صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان

محمد بشير السَهْسَوَاني

التعريف بالكتاب

التعريف بالكتاب ... صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان تأليف العلامة الكبير المحدّث الفقيه النحرير محمد بشير السَّهسواني الهندي 1252 ـ 1326 الطبعة الرابعة 1410هـ بسم الله الرحمن الرحيم التعريف بكتاب صيانة الإنسان بسم الله الرحمن الرحيم {وقُلْ جاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ الباطِلُ، إنَّ البَاطِلَ كانَ زَهُوقَا} تمهيد في معنى السنة والجماعة والبدع لما حدثت البدع في الأمة وصار لها شيع وأنصار، جعل لكل شيعة منها اسم، وأطلق على المحافظين على ما كان عليه السواد الأعظم من الصحابة والتابعين المجتنبين للمحدثات والبدع لقب "أهل السنة والجماعة". والمراد بالسنة هنا معناها اللغوي، وهي الطريقة المخصوصة المسلوكة المتبعة بالفعل في أمر الدين -فعلاً وتركاً- من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فالتعريف فيها للعهد، وليس المراد بها ما اصطلح علماء الحديث من إطلاقها على أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته وشمائله، ولا ما اصطلح عليه الفقهاء من إطلاقها على ما واظب عليه صلى الله عليه وسلم غالباً على غير سبيل الوجوب، فإن جميع فرق المبتدعة في الإسلام يأخذون بالسنة بمعنييها الأخيرين على اصطلاحات لهم وقواعد في إثباتها ونفيها وتأويلها وتعارضها، كما أن للفقهاء والمتكلمين المنسوبين إلى السنة والجماعة بالمعنى الأصلي قواعد في ذلك. والتحقيق أن ما كان عليه السلف في الصدر الأول لم يكن يسمى مذهباً، ولا يصح أن يسمى مذهباً في الإسلام، لأنه هو الإسلام كله، وهو وحدة لا تفرق فيها ولا اختلاف، والله يقول لرسوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} . ويقول: {أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} . وإنما صار يسمى مذهباً بالإضافة إلى ما حدث من البدع التي تتعصب لها الشيع. ولو أن الأشاعرة جروا في تقرير العقائد للمسلمين في التعليم والتصنيف على صراط القرآن في إثبات ما أثبته ونفي ما نفاه والاستدلال بما استدل به من آيات الله في الأنفس والآفاق، والتزموا في ذلك هدي السلف من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل، ثم جروا في الرد على المخالفين على قاعدة الغزالي من كونه ضرورة تقدَّر

بقدرها في كل زمن بحسبه بإدحاض شبهاتهم، والتفرقة بينا ما لا يتفق مع أصول الملة القطعية وما يتفق معها ولو بضرب من تأويل بعض الظواهر غير القطعية -لو أنهم فعلوا هذا وذاك- لما كان ثمَّ وجه لتقسيم أهل السنة والجماعة إلى مذهبين مختلفين: سلفية، وخلفية. حتى أفضى ذلك إلى رد بعض متكلمي الخلف على متبعي السلف من أهل الحديث ورد هؤلاء عليهم، كما يردُّ الفريقان على المعتزلة وغيرهم من الذين خرجوا عن صراط الجماعة الذي كان عليه أهل الصدر الأول المتفق بينهما على هَدْيهم وهداهم. وهذا ما جرينا عليه في مجلة المنار وفي تفسير المنار: نقرر مذهب السلف بالحجة وندافع عنه وندعو إليه، وقد نورد ما نراه ضرورياً من تأويل لغير القطعي المجمع عليه لبيان سعة الإسلام، وكون من لم يطمئن قلبه لبعض الظواهر على مذهبهم، فإن تأوله لها مع الإيمان بكل ما هو قطعي مجمع عليه لا يخرجه من حظيرة الحنيفية السمحة، ولكن لا يقتدى به في تأويله، وهذا هو الموافق لقول أئمة السنة والجماعة: لا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ولا بدعة عملية، وإن المتأول المخطئ غير كافر. ولكن الأشاعرة جروا على طريقة متكلمي المعتزلة في بناء العقائد على النظريات العقلية، وتأويل النصوص المخالفة لها، إلا قليلاً مما خالفهم فيه أبو الحسن وغيره من كبار نظارهم كمسألة الرؤية فصاروا فرقة غير أهل الحديث المتبعين للسلف من كل وجه. لما حدثت البدع كان الأئمة يحتجون على أهلها بأنهم خالفوا السنة -أي الطريقة المتبعة- وفارقوا الجماعة والسواد الأعظم، واتبعوا غير سبيل المؤمنين، ويطبقون عليهم ما ورد في الكتاب والسنة من النصوص في وجوب الاتباع، وحظر الابتداع، والتفرق في الدين، حتى كانت حجة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله على بدعة القول بخلق القرآن أن هذا قول لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه ولا أصحابه، ولا علماء التابعين، أفلا يسعنا ما وسعهم؟ أي أن فرضنا أنه في نفسه صحيح، فكيف إذا كان رأياً باطلاً في كتاب الله عز وجل فتح باب فتنة في الإسلام فرقت أهله شيعاً يسفك بعضهم دماء بعض ويكفر بعضهم بعضاً؟ وقد قال قبله إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه: أكلما جاءنا رجل ذكي فصيح برأي في دين الله زينه بخلابته اللسانية ونظرياته الفكرية نترك ما نزل به

جبريل من عند الله تعالى على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونتبعه فيه، حتى إذا جاء ذكي آخر بما ينقضه بقول أفصح منه اتبعناه فيه، وهكذا دواليك لا يستقر لنا في ديننا حال؟ اهـ مبسوطاً بمعناه، وكان يقول: كل ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناً لا يكون بعده ديناً، فإن الله تعالى أكمل لنا الدين بنص كتابه قبل أن يقبضه إليه. وقد قيل له: إن أناساً من أهل المدينة يقفون عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون ويدعون ساعة، فقال: لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا وتركه واسع، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده. اهـ. ذكر هذا في المبسوط. وإنما استثنى مالك من أراد سفراً أو قدم منه لأنه صح عن عبد الله بن عمر أنه كان يفعل ذلك أي يأتي القبر فيقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت، وينصرف كما في صحيح البخاري، ولم يرو هذا عن غيره من الصحابة، وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه أشدهم عناية بمثل هذا، فقد روى عنه أنه كان يتحرى في نسكه تتبع خطوات النبي صلى الله عليه وسلم ومواقفه وأمكنة طهارته، وصلاته ومنحره، وإن صح أن هذا غير مسنون، ولم يكن يفعله أبوه ولا غيره من الخلفاء الأربعة وعلماء الصحابة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في صحيح مسلم وغيره: "وقفت هنا وعرفه كلها موقف". وقال مثل ذلك في المزدلفة وقال في منى: "نحرت هاهنا ومنى كلها منحر" لئلا يتحرى الناس موقفه ومنحره ويجعلوه مشروعاً فيزدحموا عليه، وهذا زيادة في الشرع وهي كالنقص منه. ثم إن البدع فشت بضعف العلم والعمل بالكتاب والسنة ونصر الملوك والحكام لأهلها كما فعل بعض العباسيين في عصر دولة العلم، وتفاقم في عصور من بعدهم من دول الأعاجم، حتى صار لفظ "السنة والجماعة" لقباً مذهبياً انتحله بعض علماء الكلام المبتدع -وكادوا يحتكرونه دون متبعي السلف، وهم الحنابلة وأهل الحديث- ومن هؤلاء المتكلمين المقلدون في الفروع لأبي حنيفة ومالك والشافعي وكذا أحمد ابن حنبل وإن خالفوا أئمتهم فيما كانوا عليه من اتباع السلف، واجتناب البدع، وعدهم علم الكلام منها، فترى المتأخرين منهم يشاركون العوام في بدعهم، ويتأولونها

لهم، وابتدعوا لهم قاعدة في إقرار البدع والإنكار على منكريها، وهي تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة! واختراع محسان لما فشا منها، ككونها من حب الأنبياء والصالحين وتعظيمهم والتبرك بهم، وهذا عين الغلو الذي فعله أهل الكتاب وقوم نوح من قبلهم، وحذرنا الله ورسوله من فعلهم. ومقتضى هذه القاعدة أن لكل أحد أن يبتدع في دين الله تعالى كل ما يستحسنه كما فعل أهل الملل السابقة بعد أنبيائهم، حتى إذا فشت البدع وكثر أهلها أيدها الحكام الجاهلون المستبدون إرضاء للعامة، وأيدها المعممون المقلدون إرضاء للفريقين، وأعقب ذلك إنكار الثلاثة على أنصار السنة، وتسميتهم مبتدعة مخالفين للجماعة، وهكذا انعكست القضية، وانقلبت البدعة سنة والسنة بدعة، وتحول المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وصار أهل البدع يحتجون على دعاة الكتاب والسنة بمخالفة الجماعة، والخروج على السواد الأعظم من الأمة، وتبديعهم، وتضليلهم بدعوى أن الأكثر هم المسلمون لا سواهم، ولا يقتصروا في ذلك على البدع الإضافية العملية كالأوراد المخالفة للمأثور في صفتها وتوقيتها، وجعلها كالشعائر في الاجتماع لها ورفع الأصوات بها، وبدعة محمل الحج، بل أدخلوا فيها البدع الوثنية بعبادة الصالحين بالدعاء وغيره، والعوام يتبعون من يدافع عنهم، ويدعي اتباع أئمتهم، وتؤيده حكوماتهم، ونبز داعي السنة بلقب المجتهد المحاول لهدم المذاهب المحتقر للأئمة، وباب الجدل واسع لا نهاية له، والعمدة في اتباع السنة والجماعة ما كان عليه أهل الصدر الأول في أمر الدين -ومنهم أئمة الحديث والفقه المعروفون- ولا سيما العبادات والقربات ومنها تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وآل بيته وأصحابه والمهتدين بهديهم من غير غلو ولا ابتداع. الشيخ محمد بن عبد الوهاب: لم يخل قرن من القرون التي كثرت فيها البدع من علماء ربانيين يجددون لهذه الأمة أمر دينها، بالدعوة والتعليم وحسن القدوة، وعدول ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، كما ورد في الأحاديث، ولقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي من هؤلاء العدول المجددين، قام يدعو إلى تجريد التوحيد

وإخلاص العبادة لله وحده، بما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وترك البدع والمعاصي وإقامة شعائر الإسلام المتروكة، وتعظيم حرماته المنتهكة المنهوكة، فنهدت لمناهضته واضطهاده القوى الثلاث: قوة الدولة والحكام، وقوة أنصارها من علماء النفاق، وقوة العوام الطغام، وكان أقوى سلاحهم في الرد عليه أنه خالف جمهور المسلمين. مَن هؤلاء المسلمون الذين خالفهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب في دعوته؟ هم أعراب في البوادي شر من أهل الجاهلية، يعيشون بالسلب والنهب، ويستحلون قتل المسلم وغيره لأجل الكسب، ويتحاكمون إلى طواغيتهم في كل أمر، ويجحدون كثيراً من أمور الإسلام المجمع عليها التي لا يسع مسلماً جهلها، ولا يقيمون ما حفظوا اسمه منها، ولكنهم قد يسمون أنفسهم مسلمين، وأهل حضر، فشت فيهم البدع الوثنية والمعاصي وأضاعوا هدي الشرع في العمل والحكم، فضاع جل ملكهم، وذهب سابق عزهم، وعرف هذا عالمهم وجاهلهم، وصرنا نسمع خطباءهم على منابر الجمعة يقولون: "لم يبق من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه"، على ما في كثير من هذه الخطب من تأييد البدع والكذب على الله ورسوله، والتعاليم التي تزيد الأمة جهلاً وضعفاً وفقراً، وهم لها مقترفون، وعليها مصرون، حتى إذا ما ارتفع صوت مصلح بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يشكون منه بالإجمال، مبيناً لهم أسبابه وسوء عاقبته بالتفصيل، هبوا لمعارضته، واستعدوا عليه الظالمين المستبدين للانتقام منه، إذا لم يجد هؤلاء الظالمون باعثاً سياسياً للإيقاع به. ولما حج ابن جبير الأندلسي في القرن السادس ورأى ما رأى من المنكرات في مصر والحجاز حكم بأن الإسلام قد ذهب من المشرق ولم يحفظ إلا في المغرب. رسالة الشيخ أحمد زيني دحلان في الرد على الوهابية: تصدى للطعن في الشيخ محمد بن عبد الوهاب والرد عليه أفرادٌ من أهل الأمصار المختلفة، منهم رجل من أحد بيوت العلم في بغداد، قد عهدناه يفتخر بأنه من دعاة التعطيل والإلحاد1. وكان أشهر هؤلاء الطاعنين مفتي مكة المكرمة الشيخ أحمد زيني

_ 1 هو جميل الزهاوي.

