقال الليث العَزْمُ ما عَقَد عليه قَلْبُك من أَمْرٍ أَنَّكَ فاعِلُه, وهَمَّ بالشيءَ يهمُّ هَمّاً نواه وأَرادَه وعزَم عليه (¬1) . قال الشاعر: اذا هم لم تردع عزيمة همه ... ولم يات ما يأتي من الأمر هائبا اذا هم القى بين عينيه عزمه ... ونكب عن ذكر العواقب جانبا (¬2) وقال الخر: إِذا هَمَّ هَمّاً لَم يَر اللَيلَ غُمَّةً ... عَلَيهِ وَلَم تَصعُب عَلَيهِ المَراكِبُ (¬3) اسباب كسب الهمم العالية ان الايمان بالله سبحانه وتعالى اعظم باعث للهمة فهو من اقوى الاسباب على بعث الهمم على الاقدام والحزم والجد والتشمير, فهو يقوي الادراك, ويشحذ القريحة, فكلما قوي ايمان الإنسان علت همته, وكلما ضعف ايمانه ضعفت ارادته ووهنت همته في السعي الى المعالي, واستولى عليه الهم والحزن, فراحة القلب وسروره وزوال همومه وغمومه مما يبعث على السرور والابتهاج, ويحفز الهمم على العمل والانتاج, والاعراض عن الهموم وتسليم الأمر للحي القيوم, قال الشاعر: كن عن همومك معرضا ... وكل الأمور إلى القضا ¬

_ (¬1) - لسان العرب, ج12/ص619. (¬2) - هذان البيتان منسوبة في الموسوعة الشعرية لسعد بن ماشب المازني. (¬3) - هذا البيت لقتال الكلابي, وينسب ايضا لعبيد بن المضرحيّ.

قراءة القرآن تبعث الهمم العالية

وابشر بخير عاجل..... تنسى به ما قد مضى فلرب أمر مسخط ... لك في عواقبه رضا ولربما اتسع المضيق ... وربما ضاق الفضا الله يفعل ما يشاء ... فلا تكن متعرضا الله عودك الجميل ... فقس على ما قد مضى (¬1) اما الامام الشافعي فهو يقول: سَهِرَت أَعيِنٌ وَنامَت عُيونُ ... في أُمورٍ تَكونُ أَو لا تَكونُ فَاِدرَأِ الهَمَّ ما اِستَطَعتَ عَن النَف ... سِ فَحِملانُكَ الهُمومَ جُنونُ إِنَّ رَبّاً كَفاكَ بِالأَمسِ ماكا ... نَ سَيَكفيكَ في غَدٍ ما يَكونُ وقال اخر: قل لمن يحمل هما ... ان هما لايدوم مثلما تفنى المسرة ... هكذا تفنى الهموم قراءة القرآن تبعث الهمم العالية ومن اعظم الاسباب على بعث الهمم هو قراءة القرآن والتدبر لما فيه من القصص والاحكام, فبه حياة النفوس وهداية القلوب وشحذ العزائم والهمم, قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬2) ¬

_ (¬1) - هذه الابيات وردت في الفرج بعد الشدة منسوبة للصفي الحلي. (¬2) - سورة الشورى الاية (52) .

دعاء الله والاستعانة به تبعث الهمم

دعاء الله والاستعانة به تبعث الهمم ومن اعظم الاسباب التي تقوي العزائم والهمم, وتدفع الهم والحزن, الدعاء والاستعانة بالله تعالى والتوكل عليه فان ذلك يذهب الهم ويشرح الصدر ويقوي العزيمة فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه واله وسلم انه قال: (مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجِلَاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجًا) قَالَ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَتَعَلَّمُهَا فَقَالَ (بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا) (¬1) . الارادة القوية تبعث الهمم العالية ومن اسباب بعث الهمم الارادة القوية فهي من اعظم ما يبعث على الهمم ومن الدوافع الجوهرية التي تضيف الى مشاعر الإنسان قوة معنوية والانسان بلا ارادة قوية انهزامي مستسلم, يسلم قيادته للاخرين دون ان يشعر بحقيقة امره, فالاشخاص بارادتهم وتصميمهم وايمانهم تعلو هممهم وترتفع اقدارهم, فيحسن بي وبك ان يكون لنا ارادة واقداما على فعل الخير, فالارادة قوة دافعة تجعل صاحبها كبير الثقة بنفسه عظيم الهمة في ¬

_ (¬1) - احمد مسند حديث رقم (3528) .

التوازن في الغذاء يساعد على بعث الهمم

علمه وعمله, فلا شيء يستحيل تحقيقه مع العزم والارادة, وتحمل المسؤلية بشجاعة وعدم الخوف الذي يبعث على التردد والحيرة والهم والحزن, فمن راقب الناس مات هما ومن راقب الناس لم يظفر بحاجته, فانت بحاجة الى اردة وهمة عاليه لتنجز دراستك وعملك ومسؤلياتك, فالانكماش والتردد يثبط الهمم ويضعف العزائم. التوازن في الغذاء يساعد على بعث الهمم الغذاء له اثر على نشاط الإنسان وبعث الهمة فيه على القيام بواجباته, ومن اهم البواعث على الهمم التوازن في المأكل والمشرب, فالغذاء له تاثير على صحتك فحافظ على توازن الغذاء في جسدك كي تكون نشيطا تتمتع بصحة جيدة وهمة عالية لا يعتري قلبك هم او حزن يبعدك ويفتر همتك, الا ترى ان النبي صلى الله عليه واله وسلم: (يَقُولُ التَّلْبِينَةُ مُجِمَّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ) (¬1) والحق سبحانه وتعال يقول: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (¬2) . الهمم العالية لاتعيقها الاحداث ان اصحاب الهمم العلية لاتعيقهم احداث الماضي ولو كانت كبيرة, ولا تثنيهم العراقيل ولو كانت كثيرة, فابدأ صفحة جديدة من حياتك بهمة عالية, ففي عالم الإنسان روح مفقودة, واسرار مخفية, وحين يكتب الله لك ¬

_ (¬1) - البخاري في صحيحه باب التلبينة حديث رقم (4997) . (¬2) - سورة الاعراف الاية (31) .

النجاح ستنجح فكن ذا همهة عالية, وتوقع الافضل من فضل الله, فان اكثر مايقتل الناس وهم احياء ويؤخرهم وهم قادرون على التقدم ضعف هممهم والهموم التي تجثم على قلوبهم, وما ينزل احيانا من المصائب والعثرات التي يجب ان تكون حافزا لهم على النهوض من كبوتهم والخروج من عثرتهم, فالعثرات في حياة الرجال هي شرارة النجاح وهل يتصور انسان يتعثر قاعدا او يسقط نائما؟ كلا ان الإنسان حينما يتعثر ينهض او يستيقض من سباته فتلك لحظة الامتحان التي يجب ان يشخذ الإنسان فيها همته, ويعيد حسابه, ويجدد حياته, ويخطو الى المجد ويتطلع للمعالي وينهض من الكبوة بهمة وعزيمة وارادة مستعينا بالله, فالنصر مع الصبر, والفرج مع الكرب, فلا اظن ان هناك من ناجج على وجه الارض تجده وقد تنزلت عليه هبة السماء وهو راقد لم ينهض بعد من فراشه الا اذا كان قد اخذ بالاسباب, فاشحذ همتك وشمر عن ساعد الجد فانك ان وجدت من يزعم ان الحظ ساعده من غير همة ولاجد ولا سعي ولا اخذ بالاسباب فلا تقتد به لان ذلك خلاف السنة الربانية, فقد بلغك ان الكون كله مبني على سنن الآهية لاتتغير البته ياتي في مقدمة هذه السنن قول العزيز الحكيم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (¬1) فهل بقي معنى ابلغ من تلك الآية دليلا على ماقلت لك, ان الهمة والسعي بجد وعزيمة شرط للوصول الى لااهداف فلا تكسل. ¬

_ (¬1) - سورة الرعد الاية (11) .

الغريزة تبعث الهمم

الغريزة تبعث الهمم ان الغرائز الطبيعية التي اودعها الله في كيان الإنسان هي من الدوافع القوية التي تبعث على الهمة العالية, فالغريزة عنصر جوهري في الكائن البشري, فكل غريزة من الغرائز تؤدي دورا هاما في حياة الإنسان باعتبار ان وجودها يمثل جزأ من وجوده يبعث في الهمة على اداء دوره في الارض في الاعمار والتكاثر والبناء في مختلف مجالات الحياة, فان الله جلت قدرته خلق الإنسان وخلق له سلسلة متكاملة من المتع التي يحبها ويسعى اليها, فحب البقاء والاستمتاع بنعم الحياة غريزة تجعل منه إنساناً يحب العمل ويجد في تنمية قدراته العلمية والعملية, فهو يسعى بهمة عالية ليوفر لنفسه واسرته دخلاً مناسبا للعيش بصورة عزيزة وكريمة, وحب المال غريزة تبعث الهمة الى اكتساب المال ليحقق الاكتفاء ولينفق على غيره باعتبار ان اليد العليى خير من اليد السفلى, والذي يعطي افضل من الذي ياخذ, وكذلك حب القوة وحب السيطرة غريزة موجودة تبعث في الإنسان الهمة على التضحية والسعي نحو الامور التي تجعل الإنسان يسهم بفاعلية في المجالات الاقتصادة والاجتماعية والثقافية والدينية مما يجعل الامم تنهض بهممها وترقى وتتألق كقوى اقتصادية او صناعية او علمية, وترقى بقدراتها وتنهض بشعوبها, وبالهمم العالية يشعل فتيل التنافس الذي يحقق التقدم العلمي والحضاري للعالم اجمع, قال الشافعي: أَمطِري لُؤلُؤاً جِبالَ سَرَندي ... بَ وَفيضي آبارُ تَكرورَ تِبرا

أَنا إِن عِشتُ لَستُ أَعدَمُ قوتاً.....وَإِذا مُتُّ لَستُ أَعدَمُ قَبرا هِمَّتي هِمَّةُ المُلوكِ وَنَفسي ... نَفسُ حُرٍّ تَرى المَذَلَّةَ كُفرا وقد كان الرسول صلى الله عليه واله وسلم مثلا يحتذى ونهجا يكتفا في كرم نفسه وشرف همته فهو اعلى البشرية همة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى له همم لا منتهى لكبارها ... وهمته الصغرى اجل من الدهر فالشريعة الاسلامية تحث على علو الهمة بل ان الحق سبحانه وتعالى توعد هذه الأمة ان هي اخلت بامانتها وعزفت هممها عن اداء واجبها بقوله جلت قدرته: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (¬1) ¬

_ (¬1) - سورة محمد الاية (38) .

الفصل السادس والاربعون الوقت

الفصل السادس والاربعون الوقت الوقت الوقت نعمة عظيمة, ومنة كبيرة, فمن حافظ على وقته فقد احتاط في امره وحافظ على نفسه, ومن اضاع وقته فقد اضاع ايامه وخسر زمانه, ولم يتعظ في نفسه. والوقت: اللحظات التي يعيشها المرء, ويمكث فيها على ظهر الارض. والوقت هو الحياة, وهواغلا من الذهب. اما الزمن فهو عمر الحياة, وميدان وجود الانسان, وساحة ظله وبقائه, ونفعه وانتفاعه. والوقت اثمن مايملكه الانسان, وفي الامثال السائرة: "الوقت من ذهب" والوقت كالسيف ان لم تقطعه قطعك, وللوقت خاصيتان الاولى: انه يجري جري الرياح ويمر مر السحاب فهو سريع الانقضاء. والثانية: ان الوقت لا يستطيع احد من الناس استعادته وبالتالي لايمكن تعويضه, ولهذا قيل: "الايام خمسة: يوم مفقود, ويوم مشهود, ويوم مورود, ويوم موعود, ويوم ممدود" (¬1) فاللبيب من انتفع بوقته, وذكر نعمة ربه, واستغفر من ذنبه, وفي الذكر الحكيم: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬2) وفي سورة الروم يقول الحي القيوم: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} (¬3) وفي سورة الاحزاب يامرنا العزيز الوهاب بذكره وتسبيحه في البكرة والاصيل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ¬

_ (¬1) - دليل السائلين, ص 620. (¬2) - سورة الانعام الاية (13) . (¬3) - سورة الروم الاية (18) .

ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (¬1) وفي سورة التكوير يقسم بالوقت العزيزُ القديرُ: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} (¬2) فلا تنس انبلاج الصبح وظهور الفجر وصلاة الفجر لتكسب الاجر قال تعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ* هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} (¬3) فاعبد ربك اخي وكن من الذاكرين, ولاتكن من الغافلين, وتدبر قول العزيز الحكيم: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (¬4) واعلم اخي ان خير عملك مااستصلحت به يومك واشره ما استفسدت به قومك, وقديما قيل: "ايام الدهر ثلاثة: يوم مضى لايعود اليك, ويوم انت فيه لايدوم عليك, ويوم مستقبل لاتدري من اهله, ولاتعرف ما حاله" فتعرّ عن امسك الماضي, وتزود من يومك الفاني لغدك الآتي. كل يوم يسوق الى غده, وكل انسان ماخوذ بجناية لسانه ويده, فالوقت يمضي على من دخل فيه, ويمر على من اشتغل عنه, فلاتضيعه تضع, قال الشاعر: والوقت انفس ماعنيت بحفظه ... وأراه أسهل ماعليك يضيع اما شوقي فهو يقول: المَجدُ وَالشَرَفُ الرَفيعُ صَحيفَةٌ ... جُعِلَت لَها الأَخلاقُ كَالعُنوانِ ¬

_ (¬1) - سورة الاحزاب الاية (41-42) . (¬2) - سورة التكوير الاية (17-18) . (¬3) - سورة الفجر الايات (1-5) . (¬4) - سورة الصافات الاية (143-144) .

ادارة الوقت سبيل للنجاح

وَأَحَبُّ مِن طولِ الحَياةِ بِذِلَّةٍ.....قِصَرٌ يُريكَ تَقاصُرَ الأَقرانِ دَقّاتُ قَلبِ المَرءِ قائِلَةٌ لَهُ ... إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ وَثَواني فَاِرفَع لِنَفسِكَ بَعدَ مَوتِكَ ذِكرَها ... فَالذِكرُ لِلإِنسانِ عُمرٌ ثاني وقال اخر: واصبر على نعم الحياة وبؤسها ... نعم الحياة وبؤسها سيان وناد مولاك عند البكور والاصباح, اللهم اجعل أول هذا النهار صلاحا واوسطه فلاحا واخره نجاحا , ففي الحديث: (ليس من يوم إلا وهو ينادي: يا ابن آدم! أنا خلق جديد، أنا فيما تعمل في عليك شهيد، فاعمل في خيرا أشهد لك به، فإني لو مضيت لم ترني؛ ويقول الليل مثل ذلك) (¬1) وفي حديث اخر: (اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك) (¬2) . ادارة الوقت سبيل للنجاح إدارة الوقت بحكمة منة ونعمة فهي سبيل للنجاح, وطريق للعزة والفلاح, فالوقت في مفهومه المجرد شيء ثمين يتحكم في جميع أعماك فقسمه بين العمل والراحة وبين النوم والصحوة, فاجعل من ليلك وقتا لراحة بدنك, ومداعبة اهلك, وتعليم ولدك, وتقييم عملك, وعبادة ربك, واجعل منه سويعات لنومك, وسكون جسمك وقلبك, وفي الذكر الحكيم: ¬

_ (¬1) - كنز العمال حديث رقم (43159) . (¬2) - اتحاف الخيرة المهرة للعلامة المؤلف/ أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل البوصيري حديث رقم (7165) .

{وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} (¬1) فادارة الوقت تعني تنظيمه وضبطه واستغلاله فيما يعود عليك نفعه فاجعل من النهار ما يحقق امالك, ويتسع لاعمالك, وابدأه بذكر الله وحمده والاستعانة به واداء ماافترض الله عليك فيه من العبادة, والجد في العمل لتشعر بالسعادة, فاذا استثمرت نهارك باصلاح معاشك واداء امانتك في وظيفتك ومزرعتك ومدرستك ومصنعك ومتجرك عاد ذلك عليك وعلى مجتمعك واهلك بالخير العميم, فلا تكن من الغافلين وفي الذكر الحكيم يقول العزيز الحكيم: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} (¬2) فأيامك معارة فلاتضيعها قال الشاعر: لَعَمرُكَ ما الأَيامُ إِلّا مُعارَةٌ ... فَما اِسطَعتَ مِن مَعروفِها فَتَزَوَّدِ (¬3) اما ابوالعلاء المعري فهو يقول: ثلاثةُ أيّامٍ هيَ الدّهرُ كلّه ... وما هُنّ غيرَ الأمسِ واليومِ والغَدِ (¬4) وقال الشريف الرضي: يَغُرُّ الفَتى ما طالَ مِن حَبلِ عُمرِهِ ... وَتُرخي المَنايا بُرهَةً ثُمَّ تَجذِبُ وقال اخر: ¬

_ (¬1) - سورة النباء الاية (9-11) . (¬2) - سورة الاسراء الاية (12) . (¬3) - هذا البيت لطرفة بن العبد. (¬4) - هذا البيت لطرفة بن العبد.

يغر الفتى مر الليالي سليمة ... وهن به عما قليل عواثرُ اما ابوالطيب المتنبي فهو يقول: صَحِبَ الناسُ قَبلَنا ذا الزَمانا ... وَعَناهُم مِن شَأنِهِ ما عَنانا وَتَوَلَّوا بِغُصَّةٍ كُلُّهُم مِنهُ ... وَإِن سَرَّ بَعضُهُم أَحيانا رُبَّما تُحسِنُ الصَنيعَ لَياليهِ ... وَلَكِن تُكَدِّرُ الإِحسانا وَكَأَنّا لَم يَرضَ فينا بِرَيبِ ال ... دَهرِ حَتّى أَعانَهُ مَن أَعانا كُلَّما أَنبَتَ الزَمانُ قَناةً ... رَكَّبَ المَرءُ في القَناةِ سِنانا وَمُرادُ النُفوسِ أَصغَرُ مِن أَن ... نَتَعادى فيهِ وَأَن نَتَفانى غَيرَ أَنَّ الفَتى يُلاقي المَنايا ... كالِحاتٍ وَلا يُلاقي الهَوانا وَلَوَ أَنَّ الحَياةَ تَبقى لِحَيٍّ ... لَعَدَدنا أَضَلَّنا الشُجعانا وَإِذا لَم يَكُن مِنَ المَوتِ بُدٌّ ... فَمِنَ العَجزِ أَن تَكونَ جَبانا كُلُّ ما لَم يَكُن مِنَ الصَعبِ في الأَن ... فُسِ سَهلٌ فيها إِذا هُوَ كانا ومفهوم الوقت في الإدارة الحديثة يتمثل في توفير واستغلال وقت العمل الرسمي للتركيز على النشاطات التي تجعل من المدير قائدا فعالا ومن المسئولين الآخرين من موظفين وعمال أشخاصا منجزين للأعمال المطلوبة منهم بكفاءة وإنتاجية عالية وإخلاص وأمانة لكي تعم فائدة عملهم وتنفع المجتمع كله, فلا تترك عمل اليوم الى الغد فانك لاتدري اتدركه ام لا, فجد واجتهد فربما جاء الغد بما لاتحب قال الامام علي بن ابي طالب رضي الله عنه:

اسباب ضياع الوقت

عَجَباً لِلزَمانِ في حالَتَيهِ ... وَبلاءٌ ذَهَبتُ مِنهُ إِلَيهِ رُبَّ يَومٍ بَكَيتُ مِنهُ فَلَّما ... صُرتُ في غَيرِهِ بَكَيتُ عَلَيهِ الوقت هو الحياة، وإذا ذهب لا يمكن تعويضه، لذا لا بد من التخطيط الناجح للاستفادة المثلى من الوقت, فإدارة الوقت تعتبر من العمليات الإدارية التي لا يمكن الاستغناء عنها، خصوصاً في مجال التحليل والتخطيط. اما العلامة محمد بن محمد المنصور فهو ينصح أولاده فيقول: بني فلا تضيعوا اي وقت ... فإن الوقت انفس كل غالي فإن لم تكسبوا فيه فعفوا ... عن الشر المزين في الخيال وحسبكم الاضاعة لا تضيفوا ... اليها السوء وامتثلوا مثالي اسباب ضياع الوقت ان التحسر على الماضي والبكاء عليه قد يشغل عن الحاضر فيكون سببا لضياع الوقت, فلا تلتفت الى الماضي فالوقت الذي مضى لا يعود, والفائت لايستدرك, وفي الامثال السائرة: "ذهب امس بما فيه, ومن يقدر على رد امس وتطيين عين الشمس" (¬1) وقيل ايضا: "ما ابعد مافات, وما اقرب ماهو آت" وقد قيل ان لصوص الوقت الذين يمنعون الإنسان من استغلال وقته على الوجه الأكمل هم:- 1. التردد: ويؤدي التردد في إصدار القرار اللازم خوفا من الفشل في النهاية إلى إضاعة الجهد والوقت. 2. 3. ¬

_ (¬1) - كنوز الامثال, ص 276, والمراد بتطيين عين الشمس ستر الحق الجلي الناصع.

4. التوتر. 5. عدم تنظيم البيئة الإدارية. 6. عدم الاهتمام باجتماعات اللجان في اوقاتها مما يؤدي إلى إضاعة الوقت. 7. التشاؤم والتباطؤ. واذا كان لا يوجد وقت كافي لعمل كل شئ، فتقبل هذه الحقيقة ببساطه. لذا من الضروري التركيز على الأشياء الأكثر أهمية. وإذا فعلت ذلك فى كل من عملك وحياتك الشخصية، فإنك ستنجز أكثر ما تريد بحسن إدارة الوقت. فصفِّ ذهنك. واهدأ. وركز على مهمتك. تجاهل أي شئ آخر. فالتوتر الزائد يجعل مهمتك تبدو أصعب مما هى عليه. يمكنك التحكم فى صفائك الذهنى بحيث لا تجعل الضغوط الخارجية تؤثر عليك. تفهم جيداً ما يجب عليك فعله وقم به فى هدوء وراحة وثقة. وحاول أن تنشد الكمال وتسعى اليه واعلم ان إتقان فنِّ إدارة الوقت يتطلب الجدَّ والمثابرة والصبر على الطلب واحرص على اغتنام العمر في سبيل العلم وتحصيله. ويرحم الله الشافعي حيث يقول: سَهَري لِتَنقيحِ العُلومِ أَلَذُّ لي ... مِن وَصلِ غانِيَةٍ وَطيبِ عِناقِ وَصَريرُ أَقلامي عَلى صَفَحاتِها ... أَحلى مِنَ الدَوكاءِ وَالعُشّاقِ وَأَلَذُّ مِن نَقرِ الفَتاةِ لِدَفِّها ... نَقري لِأُلقي الرَملَ عَن أَوراقي

وَتَمايُلي طَرَباً لِحَلِّ عَويصَةٍ....في الدَرسِ أَشهى مِن مُدامَةِ ساقِ وَأَبيتُ سَهرانَ الدُجى وَتَبِيتُهُ ... نَوماً وَتَبغي بَعدَ ذاكَ لِحاقي فأغلب المسلمين اليوم يسيئون إدارة أوقاتهم، بالرغم من نظرة الإسلام إلى الوقت وإعطائه أهمية كبيرة، فتضييع الشاب العاطل عن العمل لعمره ووقته وهو ينتظر فرصة العمل التي تتناسب مع المواصفات التي يضعها ومع مؤهله العلمي الذي حصل عليه خسارة كبيرة, فمن الاخطاء الشائعة في كثير من البلدان ان لا يرتبط العلم بالتنمية وان لا يتم التخطيط مسبقا بحيث لايتخرج الدارس في اي مجال علمي الا وهناك فرصة عمل تنتظره كي لاتضيع اوقات العلماء والمتخصصين في شتا المجالات وتهدر اوقاتهم, فضياع اوقات العلماء والمتعلمين حسرة على الشعوب وضياع انفس ما يكون مفيدا واغلب مايكون سديدا. وقد كان من دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "اللهم انا نسالك صلاح الساعات والبركة في الاوقات". وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: "ان الليل والنهار يعملان فيك, فاعمل فيهما". وقال عبد الله بن مسعود: "ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت فيه شمسه نقص فيه اجلي ولم يزدد فيه عملي". وقال الحسن البصري رحمه الله: "ياابن ادم, انما انت ايام, فاذا ذهب يوم ذهب بعضك". وقال: "ادركت اقواما ما كانوا على اوقاتهم اشد منكم حرصا على دراهمكم ودنانيركم". (¬1) ولله در القائل: ¬

_ (¬1) - دليل السائلين, ص 622.

تمتع بنعمة وقتك

إِنَّما دُنياكَ يَومٌ واحِدٌ ... فَإِذا يَومُكَ وَلّى لَم يَعُد وقال ابن طباطبا العلوي: دُنياكَ يَومك دونَ امسك فَاعتبر ... ما السالف المَفقود مِثل الغابر وقال اخر: لاعيش الا ماتقر به عين ... ولاحال الا سوف تنتقل اما العلامة محمد بن محمد المنصور فهو يقول عن ماهية الزمن: ملايين السنين متى تولت ... كيوم واحد ليست بأكثر متى كان الذي فيها كما كا ... ن فيه من مباني الخير والشر وان خليت وجاء اليوم يطوي ... صوالح او طوالح فهي اقصر ولا تعجب لحلم الله عمن ... طغى الامد الطويل ومن تجبر الست مُمَّهلا زمنا طويلا ... ولم تشعر كانك لست مشعر ولست بمهمل فأفق وابصر ... فقد آنَ الأَوَانُ لِأَنْ تَبصَّرْ تمتع بنعمة وقتك ان الله قد جعل لك وقتا واياما تعيشها فانظر الى تقلب الزمان واشكر الرحمن, ترى ربيع الايام تزهر, وخريفها بالخير يزخر, وشتاؤها بالثلوج تمخر, وصيفها بالمزن يقطر, نعم لاتحصى وفضل لاينسى فاشكر الله تبارك وتعالى, قال الشاعر: أَتاكَ الرَبيعُ الطَلقُ يَختالُ ضاحِكاً ... مِنَ الحُسنِ حَتّى كادَ أَن يَتَكَلَّما وَقَد نَبَّهَ النَوروزُ في غَلَسِ الدُجى ... أَوائِلَ وَردٍ كُنَّ بِالأَمسِ نُوَّما

يُفَتِّقُها بَردُ النَدى فَكَأَنَّهُ.....يَبُثُّ حَديثاً كانَ أَمسِ مُكَتَّما وَمِن شَجَرٍ رَدَّ الرَبيعُ لِباسَهُ ... عَلَيهِ كَما نَشَّرتَ وَشياً مُنَمنَما (¬1) فتمتع بفصل الربيع وازهاره وبجميل الورد في نيسانه واذاره, واسبح في بحوره وانهاره, واكثر من ذكر الله في غدو الوقت واصاله, فعسى يهزك الربيع وينعشك بريحانه وازهاره فتغتنم الوقت في عمل الصالحات, فان الربيع يهز النفوس ويذهب البؤس ويبعد عنك التشاؤم والنحوس وهذا الخبز ارزي يقول قدم الرَّبيع فحطَّ في آذارِ ... بعساكرٍ للزهر والأنوارِ فتناثرت لقدومها بتفصحٍ ... بعد العجومةِ ألسُن الأطيارِ وكأنَّ إقبالَ الزمان من الشتا ... إقبالُ مسحور من الأسحار خلعَ الربيعُ على الرياض وألبَسَت ... خِلَع الربيعِ مُشَهَّرَ الأقطارِ فاذا جاء الخريف تضاعف خيره وضحك طيره وطاب صباحه وبرد نسيمه قال الشاعر: طاب شرب الصبوح في ايلول ... برج الظل في الضحى والاصيل وخبت جمرة الهواجر عنا ... واسترحنا من النهار الطويل وخرجنا من السموم الى برد ... نسيم وطيب ظل ظليل فكأنا نزداد قربا من الجنة ... في كل شارق وأصيل ووجوه البقاع تنتظر الغيث ... انتظار المحب رد الرسول (¬2) وقال اخر: ¬

_ (¬1) - هذه الابيات للبحتري. (¬2) - وردت هذه الابيات في الموسوعة الشعرية وفي صبح الاعشى منسوبة الى عبد الله بن المعتز. ولم نجدها في الديوان الذي بين ايدينا.

ولا زلت في عيشة كالخريف ... فان الخريف جميعا سحر فاذا جاء الشتاء فتمتع بنعمة الكساء والحذاء والغذاء, واحرص على العمل فيه فقد جاء وقته وزمانه, فاجعل منه للعمل دليله وعنوانه, فالبرد اذا جر ذيوله وجاء بجنده وخيوله فتمتع بنعمة الكساء, والدفاء, واجعل لكل وقت من العمل مايناسبه, واعلم ان اسباغ الوضوء على المكاره, والسعي الى المساجد, والمدارس, والجامعات, والمؤسسات, والمزارع لضرورة العمل والعبادة في البرد القارس مما يضاعف الله به الحسنات في تلك الاوقات فلا تكسل, وقد جعل الله لك وسائل للتدفئة, وجعل سرابيل تقيك البرد والحر, وانعم عليك بنعم لاتحصى فاشكر الله على ذلك ولاتعرض نفسك للمهالك, قال احمد شوقي رحمه الله: وَاِتَّقِ البَردَ فَكَم خَلقٍ قَتَل ... مَن تَوَقّاهُ اِتَّقى نِصفَ العِلَل اِتَّخِذ سُكناكَ في تَلقِ الجَواء ... بَينَ شَمسٍ وَنَباتٍ وَهَواء خَيمَةٌ في البيدِ خَيرٌ مِن قُصور ... تَبخَلُ الشَمسُ عَلَيها بِالمُرور في غَدٍ تَأوي إِلى قَفرٍ حَلِك ... يَستَوي الصُعلوكُ فيهِ وَالمَلِك وَاِترُكِ الخَمرَ لِمَشغوفٍ بِها ... لا يَرى مَندوحَةً عَن شُربِها لا تُنادِم غَيرَ مَأمونٍ كَريم ... إِنَّ عَقلَ البَعضِ في كَفِّ النَديم وَعَنِ المَيسِرِ ما اِسطَعتَ اِبتَعِد ... فَهوَ سُلُّ المالِ بَل سُلُّ الكَبِد وَتَعَشَّق وَتَعَفَّف وَاِتَّقِ ... مادَرى اللَذَّةَ مَن لَم يَعشَقِ

ولبعضهم في كافات الشتاء جاء الشتاء وعندي من حوائجه ... سبع إذا القطر عن حاجاتنا حبسا كن وكيس وكانون وكاس طلا ... بعد الكباب وكس ناعم وكسا (¬1) وهذه ليست كل حاجات الشتاء ولم تعد كلها مطلوبة ولا مرغوبة وقد انعم الله على الإنسان بالملابس القطنية والصوفية المنسوجة باتقان على اجمل مثال وهدى الله الإنسان للاختراع وسائل التدفئة التي تضمها البيوت والمساجد والسيارات, وانعم الله بوجود الغذاء والكساء على الكثير من الناس فالماء البارد يمكن تدفئته وكذا المكان البارد, فاستشعر النعمة وادم الشكر واغتنم الوقت في العمل الذي ينفعك ولاتضيعه, فليس لك من عذر ينفعك فوقتك راس مالك ان تاجرت به ربحت, وان جعلته كاسدا كنت لوقتك خاسرا, واصبر على مضض الادلاج في السحر, واسع الى عملك في البكر, ورضي الله عن الامام على بن ابي طالب حيث يقول: إِصبِر عَلى مَضَضِ الإِدلاجِ في السَحَرِ ... وَفي الرَواحِ إِلى الحاجاتِ وَالبُكرِ لا تَضجَرَنَّ وَلا يَحزُنكَ مَطلَبُها ... فَالنَجحُ يَتلَفُ بَينَ العَجزِ والضَجَرِ واذا جاء الصيف بنهاره المشمس وسحابه الممطر, ونمت الاشجار, وتكاثرت الانهار, فاستمتع بنهاره الدافئ وتنقل بين ظل الاشجار وعلى ظفاف الانهار, وجد في عملك في الليل والنهار, ولاتنس ذكر ربك اطراف الليل وآناء النهار, ولا تضيع وقتك وزمانك, وتنس اهلك واخوانك: ¬

_ (¬1) - هذان البيتان لـ (ابن سكرة) .

لَهفَ نَفسي عَلى الزَمانِ وَفي أَيِّ ... زَمانٍ دَهَتنِيَ الأَزمانُ حينَ جاءَ الرَبيعُ وَاِستُقبِلَ الصَيفُ ... وَطابَ الطِلاءُ وَالريحانُ (¬1) اما ابن شيخان فهو يرى ان في رياح الصيف برؤ فيقول: خليلي ما للقلب لجَّ به العَنا ... أما في رياح الصيف بُرْءٌ لذي الضَنا ويقول ايضا: ما الروح للروح إذا ... بَكّر إلا تغذيهْ ونفحة الصيف بمسْكِ ... ها تعمُّ الأنديهْ اما ابن هذيل فهو يقول: إن في الصَّيف راحةً للنفوسِ ... وشفاءً من حر داء الرسيس وقال اخر: أبكي على الصّيفِ كالباكي على الطَّللِ ... وإنّه كالصِّبا يمضي على عجَلِ جاءَ الشتاءُ فأذوى بردُه حبقاً ... قد كان في الصيفِ ذا نضرٍ وذا ميل كم كنتُ أقطفهُ أو كنتُ أنشقُه ... والعطرُ والنضرُ مثلُ الحبّ والأمل (¬2) واما ابو طالب المأموني فهو يصف ثمار الصيف فيقول: وضرب من ثمار الصيف يحكي ... وقد طلعت لنا منه نجوم قناديلٌ تضيء لها رؤوس ... مثقبة وليس لها جروم وقال اخر: وان راقَ لي في الصيفِ حرّ هجيرهِ ... أرى السحبَ تتلوهُ فينهمرُ القطرُ ¬

_ (¬1) - هذان البيتان لـ (ابن إياس الكنااني) . (¬2) - هذه الابيات لابي الفضل الوليد.

سعيتُ وانَّ السعيَ فرضٌ عَلَى الفتى...........وليس عليهِ ان يساعدهُ الدهرُ (¬1) فاستمتع بصيفك في اقامتك وترحالك, واشكر ربك على ذلك, وتدبر ماامتن الله على قريش من النعمة في رحلة الشتاء والصيف قال تعالى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (¬2) . وعن قيمة الوقت واغتنام العمر في الطاعة وعدم تضييعه يقول العلامة محمد بن محمد المنصور: فعمرك فرصة لك فاغتنمها ... ولاتضع الثواني والثوال (¬3) ففي الميزان ثانية بوزر ... وفي الميزان ثالثة بمال وإن جالست فالأخيار واهرب ... من الأشرار في شعف (¬4) الجبال فكم طبع سليم أفسدته ... مُجَالسَة الغَوِيِّ مِنَ الرجالِ وكم من صالحات أوبقتها ... غويات بأدنى الإتصالِ وقل خيرا أو اصمت وانه عما ... نهاك الشرع من قيل وقالِ ولاتنطق ولاتفعل سواه ... تخير منه واسطة اللآلِ فعاقبة الجميل حميد فوز ... وعاقبة القبيح الى الوبالِ حياتك فانتهزها فهي سوق ... فخذ منها الأطايب والغواليِ فبادر أيها المسكين واغنم ... حياتك قبل تطوى في الرمالِ ¬

_ (¬1) - هذان البيتان (للاديب اسحاق) . (¬2) - سورة قريش الاية (1-4) . (¬3) - أي: الثوالث وهي أجزاء الثانية. (¬4) - الشعث: رأس الجبل.

فلست بمستطيع كسب خير.......إِذا مازلت عن دارِ الزوالِ ولست بمصلحٍ ما أفسدته ... يداك فذاك من صورِ المُحَالِ فَقُمْ بِالفرضِ واجتنب المناهي ... بخ لك إِن وعيت لِذا المقالِ وقال فلا تستبدل الادنى باعلى ... ولاتزن الحقيقة بالخيال وخذ بيتين أهداها حكيم ... حوت جل الفضائل والجمال (اذا ما شئت أن تدعى حكيما ... وتلحق بالرجال ذوي الكمال) (فلاتغتر في الدنيا بشيء ... ولاتخطر لك الدنيا بحال) كتاب الله رتل كل يوم ... وقم متدبرا جنح الليالي فافضل ما به اوصيك هذا ... تنل بكتابه اعلى منال وروض العلم لاتبرحه الا ... لنفع اخيك او كسب العيال (¬1) ¬

_ (¬1) - لوامع من خواطر شواسع, ص (189و190) .

الفصل السابع والاربعون الأطفال

الفصل السابع والاربعون الأطفال

الأطفال

الأطفال الاطفال زينة الحياة وزهرتها, وعماد الأمة في المستقبل واساس مستقبلها, وآمال الشعوب في استعادة مجدها وكرامتها , والاطفال ريحانة القلوب وبهجة النفوس, فطالما تشوقت القلوب لرؤيتهم وانشرحت الصدور لوجودهم, واستبشرت الارواح باستقبالهم, فسبحان من صورهم في الارحام وجعل خلقهم اية تدل على بقاء نوع الإنسان وان اصل خلقه من طين وان الذي خلقه قادر على بعثه بعد الممات يقين وفي الذكر الحكيم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} (¬1) . ويعتبر الطفل انسانا يحترم في دمه وماله وعرضه فقد سواه الله واحياه وجعله زينة للحياة كما خلق ادم من طين واسجد له الملائكة اجمعين فتبارك الله احسن الخالقين القائل: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (¬2) . ويرحم الله شوقي حيث يقول: اُذكُرِ الآيَةَ إِذ أَنتَ جَنين ... لَكَ في الظُلمَةِ لِلنورِ حَنين كُلَّ يَومٍ لَكَ شَأنٌ في الظُلَم ... حارَ فيهِ كُلُّ بُقراطٍ عَلَم كانَ في جَنبِكَ شَيءٌ مِن عَلَقَ ... حينَ مَسَّتهُ يَدُ اللَهِ خَفَق صارَ حِسّاً وَحَياةً بَعدَما ... كانَ في الأَضلاعِ لَحماً وَدَما أَحبِبِ الطِفلَ وَإِن لَم يَكُ لَك ... إِنَّما الطِفلُ عَلى الأَرضِ مَلَك هُوَ لُطفُ اللَهِ لَو تَعلَمُهُ ... رَحِمَ اللَهُ اِمرَءاً يَرحَمُهُ ¬

_ (¬1) - سورة الحج الاية (5) . (¬2) - سورة الحجر الاية (29) .

الطفل ان تلقى الرشاد نما على الخير

عَطفَةٌ مِنهُ عَلى لُعبَتِهِ.......تُخرِجُ المَحزونَ من كُربَتِهِ وَحَديثٌ ساعَةَ الضيقِ مَعَه ... يَملؤ العَيشَ نَعيماً وَسَعَه الطفل ان تلقى الرشاد نما على الخير الطفل ينمو جسداً وروحا وقلبا وعقلا وعواطف وجوارح فاذا نمت هذه القوى فيه نموا متناسبا, وتربى على الفضيلة والخلق الحسن كان فخرا لقومه وزينة لاهله, ونافعا لمجتمعه ونفسه, وعن الطفل نقول: عمر الطفولة نبتة الأزهار ... وزمان ودٍّ طيب الآثارِ حيث الطفولة بالبراءة تبتدي ... أيامها بطهارة الأبرارِ فترى الملائكة الصغار كأنهم ... درر تشع بأجمل الأنوارِ فنشيدهم يجلي الهموم سماعه ... أنغامهم فاقت غنا القيثارِ أُسّ الفضائل في بنا اجسامهم ... واساس بنيتهم بنا الافكارِ يأيها الآباء ان صغاركم ... نور الحياة وآلة الابصارِ فأذا أردتم ان يكونوا امة ... تُعلي البنا في سائر الأمصارِ فاسعوا الى تعليمهم أُسّ البنا ... وأساس كل فضيلة وفخارِ فالطفل ان لقي الرشاد سرى به ... نحو العلا في حكمة ووقارِ واذا تلقى الغي سار بنفسه ... نحو الضلال مواطن الأشرارِ فالعقل يعجب للشروع فلا تكن ... في غفلة عن حكمة الجبّارِ الخالق البر الرحيم إلهنا ... ملك الملوك البارِي وقل السلام على ثرا أطفالنا ... نبت الحياة ومهبط الأسرارِ ثم الصلاة على النبي وآله ... وصحابه بعشية ونهارِ

اما العلامة عبد الملك عبد الله الجنداري (¬1) فهو يقول: عهد الطفولة زهرة الاعمار ... واساس بنيتها لدى الاعمار فالنبت كل جماله في زهره ... وعلى الاساس تقوم كل الدار والطفل نبع في سواقي اهله ... من حيثما تجري ففيها جار ويصيبه اسن اذا اسنت وان ... نزهت تنزه عن قذى الاقذار يامن يروم ابوة وامومة ... مااسهل الانجاب في الاسحار واشد من حفظ الصغير عن الردى ... فحذار ياهذا والف حذار واحرص على ان تستقيم فانه ... ظل لشخصك قد بدا بازار فالطفل زينة هذه الدنيا فكن ... متزينا من اكرم الاحجار من هنا يجب عدم نسيان حقيقة مهمة وهي أن الإسلام أحدث انقلاباً شاملاً في الحياة البشرية, سواء على مستوى السلوك أو التصور, واستطاع الإنسان من خلالها أن يتحرر من عالم القيود الذي كان يكبله, فالدين الإسلامي هو دين الفطرة, فإذا وجه الطفل إلى حقائق الحياة عرف أن الله وحده هو الخالق, والحديث النبوي يدل على ذلك (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ) (¬2) , والحديث يدل على ان الطفل المولود اذا تلقى الرشاد من والديه اتبعه واصابه وان تلقى الغي اتخذه سبيله, أما مرحلة الكبر فقد دل ¬

_ (¬1) - هو العلامة المحقق المجتهد/ عبد الملك بن عبد الله بن علي الجنداري عضو المحكمة العليا للجمهورية اليمنية عالم واديب وشاعر بليغ يتمتع بالخلق الرضي والسلوك المرضي وله ديوان شعر لم يطبع وهو استاذ محاضر بالمعهد العالي للقضاء وله عدة بحوث قضائية وفقهية طبع بعضها. (¬2) - أخرجه البخاري في صحيحه باب ما قيل في أولاد المشركين حديث (1319) , ومسلم في صحيحه باب معنى كل مولود يولد على الفطرة حديث (2658) , واللفظ للبخاري.