دحلان المتوفى سنة 1304 ألَّف رسالة في ذلك تدور جميع مسائلها على قطبين اثنين: قطب الكذب والافتراء على الشيخ، وقطب الجهل بتخطئته فيما هو مصيب فيه. أنشئت أول مطبعة في مكة المكرمة في زمن هذا الرجل فطبع رسالته وغيرها من مصنفاته فيها، وكانت توزع بمساعدة أمراء مكة ورجال الدولة على حجاج الآفاق فعم نشرها، وتناقل الناس مفترياته وبهاءته في كل قطر، وصدقها العوام وكثير من الخواص، كما اتخذ المبتدعة والحشوية والخرافيون رواياته ونقوله الموضوعة والواهية والمنكرة، وتحريفاته للروايات الصحيحة، حججاً يعتمدون عليها في الرد على دعاة السنة المصلحين، وقد فنيت نسخ رسالته تلك ولم يبق منها شيء بين الأيدي، ولكن الألسن والأقلام لا تزال تتناقل كل ما فيها من غير عزو إليها، ودأب البشر العناية بنقل ما يوافق أهواءهم، فكيف إذا وافقت هوى ملوكهم وحكامهم. كنا نسمع في صغرنا أخبار الوهابية المستمدة من رسالة دحلان هذا ورسائل أمثاله فنصدقها بالتبع لمشايخنا وآبائنا، ونصدق أن الدولة العثمانية هي حامية الدين ولأجله حاربتهم وخضدت شوكتهم، وأنا لم أعلم بحقيقة هذه الطائفة إلا بعد الهجرة إلى مصر والإطلاع على تاريخ الجبرتي وتاريخ الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى، فعلمت منهما أنهم هم الذين كانوا على هداية الإسلام دون مقاتليهم، وأكده الاجتماع بالمطلعين على التاريخ من أهلها ولا سيما تواريخ الإفرنج الذين بحثوا عن حقيقة الأمر فعلموها وصرحوا أن هؤلاء الناس أرادوا تجديد الإسلام وإعادته إلى ما كان عليه في الصدر الأول، وإذاً لتجدد مجده، وعادت إليه قوته وحضارته، وأن الدولة العثمانية ما حاربتهم إلا خوفاً من تجديد ملك العرب، وإعادة الخلافة الإسلامية سيرتها الأولى. على أن العلامة الشيخ عبد الباسط الفاخوري مفتي بيروت كان ألف كتاباً في تاريخ الإسلام ذكر فيه الدعوة التي دعا إليها الشيخ محمد بن عبد الوهاب وقال إنها عين ما دعا إليه النبيون والمرسلون، ولكنه قال إن الوهابيين في عهده متشددون في الدين، وقد عجبنا له كيف تجرأ على مدحهم في عهد السلطان عبد الحميد، ورأيت شيخنا الشيخ محمد عبده في مصر على رأيه في هداية سلفهم، وتشدد خلفهم، وأنه لولا ذلك لكان إصلاحهم عظيماً ورجى أن يكون عاماً، وقد ربى الملك عبد العزيز الفيصل أيده الله

غلاتهم المتشددين منذ سنتين بالسيف تربية يرجى أن تكون تمهيداً لإصلاح عظيم1. ثم أطلعت على أكثر كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب ورسائله وفتاويه وكتب أولاده وأحفاده ورسائلهم ورسائل غيرهم من علماء نجد في عهد هذه النهضة التجديدية فرأيت أنه لم يصل إليهم اعتراض ولا طعن فيهم إلا وأجابوا عنه، فما كان كذباً عليهم قالوا: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} وما كان صحيحاً أو له أصل بينوا حقيقته وردوا عليه وقد طبعت أكثر كتبهم، وعرف الألوف من الناس أصل تلك المفتريات عنهم. ومن المستبعد جداً أن يكون الشيخ أحمد دحلان لم يطلع على شيء من تلك الكتب والرسائل وهو في مركزه بمكة المكرمة على مقربة منهم، فإن كان قد اطلع عليها ثم أصر على ما عزاه إليهم من الكذب والبهتان -ولا سيما ما نفوه صريحاً وتبرؤا منه- فأي قيمة لنقله ولدينه وأمانته؟ وهل هو إلا ممن باعوا دينهم بدنياهم؟ ولقد نقل عنه بعض علماء الهند ما يؤيد مثل هذا فيه، فقد قال صاحب كتاب (البراهين القاطعة على ظلام الأنوار الساطعة) المطبوع بالهند: إن شيخ علماء مكة في زماننا (قريب من سنة 1303هـ) قد حكم -أي أفتى- بإيمان أبي طالب وخالف الأحاديث الصحيحة لأنه أخذ الرشوة الربابي القليلة من الرافضي البغدادي اهـ. وشيخ مكة في ذلك العهد هو الشيخ أحمد دحلان الذي توفي سنة 1304، وصاحب الكتاب المذكور هو العلامة الشيخ رشيد أحمد الكتكوتي مؤلف (كتاب بذل المجهود شرح سنن أبي داود) والخبر مذكور فيه، وهو قد نسب إلى أحد تلاميذ مؤلفه الشيخ خليل أحمد والصحيح أنه هو الذي أملاه عليه، وهو كبير علماء ديوبند في عصره رحمه الله. وإذا فرضنا أن الشيخ أحمد دحلان لم ير شيئاً من تلك الكتب والرسائل، ولم يسمع بخبر عن تلك المناظرات والدلائل، وأن كل ما كتبه في رسالته قد سمعه من الناس وصدقه، أفلم يكن من الواجب عليه أن يتثبت فيه، ويبحث ويسأل عن كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب ورسائله ويجعل رده عليها، ويقول في الأخبار اللسانية قال لنا فلان أو قيل عنه كذا، فإن صح فحكمه كذا؟

_ 1 يشير إلى فتنة فيصل الدويش الذي سجن بالرياض ومات سنة 1351.

إن علماء السنة في الهند واليمن قد بلغهم كل ما قيل في هذا الرجل فبحثوا وتثبتوا وتبينوا كما أمر الله تعالى، فظهر لهم أن الطاعنين فيه مفترون لا أمانة لهم، وأثنى عليه فحولهم في عصره وبعد عصره، وعدُّوه من أئمة المصلحين المجدّدين للإسلام، ومن فقهاء الحديث كما نراه في كتبهم، ولا تتسع هذه المقدمة لنقل شيء من ذلك، وإنما هي تمهيد للتعريف بهذا الكتاب في الرد عليه. كتاب (صيانة الإنسان ومؤلفه) كان الشيخ محمد بشير السهسواني رحمه الله تعالى من فحول علماء الهند وكبار رجال الحديث فيهم، ومن النظار الجامعين بين العلوم الشرعية والعقلية مع العمل بالعلم والتقوى والصلاح، وهو قد اجتمع بالشيخ أحمد دحلان في مكة المكرمة، وناظره في التوحيد الذي هو أساس دعوة الوهابية وأقام عليه الحجة، ولما عاد إلى الهند ألف كتابه هذا، ولكنه طبع في عهده منسوباً إلى العلامة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم السندي كما حصل في كتاب (بذل المجهود) ، والعلماء كثيراً ما يفعلون هذا في عصورهم، وهذا كتاب (نيل الأماني في الرد على النبهاني) هو من تأليف علامة العراق السيد محمود شكري الألوسي رحمه الله تعالى وعزى إلى الشيخ أبي المعالي الشافعي السلامي. جرى الشيخ في رده على منهاج المحدّثين في التثبيت في النقل بتحرير الروايات وعزو الأحاديث والأخبار إلى مخرجيها، وبيان علل أسانيدها، وتحكيم قواعد الجرح والتعديل في رجالها، بنقل ما قاله كبار المصنفين في نقد الرجال في أشهر كتبهم، فاضطر إلى التكرار الممل فيها، ولعل سببه اتقاء تهمة كتمان بعض ما قيل في جرح المجروح منهم، كما يفعله أولو العصبيات المذهبية في محاولة تضعيف ما يخالف مذاهبهم وتقوية ما يؤيدها، وقد فضح بهذا جهل دحلان بعلم الحديث وأثبت أنه غير ثقة ولا صادق في النقل. وجرى في تفنيد مطاعنه على طريقة الاستقلال الاجتهادي في الاستدلال وتحرير ما هو من دين الإسلام وما ليس منه، والاعتماد فيما هو سنة وما هو بدعة على نصوص الكتاب المعصوم، والسنن الصحيحة المأثورة، وما كان عليه أهل الصدر الأول من الصحابة والتابعين، وأئمة الأمصار المجتهدين، في مقابلة احتجاج دحلان

بالآثار الموضوعة والمنكرة، وبأقوال لبعض علماء التقليد المعروفين الذين أجمع أئمتهم على أن أقوالهم لا يعتدُّ بها، وبنقول لا يعرف لها قائل، وبتحريف بعض النصوص الثابتة عن مواضعها، وجعلها مثبتة للبدع المحدثة المردودة بالنصوص القطعية، وسيرة السلف العملية، كحديث استسقاء عمر بالعباس رضي الله عنهما، وهو صحيح، ولكنه حجة على القبوريين لا لهم، وحديث توسل الأعمى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو على كونه غير صحيح يدل على توسله بدعائه صلى الله عليه وسلم في حياته لا بشخصه، وهو حجة على توسل القبوريين المخالف لأصول الدين ونصوص القرآن والسنن الصحيحة. علم مما أجملناه أن قواعد الجهل التي بنى عليها الشيخ أحمد دحلان رده على الوهابية، وإباحة دعاء غير الله تعالى من الأنبياء والصالحين الميتين، والاستغاثة بهم وشد الرحال إلى قبورهم لدعائهم عندها وطلب قضاء الحوائج منهم -ثلاث قواعد: (1) الروايات الباطلة وما في معناها من الحكايات والمنامات والأشعار، وهي لا قيمة لها عند أحد من علماء الملة، وإنما تروج بضاعتها في سوق العوام. (2) الاستدلال بالنصوص على ما لا تدل عليه شرعاً كاستدلاله بالسلام على أهل القبور، وبخطاب النبي صلى الله عليه وسلم لقتلى المشركين ببدر وأمثال ذلك على حياة الموتى وجواز دعائهم ومطالبتهم بقضاء الحوائج ودفع المصائب، ووجه الجهل في هذا أنه يقيس حياة البرزخ على حياة الدنيا، وعالم الغيب على عالم الشهادة، وهو قياس باطل عند علماء أصول الشرع وعند جميع العقلاء، ويترتب عليه عقائد وأحكام تعبدية لا تثبت إلا بنص الشارع، مع كون الذي يثبتها مقلداً ليس من أهل الاجتهاد باعترافه واعتراف متبعيه في جهله هذا. قلب الحقيقة وعكس القضية فيما ورد من الترغيب في اتباع جماعة المسلمين والترهيب من مفارقة الجماعة، فالجماعة بزعمه ومقتضى جهله هم الأكثرون في العدد في كل عصر، وهذه الدعوى مخالفة لنصوص القرآن والأحاديث الصحيحة وآثار السلف والواقع ونفس الأمر في كثير من البلاد والأزمنة، وقد فند المؤلف هذه الدعوى بما أوتي من سعة الإطلاع على كتب الحديث والآثار، فبين ما ورد من الآيات والروايات فيها، وما قاله أئمة العلماء في تفسيرها، وما في معناها من فشو البدع