التتبع والاستقراء من قبل العلماء والباحثين أنها مرحلة تفهم لحقائق الأشياء أكثر منها مرحلة تلقين واعتقاد, فالخطورة هو الا يترك لطفل التفكر في خلق السماوات والارض ويوجه نحو خالقه بل يدلس عليه بعبادة غير الله وتزيف حينئذ حريته فيضل في معتقده والعقل كما سبق الإشارة الى ذلك يعجب للشروع وهذا ابو العلى المعري يقول: وَالعَقلُ يَعجَبُ لِلشُروعِ تَمَجُّسٍ ... وَتَحَنُّفٍ وَتَهَوُّدٍ وَتَنَصُّرِ فَاِحذَر وَلا تَدَعِ الأُمورَ مُضاعَةً ... وَاِنظُر بِقَلبِ مُفَكِّرٍ مُتَبَصِّرِ فالطفل يجب ان توجه مداركه بالا يخضع الا لله, وبهذه العزة تبنى الحرية وينتفض عن كاهل حاملها أي طاعة إلا طاعة الله, ولهذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشير إلى هذه الحرية وإلى عدم الانقياد والتبعية إلا لأوامر الله، فقد روى أحمد في المسند قوله: (لا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) (¬1) وفي رواية للبخاري ومسلم عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (لا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ) (¬2) . ¬

_ (¬1) - صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء، حديث (3424) - أحمد في المسند، حديث (3694) - وأورده السيوطي في الجامع الصغير, ورمز له بالصحة، حديث (9903) . (¬2) - السيوطي في الجامع الصغير، حديث (9902) .

الطفل في لغة العرب

الطفل في لغة العرب جاء في المصباح المنير: الطفل الولد الصغير من الانسان والدواب قال ابن الأنباري: ويكون الطفل بلفظ واحد للمذكر والمؤنث والجمع (¬1) وفي المختار: الطفل المولود والجمع أطفال وقد يكون الطفل واحداً وجمعاً مثل الجنب, قال تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا} (النور:31) (¬2) . وقال ابن فارس: طفل: الطاء والفاء واللام اسمٌ صحيح مطرد, ثم يقاس عليه, والأصل المولود الصغير, يقال هو طفل والأنثى طفلة (¬3) . وقال الراغب: الطفل الولد ما دام ناعماً وقد يقع على الجمع قال تعالى: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} (¬4) , وقد يجمع على أطفال (¬5) . ورحم الله البوصيري (¬6) حيث يقول: والنفس كالطفل إن تهمله شَبَّ على ... حُبِ الرضاع وإن تَفطِمه ينفطم ¬

_ (¬1) - المصباح المنير تأليف العلامة أحمد بن محمد بن علي الفيومي المقري الناشر دار الحديث القاهرة الطبعة الاولى 1420هـ 2000م. (¬2) - مختار الصحاح للشيخ الإمام محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي الناشر دار القلم بيروت, لبنان ص394 (¬3) - معجم المقاييس لأبي الحسين احمد بن بن فارس بن زكريا المتوفى سنة395هـ الناشر دار الفكر بيروت الطبعة الثانية 1418هـ1998م ص620 (¬4) - سورة غافر الآية (67) (¬5) - المفردات للراغب ص380 مصدر سابق. (¬6) - هو العلامة شرف الدين البوصيري 608 - 696 هـ / 1212 - 1296 م محمد بن سعيد بن حماد بن عبد الله الصنهاجي البوصيري المصري شرف الدين أبو عبد الله. شاعر حسن الديباجة، مليح المعاني، نسبته إلى بوصير من أعمال بني سويف بمصر، أمّه منها. وأصله من المغرب من قلعة حماد من قبيل يعرفون ببني حبنون. ومولده في بهشيم من أعمال البهنساوية ووفاته بالإسكندرية له (ديوان شعر -ط) ،وأشهر شعره البردة مطلعها: أمن تذكّر جيران بذي سلم شرحها وعارضها الكثيرون، والهمزية ومطلعها: كيف ترقى رقيك الأنبياء وعارض (بانت سعاد) بقصيدة مطلعها (إلى متى أنت باللذات مشغول) .

التسمية الحسن للطفل وتكنيته مما يرفع من معنوياته

قال بعضهم يبقى هذا الاسم للولد حتى يميز ثم لايقال له بعد ذلك طفل بل صبي وحزوّر ويافع ومراهق وبالغ, وفي التهذيب يقال له طفل إلى ان يحتلم. اما الثعالبي في فقه اللغة فقد ذكر بانه: يقال للصبي إذا ولد رضيع وطفل ونقل عن الأئمة أنه مادام في الرحم فهو جنين, فإذا ولد فهو وليد, ثم مادام يرضع فهو رضيع ثم اذا قطع عنه البن فهو فطيم, ثم إذا ثبتت اسنانه فهو مثقر فإذا كان يتجاوز العشر السنين فهو مُترَعرعٌ فإذا كاد يبلغ الحلم او بلغه فهو يافعٌ ومراهقٌ فإذا احتلم واجتمعت قوته فهو حُزور واسمه في جميع هذه الاحوال غلام (¬1) , ولم يحدد الثعالبي زمنا معينا لكل مرحلة من المراحل التي ذكرها. ولكن الامام ابراهيم بن اسماعيل الطرابلسي ذكر ان الولد مادام في بطن امه فهو جنين فإذا ولد سمي صبي فإذا فطم سمي غلاما الى سبع سنين ثم يصير يافعا الى عشر حجج ثم يصير حُزورا الى خمس عشرة سنة وذكر ان من قارب الاحتلام فهو مراهق فإذا بلغ فهو محتلم (¬2) وفي الذكر الحكيم: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬3) . التسمية الحسن للطفل وتكنيته مما يرفع من معنوياته من حق الطفل على ابويه أن يختارا له اسما حسنا جميلا في مبناه ومعناه, وذلك لانه لما كانت الاسماء قوالب للمعاني, ودالة عليها أقتضت الحكمة أن يكون بين هذه الاسماء وبين معانيها ارتباطا وتناسب, وألا يكون الاسم معها بمنزلة الاجنبي المحض الذي لاتعلق له بها, فإن حكمة الحكيم تأبى ذلك, والواقع يشهد بخلافه, بل للاسماء تأثير في المسميات وللمسميات تأثير عن أسمائها في الحسن والقبح, والخفة والثقل واللطافة والكثافة, كما قيل وقل إن أبصرت عيناك ذا لقب ... إلا ومعناه إن فكرت في لقبه (¬4) ولقد أرشدت السنة النبوية إلى ضرورة تحسين أسماء الأبناء, وأمر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الآباء أن يحسنوا تسمية أبنائهم كما جاء في الحديث (من ولد له ولد فليحسن اسمه) (¬5) , وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم قالوا: (يا رسول الله قد علمنا ما حق الوالد على الولد, فما حق الولد على الوالد؟ قال: أن يحسن اسمه وأن يحسن أدبه) (¬6) , ويفهم من هذين النصين أن من حق الطفل على أبيه أن يحسن اسمه, لأن الأسماء القبيحة تؤثر على نفسية الطفل, إذ أن بعض الأطفال يعانون من أسمائهم وقد يلحقهم البؤس والتعاسة بسبب ما يتعرضون له من ¬

_ (¬1) - فقه اللغة وسر العربية تأليف الامام اللغوي ابي منصور عبد الملك محمد الثعالبي ص 242 مطبعة المكتبة التجارية الكبرى بمصر 1354هـ 1936م. (¬2) - كفاية المتحفظ ونهاية المتلفظ في اللغة العربية تعريف الامام الاديب ابي اسحاق ابراهيم بن اسماعيل المعروف بابن الاجدابي الطرابلسي المطبعة الرحمانية بمصر 1287هـ ص12-11. (¬3) - سورة النور الاية (59) . (¬4) - تربية الاطفال في البيت والروضة لمحمد حامد الناصر وخولة عبد القادر درويش ص163 الطبعة الرابعة 1419هـ 1999م مكتبة السوادي التوزيع جدة. (¬5) - مشكاة المصابيح, لمحمد عبد الله الخطيب، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي, بيروت, ط/1405هـ جـ2ص939، حديث (3138) . (¬6) - انظر تيسير المطالب في امالي ابي طالب ص238 مصدر سابق..

الناس وما يصيبهم من الأذى بسبب ذلك, ولأن أول ما يتعلمه الطفل ويحاول كتابته هو اسمه، فإذا كان اسمه جميلاً عاد عليه ذلك بهجة وسعادة, بخلاف ما إذا كان الاسم غير جميل إذ يعرض الاسم القبيح للسخرية والأذى، وكثيراً ما يعاني الطفل من عدم تحسين اسمه، وهي عادة جاهلية حاربها الإسلام ونبذها وعلّم البشرية كيفية تحسين الأسماء. فقد روى أبو داود وابن حبان في صحيحه من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فحسنوا أسماءكم) (¬1) . ويستحب تكنية الصغار بغير كنية النبي تأسيا برسول الله صلى الله عية وآله وسلم فهذا انس يقول قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا بن عشر سنين وأن أمه أم سليم أتت به النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قدم فقالت له هذا أنس غلام يخدمك فقبله وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كناه أبا حمزة ببقلة كان يجتنبها ومازحه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له ياذا الأذنين) (¬2) ولهذة التكنية أثار نفسية رائعة, وفوائد تربوية عظيمة وهي تنمية شعور التكريم والاحترام في نفسية الولد قال الشاعر: ¬

_ (¬1) - أخرجه الإمام أحمد في المسند، من حديث زيد بن خالد الجهني، حديث (21313) - وأبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في تغيير الأسماء، حديث (4948) . (¬2) - الإصابة في تمييز الصحابة، للحافظ أحمد بن علي العسقلاني وبهامشه الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر النميري القرطبي (ت: 462هـ) طباعة دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان الطبعة الأولى سنة 1328هـ. ج1 ص126.

أكنيه حين أناديه لأكرمهُ ... ولا ألقبه والسوأة اللقبُ (¬1) كذاك أدبت حتى صار من خلقي ... إني رأيت ملاك الشيمة الأدبُ وقال أخر: وقد تلتقي الاسماء في الناس والكنى ... كثيرا ولكن لاتلاقي الخلائق (¬2) وهناك فرق بين الاسم والكنية واللقب قال ابن القيم رحمة الله هذه الثلاثة وإن اشتركنت في تعريف المدعو بها فإنها تفترق في امر اخر وهو ان الاسم اما ان يفهم مدحا او ذما او لايفهم واحدا منهما, فإن افهم ذلك فهو اللقب, وغالبا استعماله في الذم ولهذا قال تعالى: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} (¬3) ولا خلاف في تحريم تلقيب الانسان بما يكرهه, سواء كان فيه او لم يكن, واما اذا عرف ذلك واشتهر به كالاعمش والأعرج, اطرط استعماله على السنة اهل العلم قديما وحديثا ونقل عن الامام احمد ان اللقب اذا كان لايعرف الا به فإنه لايكره, واما ان لايفهم مدحا وذما, فإن صدر بأب وام فهو الكنية وان لم يصدر بذلك فهو الاسم (¬4) فيستحب تحسين الاسم والابتعاد عن اللقب. ¬

_ (¬1) - ورد هذان البيتان مستشهداً بهما في كتب النحو كشرح ابن عقيل وغيره, وورد البيت الثاني في حماسة ابي تمام ونسبه الى بعض الفزاريين ولم يعينه. (¬2) - الموسوعة الشعرية للعلامة والأديب والواعظ الخطيب بدر بن عبد الله بن عبد الكريم الناصر, الناشر: دار العاصمة بالرياض الطبعة الأولى 1427هـ2006م , ص353. (¬3) - سورة الحجرات الآية (11) . (¬4) - تحفة المولود لابن القيم تحقيق عبد القادر الارناؤوط دار عالم الكتاب الرياض ص157 طبعة واحد 1412هـ.

تهنئة من رزق طفلا

تهنئة من رزق طفلا ويحسن تهنئة من رزقه الله مولودا لما في ذلك من اظهار السرور والشكر للواهب وما يترتب على ذلك من الود الذي تزرعه التهنئه بين الاسر المسلمة والحب والتآلف وأظهار شكر الخالق الواهب والفرق بين البشارة والتهنئة هو ان البشارة تعني ابلاغ الأب والأم بما تفضل الله به من قدوم المولود, والتهنئة تعني الدعاء بالخير بعد ان علم, ففي التهنئة مشاركة للمسلمين في افراحهم واشعارهم بالسرور لحصول الخير لهم ولهذا فإنه يحسن التهنئة بأن يقال: بورك لك في الموهوب وشكرت الواهب, وبلغ رشده ورزقت بره ففي مسند بن الجعد: قال (قال رجل عند الحسن: يهنيك الفارس فقال الحسن وما يهنيك الفارس لعله أن يكون بقارا أو حمارا ولكن قل شكرت الواهب وبورك لك في الموهوب وبلغ رشده ورزقت بره) (¬1) , وفي ذلك دعاء بالبركة للمولود وشكر للواهب وتضرع لله ان يكون الولد من البارين لآبائهم, وفي ذلك ايضا دفن لأثار الجاهلية الذين كان الناس فيها يقتلون ابناءهم خشية الفقر او خشية العار اذا اكان المولود انثى فكان التمييز العنصري سمة العصر الجاهلي ولهذا جاء القرءان فمحا هذه العادات السيئه ووجه الاباء الى الفطرة السوية قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ ¬

_ (¬1) - مسند ابن الجعد: علي بن الجعد بن عبيد أبو الحسن الجوهري البغدادي, الناشر: مؤسسة نادر- بيروت الطبعة الأولى، 1410 - 1990تحقيق: عامر أحمد حيدر, حديث رقم 3398, والحاوي للفتاوى للسيوطي: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي دار النشر: دار الكتب العلمية - بيروت / لبنان - 1421هـ - 2000م الطبعة: الأولى تحقيق: عبد اللطيف حسن عبد الرحمن باب الصلاة ج1 ص80, والشرح الكبير لابن قدامة ج3 ص590.

أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (¬1) . وبسبب عادات الجاهلية السيئه يروى ان شيخا من الاعراب تزوج جارية من رهطه, وطمع ان تلد له غلاما فولدت له جارية فهجرها وهجر منزلها, وسار يأوي الى غير بيتها, فمر بخبائها بعد حول, واذا هي ترقص بنيتها منه وهي تقول: ما لأبي حمزة لا يأتينا ... يظل في بالبيت الذي يلينا غضبان الا نلد البنينا ... وإنما نأخذ ما أعطينا وفي رواية أخرى للابيات: ما لأبي حمزة لا يأتينا ... يظل في البيت الذي يلينا بل نحن في الارض لزارعينا ... يلبث ماقد زرعوه فينا وأنما نأخذ ما أعطينا فعرف أبوحمزة قبح مافعل وراجع امراته (¬2) , ويروى انه كان لرجل امراتان في داره ولدت احداهن غلاما وولدت الاخرى بنتا-والحسد بين الضرائر معلوم- فكانت ام الغلام اذا رقصت ابنها قالت: عافاني اليوم من الجواري ... من كل سوداء كش بالي لاتدفع الضيم عن العيال وكانت ام الجارية اذا سمعت هذا رقصت ابنتها وقالت: ¬

_ (¬1) - سورة النحل الآية (58-59) . (¬2) - الترقيص والغناء للأطفال عند العرب للاستاذ احمد عبد التواب عوض الناشر دار الفضيلة القاهرة ص91. وقد وردت الرواية الاولى للابيات في العقد الفريد لابن عبدربه والبيان والتبيين للجاحظ, والرواية الاخرى في بهجة المجالس وانس المجالس.

ادب الطفل وتعليمه

تحفظ بيتي وترد العارية ... وما علي ان تكون جارية تمشط رأسي وتكون الفالية ... وتحمل الفاضل من خمارية حتى اذا ما بلغت ثمانية ... أزرتها بنقبة يمانية وانكحتها مروان او معاوية ... اصهار صدق بمهور غالية (¬1) فالتمييز بين الذكر والانثى الذي يقصد منه التنقص من حق الانثى وعدم شكر الواهب قد محته الشريعة الإسلامية كما سبق بيان ذلك فالله هو الواهب قال تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (¬2) . ادب الطفل وتعليمه ادب الطفل وتربيته تعني رعاية نموه في جوانبه الجسمية والعقلية والاجتماعية والدينية وتوجيهها نحو الاصلاح والوصول بها الى الكمال, فإن هذه التربية تحتاج الى تعليم وتدريب وادراك المربي للغرض من تربيته للطفل, ولعل من أهم هذه الاغراض الحصول على العلم والحصول على الرزق والنهوض بالاخلاق من أجل إيجاد المواطن الصالح والمؤمن التقي وليس ذلك بعسير فالطفل خلق ولديه كل المؤهلات التي تمكنه من النمو وعمل المربي تكمن أهميته في أنه يهيؤ الفرد ليكون انسانا تقيا فهو يطبع في ذهن الطفل بفن ومهارة ماينفعه أو يضره ولله در القائل: خير ماورث الرجال بنيهم ... أدب صالح وحسن ثناء ¬

_ (¬1) - انظر في هذا الغرض مؤلفنا حقوق الطفل ص (80-83) طبعه المطبعة القضائية الطبعة الاولى 2009م. (¬2) - سورة الشورى الآية (49-50) .

هو خير من الدنانير والاوراق......في يوم شدة او رخاء تلك تفنى والدين والادب الصالح ... لايفنيان حتى اللقاء اما شوقي فهو يقول: فَرُبَّ صَغيرِ قَومٍ عَلَّموهُ ... سَما وَحَمى المُسَوَّمَةَ العِرابا وَكانَ لِقَومِهِ نَفعاً وَفَخراً ... وَلَو تَرَكوهُ كانَ أَذىً وَعابا فَعَلِّم ما اِستَطَعتَ لَعَلَّ جيلاً ... سَيَأتي يُحدِثُ العَجَبَ العُجابا ويرحم الله ابن عبد البر حيث يقول في أرجوزته: واعلم بأن العلم بالتعلم ... والحفظ والإتقان والتفهم والعلم قد يُرزقه الصغير ... في سنه ويُحرم الكبير فإنما المرء بأصغريه ... ليس برجليه ولا يديه لسانه وقلبه المركب ... في صدره فذلك خلق عجب والعلم بالفهم وبالمذاكرة ... والدرس والفكرة والمناظرة فالتمس العلم وأجمل في الطلب ... والعلم لا يَحسن إلا بالأدب اما العلامة يحيى بن محمد الهادي فهو ينصح ولده فيقول: العلم مجلبة للخير أجمعه ... ودافع عن بنيه الشر والوصبا فالزم عليه صفي الدين تارك ما ... يلهيك عنه تكن من زمرة الأُدبا ولا تخوضن مع الأنذال في لعب ... فساعة عدلت ملىء الفضاء ذهبا من عاش في الجهل أضحى في الورى ذنباً ... فعش بعلمك رأساً لا تكن ذنبا وقد قال ابن الجوزي رحمه الله: (أقوم التقويم ما كان في الصغر) ، فأما إذا ترك الولد وطبعه ومشى عليه ومرن كان رده صعباً، قال الشاعر: إنَّ الغُصُونَ إذا قوَّمتها اعتَدَلَت ... ولا يَلِينَ إذا قَوَّمتَهُ الخُشُبُ

لعب الطفل وراحته مما ينعشه ويشرح نفسه

قد ينفعُ الأدَبُ الأحداثَ في مَهَلٍ.......وليس يَنفَعُ عند الكَبرَة الأدَبُ (¬1) وقال آخر: والطفل يحفظ ما يلقى إليه ولا ... ينساه إذ قلبه كالجوهر الصافي فانقش على قلبه ما شئت من خبر ... فسوف يأتي به من حفظه وافي لعب الطفل وراحته مما ينعشه ويشرح نفسه إن الطفل بحاجة ماسة الى مايقوي عضلاته ويشرح نفسه ومن حسن سياسة الأمم في تربية الاطفال ان ترقصهم بما يلائم فطرتهم التي فطرهم الله عليها فهم بحاجة الى ما يهز جوارحهم ويخفف أجسامهم ويوافق بناءهم الجسمي, فالاصوات المنغمة على نسب منتظم التي ترافق ترقيص الطفل تحقق له قدرا كبيرا من الراحة النفسية والجسمية وللعب أهميته, وخاصة للاطفال؛ فهو يسهم بشكل مباشر وغير مباشر في عملية النمو, ولذلك قيل: اللعب أساس النمو, كما أنه يشبع وينمي غرائز الأبوة والأمومة عند الأطفال, ومن هنا قيل: أمة لالعب لها أطفالها محرومون (¬2) وبهذه الملاطفة النبوية يتعلم المربون كيف يبعدون الأبناء عن سماع فحش القول وذميمة, وكيف يلاطفون أطفالهم في سفرهم وإقامتهم. ¬

_ (¬1) - انظر الطب الروحاني لابن الجوزي: أبو الفرج عبد الرحمن بن علي، تحقيق: أبو هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول، ص59, الناشر: مكتبة الثقافة الذهبية، القاهرة 1406هـ، (¬2) - الألعاب الترويحية الشعبية في المدينة المنورة بحث منشور على صفحات مجلة بحوث ودراسات المدينة المنورة العدد (11) سنة 1425هـ ص 163وما بعدها- لفضيلة الدكتور عدنان درويش رئيس قسم التربية الرياضية والصحية بكلية التربية بالمدينة المنورة سابقا.

وهذا ابن سعد في الطبقات الكبرى يروي لنا أنه: بعد ولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذه عبد المطلب -جد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمتكفل به- بعد وفاة والده عبد الله وحمله إلى البيت وأخذ يطوف به وأحاطه به بنوه وهو يقول: الحمد لله الذي أعطاني ... هذا الغلام الطيب الأردانِ قد ساد في المهد على الغلمانِ ... أعيذه بالبيت ذي الأركانِ حتى أراه بالغ البنيانِ ... أعيذه من شر ذي شنأنِ من حاسد مضطرب العنانِ (¬1) وهذه حليمة السعدية كانت ترقص النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقول: يا رب إذ أُعطيته فأبقهِ ... وأعله إلى العلا ورقهِ وادحض أباطيل العدا بحقه (¬2) وروي أيضاً أن الشيماء بنت الحارث أخت النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الرضاعة وكانت أكبر منه سناً كانت ترقصه فتقول: هذا أخ لي لم تلده أمي ... وليس من نسل أبي وعمي فأنمه اللهم فيما تنمي ¬

_ (¬1) - الطبقات الكبرى لابن سعد ج1ص64. (¬2) - انظر: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر ج4ص52, وانظر أيضا: ترجمة حليمة السعدية في الإصابة وأنساب الأشراف وذخائر العقى من مناقب ذوي القربى الطبعة الأولى ص259.

وقد كانت فاطمة الزهراء رضوان الله عنها ترقص ابنها الحسن بن علي رضي الله عنهما وتقول: إن بني شبه النبي ... ليس شبيه بعلي وهذه أسماء بنت أبي بكر ترقص ولدها عبد الله فتقول: ابيض كسيف الحسام الابريق ... بين الحواري وبين الصديق ظني به ورب ظني تحقيق ... والله أهل الفضل اهل التوفيق إن يحكم الخطبة يعى المسليق ... ويفرج الكربة في ساع الضيق (¬1) وهذه أم الفضل بنت الحارث الهلالية ترقص ابنها عبد الله بن العباس رضي الله عنهم وكانت تتوسم فيه علائم السؤدد والشرف والعلم خاصة وأن النبي صلى الله علية واله وسلم دعاء له بالعلم والفقة فتقول: ثكلت نفسي وثكلت بكري ... إن لم يسد فهرا وغير فهر بالحسب العد وبذل الوفر ... حتى يوارى في ضريح القبر وهذا ابن سيناء في أرجوزته في الطب يسرد بعض النصائح في تربية الاود فيقول: الزمه ان اردت أن يناما ... مهدا وطيأ يؤد الظلاما الزمه في يقظته الضياء ... كما يرى النجوم والسماء كثر له الالوان بالنهار ... لكي تدربه على الابصار ناغه بالاصوات في تعلم ... كيما تدر به على التكلم ¬

_ (¬1) - الترقيص والغناء للأطفال عند العرب أعداد أحمد عبد التواب عوض الناشر دار الفضيلة القاهرة ص49.

فلعب الأطفال في غير إسراف ولا مضيعة محبب مشروع, ألا ترى أن أخوة يوسف طلبوا من والدهم يعقوب أن يرسل معهم يوسف يرتع ويلعب ولم ينكر عليهم يعقوب عليه السلام ذلك وإنما أبدى خشيته من الاهمال والتفريط وإليك من القصة شيئا مما ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز وفيه من الحكم والتشويق ماينبهر به اللبيب: {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ *قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ * قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ} (¬1) ومن حق الطفل أن يبنى جسمه بناءً سليما وأن يعطى حظاً من الراحة واللعب والدعابة حتى يشعر بالسعادة ويستعد للإبداع والتفكير. وما أجمل هدير الأطفال ونشيدهم, وهذا شوقي يصف الصغار بحلوان في فرحهم ولعبهم فيقول: صِغارٌ بِحُلوانَ تَستَبشِرُ ... وَرُؤيَتُها الفَرَحُ الأَكبَرُ فَهَذا بِلُعبَتِهِ يَزدَهي ... وَهَذا بِحُلَّتِهِ يَفخَرُ وَهَذا كَغُصنِ الرُبا يَنثَني ... وَهَذا كَريحِ الصَبا يَخطِرُ إِذا اِجتَمَعَ الكُلُّ في بُقعَةٍ ... حَسِبتَهُمو باقَةً تُزهِرُ أَوِ اِفتَرَقوا واحِداً واحِداً ... حَسِبتَهُمو لُؤلُؤاً يُنثَرُ فَلاسِفَةٌ كُلُّهُم في اِتِّفاقٍ ... كَما اِتَّفَقَ الآلُ وَالمَعشَرُ ¬

_ (¬1) - سورة يوسف الآية (11-14) .

دَسَمبِرُ شَعبانُ عِندَ الجَميعِ.........وَشَعبانُ لِلكُلِّ ديسَمبِرُ وَلا لُغَةٌ غَيرَ صَوتٍ شَجِيٍّ ... كَرَوضٍ بَلابِلُهُ تَصفِرُ وَلا يَزدَري بِالفَقيرِ الغَنِيُّ ... وَلا يُنكِرُ الأَبيَضَ الأَسمَرُ فَيا لَيتَ شِعري أَضَلَّ الصِغارُ ... أَمِ العَقلُ ما عَنهُمو يُؤثَرُ سُؤالٌ أُقَدِمُهُ لِلكِبارِ ... لَعَلَّ الكِبارَ بِهِ أَخبَرُ وقال المُعلّي الطائي: لولا بُنيّات كزغْب القطَا ... رددن من بعْض إلى بَعْض لكان لي مُضطَرَب واسعٌ ... في الأرض ذاتِ الطّول والعَرْض وإنما أولادُنا بيننا ... أكبادُنا تمشي على الأرض إن هَبَّت الريحُ على بَعْضهم ... لم تَشْبع العينُ من الغَمْض

الفصل الثامن والاربعون التوبة

الفصل الثامن والاربعون التوبة التوبة التوبة تجعل من الانسان شخصا سويا قادرا على ان يتحمل اعباء المسؤلية, والتوبة تفتح بابا للانسان يتصالح مع ربه ومع نفسه ومع اهله ومع مجتمعه, يحب الخير ويحب الرجوع الى الحق ويحب الشفاء من سقم المعصية, والتوبة في حقيقة اللغة هي الرجوع, واذا اضيفت التوبة الى الانسان اريد بها رجوعه عن الزلات والندم على فعلها فقد يضل ضال في فهم نصوص الاستغفار فيخيل ليه ان المغفرة متيسرة للانسان الخاطئ بلا نظام مهما فسق واقترف من الاثام, والامر ليس كما يظن هذا الظان فليست التوبة كلمات ترددها الشفة بلاندم على ماسبق وبلاارتداع عما يسؤ وبلا عزم اكيد على الاستقامة. ولهذا فانه يشترط لنيل مغفرة الله ورضوانه التوبة النصوح, والتوبة النصوح تعني: الاقلاع عن الذنب في الحاضر, والندم على مابدر في الماضي, والعزم على عدم اتيانه في المستقبل, واذا كانت المعصية بحق ادمي فلها شرط يضاف الى هذه الشروط الثلاثة المتقدمة وهو: البرؤ من حق صاحبها ويجب على الانسان العاقل ان يتوب من جميع الذنوب وفي الذكر الحكيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬1) . وفي الحديث النبوي عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ ¬

_ (¬1) - سورة التحرير الاية (8) .

التوبة فرض عين

بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا) (¬1) قال ابوالعتاهية: يا نَفسُ توبي قَبلَ أَن ... لا تَستَطيعي أَن تَتوبي وَاستَغفِري لِذُنوبِكِ الرَ ... حمَنَ غَفّارَ الذُنوبِ أَمّا الحَوادِثُ فَالرِيا ... حُ بِهِنَّ دائِمَةُ الهُبوبِ وله ايضا: لَهَونا لَعَمرُ اللَهِ حَتّى تَتابَعَت ... ذُنوبٌ عَلى آثارِهِنَّ ذُنوبُ فَيا لَيتَ أَنَّ اللَهَ يَغفِرُ ما مَضى ... وَيَأذَنُ في تَوباتِنا فَنَتوبُ وقال محمود الوراق: قَدِّم لِنَفسِكَ تَوبَةً مَرجُوَّةً ... قَبلَ المَماتِ وَقَبلَ حَبسِ الأَلسُنِ بادِر بِها عُلَقَ النُفوسِ فَإِنَّها ... ذُخرٌ وَغُنمٌ لِلمُنيبِ المُحسِنِ وقال اخر: خذ من شبابك قبل الموت والهرم ... وبادر التوب قبل الفوت والندم واعلم بانك مجزي ومرتهن ... فراقب الله واحذر زلة القدم (¬2) اما ابن عبدربه الاندلسي فهو يقول: بادِرْ إِلى التَّوبَةِ الخَلصاءِ مُجْتَهِداً ... وَالمَوْتُ وَيْحَكَ لم يَمْدُدْ إِليكَ يَدا وَارْقُبْ مِنَ اللَّهِ وَعْداً لَيْسَ يُخْلِفُهُ ... لا بُدَّ ِللَّهِ مِنْ إِنْجازِ ما وَعَدا التوبة فرض عين التوبة نور يشرح الله بها الصدور, ويرفع الوزر الذي يقصم الظهور, فبادر اليها ولا تكن مسوفا مغرورا فهي فرض عين في حق كل شخص مكلف, وكل بشر لايخلو عن معصية بجوارحه, وفي الحديث النبوي (كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ) (¬3) وفي الذكر الحكيم: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬4) . فلايخلو إنسان من مقارفة ذنب او الهم به, فالقلب لايخلو من ذنب او وسوسة شيطان او ظن سيء او توارد خواطر متفرقة تذهل عن ذكر الله تعالى, ومن ذا الذي خلى عن الغفلة والقصور اومن ذا الذي يخلو عن الشهوات ومقارفة العادات السيئات في كل الاوقات, وقد حكى الله عن ابليس (لاحتنكن ذريته الا قليلا) وقديما قيل: فلاتحسبن هندا لها العذر وحدها ... سجية نفس كل غانية هند فسارع اخي الى تبديل الحركات المذمومة بالحركات المحمودة, ولايتم ذلك الا بالتوبة النصوح, الخالصة لله عن الشوائب, حتى تنصلح الأحوال, وتنشرح الصدور, ويظهر السرور, وتضاعف الاجور وتكون محببا مشكورا ¬

_ (¬1) - مسلم في صحيحه حديث رقم (4954) (¬2) - هذان البيتان في الموسوعة الشعرية منسوبة ل (محمد بن وسيم الطليطلي) . (¬3) - ابن ماجة في سننه باب ذكر التوبة حديث رقم (4241) . (¬4) - سورة النور الاية (31) .

فوائد التوبة واثارها

وتدبر في قول اللطيف الخبير: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (¬1) . فالتوبة يمحو الله بها الذنب ويصلح بها العبد. قال الشاعر: يارب بك استجير ومن يجير سواك ... فارحم ضعيفا يحتمي بحماك يارب قد اذنبت فاقبل توبتي ... من يغفر الذنب العظيم سواك وقال اخر: انت الذي تهب الكثير وتجبر ... القلب الكسير وتغفر الزلات وتقول هل من تائب مستغفر ... اوسائل اقضي له الحاجات وفي الذكر الحكيم يقول العزيز الحكيم: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (¬2) . وفي سورة النصر يقول الغفور الرحيم: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} (¬3) فسبحان من يقبل التوبة عن عباده, ويضاعف لمن تاب اجره وثوابه, وفي سورة الشورى النبأ اليقين عن قبول العزيز الرحيم توبة التائبين: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (¬4) وفي سورة التوبة البشرى للتائبين المؤمنين: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (¬5) . فوائد التوبة واثارها للتوبة منافع جليلة, وفوائد كثيرة, وخيرات وفيرة, يتجلى الله على التائب برضوانه واحسانه ويبسط له يده في ليله ونهاره, ويفتح له ابوب رحماته, فتدركه نعمه, وتوبة المرء تدل على سعادته وانعامه, وانشراح صدره واكرامه, الا ترى ان ادم عله السلام تلقى كلماة من ربه فتاب عليه واكرمه, واصطفاه وعافاه, فالتائب من خيار الناس, تزيل التوبة الصدى من قلبه, والعمى من بصره, ويُقبل الله على التائب ويفرح به, وفي الحديث النبوي: (للَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ وَقَدْ أَضَلَّهُ فِي أَرْضِ فَلَاةٍ) (¬6) وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (جَالِسُوا التَّوَّابِينَ فَإِنَّهُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً) (¬7) وقال علي بن ابي طالب رضي الله عنه (عجباَ لمَن يَهْلك ومعه النجاةُ) قيل له: وما هي؟ قال: (التوبة والاستغفار) (¬8) ومن فوائد التوبة ان التائب يغير صفائح اعماله باحسن منها ويشيد الصالحات, ويبتعد عن السيئات, فهو يامل ان ينال من خيرات الله وكرمه, فيحسن الى نفسه والى مجتمعه, وربما تقوده عناية الله الى دخول الجنة, فالتوبة تكون سببا لغفران الماضي والاحسان في المستقبل, وقد سؤل الامام الشافعي رضي الله عنه: ايهما افضل: الكافر اذا اسلم؟ ام العاصي اذا تاب؟ قال الامام: العاصي اذا تاب, لان الكافر اذا اسلم ينتقل من درجة الجهل بالله الى درجة العلم بالله, اما العاصي اذا تاب فينتقل من درجة العلم بالله الى درجة محبة ¬

_ (¬1) - سورة البقرة الاية (222) . (¬2) - سورة طه الاية (82) . (¬3) - سورة النصر الاية (3) . (¬4) - سورة الشورى الاية (25) . (¬5) - سورة التوبة الاية (112) . (¬6) - البخاري في صحيحه باب التوبة حديث رقم (5834) . (¬7) - جامع الاحاديث باب مسند عمر بن الخطاب حديث رقم (29808) . (¬8) - العقد الفريد, ج/1 ص318.

التوبة من اهم الدعائم الخلقية فسارع اليها

الله (¬1) . ومن فوائد التوبة ومنافعها ان التائب يوسع على نفسه, ويزيل الضيق والحرج من صدره, ويذهب الهم والكرب من قلبه, ويكون مخلصا لله في عبادته, يتبع السيئة الحسنة, ولهذا فان الرسول صلى الله عليه واله وسلم يامر بالتوبة ويحث عليها, ففي الحديث النبوي: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ) (¬2) . التوبة من اهم الدعائم الخلقية فسارع اليها التوبة من اهم الدعائم الخلقية فسارع اليها فكل تاخير فيها هو انحلال في الشخصية الانسانية, وكل اسراع وصدق فيها هو اصلاح للنفس, وسبب قوي للقضاء على الشر, فالتوبة يجب ان تكون عقب ارتكاب المعصية, فلا سبيل الى طلب المغفرة الا بالاستغفار ثم بالتوبة, قال تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} (¬3) ويقول: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا* وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (¬4) . قصة في الحديث النبوي جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَقِيتُ امْرَأَةً فِي الْبُسْتَانِ فَضَمَمْتُهَا إِلَيَّ وَبَاشَرْتُهَا وَقَبَّلْتُهَا وَفَعَلْتُ بِهَا كُلَّ شَيْءٍ غَيْرَ أَنِّي لَمْ أُجَامِعْهَا قَالَ فَسَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} قَالَ فَدَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِ فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَهُ خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ كَافَّةً (فَقَالَ بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً (¬5)) وهذه القصة يتبين منها ان الله سبحانه وتعالى يتوب على عباده ويعود عليهم بالرحمة والاحسان, فهو الذي يقبل التوبة ويعفو عن السيئات فما على الإنسان الا ان يتوب الى الله ويتبع السيئة الحسنة تمحها ولا يكون من المقصرين حتى لاتدركه الشدة, ويسوق ربه اليه من البلاء ما يحمله على التوبة او يكون له فتنة, فلا يتوب ولايتذكر, فتدبر قول الحق تبارك وتعالى: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (¬6) . فالله قد يسوق من الشدائد ما يحمل عباده على التوبة, قال الدكتور محمد راتب النابلسي: اذا جاءت توبة الله قبل توبة العبد فتعني الشدائد التي يسوقها للعبد, واذا جاءت توبة الله بعد توبة العبد فتعني قبول التوبة, يحملك على التوبة, ثم يقبل توبتك, فأنت بين دافع الى التوبة وبين قبول لهذهِ التوبة (¬7) . فالله يريد ان يتوب على عباده, فهو التواب الذي يعود بالخير على عباده, وبالاحسان ¬

_ (¬1) - دليل السائلين, ص138. (¬2) - مسلم في صحيحه باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه حديث رقم (4871) . (¬3) - سورة هود الاية (3) . (¬4) - سورة النساء الاية (17-18) . (¬5) - احمد في مسنده, ج9 حديث رقم (4029) . (¬6) - سورة التوبة الاية (126) . (¬7) - اسماء الله الحسنى ج/2ص604.

اليهم, وبالعفو عنهم, والاكرام لهم, وأنت بحاجة الى رحمة الله والى عفوه والى كرمه والى احسانه, فانت بحاجة الى ربك التواب الذي يريدك ان تتوب ليتوب عليك, فمن رجع وتاب فقد اصطلح مع الله واليه اناب, وفي الذكر الحكيم: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} (¬1) . اما اذا امد الله امد امة بصحة جيدة وامطار غزيره وبلاد جميلة وهم غارقون في شهواتهم وملذاتهم في سكرهم وانحرافهم يتطاولون على الحق, ويؤذون الخلق يفسدون ولايصلحون ولايتوبون ولايتذكرون فانهم يكونون مستحقين للعقاب والعذاب, وانما يتوب الله على من عاد اليه, واعتذر وبين واصلح, فمن تاب من بعد ظلمه واصلح فان الله يتوب عليه ويصلح, قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (¬2) . فتعرف اخي على اسم الله التواب يفتح لك الابوب ويضاعف لك الثواب ويصرف عنك العذاب ويعود عليك برحمته واحسانه وكرمه وامتنانه, فالرزق من التواب والامطار من التواب عاد به علينا والهواء الذي تستنشقه من التواب عاد به علينا واذا تاب العبد الى الله بسؤاله تاب الله عليه بنواله. التواب من اسماء الله الحسنى ¬

_ (¬1) - سورة النساء الاية (27) . (¬2) - سورة البقرة الاية (160) .