والضلالات بعد خير القرون، وكون كل زمان يأتي شراً مما بعده، ومن بقاء طائفة على الحق في كل زمان هم الأقلون، حتى تقوم الساعة، فعلم من هذا التفصيل المؤيد بالنقل ما هو الحق في هذه المسألة المهمة التي بينا في التمهيد سبب ضلال المتأخرين فيها. ومن فضائل هذا الكتاب ومؤلفه علو أدبه في عبارته، وتحاميه المبالغة في ذم المذموم، ومدح الممدوح، فهو لا يطري الإمام المجدد الذي يدافع عنه، ولا يهجو المتجرم الذي يرد عليه هجواً شعرياً يدخل في مفهوم السباب المذموم وإن كان جزاء وفاقاً، ومقابلة للسيئة بمثلها، فتراه يقول في كل فرية من مفترياته على الشيخ نفسه أو نقوله غير المسندة: هذا قول لم تصح به رواية، فليأتنا بروايته وما قيل في تعديل رواتها لنجيب عنها. وجملة ما يقال في هذا الكتاب أنه ليس رداً على الشيخ دحلان وحده، ولا على من احتج بما نقله عنهم من الفقهاء مما لا حجة فيه كالشيخ تقي الدين السبكي والشيخ أحمد بن حجر الهيتمي المكي، بل هو رد على جميع القبوريين والمبتدعين حتى الذين جاءوا بعده إلى زماننا هذا. ومما ينتقد على كتاب (صيانة الإنسان) هذا من ناحية صناعة التصنيف أنه لم يجعله أبواباً مقسمة، ولا فصولاً مفصلة، ذات عناوين تسهّل المراجعة، وقد تلافينا هذا في طبعتنا هذه فجعلنا لكل صفحة عنواناً في أعلاها لأهم ما فيها، وأحصينا في الفهرس جميع المسائل المهمة فيها، فبهذا سهل سبيل المراجعة لها كلها. وقد طبع من نسخة الطبعة الهندية الأولى، وهي طبعة حجرية كثيرة الغلط والتحريف، فمنه ما هو معروف بالبداهة، ومنه ما هو منقول عن كتب موجودة راجعناها عند التصحيح، ومنه ما وضعنا له حواشي بينا رأيه فيه، وما عدا هذا قليل يمكن فهم المراد منه بالقرينة غالباً، ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على ما أنفقناه من وقت طويل في العناية بهذا الكتاب المفيد، والحمد لله على ما من به من التوفيق. وكتب في صفر سنة 1352 محمد رشيد رضا منشئ مجلة المنار الإسلامية بمصر

ترجمة المؤلف

ترجمة المؤلف معربة من كتاب (الياقوت والمرجان، في ذكر علماء سهسوان) للعلامة محمد عبد الباقي السهسواني هو العلامة المحدّث النحرير مولانا الشيخ محمد بشير الفاروقي، ابن الحكيم محمد بدر الدين، بقية السلف الصالحين في الفضائل والكمالات، وأعظم مفخرة في العلم والحكمة، كان من المجددين للدين، وأحد المحققين المتأخرين، بلغ درجة الاجتهاد المطلق في عصره، ولد في أواسط القرن الثالث عشر الهجري، وتوفي أبوه وهو ابن تسع سنين، وكان له أخوان أكبر منه وثالث أصغر. قضى زمن طفولته في لكنو، وبدأ فيها تعلمه بالقراءة على الشيخ محمد واجد علي، وعلى بعض أفاضل فرنجي محل، قرأ فنون المعقولات والمنقولات المتداولة، ثم ذهب إلى دهلي لتكميل علوم التفسير والحديث والفقه والأصول، فقرأ على السيد أمير حسن بعض الكتب الدينية، وأخذ عن مولانا سيد نذير حسين كتب الصحاح والسنن الستة وغيرها سماعاً وقراءة، واستجاز من الشيخ حسين بن محسن الأنصاري اليمني والشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى النجدي نزيل مكة، والشيخ محمد السهارنبوري المهاجر بمكة. وبعد فراغه من الطلب استغل أولاً بتدريس العلوم العقلية من المنطق والفلسفة، ثم حصل له انهماك كثير من الفقه والأصول والأدب، وكان يفتي في الفقه موافقاً لمذهب الحنفية، ثم صاحب السيد أمير حسن فغلب عليه ذوق التحقيق في الدينيات، وتقدم في تحقيق اتباع القرآن والحديث، ومن ذلك الحين رجع في تحقيق جميع المسائل الجزئية والفرعية إلى الكتاب والسنة، وشرع في العمل بالحديث على طريقة المجتهدين، وصار يفتي بوجوب ترك الآراء والتقليد الشخصي، وكل مسألة وقع فيها اختلاف بين الأئمة الأربعة كان يرجح فيها مسلك المحدثين بأقوال السلف وآثار الصحابة، وكان

يستدل لكل مطلب بالحجج القوية، ويستنبط شواهده من الكتاب والسنة. وكان رحمه الله وحيد عصره في سعة المعلومات والإطلاع على مذاهب السلف، يصرف أكثر أوقاته في التدريس والتصنيف والوعظ والإرشاد، ثم صار مدرساً للغة الفارسية والعربية في كلية سنت جونس بمدينة آكره، وزيادة على هذا كان يدرس للطلبة الذين يجيئون إلى داره فنون المعقول والمنقول، فقرأ عليه الحكيم مبارك علي والحكيم معصوم على كتاب (الأفق المبين) واشترك في هذا الدرس السيد أمير أحمد السهسواني. وقد خرج حاجاً من آكره ولما رجع من الحج -أي بلا زيارة لقبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاعترضوا عليه- صنف كتاب (القول المحقق المحكم، في حكم زيارة قبر الحبيب الأكرم) ، فرد عليه الشيخ عبد الحي اللكنوي بكتاب أسماه (الكلام المبرور) فرد عليه الشيخ بكتابه (القول المنصور) ، فكتب جوابه الشيخ عبد الحي اللكنوي (المذهب المأثور) ، فكتب الشيخ جوابه وجمع فيه جميع الاعتراضات على هذه المسألة من قديم وحديث وأجاب عنها كلها بجواب جامع سماه (إتمام الحجة، على من أوجب الزيارة كالحجة) ، والمعارضون له وإن كانوا قد كتبوا في جوابه لم يلتفت أهل التحقيق إلى جوابهم، ومع ذلك فقد كتب الشيخ جواباً على ذلك لكنه لم يطبع، وكان ابتداء هذا البحث من السيد إمداد على الذي كان من أكابر تلاميذ الشيخ بشير الدين القنوجي، لكن الشيخ إمداد على لما أحس بضعفه عن مقابلة الشيخ بشير دعا الشيخ عبد الحي لهذا الميدان وفوض إليه الأمر، وأعطاه جميع ما كتب، وإمداد على هذا كان نائب مدير المقاطعة، وكان الشيخ بشير المترجم مع ذلك كلما ذهب إلى لكنو نزل ضيفاً على الشيخ عبد الحي، فيستقبله بالاحترام والبشاشة، ويمسكه في ضيافته أياماً كثيرة أزيد مما يريد الشيخ، ويجلس في درس وعظه مستمعاً مع الأدب والتوقير للشيخ، وفي أيام مقامه بآكره حصل للشيخ أمير أحمد السهسواني مع الشيخ بشير اختلاف في بعض المسائل الفرعية، وكان الشيخ أمير أحمد يدفع فيها بلين والشيخ بشير يخالفه بالشدة، ثم انتهى الأمر إلى الاعتراف بالحق والمصالحة بينهما.

كان الشيخ بشير على جانب عظيم من الورع والتقوى والعبادة وقيام الليل، وكان يغلب عليه في وعظه رقة القلب والخشية حتى تدمع عيناه. وفي 5 المحرم سنة 1295 استدعاه النواب صديق حسن خان بهادر من (آكره) إلى (بهوبال) وفوض إليه رياسة المدارس الدينية في إمارة بهوبال، فكان يتبرع بتدريس التفسير والحديث، وكان يجيب عن المسائل ويكتب الفتاوى بطريق الاجتهاد، وفي كل جمعة يجلس لدرس الوعظ في جامع القاضي ويصرح برأيه ولو خالف الحكومة بلا مبالاة، ويقيم حجته على المخالفين تقريراً وتحريراً مع التواضع وحسن الخلق. وكان يخالط أحبابه بلا تكلف ولا احتشام، وكان ديدنه إكرام الضيوف وإمداد الغرباء بلا رياء ولا عجب ولا سمعة، وكان نصب عينيه اتباع آداب الكتاب والسنة، حتى كان يثقل على طبعه ترك المستحبات، وقد أقر له أهل الهند كافة بقوة الاجتهاد والفضيلة العلمية واعترفوا له بها. تناظر الشيخ أحمد دحلان مفتي مكة في زمانه1، والشيخ بشير في مسألة التوحيد، فكتب الشيخ رداً عليه كتابه المسمى (صيانة الإنسان، عن وسوسة الشيخ دحلان) ، واشتهر الكتاب وطبعه علماء نجد ولم يرد عليه أحد من المخالفين. ولما حصل النزاع بين النوّاب صديق حسن خان والشيخ عبد الحي اللكنوي وكتبت كتب من الطرفين وقع في نفس الشيخ عبد الحي أن بعض رسائل الرد من تصنيف الشيخ، وصرح بذلك في كتابه (إبراز الغي) ، فسعى الشيخ لدفع هذا الوهم عن فكر الشيخ عبد الحي وتصالحا بعد هذا. ولما توفي النواب رحمه الله في جمادى الأولى سنة 1307هـ أراد الشيخ مفارقة بهوبال ولكن بيكم بهوبال2 تعلقت به وعطفت عليه واستبقته، فكان يذهب في كل يوم

_ 1 لعل المناظرة كانت لما حج واجتمع بدحلان بمكة فناظره شفوياً، ثم لما رجع رد عليه بكتابه (صيانة الإنسان) . 2 هي زوجة النواب صديق حسن خان أمير بهوبال الشهيرة، و (بيكم) مؤنث بك، كما أن (خانم) وتنطق في مصر (هانم) مؤنث خان، وبك وخان – ومؤنثهما بيكم وخانم – من ألقاب التعظيم.

اثنين من الأسبوع إلى تاج محل (قصر الأميرة بيكم) فيجلس للوعظ، ويجتمع عليه النساء المتصلات ببيكم لسماع وعظه وطلب الدعوات الصالحة منه، وكان يتكلم في وعظه هذا بالترغيب والترهيب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا مداهنة ولا مبالاة، حتى توفيت بيكم رحمها الله في سنة 1319، ولما جلست بعدها على عرش ولايتها بنتها سلطان جيهان بيكم وأخذت في نشر العلوم العصرية والفنون الأوربية وتقليل شأن العلوم الدينية والقائمين بها ارتحل الشيخ عن بهوبال إلى دهلي بعد ما أقام فيها خمساً وعشرين سنة. وكان الشيخ قد دعي لمنظرة مرزا غلام أحمد القادياني في دهلي فجاءها بأمر حكومة بهوبال، فأقبل عليه أهل العلم والدين والتجار وغيرهم ممن لهم تعلق بالشيخ نذير حسين كبير علمائها ورغبوا إليه أن يقيم بدهلي بسبب ضعف الشيخ نذير حسين وكبر سنه للقيام مقامه، ولكن لما كانت حكومة بهوبال لا تزال تعظم الشيخ وتسند إليه رياسة الأمور الدينية لم يستطع إجابتهم إلى رغبتهم حينئذ، فلما تغيرت الأحوال في بهوبال استأنفوا الطلب فأجابهم إلى ذلك، وتحول إليهم، ثم جلس في مقام شيخه يدرس ويفتي ويعظ. وكان مرزا غلام أحمد ادعى أنه المهدي المنتظر، ثم ترقى عن دعوى المهدوية لنفسه إلى دعوى المسيحية، وتحول عن اشتغاله بمناظرة المسيحيين وأرياسماج من الهندوس إلى مناظرة علماء المسلمين، وكان لا يناظر إلا بالقرآن معرضاً عن الأحاديث وأقوال الصحابة، واشتهر أمره حتى صرح بطلب المناظرة، حينئذ أمرت بيكم بهوبال الشيخ محمد بشير أن يتوجه إلى دهلي لمناظرة المرزا، ولما لم يرض مرزا بالمناظرة الشفوية تناظرا كتابة وهما في دهلي وكل منهما في محله. كان مرزا يصرّح بموت المسيح مستدلاً بقوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} . فعارضه الشيخ مثبتاً حياة المسيح بقوله تعالى: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} . ثم أخذ مرزا على عادته يجادل بالتأويلات، وينتقد القواعد النحوية والصرفية ليستدل على أن الآية لا تثبت حياة المسيح، فرد عليه الشيخ بأجوبة لم يستطع

ردها، فانقطع عن المناظرة معتذراً بأن أحد أقاربه بقاديان مريض، وأنه سيسافر لعيادته. وجميع المكاتبات التي دارت في هذه المناظرة حتى انقطع المرزا مدونة في كتاب (الحق الصريح، في إثبات حياة المسيح) وهو مطبوع، وكانت تلك المناظرة في سنة 1312هـ. وفي مدة إقامته في دهلي كتب رسالة سماها (القول المحمود، في رد السود) 1. وكان أصل تلك المسألة من الشيخ نذير أحمد الدهلوي. ومن مفردات الشيخ أنه كان يجيز الأضحية إلى آخر ذي الحجة، وخالفه أهل العلم في ذلك، فجمع كتاباً استدل فيه على رأيه بأقوال أهل العلم، فجاء كتاباً ضخماً ولكنه لم يطبع. وصنف كتاباً مبسوطاً في مسألة القراءة خلف الإمام سماه (البرهان العجاب، في مسألة فرضية أم الكتاب) طبع بعد وفاته. وله غير ذلك رسائل دينية منسوبة إلى بعض تلاميذه. وكانت عادة الشيخ مدة مقامه في دهلي أن يعقد مجالس للتدريس في جميع العلوم، ومن ذلك ساعتان بعد صلاة الصبح لتفسير القرآن بالحديث2، وكان الناس يحضرون من أماكن بعيدة لاستماع هذا الدرس بشوق عظيم. توفي رحمه الله في دهلي سنة 1326هـ، وكان عمره حينئذ أربعاً وسبعين سنة (إنا لله وإنا إليه راجعون) طيب الله ثراه، وجعل الجنة مثواه، وقد جمع الشيخ (نظر أحمد) تاريخ وفاته بحسب الجمل الحرفية فكانت (قد دخل الجنة بلا حساب) والشيخ إعجاز أحمد قد أخرج من لفظ (مغفور) تاريخ وفاته، وأنشد في ذلك قصيدة عربية فصيحة بليغة لا بأس بإيراد شيء منها قال:

_ 1 أي الربا، والسود لغة أوردية. 2 لعل الأصل "بالمأثور"، لأن الأحاديث المرفوعة في التفسير قليلة، وكذا الموقوفة.

خطب أباد نفوسنا لكبيرُ ... وكذا الزمان على النفوس يجور أما الهدى فتضعضعت أركانه ... والدين أسقمه ضنىً وفتور شمس الضحى أفلت وغاب شروقها ... فإذا النهار كليلنا ديجور وقال بعد هذا ولله دره: تبكي عليه مساجد ومنابر ... ولأهل علم رنة وزفير قد كان مجتهداً مصيباً ناسكا ... يحمي الشرائع سعيه المشكور متخاشعاً لله منقاداً له ... متلألئاً من وجهه التنوير نقاد إسناد الحديث ومتنه ... كشاف أسرار الكتاب بصير لما سألت القلب عام وفاته ... فأجابني تاريخه (مغفور)

خطبة الكتاب

خطبة الكتاب ... بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي تعالى عن الشريك والمثل والكفؤ والنديد، والحمد لله الذي لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، وهو فعال لما يريد، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة خلقت لأجلها الجن والإنس من إماء وعبيد، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله المبعوث بالملة الحنيفية القيمة وخالص التوحيد، اللهم فصلِّ وسلم على سيدنا محمد قاطع ذرائع الكفر وحبائل التقليد، وعلى آله وصحبه الآخذين بسنته والمقتدين بأمره في المدن والقرى والبيد، وعلى العدول الحاملين لهذا العلم النافين عنه تحريف كل غالٍ عنيد، وانتحال كل مبطل مريد، وتأويل كل جاهل ضديد1. أما بعد فإني وقفت على الرسالة التي جمعها الشيخ أحمد بن زيني دحلان، أنقذه الله من دحلان الخذلان، وسماها (الدرر السنية، في الرد على الوهابية) ورأيت مؤلفها يدَّعي في ديباجة رسالته الباطلة الساقطة الدنية الردية، أنه جمع فيها ما تمسك به أهل السنة في زيارة النبي صلى الله عليه وسلم والتوسل به من الدلائل والحجج القوية، من الآيات والأحاديث النبوية، فتعجبت منه التعجب الصراح، كيف وليس في الباب حديث واحد حسن فضلاً عن الصحاح، فتأملت فيها تأمل الناقد البصير، لكي أعلم أنه هل صدق في تلك الدعوى أم كذب كذب المجادل الضرير، فوجدت دعواها عارية عن لباس الصدق والحق المبين، محلاة بحلية الزور والكذب والباطل المهين، فإنه ليس فيها من الأحاديث إلا ما أورده التقي السبكي (في شفاء الأسقام) 2 وهي دائرة بين الاحتمالات الثلاثة السقام: إما موضوعة عملتها أيدي الوضاع اللئام، أو ضعاف واهية رواها من وسم بمثل كثرة الغلط والخطأ والأوهام، أو شيء يسير من الصحيح والحسن في زعمه قاصر

_ 1 مبالغة من الضد. 2 سماه في (الصارم) شفاء السقام، وذكر في هذا الكتاب بالاسمين، فتركناه على أصله في كل موضع فليعلم.

عن إفادة المرام، كما بين ذلك كله الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي في (الصارم المنكى) ، وليس فيها من الآيات والأحاديث الصحاح والحسان ما يدل على المطلوب المحكي، وكان حقاً على المؤلف تعاطي واحد مما يذكر، لئلا يعد كلامه مما يهجر وينكر: إما إيراده لأحاديث صحيحة أو حسن دالة على المطلوب غير ما أورده في الشفاء1، أو الإجابة عما تكلم به عليها صاحب الصارم وغيره من الأئمة الأذكياء. وإذ لم يفعل هذا ولا ذاك فليس لها فائدة، ولا يؤول هذا الطول إلى منفعة وعائدة. ومن عجائب صنيعه أن المؤلف مع زعمه أنه من جملة المقلدين، يستدل بالأدلة الشرعية وهو منصب المجتهدين، فعنَّ لي أن أنبه على ما وقع فيه من مساوئ المفاهيم وزخارف الأقوال، وأراجيف الاستدلال، لئلا يغتر بها من يقف عليها ممن لا خبرة له بحقائق علم السنة من المتون والرجال، فالله أستعين وأقول، وبه أحول وبه أصول. قوله: "اعلم رحمك الله تعالى أن زيارة قبر نبينا صلى الله عليه وسلم مشروعة". أقول: لا نزاع لنا في نفس مشروعية زيارة قبر نبينا صلى الله عليه وسلم، وأما ما نسب إلى شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله من القول بعدم مشروعية زيارة قبر نبينا صلى الله عليه وسلم فافتراء بحت2، قال الإمام العلامة أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي في (الصارم المنكى) : وليعلم قبل الشروع في الكلام مع هذا المعترض أن شيخ الإسلام رحمه الله لم يحرم زيارة القبور على الوجه المشروع في شيء من كتبه، ولم ينه عنها، ولم يكرهها، بل استحبها وحض عليها، ومصنفاته ومناسكه طافحة بذكر استحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وسائر القبور، قال رحمه الله في بعض مناسكه:

_ 1 يعني شفاء الأسقام الذي مر ذكره آنفاً. 2 كما علم ذلك يقيناً كل من اطلع على كتابيه (الجواب الباهر) و (الرد على الأخنائي) .

وقال: بسم الله، والصلاة على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، ثم يأتي الروضة بين القبر والمنبر فيصلي بها ويدعو بما شاء، ثم يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيستقبل جدار القبر لا يمسه ولا يقبله، ويجعل القنديل الذي في القبلة عند القبر على رأسه ليكون قائماً وجاه النبي صلى الله عليه وسلم، ويقف متباعداً كما يقف لو ظهر في حياته بخشوع وسكون منكس الرأس وغاض الطرف، مستحضراً بقلبه جلالة موقفه، ثم يقول: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا نبي الله وخيرته من خلقه، السلام عليك يا سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وقائد الغر المحجلين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، أشهد أنك قد بلغت رسالات ربك، ونصحت لأمتك، ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وعبدت الله حتى أتاك اليقين، فجزاك الله أفضل ما جزى نبياً ورسولاً عن أمته، اللهم آته الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، ليغبطه به الأولون والآخرون. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد: اللهم احشرنا في زمرته، وتوفنا على سنته، وأوردنا حوضه، واسقنا بكأسه شرباً1 لا نظمأ بعده أبداً. "ثم يأتي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فيقول: السلام عليك يا أبا بكر الصديق، السلام عليك يا عمر الفاروق، السلام عليكما يا صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وضجيعيه ورحمة الله وبركاته، جزاكما الله عن صحبة نبيكما وعن الإسلام خيراً {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} . قال ويزور قبور أهل البقيع وقبور الشهداء إن أمكن". هذا كلام الشيخ رحمه الله بحروفه، انتهى ما في الصارم. وقال في موضع آخر: وقد قال الشيخ رحمه الله في منسك له صنفه في أواخر عمره2:

_ 1 الذي في كتاب الصارم المنكى المطبوع "مشرباً روياً". 2 في عبارته مخالفة قليلة لهذا المنسك المطبوع بمصر سنة 1324.

باب زيارة قبر النبي

باب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أشرف على مدينة النبي صلى الله عليه وسلم قبل الحج أو بعده فليقل ما تقدم، فإذا دخل استحب له أن يغتسل، نص عليه الإمام أحمد، فإذا دخل المسجد بدأ برجله اليمنى

فصل في فضل المسجد النبوي

فصل في فضل المسجد النبوي وإذا دخل المدينة -قبل الحج أو بعده- فإنه يأتي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ويصلي فيه،

والصلاة فيه خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، ولا تشد الرحال إلا إليه وإلى المسجد الحرام والمسجد الأقصى، هكذا ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وهو مرويٌ من طرق أخرى، ومسجده كان أصغر مما هو اليوم، وكذلك المسجد الحرام، لكن زاد فيهما الخلفاء الراشدون ومن بعدهم، وحكم الزيادة حكم المزيد في جميع الأحكام، ثم يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فإنه قد قال: "ما من أحد يسلم عليَّ إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام". رواه أبو داود وغيره. وكان عبد الله بن عمر إذا دخل المسجد قال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت، ثم ينصرف. وهكذا كان الصحابة يسلمون عليه. وإذا قال في سلامه: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا نبي الله، السلام عليك يا خيرة الله من خلقه، السلام عليك يا أكرم الخلق على ربه يا إمام المتقين، فهذا كله من صفاته بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم. وإذا صلى عليه مع السلام عليه فهذا مما أمر الله تعالى به، ويسلم مستقبل الحجرة مستدبر القبلة، عند أكثر العلماء كمالك والشافعي وأحمد. أما أبو حنيفة فإنه قال: يستقبل القبلة، فمن أصحابه من قال يستدبر الحجرة، ومنهم من قال يجعلها عن يساره، واتفقوا على أنه لا يستلم الحجرة ولا يقبلها ولا يطوف بها ولا يصلي إليها ولا يدعو هناك مستقبلاً الحجرة، فإن هذا كله منهي عنه باتفاق الأئمة، ومالك من أعظم الأئمة كراهية لذلك. وقوله: "أما الكتاب فقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ} . الخ". أقول: في هذا الاستدلال فساد من وجوه: (الأول) : إن قوله دلت الآية على حث الأمة على المجيء إليه صلى الله عليه وسلم، ماذا أراد به؟ إن أراد حث جميع الأمة فغير مسلم، فإن الآية وردت في قوم معينين كما سيأتي، وليس هناك لفظ عام حتى يقال العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص المورد، بل الألفاظ الدالة على الأمة الواقعة في هذه الآية كلها ضمائر، وقد ثبت في مقره أن الضمائر لا عموم لها، ولذا لم يتشبث أحد من المستدلين بهذه الآية على القربة من التقي السبكي والقسطلاني