ثمرة معرفة اسم لله التواب

التواب من اسماء الله الحسنى جاء في كتاب الله مقترنا باسم الله الرحيم والحكيم وورد ذكره في القرآن احدى عشرة مرة منها قوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (¬1) وقوله تعالى: {وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (¬2) وقال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (¬3) وقولة تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} (¬4) وقوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} (¬5) وجاء في السنة النبوية في حديث ابي هريرة عند الترمذي ان النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً غَيْرَ وَاحِدٍ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ وعد منها (التواب) (¬6) ومعنى اسم الله التواب, اي الذي يعود على عباده بالخيرات ويعود على عباده بالاحسان, وبالرحمة والغفران, والتواب فعّال من ابنية المبالغة فهو سبحانه وتعالى كثير التوبة على عباده فمن تاب اليه من عباده المذنبين ترك مجازاته بإنابته الى طاعته, فهو الذي يعود على عباده بالرحمة والاحسان والعفو والانابة, وقال الخطابي: التواب هو الذي يتوب على عباده فيقبل توبتهم كلما تكررت التوبة تكرر القبول، وهو يكون لازما ويكون متعديا بحرف يقال: تاب الله على العبد بمعنى وفقه للتوبة فتاب العبد كقوله: (ثم تاب عليهم ليتوبوا) ومعنى التوبة عود العبد إلى الطاعة بعد المعصية (¬7) وفي المقصد الاسنى للغزالي: (التواب) هو الذي يرجع إلى تيسير أسباب التوبة لعباده مرة بعد أخرى بما يظهر لهم من آياته ويسوق إليهم من تنبيهاته ويطلعهم عليه من تخويفاته وتحذيراته حتى إذا اطلعوا بتعريفه على غوائل الذنوب استشعروا الخوف بتخويفه فرجعوا إلى التوبة فرجع إليهم فضل الله تعالى بالقبول (¬8) . اما ابن قيم الجوزية فهو يقول: وَكَذَلِكَ التَّوَّابُ مِن أوصَافِهِ ... وَالتَّوبُ فِي أوصَافِهِ نَوعَانِ إذنٌ بتَوبَةِ عَبدِهِ وَقَبُولِهَا ... بَعدَ المَتَابِ بِمِنَّةِ المَنَّانِ ثمرة معرفة اسم لله التواب اذا عرف المكلف ان الله سبحانه وتعالى هو التواب الحكيم الرحيم الذي يتوب على التائبين ويغفر ذنوب المذنبين وأنه الذي يوفق من شاء للتوبة والانابة وأنه الذي يقبل التوبة ويعفو عن السيئات وجب عليه ان يؤمن به وان يتوب الى الله من جميع ذنوبه وأخطائه وان يسأل الله التوبة والعفو والغفران فهو التواب الذي يقبل الدعاء بالاجابة والعطاء والاعتذار بالاستغفار والانابة بالاجابة والتوبة بغفران الحوبة, فاذا تاب العبد الى الله ¬

_ (¬1) - سورة البقرة الاية (36) . (¬2) - سورة البقرة الاية (160) . (¬3) - سورة التوبة الاية (104) . (¬4) - سورة النور الاية (10) . (¬5) - سورة النصر الاية (3) . (¬6) - الترمذي في سننه حديث رقم (3428) . (¬7) - الاسماء والصفات للبيهقي, ص 141. (¬8) - المقصد الاسنى للغزالي, ص139.

دعاء الله باسمه التواب

بسؤاله تاب الله عليه بنواله, ومن كان هذا حاله فانه ينبغي عليه ان يحث المسيئ على التوبة ويحرضه على الاوبة, واذا كان الله تعالى يقبل التوبة عن عباده بعد اجترائهم عليه فحري بالعبد ان يقبل معاذير الخلق ممن اساء اليه, وندم من جرأته عليه ولو مرة بعد اخرى, ففي الحديث (التائب من الذنب كمن لاذنب له) فكما تحب ان يقبل الله توبتك فكن حريصا على قبول توبة الاخرين والعفو عن المذنبين تكن من المحسنين فاقبل معاذير التائبين فذلك خلق كريم, وكن حريصا على اكتساب الحسنات, ومؤاساة ذوي الحجات, واقالة العثرات, فذلك دليل على التوبة النصوح, واكتمال الايمان, الا ترى ان الله سبحانه وتعالى يقول: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (¬1) . دعاء الله باسمه التواب ياالله ياتواب يارحيم ياعفو ياغفار ياكريم اسألك ان تتوب علي توبة من اتاك من النادمين وان تغفرلي جميع ماعلمته مني من الذنوب ياخير الغافرين, ياتواب يارحيم ياكريم انت الذي تقبل توبة التائبين فتب علي وعلى والدي وجميع المؤمنين, واصلح لي جميع امور الدنيا والدين, واكفني شرور المذنبين والخلق اجمعين, واسألك ياالله ان تغفرلي كل شيء ولاتسألني عن شيء, واسألك ياالله ياتواب ياوهاب يارحيم ياكريم الفردوس الأعلى في الجنة مع ¬

_ (¬1) - سورة التوبة الآية (11) .

النبيين والصديقين والشهداء والصالحين, {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬1) {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (¬2) . وصلِّ اللهم وسلم على محمد وعلى آل محمد كما صليت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم في العالمين انك حميد مجيد. وقد: (كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ دِقَّهُ وَجِلَّهُ وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ وَعَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ) (¬3) وكان يقول (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي هَزْلِي وَجِدِّي وَخَطَايَايَ وَعَمْدِي وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي) (¬4) ¬

_ (¬1) - سورة الاعراف الاية (23) . (¬2) - سورة البقرة الاية (128) . (¬3) - مسلم في صحيحه, حديث رقم (745) . (¬4) - البخاري في صحيحه, حديث رقم (5920) .

الفصل التاسع والاربعون الموت

الفصل التاسع والاربعون الموت

الموت

الموت الموت راحة من التعب, وتوقف عن المعاناة والنصب, به تنتهي مرحلة الإبتلا, وتبتدي مرحلة الثواب والجزاء, والموت عظة واعتبار, ودليل على قدرة القوي القهار, وفي الذكر الحكيم: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (¬1) وفي الحديث النبوي الشريف: (عش ما شئت فإنك ميت واحبب من أحببت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك مجزي به -وفيه - شرف المؤمن قيام الليل وعزه استغناؤه عن الناس) (¬2) فمن تذكر الموت احسن العمل, وابتعد عن الكسل, وأحب فعل الخيرات واجتناب المقبحات, وراى في الموت راحة من التعب, ونجاة من الوصب, واستبشر لقدومه واستعد, قال العلامة محمد بن احمد المهدي (¬3) : ألآ مرحبا بالموت ياخير نازل ... لمن كان يحيي ليله بالنوافل وماالموت الا راحة من متاعب ... واهوال دهر زعزعت كل فاضل ¬

_ (¬1) - سورة الملك الآيتان (1-2) . (¬2) - المستدرك للحاكم حديث رقم (7921) . (¬3) - هو والد المؤلف العلامة الزاهد الورع التقي المجتهد محمد بن احمد بن قاسم المهدي من مواليد مدينة حبور شمال صنعاء في شهر شوال 1329هـ والمتوفى في شهر محرم 1414هـ. كان اية في الزهد والورع, تلقى تعليمه في هجرة معمرة في الاهنوم شمال صنعاء وفي مدينة السودة وكان كثير الصدقة محبا للفقراء والمساكين يقضي جل اوقاته في المحافظة على الذكر وقراءة القرآن وكتب الحديث والفقه والتاريخ, وعاش جل عمره اماما وخطيبا للجامع الكبير بمدينة حبور, وتولى الاوقاف فترة من الزمن وعمالة الناحية واشتغل بالتدريس والوعظ واخيرا ادارة المعهد العلمي بمدينة حبور. وله ديوان شعر غير مطبوع اكثره في الرثاء والدعاء, وله كتيب دون فيه بعض الاحداث والسيرة الذاتية له سماه لمحات وخواطر من الماضي والحاضر, فرضي الله عنه ورحمه.

وقال اخر: كفا واعظا بالموت للمتكاسل ... ومذكِّرا للقاعد المتغافل اما ابو العتاهية فهو يقول: وَما هُوَ إِلّا المَوتُ يَأتي لِوَقتِهِ ... فَما لَكَ في تَأخيرِهِ عَنكَ مَدفَعُ وله ايضا: وَما المَوتُ إِلّا رِحلَةٌ غَيرَ أَنَّها ... مِنَ المَنزِلِ الفاني إِلى المَنزِلِ الباقي وقال ابو الفضل الوليد: فما الموتُ إِلا راحةُ الجسمِ في الثَّرَى ... وما اليأسُ إِلا أن تعيشَ وتجمَدا اما ابو بكر الصديق رضي الله عنه فهو يقول: كُلُّ امرئٍ مصبحٌ في أَهلِهِ ... وَالمَوت أَدنى مِن شِراكِ نَعله وقال اخر: ومن لم يمت بالسيفِ ماتَ بغيرهِ ... تنوعتِ الأسبابُ والموت واحِدُ (¬1) اما شيخ الاسلام ابن تيمية فهو يقول: تموت النفوس باوصابها ... ولم يدر عوادها ما بها وما انصفت مهجتي تشتكي ... اذاها الى غير اربابها ويقول اخر وَيَموتُ راعي الضَأنِ عِندَ ثُمامِهِ ... مَوتَ الطَبيبِ الفَيلَسوفِ العالِمِ ¬

_ (¬1) - ينسب هذا البيت لـ (ابن نباتة السعدي) وينسب لغيره.

الموت تحفة المؤمن

ويقول المتنبي: يَموتُ راعي الضَأنِ في جَهلِهِ ... مَوتَةَ جالينوسَ في طِبِّهِ الموت تحفة المؤمن يتذكر المؤمن الموت فيعمل صالحا في حياته, ويسعى لتحصيل ما ينفعه عند مماته, فهو يحب لقاء الله ويحب الله لقاءه, وفي الحديث النبوي (تحفة المؤمن الموت) (¬1) فتلقه اخي بالرضا والسرور اذا نزل حبا للقاء الله عز وجل, فقد روى البخاري ومسلم من حديث عائشة ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ فَكُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ فَقَالَ لَيْسَ كَذَلِكِ وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا بُشِّرَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ فَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ) (¬2) فالموت باب وكل الناس داخله, والموت كأس وكل الناس شاربه, والموت حق وانتقال الى القبر فإما روضة من رياض الجنة بسبب الاعمال الطبية في الحياة او حفرة من حفر النار بسبب الاعمال السيئة, قال الامام علي بن ابي طالب رضي الله عنه: لا دارَ لِلمَرءِ بَعدَ المَوتِ يَسكُنُها ... إِلّا الَّتي كانَ قَبلَ المَوتِ بانيها فَإِن بَناها بِخَيرٍ طابَ مَسكَنُها ... وَإِن بَناها بَشَرٍّ خابَ بانيها ¬

_ (¬1) - المستدرك للحاكم حديث رقم (7900) . (¬2) - البخاري في صحيحه حديث رقم (6026) , ومسلم في صحيحه حديث رقم (4845) والللفظ لمسلم.

وقال اخر: كتبَ الموتَ على الخلقِ فكمْ ... فلَّ مِنْ جَمْعٍ وأفنى منْ دُولْ أينَ نمرودُ وكنعانُ ومَنْ ... ملكَ الأمرَ وولّى وعزَلْ أينَ عادٌ أينَ فرعونُ ومَنْ ... رفعَ الأهرامَ مَنْ يسمعْ يخلْ أينَ مَنْ سادوا وشادوا وبنوا ... هلكَ الكلُّ ولمْ تغنِ القللْ أينَ أربابُ الحجا أهلُ النّهى ... أينَ أهلُ العلمِ والقومُ الأُوَلْ سيعيدُ اللهُ كلاًّ منهمُ ... وسيجزي فاعلاً ما قدْ فعلْ (¬1) اما محمد الحميري فهو يقول: نُراعُ لذكرِ الموتِ ساعةَ ذِكرِهِ ... ونعترضُ الدنيا فنلهُو ونلعبُ وقال اخر: هَل لِلفَتى مِن بَناتِ الدَّهرِ مِن واقِ ... أَم هَل لَهُ مِن حِمَامِ المَوتِ مِن رَاقِ (¬2) ويرحم الله الامام علي حيث يقول: وَلَو أَنّا إِذا مُتنا تُرِكنا ... لَكانَ المَوتُ راحَةَ كُلِّ حَيِّ وَلَكِنّا إِذا مُتنا بُعثِنا ... وَنُسأَلُ بَعدَ ذا عَن كُلِ شَيِّ اما عدي بن الرعلاء فهو يقول: لَيْسَ مَنْ ماتَ فاِستراحَ بِمَيْتٍ ... إنَّمَا المَيْتُ مَيِّتُ الأحياءِ إنَّما المَيْتُ مَنْ يعيشُ ذليلاً ... سِيّئاً بالُهُ قليلَ الرّجاءِ ويقول اخر: لقد أَسمعتَ لوناديتَ حيّاً ... ولكن لا حياةَ لمن تُنادي ¬

_ (¬1) - هذه الابيات لـ (ابن الوردي) . (¬2) - هذ البيت لـ (الممرق العبدي) .

ولو نارٌ نفختَ بها أضاءت...........ولكن أنتَ تنفُخُ في رَمَادِ (¬1) اما العلامة عبد الحميد بن محمد المهدي فهو يقول: الكُلُّ عن دنيا الدَنَاءةِ راحِلُ ... مَن صَدَّها فهْو اللبيبُ العاقلُ مَهْمَا أَرَتْكَ من البشاشِ فإنَّها ... تَسْقِيكَ شهْدًا فيه سُمٌّ قاتلُ بل حُبُّها رأسُ الخطايا مثلما ... قال النبيُّ الطُّهْرُ (طه) الكامل لا تَفْتَتِنْ ياذا الحِجَا بالجَاهِ إنَّ ... الجاهَ مَهْمَا كان يوماً زائل والمال لا تركن إليه لأنه ... قد كان عند سواك فهو المائل انظُرْ إلى مَن كان فيهِ مًنَعَّماً ... ولأجْلِه تأتي إليه قوافل لَمَّا رماه الدهرُ منه بنكبةٍ ... أضحى مَعوْلاً وهْو أمس العائل فالدهرُ ذُو غِيَرٍ فلا تَثِقَنْ به ... في لَحظةٍ تأتيك منه غوائل كَمْ مِن مَلِيكٍ كان يمشي تائهًا ... وبه تَحُفُّ مواكبٌ ومحافل لمّا أتاه الموت لم يُمْهَل ولَم ... تمنعْه أجنادٌ وجيشٌ صائل فالموت وِرْدٌ للجميع وإنه الـ ... ـحق اليقين وما سواه الباطل فاز المشمِّر للعبادة ساقَهُ ... وثوى بقعر جَهَنَّمَ المتكاسل فاعملْ لما بعد الممات فإنما الـ ... أعمالُ تنفعُ يوم يأتي السائل (يا أيها الإنسان إنك كادحٌ) ... كدحًا إلى رب العباد فَنَائِلُ واحذر من التسويف فهو مَضِيْعَةٌ ... للعمر إن الدَّور عندك واصل ¬

_ (¬1) - هذان البيتان لـ (عمرو بن معدي كرب الزبيدي) .

حياتك وموتك لله

حياتك وموتك لله ان حياتك وموتك بيدي الله, فاجعلهما لله تفز في حياتك, وتسعد بمماتك, وتظفر بمرادك, وتكون آمنا في كل اوقاتك, مصلحا في كل تصرفاتك, مخلصا لله في كل اعمالك, سعيدا بحياتك, وسعيدا في مماتك, وفي الذكر الحكيم: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬1) والمؤمن لاينكأ جرحا ولا يقول هجرا ولايتحسر على مافات, ولايخاف مماهو آت, ولايقول (ليت ولو) ولايكون من الحيارى ولا من المترددين ولامن الذين قال الله عنهم: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬2) ولا من الذين حكى الله عنهم: {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (¬3) فالمؤمن يدرك ان الموت والحياة كلها لله, قال الشاعر: فَكَم مِن صَحيحٍ ماتَ مِن غَيرِ عَلَّةٍ ... وَكَم مِن عَليلٍ عاشَ دَهراً إِلى دَهرِ وَكَم مِن فَتىً يُمسي وَيُصبِحُ آمِناً ... وَقَد نُسِجَت أَكفانُهُ وَهوَ لا يَدري وقال اخر: ولا تدري وان ازمعت امرا ... بأي الارض يدركك المقيل ¬

_ (¬1) - سورة الانعام الآية (162) . (¬2) - سورة آل عمران الآية (168) . (¬3) - سورة آل عمران الآية (154) .

الخلود مستحيل فلا تغتر

اما امرؤ القيس فهو يقول: وما تدري اذا يممت ارضا ... بأي الارض يدركك المقيل واذا كان الإنسان لايدري اين يموت ولاما يكسب في غده فحري ان يستعد لقدوم اجله وان يحسن في عمله, وفي الذكر الحكيم: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} (¬1) . الخلود مستحيل فلا تغتر اذا علم العاقل ان الحياة فانية وانه لاخلود وان هناك حياة باقية اكثر من ذكر الموت واحسن الاستعداد له, وكان كريما في خلقه قويا في دينه يدرك انها ماانقضت ساعة من امسه الا بقطعة من نفسه, ولا مضت ساعة من دهره الا بقطعة من عمره, فيغتنم فعل الخير لنفسه واهله ومجتمعه, وهو بذلك يكون سائرا على طريق النجاح, عامرا من امور اخرته ما يحرز به الفلاح, فمن عَمَر آخرتَه بلغ اماله, واستظهر لنفسه, فالرب لايموت, والجزاء لايفوت, فكلٌّ يحصد ما زرع, ويجزى بما صنع, فلا تغرنك صحة نفسك, وسلامة امسك فمدة العمر قليلة, وسلامة المرء مستحيلة, فكلٌّ يجري من امله الى غاية تنتهي اليها مدة امله, وينطوي عليها صحيفة عمله. فزد في حسناتك وأنقص من سيئاتك قبل ان تستوفي مدة الاجل, فالخلود مستحيل, فتقصّر عن الزيادة في السيئات وتذكر هادم الذات ومفرق الجماعات, فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ ¬

_ (¬1) - سورة لقمان الآية (34) .

أَكْيَسُ قَالَ أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَادًا أُولَئِكَ الْأَكْيَاسُ (¬1) وفي الذكر الحكيم: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (¬2) وفي الحديث النبوي (أكثروا من ذكر هادم اللذات فما ذكره عبد قط وهو في ضيق إلا وسعه عليه ولا ذكره وهو في سعة إلا ضيقه عليه) (¬3) وليس ذكر الموت يعني افساد الحياة واساءة العمل فيها, بل للتخفيف من غلوائها وكفكفة الاغترار بها. فاذا اعتدل التفكير فلن تتحول السعة الى فوضى, ولن يتحول الضيق الى سجن, وانما المراد انتزاع الغرور من قلب الإنسان وصرفه عن الفتنة الى النعمة, وان البقاء والخلود مستحيل, ومن ايقن بذلك احسن العمل, وفي امثال العرب: "لكل جنب مصرع, ومن لم يمت عاجلا مات اجلا" وقديما قيل:"الموت باب الاخرة, والموت حوض مورود, والموت مع الناس رحمة" قال الشاعر: وما تؤخر من نفس وان حرصت ... على الحياة اذا ماجاء داعيها (¬4) وقال اخر: وَالناسُ في الدُنيا كَظِلٍّ زائِلٍ ... كُلٌّ إِلى حُكمِ الفَناءِ يَصيرُ فَالناسُ وَالمَلكُ المُتَوَّجُ واحِدٌ ... لا آمِرٌ يَبقى وَلا مَأمورُ ¬

_ (¬1) - ابن ماجه في سننه حديث رقم (4249) . (¬2) - سورة آل عمران الآية (185) . (¬3) - مسند الشهاب حديث رقم (668) . (¬4) - هذا البيت للشماخ بن خليف.

عَجَباً لِمَن تَرَكَ التَذَكُّرَ وَانثَنى.......في الأَمنِ وَهوَ بِعَينِهِ مَغرورُ (¬1) وفي الذكر الحكيم يقول العزيز الرحيم مخاطبا للنبي الكريم: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (¬2) وفي الامثال السائرة:"ليس حي على الزمان بباقي" وقديما قيل:"من حدث نفسه بطول البقاء فليوطن نفسه على المصائب" وفي امثال العرب: "من طال امده نفد جَلَدُه" (¬3) وقال الشاعر: ترجو البَقاءَ بدارِ لا ثَباتَ لها ... فهل سَمِعْتَ بظلٍّ غيرِ منتقلِ (¬4) وفي الذكر الحكيم: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (¬5) وقال سبحانه: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (¬6) قال الشاعر: يُحِبُّ الفَتى طولَ البَقاءِ وَإِنَّهُ ... عَلى ثِقَةٍ أَنَّ البَقاءَ فَناءُ زِيادَتُهُ في الجِسمِ نَقصُ حَياتِهِ ... وَلَيسَ عَلى نَقصِ الحَياةِ نَماءُ إذا ما طَوى يَوماً طَوى اليَومُ بَعضَهُ ... وَيَطويهِ إِن جَنَّ المَساءُ مَساءُ جَديدانِ لا يَبقى الجَميعُ عَلَيهِما ... وَلا لَهُما بَعدَ الجَميعِ بَقاءُ (¬7) اما شوقي فهو يقول: وَلَيسَ الخُلدُ مَرتَبَةً تَلَقّى ... وَتُؤخَذُ مِن شِفاهِ الجاهِلينا وَلَكِن مُنتَهى هِمَمٍ كِبارٍ ... إِذا ذَهَبَت مَصادِرُها بَقينا وَسِرُّ العَبقَرِيَّةِ حينَ يَسري ... فَيَنتَظِمُ الصَنائِعَ وَالفُنونا وَآثارُ الرِجالِ إِذا تَناهَت ... إِلى التاريخِ خَيرُ الحاكِمينا وَأَخذُكَ مِن فَمِ الدُنيا ثَناءً ... وَتَركُكَ في مَسامِعِها طَنينا فكن اخي حريصا على عمارة الحياة بالصالحات فإنهن بعد الممات الباقيات, وتجنب الجزع والجبن والتحسر عند الممات, فالواقع انما ينتاب بعض الضالين من الجزع والجبن والتحسر والعويل وشتى العواطف التي تنتابهم بازاء الموت مما يسيء للانسان انما يعود الى نظرتهم وفهمهم للموت, فهم يظنون انه انتقال من وجود الى عدم, فهم لايدركون حقيقه الموت, وان هذه الحياة الدنيا بما فيها ومن فيها ستكون ذكريات, وان يوما لابد منه ستعود الارواح فيه الى الاجساد, وسيتلاقى فيه الصالحون فيقول بعضهم لبعض ما حكاه الله عنهم: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} (¬8) وسيكون حديثهم عن الضالين والجاحدين: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ *قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ¬

_ (¬1) - هذ الابيات لـ (صفي الدين الحلي) . (¬2) - سورة الانبياء الآية (34) . (¬3) - كنوز الامثال ص 283. (¬4) - هذا البيت للطغرائي. (¬5) - سورة الرحمن الآيتان (26-27) . (¬6) - سورة القصص الآية (88) . (¬7) - هذه الابيات لـ (محمود الوراق) . (¬8) - سورة الطور الآيات (25-28) .

الموت ومفارقة الروح الجسد

وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} (¬1) الموت ومفارقة الروح الجسد الموت ضد الحياة, وقد عد الرماني (¬2) الموت والحتف والمنون والسّام والحمام والردى والحين والثكل والوفاة والهلك وشعوب والمنية الفاظا مترادفة, والموت يعني مفارقة الروح للجسد, فاذا كانت الروح تدْخل في الإنسان بعد تخلقه بدنيا وبعد ان يتخلق المخ في رأسه اي بعد اربعين يوما الا ان الروح هي اول مايخرج من الإنسان عند وفاته, يتلوها موت الدماغ, ثم موت الجسد, فاذا خرجت الروح فقد الجسد بعدها القدرة على الحياة والتفاعل ويفقد طاقته ويتوقف القلب عن الحركة, وفي الذكر الحكيم: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ ¬

_ (¬1) - سورة الصافات الآيات (50-61) . (¬2) - هو ابو الحسن علي بن عيسى بن علي بن عبد الله المعروف بالرماني النحوي المتكلم احد الأئمة المشاهير. جمع بين علم الكلام والعربية مولده في سنة 296هـ وتوفي سنة 384هـ وصنف تفسيرا وله شرح كتاب سيبويه وشرح جمل ابن السراج وصنعة الاستدلال في الكلام وغير ذلك وقال: القمطي له نحو مائة مصنف وانظر في ترجمته وفيات الاعيان لابن خلكان وطبقات النحاة للسيوطي وانظر الالفاظ المترادفة ص26 الطبعة المحمودية بمصر.

الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ* وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (¬1) قال الشاعر: يا أيها الروح التي في جثتي ... أغرقتها في أبحر الآثام لو كنت ذا حزم وعقل كامل ... لم تغترر يا أنوم النوام اطرح بكف الموت أطراف الخطا ... تعل لك الألواح للاسلام واعلم بأن النفس من حزب الهوى ... فاحذرهما تنج من الآثام وقال اخر: يا باكياً فُرقة الأَحبابِ عن شَحَطٍ ... هَلا بكَيتَ فِراقَ الرُّوحِ للبَدنِ نُورٌ تَقَيَّد في طِينٍ إلى أجَلٍ ... وانحاز عَنواً وخلَّى الطينَ في الكفَنِ اما ابن الجنان فهو يقول: هل العلم إلا الروحُ والخلق جثة ... وما الجسم بعد الروح بالمتماسك اما ابن علوي الحداد فهو يقول: فإن الروح من ملكوت غيب ... تنزلها بمتجرها الربيح وإن الجسم من طين وماء ... يميل إلى الحظوظ بكل ريح فوجه حيث شئت فأنت مما ... له وجهت فاختر للمليح وله ايضا: فارجع إلى اللَه في سر وفي علن ... واترك هواك وهي الزاد للسفر فقد دنا سفر لا بد منه إلى ... قبر وبعث وحشر الروح والصور ¬

_ (¬1) - سورة الواقعة الآيات (83-96) .

الروح سر من اسرار الرحمن

اما ابو العتاهية فهو يقول: ياصاحِبَ الروحِ ذي الأَنفاسِ في بَدَنِ ... بَينَ النَهارِ وَبَينَ اللَيلِ مُرتَهَنِ لَقَلَّما يَتَخَطّاكَ اِختِلافُهُما ... حَتّى يُفَرِّقَ بَينَ الروحِ وَالبَدَنِ طيبُ الحَياةِ لِمَن خَفَّت مَؤونَتُهُ ... وَلَم تَطِب لِذَوي الأَثقالِ وَالمُؤَنِ الروح سر من اسرار الرحمن ان روح الإنسان سر من سر الرحمن حير فهمها بني الإنسان فلو كانت الروح مادة او كهرباء او مغناطيس او امواج كهرومغناطيسي او طيف ضوئي او تفاعلات كيماوية لما وجد العلم والمختبرات العلمية الحديثة في هذا العصر صعوبة في قياسها, ومعرفة اهتزازها ومقدار طاقتها ومكان وجودها في جسم الإنسان. ولكن العلم لم يتوصل الى هذه الاثار الدالة على طبيعة هذا الروح وان كان وجود الروح في الإنسان محط اتفاق, واثر الروح تظهر في اعمال الجسد والعقل فهناك مظهر واضح من خلال الطاقة الدافعة في اعماق الإنسان فالعدل والكرم والابتهاج كسلوك ليس مصدره الجسم والدماغ, كما ان دوافع التأمل والايمان والرحمة والحب والرضا, كلها مشاعر كامنة يتفاعل معها العقل والجسد, وكذا الحب والكره والنفور والفرح والحزن والضحك والبكاء هما تفاعلات روحية يدعمها العقل ببعض الذكريات والاحداث ويعبر الجسد عنها, وقد لاحظ بعض الباجثين ان النظر والسمع والشم ثم الشفاة واللمس اعضاء تشترك في ارسال المعلومات الى المخ وهي بدورها ترسلها الى الروح التي تفيض انشراحا وبهجة او العكس, ومما لاريب فيه ان الروح تسكن البدن منذ ان يكون الإنسان جنينا في بطن امه, وقد جاء في الحديث النبوي, (أَنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَهُ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَهُ ثُمَّ يُبْعَثُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيُؤْذَنُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ) (¬1) . وقد سلك بعض الفقهاء المعاصرين منهج دراسة جميع النصوص الشرعية الواردة حول حياة الجنين ونفخ الروح فيه ودرسوا التوفيق والترجيح بين الاحاديث النبوية وتحميل بعضها على بعض ... كما درسوا معطيات التقدم العلمي المعاصر في علم الاجنة ثم خرجوا باستنتاجات فقهية تشير الى ان نفخ الروح في الجنين انما تتم بين اليوم الاربعين والخامس والاربعين من وقت التلقيح وهذا هو اقرب ما تدل علية الاحاديث النبوية الشريفة. (¬2) وفي الذكر الحكيم {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} (¬3) فالانسان جسد وروح ولايعتبر حيا الا اذابقيت الروح في الجسد, وهي وان كانت تعمل متضامنة مع الجسد والعقل وتعتمد على المعلومات التي تجمعها حواس الجسد وتمر بالتحليل والمقارنة من قبل العقل وحين تفضيل الروح لدافع معين فانها توعز للعقل بنوع السلوك المطلوب فهي مستقلة, وقد ذكر بعض الباحثين انه لم يتمكن العلم حتى الآن من تحديد مكان الروح في جسد الانسان وان كان بعض الدراسات الحديثة تميل الى ان الروح مكانها ¬

_ (¬1) - صحيح البخاري للإمام شيخ الحفاظ محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه المولود يوم الجمعة 13 شوال سنة 194هـ810م، (المتوفى سنة: 256هـ870م) ، طبعة مكتبة الايمان المنصورة مصر 1423هـ2003م. حديث رقم (6900) . (¬2) - مؤلفنا حقوق الطفل ص26. (¬3) - سورة الحجر الآية (8295) .

القلب والبعض يرى ان مكانها في العمود الفقري أو ربما هي متوزعة في مناطق متفرقة في جسم الانسان الحي (¬1) , والحق ان الروح من امر الله وقد جاء في الذكر الحكيم: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (¬2) ولم يكشف الرحمن للانسان عن ماهية الروح التي هي من امره ومن روحه ولم يستطع الإنسان ان يتعرف على كنهها وطريقة عملها وكيفية ارتباطها باجزاء الجسم الاخرى وكيفية تاثرها بكل من الجسم والعقل فهي طاقه من امره اودعها الحق سبحانه وتعالى في جسم الإنسان ليكون الإنسان واعيا مسؤلا عما يعمل, عنده القدرة على التمييز بين الخير والشر, وقد وصف الله حال المؤمنين يوم الاحزاب بقوله: {إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} (¬3) وهي لاتعمل الا من خلال الجسد فاذا ضعف جسد الإنسان وضعفت مداركه ضعف عملها لانها لاتعمل الا من خلاله, فقو صلتك بالله تحصل لك القوة والعزيمة والارادة ويحيي الله روحك وجسدك حياة طيبة, وقد تطلق النفس على الروح قال الشاعر: يا خادِمَ الجِسم كمْ تشقى بخِدْمَتهِ ... لِتطلُبَ الرَّبحَ في ما فيه خُسْرانُ أقبِلْ على النَّفسِ فاستكمِلْ فضائلَها ... فأنتَ بالنَّفسِ لا بالجِسمِ إنسانُ ¬

_ (¬1) - فن الاستمتاع ص105. (¬2) - سورة الاسراء الآية (85) . (¬3) - سورة الاحزاب الآية (10) .

قصة لأعرابي

وقد قال ابو الدرداء رضي الله عنه: اذا ذكرت الموتى فعد نفسك كاحدهم. وقال كعب رضي الله عنه: من عرف الموت هانت عليه مصائب الدنيا وهمومها. وقال الحسن رحمه الله: فضح الموت الدنيا فلم يترك لذي لب فرحا. وقال يحيى بن معاذ رحمه الله: لايكره الموت الا مُليم فهو الذي يقرب الحبيب من الحبيب. وقال الربيع بن خيثم رحمه الله: ماغائب ينتظره المؤمن خير له من الموت. قصة لأعرابي قيل لأعرابي اشتد مرضه: انك ستموت, فقال: الى اين يذهب بي بعد الموت؟ قالوا: الى الله, فقال: ويحكم وكيف اخاف الذهاب الى من لاأرى الخير الا عنده؟! وفي الذكر الحكيم: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (¬1) ملك وكل بقبض الارواح اذا كان الموت يعني انقطاع تعلق الروح بالبدن, ومفارقته والحيلولة بينهاما, وتبدل الحال وانتقال من دار الفناء الى دار الخلد, وهو حتم لازم لامناص منه لكل حي من المخلوقات وهو مدرك الإنسان اينما كان قال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} (¬2) قال ابو العتاهية: وَما هُوَ إِلّا المَوتُ يَأتي لِوَقتِهِ ... فَما لَكَ في تَأخيرِهِ عَنكَ مَدفَعُ ¬

_ (¬1) - سورة الانبياء الآية (35) . (¬2) - سورة السجدة الآية (11) .

فاذا اراد الله انتقال الإنسان من هذه الدار ارسل ملك الموت ليقبض روح الإنسان فيموت حينئذ الجسد ويفقد طاقته ويتوقف القلب عن الحركة وتتحلل بعد ذلك اجزاء الجسم في التراب وفي الذكر الحكيم: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} (¬1) فسبحان من خلق الإنسان وخلق له ما في الارض جميعا وجعل له روحاً هي سر من اسراره كما جعل للنبات طاقة تتغذى وتنموا على الماء جعل الانسان يتغذى وينمو بالنبات والحيوان قال احمد شوقي رحمه الله: الروحُ لِلرَحمَنِ جَلَّ جَلالُهُ ... هِيَ مِن ضَنائِنِ عِلمِهِ وَغِيابِهِ وقال ايضا: وَلَم أَرَ حُكماً كَالمَقاديرِ نافِذاً ... وَلا كَلِقاءِ المَوتِ مِن بَينِها حَتما إِلى حَيثُ آباءُ الفَتى يَذهَبُ الفَتى ... سَبيلٌ يَدينُ العالَمونَ بِها قِدما وَما العَيشُ إِلّا الجِسمُ في ظِلِّ روحِهِ ... وَلا المَوتُ إِلّا الروحُ فارَقَتِ الجِسما فسبحان العزيز الرحمن المحيي المميت للانسان القائل في محكم الفرقان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (¬2) فسبحان من احي العوالم بسره, وغمر الموجودات بوافر بره المحيي المميت فتعرف عليه اخي وعلى اسمه المحيي المميت, فانت لاتدري متى ¬

_ (¬1) - سورة النساء الآية (78) . (¬2) - سورة آل عمران الآية (156) .

المحيي المميت من اسماء الله الحسنى

ستموت, ولا باي سبب ستموت ولافي اي مكان سوف تموت, صباحا او مساء ليلا او نهارا ولامن يكون حولك حين تموت وما دام الأمر كذلك فانه ينبغي ان تستعد للموت حتى لاياتيك الا وانت في اعلى درجات الايمان والاستسلام لله المحيي المميت قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (¬1) المحيي المميت من اسماء الله الحسنى المحيي المميت من اسماء الله الحسنى, ورد اسم الله المحيي في القرآن في قوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬2) ولم يرد اسم الله المميت في القرآن اسما وورد في القرآن {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكَثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (¬3) وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ} (¬4) وقد ورد الاسمان الجليلان في سنن الترمذي من حديث ابي هريرة رضي الله عنه. والصفتان فعليتان؛ لان الاحياء والاماتة من فعل الله, والمحيي خالق الحياة ومعطيها لمن يشاء فهو خالق الحياة في كل شيء حي, فاحيا الاجسام بايجاد الارواح فيها, وهو الذي يحيي النفوس بعد موتها يوم البعث والنشور, وهو الذي يحيي القلوب بمعرفته والاقبال عليه, قال تعالى: ¬

_ (¬1) - سورة آل عمران الآية (102) . (¬2) - سورة الروم الآية (50) . (¬3) - سورة الجاثية الآية (26) . (¬4) - سورة ق الآية (43) .

{أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬1) . وهو الذي يحيي الارض بعد موتها قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (¬2) واما المميت فهو مقدر الموت على كل من أماته, ولامميت الا الله, فليس هناك في الكون جهة تقرر إنهآء الحياة الا الله سبحانه فهو الذي قهر عباده بالموت والفناء, فالخلق كلهم يموتون فالطغاة يموتون, والانبياء يموتون, والصالحون يموتون, والاشرار يموتون, والاذكياء يموتون, والاغبياء يموتون, والرجال يموتون, والنساء يمتن, والناس كلهم يموتون, فسبحان من تمدح بالاحياء والاماتة ليعلم الخلق ان الله قادر على التصرف بالإحيآء والإماتة متى شاء ومتى اراد, فالخير كله بيده سبحانه وتعالى. وقال الخطابي: في معنى المحيي: هو الذي يحيي النطفة الميتة فيخرج منها النسمة الحياة ويحيي الأجسام البالية بإعادة الأرواح إليها عند البعث ويحيي القلوب بنور المعرفة ويحيي الأرض بعد موتها بإنزال الغيث وإنبات الرزق وقال في معنى المميت: هو الذي يميت الأحياء ويوهن بالموت قوة الأصحاء الأقوياء: (يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير) (¬3) ¬

_ (¬1) - سورة الانعام الآية (122) . (¬2) - سورة الحديد الآية (17) . (¬3) - الاسماء والصفات ص 134.

ثمرة التعرف على اسم الله المحيي المميت

ثمرة التعرف على اسم الله المحيي المميت اذا عرف المكلف ان الله سبحانه وتعالى المحيي المميت وانه الذي احياه وانه هو الذي سيميته وانه يحيي الاجسام البالية بعد الممات وانه يحيي الارض بعد موتها, وجب عليه ان يؤمن به وان يطلب منه ان يحيي قلبه ويحييه حياة طيبة ويعبده, ويذكره ويشكره على نعمة الحياة, والاماتة كلها لله, وان يكون اكثر رحمة لعباد الله لانه يعلم ان الله وحده يميت الاحياء ويجازيهم, ويوهن بالموت قوة الاصحا, ويحيي الارض بالنبات والامطار والانهار والارزاق, ويحيي القلوب بنور المعرفة, ويحيي الاجسام بالصحة والعافية والهداية, والخروج من ظلمات الجهل والكفر والغفلة والنسيان الى حياة الايمان والذكر والمعرفة والرحمة والانس والصفا وحب الخير للناس وحب الله وعباده المؤمنين وحب كتاب الله وما يحبه الله, وحب العمل والاصلاح, وكراهية كل ماهو ضد ذلك. دعاء الله باسمه المحيي المميت اللهم يامحيي يامميت أحي ماكان لك مني ميتا, أحي قلبي بذكرك واجعلني من الشاكرين لآلائك المتبعين لنبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأحي أمته حياة طيبة انك سميع الدعاء, وأحي فينا شريعتك وأحي قلوبنا ووالدينا والمؤمنين بالايمان والاحسان ياكريم, واسئلك ياالله يامحيي يامميت ان تحيي قلبي بخوفك فقد قسى, وامت فيه البدع والاهواء, واشغلني وعبادك المؤمنين بذكرك الاسنا, وأحي دينك وشريعتك بالصالحين والمتقين

من عبادك المؤمنين واجعلني منهم ياارحم الراحمين ولاحول ولاقوة الابالله العلي العظيم, وصلى الله وسلم على سيدنا محمد النبي الامين وعلى آله الطاهرين وازواجه امهات المؤمنين واصحابه الراشدين, واستجب دعاءنا ياارحم الراحمين.

الفصل الخمسون الصلاة

الفصل الخمسون الصلاة الصلاة الصلاة في الغة: الدعاء بخير ومنه قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} (¬1) وسميت صلاة: لانها صلة بين العبد وربه, وفيها ثناء وتمجيد ودعاء, او هي دعاء نتقرب به الى الله استغفارا لذنب, او شكرا لنعمة, او دفعا لضيم, او قياما بفرض عبادة. كما انها اظهار الحاجة الى المعبود بالقول والعمل, وقد فرضها الله على عباده ليذكرهم بأوامره, وليستعينوا بها على تخفيف مايلقونه من انواع المشقة والبلاء في الحياة الدنيا, كما ان من معانيها الثناء على الله سبحانه بما يستحقه من الحمد والتمجيد. (¬2) وتعتبر الصلاة الركن الثاني من اركان الإسلام بعد الشهادتين وعماده المتين. وتكون الصلاة اما فرضا: كالصلوات الخمس وصلاة الجمعة, واما نوافل: كالرواتب المسنونة, وفي الذكر الحكيم يقول العزيز الرحيم: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ} (¬3) ويقول: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ} (¬4) ويقول: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (¬5) وفي الحديث النبوي: (بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ ¬

_ (¬1) - سورة التوبة الآيتان (103) . (¬2) - روح الدين الاسلامي ص164. (¬3) - سورة البقرة الاية (238) . (¬4) - سورة البقرة الاية (43) . (¬5) - سورة البقرة الاية (110) .

الزَّكَاةِ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ) (¬1) ففي الصلاة خير الدنيا والاخرة فهي جامعة للفضائل وتبعد المصلي عن الفحشاء والرذائل ولله در القائل: ألا في الصلاةِ الخيرُ والفضل أجمع ... لأنّ بها الآراب للهِ تخضعُ وأولُ فرض من شريعة ديننا ... واخر مايبقى اذا الدين يرفع فمن قام للتكبير لاقته رحمة ... وكان كعبد باب مولاه يقرع وقال اخر: وَشاهِدٌ خالِقي أَنَّ الصَلاةَ لَهُ ... أَجَلُّ عِندِيَ مِن دُرّ وَياقوتِ (¬2) اما احمد محرم فهو يقول: ألا إنّ الصلاةَ لَخيرُ زادٍ ... وإنّ الركبَ آذنَ بارتحالِ ويقول ابوا لعلاء المعري: إِركَع لِرَبِّكَ في نَهارِكَ وَاِسجُدِ ... وَمَتى أَطَقتَ تَهَجُّداً فَتَهَجَّدِ في الصلاة راحة وسعادة ان الإنسان معرض للآلام والمحن, فهو بحاجة الى الخروج من معضلاته والخروج من ألآمه والخروج من حيرته, وهو بحاجة الى استدامة النعمة, واتقاء النقمة والاسترواح الى مايجعل الله من يسر وبركة وسكينة, ولن يجد ذلك الا في الصلاة, ففي الصلاة القرب الى الله ولذة المناجاة له سبحانه وتعالى, وفيها الترويح على النفس, وقد كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله ¬

_ (¬1) - مسلم في صحيحه حديث رقم (21) . (¬2) - هذه الابيات لابي العلاء المعري.

الحكمة من الصلاة

وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى) (¬1) وكان يقول: (حُبِّبَ إِلَيَّ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ) (¬2) ان الإسلام نظم وقفات كريمة يناجي الإنسان فيها ربه عدة مرات في اليوم الواحد يستريح فيها من الشقاء والعناء ويمجد فيها ربه ويستعينه ويسترضيه في صلاته التي حدد لها وقتا وزمنا معلوما, قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} (¬3) وقال: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} (¬4) . الحكمة من الصلاة ان المجتمع الانساني بحاجة الى قوة روحية ترفع من نفسية الافراد على وجه الاستمرار الى مُثل عليا, وذلك خشية ان تنحصر روابط الافراد في الحاجات المادية والمصالح الشخصية مما يؤدي الى الفساد في الارض, والصلاة هي التي تمد الجماعة الانسانية بالقوة الروحية التي لابد منها لصلاح المجتمع, اما من الناحية النفسية فالانسان اذا لم تتصل روحه بمبدعها ظهرت فيه مظاهر الوحشة والاكتئاب وعدم القناعة بشيء. وربما ظن ان وحشته واكتئابه حصل من عدم اخذ حظه من الملهيات فالقى بنفسه بين احضانها وجره ذلك الى تعاطي المسكرات, واقتراف المقبحات, والقنوط واليأس عن الخيرات, والاعراض عن فضل رب الارض السماوات, فيكثر الجزع والهلع, ¬

_ (¬1) - سنن ابي داود حديث رقم (1124) . (¬2) - سنن النسائي حديث رقم (3879) . (¬3) - سورة النساء الآية (103) . (¬4) - سورة هود الآية (114) .

وفي القرآن الحكيم: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا* إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} (¬1) من هنا يتبين لنا ان اتصال روح الإنسان بخالقها ولو لحظات في اليوم من الضروريات, ولهذا شرع الله الصلاة في الإسلام, وبهذا يدرك العقل الحكمة من الصلاة, فقد جعلها الله مفرجة للكروب, مزيلة للهموم, ميسرة للرزق مجلبة للخير, ومعينة على البر, وسبباً للرحمة, ووسيلة للراحة, ومفتاحا للصحة, ومزيلة للهلع, وسبباً لتوطين النفس على الثبات وقوة الجاش, لعلم المصلي ان كل شيء من الله جل او دق, وهي وسيلة للركون الى الله, وصلة للانسان بربه, ألا ترى ان الحق سبحانه وتعالى خاطب نبيه بقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ} (¬2) وقد جعل الله الصلاة سببا لنيل السعادة والفلاح في الدنيا والاخرة, فبالصلاة تنصلح الأحوال, وتتحقق الامال, وترتفع الدرجات, وبها يحصل للمؤمن ميراث الفردوس الأعلى من الجنة, قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬3) فمن ترك الصلاة كانت خسارته كبيرة, ومعيشته ضنكة, واحواله غير مستقرة, وعاقبته الخسران المبين, قال الشاعر: خسرَ الذي تركَ الصلاةَ وخابا ... وأبلى مَعاداً صالحاً ومآبا ¬

_ (¬1) - سورة المعارج الآيات (19-23) . (¬2) - سورة الحجر الآيتان (97-98) . (¬3) - سورة المؤمنون الآيات (9-11) .

في الصلاة طهارة القلب والبدن

إِن كان يجحدُها فحسْبُكَ أنه..........أضحى بربكَ كافراً مُرْتابا أو كان يتركُها لنوعٍ تكاسلٍ ... غَطىَّ على وجهِ الصوابِ حجابا وقد قال الله في وصف اصحاب النار عندما يُسألون عن سبب عذابهم: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} (¬1) . في الصلاة طهارة القلب والبدن ان الركض في ميادين الحياة بقدر مايجلل البدن بالغبار والعرق يجلل القلب والروح بالغيوم والاكدار, والانسان اثر كل شوط طويل يحتاج الى ساعة يلم فيها شعثه ويجدد طاقته ويستعيد نشاطه ويعيد النظافة والنظام الى ماتعكر وانتكث من شانه كله, وليست الصلاة الا لحظات لاسترجاع هذا الكمال المفقود او المنشود, ولكنه قبل الدخول فيها يحتاج الى الطهارة البدنية الى الطهارة من الحدث الاكبر والاصغر, ولهذا امر الله الإنسان بالوضوء قبل الصلاة فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬2) فالطهور شطر الايمان, والمرء بحاجة الى طهارة ثوبه وبدنه, ففي ذلك طاعة لربه, وطهارة لبدنه, وراحة لجسمه, وزينة بين اخوانه, وقد افترضه الله الوضوء ليتزين به المرء عند وفوده الى ربه وادائه لصلاته, قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (¬3) ومن الزينة الطهارة والنظافة والتجمل ولبس ثياب طاهرة نظيفة او جديدة, فيشترط في صحة الصلاة طهارة بدن المصلي وثوبه ومكان صلاته وستر عورته, وهي بالنسبة للذَّكَر مابين السرة والركبة, وللانثى جميع بدنها ماعدى الوجه والكفين, فاقرأ اخي باب الوضوء وتمعن في تفهمه, وتروّى في درسه تجد حلاوة الوضوء بهاءً وجمالا ونظافة وكمالا وصحة ونورا, ففي الوضوء والسواك طهارة الفم من الاقذار والجراثيم من الطعام والشراب والمحافظة على الاسنان وحفظها من السوس والوسخ والضرر ونظافتها من الغبار والتراب وحفظ العينين ونظافة الخدين ونضارتها, وفي القرآن الكريم في وصف أهل النعيم: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} (¬4) وفي مسح الرأس زوال العرق وذهاب الوسخ والمحافظة على رونق الشعر وجماله, وفي غسل القدمين وتخليل الاصابع ونظافتها وازالة تفثها واوساخها تجديد نشاطها, وبهذا تعلم ان الله جل وعلى ما افترض الوضوء والطهارة الاسياجا للحكمة وثمرة للصحة وبابا للنظافة, وعنوانا للخير والبر والاحسان والكمال, وفي الحديث النبوي ¬

_ (¬1) - سورة المدثر الآية (42-43) . (¬2) - سورة المائدة الآية (6) . (¬3) - سورة الاعراف الآية (31) . (¬4) - سورة المطففين الآية (24) .

الصلاة تغرس في الانسان الفضيلة وتبعده عن الرذيلة

الشريف: (إِنَّ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ) (¬1) وهل تجد ابدع فائدة للوضوء من ميزة خاصة ونور يتلألؤُ يوم الشدائد والاهول: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬2) واذا ران على قلب الإنسان وروحه من اكدار الذنوب والمعاصي فانه لن يجد مايزيل هذه الغيوم والاكدار الا في الصلاة, وفي الحديث النبوي: (الصلوات الخمس كفارة ما بينها أرأيتم لو أن رجلا كان له مغتسل بين منزله ومعتمله خمسة أنهار فإذا انطلق إلى معتمله عمل ما شاء الله فأصابه الوسخ والعرق فكلما مر بنهر اغتسل ما كان ذلك يبقى من درنه وكذلك الصلوات كلما عمل خطيئة أو ما شاء الله ثم صلى ودعا واستغفر غفر له ما كان فيه) (¬3) . الصلاة تغرس في الانسان الفضيلة وتبعده عن الرذيلة ان طبيعة الإنسان غير مستقرة فهو يتقلب بين الصحة والمرض, والسهو والغفلة, والفقر والغنى, والخير والشر, والانسان بطبيعته يقتحم ساحة الحياة المائجة بمختلف الغرائز والشهوات, فهو يركض في طلب حوائجه وحوائج اسرته وارحامه يبتغي الرزق والمجد, ويسعى لتحقيق وطره وقضاء رغبته, ¬

_ (¬1) - مسلم ف صحيحه حديث رقم (363) . (¬2) - سورة الحديد الآية (12) . (¬3) - جامع الاحاديث, حديث رقم (13824) .

وهو بحاجة الى من يعينه ويرشده ويذكره اعمال البر والايثار والتراحم التي قل ماتبدو صورها النبيلة, وهو بحاجة الى من يهديه الى افضل الاعمال والاخلاق حتى يكون انسانا سويا, وهو بحاجة ايضا الى من يعينه, ويوطن نفسه على الثبات وقوة الجاش, ولن يجد ذلك الا في الصلاة التي يناجي فيها ربه ويثني عليه, فهو الذي يعين ويبصر ويسدد ويوفق ويرزق ويعطي ويمنع, فهو يقف امام ذي القوة والعلم الشامل ليكمل له قصور معرفته, وما يعجز عنه لضعف قواه, يحمده ويمجده ويسترضيه, ثم يسأله بعد ذلك هداية تحفها النعمة ويجانبها السخط, وفي الحديث القدسي قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حَمِدَنِي عَبْدِي وَإِذَا قَالَ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا قَالَ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قَالَ مَجَّدَنِي عَبْدِي وَقَالَ مَرَّةً فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي فَإِذَا قَالَ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قَالَ هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ) (¬1) فالانسان حينما يقوم مبكرا الى صلاة الفجر يكون قد ارتبط بالقوة العظمى التي تهيمن على الكون فيكون قد ارتبط بالله الذي خلقه يمنحه قبسا من العون والنشاط والنور والهدى من اول يومه , ويكون بذلك قد نال ضمانا في يومه يقضي سحابة يومه وهو في حرز منيع لانه ارضى ¬

_ (¬1) - مسلم في صحيحه, حديث رقم (598) .

ربه ولاذ به وطلب حمايته, وفي الحديث النبوي الشريف (مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ فَلَا يَطْلُبَنَّكُمْ اللَّهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ فَيُدْرِكَهُ فَيَكُبَّهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ) (¬1) ان من كان في ذمة الله كان في امن وفي سعادة وكان قويا في خلقه ودينه فكيف بالانسان الذي يحافظ على الصلوات كلها بهمة وعزيمة, انه بلاشك سيكون قاهرا لعدوه الشيطان وصولا للارحام بعيدا عن المنكرات والاثام, قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (¬2) قال الشاعر: طوبى لعبد بحبل الله معتصمه ... على صراط سوي ثابت قدمه رث اللباس جديد القلب مستتر ... في الارض مشتهر فوق السماء سمه مازال يستحقر الدنيا بهمته ... حتى ترقت الى الاخرى به هممه فذاك أعظم من ذي التاح متكئا ... على النمارق محتفا به حشمه (¬3) فتمتع بالصلاة وتذوق لذه المناجاة لله وابتهج وانت تناجي ربك في صلاتك فان لم تكن تراه فانه يراك, فالصلاة اكبر انواع العون على تحصيل الدنيا والاخرة ودفع المفاسد فهي تنهى عن الاثم وتنير القلب وترفع الظلم وتحفظ النعمة, وتكشف الغمة فبادر اليها مستعينا بالله, وفي الذكر الحكيم: ¬

_ (¬1) - مسلم في صحيحه, حديث رقم (1050) . (¬2) - سورة العنكبوت الآية (45) . (¬3) - وردت هذه الابيات في مقامات الزمخشري والموسوعة الشعرية غير منسوبة لقائل وانظر الموسوعة الشعرية ص435.

استقبال عين الكعبة

{وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ* الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (¬1) . استقبال عين الكعبة يشترط لصحة الصلاة ان يتوجه المصلي نحو الكعبة المشرفة امتثالا لامر الله, فهو يستقبلها في صلاته وعند ذلك تتحد وجهة الصلاة عند المسلمين جميعا, اذ لو فوض الامر الى المصلي لغلب على نفسه الاضطراب والحيرة فلا يدري اي الجهات اقرب الى الله, وليشعر جميع المسلمين بتوحد وجهتهم, فكان من حكمة الله ان عين جهه الكعبة التي هي اول بناء قام على الارض لعبادة الله وحده قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} (¬2) وقال تعالى: {جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ} (¬3) وقال: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} (¬4) وليس المقصود من استقبال الكعبة عبادة عينها بل المقصود بذلك هو الله وحده, لأن الشريعة تحكم بالكفر على من يقصد بتوجهه غير الله. ويرحم الله القائل: اذا لم يكن لله فعلُك خالصاً ... فكل بناء قد بنيت خراب (¬5) ¬

_ (¬1) - سورة البقرة الآيتان (45-46) . (¬2) - سورة آل عمران الآية (96) . (¬3) - سورة المائدة الآية (97) . (¬4) - سورة البقرة الآية (144) . (¬5) - نسب هذا البيت لـ (ابن الامير الصنعاني) ونسب ايضا لـ (احمد بن علي مشرف) والله اعلم.

الصلاة في المساجد

الصلاة في المساجد المساجد جمع مسجد, والمسجد: هو الموضع الذي يسجد فيه لله وحده, وكل موضع يتعبد فيه لله فهو مسجد لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا) (¬1) والمساجد دور لعبادة الله ومنارات الهدى واعلام الدين يغشاها المؤمنون ليرتفعوا بها عن اوضار المادة, وليقفوا بين يدي الله ضارعين يؤدون فيها الفرائض, ويخلفون الدنيا وما فيها وراء المناكب, ويتزاحم فيها العابد والتائب, ويلتقي فيها القريب والبعيد, والفقير والغني فاذا هم سواسيه امام عظمة الله يركعون ويسجدون وبحمده يسبحون, وفي الذكر الحكيم: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ* رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (¬2) وتعتبر المساجد ملتقى المؤمنين بها تتعلق قلوبهم وفيها تسموا ارواحهم وتتوحد صفوفهم وفيها يؤدون صلاتهم, ويعظمون ربهم ويجسدون وحدتهم, ومن المسجد انطلق المصلون من الصحابة والتابعين فأضاؤوا الدنيا عدلا ونورا, فهي مجمع المتقين, المشي اليها يرفع الله به الدرجات, ويمحو به الخطيئات, ويضاعف به الحسنات, وفي الحديث النبوي: (بَشِّرْ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (¬3) فما اجمل صلاة الجماعة فيها, حيث يجتمع المسلمون في مكان واحد يحيي بعضهم بعضا, يتئالفون, ويتوادون, ويتحابون, في محل تحل فيه الألفة والمودة والمحبة, وطلب الامن من الله والطمأنينة والسلامة والانس, ففي صلاة الجماعة شعار الوحدة والتوحد, وفي اقامة صفوف المؤمنين وتراصها نيل ثواب الله رب العالمين, وسبب لادراك رحمته, ونزول البركات, وادراك الخيرات, وفي القرآن الحكيم: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (¬4) فالسعيد من عمرها وحافظ على اداء الفرائض فيها, وقد روي ان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "المساجد بيوت الله في الارض, والمصلي فيها زائر لله, وحق على المزور ان يكرم زائره". وقال وهب بن منبه رحمه الله: "يؤتى بالمساجد يوم القيامة كامثال السفن مكللة بالدر والياقوت فتشفع لاهلها". وفي الذكر الحكيم: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (¬5) وفي الحديث النبوي الشريف: (مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ مِثْلَهُ) (¬6) فان كنت اخي تبحث عن السعادة والراحة والعزة والكرامة والبهجة والرضا والسكينة والمغفرة فستجد كل ذلك في المسجد, فاستعد للذهاب اليه متطيبا متطهرا متشوقا ففي ¬

_ (¬1) - البخاري في صحيحه حديث رقم (419) . (¬2) - سورة النور الآيتان (36-37) . (¬3) - سنن ابي داود, حديث رقم (474) . (¬4) - سورة الاعراف الآية (29) . (¬5) - سورة التوبة الآية (18) . (¬6) - مسلم في صحيحه حديث رقم (829) .

الصلاة تقوي النفس الانسانية

الحديث النبوي (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ الْإِمَامُ الْعَادِلُ وَشَابٌّ نَشَأَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ) (¬1) فكم لله من رجال فازوا بخير الدنيا ونعيم الآخرة, عظموا الله في صلاتهم وفي ركوعهم وسجودهم في ليلهم ونهارهم, ويرحم الله القائل: اذا ما تنادوا للصلاة وجدتني ... يفزع من خوف الاله جنابي وقال اخر: إذا ما الليلُ أظلَمَ كابَدوه ... فيُسفِرُ عنهُم وهم ركوعُ أطارَ الخوفُ نومَهُمُ فقاموا ... وأهلُ الأمن في الدنيا هجوعُ لهُم تحتَ الظلام وهُم سجودٌ ... أنينٌ منهُ تنفرجُ الضلوعُ وخُرسٌ بالنهارِ لطولِ صمتٍ ... علَيهِم من سكينَتِهم خشوعُ (¬2) الصلاة تقوي النفس الانسانية ان روح الصلاة تتمثل في حضور القلب, وخضوع الجوارح, فحري بالمسلم ان يشحذ همته ويحصر ذهنه على تدبر اذكارها واداء اركانها خاشعا لربه مستشعرا ان الصلاة ركن الدين وعماده المتين, وعنوان الاستقامة, ومثال الكمال, وباب التقوى, ومعين الاخلاص, ونور الايمان, ومجلبة الاحسان, ومظهر الإسلام, وانها تنقي صحيفة المسلم من الذنوب, وتزيل مااقترفه الإنسان من الخطايا, وتغسل ادران المعاصي, وتطفيء نار غضب ¬

_ (¬1) - مسلم في صحيحه حديث رقم (1712) . (¬2) - هذه الابيات لـ (عبد الله بن المبارك) .

الرب تبارك وتعالى, وان من حافظ عليها وخشع فيها كما امر الله اوصلته الى درجة الصديقين, فهي احب الاعمال الى الله تبارك وتعالى, فقد روي عن ابن مسعود رضي الله انه قال: سالت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ قَالَ الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا) (¬1) وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ان الرجل ليشيب عارضاه في الإسلام وما اكمل لله تعالى صلاة, قيل: وكيف ذلك؟ قال: لايتم ركوعها وسجودها وخشوعها وتواضعه واقباله على الله فيها". وقال الحسن رحمه الله: "كل صلاة لايحضر فيها القلب فهي الى العقوبة اسرع" (¬2) . فالخشوع روح الصلاة, فالانسان عندما يهرع الى الصلاة وهو يتوجه الى الله بالعبادة تتنازعه افكار متعددة فيحاول ان يطردها فيحل محلها استحضار عظمة الله ولذة مناجاته, فالصلاة تساعد على تنمية ملكة حصر الذهن في الإنسان, فالمصلي الذي يحاول بكل قدرته ان يحصر فكره طيله الوقت الذي تستغرقه الصلاة ويدفع الوسواس والخواطر التي تنازعه وتحاول ان تقطع صلاته يكون خاشعا معظما لله خائفا منه راجيا له مستحييا من تقصيره مناجيا لله وذاكرا له ومتفهما لما يقرؤه في الصلاة, وذلك دواء القلب, ودليل على الفلاح والنجاح, وفي القرآن الكريم: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (¬3) ¬

_ (¬1) - البخاري في صحيحه حديث رقم (6980) . (¬2) - دليل السائلين ص403. (¬3) - سورة المؤمنون الآيتان (1-2) .

قصة وردت في الحديث النبوي

قصة وردت في الحديث النبوي روي عن ابن مسعود رضي الله عنه: (أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنْ امْرَأَةٍ قُبْلَةً فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ قَالَ فَنَزَلَتْ {أَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} قَالَ فَقَالَ الرَّجُلُ أَلِيَ هَذِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِي) (¬1) السعادة وصفا الذهن في الصلاة ان من يحافظ على صلاته يحافظ على نضارته وصحته, فهو يستنشق النسيم العليل, ويتطهر ويتلذذ بمناجاة العزيز الرحيم وذلك مايدعو الى البهجة, ويساعد على طول العمر وبركته وزيادة الرزق, والاستظلال برحمة الله ورعايته, فملائكة الله تورد اخبار صلاته كاملة تامة, وبالصلاة ضمان نجاة الإنسان من النار, وفي الصلاة صفاء افكاره, وتطهير باطنه, والاتصال بالله, وكلما توغلت في شيء وتوغلت فيه فانك ستجد الله الاول اظهر من كل شيء, وهو الاول ابطن من اي شيء, فاجعل من طاقتك وتوجهك الوصول الى ربك الاول الاخر الظاهر الباطن لتسعد في دنياك واخرتك, واجعل الله عز وجل الذي يعلم ظاهرك وباطنك ويطلع على جميع احوالك ومقصودك, فاذا اردت ألا تشيخ ولاتهرم في افكارك وخلقك وسلوكك وان تكون في شباب دائم فاتجه الى الله واجعله مقصودك, ورضاه مطلوبك, اجعل هدفك الاخرة فانت في شباب دائم ومتجدد. حتى الناجحون في ¬

_ (¬1) - البخار في صحيحه حديث رقم (4319) ومسلم في صحيحه حديث رقم (4963) .

من اسماء الله الحسنى الاول والاخر والظاهر والباطن

حياتهم والاعلام المتألقون في الصناعة والتجارة في العلوم في مراكز القوى اي انسان متألق مادام حيا فاهدافه المادية اصغر من طاقته الكبرى, فالانسان الذي يسعد طول حياته هو انسان اتجه الى الله الاول الاخر الظاهر الباطن الذي بيده ملكوت كل شيء الظاهر العليم بمابطن والظاهر الذي ظهر فوق كل شيء الغالب الذي لايغلب, فلو انتهت الدنيا فماذا بعد الحياة؟ الله هو الاول والاخر, ولو تحركت نحو الماضي لوجدت الله هو الاول, ولو اتجهت نحو المستقبل فستجد ان الله هو الاخر وهو الباقي وهو المتصرف في جميع الاشياء, وقد كان من دعاء بعضهم.. إلهي لك البقاء, وانت الدائم والجموع هباء, فاجعل لنا قسطا من نور اسمك الاخر, فيحيي به الظواهر والسرائر فلا نشهد إلا الباقي بالباقي, ولانصل إلا الى مقام العالي الراقي (¬1) . واذا كانت الحياة متقلبة فاخلص في صلاتك لربك تصل الى جميع مرادك, ولله در القائل: لِكُلِّ شَيءٍ إِذا ما تَمّ نُقصانُ ... فَلا يُغَرَّ بِطيبِ العَيشِ إِنسانُ هِيَ الأُمُورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ ... مَن سَرّهُ زَمَن ساءَتهُ أَزمانُ وَهَذِهِ الدارُ لا تُبقي عَلى أَحَدٍ ... وَلا يَدُومُ عَلى حالٍ لَها شانُ (¬2) من اسماء الله الحسنى الاول والاخر والظاهر والباطن ورد في القرآن العظيم: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬3) ووردت هذه الاسماء الاربعة في السنة النبوية كما في حديث ابي هريرة عند الترمذي ووردت ايضا في دعاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما في صحيح مسلم, والأمة مجمعة على تسمية الله سبحانه وتعالى بهذه الاسماء الاربعة, فهو سبحانه وتعالى الاول بلا ابتداء والاخر بلا انتها وهو الاول قبل كل شيء والاخر بعد كل شيء, والباقي بعد فناء الاشياء, وهو الظاهر على كل شيء, والعالي فوق كل شيء, والظاهر بنعمه, والظاهر بقدرته وقوته وعظيم مخلوقاته, والظاهر بحججه وبراهينه, والظاهر بافعاله وقدرته واحكام صنعته, والباطن الذي لاتدركه الابصار, فهو سبحانه الباطن العليم ببواطن الأمور وظواهرها, والقريب الى كل شيء ومن كل شيء بعلمه وقدرته, وقال الحليمي رحمه الله: فَالأَوَّلُ هُوَ الَّذِي لا قَبْلَ لَهُ، وَالآخِرُ هُوَ الَّذِي لا بَعْدَ لَهُ، وَهَذَا لأَنَّ قَبْلَ وَبَعْدَ نِهَايَتَانِ، فَقَبْلُ نِهَايَةُ الْمَوْجُودِ مِنْ قَبْلِ ابْتِدَائِهِ، وَبَعْدُ غَايَتُهُ مِنْ قَبْلِ انْتِهَائِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ابْتِدَاءٌ وَلا انْتِهَاءٌ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْجُودِ قَبْلُ وَلا بَعْدُ، فَكَانَ هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ (¬4) . ¬

_ (¬1) - موسوعة اسماء الله الحسنى ج2 ص380. (¬2) - هذه الابيات لـ (ابو البقاء الرندي) . (¬3) - سورة الحديد الآية (3) . (¬4) - الاسماء والصفات للبيهقي ص43.

وقال الامام ابن القيم: الأسماء الأربعة الأول والآخر والظاهر والباطن هي أركان العلم والمعرفة, فحقيق بالعبد أن يبلغ في معرفتها إلى حيث تنتهي به قواه وفهمه (¬1) . قلت واحسن مايفسر به هذه الاسماء الاربعة هو تفسير الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو اعلم الخلق بالله فقد روي عن ابي هريرة انه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: يَقُولُ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ (اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ وَرَبَّ الْأَرْضِ وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى مُنَزِّلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ ذِي شَرٍّ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ) زَادَ وَهْبٌ فِي حَدِيثِهِ (اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَأَغْنِنِي مِنْ الْفَقْرِ) (¬2) فقد فسر صلوات الله وسلامه عليه كل اسم بمعناه العظيم, ونفى عنه مايضاده وينافيه, فسبحان من تفرد بالاحاطة المطلقة والمعرفة التامة والكمال المطلق ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وقد احسن ابن قيم الجوزية حيث يقول: هُوَ أولٌ هو آخِرٌ هُو ظَاهِرٌ ... هُو بَاطِنٌ هِي أربعٌ بوِزَانِ مَا قَبلَهُ شَيءٌ كَذَا مَا بَعدَه ... شَيءٌ تَعَالَى الله ذُو السُّلطَانِ مَا فَوقَهُ شَيءٌ كَذَا مَا دُونَه ... شَيءٌ وَذَا تَفسِيرُ ذِي البُرهَانِ فَانظُر إلَى تَفسِيرِهِ بِتَدَبُّرٍ ... وَتَبَصُّرٍ وَتَعَقُّلٍ لِمَعَانِ ¬

_ (¬1) - طريق الهجرتين ص46. (¬2) - سنن ابي داود باب مايقال عند النوم حديث رقم (4392) .

ثمرة معرفه اسمائه الاول والاخر والظاهر والباطن

وَانظُر إلَى مَا فِيهِ مِن أنوَاعِ مَع........رِفَةٍ لخَالِقِنَا العَظِيمِ الشَّانِ (¬1) اما عبد الرحيم البرعي فهو يقول: هُوَ أوّل هُوَ آخر هو ظاهر ... هُوَ باطِن لَيسَ العيون تَراه حجبته أَسرار الجَلال فَدونه ... تَقِف الظنون وَتخرس الافواه صمد بِلا كفء وَلا كَيفية ... أَبد فَما النظراء والاشباه شهدت غَرائب صنعه بوجوده ... لَولاه ما شهدت به لَولاه واليه أذعنت العُقول فآمنت ... با لغيب تؤثر حبها اياه سُبحان من عنت الوجوه لوجهه ... وَله سجود أَوجه وَجباه وقال اخر: هوَ أَوَّلُ آخِرٌ في فَضلِهِ ... هوَ باطِنٌ هوَ ظاهِرُ الإِنعامِ هوَ مفرَدٌ في بَذلِهِ وَنواله ... هوَ معتِقُ الأَسرى من الإِعدامِ (¬2) ثمرة معرفه اسمائه الاول والاخر والظاهر والباطن اذا علم المكلف ان الله سبحانه وتعالى هو الاول والاخر والظاهر والباطن وجب عليه ان يؤمن به وان يفرده بالعبادة, وان يجعل عبادته وصلاته وصيامه وزكاته ودعاءه وحياته ومماته لله وحده, وان يجرد النظر الى سبق فضل الله ورحمته المبتدي بالإحسان الى الإنسان من غير وسيلة منه إذ لاوسيلة في العدم قبل وجوده فقد اتى على الإنسان حين من الدهر لم ¬

_ (¬1) - هذه الابيات لـ (ابن قيم الجوزية) . (¬2) - هذان البيتان لـ (ابي الحسن علي بن محمد بن فهد التهامي) .

يكن شيئا مذكورا, فمنه سبحانه وتعالى الاعداد والامداد فكيف يتعلق المرء بالوسائل التي اوجدها الحق سبحانه وتعالى ولايتعلق بالاول الآخر الباقي الدائم بعد فناء الاشياء, فالعاقل لايجعل تعلقه الكامل وركونه ووثوقه باي شيء ينقضي, وانما يتلق في عبادته وصلاته ودعائه وخوفه ورجائه بالاول الاخر الذي يبقى ولا يفنى, فهو سبحانه وتعالى الاول الاخر الذي لايموت ولا يزول, فالمتعلق به سبحانه وتعالى حقيق الا يخيب ولا يزول ولاينقطع ماتعلق به, بخلاف التعلق بغيره مما له اخر يفنى به, فهو سبحانه الاول الذي ابتدأت منه المخلوقات, والاخر الذي انتهت اليه عبوديتها وارادتها ومحبتها, فليس وراء الله شيء يقصد ويعبد ويتأله, كما انه سبحانه ليس قبله شيء يخلق, فكما كان واحدا في ايجادك فاجعله واحدا في تاليهك له لتصح عبادتك وصلاتك, وكما ابتدأ وجودك وخلقك والاحسان اليك واسباغ نعمه عليك ظاهرة وباطنة, فاجعله نهاية حبك وارادتك وتأليهك له لتصح لك عبوديتك له باسمه الاول والاخر والظاهر والباطن, فهو سبحانه وتعالى الظاهر على كل شيء وفوق كل شيء والغالب على كل الأمور والظاهر بقوته وقدرته وعلمه وهو الباطن القريب من كل شيئ فهو اقرب اليك من حبل الوريد فاخلص اليه في الدعاء, وفي الذكر الحكيم: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (¬1) وفي الحديث النبوي الشريف: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا ¬

_ (¬1) - سورة البقرة الآية (186) .

دعاء الله باسمه الاول الآخر الظاهر الباطن

تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إِنَّهُ مَعَكُمْ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتَعَالَى جَدُّهُ) (¬1) اذا عرف المرء كل ذلك فخليق به ان يكون اول الناس سبقا بالخير, وأول الناس سبقا الى معرفة الله, واولهم سبقا الى طاعته, واولهم سبقا الى عبادته, وان يكون مظهرا لعمل البر حريصا عليه ظاهرا على الهدى ناطقا بوحدانية الله لانه يعلم ان كل الخير من الله, كل الكمال لله, كل الاعمال الصالحة بتوفيق الله, بإلهام الله مصدر الكمال في الكون, هو الظاهر الذي لايخفى على كل متامل المحتجب عن عيون خلقه الذي لاتدركه الابصار, الظاهر بنعمته الباطن برحمته الظاهر بكل شيء, الظاهر بالدلائل اليقينية, الباطن عن مظاهر الجسمية ليس كمثله شيء وهو السميع العليم, فادع الله باسمه الاول الاخر الظاهر الباطن يمدك بقوته الظاهرة والباطنة, وأعلن افتقارك اليه ظاهرا وباطنا, وناده ساجدا واذكره قائما وقاعدا وكن لله شاكرا وحامدا, وكن لله في كل الأحوال عابدا, وفي الحديث النبوي الشريف: (أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ) (¬2) دعاء الله باسمه الاول الآخر الظاهر الباطن ياالله يااول يااخر ياظاهر ياباطن يامن لاأول لأوليتك ابدا, ولا اخر لآخريتك ابدا, انت الاول قبل كل شيء والاخر بعد كل شيء, ابتدأتني بالنعم العامرة أولا, فاتممها علي غدا, واجعلني ممن تدخله الجنة أولا, ¬

_ (¬1) - البخاري في صحيحه حديث رقم (2770) . (¬2) - مسلم في صحيحه حديث رقم (744) .

وجملني بجميل سترك في الدنيا والآخرة, وامني من الشيطان وكافة العدا, واجعلني من المتقين الاولياء, ياالله يااول يااخر اخرني عن كل شيء يورث ندما, وعن كل امر يورث سوا وماثما, فانه لا اخر لآخريتك يارب الارض والسماء فاحي قلبي بحبك وذكرك واكفه عن الاشتغال بالدنيا ياالله يااول يااخر ياظاهر ياباطن ظهرت على جميع الاشياء فانت الظاهر الذي لاتخفى, فاظهرني بشرف خدمتك على الملا, واظهرلي من اسمائك الحسنى ما احضى به واكفني فانت الله الظاهر الباطن الذي ظهرت على العالمين وبطنت عن اعين الناظرين, واظهرت قوتك وقدرتك للعالمين, فطهر باطني وظاهري ياالله ياظاهر ياباطن ياقوي يامتين, واغفرلي ولوالدي وللمؤمنين واصلح لي ولهم امور الدنيا والدين ياارحم الراحمين, وصلى الله وسلم على محمد النبي الامين وعلى آله الطاهرين واصحابه الراشدين والتابعين لهم باحسان الى يوم الدين واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.

الفصل الواحد والخمسون الزكاة

الفصل الواحد والخمسون الزكاة الزكاة الزكاة صدقة, والصدقة زكاة, يفترق الاسم ويتفق المسمى (¬1) والزكاة لغة: الطهارة والنماء والبركة. واصطلاحاً: الجزء المقدر بالمال الذي فرضه الله للمستحقين ليسد به حاجتهم ويجبر به كسرهم, ويشد به ازرهم, ويصلح به حالهم, وسمى الله الصدقة زكاة لانها تطهر النفس وتزكيها, قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (¬2) وما ذكره الله تعالى من تطهير الصدقة للمؤمنين يشمل افرادهم وجماعتهم, فهي تطهر نفوس الافراد من الذنوب, ومن ارجاس البخل والدناءه والقسوة والاثرة وغير ذلك من الرذائل الاجتماعية التي هي مثارة التحاسد والتعادي والعدوان والفتن والحروب, وتزكي انفسهم اي تنميها وترفعها بالخيرات والبركات الخلقية والعملية حتى تكون بها اهلا للسعادة الدنيوية والاخروية, فكان ايجابها مؤاساة للفقراء ومعونة لذوي الحاجات, تكفهم عن البغضاء وتمنعهم عن التقاطع وتبعثهم على التواصل, وهي ركن من اركان الإسلام, فمن تركها ناكرا لها كان مرتدا يقاتل عليها, ولمكانتها العظيمة, فان الحق سبحانه وتعالى قرنها بالصلاة في كثير من ايات الذكر الحكيم فقال سبحانه: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ} (¬3) وقال سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ ¬

_ (¬1) - الماوردي في الاحكام السلطانية, ج 1 ص202. (¬2) - سورة التوبة الآية (103) . (¬3) - سورة البقرة الآية (43) .

الحكمة من فريضة الزكاة

لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬1) وفي الحديث النبوي الشريف: (بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ) (¬2) والزكاة طهارة وبركة تنفع الفقراء وتطهر الاغنياء وتزكيهم, قال الشاعر: وَاللَهُ أَنزَلَ في الكِتابِ فَريضَةً ... لِاِبنِ السَبيلِ وَلِلفَقيرِ العائِلِ (¬3) وقال اخر: وَأَحسَبُ الناسَ لَو أَعطَوا زَكاتَهُمُ ... لَما رَأَيتُ ذوي الإِعدامِ شاكينا (¬4) الحكمة من فريضة الزكاة ان المال كالفاكهة الجميلة اللون, الشهية المذاق, وقد اراد الله ان ينعم جميع البشر بهذه الفاكهة وطعمها ويستمتع الجميع بلونها فاقتضت حكمته ان يفترض على المال الذي في يد الاغنياء زكاة يؤدونها للفقراء فيعم الخير جميع الناس ويستمتع بالمال الفقير والغني, فهي تطهر الاغنياء وتزكيهم وتنفع الفقراء وتواسيهم وتحد من الاثرة والشره والحرص, فميل الطباع الى اقتناء المال معروف, بيد ان من الناس من يضل يطعم من هذا المال حتى تقتله التخمة. ومنهم من يدخره ويجوع ومنهم من يختطف مافي ايدي ¬

_ (¬1) - سورة التوبة الآية (60) . (¬2) - مسلم في صحيحه حديث رقم (21) . (¬3) - هذا البيت لـ (جرير) . (¬4) - هذا البيت لـ (ابي العلاء المعري) .

الاخرين الى جانب نصيبه المفروض. ومنهم من يشغله القلق خشية الحرمان, ومنهم من يشغله القلق في طلب المزيد, فافترض الله الزكاة رحمة وفضلا وبركة وعدلا لتزكي النفوس وتطهرها ولتكون دعامة يقوم عليها اصلاح شؤن الفقراء والمساكين, ويلم بها شعثهم, ويجتمع بها شملهم مع الاغنياء فيكون الجميع كالاسرة الواحدة, ومن هنا يتبين لنا ان الزكاة ليست احسانا فرديا, وان اعتبارها كذلك يخرج بها عن معانيها بل هي ضريبة تؤخذ من اموال الاغنياء وتصرف في الطبقة الفقيرة المحتاجة من غير سؤال ولامنة في العطاء, فليس فيه اذلال بل معونة كريمة وسد حاجة, فهي تؤخذ من اموال الاغنياء اجبارا, فالاسلام لم يجعل فريضة الزكاة ترجع لهذا الشخص ان شاء اعطى وان شاء منع بل جعلها اجبارية لانها حق للفقير في مال الله الذي اعطاه للغني, فكان حقا على من يلي السلطة العامة ان يجمع الزكاة ويوزعها بالعدل, وقد خاطب الله رسوله بقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (¬1) وفي سورة المعارج يقول العزيز الحكيم: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ} (¬2) . وفي الحديث النبوي الشريف (إن الله فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم فإن جاعوا أو عروا وجهدوا فبمنع الأغنياء وحق على الله أن يحاسبهم يوم القيامة ويعذبهم عليه) (¬3) ¬

_ (¬1) - سورة التوبة الآية (103) . (¬2) - سورة المعارج الآية (24) . (¬3) - رواه البيهقي في السنن الكبرى حديث رقم (12985)

الاخوة الدينية لاتحصل دون اداء الزكاة

الاخوة الدينية لاتحصل دون اداء الزكاة ان المسلم لاتحصل اخوته الدينية للمسلمين الا باداء الزكاة, واقام الصلاة فافضل الناس من اعطى زكاته بسماحة وشرف, وأدّى زكاة ماله برغبة ومحبة, ولم يشيع اخراجه بحسرة او يرسل وراءه العبرات, لان بناءه النفسي يقوم وحده بعيدا عن الشراهة والحرص, فهو يعلم ان الله سبحانه وتعالى يزكيه بهذا المال ويطهره ويحفظ ماله ويورثه العزة والشرف, بل يشعر بالسعادة حينما يكون قد أدى من جزءاً من ماله للفقراء والمساكين. وفي الذكر الحكيم: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ} (¬1) فالحرص والعشق للمال الى درجة عدم اخراج ماافترض الله فيه يورث ضراوة تفتك بالضمائر والابدان, وتورث المذلة والهوان, وانظر الى ما يعقبه الحرص الشديد من قلق بالغ, فمن الحقائق المعروفة انه عندما تهبط قيمة الاسهم في البورصة ترتفع عند البعض نسبة السكر في البول والدم بين المضاربين؟ ويرحم الله احمد شوقي حيث يقول: عَجِبتُ لِمَعشَرٍ صَلّوا وَصاموا ... ظواهر خِشيَةً وَتُقى كِذابا وَتُلفيهُمُ حِيالَ المالِ صُمّاً ... إِذا داعي الزَكاةِ بِهِم أَهابا لَقَد كَتَموا نَصيبَ اللَهِ مِنهُ ... كَأَنَّ اللَهَ لَم يُحصِ النِصابا يُريدُ الخالِقُ الرِزقَ اِشتِراكاً ... وَإِن يَكُ خَصَّ أَقواماً وَحابى فَما حَرَمَ المُجِدَّ جَنى يَدَيهِ ... وَلا نَسِيَ الشَقِيَّ وَلا المُصابا وَلَولا البُخلُ لَم يَهلِك فَريقٌ ... عَلى الأَقدارِ تَلقاهُمُ غِضابا وفي الذكر الحكيم: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (¬2) . الزكاة فيها حفظ المال والسلامة من شروره الزكاة فيها الثواب الجزيل, والعز المقيم, والخير الكثير, وفي ادائها حفظ المال وتحصينه, وتخليصه من الشرور, وفي الحديث النبوي الشريف: (إِذَا أَدَّيْتَ زَكَاةَ مَالِكَ فَقَدْ قَضَيْتَ مَا عَلَيْكَ) (¬3) وفي رواية: (فقد ذهب عنك شره) (¬4) وجاء في حديث اخر: (مَا تَلَفَ مَالٌ فِي بَرٍّ، وَلاَ بَحْرٍ إِلاَّ بِحَبْسِ الزَّكَاةِ) (¬5) . فاذا اردت ان تجعل مالك في حصن منيع وان تحفظه من الضياع والسرقة فادّ زكاته, فقد ورد في السنة النبوية ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال (حصنوا أموالكم بالزكاة وداووا مرضاكم بالصدقة) (¬6) وقد انذر الله الذين يبخلون ويمتنعون عن اداء الزكاة بقوله: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (¬7) وانذر النبي صلى الله ¬

_ (¬1) - سورة آل عمران الآية (92) . (¬2) - سورة التوبة الآية (11) . (¬3) - سنن ابن ماجه حديث رقم (1778) . (¬4) - المعجم الاوسط رقم (1579) . (¬5) - اتحاف الخيرة المهرة, وقال رواه البيهقي والطبراني في الاوسط حديث رقم (2053/2) . (¬6) - المعجم الاوسط حديث رقم (1963) . (¬7) - سورة آل عمران الآية (180) .