وابن حجر المكي بعموم اللفظ، حتى إن صاحب الرسالة1 أيضاً لم يذكره. وأما ما قال صاحب الرسالة تبعاً للتقي السبكي والقسطلاني وابن حجر المكي من أن الآية تعم بعموم العلة ففيه أنه على هذا التقدير لا يكون الدليل كتاب الله بل القياس، وقد فرض أن الدليل كتاب الله، على أن المعتبر عند من يقول بحجة القياس قياس المجتهد الذي سلم اجتهاده الجامع للشروط المعتبرة فيه المذكورة في علم الأصول، وتحقق كلا الأمرين فيما نحن فيه ممنوع، كيف وصاحب الرسالة من المقلدين، والمقلد لا يكون من أهل الاجتهاد، مع أن الاجتهاد عند المقلدين قد انقطع بعد الأئمة الأربعة، بل المقلد لا يصلح لأن يستدل بواحد من الأدلة الشرعية، وما له وللدليل؟ فإن منصبه قبول قول الغير بلا دليل، فذكرُ صاحب الرسالة الأدلة الشرعية هناك خلاف منصبه، وإن أراد حث بعض الامة فلا يتم التقريب. و (الثاني) : أن صاحب الرسالة جعل المجيء إليه صلى الله عليه وسلم الوارد في الآية عاماً شاملاً للمجيء إليه صلى الله عليه وسلم في حياته وللمجيء إلى قبره صلى الله عليه وسلم بعد مماته، ولم يدر أن اللفظ العام لا يتناول إلا ما كان من أفراده، والمجيء إلى قبر الرجل ليس من أفراد المجيء إلى الرجل لا لغة ولا شرعاً ولا عرفاً، فإن المجئ إلى الرجل ليس معناه إلا المجئ إلى عين الرجل، ولا يفهم منه أصلاً أمر زائد على هذا، فإن ادعى مدع فهم ذلك الأمر الزائد من هذا اللفظ فنقول له: هل يفهم منه كل أمر زائد، أو كل أمر زائد يصح إضافته إلى الرجل، أو الأمر الخاص أي القبر؟ والشق الأول مما لا يقول به أحد من العقلاء. فإن اختير الشق الثاني يقال: يلزم على قولك الفاسد أن يطلق المجيء إلى الرجل على المجيء إلى بيت الرجل وإلى أزواجه وإلى أولاده وإلى أصحابه وإلى عشيرته وإلى أقاربه وإلى قومه وإلى أتباعه وإلى أمته وإلى مولده وإلى مجالسه، وإلى آباره وإلى بساتينه، وإلى مسجده وإلى بلده وإلى سككه وإلى دياره، وإلى مهجره، وهذا لا يلتزمه إلا جاهل

_ 1 أي رسالة دحلان المردود عليها.

غبي، وإن التزمه أحد فيلزمه أن يلتزم أن الآية دالة على قربة المجيء إلى الأشياء المذكورة كلها، وهذا من أبطل الأباطيل. وإن اختير الشق الثالث فيقال: ما الدليل على هذا الفهم؟ ولن تجد عليه دليلاً من اللغة والعرف والشرع، أما ترى أن أحداً من الموافقين والمخالفين لا يقول في قبر غير قبر النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه أحد أنه جاء ذلك الرجل، ولا يفهم أحد من العقلاء من هذا القول أنه جاء قبر ذلك الرجل. فتحصل من هذا أن المجيء إلى الرجل أمر، والمجيء إلى قبر الرجل أمر آخر، كما أن المجيء إلى الرجل أمر، والمجيء إلى الأمور المذكورة أمور أخر، ليس أحدها فرداً للآخر. إذا تقرر هذا فالقول بشمول المجيء إلى الرسول: المجيء إلى الرسول والمجيء إلى قبر الرسول، كالقول بشمول الإنسان الإنسان والفرس، وهذا هو تقسيم الشيء إلى نفسه وإلى غيره، وهو باطل بإجماع العقلاء، وهكذا جعل الاستغفار عنده عاماً شاملاً للاستغفار عنده في حياته وللاستغفار عند القبر بعد مماته، مع أن الاستغفار عند قبره ليس من أفراد الاستغفار عنده. فإن قلت: لا نقول إن المجيء إليه صلى الله عليه وسلم شامل للمجيء إليه في حياته وللمجيء إلى قبره بعد مماته حتى يرد ما أوردتم، بل نقول إن المجيء إليه شامل للمجيء إليه في حياته الدنيوية المعهودة والمجيء إليه في حياته البرزخية، ولما كان المجيء إليه في حياته البرزخية مستلزماً للمجيء إلى قبره ثبت من الآية المجيء إلى قبره صلى الله عليه وسلم الذي هو المسمى بزيارة القبر. قلنا: لا سبيل إلى إثبات الحياة البرزخية من لغة ولا عرف، فلا يفهم من هذا اللفظ -بحسب اللغة والعرف- إلا المجيء إليه في حياته الدنيوية المعهودة، فلا يكون المجيء إليه في حياته البرزخية فرداً للمجيء إليه بحسب اللغة والعرف، إنما تثبت الحياة البرزخية ببيان الشرع، لكن يبقى الكلام في أن كون المجيء إليه في حياته البرزخية فرداً من المجيء إليه هل يثبت من الشرع أم لا؟ وعلى مدعي الثبوت البيان، وفي أن

المجيء إلى قبره هو عين المجيء إليه في حياته البرزخية أو مستلزم له أم لا؟ وعلى المدعي الدليل، لم لا يحوز أن لا يكون المجيء إلى قبره عين المجيء إليه في حياته البرزخية ولا مستلزماً له بل يتوقف المجيء إليه في حياته البرزخية على أن يموت الجائي وينتقل إلى عالم البرزخ، فلابد من نفي هذا الاحتمال بدليل من الشرع، ويؤيد هذا أنا إذا قلنا جئنا زيداً، إنما نريد به أنا جئنا إلى مكان يُرى منه زيد ويسمع كلامه بحسب العادة، والمجيء إلى القبر ليس مجيئاً إلى مكان يُرى منه المقبور ويسمع كلامه، ويسمع المقبور كلام الجائي، أما تعلم أن الحي لو دفن في القبر كما يدفن الميت لن يرى أصلاً ولن يسمع كلامه، ولا هو يسمع كلام الجائي، وأما سماع الموتى خفق نعالنا وغير ذلك مما ثبت في الأحاديث فليس بحسب العادة، إنما هو بإسماع الله تعالى، بخلق قوة فيه هي خارجة عن العادة، أو بطريق آخر لا علم لنا بتعيينه، إنما نجزم أنه بطرق غير عادي. يرشدك إلى هذا أن الزوار لا يرون المقبور ولا يسمعون كلامه، والمقبور يرى الزائر ويسمع كلامه، وهذا أدل دليل وأوضح برهان على أن رؤية المقبور وسماعه ليس بطريق عادي بل بطريق غير عادي، وإلا لسمع الزائر أيضاً كلام المقبور ورآه، على أن المجيء إليه قد انقطع بعد موته كما انقطع سائر الأحكام التي سيأتي ذكرها في الوجه الثالث، والفرق بين المجيء إليه وسائر الأحكام لا يقبل بغير بيان فارق شرعي، وأنى لك ذلك! وأما ما قال السبكي في تعليله وتبعه القسطلاني تعظيماً له فيرد عليه أنه على هذا يلزم أن لا تنقطع جميع الأحكام المذكورة أيضاً تعظيماً له، على أنه ما الدليل على أن التعظيم يوجب عدم انقطاع هذا الحكم بالموت من كتاب وسنة؟! و (الثالث) : أن قوله "وهذا لا ينقطع بموته" قول لا دليل عليه، فإن انقطاع هذا الحكم لا استبعاد فيه، كما أن سائر الأحكام -من الإمامة الصغرى والكبرى1، والجهاد، والصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، وصلة الأرحام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحريض المؤمنين على القتال، والمشاورة، وتجهيز الجيوش، وحفظ الثغور- قد انقطعت بعد موته، فإن زعم زاعم أن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره فما 1 الإمامة الصغرى إمامة الصلاة، والكبرى هي الخلافة وتنفيذ الأحكام.

معنى انقطاعه بعد الموت؟ إن الحياة البرزخية هل هي مساوية للحياة الدنيوية في كل الأحكام عندكم أم لا؟ والأول بديهي البطلان لإطباق الأمة على انقطاع الأحكام المذكورة من الإمامة الصغرى وغيرها، وعلى الثاني فلا استبعاد في انقطاع حكم المجيء إليه بعد موته صلى الله عليه وسلم. (الرابع) قوله: "فأما استغفاره صلى الله عليه وسلم فهو حاصل لجميع المؤمنين بنص قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} . فاسد. بيانه أن المراد باستغفار الرسول الواقع في آية: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ} . الاستغفار بعد وقوع الظلم استغفاراً مستأنفاً، فإن "استغفر" [في قوله] {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} . معطوف على {فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} . وهو الظاهر، أو على {جَاءُوكَ} . كما زعم السبكي في شفاء السقام، وعلى كلا التقديرين يكون بعد وقوع الظلم، أما على الأول فلأن استغفروا الله متأخر عن جاءوك، بدليل فاء التعقيب، والمعطوف في حكم المعطوف عليه، فيكون استغفر لهم الرسول متأخراً عن جاءوك، وجاءوك متأخراً عن الظلم، والمتأخر عن المتأخر عن الشيء متأخر عن ذلك الشيء، وأما على الثاني فلأن استغفر لهم الرسول على هذا التقدير معطوف على جاءوك والمعطوف في حكم المعطوف عليه، وجاءوك متأخر عن الظلم فاستغفار الرسول متأخر عن الظلم، فعلم بذلك أن الاستغفار العام المأمور به صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} . لا يكفي فيما هنالك، وتدل عليه الآية الأخرى والسنة: أما الآية فقوله تعالى في سورة الممتحنة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . فعلم أن الاستغفار العام المأمور به صلى الله عليه وسلم لا يكفي بل كان صلي الله عليه وسلم مأموراً باستغفار آخر وقت أخذ البيعة والتوبة من الشرك والمعاصي.

وقوله تعالى في سورة الفتح: {سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} . وقوله تعالى في سورة المنافقين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} . فإن هاتين الآيتين تدلان على أن المسلمين كانت عادتهم أن أحدهم متى صدر منه ما يقتضي التوبة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: يا رسول الله فعلتُ كذا وكذا فاستغفر لي، وكان هذا فرقاً بينهم وبين المنافقين، وهذا الاستغفار كان غير ما أُمر به صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} . وأما السنة فما روي عن كعب بن مالك حين تخلف عن غزوة تبوك في حديث طويل فيه: فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً زاح عني الباطل، وعرفت أني لن أخرج منه أبداً بشيء فيه كذب، فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً -وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس- فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله، وفي ذلك الحديث: وسار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما اعتذر به المخلفون قد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي ذلك الحديث قال كعب: وكنا تخلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه. رواه البخاري ومسلم وغيرهما واللفظ للبخاري، فعلم من هناك أنه كان من عادته صلى الله عليه وسلم أنه إذا جاءه مذنب وتاب واستغفر يستغفر له النبي صلى الله عليه وسلم استغفاراً مستأنفاً، ولا يقنع بالاستغفار العام. على أن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} . بالاستغفار لأهل الإيمان، وآية أخرى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ} . الآية.