عليه وآله وسلم مانع الزكاة بالجدب وضيق العيش فقال: (وَمَا مَنَعَ قَوْمٌ الزَّكَاةَ إِلاَّ مَنَعَهُمُ اللَّهُ الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ) (¬1) وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجمع الزكاة ويامر امراءه بجمعها من الاغنياء ليردها على الفقراء, فلما كان زمن الخليفة الراشد ابي بكر الصديق اعلن بعض العرب منع الزكاة فجمع الصحابة وتشاورهم واعلن الخليفة الراشد ومعه سراة الصحباة ورجال الحل والعقد الحرب على مانعي الزكاة وقال: (وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهَا) (¬2) فمنع الزكاة يزيل النعم, ويخرب الديار ويكون سببا في دخول النار. ويغفر الله للقائل: وَعَلِمنا أَنَّ الزَكاةَ سَبيلُ اللَهِ ... قَبلَ الصَلاةِ قَبلَ الصِيامِ خَصَّها اللَهُ في الكِتابِ بِذِكرٍ ... فَهيَ رُكنُ الأَركانِ في الإِسلامِ بَدَأَت مَبدَأَ اليَقينِ وَظَلَّت ... لِحَياةِ الشُعوبِ خَيرَ قِوامِ لَو وَفى بِالزَكاةِ مَن جَمَعَ الدُن ... يا وَأَهوى عَلى اِقتِناءِ الحُطامِ ما شَكا الجوعَ مُعدَمٌ أَو تَصَدّى ... لِرُكوبِ الشُرورِ وَالآثامِ (¬3) ¬

_ (¬1) - السنن الكبرى للبيهقي حديث رقم (6626) . (¬2) - مسند الامام احمد حديث رقم (112) . (¬3) - هذه الابيات لحافظ ابراهيم.

الزكاة سبب في دخول الجنة

الزكاة سبب في دخول الجنة الزكاة عبادة ماليه من اداها طيبة بها نفسه دخل الجنة, فبالزكاة تعمر ديار الفقراء فهي سهم الإسلام, وفضل الرحمن, وبها نصل الضعفاء والايتام, وقد خسر من لانصيب له ولاسهم, فهي نعمة انعم الله بها, وافلح من انتفع بالمال وادى حقه, واحسن الى الفقراء والمساكين وازال المهم ووضرر امراضهم وظلم جهالتهم, وفي الحديث النبوي: (أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ فَقَالَ الْقَوْمُ مَا لَهُ مَا لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَرَبٌ مَا لَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ) (¬1) وفي رواية للنسائي: (مَا مِنْ عَبْدٍ يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَيَصُومُ رَمَضَانَ وَيُخْرِجُ الزَّكَاةَ وَيَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ السَّبْعَ إِلَّا فُتِّحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَقِيلَ لَهُ ادْخُلْ بِسَلَامٍ) (¬2) وفي الذكر الحكيم: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (¬3) . قصة وردت عن حال مانع زكاة ماله ذكر البيضاوي ان ثعلبة بن حاطب أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ادع الله أن يرزقني مالاً فقال عليه الصلاة والسلام «يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه» فراجعه وقال: والذي بعثك بالحق ¬

_ (¬1) - البخاري في صحيحه حديث رقم (5524) . (¬2) - سنن النسائي حديث رقم (2495) . (¬3) - سورة البينة الآية (5) .

لئن رزقني الله مالاً لأعطين كل ذي حق حقه، فدعا له فاتخذ غنماً، فنمت كما ينمى الدود حتى ضاقت بها المدينة، فنزل وادياً وانقطع عن الجماعة والجمعة، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل كثر ماله حتى لا يسعه واد فقال: يا ويح ثعلبة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مصدقَين لأخذ الصدقات فاستقبلهما الناس بصدقاتهم ومرا بثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه الكتاب الذي فيه الفرائض فقال: ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية فارجعا حتى أرى رأيي فنزلت قوله تعالى: {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ * أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} (¬1) فجاء ثعلبة بالصدقة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله منعني أن أقبل منك فجعل يحثو التراب على رأسه فقال هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء بها إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فلم يقبلها، ثم جاء إلى عمر رضي الله تعالى عنه في خلافته فلم يقبلها وهلك في زمان عثمان رضي الله تعالى عنه (¬2) . ¬

_ (¬1) - سورة التوبة الآيات (75-78) . (¬2) - تفسير البيضاوي ج2/ص465.

الزكاة نظام تكافل جاء به الإسلام

الزكاة نظام تكافل جاء به الإسلام المجتمع الزكي يقوم على رجال يعرفون حق الله وحق الجماعة عليهم, وينشغل هذا وذاك باداء ماعليه من واجب, فان الثمرة الدانية في هذا المجتمع ان يصل كل امرئ الى حقه الطبيعي دون ضجر او جدال, وعند ذلك سنجد من يقوم ببناء المستشفيات والملاجئ ومعاهد العلم لتعليم ابناء الأمة الفقراء وايواء العجزة الضعفاء ومعالجة المرضى حتى لاتضطرهم الحاجة الى السرقة, او المؤامرة على قتل الاغنياء, او الاقدام على ارتكاب الجرائم لدفع عيلة الفقر المدقع, وحينئذ يعيش المجتمع كله في سلام وامن, ويتجه الجميع الى عبادة ربهم وبناء اوطانهم, وستكون طاقة الفقير وجلده أداة تزيد في انتاج الأمة, وتسهم في نهضتها العامة, فيصل نشاطه حينئذ بنشاط انداده من الاغنياء فيعاونون جميعا على البر والتقوى لاعلى الاثم والعدوان, وستسد الزكاة عوز المحتاجين وتعين الفقراء والمساكين, وتعوض المضرورين والغارمين, وفي الذكر الحكيم: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬1) والمراد هنا في الآية: الصدقات الواجبة التي صرحت الآية بوجوب قصرها على من ذكرهم الله في الآية، والصدقات الواجبة هي زكاة النقود عيناً أو تجارة والأنعام والزرع والركاز والمعدن، فيجب صرف ذلك على الأصناف المنصوص عليها في الآية بـ (إنما) فهي من صيغ القصر، وتعريف الصدقات للجنس أي جنس هذه الصدقات مقصور على هذه ¬

_ (¬1) - سورة التوبة الآية (60) .

الأصناف المذكورة لا يتجاوزها بل هي لهم لا لغيرهم، فللصدقات أهداف وفوائد كثيرة روحية وأخلاقية واجتماعية واقتصادية وسياسية بعضها فردية وبعضها جماعية, وهي مع ذلك ركن من أركان الاسلام كما سبق بيان ذلك, ويتبين من النص القرآني قصر الصدقة على هذه الأصناف لغاية وأهداف يظهر تكاملها على مستوى المجتمع كله سواء فيما يتعلق بالمعطِي أو المعطَى له أو بالكيان الاجتماعي الذي تصرف فيه الزكاة, وسيجد المتدبر لكتاب الله وما يتبين أثره في الصرف في الأصناف الخمسة من الاصناف الثمانية الذين هم: الفقراء والمساكين والرقاب والغارمين وابن السبيل. ان القرآن الكريم قد كان سابقا للنظم القانونية في تقرير نظام التكافل, فالانفاق على الضعفاء والزمنة والمحتاجين والمرضى والعجزة والمكفوفين والمسنين وذوي العاهات البدنية أو العقلية يعني ايجاد مجتمع متكافل متضامن متكامل, ويدخل في مصارف الزكاة ذوي الدخل القاصر عن كفايتهم لقلة الاجر أو كثرة العيال أو ارتفاع الاسعار باعتبار ان كل هؤلاء من الفقراء والمساكين, ويدخل في مصرف ابن السبيل المهاجرون في سبيل الله والمهجَّرون والمشرَّدون بفعل الكوارث الطبيعية من المسلمين إذا لجئوا إلى إقليم آخر من أقاليم الدولة الاسلامية فانقطعوا عن بلادهم, واللاجئون السياسيون الذين فروا من أجل دينهم من ديار الكفر والطغيان فانقطعوا عن بلادهم، وطلبة العلم في ديار الغربة الذين لا يجدون كفايتهم فينقطعون عن أوطانهم, لأن هؤلاء هم في سفر فيه طاعة أو سفر مباح

وليس في ذلك سفر معصية, فيندرجون في عموم النص ويعطون بقدر حاجتهم إلى أن يتيسر لهم العودة إلى أوطانهم أو يعتزموا الإقامة الدائمة في محل انقطاعهم (¬1) . وفي هذا الانفاق شرف الانسان وسعادته وفي الذكر الحكيم: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (¬2) فالله سبحانه وتعالى حكيم في تقديره وتدبيره وقد احكم التدبير والتقدير حينما افترض هذه الزكاة وحدد مصارفها, فاذا اراد الإنسان ان يعيش سعيدا فعليه ان يعمل بامر الله وبحكمه وبتقدير الله المدبر الحكيم الرحيم العليم الذي كل مافي الكون ينطق باسم الله العزيز الحكيم خلقا وتصرفا ومصيرا, نباتا وحيوانا وانسانا وشمسا وقمرا, ليلا ونهارا, ورزقا وهداية وتوفيقا, فالانسان اذا لم يتصل بالله فلن تزكو نفسه ولن يتطهر قلبه وربما ظل, فاذا اعتمد على ماله وخبرته وقدرته وجماعته وسلطانه ووجاهته ونسي الله تخلى الله عنه, وضل طريقه, وربما ترتب على منعه الزكاة هلاكه, فاذا اعتمد على نفسه وعلى ماله, وعلى قوته اوسلطانه ونسي الله فانه يكون قد اشرك وهو لايدري, وربما ذهب سلطانه وذهب ماله وذهب جاهه وكانت عاقبة امره خسرا, ولايغرك امهال الله لمن هذا حاله ردحا من الزمن فلعل ذلك فتنة له وبلاء ووبالا عليه, فقد يسلبه الله التوفيق او يقع في خطيئة يعاقبه الله عليها, وقد يكون ¬

_ (¬1) - لتفصيل اوسع انظر مؤلفنا خلاصة الكلام في تفسير ايات الاحكام, ج2/ ص993الى 1008. (¬2) - سورة البقرة الآية (261) .

المقدم المؤخر من اسماء الله الحسنى

المال والجاه اذا لم يؤادي الإنسان حقهما استدراجا وفتنة وعذاباً ومحنة, وربما حمل المال صاحبه على الكبر فياخذه الله على حين غرة من امره: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} (¬1) فالمقدم المؤخر الميسر المسخر المدبر انما هو الله, فكن معه تفز بنعيم الدنيا والاخرة, فالذي يقدم العمل الصالح يقدم الصدقة واخراج الزكاة يقدم الاحسان الى الناس ويكرمهم طاعة لله يكون مقدما عند الله, والذي يقدم هواه وشهواته على اعماله الصالحة يكون مؤخرا عند الله, فالله سبحانه وتعالى يقدم ويؤخر, فثق به وتوكل عليه تكن سعيدا رشيدا مستقيما, ومسارك في الحياة واضحا جليا فكثيرة هي المقاييس المادية, فاذا تقدم انسان بماله, او بمرتبته, او بنسبه, او بقوته, او بذكائه, تقدما مبدئيا او تقدما مؤقتا فان لم يكن مطيعا لله اخره الله, فهذا التقديم تقديم امتحان, او تقديم استدراج, فانك لاتدري لعل الله عز وجل يؤخره بفضيحة ما, او بكف يد, او باهمال وازراء, او بخطأ فادح يرتكبه, او بغير ذلك, اما المؤمن المطيع لله فان خطه البياني يكون دائما في صعود مستمر, بخلاف الكافر والمصر على المعصية فانه وان رايت خطه البياني في صعود حاد فان سقوطه سيكون مريعا الا ان يثوب الى رشده ويعود الى الله, فالله جل وعلى يقدم من اطاعة ورجع اليه ويؤخر من قدم هواه وشهواته وعصى مولاه وخالقه فهو المقدم المؤخر الضار النافع السميع البصير القوي القدير فتعرف اخي على اسم الله المقدم المؤخر, وكن طائعا لله يقدمك الله فهو الذي يقدم المؤمنين الطائعين ويؤخر العصاة الفاسقين. المقدم المؤخر من اسماء الله الحسنى اسم الله المقدم والمؤخر لم يردا في القرآن, ووردا في القرآن فعل المؤخر في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} (¬2) , وورد الاسمان في السنة النبوية كما في حديث ابي هريرة عندالترمذي ان لله تسعة وتسعين اسما وعد منها (الْمُقَدِّمُ الْمُؤَخِّرُ) (¬3) , وجاء في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اذا قام من الليل يتهجد وفيه: (انت المقدم وانت المؤخر) (¬4) , والامة متفقة على تسميته سبحانه وتعالى المقدم المؤخر, ويرى بعض العلماء انه لايجوز الدعاء باحدهما دون الآخر, والمقدم هو الذي يقدم الاشياء ويضعها في مواضعها, فمن استحق التقديم قدمه, ومن استحق التاخير اخره, ويوجد مع التقديم حكمة, ومع التاخير عدالة وحكمة, فهو يقدم من يشاء بحكمته, ويؤخر من يشاء بعدله وقدرته, فهو سبحانه يرفع من يشاء, ويخفض من يشاء, ويذل من يشاء, ويعز من يشاء, ويقرب من يشاء, ¬

_ (¬1) - سورة الانعام الآية (44) . (¬2) - سورة ابراهيم الآية (42) . (¬3) - قد سبق تخريجه. (¬4) - البخاري في صحيحه حديث رقم (1053) .

ويبعد من يشاء, فلله القدرة الكاملة والمشيئة النافذة, والحكمة الشاملة التامة, وقَالَ الْحَلِيمِيُّ: الْمُقَدِّمُ: هُوَ الْمُعْطِي لِعَوَالِي الرُّتَبِ، وَالْمُؤَخِّرُ: هُوَ الدَّافِعُ عَنْ عَوَالِي الرُّتَبِ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: هُوَ الْمُنْزِلُ لِلأَشْيَاءِ مَنَازِلَهَا، يُقَدِّمُ مَا يَشَاءُ مِنْهَا وَيُؤَخِّرُ مَا شَاءَ، قَدَّمَ الْمَقَادِيرَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ، وَقَدَّمَ مَنْ أَحَبَّ مِنْ أَوْلِيَائِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ عَبِيدِهِ، وَرَفَعَ الْخَلْقَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ، وَقَدَّمَ مَنْ شَاءِ بِالتَّوْفِيقِ إِلَى مَقَامَاتِ السَّابِقِينَ، وَأَخَّرَ مَنْ شَاءَ عَنْ مَرَاتِبِهِمْ وَثَبَّطَهُمْ عَنْهَا، وَأَخَّرَ الشَّيْءَ عَنْ حِينِ تَوَقُّعِهِ لِعِلْمِهِ بِمَا فِي عَوَاقِبِهِ مِنَ الْحِكْمَةِ، لا مُقَدِّمَ لِمَا أَخَّرَ، وَلا مُؤَخِّرَ لِمَا قَدَّمَ، قَالَ: وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ الاسْمَيْنِ أَحْسَنُ مِنَ التَّفْرِقَةِ (¬1) , ومن هذا العرض يتبين ان الله سبحانه وتعالى المقدم المؤخر ليس كمثله شيء, فهو سبحانه المقدم لبعض الاشياء على بعض, اما تقديما كونيا, كتقديم بعض المخلوقات في الوجود على بعض, وكتقديم الاسباب على مسبباتها, والشروط على مشروطاتها, واما تقديما شرعيا معنويا, كتفضيل الانبياء عليهم السلام وتقديمهم على سائر البشر, وتفضيل العباد بعضهم على بعض لحكمة, وهو سبحانه المؤخر لبعض الاشياء عن بعض, اما بالزمان او بالشرع, وفق مشيئته سبحانه وتعالى, وقال ابن القيم: وَهُوَ المَقَدِّمُ وَالمؤخِّرُ ذَانِكَ الصِّ ... فَتَانِ لِلأفعَالِ تَابِعَتَانِ ¬

_ (¬1) - الاسماء والصفات للببيهقي, ص210.

ثمرة معرفة اسم الله المقدم المؤخر

وَهُما صِفَاتُ الذَّاتِ أيضاً إذ هُمَا.........بِالذَّاتِ لاَ بِالغَيرِ قَائِمَتَانِ وَالوَصفُ بِالتَّقدِيمِ وَالتأخِيرِ كَو ... نِيٌّ وَدِينِيٌّ هُمَا نَوعَانِ وَكِلاَهُمَا أمرٌ حَقِيقيٌّ وَنِسبِيٌّ ... وَلاَ يَخفَى المثَال عَلَى الأذهَانِ واللهِ قَدَّرَ ذَاكَ أجمَعَهُ بِإحكَامٍ ... وإتقَانٍ مِنَ الرَّحمَنِ ثمرة معرفة اسم الله المقدم المؤخر اذا عرف المكلف ان الله المقدم المؤخر النافع الضار الخافض الرافع, وانه يقدم ماشاء من خلقة بعلم وحكمة, ويؤخر من يشاء بعدل وحكمة وجب عليه ان يؤمن به, وان يقدم ماقدمه الله, ويؤخر ما اخره, يقدم الاعمال الصالحة, ويقدم زكاة ماله, ويقدم الخير والاحسان, قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬1) فمن عرف ان المقدم والمؤخر هو الله سبحانه وتعالى لم يكن له امان, بسبب كثرة الطاعات, ولايأس بسبب كثرة المعاصي, فهو يخاف الله فيما ياتي ويذر, ويثابر في عبادته, ويجتهد في طاعته, لانه يعلم بان الله يقدم من احبه وادى فرائضه وقدم ماله, فهو القادر على ان يقدم رتبته ومكانته ويؤخره عن كل امر فيه اثم وقطيعة رحم, وهو القادر على ان يلقي محبته في قلوب عباده ويجعل له ذكرا حسنا ¬

_ (¬1) - سورة المزمل الآية (20) .

بعد مماته ويقدمه الى الدرجات العلى في الجنة, ويؤخره اذا اشرك بالله في عبادته, فهو يعمل وهو على يقين ان الله عز وجل لايظلم ولايبخس ولا يضيع ولايؤخر من اخلص لله في عمله, فبعملك واستقامتك واخلاصك لله يقدمك الله ويرفع مرتبتك, فانت اذا لم تطلب العلو في الدنيا بل تبتغي الرفعة عند الله وتخلص لله وترجو الله وتخاف الله وتؤدي زكاة مالك خالصة لله, وتقدم الاعمال الصالحة يقدمك الله ويرفعك الله في الدنيا والاخرة, فالله جل وعلى يقدم الصالح ويؤخر الطالح, يقدم العالم العامل بعلمه, ويؤخر الجاهل المتمادي في غيه, يقدم المحب ويؤخر المبغض, يقدم الطائع ويؤخر العاصي, يقدم المقبل على ربه, ويؤخر المعرض عنه, وهذا عدل منه سبحانه وتعالى, فاذا ادركت انك عبد الله حقا وان الله المقدم المؤخر احبك الله ورفعك ونفعك وقدمك, وحينئذ يجب عليك ان تقدم ماكان الله يحب تقديمه وان تؤخر ماكان الله يحب تاخيره, فلا تيأس ان رأيت تاخيرا لمكافأة, فاحيانا يقدم الله المكافأة لانسان فيرتاح ويقعد ويتوانى ويتكاسل, واحيانا يؤخر الله لانسان المكافأة فييأس, فلاتكن غافلا فلحكمة ما قد يقدم الله المكافأة أو يؤخرها, ولحكمة ما قد يقدم الله العقاب أو يؤخره, فمن اسمائة المقدم المؤخر, فمتى اشرق في قلبك نور اسمه المقدم المؤخر صرت في كل الامور متدبرا, فتقدم كل ما قدمه الله, وتؤخر كل ما اخره الله, وحينئذ تكون صادقا مع الله, تقدم طاعة ربك على شهوات نفسك, وتقدم فرائض الله على مصالحك الشخصية, وتقدم زكاة مالك على كسب مال غير

دعاء الله باسمه المقدم المؤخر

مشروع, وتؤخر هوى نفسك, فانت تعلم ان المقدم المؤخر سينبؤك بما تقدم وبما تؤخر, فكل انسان يوم القيامة ينبؤ بما قدم واخر, فمن قدم مايرضي الله كان من اسعد الناس في الدنيا والاخرة, وفي الذكر الحكيم: {يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} (¬1) . دعاء الله باسمه المقدم المؤخر يا الله يامقدم يامؤخر قدمني الى كل عمل تحبه وترضاه, واخرني عن كل شيء يورث ندما, وعن كل من يريد بي سواء وماثما, وقدمني باسمائك يارب الارض والسماء, واجعلني مقدما برضاك على كل رضا من النفس والخلق فيما بقى ومضى, مقدما لطاعتك, وقدمني الى جنتك والى الفردوس الاعلى باسمائك وصفاتك العلى, وقدمني ووالدي والمؤمنين الى ماتحب وترضى انك سميع قريب مجيب الدعاء, انت المقدم وانت المؤخر لااله الا انت سبحانك قدمني والمؤمنين ياارحم الراحمين, وصلى الله على محمد النبي الامين, وعلى آله وصحابته الراشدين وسلم تسليما كثيرا الى يوم الدين, وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم: للَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي وَخَطَئِي وَعَمْدِي وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا ¬

_ (¬1) - سورة القيامة الآية (13) .

أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (¬1) ¬

_ (¬1) - مسلم في صحيحه حديث رقم (4896) .

الفصل الثاني والخمسون الصيام

الفصل الثاني والخمسون الصيام

الصيام

الصيام الصيام في اللغة: الامساك والكف عن الشيء, وفي اصطلاح علماء الشرع: الامساك بالنية عن الاكل والشرب والاتصال الجنسي, من الفجر الى غروب الشمس ابتغاء مرضاة الله. وهو الركن الرابع من اركان الإسلام, وقد فرض في السنة الثانية من الهجرة النبوية الشريفة. وينقسم الصوم الى نوعين: فرض: كصيام شهر رمضان, ونفل: كصوم يوم عرفة لغير الحاج. والاصل في فرضيته قول الحق تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ* شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬1) فرض الله الصيام بهذه الايات الكريمة وابان احكامه وهو ركن من اركان الإسلام, وقد جاء في الحديث النبوي: (بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ) (¬2) ¬

_ (¬1) - سورة البقرة الآيات (183-185) . (¬2) - مسلم في صحيحه حديث رقم (21) .

بالصيام تكتسب ملكة التقوى

وقال ابن الرومي: شهرُ الصَّيام مباركٌ لكنّما ... جُعلتْ لنا بركاتُه في طولهِ منْ كان يألفهُ فكيف خروجُهُ ... عني بجدع الأنف قبلَ دخولهِ إني ليعجبني تمامُ هلالهِ ... وأسرُّ بعد تمامِه بنحولهِ شهرٌ يصدُّ المرءَ عن مشروبهِ ... مما يحلُّ له ومِنْ مأكولهِ لا أستثيبُ على قبولِ صيامِهِ ... حسبي تصرُّمه ثوابَ قبولهِ اما ابن الصباغ الجذامي فهو يقول: هذا هلال الصوم من رمضان ... بالأفق بان فلا تكن بالواني وافاك ضيفا فالتزم تعظيمه ... واجعل قراه قراءة القرآنِ صمه وصنه واغتنم أيامه ... واجبر ذما الضعفاء بالإحسان واغسل به خطّ الخطايا جاهدا ... بهمول وابل دمعك الهتّان لا غرو أن الدمع يمحو جريه ... بالخدّ سكبا ما جناه الجاني للَه قوم أخلصوا فخلّصوا ... من آفة الخسران والخذلان بالصيام تكتسب ملكة التقوى الصيام يبعث على الايمان الصادق, ويرقق القلب, ويصفي النفس, ويعين على خشية الله تعالى؛ ولذا استعان به الانبياء في تحقيق مآربهم, والاولياء في تهذيب نفوسهم, والخاصة في شفاء قلوبهم, والعامة في شفاء جسومهم, وفي قوله تعالى (لعلكم تتقون) اشعار بان حكمة الصيام: التمرن على تقوى الله تعالى؛ لانه جل شأنه لم يقل: لعلكم تألمون, او لعلكم تصحون. فالصيام اذا: اختبار روحي, وتجربة خلقية لاكتساب ملكة التقوى, والتقوى: هي الهدف الاسمئ؛ الذي ان أصبته جاءتك كل الثمرات راغمة, وان اخطأته فقد اضعت عملك كله سدى, وخرجت من دنياك بغير نصيب في الاخرة والعياذ بالله. فاذا وصل العبد الى مرتبة التقوى دانت له الدنيا والاخرة, وصار على جوارحه سيدا مطاعا, واصبح جديرا في الاستخلاف في الارض والتمكين له فيها! وقديما قيل: " التقوى هي العدة الوافية والجنة الواقية" قال الشاعر: وما لبس الإنسان ابهى من التقى ... وان هو غالى في حسان الملابس (¬1) وقال اخر: لاشيء اعلى من التقوى وصحبتها ... ان التقي عزيز حيث ما كان وقد يقول قائل: ولم كانت التقوى نتيجة من نتائج الصيام دون سائر العبادات؟ والجواب على ذلك: هو ان الصيام ليس كشائر العبادات؛ لأن العبادات لها جوانب شتى تحببها ففي الصلاة مثلا: حلاوة المناجاة, وسعادة القرب من حضرة الرب! وفي الزكاة: اطاعة لاريحية الكرم والجود, وفي الجهاد: عزة الحمية, واباء الضيم, اما الصيام: فليس فيه معاونة من الطبع على ادائه؛ بل فيه على العكس: مقاومة ومعاندته, لذا كان اقرب الاعمال الى خلوص النية من الشوائب؛ ومن اجل ذلك قال المولى سبحانه في ¬

_ (¬1) - هذا البيت لابي العلاء المعري.

الصوم فيه تدريب على القيادة والسيادة

الحديث القدسي: (كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ الا الصيام فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ) (¬1) الصوم فيه تدريب على القيادة والسيادة الصوم وان كان من مظاهره الجوع والعطش والحرمان, فانه تدريب على السيادة والقيادة: السيادةعلى النفس؛ والتحكم في اهوائها ونزواتها, وقيادتها الى مايصلحها في دنياها, ويعزها في اخراها! وسيادة النفس ارقى انواع السيادة, واقسى انواع المجاهدة, فاذا ماساد الإنسان نفسه دامت له الدنيا بما فيهاومن فيها, ولم يحل بينه وبين الجنة سوى الموت, يلقى ربه فيفيه بما وعده (¬2) (إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي, وَأَنَا أَجْزِي بِهِ) قال الشاعر: بُشرَى بإسفارِ صَباحِ النّجاح ... عَن صَفْحَةِ الصّفحِ وَخَفضِ الجَناح هَذا افتِتاحُ الصَومِ مُسْتَقبَلاً ... عَن اختِتام بِالرّضى وافتِتاح (¬3) والصيام يدرب نفوس الصائمين على الشرف والعفة, ويؤهلها لعمل الخير, ويبعدها عن الشر, فالصائم الخائف من ربه لايخدع ولا يغش, ولايظلم, ولا يهضم حقا, ولا يسعى للفساد بين الناس, والصيام يخفف الشهوة التي هي ام المعاصي, ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ) (¬4) . فوائد الصوم ان للصوم منافع جمة وفوائد عظيمة من الناحيتين الاجتماعية والفردية, منها: العطف على المساكين واكرامهم, لان الصائم عندما يجوع يتذكر من هذا حاله في عموم الاوقات فيحمله هذا التذكر على رحمة المساكين ومحبتهم والعطف عليهم, فالرحمة تنشؤ في الغالب الأعم عن التذكر والألم, والصيام طريقة عملية لتربية الرحمة في النفس, وتنمية المحبة والؤلفة والتعاطف, ومتى تحققت رحمة الغني للفقير الجائع وعطفه عليه واكرامه نشأت المحبة وحدثت الؤلفة, واصبحت للكلمة الانسانية الداخليه سلطانها النافذ, فبتوحد الاحاسيس والمشاعر تتوحد الانسانية, وتتجه الى الفضيلة, والصوم يبعث في النفس الإيثار والكرم ومحبة اطعام الطعام واكرام الفقراء والاحسان الى الاخوان, وقد روي ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كان أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ) (¬5) ومن فوائد الصوم: المساواة بين الاغنياء والفقراء, فهو نظام عملي من اقوى وابدع الانظمة والمبادئ التي جعلها الحق سبحانه وتعالى فريضة اجبارية ليتساوى ¬

_ (¬1) - البخاري في صحيحه حديث رقم (1771) . (¬2) - اوضح التفاسير للعلامة محمد محمد عبد اللطيف , ص35 , المطبعة المصرية ومكتبتها الطبعة الثامنة. (¬3) - هذان البيتان لابن الأبار. (¬4) - مسلم في صحيحه حديث رقم (2486) . (¬5) - البخاري في صحيحه حديث رقم (5) .

الجميع في بواطنهم, فهي بمثابة فقر اجباري يراد به اشعار النفس الانسانيه بتساوي الجميع في عبادة الصوم لله وحده, فالجميع يمتنع عن الاكل والشرب والجماع ولغو الحديث, والوحدة الحقيقية هي تلك التي تتم حين يتساوى الناس بالشعور, لا حين يختلفون, وحين يتعاطفون باحساس الألم الواحد لاحين يتنازعون بالرغبات المتعددة, ان هذا المظهر السامي في الصوم ينير طريق المسلم ويجعل الأمة اكثر تماسكا واكثر اشراقا واعظم نورا ان ادركت القلوب معنى تلك العبادة العظيمة. ومن هنا ندرك ان الإسلام بفرضه هذه العبادة يؤسس لاجتماع المسلمين ولقيام وحدتهم التي تقوم على رابطة وحدة الدين والعقيدة ووحدة المبادئ الخلقية والعبادات التي تشعر بوحدة المسلمين واتحاد الموحدين, فقيام المجتمع الاسلامي على مبادئ الفضيلة والاخلاق هو امثل الطرق لتكوين الجماعات الدولية, ولا يعد الاجتماع العنصري او الاقتصادي امثل المجتمعات لتكوين الامم, وذلك لأن الجماعة الواحدة لاتتكون منها امة الا اذا اتحدت المشاعر والاهواء والمنازع النفسية, ولاتتكون هذه المشاعر تحت سلطان تبادل المنافع فقط, وذلك لأن تبادل المنافع يكون عند قيامها, ويزول عند زوالها ولاتتحد النفوس في هذا الظل العارض الذي يتغير بتغير الأحوال والازمان, ولم يعرف ان امة تكونت من مجرد التبادل الاقتصادي او الاشتراك في المنفعة المادية واستمرت وحدتها قائمة وان وجد مايشعر بمثل ذلك في فترات وجيزة, فهو غير قائم على عرى وثيقة بل انه يزول وان استمر الى حين. وبالموازنة بين تكوين

الامم واتحادها على اساس عنصري وتكوينها وتوحدها بالدين يتبين ان السير بالانسانية في مدارج الرقي, وقيام العلائق البشرية على اساس من المودة والفضيلة انما يكون تحت ظل الدين لاتحت ظل العنصرية, لان العنصرية تفرض دائما تفضيل عنصر على عنصر, وهي شكل من اشكال التجمع الحيواني, اذ تجتمع فصيلة من الفصائل لتقاتل أخرى, وتصيطر على مكان تقيم فيه لتغالب الاخرين وتنهب ثرواتهم , فليس التجمع الانساني على اساس العنصرية الا بقية من بقايا الحيوانية المتناحرة في الإنسان. اما الاجتماع باسم الإسلام فهو اجتماع لايقوم على المغالبة, بل على الاخوة العامة والمودة الراحمة التي يحث عليها الدين القويم فتتحد فيها المشاعر نحو الفضيلة والمثل العليا التي تنزع بالروح الانساني نحو الملكوت الأعلى, ويخضع فيها الإنسان لخالق الاكوان وحده. ومن فوائد الصوم ايضا: اضعاف سلطان العادة, فقد بلغ ببعض الافراد الى حد الاستعباد, فاذا تاخر عنهم الطعام عن موعده فاصابهم الجوع ساءت اخلاقهم, وقد يكون سلطان المكيفات من القهوة والشاي والتدخين اشد من سلطان الطعام على اهله, ففرض الله الصيام ليكون فيه تلطيفا وتخفيفا لهذا السلطان الجامح, ومن فوائد الصوم: اضعاف سلطان الاسترسال في الملذات وتخفيف الشره والثبات على المكاره وتعويد النفس الصبر والقرب من الله سبحانه وتعالى واخلاص العبادة له, ومن فوائد الصوم: انه يقي الشخص ان يكون حيوانا يعمل بشريعة الغاب, ويقي المجتمع بتهيئة الفرد الصالح العامل على خيره

من اسرار الصوم

فيكون انسانا مع انسان لاحيوانا ضاريا مع انسان , ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَسْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ) (¬1) . من اسرار الصوم من اسرار الصوم انه يتعود فيه الإنسان الابتعاد عن كل مايغضب الله, فالصائم من اجتنب الكذب والضلال, والغيبة والنميمة, والحسد والشقاق, والالفاظ الباعثة على النفور الموصلة الى الفساد والفجور, وفي الحديث: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ) (¬2) وقد ذكر الغزالي في احياء علوم الدين من اسرار الصوم اولا: غض البصر وكفه عن الاتساع في النظر إلى كل ما يذم ويكره وإلى كل ما يشغل القلب ويلهي عن ذكر الله عز وجل. ثانيا: حفظ اللسان عن الهذيان والكذب والغيبة والنميمة والفحش والجفاء والخصومة والمراء، وإلزامه السكوت وشغله بذكر الله سبحانه وتلاوة القرآن ¬

_ (¬1) - مسلم في صحيحه حديث رقم (1944) . (¬2) - البخاري في صحيحه حديث رقم (1770) .

السحور بركة

ثالثا: كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه لأن كل ما حرم قوله حرم الإصغاء إليه, ولذلك سوى الله عز وجل بين المستمع وآكل السحت فقال تعالى " سماعون للكذب أكالون للسحت " وقال عز وجل " لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت ". رابعا: كف بقية الجوارح من اليد والرجل عن الآثام والمكاره، وكف البطن عن الشبهات وقت الإفطار. خامسا: أن لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار بحيث يمتلىء جوفه. سادسا: أن يكون قلبه بعد الإفطار معلقاً مضطرباً بين الخوف والرجاء إذ ليس يدري أيقبل صومه فهو من المقربين أو يرد عليه فهو من الممقوتين؟ (¬1) قال الشاعر: اذا لم يكن في السمع مني تصامم ... وفي مقلتي غض وفي منطقي صمت فحظي اذا من صومي الجوع والظما ... وان قلت اني صمت يوما فما صمت السحور بركة لقد حث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على السحور لما فيه من قيام الليل ووجود فرصة لذكر الله وتسبحيه وتمجيده, والتهجد له وقراءة القرآن والاستعداد لصلاة الفجر وغير ذلك من اعمال رمضان الخيرية, وما اوقات رمضان الا سوق نافقة تشرى فيه المحامد, وتكتسب فيها المكارم وتشاد فيها الصالحات, وفي الحديث النبوي: نِعْمَ سَحُورُ الْمُؤْمِنِ التَّمْرُ) (¬2) وقد اجمع اساطين الحكماء وفطاحل العلماء ومهرة الاطباء على نفع التمر وغذائة, فقد اودع فيه الخالق من الخفة والسهولة في الهضم ما يعين الصائم على صيامه وقيامه, فلا تترك سنة تعجيل الافطار وتاخير السحور فذالك من سنة المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولاتنس الذكر والاستغفار والدعاء في الأسحار ففي ذلك خير الدنيا والاخرة, قال الشاعر: والذِّكرُ فيه حَيَاةٌ لِلقُلُوبِ كما ... يُحيِي البِلادَ إذا ما ماتَت المَطَرُ (¬3) بالصوم تغفر الذنوب في الصوم ثواب كبير واجر جزيل فمن صام رمضان ايمانا واحتسابا غفر له ذنبه, فالصائم تتنزل عليه رحمات الله, والصائم له عند فطره دعوة مستجابة, فرمضان كله خير وموسم عبادة, وفيه ليلة خير من الف شهر, فليلة القدر فيه وهي هبة من الله لهذه الأمة, فاحرص على قيامها وتمتع بلذة المناجاة فيها, وفي الحديث النبوي: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) (¬4) وفي حديث اخر: (مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) (¬5) فاحرص على الطاعات في شهر الصيام قبل ¬

_ (¬1) - احياء علوم الدين للغزالي ج 1/ ص245 بتصرف. (¬2) - سنن ابي داود حديث رقم (1998) . (¬3) - هذا البيت لسابق البريبري. (¬4) - البخاري في صحيحه حديث رقم (37) . (¬5) - مسلم في صحيحه حديث رقم (1268) .

ان يرحل فهو موسم لحصاد الحسنات فاغتنم فيه من الاعمال الصالحات, قال الشاعر: ألا إنَّ شهر الصَّوم عنكم قد انقضى ... فهل مُرجع منكم لوشك انصرامهِ وهل فيكمُ مستوحش لفراقه ... وما فاته من صومه وقيامهِ فلا تغفلوا يا قوم إخراج حقّه ... وأدُّوا زكاة الفطر عند تمامهِ وما شرعت إلاَّ لتكفير لَغْوهِ ... ولم تُفرض إلاَّ طُهرةً لصيامهِ فقد فازَ مَن زكَّى امتثالاً لربِّه ... وحاز بشهر الصَّوم تكفير عامهِ (¬1) فربما كان الصيام لك دواء ولروحك غذاء, فاذا هيمنت الفطرة الايمانية على قلبك في شهر الصيام وغذي قلبك بعوامل حب الله تزودت بالتقوى وفرحت بفضل الله ورحمته واخلصت لله في عبادته وقصدت الله في كل شيء وعرفت انه المقصود في الرغائب المستغاث به عند المصائب, وانه الصمد الكامل في كل الصفات, وانه سبحانه الصمد الذي يصمد اليه في الحوائج وهو الصمد الذي لايزول ابدا, وقد قال بعض العلماء: من اراد ان يتحلى بكمالات الصمد فليقلل من الاكل والشرب وليترك فضول الكلام, اي الهذر, فمن كثر كلامه كثر خطؤه (¬2) , فالمؤمن الصائم الصادق في ايمانه لايقصد بحوائجه غير الله ولايعول الا على الله ولايضع الامال الا بالله الصمد الواحد الاحد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد, فتعرف على اسمه الصمد تفلح وتسعد. الصمد من اسماء الله الحسنى الصمد ورد في كتاب الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ} (¬3) وورد في حديث ابي هريرة عند الترمذي ان لله تسعة وتسعين اسما وعد منها (الصمد) وجاء عند البخاري في فضائل القرآن من حديث ابي سعيد الخدري ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لاصحابه: (أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ, فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا أَيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ الْقُرْآنِ) (¬4) وروى البيهقي بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى (الصمد) , قال: السيد الذي كمل في سؤدده والشريف الذي كمل في شرفه والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والغني الذي قد كمل في غناه، والجبار الذي قد كمل في جبروته، والعالم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمه، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد وهو الله عز وجل هذه صفته لا تنبغي إلا له ليس له كفو (¬5) وليس كمثله شيء، فسبحان الله الواحد القهار (¬6) , والصمد هو الذي تصمد اليه جميع المخلوقات اي تقصده بالذل والحاجة والافتقار وهو الذي كمل في علمه, وحكمته وحلمه وقدرته وعظمته ورحمته وسائر اوصافه ¬

_ (¬1) - وردت هذه الابيات في الازدهار للسيوطي غير منسوبة الى قائل بعينه. (¬2) - موسوعة اسماء الله الحسنى, ص535. (¬3) - سورة الصمد الآيتان (1-2) . (¬4) - البخاري في صحيحه حديث رقم (4628) . (¬5) - الكُفْءُ والكُفُؤُ بسكون الفاء وضمها: النظير والمِثْل. (¬6) - الاسماء والصفات للبيهقي, ص 108.

فهو كامل الصفات, وقال الدكتور النابلسي: معنى الصمد: القصد. وفي حديث معاذ ابن الجموح في قتل ابي جهل قال: فصمدت له اي قصدته حتى امكنتني منه غرة. هذا المعنى الاول في اللغة. الصمد: القصد. والصمد كذلك: السيد المطاع الذي لايقضى دون امره, واصمد اليه الأمر: اسنده اليه (¬1) . فاالله جل وعلى هو الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد وهو الذي اسندت الأمور اليه, فلم يقض فيها غيره وهو الذي يصمد اليه في الحوائج اي يقصده الخلق في كل الحاجات, وهو الذائم الباقي بعد فناء خلقه, وهو الذي خلق كل شيء ولا يستغني عنه شيء, وهو مستغن عن كل احد, وهو الذي تقدست ذاته عن ادراك الابصار والعِيان فالابصار والحواس لاتدركه. قال الشاعر: صمد بِلا كفء وَلا كَيفية ... أَبدا فَما النظراء والاشباه شهدت غَرائب صنعه بوجوده ... لَولاه ما شهدت به لَولاه واليه أذعنت العُقول فآمنت ... با لغيب تؤثر حبها اياه سُبحان من عنت الوجوه لوجهه ... وَله سجود أَوجه وَحباه طوعا وَكرها خاضعين لعزه ... فَله عليها الطوع والاكراه سل عنه ذرات الوجود فانها ... تدعوه معبودا لها رباه ما كانَ يعبد من الاه غيره ... وَالكل تحت القهر وَهواله (¬2) ¬

_ (¬1) - موسوعة اسماء الله الحسنى ص523. (¬2) - هذه الابيات للبرعي.

ثمرة معرفة اسم الله الصمد

ثمرة معرفة اسم الله الصمد اذا علم المكلف ان الله تبارك وتعالى الأحد الصمد وجب عليه ان يؤمن به, وان يوحده مخلصا فقد علم الا صمدانية ولاوحدانية الا لله وحده, فلا يقصد غيره ولا يلجأ في الحوائج الا اليه, فمن اراد ان يتحلى بكمالات الصمد فليقلل من الاكل والشرب وليترك فضول الكلام, وان يتخلق بهذا الاسم العظيم فيجعل نفسه مقصودا من قبل الناس للخير, معينا لهم على حوائجهم, ومن تخلق بكمالات الصمد اكثر من ذكر الصمد, فمن احب السور الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم سورة الاخلاص التي ورد فيها اسم الله الصمد وقد ورد في بعض الاحاديث انها تعدل ثلث القرآن, وتلاحظ في شهر رمضان ان الإنسان لتركه الطعام والشراب تصفو نفسه, وفي الامثال السائرة: "البطنة تذهب الفطنة" والانسان الذي يعلم ان الله الصمد وحده هو الذي يُطعِم ولا يُطعَم, ويقصد في كل الأمور والحاجات يتوجه اليه ويتوكل عليه ويرغب لما عنده ويحتكم الى شريعته ويرجع الى الله الصمد الذي كملت قدرته وعظم سلطانه, رب كل شيء ومليكه المحكم تدبيره والعدل تقديره, في كل اموره يدعوه ويرجوه فهو الذي لايعجزه شيء ولايفوته مطلوب. دعاء الله باسمه الصمد يا الله ياصمد يا واحد ليس لنا سواك ياالله مقصد, فانلني والمؤمنين من طاعتك ماتحب به ان تعبد واطعمنا من طيبات رزقك في اليوم وغد, وارفعنا الى الدرجات العلى من الجنة ياصمد ياواحد يااحد, واسألك يا الله ياصمد ان تنفحني بنفحة خير منك في الدنيا والاخرة وان تجعلني موحدا لك ياواحد ياصمد واغفر لي ولوالدي والمؤمنين ياقدوس ياصمد, وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله واصحابه والتابعين واستجب دعائي ياصمد ياكريم.

الفصل الثالث والخمسون الحج

الفصل الثالث والخمسون الحج الحج الحج لغة: القصد الى معظَّم. وفي الشرع: قصد البيت الحرام بمكة للعبادة باداء اعمال مخصصة في زمن مخصوص لمن استطاع اليه سبيلا, وهو الركن الخامس من اركان الإسلام فرضه الله على كل بالغ مستطيع. والحج في الاسلام يختلف عن الحج في سائر الاديان, اذ ان الحج عندها عبارة عن التبرك بقبور القديسين وما تركوه من اثار ومبان, وهذا ماكرهه الإسلام ونفر منه. فالاسلام يعتبر الحج وسيلة لتحقيق الفوائد الروحية والادبية والاجتماعية والاقتصادية, والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (¬1) وقد فسر العلماء المنافع يانها دينية ودنيوية معا, والدين والدنيا في نظر القرآن مترابطان ترابط الروح بالجسد, فاذا كان الدين يمد الروح بالايمان الصحيح والاداب, فان امور الدينا تمده باسباب البقاء ودواعي الارتقاء, والحج مؤتمر عام لتوحيد غايات المسلمين وتوجيههم الى مصادر الحياة الصحيحة بما يقتبسه بعض شعوبهم من ثقافات البعض الاخر, وفيه تعويد للنفس على مكارم الاخلاق والبعد عن الرفث والفسوق والشقاق, وفي الذكر الحكيم: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ¬

_ (¬1) - سورة الحج الآيتان (27-28) .

في الحج اجتماع الناس وتآلفهم

اللهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (¬1) والحج ركن الإسلام ومجتمع الاخوان وفيه تعظيم لشعائر الرحمن, وفي الحديث النبوي الشريف: (بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَصَوْمِ رَمَضَانَ) (¬2) , والحج خير وبركة فمن حج البيت زكاة نفسه وغفر ذنبه وظفر بخير وفير واجر كبير, قال الشاعر: هنيئاً لمن حج بيت الهدى ... وحطَّ عن النفس أوزارها (¬3) وقال اخر: حبذا الحج وأيامُ مِنَى ... ومُصلّانا وتقبيلُ الحجر (¬4) اما صالح الكواز الحلي فهو يقول: أرى الحج شاهد عدل لكم ... بتأدية الفرض مهما وجب في الحج اجتماع الناس وتآلفهم لقد اهتم الشارع الحكيم باجتماع الناس وتآلفهم, وتبادلهم الاخوة الدينية, والمحبة الخالصة, فشرع صلاة الجماعة: ليختلط ابناء أهل الحي الواحد, وشرع الجمعة: ليجتمع أهل البلدة, وشرع الحج: ليجتمع أهل الاقطار والامصار؛ ليتعارفوا, ويتاحابوا, ويتبادلوا الاراء العامة؛ التي تعود بالنفع على الأمة الإسلامية في سائر اقطار المجموعة, قال الشاعر: هذه مكة العزيزة بيت الله ... يسعى لحجها الثقلان فالكعبة هي اول بيت وضع للناس لعبادة الله وحده وفي القرآن الحكيم: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ *فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (¬5) جعل الله الكعبة البيت الحرام مثابة للناس وامنا لقد جعل الله للبشر في زحمة الصراع منطقة امان انها الكعبة المشرفة. والكعبة: البيت الحرام, سمي بذلك كما يقول أهل اللغة لتربيعه (¬6) , وقال ابن الجوزي: وفي تسميتها بالكعبة قولان: احدهما لانها مربعة, والثاني لعلوها. وقال ابن خلدون: وتسمى الكعبة لعلوها من اسم الكعب (¬7) . انها منطقة الامان التي جعلها الله للبشرية منذ بناء هذا البيت على يد ابراهيم واسماعيل عليهما السلام حينما اسساه على التوحيد, قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (¬8) فما ¬

_ (¬1) - سورة الحج الآية (197) . (¬2) - البخاري في صحيحه حديث رقم (7) . (¬3) - هذا البيت لابن جبير. (¬4) - هذا البيت لابن الرومية. (¬5) - سورة آل عمران الآيتان (96-97) . (¬6) - مختار الصحاح, ص586. (¬7) - مقدمة ابن خلدون, ص 353. (¬8) - سورة الحج الآية (26) .

احوج البشرية المفزعة الوجلة, المتطاحنة المتصارعة الى منطقة الامان التي جعلها الله للناس في هذا الدين, وبينها للناس في القرآن الحكيم ليعلموا ان الله يعلم مافي السماوات والارض وان الله بكل شيء عليم ليعلموا انه الله سبحانه وتعالى يعلم طبائع البشر وحاجاتهم ومكونات نفوسهم وهتاف ارواحهم وانه يقرر شرائعه لتلبية الطبائع والحاجات, والاستجابة للاشواق والمكونات فالبشرية كلها بحاجة الى عبادة الله بحاجة الى عونه وتوفيقه وتسديده بحاجة الى امان والى منطقة آمنه تقدم في وسط المعركة المستعرة بين المتخاصمين والمتصارعين والمتزاحمين على الحياة بين الاحياء من جميع الانواع والاجناس.. بين الرغائب والمطامع والشهوات والضرورات لتحل الطمأنينة محل الخوف ويحل السلام محل الخصام, وترفرف اجنحة من الحب والإخاء والامن والسلام وتدرب النفس البشرية في واقعها العملي - لا في عالم المثل والنظريات- على هذه المشاعر وهذه المعاني قال تعالى: {جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬1) لقد جمع الله في هذا النص بيان حرمة المكان وحرمة الزمان لانه اراد ان يجعل الكعبة بيت الله الحرام والمسجد الحرام مثابة امن وسلام. تقيم الناس وتقيهم الخوف والفزع, كذلك جعل الله الاشهر الحرم لتكون منطقة امن في الزمان كالكعبة منطقة امن في المكان ثم مد الامن الى خارج منطقة الزمان والمكان, فجعله حقا ¬

_ (¬1) - سورة المائدة الآية (97) .

للهدي الذي يساق ليبلغ الكعبة في الحج والعمرة؛ فلايمسه احد في الطريق بسوء, ان ذلك الامن والامان يشمل الإنسان والطير والحيوان والحشرات بالامن في البيت الحرام, وفي فترة الاحرام بالنسبة للمحرم حتى وهو لم يبلغ الحرم, انها بحق منطقة السلام والسماحة التي يثوب اليها الناس ويقصدونها بالحج, وقد ذكر بعض العلماء انه ماعلى وجه الارض بلدة يستجاب فيها الدعاء في خمسة عشر موضعا الا مكة؛ اولها جوف الكعبة الدعاء فيها مستجاب, والدعاء عند الحِجْر الاسود مستجاب, والدعاء عند الركن اليماني مستجاب, والدعاء عند الحجر مستجاب, والدعاء خلف المقام مستجاب, والدعاء في الملتزم مستجاب, والدعاء على الصفا والمروة مستجاب, والدعاء بين الصفا والمروة مستجاب, والدعاء بين الركن والمقام مستجاب, والدعاء بمنى مستجاب, والدعاء بعرفة مستجاب, والدعاء في المشعر الحرام مستجاب (¬1) , قلت ليس ذلك فحسب فالصلاة في مكة بمائة الف صلاة وفيها بركة البيت وفضيلة التجميع والامن النفسي في المنطقة الامنة وفي الزمن الامن وهناك تصفو النفس البشرية وترق فتتصل بالملا الأعلى وتتهيأ للتعامل مع البشرية بلطف وامن, فهناك تحس قلوب الناس برحمة الله في شريعته وتتذوق جمال هذا التطابق بينها وبين فطرتهم, ان الحاج يشعر حينما يتطوف بالبيت العتيق بالمنافع العظيمة التي شهدها, انها الوحدة الحقيقية بلا ريب والوحدة النفسية والفكرية والاحساس بالجامعة ¬

_ (¬1) - وصف الكعبة المشرفة وتاريخها تأليف الشيخ احمد جاد, ص21, طبعة دار الغد الجديد المنصورة مصر الطبعة الأولى 1426هـ 2005م.

العامة التي تجمع الأمة على تعظيم شعائر الله وتوحيده وقد جعلهم الله شعوبا وقبائل ليتعارفوا فاكرمهم عند الله هم أهل التقوى الذين يدينون بدين الوحدانية ودين الاجتماع, وهم امة واحدة يجتمعون باسم الإسلام ويحجون البيت الحرام وهو اجتماع على الهدى والرشد والخير, لايقوم على المغالبة بل على الاخوة العامة والمودة الراحمة التي يحث عليها هذا الدين القويم, ان هذا الحج وهذا الاجتماع وهذا المؤتمر العظيم اذا اخلص الإنسان فيه لله وكان حجه مبرورا خرج الإنسان من ذنوبه وكسَب الاجر الكبير, والحج المبرور كما روي ذلك في الحديث النبوي (ليس له جزاء الا الجنة) (¬1) والحج المبرور هو الذي لايخالطه اثم ولا ذنب ولا انحراف. ان اجتماعا على توحيد الله وتعظيم شعائره واداء فريضة الحج ومناسكه في منطقة الأمان التي جعلها الله مثابة للناس وامنا نعمة عظيمة ومنة كبيره, انه الاجتماع على محبة الله والحب في الله الذي اساسه الالتزام بمنهج الله, وهو مقياس الايمان وعنوان التوفيق في الدنيا ورضوان الله في الاخرة, وليس تجمعا لاضدهاد امة ونهب ثروة واخافة امن كما نطق بذلك شاعر فقال: تجمعتم من كل جنس وأمة ... ولون لحفظ السلم, هل حُفِظ السِّلْمُ وهل رفع الحق الذليل جبينه ... وهل نحن بتنا لا يروعنا الظلم سمعنا كلاما لذ في السمع وقعه ... ورُبَّ لذيذ شاب لذته السم أرى الدول الكبرى لها الغنم وحدها ... وقد عادت الصغرى على رأسها الغرم ¬

_ (¬1) - البخاري في صحيحه حديث رقم (1650) .

الاحرام وحكمته

الا كل شعب ضائع حقه سدى...........اذا لم يؤيد حقه المدفع الضخم متى عفَّت الذئبان عن اكل صيدها ... وقد امكنتها من مقاتلها البهم الاحرام وحكمته اذا وصل الحاج او المعتمر الى المواقيت التي عينها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لمن يريد ان يدخل الى الحرم لاداء الحج او العمرة واراد ان يدخل في الاحرام تجرد من ثيابه ولبس ازارا ورداء ابيضين هي ثياب الاحرام ويقول عند الاحرام في الميقات ان كان يريد العمرة (لبيك بعمرة, او لبيك بعمرة متمتعا بها الى الحج, ان كان قد قصد التمتع الى الحج) او يقول: (لبيك اللهم بحج وعمرة) ان كان قد قصد الجمع بينهما وكان حجه قرانا, وان كان قد قصد الحج مفردا فيقول (لبيك اللهم بحج) ولا يكتفي بمجرد مافي قلبه من قصد الحج ونيته, فان القصد مازال في القلب منذ خروجه من بلده, بل لابد من قول او عمل يصير به محرما في الميقات وذلك كان يقول: لبيك اللهم بحج, او لبيك اللهم بعمرة متمتعا بها الى الحج, او لبيك اللهم بحج وعمرة, فاذا لبى قاصدا للاحرام انعقد احرامه اتفاقا. واذا دخل المسلم في الاحرام حرم عليه ان يتخذ اي وسيلة من وسائل الرفاهية والزينة, فلا يتطيب ولا يلبس من الثياب مافصل على الجسم وخيط من حلّة أوقميص او بنطلون ولاينتعل حذاءً ساترا للرجل الا نعلا ساذجة, ولا يتزين بالخواتم

وما اشبه ذلك ولايحلق ولا يقصر اظفاره, ولا يقرب النساء. والحكمة من ذلك كله ان الحج عبادة الغرض منه التقرب الى الله والوصول الى مااعده سبحانه للنفس المحسنة من حسن الجزاء, ولا يكون ذلك الا باشعار النفس بضرورة الاقتصار على ماهو ضروري فقط. والتجرد لله في جميع الحركات والسكنات من الأمور التي تشغل النفس من زخارف الحياة التي تصرفها في لحظات الاحرام واداء المناسك عن الاخلاص لله في العبادة مما يسمو ويرتفع بالنفس فوق المادة وفوق مااعتادت من الخضوع له من الشهوات والزينة, وفي ذلك رياضة ترجع بالنفس الى طبيعتها الاولى, فالانسان بفطرته وطبيعته يشعر عندما يرجع الى فطرته وطبيعته انه ازكى روحا واطهر قلبا, وفي رياضة النفس على المشقة واحتمال المكروه عند القيام باداء المناسك وهو في حالة احرام مايربي النفس ويدربها على قوة الاحتمال, فهذا نظام الكشافة الرياضي الذي اخترعه البشر له اثر على تربية النشء على قوة الاحتمال؛ فكيف لاتكون رياضة الاحرام واداء المناسك ابلغ اثرا واكثر نفعا وهو الذي يحمل النفس ويدربها على المشقة وعلى الإيثار وعلى المسارعة في فعل الخير وعلى الاجتماع وعلى الخضوع لله الواحد القهار, وعلى العبادة والالتزام بمافرضه الله وكتبه, وعلى الاحسان, وهي تشهد مايظهر عليه الحجاج في لباسهم الموحد غنيهم وفقيرهم وقويهم وضعيفهم مُوحَّدينَ وموحِّدين لله وذلك مايحمل معنى المساواة والاخوة الشاملة التي يحرص الإسلام على غرسها في نفوس اتباعه, ان الإنسان ليشعر ان الإسلام دين

الحج المبرور

محبة وسلام, فالمحرم عندما يرى البيت الحرام يقول في امن وسلام (اللهم انت السلام ومنك السلام فحيّنا ربنا بالسلام, اللهم زد هذا البيت تشريفا وتكريما ومهابة, وزد من حجه اواعتمره تكريما وتشريفا) ان هذا الدعاء يدل على ان من اهداف الحج غرس حب السلام في النفوس, واستئصال روح الكراهية والبغضاء وتوجيه الناس الى ان يعيشوا اخوة متحابين. (¬1) ويؤيد هذا المعنى ماجاء في القرآن {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (¬2) . وقال الشاعر: حبذا الحج وأيامُ مِنَى ... ومُصلّانا وتقبيلُ الحجر (¬3) الحج المبرور الحج المبرور لارفث ولافسوق فيه, والحج المبرور لابد ان يكون الحاج ماله حلالا وملبسه حلالا والحج المبرور يكفر الذنوب ويعوّد الإنسان على الطاعة والاستقامة, والحج المبرور لابد ان يؤديه الإنسان خاليا عن الرياء والسمعة, فيتوجه الإنسان الى ربه بقلب خالص وزاد طيب وان يكون الإنسان قد عزم على التوبة والرجوع الى الله ورد المظالم الى اهلها وهجر المعاصي واصحابها, وان يسبح الله سبحانه وتعالى ويشكره كلما صعد شرفا ¬

_ (¬1) - روح الدين الاسلامي, ص262. (¬2) - سورة البقرة الآية (197) . (¬3) - هذا البيت لابن الرومي.

اوركب مركبا او دخل مكانا فهو يلاحظ عند مفارقة وطنه امتثال امر ربه واتباع نهج نبيه وان يحمد الله عند دخوله مكة محرما وان يتذكر عظمة الله وعظمة بيته, والا يتهاون بحرمة البيت بل يخشع ويتضرع ويسجد ويركع, ويطلب الرضوان من الرحيم المنان, وان يكون عند طوافه بالبيت موقنا انه بحضره الرب جوار بيته متفكرا في عظيم جلاله وكبير هيبته وان يبايع الله عز وجل على التزام طاعته, وان يسأله العون على ذلك, وان التزم الملتزم قصد التقرب من ربه واشتاق الى لقائه واستعاذ بالله من عذابه واليم عقابه والا يترك الذكر والدعاء والتضرع والرجاء لرب الارض والسماء, ولايغرنك حال من حج بمال حرام وتطاول على الناس في المسجد الحرام وانغمس في اللهو والاثام فحظه عمل البهتان والزور قال الشاعر: إِذا حَجَجتَ بِمالٍ أَصلُهُ دَنِسٌ ... فَما حَجَجتَ وَلَكِن حَجَّتِ العيرُ لا يَقبَلُ اللَهُ الا كُلَّ طَيبَةٍ ... ما كُلّ مَن حَجَّ بَيتَ اللَهِ مَبرورُ (¬1) وقال اخر: يحجون بالمال الذي يجمعونه ... حراما إلى البيت العتيق المحرم ويزعم كل منهمو أن وزره ... يحط ولكن فوقه في جهنم وقال اخر: يحج لكيما يغفر الله ذنبه ... ويرجع قد حطت عليه ذنوب اما احمد شوقي فهو يقول: ¬

_ (¬1) - هذان البيتان لابي الشمقمق.

وَيا رَبِّ هَل تُغني عَنِ العَبدِ حَجَّةٌ ... وَفي العُمرِ ما فيهِ مِنَ الهَفَواتِ وَتَشهَدُ ما آذَيتُ نَفساً وَلَم أَضِر ... وَلَم أَبغِ في جَهري وَلا خَطَراتي وَلا غلَبَتني شِقوَةٌ أَو سَعادَةٌ ... عَلى حِكمَةٍ آتَيتَني وَأَناةِ وَلا جالَ إِلّا الخَيرُ بَينَ سَرائِري ... لَدى سُدَّةٍ خَيرِيَّةِ الرَغَباتِ وَلا بِتُّ إِلّا كَاِبنِ مَريَمَ مُشفِقاً ... عَلى حَسَدي مُستَغفِراً لِعِداتي وَلا حُمِّلَت نَفسٌ هَوىً لِبِلادِها ... كَنَفسِيَ في فِعلي وَفي نَفَثاتي وَإِنّي وَلا مَنٌّ عَلَيكَ بِطاعَةٍ ... أُجِلُّ وَأُغلي في الفُروضِ زَكاتي أُبالَغُ فيها وَهيَ عَدلٌ وَرَحمَةٌ ... وَيَترُكُها النُسّاكُ في الخَلَواتِ وَأَنتَ وَلِيُّ العَفوِ فَاِمحُ بِناصِعٍ ... مِنَ الصَفحِ ما سَوَّدتُ مِن صَفَحاتي وَمَن تَضحَكِ الدُنيا إِلَيهِ فَيَغتَرِر ... يَمُت كَقَتيلِ الغيدِ بِالبَسَماتِ وقُل لِرَسولِ اللَهِ يا خَيرَ مُرسَلٍ ... أَبُثُّكَ ما تَدري مِنَ الحَسَراتِ شُعوبُكَ في شَرقِ البِلادِ وَغَربِها ... كَأَصحابِ كَهفٍ في عَميقِ سُباتِ بِأَيمانِهِم نورانِ ذِكرٌ وَسُنَّةٌ ... فَما بالُهُم في حالِكِ الظُلُماتِ وَذَلِكَ ماضي مَجدِهِم وَفَخارِهِم ... فَما ضَرَّهُم لَو يَعمَلونَ لِآتي وَهَذا زَمانٌ أَرضُهُ وَسَماؤُهُ ... مَجالٌ لِمِقدامٍ كَبيرِ حَياةِ مَشى فيهِ قَومٌ في السَماءِ وَأَنشَئوا ... بَوارِجَ في الأَبراجِ مُمتَنِعاتِ فَقُل رَبِّ وَفِّق لِلعَظائِمِ أُمَّتي ... وَزَيِّن لَها الأَفعالَ وَالعَزَماتِ الحكمة من الطواف

قد جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس ومثابة يرجعون اليه ليذكروا الله ويعظموه فالحاج والمعتمر يطوف سبعة اشواط حول الكعبة جاعلا الحجر الاسود نقطة الابتداء. فالبيت رمز لعبادة الله وتوحيده وهو اول بيت وضع للناس فكان الطواف حوله بمثابة تحية لذلك البيت العتيق الذي وضع لعبادة الله وحده, ففي الطواف تشبه بالملائكة الحافِّين حول عرش الله الطائفين حوله, المسبحين له وفي ذلك مايدعو الى سمو الروح واخلاص العبادة لله والشعور بان هذا البيت وضع لذكر الله, فانت تصلي في اليوم خمس مرات او اكثر وتتوجه بصلاتك شطر هذه الكعبة المشرفة, وانت حينما تحج او تعتمر تحيي هذا المكان الذي بناه ابراهيم عبادة لله وحده {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (¬1) قال الشاعر: فإذا وصلتُم سالمينَ فبلّغوا ... منّي السلام أهيلَ ذاك الوادي وتذكّروا عند الطواف متيماً ... صبّاً فني بالشوق والإبعادِ لي من ربا أطلال مكّة مرغبٌ ... فعسى الإلهُ يجودُ لي بمرادي ويلوحُ لي ما بين زمزم والصفا ... عند المقام سمعت صوت منادي وقد قيل إن حكمة الطواف حول الكعبة تتمثل في تكريمها عن يقين، وتحيتها عن عقيدة صافية، تثق في أن تكريم أول بيت وضع لعبادة الله في أرضه هو أهم أسباب استجلاب الرحمة، فالمزور كريم، وبيته عظيم، ¬

_ (¬1) - سورة البقرة الآية رقم (125) .

حكمة السعي بين الصفا والمروة

والحكمة الخاصة بالطواف: أنه إقامة لذكر الله تعالى وهذه الحكمة قد نصت عليها السنة المطهرة فقد روى أبو داود في سننه قال: "حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا عبيد الله بن أبي زياد عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله (¬1) حكمة السعي بين الصفا والمروة السعي بين الصفا والمروة يبدأ من الصفا وينتهي بالمروة, والمسلم اذا صعد الصفا استقبل القبلة وكبر ثلاثا وقال لااله الا الله وحده لاشريك له صدق وعده, ونصر عبده وهزم الاحزاب وحده ثم يدعو الله بما شاء, ثم ينزل من الصفا وهو يمشي متجها الى المروة ويسعى بين الميلين _العلم الاحضر_ بسرعة تزيد عن المشي وتقل عن الركض ثم يمشي حتى ياتي المروة فيرتقي عليها ويصنع عليها مثلما صنع في الصفا من استقبال القبلة والتوحيد والدعاء فاذا انتهى من الشوط السابع على المروة فان كان متمتعا فانه يقصر شعر رأسه كله وكذلك اذا كان معتمرا في رمضان او غيره فبالشوط السابع تنتهى العمرة, وللمعتمر ان يقصر شعر رأسه او يحلق من السعي وما السعي بين الصفا والمروة الا اداء لنسك وتعظيما لشعيرة الله, ¬

_ (¬1) - سنن ابي داود حديث رقم (1612) .

الحكمة من الوقوف بعرفة

وفي السعي بين الصفا والمروة لجوء الى الله في كشف الضر واصلاح النفس فقد كشف الله الضر عن هاجر وولدها اسماعيل وفجر لهما نبع ماء زمزم بعد ان كاد العطش يودي بهما, والسعي بين الصفا والمروة وان كان فيه تمارين رياضية تشبة التمارين العسكرية فان من الخضوع والعبادة لله وحده والطاعة والتحلي بالصبر والذكر لله والتعظيم له مايشكره الله ويغفر به الذنب ويضاعف به الاجر فمع الاجتهاد ينال الثواب, وفي الذكر الحكيم: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} (¬1) وقال الشاعر: وسدد السعي واجعله لخالقنا ... محضاً تجد ذاك يوم الحشر والنشر واذكر الاهك في الساعات مجتهداً ... ولا تفوه بغير الذكر والسور وراقب الله فيما أنت طالبه ... كيما تفوز بخير الورد والصدر (¬2) الحكمة من الوقوف بعرفة الوقوف بعرفة هو ركن من اركان الحج لايتم الحج الا به, وفيه اشعار للمسلمين بالوحدة, والالفة, واتفاق المصالح, والاستواء امام ربوبية الله جل وعلا دون تفرقة بين صغير وكبير, ولابين غني وفقير, ولا بين صعلوك وامير, وذلك مايدعو الى توحيد الله واتحاد القلوب والمشاعر, وفي الذكر الحكيم: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (¬3) وفي الحديث النبوي ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطب الناس وقال (الا ان ربكم واحد وان اباكم واحد) (¬4) فهو يدعو الى توحيد الله الى وحدة المعبود ويبين وحدة الاصل, ووحده الأمة, ووحدة الفكر. ووحدة الاهداف وان المسلم ليشعر في يوم عرفة بتحمل مسؤلية حقيقية, تشمل الفرد, بوصفه فردا في الأمة التي تلتقي على صعيد واحد, فافرادها جميعا متضامنون في تحمل هذه المسؤلية, واحتمال تبعاتها, وان اولياء الأمر في هذه الأمة وعلماءها وقادة الفكر فيها اول من تقع عليهم المسؤلية, فهم جميعا محاسبون امام الله, وان الجميع على مختلف الوانهم واشكالهم يسألون الها واحدا يرجون مغفرته ويخشون عذابه وعقابه. ويوم عرفة هو يوم تغفر فيه الذنوب وتستجاب فيه الدعوات وينتصر الإنسان على شهواته وانانيته وعلى الشيطان الرجيم , ان من حكم الوقوف بعرفة: تجديد الشخصية والانخلاع من الماضي المشوب بالاثم والباطل وتجديد العهد مع الله على استئناف حياة نظيفة مستقيمة, ففي الحديث النبوي (من حج لله وفلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته امه) (¬5) ان في يوم عرفة يحس المؤمن باللقاء الروحي مع اخيه المؤمن وذلك مايشعره بحقيقة ماورد في الحديث النبوي (المسلم اخو المسلم لايظلمه ¬

_ (¬1) - سورة البقرة الآية (158) . (¬2) - هذه الابيات لابراهيم الحضرمي. (¬3) - سورة الانبياء الآية (92) . (¬4) - الامام احمد في مسنده حديث رقم (22391) . (¬5) - البخاري في صحيحه حديث رقم (1424) .

ولا يسلمه) (¬1) فعلى المسلم ان يذهب الى عرفة بدلا من ان يذهب الى اقصى الارض في رحلة سياحية ربما اقترف فيه الاثم, فليذهب ليتلاقى مع أهل الحق واهل التقوى ليتصل بالذين يلتمسون النور من السماء من رب العزة والجلال الذي جعل الحج سبيل رحمة ومنزل تعارف على مائدة الرحمن وليتخذ منه سبيلا للتعارف والدراسات الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية اقتداء بهدي النبي الكريم وما كان عليه سلف هذه الأمة, وما خطبة حجة الوداع عن المسلمين ببعيد, قال الشاعر: إِلى عَرَفاتِ اللَهِ يا خَيرَ زائِرٍ ... عَلَيكَ سَلامُ اللَهِ في عَرَفاتِ عَلى كُلِّ أُفقٍ بِالحِجازِ مَلائِكٌ ... تَزُفُّ تَحايا اللَهِ وَالبَرَكاتِ إِذا حُدِيَت عيسُ المُلوكِ فَإِنَّهُم ... لِعيسِكَ في البَيداءِ خَيرُ حُداةِ لَدى البابِ جِبريلُ الأَمينُ بِراحِهِ ... رَسائِلُ رَحمانِيَّةُ النَفَحاتِ وَفي الكَعبَةِ الغَرّاءِ رُكنٌ مُرَحِّبٌ ... بِكَعبَةِ قُصّادٍ وَرُكنِ عُفاةِ وَما سَكَبَ الميزابُ ماءً وَإِنَّما ... أَفاضَ عَلَيكَ الأَجرَ وَالرَحَماتِ وَزَمزَمُ تَجري بَينَ عَينَيكَ أَعيُناً ... مِنَ الكَوثَرِ المَعسولِ مُنفَجِراتِ وَيَرمونَ إِبليسَ الرَجيمَ فَيَصطَلي ... وَشانيكَ نيراناً مِنَ الجَمَراتِ يُحَيّيكَ طَهَ في مَضاجِعِ طُهرِهِ ... وَيَعلَمُ ما عالَجتَ مِن عَقَباتِ وَيُثني عَلَيكَ الراشِدونَ بِصالِحٍ ... وَرُبَّ ثَناءٍ مِن لِسانِ رُفاتِ لَكَ الدينُ يا رَبَّ الحَجيجِ جَمَعتَهُم ... لِبَيتٍ طَهورِ الساحِ وَالعَرَصاتِ ¬

_ (¬1) - مسلم في صحيحه حديث رقم (4677) .

العظيم من اسماء الله الحسنى

أَرى الناسَ أَصنافاً وَمِن كُلِّ بُقعَةٍ ... إِلَيكَ اِنتَهَوا مِن غُربَةٍ وَشَتاتِ تَساوَوا فَلا الأَنسابُ فيها تَفاوُتٌ ... لَدَيكَ وَلا الأَقدارُ مُختَلِفاتِ (¬1) انك اخي في عرفات تعبد الله العظيم وتؤمن بالله العظيم فاذا علمت ان الله عظيم فعليك ان تعظم شعائر الله, ان تعظم كتابه, ان تعظم امره, ولا يغرك من يعظمون الاقوياء والاغنياء من الناس فانهم لايدركون عظمة الله, فانك اذا لم تؤمن بالله العظيم لن تطيع الله عز وجل, فانت لو سالت هؤلاء الذين يعصون الله ليلا ونهارا, في كسب اموالهم, وفي تعاملهم مع الناس, وفي عدوانهم على الاخرين, وفي استعلائهم بالجاه اوالسلطان, وفي انحيازهم لمصالحهم الا تؤمنون بالله لاجابوا عليك نحن نؤمن بالله ولكنهم لم يدركوا عظمة الله وكرم الله وفضل الله وقوة الله وقدرة الله وقهر الله ولو عرفوا عظمة الله لحملهم ذلك على تحقيق ايمانهم, والتعرف على ربهم, والرجوع الى خالقهم, ولوجدوا في الحج فرصة للعودة الى الله فالايمان الذي لايحملك على طاعة الله لاينجيك من عذاب الله فانك ان رايت عظمة الله عز وجل تلاشت عظمة نفسك وعظمة الخلق وابتعدت عن ظلم نفسك وظلم الاخرين, فتعرف على الله العظيم في وجوده, والعظيم في علمه, والعظيم في قدرته, والعظيم في قهره, والعظيم في سلطانه, والعظيم في نفاذ حكمه, وتعرف على اسمه العظيم ينجك من عذاب الجحيم. العظيم من اسماء الله الحسنى اسم الله العظيم ورد في القرآن الحكيم تسع مرات منها قوله تعالى: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (¬2) ومنها قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (¬3) وورد في السنة النبوي في حديث ابي هريرة عند الترمذي (ان لله تسعة وتسعين اسما) وعد منها (العظيم) وورد في دعاء الكرب عند البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول عند الكرب (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) (¬4) ومعنى العظيم في حقه تعالى العظيم في وجوده, والعظيم في قدرته, والعظيم في سلطانه وقهره, والعظيم في امره ونهيه, والعظيم في احكامه وشريعته لاحدود لعظمته ليس لعظمته بداية ولالجلاله نهاية ليس كمثله شيء, وقال القرطبي اسم الله العظيم جل جلاله وتقدست اسماؤه جاء في الكتاب والسنة واجمعت عليه الأمة, قال ولاخلاف في اجرائه على العبد وغيره يقال عَظُم الشيُء عِظَما: كبر فهو عظيم. والعظام بالضم مثله, والعظيم فينا ضد الحقير. واعظم الأمر: اي فخمه. والتعظيم: التبجيل. واستعظمه: عده عظيما. واستعظم وتعظم: ¬

_ (¬1) - هذه الابيات لاحمد شوقي. (¬2) - سورة البقرة الآية رقم (255) . (¬3) - سورة الواقعة الآية رقم (74) . (¬4) - البخاري ومسلم في صحيحيهما حديث رقم (5875) ورقم (4909) .

ثمرة معرفه اسم الله العظيم

تكبر. (¬1) وقال الحليمي في معنى العظيم: إنه الذي لا يمكن الامتناع عليه بالإطلاق، ولأن عظيم القوم إنما يكون مالك أمورهم الذي لا يقدرون على مقاومته ومخالفة أمره، إلا أنه وإن كان كذلك ماهيته فقد يلحقه العجز بآفات تدخل عليه فيما بيده فيوهنه ويضعفه حتى تستطاع مقاومته، بل قهره وإبطاله، والله تعالى جل ثناؤه قادر لا يعجزه شيء (¬2) , وقال ابن القيم رحمه الله: وَهُوَ العَظِيمُ بِكُلِّ مَعنَآ يُوجِبُ التَّ ... عظِيمَ لاَ يُحصِيهِ مِن إنسَانِ فهو العظيم سبحانه وتعالى في ذاته وفي صفاته وفي اسمائه كلها, فهو ذو العظمة والجلال في ملكه وسلطانه وقدرته وقوته فهو سبحانه العظيم المطلق ليس كمثله شيء وهو السميع العليم. ثمرة معرفه اسم الله العظيم اذا علم المكلف ان الله سبحانه وتعالى ذو العظمة والجلال وانه اعظم من كل عظيم وانه ذو السؤدد والشرف العظيم وانه لاعظيم على الاطلاق الا الله سبحانه وتعالى وجب عليه ان يؤمن به, فلله وحده العظمة والكبرياء فلايستحق احد من الخلق ان يُعظَّم كما يُعظَّم الله تعالى, فهو المستحق جل جلاله من عباده ان يعظموه من قلوبهم والسنتهم وجوارحهم وذلك ببذل الجهد في معرفته, ومحبته والذل له, والانكسار له, والخضوع لعظمته, ومن ¬

_ (¬1) - الاسنى في شرح اسماء الله الحسنى للقرطبي, ص232. (¬2) - الاسماء والصفات للبيهقي, ص60.

تعظيمه الإكثار من ذكره وشكره, ومن تعظيمه ان يتقى حق تقاته, ومن تعظيمه تعظيم حرماته, وتعظيم شعائره من صوم وصلاة وحج, ومن تعظيمه تعظيم كتابه والعمل بامره وتعظيمه في الركوع, ومن تعظيمه عدم الوقوع في حدوده, ومن تعظيمه تعظيم مناسك الحج والتطوع في نافلته, فعظِّمه سبحانه وتعالى في كل احوالك, فعظِّم قدره جلّ ذكره وعظِّم اسماءه وصفاته وانبياءه ورسله وماامرك بتعظيمه من مناسكه ومشاعره وشعائره وكل ماعظمه قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (¬1) وقال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ} (¬2) فاذا شرعت اخي في الدخول في المشاعر العظام فتذكر عظمة الله واعمل بما يرضي الله العظيم, وكن ذاكرا له ذكر تعظيم, وقَدِّم من قدم الله العظيم واخِّر من اخَّر الله العظيم وحقِّر ماحقَّر الله العظيم ولاتتطاول على احد من المؤمنين كي لاتُغضِب الله العظيم واحسن الى عباد الله المتقين وكن عظيما في خلقك عظيما في سلوكك عظيما في تواضعك عظيما في احسانك مستشعرا عظمة الله في كل احوالك, ولا يليق بانسان ان يكون عبدا لغير الله العظيم, وما اكثر الناس الذين يعبدون عبادا امثالهم, فاما ان تكون عبدا لله العظيم فعبد الله حر, واما ان تكون عبدا لعبد لئيم؟ فاذا كنت تؤمن بالله العظيم فعليك تعظمه, تعظم امره تعظم نهيه, تعظم كتابه, تعظم نبيه, تعظم المؤمنين, تعظم ¬

_ (¬1) - سورة الحج الآية رقم (32) . (¬2) - سورة الحج الآية رقم (30) .

دعاء الله باسمه العظيم

من يعمل بعلمه ولاتستخف به, فالعظيم عند الله هو من يعظم الله, اذا فالعظماء من عباده هم الانبياء, هم الاولياء, هم المؤمنون, وليس السفهاء والظالمون والمتكبرون والمنافقون والكافرون عظماء, فلايغرنك اطلاق بعض الناس على البعض بانهم عظماء لانهم ملكووا مالا او سلطانا اوجاها, فلاتعظم الا من عظم الله ولاتعبد الا الله العظيم ولاتشكر الا الله العظيم ولاترجو الا الله العظيم الذي بيده ملكوت كل شيء وهو على كل شيء قدير. دعاء الله باسمه العظيم ياالله ياعلي ياعظيم يارب العرش العظيم تعاليت عن الشبه والنظير ياسميع يابصير اجعلني خاضعا لعظمتك والجلال وتغمد ديني وجهلي الكثير وهب لي من رحمتك في كل مااتيت من صغير وكبير ياجليل ياكبير ياالله ياحليلم ياعظيم اجعلني معظما لك في اسمائك وصفاتك معظما لشعائرك وحرماتك متبعا لنهج نبيك معظما لما تحب تعظيمه واسألك الدرجات العلى في الجنة ياعلي ياعظيم اغفرلي ولوالدي وللمؤمنين واسألك من خيرك العظيم في الدنيا والاخرة انك انت الله العلي العظيم الحليم الكريم رب العرش العظيم وصلى اللهم على محمد وآله وصحبه والتابعين. وقد كان من دعائه صلى الله عليه وآله وسلم (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ

رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) (¬1) . ¬

_ (¬1) - البخاري في صحيحه حديث رقم (4909) .

الفصل الرابع والخمسون الدعاء والصلاة على النبي

الفصل الرابع والخمسون الدعاء والصلاة على النبي الدعاء والصلاة على النبي الدعاء: جمع دعوة, يقال دعوت فلانا: سألته , والدعاء الى شيء الحث على فعله, ومعنى الدعاء: استدعاء العبد ربه العناية واستمداده اياه المعونة. وحقيقته: اظهار الافتقار اليه والاعتراف بالبراءة من الحول والقوة الا له, وهو سمة العبودية واظهار الذلة البشربة, وفيه معنى الثناء على الله سبحانه وتعالى واضافة الجود والكرم اليه. واما الصلاة على النبي صلي الله عليه وآله وسلم فنأتي على ذكرها في هذا الفصل لان الصلاة في اللغة معناها الدعاء. والدعاء نوعان: دعاء عبادة ودعاء مسألة, وبينهما اشتراك في المعنى, فالعابد داع كما ان السائل داع, فالدعاء يعم النوعين, وعلى هذا تكون الصلاة باقية على مسماها في اللغة, وهو الدعاء ونقل أهل اللغة والعرف بعض مسماها على بعض موضوعه لايوجب الخروج عن موضعه الاصلي, وصلاة المؤمن على محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتضمن الدعاء بطلب اكرامه ومباركته واظهار دينه وابقاء شريعته في الدنيا, وفي الاخرة اجزال مثوبته وتشفيعه في امته, وابداء فضيلته بالمقام المحمود, وفي الذكر الحكيم: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا} (¬1) وصلاة الله نوعان: عامة, وخاصة اما العامة: فصلاته على عباده المؤمنين, قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} (¬2) ومنه دعاء النبي بالصلاة على ¬

_ (¬1) - سورة الاحزاب الآية (56) . (¬2) - سورة الاحزاب الآية (43) .