وردت في شأن المنافقين، فالاستغفار الذي فعله صلى الله عليه وسلم بامتثال قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} . لا يكون شاملاً للاستغفار لأهل النفاق، بل قد نهى الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عن الاستغفار للمنافقين فقال تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} . وقال تعالى: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} . وقال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ} . فلا بد من أن يراد باستغفار الرسول -الذي ورد في شأن المنافقين- غير ما ورد في قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} . فإن المنافقين داخلون في آية: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ} . دخولاً أولياً، وإن سلم دخول غيرهم فيها بعموم العلة وما ضاهاه دخولاً ثانوياً. وههنا نظر وعنه جواب فتأمل. وهكذا فهم جمهور أهل التفسير من الاستغفار الاستغفار الخاص ولم يقل أحد منهم إن الاستغفار العام يكفي هاهنا، قال الشوكاني رحمه الله في فتح القدير: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ} . بترك طاعتك والتحاكم إلى غيرك {جَاءُوك} متوسلين إليك متنصلين عن جناياتهم ومخالفاتهم {فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} . لذنوبهم وتضرعوا إليك حتى قمت شفيعاً فاستغفرت لهم. وقال الإمام الرازي في مفاتيح الغيب: يعني أنهم عندما ظلموا أنفسهم بالتحاكم إلى الطاغوت والفرار من التحاكم إلى الرسول جاءوا الرسول وأظهروا الندم على ما فعلوه وتابوا عنه واستغفروا منه واستغفر لهم الرسول بأن يسأل الله أن يغفر لهم عند توبتهم: {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً} . انتهى. وقال أيضاً (المسألة الثانية) لقائل أن يقول: أليس لو استغفروا الله وتابوا على وجه صحيح لكانت توبتهم مقبولة؟ فما الفائدة في ضم استغفار الرسول إلى استغفارهم؟ (قلنا) الجواب عنه من وجوه: (الأول) أن ذلك التحاكم إلى الطاغوت كان مخالفة لحكم الله، وكان أيضاً إساءة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإدخالاً للغم في قلبه، ومن

كان ذنبه كذلك وجب عليه الاعتذار عن ذلك الذنب لغيره، فلهذا المعنى وجب عليهم أن يطلبوا من الرسول أن يستغفر لهم. (الثاني) : أن القوم لما لم يرضوا بحكم الرسول ظهر منهم ذلك التمرد، فإذا تابوا وجب عليهم أن يفعوا ما يزيل عنهم ذلك التمرد، وما ذاك إلا بأن يذهبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويطلبوا منه الاستغفار. اهـ. وقال أبو السعود: جاءوك من غير تأخير، كما يفصح عنه تقديم الظرف متوسلين بك في التنصل عن جناياتهم القديمة والحادثة، ولم يزدادوا جناية على جناية بالقصد إلى سترها بالاعتذار الباطل، والأيمان الفاجرة، فاستغفروا الله بالتوبة والإخلاص، وبالغوا في التضرع إليك حتى انتصبت شفيعاً لهم إلى الله تعالى واستغفرت لهم. اهـ. وقال في المدارك1: ولو وقع مجيئهم في وقت ظلمهم مع استغفارهم واستغفار الرسول لوجدوا الله تواباً. اهـ. وقال البيضاوي: فاستغفروا الله بالتوبة والإخلاص، واستغفر لهم الرسول واعتذروا إليك حتى انتصبت لهم شفيعاً. اهـ. وقد علم من تلك العبارات أن عامة أهل التفسير قد فهموا من الآية أن استغفار الرسول يكون بعد استغفارهم. وأما ما قال السبكي في شفاء الأسقام: وليس في الآية ما يعين أن يكون استغفار الرسول بعد استغفارهم بل هي محتلمة والمعنى يقتضي بالنسبة إلى استغفار الرسول أنه سواء تقدم أم تأخر فإن المقصود إدخالهم بمجيئهم واستغفارهم تحت من يشمله استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما يحتاج إلى المعنى المذكور، إذا جعلنا {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُول} . معطوفاً على {فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} أما إن جعلناه معطوفاً على {جَاءُوك} لم يحتج إليه. هذا آخر ما في الشفاء2، ففيه نظر من وجوه: (الأول) أن عامة المفسرين قد فهموا من الآية أن يكون استغفار الرسول بعد استغفارهم، فالقول بأن ليس في الآية ما يعين أن يكون استغفار الرسول بعد استغفارهم تخطئة للجمهور ومخالفة لهم.

_ 1 هو تفسير النسفي. 2 أي شفاء السقام للسبكي.

(الثاني) أن تقديم استغفارهم على استغفار الرسول في الآية يستدعي أن يكون استغفارهم قبل استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أن الشافعية استدلوا على وجوب الترتيب في الوضوء بالترتيب المذكور في الآية والسبكي أيضاً منهم، ويقويه ما ورد عن جابر بن عبد الله في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم: "ابدءوا بما بدأ الله به". أخرجه النسائي. و (الثالث) أنه لو سلم أنه ليس في الآية ما يعين أن يكون استغفار الرسول بعد استغفارهم، فلا شك أن في الآية ما يعين أن يكون استغفار الرسول بعد وقوع الظلم منهم، وهذا القدر يكفي لإثبات مرامنا، فإنه يدل دلالة واضحة على أن الاستغفار العام غير كاف فيما هنالك. و (الرابع) أن في قوله1 أما إن جعلناه معطوفاً على {جَاءُوك} لم يحتج إليه اهـ فإن هذا العطف لا يضرنا أصلاً، فإنه يدل على أن استغفار الرسول بعد وقوع الظلم منهم إذ المعطوف في حكم المعطوف عليه، ولا شك أن جاءوك بعد وقوع الظلم منهم. (الخامس) من وجوه: الأصل أن قوله2 "فإذا وجد مجيئهم واستغفارهم فقد تكملت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله ورحمته". مردود بأنا لا نسلم أنه إذا وجد المجيء إلى القبر واستغفارهم عنده وجدت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله ورحمته، فإن الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله ورحمته هي المذكورة في الآية، وإنما هي المجيء إليه صلى الله عليه وسلم في الحياة بعد الظلم، واستغفارهم عنده في الحياة بعد الظلم، واستغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لهم في الحياة بعد الظلم، وفي زيارة القبر لا يوجد واحد منها. (السادس) قوله: "وسيأتي في الأحاديث الآتية ما يدل على أن استغفاره صلى الله عليه وسلم لا يتقيد بحال حياته" فيه أنه سيأتي الكلام عليها فانتظره. (السابع) قوله: "وقد علم من كمال شفقته صلى الله عليه وسلم أنه لا يترك ذلك لمن جاءه مستغفراً ربه"، ظن محض وتخمين صرف ليس عليه أثارة من كتاب ولا سنة فلا يسمع، على أن لنا أن نعارض فنقول: إنه لو كان استغفاره لمن جاءه مستغفراً بعد

_ 1 أي السبكي في شفائه. 2 أي المردود عليه دحلان تبعاً للسبكي في شفائه.

موته ممكناً أو مشروعاً لكان كمال شفقته ورحمته يقتضي ترغيبهم في ذلك وحضهم عليه، ومبادرة خير القرون إليه، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرغب في ذلك، ولم يبادر خيرُ القرون إليه، فتبين أن الاستغفار بعد موته صلى الله عليه وسلم ليس ممكناً أو مشروعاً، وهذا التقرير مستفاد من الصارم1. (الثامن) قوله: "والآية الكريمة وإن وردت في قوم معينين في حال الحياة تعم بعموم العلة كل من وجد فيه ذلك الوصف في حال الحياة وبعد الممات". قلت: الأمر كما أقر به الخصم في هذا المقام من أن الآية وردت في قوم معينين من أهل النفاق، يدل عليه قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} . وورد نظر ذلك في حقهم في سورة المنافقين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} . ولكن عمومها بعموم العلة قد تقدم ما فيه في الوجه الأول، وبعد تسليم ذلك العموم يقال: إن الآية تعم ما وردت فيه وما كان مثله، فهي عامة في كل منافق قيل له تعالى إلى ما أنزل الله وإلى الرسول فصد عن الرسول صدوداً، وتحاكم إلى الطاغوت، ثم جاء الرسول في حياته فاستغفر الله واستغفر له الرسول في حياته وأما المؤمن الذي عصى فجاء قبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاستغفر الله فليس مثله. (التاسع) قوله: "ولذلك فهم العلماء منها العموم للجائين واستحبوا لمن أتى قبره صلى الله عليه وسلم أن يقرأها مستغفراً الله تعالى، واستحبوها للزائر ورأوها من آدابه التي ليس2 له فعلها، وذكرها المصنفون في المناسك من أهل المذاهب الأربعة". قلت: هذا مما أورده السبكي في الشفاء ورد عليه العلامة ابن عبد الهادي رحمه الله ف الصارم، فلنذكر هنا عبارة الصارم بلفظها، قال في الصارم "وقوله: ولذلك فهم العلماء من الآية العموم في الحالتين" فيقال له: من فهم هذا من سلف الأمة وأئمة الإسلام؟ فاذكر لنا عن رجل واحد من الصحابة أو التابعين أو تابعي التابعين أو

_ 1 يعني الصارم المنكى في الرد على السبكي للحافظ ابن عبد الهادي رحمه الله. 2 كذا، وصوا به ينبغي بالإثبات لا بالنفي.

الأئمة الأربعة أو غيرهم من الأئمة أو أهل الحديث والتفسير أنه فهم العموم بالمعنى الذي ذكرته أو عمل به أو أرشد إليه، فدعواك على العلماء بطريق العموم هذا الفهم دعوى باطلة ظاهرة البطلان. اهـ. ومن عجائب فهم صاحب الرسالة1 أنه زعم أن ضمير "حكاها" في الشفاء راجع إلى الآية فقال: وذكر المصنفون. مع أن مرجعه حكاية العتبى، ولفظ الشفاء هكذا: ولذلك فهم العلماء من الآية العموم في الحالتين، واستحبوا لمن أتى إلى قبره صلى الله عليه وسلم أن يتلوا هذه الآية ويستغفر الله تعالى. وحكاية العتبى في ذلك مشهورة، وقد حكاها المصنفون في المناسك من جميع المذاهب. اهـ لا يقال إن الإمام مالكاً من الأئمة الأربعة فهم العموم كما سيأتي في حكاية مناظرة الخليفة المنصور والإمام مالك، لأنا نقول: هذه الرواية ليست مما يعتمد عليه كما سيأتي، على أن من فهم العموم فمناطه حكاية الأعرابي وهي ليست بثابتة، كما ستطلع عليه عن قريب2. (العاشر) قوله: "ودلت الآية أيضاً على أنه لا فرق في الجائي بين أن يكن مجيئه بسفر أو غير سفر، لوقوع "جاءوك" في حيز الشرط الدال على العموم". قلت: هذا ذكره ابن حجر المكي في الجوهر المنظم، وهو فاسد. بيانه أن عموم الفعل الواقع في حيز الشرط ليس إلا عموم النكرة في موضع الشرط. قال الإمام المحلي في شرحه على جمع الجوامع: لتضمن الفعل المنفي لمصدر منكر. وقال السعد في حاشيته على العضدي: والمحققون من النحاة على أن المراد بتنكير الجملة أن المفرد الذي يسبك منها نكرة، وعموم الفعل المنفي ليس من جهة تنكيره بل من جهة ما يتضمنه من المصدر نكرة، فمعنى "لا يستوي زيد وعمرو" لا يثبت استواء بينهما. اهـ وعموم النكرة في موضع الشرط ليس إلا عموم النكرة في موضع النفي، قال السعد في التلويح: يريد أن الشرط في مثل "إن فعلت فعبده حر أو امرأته طالق"،

_ 1 أي الشيخ دحلان المردود عليه. 2 وانظر (التوسل والوسيلة) لابن تيميه طبع السلفية ص67-82 و 154 الخ.