آحاد المؤمنين كقوله اللهم صل على آل أبي أوفى, النوع الثاني صلاته الخاصة على أنبيائه ورسله خصوصا على خاتمهم وخيرهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال الامام ابن القيم: اختلف الناس في معنى الصلاة منه سبحانه على أقوال أحدها أنها رحمته, وقال المبرد أصل الصلاة الرحمة فهي من الله رحمة ومن الملائكة رقة واستدعاء للرحمة من الله وهذا القول هو المعروف عند كثير من المتأخرين والقول الثاني أن صلاة الله مغفرته, قال ابن القيم رحمه الله وهذا القول من جنس الذي قبله وهما ضعيفان لوجوه أحدها أن الله سبحانه فرق بين صلاته على عباده ورحمته فقال تعالى وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون البقرة 157 فعطف الرحمة على الصلاة فاقتضى ذلك تغايرهما, هذا أصل العطف وأما قولهم وألفى قولها كذبا ومينا فهو شاذ نادر لا يحمل عليه أفصح الكلام مع أن المين أخص من الكذب. الوجه الثاني أن صلاة الله سبحانه خاصة بأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين وأما رحمته فوسعت كل شيء فليست الصلاة مرادفة للرحمة لكن الرحمة من لوازم الصلاة وموجباتها وثمراتها فمن فسرها بالرحمة فقد فسرها ببعض ثمرتها ومقصودها وهذا كثيرا ما يأتي في تفسير ألفاظ القرآن, والرسول يفسر

اللفظة بلازمها وجزء معناها كتفسير الريب بالشك والشك جزء مسمى الريب, وتفسير المغفرة بالستر وهو جزء مسمى المغفرة وتفسير الرحمة بإرادة الإحسان وهو لازم الرحمة ونظائر ذلك كثير (¬1) , وكلام ابن القيم فيه تحقيق فارجع اليه ان شئت الاستزادة ففيه زيادة. فصلاة الله على نبيه ثناؤه عليه ومباركته له وارادته لرفع ذكره وتقريبه, وصلاتنا نحن عليه سؤال الله تعالى ان يفعل ذلك به, وصلاة الملائكة دعاءهم واستغفارهم له, وقد سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد علمنا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ, فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ قولوا (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) (¬2) وقال الشاعر: صلوا على هادٍ أرانا هديه ... نهجاً من الدين الحنيف قويما ¬

_ (¬1) - جلاء الافهام في الصلاة والسلام على خير الانام للعلامة محمد بن ابي بكر ايوب بن سعد بن حريز الزرعي المعروف بابن قيم الجوزية, ص (82-83) , طباعة دار الكتب العلمية بيروت تحقيق طه يوسف شاهين من علماء الازهر, قد سبق ترجمة المؤلف. (¬2) - البخاري في صحيحه حديث رقم (5880) ومسلم حديث رقم (614) واحاديث الصلاة على النبي في كتب الحديث رواها اربعون صحابيا وهم أبو مسعود الأنصاري البدري وكعب بن عجرة وأبو حميد الساعدي وأبو سعيد الخدري وطلحة بن عبيد الله وزيد بن حارثة ويقال ابن خارجة وعلي بن أبي طالب وأبو هريرة وبريدة بن الحصيب وسهل بن سعد الساعدي وابن مسعود وفضالة بن عبيد وأبو طلحة الأنصاري وأنس بن مالك وعمر بن الخطاب وعامر بن ربيعة وعبد الرحمن بن عوف وأبي بن كعب وأوس بن أوس والحسن والحسين ابنا علي بن أبي طالب وفاطمة بنت رسول الله والبراء بن عازب ورويفع بن ثابت الأنصاري وجابر بن عبد الله وأبو رافع مولى رسول الله وعبد الله بن أبي أوفى وأبو أمامة الباهلي وعبد الرحمن بن بشير بن مسعود وأبو بردة بن نيار وعمار بن ياسر وجابر بن سمرة وأبو أمامة بن سهل بن حنيف ومالك بن الحويرث وعبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي وعبد الله بن عباس وأبو ذر وواثلة بن الأسقع وأبو بكر الصديق وعبد الله بن عمرو وسعيد بن عمير الأنصاري عن أبيه عمير وهو من البدريين وحبان بن منقذ رضي الله عنهم أجمعين. وقد اورد هذه الاحاديث الامام ابن القيم في جلاء الافهام فارجع اليه ان شئت مزيد بيان.

أنواع الدعاء في القرآن الكريم

صلوا على هذا النبي فإنه........من لم يزل بالمؤمنين رحيما صلوا على الزاكي الكريم محمدٍ ... ما مثله في المرسلينَ كريما (¬1) أنواع الدعاء في القرآن الكريم ورد الدعاء في القرآن الكريم في انواع عده: 1- العبادة قال تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ} (¬2) اي لاتعبد الا الله وحده فان غيره لايضر ولاينفع فلا تسل ولاتَدْعُ غير الله فان غير الله لاينفع ولا يضر, ومما يدل على ذلك ان الحق سبحانه وتعالى قد امر عباده بدعائه, ففي الحديث النبوي ان النبي صلى الله عليه واله وسلم قال: (الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ) (¬3) وَقَرَأَ {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ دَاخِرِينَ} وفي لفظ (الدعاء مخ العبادة) وقوله الدعاء هو العبادة هذه الصفة المقتضية للحصر من جهة تعريف المسند إليه ومن جهة تعريف المسند ومن جهة ضمير الفصل تقتضي أن الدعاء هو أعلى أنواع العبادة وأرفعها وأشرفها وإلى هذا أشار بقوله صلى الله عليه واله وسلم الدعاء مخ العبادة, والآية الكريمة قد دلت على أن الدعاء من العبادة فإنه سبحانه وتعالى أمر عباده أن يدعوه ثم قال 2- ¬

_ (¬1) - هذه الابيات لابن الجنان. (¬2) - سورة يونس الآية (106) . (¬3) - سنن ابي داود حديث رقم (1264) .

3- إن الذين يستكبرون عن عبادتي فأفاد ذلك أن الدعاء عبادة وأن ترك دعاء الرب سبحانه استكبار, ولا اقبح من هذا الاستكبار, وكيف يستكبر العبد عن دعاء من هو خالق له ورازقه وموجده من العدم وخالق العالم كله ورازقه ومحييه ومميتة ومثيبة ومعاقبة فلا شك أن هذا الاستكبار طرف من الجنون وشعبة من كفران النعم (¬1) , وقال الشاعر: وَاللَهُ أَنجَحُ ما طَلَبتُ بِهِ ... وَالبِرُّ خَيرُ حَقيبَةِ الرَحلِ (¬2) وقال اخر: يا خالق الخلق يارب العباد ومن ... قد قال في محكم التنزيل أدعوني إني دعوتك مضطرا فخذ بيدي ... يا جاعل الأمر بين الكاف والنون نجيت أيوب من بلواه حين دعا ... بصبر أيوب يا ذا اللطف نجيني واطلق سراحي وامنن بالخلاص كما ... نجيت من ظلمات البحر ذا النون اما الامام الشافعي فهو ينكر على من يستهزء بالدعاء فيقول: أَتَهزَأُ بِالدُعاءِ وَتَزدَريهِ ... وَما تَدري بِما صَنَعَ الدُّعاءُ سِهامُ اللَيلِ لا تُخطِي وَلَكِن ... لَها أَمَدٌ وَلِلأَمَدِ اِنقِضاءُ وللامام الشافعي ايضا: وَرُبَّ ظَلومٍ قَد كُفيتَ بِحَربِهِ ... فَأَوقَعَهُ المَقدورُ أَيَّ وُقوعِ ¬

_ (¬1) - تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين من كلام سيد المرسلين تاليف القاضي الحافظ المحدث المفسر محمد بن علي الشوكاني اليمني الصنعاني, ص20 طبعة مكتبة المتنبي القاهرة. (¬2) - هذا البيت لابن عابس الكندي.

فَما كانَ لي الإِسلامُ إِلّا تَعَبُّداً.......وَأَدعِيَةً لا تُتَّقى بِدُروعِ وَحَسبُكَ أَن يَنجو الظَلومُ وَخَلفَهُ ... سِهامُ دُعاءٍ مِن قَسِيّ رُكوعِ مُرَيَّشَةً بِالهُدبِ مِن كُلِّ ساهِرِ ... مُنهَلَّةً أَطرافُها بِدُموعِ 4- الاستعانة وانما يستعين الإنسان بالله وحده, وفي الذكر الحكيم: {وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬1) أي وادعوا أعوانكم وأنصاركم الذين يساعدونكم على معارضة القرآن, غير الله سبحانه, والمراد استعينوا بمن شئتم غيره تعالى. قال البيضاوي: المعنى ادعوا للمعارضة من حضركم أو رجوتم معونته من إنسكم وجنكم وآلهتكم غير الله سبحانه وتعالى, فإنه لا يقدر أن يأتى بمثله إلا الله (¬2) وفي الدعاء يستمد المؤمن من ربه المعونة, والمؤمن انما يعبد الله وحده ويستعين به وفي الذكر الحكيم: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (¬3) اي نخصك وحدك بالعبادة وطلب العون الذي نتقوى به على عبادتك وعلى امور الدنيا والاخرة ولا نستعين بغيرك ولله در الشاعر حيث يقول: إِذا لَم يَكُن عَونٌ مِنَ اللَهِ للِفَتى ... فَأَكثَرُ ما يَجني عَلَيهِ اِجتِهادُهُ (¬4) وقال اخر: ¬

_ (¬1) - سورة البقرة الآية (23) . (¬2) - البيضاوي ج1/ ص17, وصفوة التفاسير ج1/ ص42. (¬3) - سورة الفاتحة الآية (5) . (¬4) - هذا البيت للامام علي بن ابي طالب رضي الله عنه.

إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى ... فكلُّ معينٍ ما عدا الله خاذل (¬1) 5- النداء قال تعالى {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً} (¬2) . 6- الثناء قال تعالى: {قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (¬3) ودعاء أهل الجنة ثناء على الله وتسبيح قال تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬4) . الدعاء سلاح المؤمن الدعاء حصن المؤمن وسلاحه وعدته وفلاحه, والدعاء وقاية من البلاء, وحصن منيع يقي من نزول المصائب, ومدافع قوي يصد وطأة الكوارث, فمن اراد النجاح في اعماله والفلاح في اقباله وادباره, والنصر على اعدائة والفوز برضا ربه والنجاة من عقابه فعليه بالدعاء, وفي الحديث النبوي ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (الدعاء سلاح المؤمن وعماد ¬

_ (¬1) - هذا البيت للأخرس. (¬2) - سورة الاسراء الآية (52) . (¬3) - سورة الاسراء الآية (110) . (¬4) - سورة يونس الآية (10) .

الدين ونور السماوات والأرض) (¬1) قوله الدعاء سلاح المؤمن, فيه تشبيه الدعاء بالسلاح الذي يقاتل به صاحبه العدو, فإن هذا الداعي كأنه بالدعاء يقاتل ما يعتوره من المصائب وما يخشاه من سوء العواقب, وما أفخم الحكم على الدعاء بأنه عماد الدين وبأنه نور السموات والأرض فإن ذلك قد اشتمل على تعظيم لا يقادر قدره ولا يبلغ مداه والعاجز من عجز عن لبس هذا السلاح وترك الاعتماد على هذا العماد ولم ينتفع بهذا النور الذي أنارت به السموات والأرض (¬2) , وقال الامام المهدي العباس (¬3) بن الحسين رحمه الله: الدهر يزعم انه سيروعني ... بجيوشه ويزيد في اتراعي لم يدر دهر انني متجلد ... لخطوبه فليخش هول كفاحي فالصبر درعي والقناعة جنتي ... والذكر حصني والدعاء سلاحي وقال اخر: ¬

_ (¬1) - الحاكم في المستدرك حديث رقم (1812) . (¬2) - تحفة الذاكرين ص 23. (¬3) - هو الامام المهدى لدين الله العباس بن الامام المنصور بالله الحسين ابن الامام المتوكل القاسم بن الحسين بن الامام المهدى أحمد بن الحسن بن الامام القاسم بن محمد ولد في سنة 1131 احدى وثلاثين ومائة وألف وقرأ قبل خلافته وبعدها قال الشوكاني في البدر الطالع انه لما مات والد الامام المهدي في سنة 1161 أجمع الناس على صاحب الترجمة فبايعوه واتفقت عليه الكلمة وبايعه من كان خارجا عن طاعة والده كعمه أحمد بن المتوكل وكان اماما فطنا ذكيا عادلا قوى التدبير عالى الهمة منقادا إلى الخير مايلا إلى أهل العلم محبا للعدل مصنفا للمظلوم سيوسا حازما مطلعا على أحوال رعيته باحثا عن سيرة عماله فيهم لا تخفى عليه خافية من الاحوال له عيون يوصلون إليه ذلك وله هيبة شديدة في قلوب خواصة لا يفعلون شيئا الاوهم يعلمون أنه سينقل إليه وبهذا السبب اندفعت كثير من المظالم وكان يدفع عن الرعايا ما ينوبهم من البغاة الذين يخرجون في الصورة على الخليفة وفي الحقيقة لاهلاك الرعية توفاه الله تعالى في شهر رجب سنة 1189 تسع وثمانين ومائة وألف وأيامه كلها غرر ودولته صافية عن شوائب الكدر وانظر البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع - (ج1 / ص294) .

الدعاء ومزاياه الروحية

ومتى ما دعوتُ ربي على الدهـ ... رِ وظلمِ الخُطُوب لبّى الدعاءَ اما ابن زريق فهو يقول: واذا العبدُ للسَّما رَفعَ الكَف ... فَ لضرٍّ فَلا يخيبُ الدعاءُ الدعاء ومزاياه الروحية لقد شرع الإسلام الدعاء لما فيه من السمو الروحي والعلاج النفسي, فمن مستلزمات العبادة الدعاء فهو مخ العبادة كما ورد في الحديث النبوي, وهو الصلة التي تربط بين الإنسان وخالقه, والدعاء فطري في الإنسان فهو يشعر بحنين الى الله الذي خلقه يفزع اليه عند الشدائد, ويتضرع اليه عند حصول المصائب ويدعوه ليكشف عنه السوء, فهو ضعيف امام احداث الحياة لايجد سندا لضعفه الا الدعاء, وفي الذكر الحكيم: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (¬1) فهذا القوي القادر, القهار, الذي لا يعجزه شيء, ولايفتقر الى شيء, يقول لعبيده الضعفاء الاذلا, العاجزين المفتقرين: انا معكم, انا قريب منكم. انا مجيب لكل من دعاني وناداني, فهذا الكريم الاكرم, والعظيم الاعظم, المالك لكل شيء, والقادر على كل شيء, يناديك: يا عبدي انا قريب منك, اجيب دعوتك اذا دعوتني, وادفع ضرك, وآسو جرحك, واوسع رزقك! فهل آن داعيه؟ وفي الحديث النبوي: (مَنْ فُتِحَ لَهُ مِنْكُمْ بَابُ الدُّعَاءِ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ وَمَا سُئِلَ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ الْعَافِيَةَ) (¬2) وفي رواية: (مَنْ فُتِحَ لَهُ مِنَ الدُّعَاءِ مِنْكُمْ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الإِجَابَةِ) (¬3) . الدعاء علاج نفسي الدعاء علاج نفسي لكثير من امراض النفس, فالانسان بطبيعته محتاج في حل مشكلاته لأن يفضي بذخيرة نفسه الى من يخفف عنه بعض مايشعر به من الهم والحزن, فاذا افضى الإنسان الى ربه بما يعانيه, وطلب منه مايبتغيه فانه يشعر بطمانينه ونفحة روحيه تنتشله مما هو فيه من الهم والضير, وذلك لان الايمان يقتضي الاعتقاد التام بان الله مجيب الدعاء فهو اقرب اليه من حبل الوريد, وفي الذكر الحكيم: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (¬4) وقد ذكر بعض العلماء اجماع الاطباء النفسانيين على ان علاج التوتر العصبي والألآم النفسيه انما يتوقف الى حد كبير على الافضاء - بسبب التوتر ومنشء القلق- الى صديق مخلص, لأن كتمانه مما يزيد في المرض (¬5) . فكيف به اذا التجأ الى مالك ملك السماوات والارض من بيده الضر والنفع وسأل الكريم المنان القريب المجيب ان يعطيه وان يعافيه وان يصرف عنه السوء والفحشاء وهو يقول وقوله ¬

_ (¬1) - سورة البقرة الآية (186) . (¬2) - سنن الترمذي حديث رقم (3471) . (¬3) - مصنف ابن ابي شيبة حديث رقم (29778) . (¬4) - سورة غافر الآية (60) . (¬5) - روح الدين الاسلامي, ص200.

الحق {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (¬1) , ان الإنسان الذي يلجأ الى ربه يكون قد ضفر بخير الدنيا والاخرة, ولكن يجب على الإنسان ان يكون على الدوام متذكرا لربه مستجيبا لاوامره محققا لمعنى العبودية لخالقه في السراء والضراء والشدة والرخاء وليحذر ان يقع في الجحود والنكران لربه, حتى لايكون من الناسين او المسرفين, وفي الذكر الحكيم: {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬2) ويقول وهو العزيز الحكيم: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ} (¬3) . الدعاء يرد القضا من اراد السلامة في الدنيا والاخرة فعليه بالدعاء, ومن اراد العزة والنصر فعليه بالدعاء, ومن احب العفو والعافية فعليه بالدعاء, فمن فتح له باب الاقبال بخشوع وخضوع وتضرع فقد فتحت له ابواب الاجابة وابواب الرحمة وابواب الجنة, فاذا وجد الإنسان من نفسه النشاط الى الدعاء والاقبال عليه فليستكثر منه فانه مجاب, وان الدعاء لينفع مما نزل من البلاء, ولايرد القدر الا الدعاء, ولايزيد في العمر الا البر فقد ورد في ¬

_ (¬1) - سورة البقرة الآية (186) . (¬2) - سورة يونس الآية (12) . (¬3) - سورة فصلت الآية (51) .

أدآب الدعاء

الحديث النبوي: (لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا الْبِرُّ) (¬1) قوله لا يرد القضاء إلا الدعاء فيه دليل على أنه سبحانه يدفع بالدعاء ما قد قضاه على العبد, وقد وردت بهذا أحاديث كثيرة, ويؤيد ذلك قوله تعالى (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) قوله ولا يزيد في العمر إلا البر فيه دليل أن ما يصدق عليه البر على العموم يزيد في العمر, وقد ثبت في الصحيح أن صلة الرحم تزيد في العمر, والمراد الزيادة الحقيقية, وقيل المراد البركة في العمر والظاهر الأول, ومنه قوله سبحانه (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره) الآية وقوله (ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده) , والحاصل أن الدعاء من قدر الله عز وجل, فقد يقضي بشيء على عبده قضاء مقيدا بأن لا يدعوه فإن دعاه إندفع عنه (¬2) . قال الشاعر: رَبَّنَا رَبَّنَا إليك التجَأْنا ... ما لنا ربَّنا سواك الْتِجَاءُ بافْتقارٍ منّا وذُلٍّ أَتَيْنَا ... ما لنا عِزَّةٌ ولا استغناء وقال ابن الأمير الصنعاني: أسِوَاه إن حلت بنا اللوّآء ... يُدْعَى لها إنا إذاً جهلاء ندعوه في غسق الدجى ولم يكن ... عن علمه فيما نقول خفاء لكن تَعَبَّدَ بالدعاء عبادَه ... فأحبهم فيما أتى الدَّعآء يبكي الموفق حين يدعو ربه ... شوقاً له ومن السرور بكاء وَسعت عطاياك الخلائق كلها ... فالناس فيما في يديك سواء أوجدتهم فضلاً وجُدْتَ عليهمُ ... وأنلتهم ما شئت مما شاءوا أدآب الدعاء من أدآب الدعاء ان يترصد الإنسان لدعائه الأوقات الشريفة المحبوبة كيوم عرفة وايام رمضان ويوم الجمعة ووقت السحر وليلة القدر وان يغتنم الأحوال الشريفة والاوقات الذي ورد فيها انها مواطن اجابة كزحف الصفوف في الجهاد او في اقامة الصلاة او بين الاذان والاقامة او في السجود او خلف الصلوات, وان يكون الداعي مستقبلا للقبلة رافعا يديه خافضا لصوته متضرعا لربه ممتثلا لأمره {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (¬3) وان يثني على الله ويدعوه بخشوع ورغبة ورهبة, فقد اثنى الله على من كان ذلك حاله فقال: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (¬4) وان يجزم الدعاء ويوقن بالاجابة ويلح في الدعاء ويكرره ثلاثا. قال ابن مسعود: كان عليه الصلاة والسلام (اذا دعا دعا ثلاثا واذا سال سأل ثلاثا) (¬5) وان يفتتح الدعاء بذكر الله عز وجل ويصلى على النبي صلى الله عليه واله وسلم ثم يسأل الله حاجته بأسمآء الله الحسنى وصفاته العلا ثم يختم بحمد الله ¬

_ (¬1) - سنن الترمذي حديث رقم (2065) . (¬2) - تحفة الذاكرين, ص22. (¬3) - سورة الأعراف الآية (55) . (¬4) - سورة الانبياء الآية (90) . (¬5) - مسلم في صحيحه حديث رقم (3349) .

من اقوال السلف في الدعاء

والصلاة على حبيبه صلى الله عليه وآله وسلم فان الله عز وجل يقبل الصلاتين وهو اكرم ان يدع ما بينهما. ومن اداب الدعاء ان يكون الداعي تائبا متطهرا متذللا مكثرا من الطاعات والإحسان مبتعدا عن المال الحرام غير متعجل, وان يسأل بعزم ورغبة وجد واجتهاد, ففي الدعاء الفرج وفي الدعاء السعادة وفي الدعاء الظفر وكل ماتتمناه وترجوه من امور الدنيا والاخرة, قال الشاعر: تعالى ذو اللطائف عز شانا ... ودودٌ في خلائقه حبيبُ يلبي كل مضطر دعاه ... وقد غاب المناصر والقريب ويكشف كل اسواء وكرب ... بفضل ليس تحجبه الذنوب وينعم قبل ما يدعوه داع ... وراجي الخير منه لايخيب ويضمن حاجة الداعي دوما ... يعجل او يؤخر او يثيب واما من تعجل في دعاه ... فذاك بخيبة المضنى يئوب ومن يدعوه في ضر يقينا ... يجيب نداءه الله المجيب (¬1) من اقوال السلف في الدعاء قال الامام علي بن ابي طالب رضي الله عنه: "ارفعوا أفواج البلاء بالدعاء", وقال انس بن مالك رضي الله عنه: "لا تعجزوا عن الدعاء فانه لن يهلك مع الدعاء احد", وقال ابو ذر رضي الله عنه: "يكفي من الدعاء مع البر ما يكفي الطعام مع الملح", وقال يحيى بن معاذ رحمه الله: "من اخلص لله في دعوته مَنَّ الله عليه بإجابته" (¬2) . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "بلغني ان الدعاء يحبس بين السماء والارض لايصعد منه شيء حتى يصلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم" فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان الصلاة على خاتم النبيين واشرف المرسلين معين النجاح, وراية الفلاح وعنوان الاخلاص لله ولباب العمل الصالح, وهي سبب اجابة الدعاء فما من دعاء يصعد الى الله عز وجل حتى يتبعه الصلاة على حبيبه ومصطفاه, ففي الحديث النبوي الذي رواه الطبراني عن علي رضي الله عنه: (كل دعاء محجوب حتى يصلى على النبي صلى الله عليه واله وسلم) (¬3) وهذا دليل على فضل الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم, وفي الذكر الحكيم: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (¬4) وفي الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتراف برسالته وتصديق لنبوته وطاعة لامر خالقه, وفي الحديث النبوي: (من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا) (¬5) وفي رواية (البخيل من ذكرت ¬

_ (¬1) - هذه الابيات للشاعر والاديب الكبير مهدي امين سامي وانظر ديوانه تراتيل الروح تسابيح وابتهالات, ص 48, الطبعة الثانية 1429هـ 2008م. (¬2) - دليل السائلين, ص244. (¬3) - المعجم الاوسط حديث رقم (721) . (¬4) - سورة الأعراف الآية (55) . (¬5) - مسلم في صحيحه حديث رقم (577) .

فوائد وثمرات الصلاة على النبي

عنده ولم يصل علي) (¬1) وجاء في رواية لابي داود (ان من افضل ايامكم يوم الجمعة فاكثروا علي من الصلاة فيه فان صلاتكم معروضة علي) (¬2) قال الشاعر: صلوا عَلى المختار فهو شفيعكم ... في يوم يبعث كل طفل أَشيَبا صلوا عَلى من ظللته غمامة ... وَالجذع حن له وأَفصحَت الظبا صلوا عَلى مَن تدخلون بهديه ... دار السَلام وَتبلغون المطلبا صلوا عليه وَسَلموا وَتَرحموا ... تردوا بها حوض الكَرامة مشربا فوائد وثمرات الصلاة على النبي لقد ذكر الامام ابن القيم: في الفوائد والثمرات الحاصلة بالصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم مايتضاعف به الاجر ويدل على عظيم المنفعة, منها: امتثال امر الله سبحانه وتعالى, وموافقته سبحانه بالصلاة عليه وان اختلفت الصلاتان فصلاتنا عليه دعاء وسؤال وصلاة الله عليه ثناء وتشريف. وفي الصلاة على النبي موافقة الملائكة وحصول عشر صلوات على المصلي مرة, وانه يرفع له عشر درجات ويكتب له عشر حسنات, ويمحى عنه عشر سيئات, وانه يرجى اجابة دعاء من يصلى على النبي, وتكون سببا لشفاعة النبي, وسببا لغفران الذنب ولكفاية الله العبد ما أهمله وسببا لقرب العبد منه صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة, وانها تقوم مقام الصدقة لذي العسرة, وانها سبب لقضاء الحوائج, ولصلاة الله على المصلي, ¬

_ (¬1) - المعجم الكبير حديث رقم (2885) . (¬2) - سنن ابي داود حديث رقم (883) .

وزكاة وطهارة, وانها سبب للنجاة من اهوال يوم القيامة, ولتبشير العبد بالجنة, ولرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المصلى ولتذكر العبد مانسيه, ولطيب المجلس , ولنفي الفقر, وتنفي عن العبد اسم البخل اذا صلى على النبي عند ذكره, ونجاة من الدعاء عليه برغم الانف اذاتركها عند ذكره صلى الله عليه وآله وسلم, وانها تنجي من نتن المجلس, وانها سبب لتمام الكلام الذي ابتدئ بحمد الله, وانها سبب لوفور نور العبد على الصراط, وانها سبب لابقاء الله سبحانه الثناء الحسن للمصلى على النبي بين أهل السماء والارض, وانها سبب للبركة في ذات المصلي وعمله وعمره واسباب مصالحه, وانها سبب لنيل رحمة الله, وانها سبب لدوام محبته للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وزيادتها وتضاعفها. وذلك عقد من عقود الايمان الذي لا يتم إلا به, لان العبد كلما اكثر من ذكر المحبوب واستحضاره في قلبه واستحضار محاسنه ومعانيه الجالبة لحبه تضاعف حبه وتزايد شوقه اليه واستولى على جميع قلبه, وإذا اعرض عن ذكره واحضار محاسنه بقلبه نقص حبه من قلبه؛ ولا شيء اقر لعين المحب من رؤية محبوبه ولا اقر لقلبه من ذكره واحضار محاسنه, فإذا قوي هذا في قلبه جرى لسانه بمدحه والثناء عليه وذكر محاسنه, وتكون زيادة ذلك ونقصانه بحسب زيادة الحب ونقصانه في قلبه والحس شاهد بذلك حتى قال بعض الشعراء في ذلك عجبت لمن يقول ذكرت حبي ... وهل أنسى فأذكر من نسيت فتعجب هذا المحب ممن يقول ذكرت محبوبي لان الذكر يكون بعد النسيان ولو كمل حب هذا لما نسي محبوبه وقال آخر: أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل فهذا اخبر عن نفسه أن محبته لها مانع له من نسيانها وقال آخر: يراد من القلب نسيانكم ... وتأبى الطباع على الناقل فأخبر أن حبهم وذكرهم قد صار طبعا له فمن اراد منه خلاف ذلك ابت عليه طباعه أن تنتقل عنه, والمثل المشهور من احب شيئا اكثر من ذكره, وفي هذا الجناب الاشرف احق ما انشد لو شق قلبي ففي وسطه ... ذكرك والتوحيد في سطر فهذا قلب المؤمن توحيد الله وذكر رسوله مكتوبان فيه لا يتطرق اليهما محو ولا ازالة (¬1) , ومما لاريب فيه ان الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبب لهداية الإنسان وحياة قلبه وقربه من ربه ودليل على حبه لربه ولنبيه فالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي دعاء آثر به محبوبه وسأل من ربه ان يثني على محبوبه عبد الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم المبعوث رحمة للعالمين ويزيد في تشريفه وتكريمه ورفعه, ولاريب ان الله تعالى يحب ذلك ورسوله يحبه, فالمصلي عليه صلى الله عليه واله وسلم ¬

_ (¬1) - جلاء الافهام في الصلاة والسلام على خير الانام, ص (262-265) .

القريب المجيب من اسماء الله الحسنى

قد صرف سؤاله ورغبته الى محاب الله ورسوله وذلك مايجعله قريبا من ربه السميع القريب المجيب, فاكثر مايحتاج اليه الإنسان هو ان يدعو ربه ويعلم انه سميع مجيب, ويعلم انه قوي قدير, فبالدعاء يتوجه الداعي الى معان كثيرة فهو يسأل سميعا قريبا مجيبا غنيا رحيما كريما, فزوال الكون اهون على الله من ان تدعوه فلا يستجيب لك فهو اما ان يطمئنك, وإما ان يعطيك, وإما ان يلقي في روعك ان هذه الحاجة لاتناسبك, فالله حيي كريم يستحيي اذا رفع الرجل اليه يديه ان يردهما صفرا خائبتين كما ورد ذلك في الحديث النبوي, فتقرب الى الله بمحابه, وصلِّ على نبيه وثق باجابته, فان الله معك يسمع ويرى, فهو قريب منك فتعرف على اسمه القريب المجيب, واجعل بربك كل عزك, يستقر ويُثب, وتدبر قول المجيب القريب {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (¬1) . القريب المجيب من اسماء الله الحسنى اسم الله القريب المجيب ذكر في القرآن الكريم, ففي سورة هود يقول سبحانه: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} (¬2) وقال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (¬3) , وورد في السنة النبوية في حديث ابي هريرة عند الترمذي ان لله تسعة وتسعين اسما عد منها (المجيب) , وفي حديث ابي موسى الاشعري رضي الله عنه عند البخاري ومسلم قال كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَكُنَّا إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى وَادٍ هَلَّلْنَا وَكَبَّرْنَا ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إِنَّهُ مَعَكُمْ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتَعَالَى جَدُّهُ) (¬4) وفي رواية (إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ) (¬5) ومعنى القريب في حق الله سبحانه وتعالى انه قريب بعلمه من خلقه قريب ممن يدعوه بالاجابة, وقال القحطاني: وقربه نوعان: قرب عام وهو إحاطة علمه بجميع الأشياء، وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد وهو بمعنى المعية العامة وقرب خاص بالداعين والعابدين المحبين، وهو قرب يقتضي المحبة والنصرة والتأييد في الحركات والسكنات والإجابة للداعين والقبول والإثابة للعابدين (¬6) , فسبحان من هو علي في دنوه, قريب في علوه, اما اسمه سبحانه وتعالى المجيب فيعني ان الله سبحانه وتعالى يعطي السائل مطلوبه ويقابل مسألة السائلين بالاجابة, قيل اجابته نوعان: إجابة عامة لكل من دعاه دعاء عبادة أو دعاء مسألة، قال تعالى: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) فدعاء المسألة أن يقول العبد اللهم أعطني كذا أو اللهم ادفع عني كذا، فهذا يقع من البر والفاجر، ويستجيب الله فيه لكل من ¬

_ (¬1) - سورة البقرة الآية (186) . (¬2) - سورة هود الآية (61) . (¬3) - سورة البقرة الآية (186) . (¬4) - البخاري في صحيحه حديث رقم (2770) ومسلم في صحيحه حديث رقم (4873) . (¬5) - مسند الامام احمد بن حنبل حديث رقم (18774) ومسلم في صحيحه حديث رقم (4874) . (¬6) - شرح اسماء الله الحسنى, ص118.

ثمرة معرفة اسم الله القريب المجيب

دعاه بحسب الحال المقتضية وبحسب ما تقتضيه حكمته. وأما الإجابة الخاصة فلها أسباب عديدة، منها دعوة المضطر الذي وقع في شدة وكربة عظيمة، فإنَّ الله يجيب دعوته، قال تعالى: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه) وسبب ذلك شدَّة الافتقار إلى الله وقوة الانكسار وانقطاع تعلقه بالمخلوقين، ولسعة رحمه الله التي يشمل بها الخلق بحسب حاجتهم إليها، فكيف بمن اضطر إليها، ومن أسباب الإجابة طول السفر والتوسل إلى الله بأحب الوسائل إليه من أسمائه وصفاته، وكذلك دعوة المريض، والمظلوم، والصائم والوالد على ولده أو له، وفي الأوقات والأحوال الشريفةمثل أدبار الصلوات، وأوقات السحر، وبين الأذان والإقامة، وعند النداء، ونزول المطر واشتداد البأس، ونحو ذلك (إن ربي قريب مجيب) (¬1) . ثمرة معرفة اسم الله القريب المجيب اذا عرف المكلف ان الله جل وعلى قريب مجيب وجب عليه ان يؤمن به ويخلص له في العباده ويرغب اليه بالتوبة, فهو الذي ينيل السائل مايريد ولايقدر على ذلك غيره, فمن عرف ذلك فليتوجه الى الله سبحانه وتعالى بالدعاء والتضرع واظهار الافتقار الى الله والاعتماد عليه, والعلم بانه سميع الدعاء عالم بالبلاء, خابر للسراء والضراء, قادرعلى اجابه كل داع واعطائه سؤاله, وان يكون مستجيبا لله مطيعا له فهو يعلم سر الإنسان وجهره, والله سبحانه وتعالى يحب ان تدعوه, وان تلجا اليه , وان تتصل به, وان تناجيه, ¬

_ (¬1) - شرح اسماء الله الحسنى ص120.

دعاء الله باسمه القريب المجيب

وان تمرغ وجهك في اعتابه, فهو الذي يحب ان يسعدك بالاتصال به, فيجعل حاجتك وسيلة لهدف هو الاتصال والتعبد, فانت بالاتصال به وبدعائه تسعد, فالله سبحانه وتعالى خلقك ليسعدك, وهو يعلم سبحانه حاجة المحتاجين قبل سؤالهم, الا ترى انه خلق لك مافي الارض جميعا قبل ان يخلقك, وخلق لك الاشجار والنبات والانهار والفواكه بانواعها وخلق لك الشمس والقمر والليل والنهار {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (¬1) انه القريب المجيب الذي يقابل الدعاء بالقبول, والسؤال بالعطاء تدعوه فيقبلك, وتسأله فيعطيك, وتستغفره فيغفر لك, فسبحان من لاتخيب لديه امال الطالبين, فهو الذي يجيب دعاء الداعين, ويكشف ضرورة السائلين, فانت حينما تدعوه تنادي قريبا يسمعك وتدعو عظيما يجيبك وتسأل كريما يعطيك: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} (¬2) . دعاء الله باسمه القريب المجيب اللهم ياقريب يامجيب يامن هو على كل شيء شهيد ويامن هو اقرب الي من حبل الوريد اسألك ان تغفر لي ولوالدي وللمؤمنين واسألك الدرجات العلى في الجنة واسألك العافيه واسألك دوام العافية, واسألك خير الدنيا والاخرة, واسألك حسن الخاتمة والنجاة من النار, واسألك علما نافعا ¬

_ (¬1) - سورة ابراهيم الآية (34) . (¬2) - سورة النمل الآية (62) .

والى هنا تم بحمد الله وعونه وتوفيقه

ورزقا واسعا, وذكرا حسنا وعملا متقبلا ومحبة في قلوب خلقك واتباعا لنهج نبيك ياقريب يامجيب ياسميع ياعليم ياالله اسألك ان ترزقني حبك وحب من يحبك وحب نبيك وشريعتك: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (¬1) . {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (¬2) . وصل اللهم وسلِّم على محمد وعلى آل محمد كماصليت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم في العالمين انك حميد مجيد. والى هنا تم بحمد الله وعونه وتوفيقه ¬

_ (¬1) - سورة آل عمران الآية (194) . (¬2) - سورة آل عمران الآية (194) .

أهم المراجع

أهم المراجع 1. القرآن الكريم. 2. صحيح البخاري: للإمام المحدث شيخ الحفاظ محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه المولود يوم الجمعة 13 شوال سنة (194هـ-810م) ، المتوفى سنة (256هـ-870م) , طبعة مكتبة الايمان المنصورة مصر 1423هـ2003م. 3. صحيح مسلم: للإمام الحافظ المحدث أبي الحسن مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري, (204 261هـ) , الناشر: دار ابن رجب 1422هـ. 4. السنن الكبرى للبيهقي: للإمام الحافظ المحدث أحمد بن الحسين البيهقي المتوفى سنة 458هـ, مراجعة: محمد عبد القادر عطا, مكتبة الباز مكة المكرمة 1414هـ1994م. 5. السنن الكبرى للنسائي: الإمام الحافظ المحدث أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي المتوفى سنة 303هـ, الطبعة الثانية, مطبوع مع شرح السيوطي، وحاشية السندي, بيروت 1412هـ,1992م. 6. سنن ابن ماجه: محمد بن يزيد القزويني (207- 275هـ) , تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1395هـ-1975م, الناشر: دار احياء التراث العربي. 7. سنن الترمذي للإمام الحافظ أبي عيسى محمد بن عيسى بن سَوْرَةَ الترمذي، المولود سنة 209هـ والمتوفى سنة 279هـ, الناشر المكتبة الإسلامية. 8. 9.

10. سنن الدارمي للإمام الكبير أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام الدارمي (ت: 255هـ) , الناشر: دار أخبار السنة النبوية. 11. سنن أبي داود سليمان الاشعث السجستاني الأزدي, (202ـ275هـ) , الناشر: دار ابن حزم, الطبعة الاولى 1419هـ, 1998م. 12. الآثار الكاملة لعبد الله بن المقفع حققها وشرحها وقدم لها الدكتور عمر الطباع, الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت لبنان, الطبعة الأولى 1418هـ1997م. 13. الآثار الكاملة, تأليف عبد الله بن المقفع, شرحها وقدم لها الدكتور عمر الطباع, الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم بيروت لبنان, الطبعة الأولى 1418هـ1997م. 14. الآحاد والمثاني للإمام محمد بن عمرو بن الضحاك أبو بكر الشيباني المتوفى سنة (287هـ) , الناشر دار راية الرياض الطبعة الأولى 1411هـ1991م. 15. الآسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى للإمام شمس الدين أبي عبد الله القرطبي, راجعه وأشرف على تحقيقه أبو عبد الله مصطفى بن العدوي تحقيق الشحات الطحان, الناشر مكتبة فياض للتجارة والتوزيع, المنصورة مصر, الطبعة الأولى 1427هـ2006م. 16. الأحكام للهادي: وهو الإمام العلامة المجتهد الهادي إلى الحق: يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم, الطبعة الأولى 1410هـ. 17. الأدب المفرد الجامع للآداب النبوية للإمام محمد بن إسماعيل البخاري, طبعة دار المعرفة بيروت 1424هـ2003م. 18. 19.

20. الأسماء والصفات تأليف العلامة أبي بكر أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى الخسروجردي البيهقي (384-458هـ) , منشورات محمد علي بيضون دار الكتب العلمية بيروت 1422هـ2001م. 21. الأغاني للإمام أبي الفرج الأصفهاني: علي بن الحسين بن محمد بن احمد ابن هيثم المرواني الأموي القرشي, المتوفى سنة 356هـ, منشورات دار الفكر بيروت, الطبعة الثانية. 22. الأمالي لأبي علي القالي: اسماعيل بن القاسم بن عيذون بن هارون بن عيسى بن محمد بن سليمان القالي, المتوفى سنة 356هـ, منشورات دار الآفاق الحديثة بيروت. 23. الأمالي للزجاجي: عبد الرحمن بن اسحاق النهوندي, تحقيق: عبد السلام هارون, الناشر: دار الجيب بيروت, الطبعة الثانية 1407هـ, 24. الأمانة في الاسلام وأثرها في المجتمع تأليف الدكتور عبد اللطيف بن ابراهيم بن عبد اللطيف بن حسين عضو هيئة التدريس والدراسات الإسلامية في الأحساء جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية, الناشر: دار ابن الجوزي الطبعة الأولى 1426هـ. 25. الإصابة في تمييز الصحابة، للحافظ أحمد بن علي العسقلاني وبهامشه الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر النميري القرطبي, الناشر: دار إحياء التراث العربي بيروت, الطبعة الأولى 1328هـ. 26. البصائر والذخائر لابي حيان محمد بن العباس التوحيدي المتوفى سنة 400هـ, تحقيق الدكتورة وداد القاضي. 27. البيان والتبين للجاحظ: أبي عثمان عمرو بن بحر, تحقيق عبد السلام هارون, الناشر: دار الخانجي بمصر 1367هـ. 28. 29.

30. الترغيب والترهيب من الحديث الشريف تأليف العلامة عبد العظيم بن عبد القوي المنذري أبو محمد, تحقيق: إبراهيم شمس الدين, الناشر: دار الكتب العلمية بيروت, الطبعة الأولى 1417هـ. 31. التعريفات للعلامة علي محمد الشريف الجرجاني المتوفى 816هـ, طبعة دار النفائس بيروت 2003م. 32. التمثيل والمحاضرة لأبي منصور الثعالبي, تحقيق: عبد الفتاح الحلو, الناشر: دار احياء الكتب العربية القاهرة مصر 1381هـ. 33. التوضيح والبيان لشجرة الإيمان لعبد الرحمن بن ناصر السعدي. 34. الجامع الصغير للإمام جلال الدين بن أبي بكر السيوطي المتوفى سنة 711هـ, منشورات محمد علي بيضون بيروت, الطبعة الأولى 1423هـ2002م. 35. الجامع لأحكام القران للإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، مطبعة دار الكتب المصرية, الطبعة الثانية 1373هـ1954م. 36. الجامع لأسماء الله الحسنى, دراسة اعداد حامد احمد الطاهر, الناشر: دار الفجر للتراث القاهرة, الطبعة الأولى 1423هـ. 37. الحق الواضح المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين من الكافية الشافية للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي. 38. الحماسة للبُحتُرِيّ: الوليد بن عبيد بن يحيى الطائي البحتري, المتوفى سنة 284هـ, طبعة الرحمانية. 39. الذريعة إلى مكارم الشريعة لأبي القاسم الحسن بن محمد بن المفضل الراغب الأصفهاني, الناشر: دار الكتب العلمية بيروت, الطبعة الأولى 1400هـ1980م. 40. 41.