لليمين على تحقق نقيض الشرط إن كان الشرط فيها مثل "إن ضربت رجلاً فكذا" فهو يمين للمنع، بمنزلة قولك "والله لأضربن رجلاً"، وإن كان منفياً مثل "إن لم أضرب رجلاً فكذا" فهو يمين للحمل بمنزلة قولك "والله لأضربن رجلاً"، ولا شك أن النكرة في الشرط المثبت خاص يفيد الإيجاب الجزئي فيجب أن يكون في جانب النقيض للعموم والسلب الكلي، والنكرة المنفية عام يفيد السلب الكلي فيجب أن يكون في جانب النقيض للخصوص والإيجاب الجزئي، فظهر أن عموم النكرة في موضع الشرط ليس إلا عموم النكرة في موضع النفي. اهـ فتحصل من هذا أن عموم الفعل في سياق الشرط لا يكون إلا في موضع يحصل فيه نكرة في سياق النفي، وهذا لا يحصل إلا في مثل شرط يكون لليمين التي للمنع، ولذا قال السعد في حاشيته على العضدي: قوله "أو في معناه" يعني النكرة الواقعة في الشرط المستعمل موضع اليمين التي للمنع، مثل "إن أكلت فأنت طالق" فإنه للمنع عن الأكل، إذ انتفاء الطلاق مطلوب وذلك بانتفاء الأكل، فهو في معنى لا آكل البتة، وهذا معنى قوله: "إذ ينتفي الطلاق بأن لا يأكل".اهـ وقال في التوضيح: والنكرة في موضع الشرط إذا كان مثبتاً عام في طرف النفي، وإنما قيد بقوله إذا كان الشرط مثبتاً، حتى لو كان الشرط منفياً لا يكون عاماً كقوله إن لم أضرب رجلاً فعبدي حر، فمعناه أضرب رجلاً، فشرط البر ضرب واحد من الرجال، فيكون للإيجاب الجزئي. اهـ. وفي الآية الكريمة كون الشرط لليمين التي للمنع غير مسلم، وأيضاً قد علم أن في قوله "إن لم أضرب رجلاً فعبدي حر" الفعل واقع في سياق الشرط مع أنه ليس عاماً، فالقول بعموم الفعل الواقع في سياق الشرط عموماً فاسد. (الحادي عشر) : أن جميع الأمة عصاة مذنبون، وخطّاء ظالمون، ورد في الحديث القدسي "يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار" رواه مسلم من حديث أبي ذر، وفيه "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته". وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل بني آدم خطّاء وخير الخطائين التوابون" رواه الترمذي وابن ماجه والدارمي،

وعن ابن عباس في قوله تعالى: {إِلَّا اللَّمَمَ} . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما "؟ رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، وفي حديث أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم مذنب إلا من عافيت". رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وفي حديث ابن مسعود قال: "لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} . شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله، أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس ذاك، إنما هو الشرك". رواه البخاري ومسلم. فلو كانت الآية تعم كل ظالم سواء كان مؤمناً أو كافراً أو منافقاً، وسواء كانت بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم مدة سفر أو لم تكن، وسواء كان يدعي أو لم يدع، وسواء كان مجيئه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته أو إلى قبره بعد وفاته كما زعم صاحب الرسالة1 يلزم أن يكون مجيء كل أحد من أمته بعد كل ظلم ومعصية صغيرة كانت أو كبيرة إليه صلى الله عليه وسلم والاستغفار عنده قربة مطلوبة بالكتاب، وهذا مما لم يقل به أحد من المسلمين، ولا يطيقه أحد، وأيضاً يلزم أن يكون جميع مسلمي زمانه صلى الله عليه وسلم الذين لم يجيئوا إليه صلى الله عليه وسلم بعد كل ظلم تاركين لهذه القربة، وأيضاً يلزم أن لا يكون المجيء إلى القبر مرة كافياً، بل يكون المجيء بمرات غير محصورة على قدر ذنوبهم قربة مطلوبة، كيف وذنوبنا غير محصورة ولا واقفة عند حد، وأيضاً يلزم مزية زيارة القبر على الحج، فإن حج بيت الله فرض في العمر مرة وتكون زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم قربة في كل سنة بل في كل شهر بل في كل أسبوع بل في كل ساعة بل في كل لمحة، فإنا لا نخلو في لمحة من اللمحات من الذنوب، بل يلزم سكنى المدينة فيلزم أن يكون جميع الأكابر الذين لم يقيموا في المدينة من السلف والخلف تاركين لهذه القربة، وأيضاً يلزم أن يكون الزاد والراحلة غير مشروط في الزيارة مع أنهما شرطان في الحج، وهذه المفاسد مما لا يلتزمها إلا جاهل غبي. (الثاني عشر) أن في الآية تقبيحاً لضرب من المجيء، أي إتيانهم حالفين بالله

_ 1 أي المردود عليها وهو دحلان.

حلفاً كاذباً كما جاء المنافقون، وتحسيناً لضرب آخر منه وهو أن يجيء مستغفراً فالمقصود الحث على تقدير المجيء على المجيء مستغفراً، فالثابت منها أنه على تقدير المجيء الإتيان مستغفراً قربة، لا أن نفس المجيء مع الاستغفار قربة، والمطلوب الثاني لا الأول فلا يتم التقريب. (الثالث عشر) أنه لو صح الاستدلال المذكور بالآية المذكورة لصح بالأولى الاستدلال بالآية الواقعة في سورة الحجرات: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . على عدم كون زيارة القبر المعهودة في زماننا قربة الذي هو نقيض مطلوب صاحب الرسالة1 فإن الآية دلت على ذم نداء النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات، وهذا لا ينقطع بموته صلى الله عليه وسلم تعظيماً له كما قال الخصم في تقرير الآية بل هو أولى، فإن النداء من وراء الحجرات بعد الموت بيا رسول الله وغيره من الألفاظ فرد من أفراد نداء النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات بلا ريب ولا شبهة، بخلاف المجيء إلى قبره صلى الله عليه وسلم، فإن كونه فرداً من أفراد المجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاسد كما تقدم، ودلت أيضاً على تعليق ثبوت الخيرية لهم بالصبر على النداء من وراء الحجرات، والآية الكريمة وإن وردت في قوم معينين في حال الحياة تعم بعموم العلة كل من وجد فيه ذلك الوصف في حال الحياة وبعد الممات كما قرر الخصم في الآية، بل عمومه أولى بالنسبة إلى الآية التي استدل بها الخصم فإن في هذه الآية {الَّذِينَ} لفظ موصول وهو من الألفاظ العامة، بخلاف الآية المتقدمة فإن فيها ضميراً وهو ليس من العموم في شيء، ولذلك فهم العلماء منها العموم للمنادين. قال القاضي عياض في الشفا: ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله تعالى أدب قوماً فقال: {لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} . ومدح قوماً فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ} الآية، وذم قوماً فقال: {إِنَّ الَّذِينَ

_ 1 أي دحلان.

يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الحُجُرَاتِ} . وبأن حرمته ميتاً كحرمته حياً، فاستكان له أبو جعفر. اهـ. وهذه الرواية وإن كان فيها مقال كثير ولكنها من مسلمات الخصم. وأيضاً قال القاضي فيه: ولما كثر على مالك الناس قيل له: لو جعلت مستملياً يسمعهم، فقال: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} . وحرمته حياً وميتاً سواء. اهـ. وقال القطسلاني في المواهب: روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: إنه لا ينبغي رفع الصوت على نبي حياً ولا ميتاً، وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تسمع صوت الوتد يوتد والمسمار يضرب في بعض الدور المطيفة بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فترسل إليهم: لا تؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: وما عمل علي بن أبي طالب رضي الله عنه مصراعي داره إلا بالمناصع توقياً لذلك، نقله ابن زبالة. اهـ. ودلت الآية أيضاً على أنه لا فرق في الصابر بين أن يكون صبره بحيث تكون بينه وبين قبر النبي صلى الله عليه وسلم مدة سفر أو لا لوقوع "صبروا" في حيز الشرط الدال على العموم كما قرر الخصم، على أن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم المعهودة في زماننا هل يرفع فيها الصوت ويجهر له بالقول أم لا؟ والأول منهي عنه لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} . وعن أبي هريرة قال: لما نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ} . قال أبو بكر: والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك إلا كأخي السرار1 حتى ألقى الله، أخرجه عبد بن حميد والحاكم وصححه، وفي صحيح البخاري: قال ابن الزبير فما كان عمر يُسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يستفهمه، ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني أبا بكر. قال القسطلاني:

_ 1 هو المسارَّة، أي كصاحب السرار أو كمثل المساررة، لخفض صوته، والكاف صفة مصدر محذوف. اه‍ـ مجمع البحار.

وإن أكابر الصحب ما كانوا يخاطبونه إلا كأخي السرار. اهـ. وبما جاء في صحيح البخاري عن السائب بن يزيد قال: كنت نائماً في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: اذهب فائتني بهذين، فجئته بهما فقال: ممن أنتما، ومن أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن مالك قال: بنى عمر رحبة في ناحية المسجد تسمى البطحاء وقال: من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعراً أو يرفع صوته فليخرج إلى هذه الرحبة. رواه في الموطأ، كذا في المشكاة، وعن أبي هريرة في حديث مرفوع في أشراط الساعة فيه "وظهرت الأصوات في المساجد"، وفي رواية "وارتفعت الأصوات في المساجد". وعن مكحول في حديث في أشراط الساعة "وأن تعلو أصوات الفسقة في المساجد". رواه ابن أبي الدنيا مرسلاً، هكذا في الترغيب والترهيب للمنذري. ففي هذا الشق يلزم ثلاث محذورات: (الأول) رفع الصوت في المسجد، و (الثاني) رفع الصوت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، و (الثالث) رفع الصوت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال القسطلاني في المواهب: ومنها أنه حرم على الأمة نداءه باسمه، قال تعالى: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضاً} . أي لا تجعلوا دعاءه وتسميته كدعاء بعضكم بعضاً باسمه ورفع الصوت به، والنداء وراء الحجرات، ولكن قولوا: يا رسول الله، يا نبي الله، مع التوقير والتواضع وخفض الصوت. اهـ. قال الزرقاني بحرمة رفعه عليه، والظرف أي "بينكم" متعلق بتجعلوا لا حال من الرسول، لأنه يوهم أنه لا يحرم نداؤه باسمه بعد وفاته مع أن الحرمة ثابتة مطلقاً. اهـ. وقال القسطلاني في المواهب أيضاً: ومنها أنه يحرم الجهر له بالقول، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} . اهـ، قال الزرقاني أي خشية ذلك بالرفع والجهر المذكورين، روى البخاري عن ابن أبي مليكة قال كاد

الخيران أن يهلكا: أبو بكر وعمر. لما قدم وفد بني تميم قال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد، وقال عمر: أمر الأقرع بن حابس. فقال أبو بكر لعمر: إنما أردت خلافي. فقال عمر: ما أردت خلافك. فارتفعت أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ -إلى قوله- عَظِيمٌ} . قال ابن أبي مليكة عن ابن الزبير: فكان عمر بعد إذا حدث النبي صلى الله عليه وسلم بحديث حدثه كأخي السرار لم يسمعه حتى يستفهمه. ولم يذكر ذلك عن أبيه، يعني أبا بكر. اهـ. وقال القسطلاني في المواهب: وقال ابن عباس لما نزل قوله تعالى: {لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} . كان أبو بكر لا يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار. اهـ. وقال في المواهب: وينبغي للزائر أن يستحضر من الخشوع ما أمكنه، وليكن مقتصداً في سلامه بين الجهر والإسرار. اهـ. وأيضاً في المواهب: ثم يقول الزائر بحضور قلب وغض طرف وسكون جوارح وإطراق: السلام عليك يا رسول الله.. الخ. وقال ابن حجر في الجوهر المنظم: إذا وقت أو جلس ثم سلم لا يرفع صوته، بل يقتصد فيقول: السلام عليكم أيها النبي ورحمة الله وبركاته.. الخ. وقال السيوطي في (موجز اللبيب في خصائص الحبيب) : ويحرم التقدم بين يديه، ورفع الصوت فوق صوته، والجهر له بالقول، ونداؤه من وراء الحجرات، والصياح به من بعيد. اهـ. والشق الثاني أيضاً باطل، فإن السلام المشروع عند القبر سلام تحية لا سلام دعاء، وسلام التحية لابد فيه من أن يفعل بحيث يسمعه المسلم عليه حتى يرده على المسلم. قال في المواهب وشرحه للزرقاني: ويكثر من الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرته الشريفة حيث يسمعه ويرد عليه، بأن يقف بمكان قريب منه ويرفع صوته إلى حد لو كان حياً مخاطباً لسمعه عادة اهـ. وقال الزرقاني: والظاهر أن المراد بالعندية قرب القبر بحيث يصدق عليه عرفاً أنه عنده، وبالبعد ما عداه وإن كان بالمسجد اهـ. ولما سدت حجرة عائشة رضي الله عنها التي هي مدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنيت على القبر حيطان مرتفعة مستديرة حوله ثم بنى عليه جدران من ركني القبر

الشماليين تعذر الوصول إلى قرب القبر، فالزائرون اليوم إنما يسلمون من مسافة لو سلم على حي من تلك المسافة لما سمعه، فكيف يسمعه النبي صلى الله عليه وسلم ويرد عليه ولو سلم حياته صلى الله عليه وسلم في القبر؟ فإن قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الممات يمكن أن يزداد قوة سمعه فيسمع من تلك المسافة؟ فيقال: أي دليل على هذا من كتاب وسنة؟ ومجرد الإمكان العقلي لا يغني من شيء، على أنه هل لذلك تحديد أم لا؟ على الثاني يستوي المسلم من بعيد والمسلم عند القبر، وهذا باطل عند من يقول بقربة الزيارة فإنهم فضلوا السلام عند القبر على السلام من بعيد كالسبكي وابن حجر المكي، وعلى الأول فلا بد من بيانه بدليل شرعي، وأنى له ذلك؟ (الرابع عشر) أنه لو صح الاستدلال بالآية المذكورة لجاز أن يستدل على جواز بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الموت، لقوله تعالى في سورة الممتحنة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . وبقوله تعالى في سورة الفتح: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} . وهذا لا ينقطع بموته صلى الله عليه وسلم تعظيماً له صلى الله عليه وسلم كما قال الخصم، ودلت الآية على أنه لا فرق في الجائية بين أن يكون مجيئها بسفر أو غير سفر، لوقوع "جاءوك" في حيز الشرط الدال على العموم كما قال الخصم، ولكون "الذين" من الأسماء الموصولة وهي من ألفاظ العموم، مع أن أحداً من الأمة لم يقل بجواز بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الموت، ولم يفعلها أحد من السلف والخلف. (الخامس عشر) أنه لو دلت الآية على كون زيارة القبر قربة، وعلى أنه شرع لكل مذنب أن يأتي إلى قبره ليستغفر له، لكان القبر أعظم أعياد المذنبين وأجلها، وهذه مضادة صريحة لما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تجعلوا قبري عيداً".