42. الذريعة إلى مكارم الشريعة للشيخ أبي القاسم الحسين محمد المفضل الراغب الأصفهاني, الناشر: دار الكتب العلمية بيروت, الطبعة الأولى سنة 1400هـ1980م. 43. السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون, تأليف علي بن برهان الدين الحلبي, المتوفى سنة 1044هـ, الناشر: دار المعرفة بيروت 1400هـ. 44. الشعر والشعراء تأليف عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري, المتوفى سنة 276هـ, تحقيق: احمد شاكر, الناشر: دار التراث العربي, الطبعة الثالثة 1977م. 45. الطب الروحاني لابن الجوزي: أبو الفرج عبد الرحمن بن علي، تحقيق: أب هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول، الناشر: مكتبة الثقافة الذهبية، القاهرة 1406هـ، 46. الطبقات الكبرى في ذكر صفات الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، تأليف الإمام محمد بن سعد بن منيع الزهري، المتوفى سنة 230هـ، الناشر: دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان. 47. العقد الفريد للعلامة احمد بن محمد بن عبدربه الأندلسي, طبعة دار احياء التراث العربي بيروت لبنان. 48. العقل وفضله تأليف عبد الله بن محمد بن عبيد بن أبي الدنيا البغدادي, تحقيق: لطفي محمد الصغير, الناشر: دار الراية الرياض, الطبعة الأولى 1409هـ. 49. الفتح الكبير في ضم الزيادات إلى الجامع الصغير تأليف العلامة جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي, تحقيق: يوسف النبهاني, الناشر: دار الفكر بيروت, الطبعة الأولى 1423هـ2003م. 50. 51.

52. الفرائد والقلائد تأليف أبي الحسين محمد بن الحسن الأهوازي, دراسة وتحقيق د. احسان ذنون الثامري , الناشر: دار ابن حزم بيروت الطبعة الأولى 1427هـ2006م. 53. الفردوس بمأثور الخطاب تأليف العلامة أبي شجاع شيرويه بن شهردار بن شيرويه الديلمي الهمذاني الملقب إلكيا, المتوفى سنة 509هـ, تحقيق السعيد بن بسيوني زغلول, الناشر: دار الكتب العلمية بيروت 1406هـ1986م. 54. الفوائد لابن القيم، حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه أبو عبد الرحمن احمد زمرلي, الناشر: الشركة الجزائرية اللبنانية, الطبعة الأولى 1427هـ2006م. 55. القاموس المحيط تأليف العلامة اللغوي مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزأبادي المتوفى سنة 713هـ, الطبعة السابعة 1424هـ2003م, الناشر مؤسسة الرسالة بيروت لبنان. 56. القوة الثبوتية في المعاملات الالكترونية (بحث من بحوثنا) المنشور في مجلة التحكيم ومجلة البحوث القضائية. 57. الكامل في التأريخ للإمام العلامة عمدة المؤرخين أبي الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف بابن الأثير الجزري الملقب بعز الدين، المتوفى سنة 630هـ، الناشر: دار الفكر بيروت 1398م. 58. الكامل في ضعفاء الرجال, تأليف العلامة عبد الله بن عدي بن عبد الله بن محمد أبو أحمد الجرجاني, المتوفى سنة 365هـ, تحقيق: يحيى مختار غزاوي, الناشر: دار الفكر بيروت 1409هـ1988م. 59. المستدرك على الصحيحين في الحديث, للحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الله المعروف بالحاكم النيسابوري, المتوفى سنه 405هـ, وفي ذيله: 60.

61. تلخيص المستدرك للإمام الحافظ الحجة شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد الذهبي المتوفى سنه 848هـ, الناشر: دار الفكر بيروت 1398هـ1978م. 62. المستطرف في كل فن مستظرف, تأليف العلامة شهاب الدين محمد بن أحمد أبي الفتح الأبشيهي, تحقيق: د. مفيد محمد قميحة, الناشر: دار الكتب العلمية بيروت, الطبعة الثانية 1986هـ. 63. المصباح المنير معجم عربي عربي تأليف العالم العلامة احمد بن علي الفيومي المقري, طبعة دار الحديث القاهرة 1420هـ2000م. 64. المعجم الصغير تأليف الإمام الحافظ أبي القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني, المتوفى سنة 360هـ, الناشر: المكتب الاسلامي بيروت, الطبعة الأولى 1405هـ1985م. 65. المعجم الأوسط للطبراني, الناشر: دار الحرمين القاهرة 1415هـ. 66. المعجم الكبير للطبراني, تحقيق حمدي السلفي، الناشر دار إحياء التراث العربي. 67. المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم بحاشية المصحف الشريف. وضعه: محمد فؤاد عبد الباقي, الناشر: دار المعرفة بيروت, الطبعة الرابعة 1414هـ1994م. 68. المفردات في غريب القرآن تأليف أبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني تحقيق وضبط محمد خليل عيتاني, الناشر: دار المعرفة بيروت, الطبعة الثالثة 1422هـ2001م. 69. المفضليات تأليف المفضل بن محمد بن يعلي بن عامر الضبي, المتوفى سنة 168هـ. 70. المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة للسخاوي, الناشر: دار الكتاب العربي. 71. 72.

73. المنجد في اللغة والأعلام, الناشر: دار المشرق بيروت, الطبعة الثانية والعشرين. 74. الموسوعة الشعرية للعلامة والأديب والواعظ الخطيب بدر بن عبد الله بن عبد الكريم الناصر, الناشر: دار العاصمة بالرياض الطبعة الأولى 1427هـ2006م. 75. الموسوعة العربية في الألفاظ الضدية والشذورات اللغوية لجامعه محمد ابن محمد بن عبد الجبار بن محمد بن يحيى السماوي اليماني , الناشر: مركز الدراسات والبحوث اليمني صنعاء, طباعة دار الآداب بيروت, الطبعة الأولى 1410هـ1989م. 76. النظرات تأليف مصطفى لطفي المنفلوطي, الناشر: دار ومكتبة الهلال مصر الطبعة الأولى 2000م. 77. النهاية في غريب الحديث والأثر, تأليف أبي السعادات المبارك بن محمد الجزري, تحقيق: طاهر أحمد الزاوى ومحمود محمد الطناحي, الناشر: المكتبة العلمية بيروت، 1399هـ1979م. 78. النهضة الإصلاحية للأسرة الإسلامية لمصطفى الحمامي, مطبعة مصطفى الحلبي 1355هـ1936م. 79. النوادر لأبي علي القالي, الناشر: دار الكتب العلمية بيروت لبنان. 80. أحكام التعامل بالإنترنت -بحث من بحوثنا المنشورة على- مجلة التحكيم العدد (85) مارس2007م. 81. أخبار الحمقى والمغفلين تصنيف الحافظ جمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن الجوزي القرشي البغدادي, شرحه عبد الأمير مهنى, الناشر: دار الفكر اللبناني الطبعة الأولى 1410هـ1990م. 82. أدب الدنيا والدين لأبي الحسن محمد حبيب الماوردي, طبعة دار الكتب العلمية, بيروت, الطبعة الأولى1411هـ. 83. 84.

85. أدب الكتاب تأليف الإمام أبي بكر محمد بن يحيى بن عبد الله الصولي المتوفى سنة 335هـ شرح وتعليق احمد حسن لبج, الناشر: دار الكتب العلمية بيروت لبنان, الطبعة الأولى 1415هـ. 86. ألوان للعلامة والأديب الأستاذ عبد الحميد بن محمد المهدي, الطبعة الأولى. 87. أمالي العلامة الشريف المرتضى: علي بن الحسين بن موسى بن محمد ابن إبراهيم أبو القاسم, المتوفى سنة 436هـ, الطبعة الثانية, الناشر: دار الكتاب العربي بيروت. 88. أنس المسجون وراحة المحزون تأليف صفي الدين أبي الفتح عيسى بن البحتري الحلبي, تحقيق محمد أديب الجاور, الناشر: دار صادر بيروت الطبعة الأولى 1997م. 89. إحياء علوم الدين تأليف الإمام محمد بن محمد الغزالي أبو حامد, الناشر: دار االمعرفة بيروت. 90. إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل, تأليف العلامة محمد ناصر الدين الألباني, الناشر: المكتب الإسلامي بيروت, الطبعة الثانية 1405هـ1985م. 91. إصلاح المجتمع للعلامة محمد بن سالم بن حسين الكدادي البيحاني, الناشر: شركة ومكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر الطبعة الثانية 1375هـ1955م. 92. إعراب القرآن وبيانه للأستاذ العلامة محيي الدين الدرويش, الناشردار ابن كثير للطباعة والنشر والتوزيع دمشق 1418هـ1988م. 93. بدائع الفوائد لابن القيم, تحقيق: هشام عبد العزيز عطا وعادل عبد الحميد العدوي وأشرف أحمد الج, الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز مكة المكرمة, الطبعة الأولى 1416هـ1996م. 94. 95.

96. بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للعلامة مجد الدين محمد ابن يعقوب الفيروزابادي المتوفى سنة 817هـ, الناشر: المكتبة العلمية بيروت الطبعة الأولى. 97. بلوغ الأرب شرح لامية العرب جمع وتحقيق محمد عبد الحكيم القاضي ومحمد عبد الرزاق عرفان, طبعة دار الحديث. 98. بهجة المجالس وأنس المجالس لابن عبد البر: يوسف بن عبد الله بن محمد ابن عبد البر النمري القرطبي المالكي أبو عمر, المتوفى سنة 463هـ, تحقيق محمد الخولي, الناشر: دار الكتب العلمية 1981م. 99. بين يدي الإسراء ديوان شعر للعلامة والأديب الأستاذ عبد الحميد بن محمد المهدي, الطبعة الأولى. 100. تاريخ بغداد, تأليف أحمد بن علي أبي بكر الخطيب البغدادي, الناشر: دار الكتب العلمية بيروت. 101. تأريخ الأمم والملوك لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، تحقيق: مصطفى السيد وطارق سالم, الناشر: دار الكتب العلمية, بيروت, الطبعة الأولى، 1407هـ. 102. تحفة المودود بأحكام المولود لابن القيم, تحقيق عبد القادر الأرنؤط, الناشر: دار عالم الكتب الرياض, الطبعة الأولى 1412هـ. 103. تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار تأليف العلامة السيد محمد رشيد رضا, الناشر: دار المعرفة بيروت, الطبعة الثانية. 104. تمام الفتون في شرح رسالة بن زيدون للصفدي, تحقيق محمد أبي الفضل ابراهيم, الناشر: المكتبة العصرية صيدى بيروت. 105. تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة لأبي الحسن علي بن محمد بن عرّاق الكناني, حققه وراجع أصوله وعلق عليه: 106.

107. عبد الوهاب عبد اللطيف وعبد الله بن محمد الغماري, الناشر: دار الكتب العلمية بيروت. 108. تهذيب الأخلاق لأبي عثمان الجاحظ, فرَّعه وعلق عليه أبو حذيفة ابراهيم بن محمد, دار الصحابة للتراث في مصر الطبعة الأولى 1410هـ1989م. 109. تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي, الطبعة الثانية 1426هـ, الناشر: دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع. 110. تيسير المطالب في أمالي السيد أبي طالب, تأليف القاضي العلامة احمد بن سعد المسوري, الطبعة الأولى منشورات مكتبة الحياة, بيروت لبنان. 111. جامع البيان في تأويل القرآن, تأليف العلامة الحافظ محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري المتوفى سنة 310هـ, تحقيق: أحمد محمد شاكر, الناشر: مؤسسة الرسالة بيروت, الطبعة الأولى 1420هـ2000م. 112. جامع بيان العلم وفضله تأليف أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي, دراسة وتحقيق: أبي عبد الرحمن فواز أحمد زمرلي, الناشر: مؤسسة الريان ـ دار ابن حزم, الطبعة الأولى 1424هـ2003م. 113. جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب تأليف السيد أحمد الهاشمي, الناشر: مكتبة المعارف, بيروت, طبعة جديدة محققة ومنقحة أشرف على تصحيحها لجنة من الجامعيين لسنه 2005م. 114. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء للحافظ أبي نعيم احمد بن عبد الله الأصفهاني المتوفى سنة 430هـ, الناشر: دار الكتاب العربي بيروت, الطبعة الثالثة 1400هـ1989م. 115. 116.

117. حنين من الشعر العربي تأليف الدكتور العلامة أديب اليمن الكبير عبد الولي الشميري, الناشر: مؤسسة الإبداع صنعاء الطبعة الثانية 1424هـ2004م. 118. خاص الخاص للعلامة عبد الملك بن محمد الثعالبي تحقيق درويش الجويدي, الناشر: المكتبة العصرية بيروت الطبعة 1428هـ2008م. 119. خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب, تأليف عبد القادر بن عمر البغدادي, المتوفى 1093هـ, تحقيق: محمد نبيل طريفي واميل بديع اليعقوب, الناشر: دار الكتب العلمية بيروت 1998م. 120. خلاصة الكلام في تفسير ايات الاحكام -مؤلفنا- الطبعة الأولى. 121. دليل السائلين جمعه أنس بن اسماعيل أبو داود, الطبعة الألى 1416هـ1996م. 122. ديوان احمد الشامي مع العصافير في بروملي, الناشر: دار النفائس بيروت. 123. ديوان الإمام الشافعي, طبعة مؤسسة الزعبي ودار الجيل, الناشر: دار الغد الجديدة المنصورة مصر الطبعة الأولى 1424هـ2003م. 124. ديوان الإمام عبد الله بن المبارك المتوفى سنة 181هـ،، الناشر: دار اليقين للنشر والتوزيع المنصورة مصر. الطبعة الثانية 1429هـ. 125. ديوان الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي عنه, الناشر: دار الثقافة للجميع دمشق, الطبعة الأولى 1424هـ2003م. 126. ديوان الحداد: عبد الله بن علوي بن محمد بن أحمد المهاجر بن عيسى الحسيني (1044-1132هـ/1634-1720م) , الناشر: مؤسسة عبد الحفيظ البساط بيروت, الطبعة الثانبة 1421هـ. 127. ديوان العلامة يحيى بن محمد الهادي قاضي الشرع في جبل صبر في القرن الماضي, نسخة مخطوطة. 128. 129.

130. ديوان أحمد شوقي توثيق وتبويب وشرح وتعقيب العلامة الدكتور احمد محمد الحوفي عضو مجمع اللغة العربية وأستاذ الأدب العربي بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة, الناشر: نهضة مصر للطباعة والنشروالتوزيع القاهرة. 131. ديوان أبي الطيب المُتَنَبّي: أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكوفي الكندي (303-354هـ/915-965م) . 132. ديوان دعبل الخزاعي, شرحه وضبطه ضياء حسين الأعلمي, منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت الطبعة الأولى 1417هـ1997م. 133. ديوان شبلي الملاط, الناشر: دار الطباعة والنشر بيروت. 134. ذيل الأمالي لأبي علي بن إسماعيل بن القاسم القالي, منشورات دار الفرقان الجديدة بيروت 1400هـ1980م. 135. روح الدين الإسلامي تأليف العلامة عفيف عبد الفتاح طباره، الناشر: دار العلم للملايين بيروت, الطبعة (27) 1988م. 136. روضة العقلاء ونزهة الفضلاء للإمام الحافظ أبي حاتم محمد بن حبان البستي المتوفى سنة 354هـ, تهذيب ابراهيم بن عبد الله الحازمي, الطبعة الثانية 1418هـ. 137. روضة المحبين ونزهة المشتاقين للعلامة شمي الدين محمد بن أبي بكر القيم الجوزية, تحقيق الدكتور السيد الجميلي, الناشر: دار الكتاب العربي بيروت 1405هـ1985م. 138. رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين تأليف الإمام أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي, المتوفى سنة 676هـ, الناشر: المكتب الإسلامي بيروت. 139. 140.

141. زهر الأداب وثمر الألباب, تأليف أبي إسحاق إبراهيم بن علي الحصري القيرواني, تحقيق: أ. د / يوسف على طويل, الناشر: دار الكتب العلمية بيروت, الطبعة الأولى 1417هـ1997م. 142. سلسلة مواقف من حياة الرسول للعلامة خميس السعيد، الطبعة الأولى. 143. سمط اللألي لأبي عبيد البكري, تحقيق عبد العزيز الميني, 1354هـ. 144. سير أعلام النبلاء للذهبي, أشرف على تحقيقه شعيب الأرنؤط, الناشر: مؤسسة الرسالة بيروت الطبعة الثالثة 1405هـ1985م. 145. شرح اسماء الله الحسنى وصفاته العليا للإمام أبي بكر البيهقي وشيخ الاسلام ابن تيمية والامام ابن القيم الجوزية والعلامة محمد بن صالح العثيمين, اعتنى به وخرج أحاديثه أبو عبد الرحمن عادل بن سعد, الناشر: دار ابن الهيثم القاهرة 1426هـ2005م. 146. شرح الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية لابن القيم, تحقيق الدكتور خليل هراس. 147. شرح المعلقات السبع, تأليف الحسين بن أحمد بن الحسين الزوزني, دراسة وتحقيق: الناشر: دار احياء التراث العربي بيروت, الطبعة الأولى 1423هـ2002م. 148. شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة للعلامة سعيد بن وهاف القحطاني, الطبعة (10) 1425هـ. 149. شعب الإيمان تأليف العلامة المحدث أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي, المتوفى سنة 458هـ, حققه وراجع نصوصه وخرج أحاديثه: الدكتور عبد العلي عبد الحميد حامد, أشرف على تحقيقه وتخريج أحاديثه: مختار أحمد الندوي، صاحب الدار السلفية ببومباي الهند, الناشر: مكتبة الرشد للنشر والتوزيع بالرياض 150.

151. بالتعاون مع الدار السلفية ببومباي بالهند, الطبعة الأولى 1423هـ2003م. 152. طبقات الشافعية الكبرى تأليف الإمام العلامة تاج الدين بن علي بن عبد الكافي السبكي, تحقيق: الدكتور محمود محمد الطناحي والدكتور عبد الفتاح محمد الحلو, الناشر: هجر للطباعة والنشر والتوزيع, الطبعة الثانية 1413هـ. 153. طبقات فحول الشعراء تأليف محمد بن سلاّم بن عبيد الجمحي. 154. عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين, لابن القيم: محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله, تحقيق: زكريا علي يوسف, الناشر: دار الكتب العلمية بيروت. 155. عيون الأخبار لابن قتيبة, الناشر: وزارة الثقافة المصرية. 156. عيون الأمل لطه ياسين, الناشر: دار القلم دمشق, الطبعة الأولى 1429هـ2008م,. 157. غرر الخصائص الواضحة وعرر النقائض الفاضحة تأليف محمد بن ابراهيم بن يحيى بن علي الانصاري الكتبي, جمال الدين المعروف بالوطواط, المتوفى سنة 718هـ. 158. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، المتوفى سنة 852هـ، تحقيق عبد العزيز بن عبد الله ابن باز ومحمد فؤاد عبد الباقي، الناشر: دار التقوى ومكتبة العلم ودار العنان، توزيع المكتبة الإسلامية. 159. فصل المقال في شرح كتاب الأمثال, تأليف أبي عبيد البكري, تحقيق: إحسان عباس, الناشر: مؤسسة الرسالة بيروت, الطبعة الأولى 1971م. 160. في ضلال القرآن للعلامة الجليل الأستاذ سيد قطب, الطبعة الشرعية التاسعة1400هـ 1980م, دار الشروق, مصر. 161. 162.

163. فيض القدير تأليف العلامة محمد عبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي ابن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري, المتوفى سنة 1031هـ, الناشر: دار الكتب العلمية بيروت, الطبعة الاولى 1415هـ1994م. 164. قانون المبادلات والتجارة الإلكترونية الصادر في أغسطس 2000م والمنشور في الرايد الرسمي للجمهورية التونسية بتأريخ 11/آب/2000م. 165. قانون المعاملات الإلكترونية رقم (85) لسنة 2001م المنشور في الجريدة الرسمية الأردنية الصادرة بتأريخ 31/12/2001م. 166. قانون المعاملات التجارية الإلكترونية لإمارة دبي رقم (2) لسنة 2002م الصادر في 12 شباط 2002م. 167. قانون أنظمة الدفع والعمليات المالية والمصرفية الإلكترونية اليمني الصادر بالقانون رقم (40) لسنة 2006م. 168. قانون تنظيم التوقيع الإلكتروني وإنشاء هيئة تكنولوجيا المعلومات المصري رقم (15) لسنة 2004م الصادر في غرة ربيع الأول 1425هـ الموافق 21 إبريل 2004م. 169. كتاب العلوم للامام احمد بن عيسى المتوفى سنة247هـ, الذي جمعه الامام محمد بن منصور بن يزيد المرادي الكوفي المسمى ابو جعفر, طبعة مكتبة المؤيد الطائف الطبعة الأولى. 170. كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس للعلامة المحدث الكبير الشيخ إسماعيل بن محمد العجلوني الجراحي، المتوفى سنة 1162هـ, الناشر: دار إحياء التراث العربي. 171. كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال للعلامة علاء الدين علي بن حسام الدين المتقي الهندي البرهان فوري, المتوفى سنة 975هـ, تحقيق 172.

173. بكري حياني وصفوة السقا, الناشر مؤسسة الرسالة بيروت, الطبعة الخامسة 1401هـ1981م. 174. لا تحزن تأليف العلامة الدكتور عايض بن عبد الله القرني، الطبعة التاسعة، مكتبة العبيكان، الرياض 1422هـ. 175. لباب الآداب تأليف العلامة أبي منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي النيسابوري, تحقيق: أحمد حسن لبج, الناشر: دار الكتب العلمية بيروت, الطبعة الأولى 1417هـ1997م. 176. لزوم ما لا يلزم لأبي العلاء المعري, الطبعة الأولى. 177. لسان العرب تأليف العلامة أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري المتوفى سنة 711هـ, الناشر: دار صادر بيروت, الطبعة الأولى. 178. لطائف المعارف فيما للمواسم العام من الوظائف تأليف الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ زين الدين بن رجب الحنبلي المتوفى سنة 795هـ, إعداد مركز البحوث والدراسات مكتبة نزار مصطفى الباز مكة المكرمة, الطبعة الاولى 1418هـ1997م. 179. لطائف المعارف للحافظ زين الدين بن رجب الحنبلي, إعداد مركز البحوث والدرسات بمكتبة نزار مصطفى الباز مكة المكرمة, تحقيق عبد المنعم ابراهيم الطبعة الأولى 1418هـ1997م. 180. مؤلفنا (حقوق الإنسان في الهدي النبوي) دراسة مقارنة بالاعلان العالمي لحقوق الإنسان والتشريعات الوطنية, الطبعة الأولى منشأة المعارف الاسكندرية 1427هـ2006م. 181. مجلة التوعية الإسلامية العدد السادس عشر, الصادر في ربيع الثاني 1386هـ. 182. 183.

184. مجمع الأمثال لأبي الفضل احمد بن محمد بن احمد بن ابراهيم النيسابوري الميداني, حققه وفصله وضبط غرائبه وعلق حواشيه محمد محيي الدين عبد الحميد, مطبعة السنة المحمدية. 185. مجمع الحكم والامثال في الشعر العربي لاحمد قبش, الناشر: دار الرشيد، الطبعة الثانيه 1403هـ. 186. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد لنور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي المتوفى سنة 807هـ, الناشر: دار الفكر بيروت 1414هـ,1994م. 187. مجموع فتاوى ابن تيمية: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني المتوفى سنة 728هـ, تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار, الناشر: دار الوفاء, الطبعة الثالثة 1426هـ2005م. 188. محاضرات الأدباء ومحاورة الشعراء والبلغاء للراغب الأصبهاني, تهذيب ابراهيم زيدان, الناشر دار الآثار بيروت. 189. مختار الصحاح للشيخ الإمام محمد بن أبي بكر الرازي, الناشر: دار القلم لبنان. 190. مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين, لابن القيم محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله, تحقيق: محمد حامد الفقي, الناشر: دار الكتاب العربي بيروت, الطبعة الثانية 1393هـ1973م. 191. مسند الإمام الحافظ المحقق العلامة المحدث أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، المتوفى سنة 241هـ, تحقيق شعيب الأرنؤوط وآخرين, الناشر: مؤسسة الرسالة بيروت, الطبعة الثانية 1420هـ1999م. وطبعة أخرى للناشر: بيت الأفكار الدولية لبنان 2004م. 192. مسند الشهاب محمد بن سلامة بن جعفر أبو عبد الله القضاعي, تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي, الناشر: مؤسسة الرسالة, الطبعة الثانية 1407هـ1986. 193. 194.

195. معجم الأدباء لياقوت بن عبد الله الرومي الحموي المتوفى سنة 626هـ, الناشر: دار الكتب العلمية بيروت, الطبعة الأولى 1411هـ. 196. معجم البلدان, تأليف ياقوت بن عبد الله الحموي أبي عبد الله, الناشر: دار الفكر بيروت. 197. معجم المصطلاحات القانونية للدكتور عبد الواحد كرم, الناشر: عالم الكتاب ومكتبة النهضة العربية بيروت الطبعة الاولى 1407هـ1987م. 198. معجم المقاييس للعلامة أبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا المتوفى سنة 395هـ, الناشر: دار الفكر بيروت لبنان الطبعة الثانية 1428هـ1998م. 199. مقامات القرني للعلامة والأديب الكبير صاحب القلم السيال واللسان العذب والكلام الطيب والعلم الغزير الدكتور عائض بن عبد الله القرني, طبعة مكتبة الصحافة الشارقه-الامارات مكتبة التابعين- القاهرة، الطبعة الثالثة 1423هـ-2002م. 200. مكاشفة القلوب المقرب إلى حضرة علام الغيوب، للشيخ الغزالي، طبعة المطبعة والمكتبة السعيدة بمصر. 201. من أوراق العمر للشاعر والأديب الكبير والفقيه المحقق العلامة عبد الحميد بن محمد المهدي, الطبعة الأولى 1427هـ2006م, من اصدارات اتحاد المبدعين العرب فرع اليمن, صنعاء. 202. موسوعة أسماء الله الحسنى للأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي, الناشر: دار المكتبي دمشق سوريا, الطبعة الخامسة 1429هـ2008م. 203. موطأ الإمام مالك بن أنس, تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي, الناشر: مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان, الطبعة: الاولى 1425هـ2004م. 204. نشر العرف لنبلاء اليمن بعد الألف للعلامة محمد بن محمد زبارة إعداد مركز الدراسات والبحوث اليمني. 205. 206.

207. نفح الطيب للترمساني, تحقيق حسين عباس, الناشر: دار صادر بيروت 1388هـ1968م. 208. نفخ الطيب من غصن الأندلس الرطيب, أحمد بن محمد المقري التلمساني, تحقيق الدكتور إحسان عباس, الناشر: دار صادر بيروت 1388هـ. 209. وسائل الإثبات في الشريعة الإسلامية في المعاملات المدنية والأحوال الشخصية تأليف الدكتور محمد الزحيلي, الطبعة الثانية 1414هـ. 210. وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان, تأليف أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان, تحقيق: إحسان عباس, الناشر: دار صادر بيروت 1900-1994م. 211. بالإضافة إلى دواوين وكتب أخرى مذكورة في الهوامش.

المحتويات الفصل الثلاثون ... 3 التوكل على الله ... 5 التوكل عبادة قلبية ... 8 القوة في التوكل على الله ... 9 التوكل على الله واتخاذ الأسباب ... 11 السنة النبوية ترشد إلى الأخذ بالأسباب ... 13 التوكل على الله يذهب الهم والحزن ... 14 ثمرة التعرف على اسمه سبحانه وتعالى الوكيل الكفيل ... 21 دعاء الله باسمه الوكيل الكفيل ... 22 الفصل الواحد والثلاثون ... 25 الشورى ... 25 الشورى ... 27 الشورى بركة ... 29 الشورى لغة واصطلاحا ... 32 الفرق بين الشورى العامة والديمقراطية ... 35 في الشورى قوة واخوة ... 37 لاخير في امر اُبرم من غير مشورة ... 38 الشورى والزاميتها ... 39 فضل الشورى ... 40 الخلال المطلوب توافرها في المشير ... 42 الحكمة في الشورى ... 45 الحكيم من اسماء الله الحسنى ... 47 ثمرة معرفه اسم الله الحكيم ... 50 دعاء الله باسمه الحكيم ... 53 الفصل الثاني والثلاثون ... 55 النصيحة ... 55 النصيحة ... 57 خير الاخوان اكثرهم مبالغة في النصيحة ... 59 النصح لايجب في العلانية ... 60 عدم قبول النصيحة حسرة وندامة ... 61 الغش في النصيحة ... 62 احذر نصائح الشيطان فانها غش وبهتان ... 63 النصيحة لله ولكتابه ولرسوله وأئمة المسلمين وعامتهم ... 63 الرشيد من اسماء الله الحسنى ... 66 ثمرة معرفة اسم الله الرشيد ... 68 دعاء الله باسمه الرشيد ... 70 الفصل الثالث والثلاثون ... 73 التقوى ... 73 التقوى ... 75 التقوى فضيلة ... 76

صفة التقوى والمتقين عند العلماء ... 77 التقوى في القرآن الحكيم ... 78 ثمرات التقوى ... 80 المتقون يستشعرون عظمة الله ويدركون رقابته ... 83 الرقيب الشهيد من اسماء الله الحسنى ... 84 ثمرة معرفة اسم الله الرقيب, الشهيد ... 86 دعاء الله باسمه الرقيب, الشهيد ... 87 الفصل الرابع والثلاثون ... 89 الحياء ... 89 الحياء ... 91 الحياء في القرآن الكريم ... 92 فضل الحياء ... 93 قليل الحياء ممقوت ... 94 الحياء من الايمان ... 95 حياء الانسان من نفسه ... 97 الخير كله في الحياء ... 97 السميع البصير من اسماء الله الحسنى ... 100 ثمرة معرفة اسم الله السميع البصير ... 102 دعاء الله باسمه السميع البصير ... 104 الفصل الخامس والثلاثون ... 105 الشباب ... 105 الشباب ... 107 مكانة الشباب ... 109 الشباب وانتهاز الفرصة واغتنام الوقت ... 111 الشباب يخلفه المشيب ... 113 البكاء على الشباب ... 114 القوي المتين العزيز القادر المقتدر في اسماء الله الحسنى ... 118 ثمرة معرفة اسم الله القوي المتين العزيز القادر المقتدر ... 123 دعاء الله باسمه القوي المتين العزيز القادر المقتدر ... 129 الفصل السادس والثلاثون ... 131 صلة الرحم وبر الوالدين ... 131 صلة الرحم وبر الوالدين ... 133 صلة الرحم قوة وسعادة ... 135 قصة للاكتم بن صيفي ... 136 القريب له حق فلا تخذله ... 137 معاداة ذوي القربا وقطيعتهم ... 138 فوائد اعطاء ذوي القربى ... 140 الوالدان من القرابة ... 144 خير الدنيا والاخرة في بر الوالدين ... 148 حقوق الوالدين ... 150 قصة اوردها القرطبي في التفسير ... 151 عقوق الوالدين من الكبائر ... 152

الرب في اسماء الله الحسنى ... 157 ثمرة معرفة اسم الله رب العالمين ... 159 دعاء الرب المجيب العظيم بما ورد في القرآن الحكيم ... 161 الفصل السابع والثلاثون ... 163 الرحمة ... 165 الرحمة من سماة المؤمنين ... 165 رحمة الله واثارها ... 166 صلاح الانسان يكسبه رحمة الله ... 168 فوائد الرحمة وضرر القسوة والجفوة ... 169 علاج قسوة القلب ... 175 الرحمن الرحيم في اسماء الله الحسنى ... 177 ثمرة معرفة اسم الله الرحمن الرحيم وفائدته ... 179 دعاء الله باسمه الرحمن الرحيم ... 181 الفصل الثامن والثلاثون ... 183 الحياة ... 183 الحياة ... 185 الحياة جميلة فلا تضيعها ... 187 بالأمل والفال تصفو الحياة وبالعمل تتجدد ... 188 الحياة نقيض الموت ... 191 الحياة تتقلب وتذهب فلا تغتر بها ... 192 تقلب الحياة يحث على عمارتها بالعمل الصالح ... 195 التحذير من الاغترار بالحياة الدنيا يعني عمارة الحياة بالعمل الصالح ... 198 الايمان بالحياة الاخرة والتشويق لها ممايحث على عمارة الحياة الدنيا بالعمل الصالح ... 200 الحي القيوم في اسماء الله الحسنى ... 203 ثمرة معرف اسم الله القيوم ... 205 دعاء الله باسمه الحي القيوم ... 206 الفصل التاسع والثلاثون ... 209 الاستغفار ... 209 الاستغفار ... 211 الله يغفر الذنوب جميعا فلا تكن من القانطين ... 212 الاستغفار علاج للامراض النفسية ... 213 الاستغفار وعمل الخير فيه تكفير للذنب ... 216 قصة لعمر بن الخطاب ... 217 الاستغفار سعادة وبشارة ... 217 الغفور الغافر الغفّار من اسماء الله الحسنى ... 219 ثمرة معرفة اسمه الغفور الغافر الغفار ... 221 سيد الاستغفار ... 223 دعاء الله باسمه الغفور الغافر الغفار ... 224 الفصل الاربعون ... 225 الإيثار ... 225 الإيثار ... 227 الإيثار على النفس خلق كريم ... 229

الايثار في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم اساس في بناء الدولة الاسلامية ... 231 ايثار الحياة الدنيا على الاخرة ... 232 الفصل الواحد والاربعون ... 237 الاخلاص ... 237 الاخلاص ... 239 الاخلاص تسبقه النية ... 244 النية الطيبة عنصر من عناصر التربية الخلقية ... 244 الرياء يناقض الاخلاص ... 246 الرياء من صفات المنافقين ... 248 ثناء الناس بشرى وليس مما يدفع للرياء ... 248 من لازم الاخلاص لله الولاء والبراء ... 250 الفرق بين المداهنة والمداراة وأثرهما على الولاء والبراء ... 251 الولي المولى النصير الحميد في اسماء الله الحسنى ... 254 ثمرة معرفة اسم الله الولي المولى النصير الحميد ... 258 دعاء الله باسمه الولي المولى النصير الحميد ... 260 الفصل الثاني والاربعون ... 263 السعادة ... 263 السعادة ... 265 الاخذ باسباب السعادة في الدنيا سبب للحصول على السعادة في الاخرى ... 268 البحث عن السعادة ... 269 السعيد من صلح قلبه ... 272 القلب وما يعرض له من السعادة والشقاء ... 274 الشقي من طبع على قلبه ... 276 الله مقلب القلوب فلا تغفل ... 278 القابض الباسط في اسماء الله الحسنى ... 282 ثمرة معرفة اسم الله القابض الباسط ... 284 دعاء الله باسمه القابض الباسط ... 285 الفصل الثالث والاربعون ... 287 الرضا ... 287 الرضا ... 289 الرضا يجلب السرور والبهجة, والسخط والغضب يجلبان الهم والحزن ... 290 الرضا بما رضي الله به لك فلاح ونجاح ... 292 الرضا نعمة وسرور وحبور ... 295 الفرق بين الارادة والرضا ... 298 التوافق بين الرضا والقناعة ... 299 بأعمال البر ينال الانسان رضوان الله ... 302 البَرُ من اسماء الله الحسنى ... 305 ثمرة معرفه اسمه الله البَر ... 307 دعاء الله باسمه البَر ... 309 الفصل الرابع والاربعون ... 311 الابتهاج والسرور ... 311 الابتهاج والسرور ... 313

من احب الاعمال الى الله ادخال السرور على عباده ... 315 من لازم البهجة والسرور الابتسامة ... 316 ادخال السرور على المسلمين سبب في غفران الذنب ودخول الجنة ... 319 الفرح والسرور بفضل الله ورحمته نعمة ... 320 الفصل الخامس والاربعون ... 323 علو الهمة ... 323 علو الهمة ... 325 بالهمم العالية تنال المراد فاستعذ بالله من الكسل ... 327 الهمة المضيئة والارادة القوية ... 330 اسباب كسب الهمم العالية ... 333 قراءة القرآن تبعث الهمم العالية ... 334 دعاء الله والاستعانة به تبعث الهمم ... 335 الارادة القوية تبعث الهمم العالية ... 335 التوازن في الغذاء يساعد على بعث الهمم ... 336 الهمم العالية لاتعيقها الاحداث ... 336 الغريزة تبعث الهمم ... 338 الفصل السادس والاربعون ... 341 الوقت ... 341 الوقت ... 343 ادارة الوقت سبيل للنجاح ... 345 اسباب ضياع الوقت ... 348 تمتع بنعمة وقتك ... 351 الفصل السابع والاربعون ... 359 الأطفال ... 359 الأطفال ... 361 الطفل ان تلقى الرشاد نما على الخير ... 362 الطفل في لغة العرب ... 365 التسمية الحسن للطفل وتكنيته مما يرفع من معنوياته ... 367 تهنئة من رزق طفلا ... 370 ادب الطفل وتعليمه ... 372 لعب الطفل وراحته مما ينعشه ويشرح نفسه ... 374 الفصل الثامن والاربعون ... 379 التوبة ... 379 التوبة ... 381 التوبة فرض عين ... 383 فوائد التوبة واثارها ... 384 التوبة من اهم الدعائم الخلقية فسارع اليها ... 386 قصة في الحديث النبوي ... 386 التواب من اسماء الله الحسنى ... 388 ثمرة معرفة اسم لله التواب ... 390 دعاء الله باسمه التواب ... 391 الفصل التاسع والاربعون ... 393

الموت ... 393 الموت ... 395 الموت تحفة المؤمن ... 397 حياتك وموتك لله ... 400 الخلود مستحيل فلا تغتر ... 401 الموت ومفارقة الروح الجسد ... 405 الروح سر من اسرار الرحمن ... 407 قصة لأعرابي ... 410 ملك وكل بقبض الارواح ... 410 المحيي المميت من اسماء الله الحسنى ... 412 ثمرة التعرف على اسم الله المحيي المميت ... 414 دعاء الله باسمه المحيي المميت ... 414 الفصل الخمسون ... 417 الصلاة ... 417 الصلاة ... 419 في الصلاة راحة وسعادة ... 420 الحكمة من الصلاة ... 421 في الصلاة طهارة القلب والبدن ... 423 الصلاة تغرس في الانسان الفضيلة وتبعده عن الرذيلة ... 425 استقبال عين الكعبة ... 428 الصلاة في المساجد ... 429 الصلاة تقوي النفس الانسانية ... 431 قصة وردت في الحديث النبوي ... 433 السعادة وصفا الذهن في الصلاة ... 433 من اسماء الله الحسنى الاول والاخر والظاهر والباطن ... 435 ثمرة معرفه اسمائه الاول والاخر والظاهر والباطن ... 437 دعاء الله باسمه الاول الآخر الظاهر الباطن ... 439 الفصل الواحد والخمسون ... 441 الزكاة ... 441 الزكاة ... 443 الحكمة من فريضة الزكاة ... 444 الاخوة الدينية لاتحصل دون اداء الزكاة ... 446 الزكاة فيها حفظ المال والسلامة من شروره ... 447 الزكاة سبب في دخول الجنة ... 448 قصة وردت عن حال مانع زكاة ماله ... 449 الزكاة نظام تكافل جاء به الإسلام ... 450 المقدم المؤخر من اسماء الله الحسنى ... 455 ثمرة معرفة اسم الله المقدم المؤخر ... 457 دعاء الله باسمه المقدم المؤخر ... 459 الفصل الثاني والخمسون ... 461 الصيام ... 463 بالصيام تكتسب ملكة التقوى ... 464

الصوم فيه تدريب على القيادة والسيادة ... 466 فوائد الصوم ... 467 من اسرار الصوم ... 470 السحور بركة ... 471 بالصوم تغفر الذنوب ... 472 الصمد من اسماء الله الحسنى ... 473 ثمرة معرفة اسم الله الصمد ... 475 دعاء الله باسمه الصمد ... 476 الفصل الثالث والخمسون ... 477 الحج ... 477 الحج ... 479 في الحج اجتماع الناس وتآلفهم ... 480 جعل الله الكعبة البيت الحرام مثابة للناس وامنا ... 481 الاحرام وحكمته ... 485 الحج المبرور ... 487 الحكمة من الطواف ... 489 حكمة السعي بين الصفا والمروة ... 491 الحكمة من الوقوف بعرفة ... 492 العظيم من اسماء الله الحسنى ... 495 ثمرة معرفه اسم الله العظيم ... 497 دعاء الله باسمه العظيم ... 499 الفصل الرابع والخمسون ... 501 الدعاء والصلاة على النبي ... 501 الدعاء والصلاة على النبي ... 503 أنواع الدعاء في القرآن الكريم ... 506 الدعاء سلاح المؤمن ... 509 الدعاء ومزاياه الروحية ... 511 الدعاء علاج نفسي ... 512 الدعاء يرد القضا ... 513 أدآب الدعاء ... 515 من اقوال السلف في الدعاء ... 516 فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ... 517 فوائد وثمرات الصلاة على النبي ... 518 القريب المجيب من اسماء الله الحسنى ... 521 ثمرة معرفة اسم الله القريب المجيب ... 523 دعاء الله باسمه القريب المجيب ... 524 أهم المراجع ... 527 المحتويات ... 547

§1/1