(السادس عشر) أن أعلم الأمة بالقرآن ومعانيه وهم سلف الأمة لم يفهم منهم أحد إلا المجيء إليه في حياته ليستغفر لهم، ولم يكن أحد منهم قط يأتي إلى قبره ويقثول يا رسول الله فعلت كذا وكذا فاستغفر لي، ومن نقل هذا عن أحد منهم فقد جاهر بالكذب والبهت، أفترى عطل الصحابة والتابعون -وهم خير القرون على الإطلاق- هذا الواجب الفرية التي ذم الله سبحانه من تخلف عنها وجعل التخلف عنه من أمارات النفاق، ووفق له من لا يؤبه له من الناس، ولا يعد في أهل العلم1؟. ويالله العجب! أكان ظلم الأمة لأنفسها -ونبيها حي بين أظهرها- موجوداً وقد دعيت فيه إلى المجيء إليه ليستغفر لها وذم من تخلف عن المجيء، فلما توفي صلى الله عليه وسلم ارتفع ظلمها لأنفسها بحيث لا يحتاج أحد منهم إلى المجيء إليه ليستغفر له، وهذا يبين أن هذا التأويل الذي تأول عليه المعترض هذه الآية تأويل باطل قطعاً، ولو كان حقاً لسبقونا إليه علماً وعملاً وإرشاداً ونصيحة، ولا يجوز إحداث تأويل في آية أو سنة لم يكن على عهد السلف ولا عرفوه ولا بينوه للأمة2. وهذان الوجهان الأخيران مأخوذان من الصارم.

_ 1 زاد في الصارم المنكي هنا ما نصه: وكيف أغفل هذا الأمر أئمة الإسلام، وهداة الأنام، من أهل الحديث والفقه والتفسير ومن لهم لسان صدق في الأمة، فلم يدعوا إليه، ولم يحضوا عليه، ولم يرشدوا إليه، ولم يفعله أحد منهم البتة، بل المنقول الثابت عنهم ما قد عرف مما يسوء الغلاة فيما يكرهه وينهى عنه من الغلو والشرك، الجفاة عما يحبه ويأمر به من التوحيد والعبودية، ولما كان هذا المنقول شجى في حلوق البغاة، وقذى في عيونهم وريبة في قلوبهم، قابلوه بالتكذيب والطعن في الناقل، ومن استحيى منهم من أهل العلم بالآثار قابله بالتحريف والتبديل، ويأبى الله إلا أن يعلي منار الحق ويظهر أدلته ليهتدي المسترشد وتقوم الحجة على المعاند، فيعلي الله بالحق من يشاء، ويضع برده وبطره وغمص أهله من يشاء. اهـ. 2 يعني أن أحكام العبادات العملية المنصوصة في القرآن لا يعقل أن يجهلها أو يترك العمل بها الصحابة والتابعون وسائر علماء السلف، ثم ينفرد بعملها وفهمها مثل السبكي وابن حجر المكي بعدهم ببضعة قرون، وليس معناه أنه ليس لأحد بعد الصدر الأول أن يفهم من علوم القرآن وحكمه ما لم ينقل عنهم، فإن هذا باطل لم يقل به أحد، فعلوم القرآن وحكمه كدرر البحار لا تنفد، ولا تفتأ تتجدد. وكتبه محمد رشيد رضا.

قوله: وقد قال تعالى: {وَمَن يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} . ولا شك عند من له أدنى مسكة من ذوق العلم أن من خرج لزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم يصدق عليه أنه خرج مهاجراً إلى الله ورسوله، لما يأتي من الأحاديث الدالة على أن زيارته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كزيارته في حياته، وزيارته في حياته داخلة في الآية الكريمة قطعاً، فكذا بعد وفاته بنص الأحاديث الشريفة الآتية. أقول: هذا كله مأخوذ من كلام ابن حجر المكي في الجوهر المنظم، وهو مردود من وجوه: (الأول) أن الآية واردة في الهجرة من دار الشرك إلى دار الاسلام، يدل عليه سياق الآية وسباقها1، فإن أولها: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلاَّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُواًّ غَفُوراً وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} . ويدل عليه أيضاً شأن نزولها: أخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم والطبراني -قال السيوطي2 بسند رجاله ثقات- عن ابن عباس قال: خرج ضمرة بن جندب من بيته مهاجراً، فقال لقومه: احملوني فأخرجوني من أرض الشرك إلى أرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمات في الطريق قبل أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزل الوحي: {وَمَن يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ} الآية. كذا في فتح القدير للإمام الشوكاني رحمه الله، ويدل عليه أيضاً معنى الهجرة: قال في المصباح والهجرة –بالكسرة- مفارقة بلد إلى غيره، فإن كانت قربة لله فهي الهجرة الشرعية اهـ. وفي الصحاح: والمهاجرة من أرض إلى أرض ترك الأولى للثانية اهـ. وفي القاموس: والهجرة -بالكسر والضم- الخروج من أرض إلى أخرى اهـ. وفي

_ 1 أي الآيات السابقة عليها. 2 أي في الدر المنثور.

النهاية: الهجرة في الأصل الاسم من الهجر ضد الوصل، وقد هجره هجراً وهجراناً، ثم غلب على الخروج من أرض إلى أرض وترك الأولى للثانية، وفي مجمع البحار: الهجرة في الأصل الاسم من الهجر ضد الوصل، ثم غلب على الخروج من أرض إلى أرض. فقد علم من ههنا أنه لابد في معنى الهجرة من أمرين: (الأول) الخروج من أرض إلى أرض (والثاني) ترك الأولى للثانية، والخروج لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم في حياته يتحقق فيه الأمر الأول لا الثاني، ويدل على كون الأمرين معتبرين في معنى الهجرة أحاديث: منها ما روى الشيخان عن جابر بن عبد الله أن أعرابياً بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصاب الأعرابي وعك بالمدينة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أقلني بيعتي، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم جاءه فقال: أقلني بيعتي، فأبى، ثم جاءه فقال: أقلني بيعتي، فأبى. فخرج الأعرابي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وتنصع طيبها". ومنها ما روى مسلم عن جابر قال: جاء عبد فبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة، ولم يشعر أنه عبد، فجاء سيده يريده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "بعنيه" فاشتراه بعبدين أسودين، ولم يبايع أحداً بعده حتى يسأله: أعبد هو أو حر؟ ومنها ما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الهجرة فقال: "ويحك إن الهجرة شأنها شديد، فهل لك من إبل"؟ قال: نعم، قال "فتعطي صدقتها"؟ قال: نعم. قال "فهل تمنح منها"؟ قال: نعم. قال "فتحلبها يوم وردها "؟ قال: نعم. قال" فاعمل من وراء البحار فإن الله لن يترك من عملك شيئاً"1. ومنها ما روى البخاري ومسلم عن العلاء بن الحضرمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاث للمهاجر بعد الصدر" 2. ومنها ما رواه البخاري عن سعد بن أبي وقاص قلت: يا رسول الله أخلف3

_ 1 يترك بكسر التاء أي لن ينقصك. 2 الصدر بفتحتين: الرجوع، أي أن المهاجر بعد الرجوع من منى وانتهاء حجه له أن يلبث في مكة ثلاث ليال. 3 بتشديد اللام، أصله أأخلف أي أتأخر؟

بعد أصحابي؟ قال: "إنك لن تخلف فتعمل عملاً تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة، ولعلك تخلف حتى ينتفع بك أقوام، ويضر بك آخرون. اللهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم". لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توفي بمكة1. ومنها ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر، فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول: كل امرئ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بواد وحولي إذخر وجليل؟ وهل أردن يوماً مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل؟ اللهم العن شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا وصححها لنا وانقل حماها إلى الجحفة". قال القاضي في الحديث الأول: إنما استقاله على الهجرة ولم يرد الارتداد عن الإسلام2، قال ابن بطال: بدليل أنه لم يرد حل ما عقده إلا بموافقة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولو أراد الردة ووقع فيها لقتله إذ ذاك، وإنما لم يقله بيعته لأنها إن كانت بعد الفتح فهي على الإسلام فلم يقله إذ لا يحل الرجوع إلى الكفر، وإن كانت قبله فهي على الهجرة والمقام معه بالمدينة، ولا يحل للمهاجر أن يرجع إلى وطنه، كذا قال القسطلاني. قال النووي: قال العلماء إنما لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم بيعته لأنه لا يجوز لمن أسلم أن

_ 1 جملة الاستدراك هذه مدرجة في الحديث من رواية الزهري عن إبراهيم بن سعد، وليست من كلامه صلى الله عليه وسلم. 2 يعني أن الأعرابي إنما طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيله بيعته على الهجرة ليخرج من المدينة فراراً من الحمى، ولم يطلب إقالته من الإسلام نفسه، أي لأنه لو أراد هذا لفر من المدينة ولم يقل يا رسول الله أقلني بيعتي.

يترك الإسلام، ولا لمن هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم للمقام عنده أن يترك الهجرة ويذهب إلى وطنه أو غيره. اهـ. وقال النووي في الحديث الثاني: وفيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق والإحسان العام، فإنه كره أن يرد ذلك العبد خائباً مما قصده من الهجرة وملازمة الصحبة، فاشتراه ليتم له ما أراده اهـ. وقال القطسلاني في الحديث الثالث "فسأله عن الهجرة": أي أن يبايعه على أن يقيم بالمدينة "ويحك إن الهجرة شأنها " أي القيام بحقها "شديد" لا تستطيع القيام بحقها "فاعمل من وراء البحر" فلا تبال أن تقيم في بلدك ولو كنت في أقصى بلاد الإسلام اهـ. وقال القسطلاني في الحديث الرابع: وهو بعد الرجوع من منى من غير زيادة، وجوز بعضهم الإقامة بعد الفتح. قال النووي: معنى الحديث: إن الذين هاجروا من مكة قبل الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم عليهم استيطان مكة والإقامة بها، ثم أبيح لهم إذا وصلوها بحج أو عمرة أو غيرهما أن يقيموا بعد فراغهم ثلاثة أيام ولا يزيدوا عن الثلاثة. وقال القاضي عياض: في هذه الحديث حجة لمن منع المهاجر قبل الفتح من المقام بمكة بعد الفتح، قال: هو قول الجمهور، وأجاز لهم جماعة بعد الفتح مع الاتفاق على وجوب الهجرة عليهم قبل الفتح ووجوب سكنى المدينة لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم ومواساتهم له بأنفسهم، وأما غير المهاجر ومن آمن بعد ذلك فيجوز له سكنى أي بلد أراد سواء مكة وغيرها بالاتفاق. هذا كلام القاضي اهـ. وقال القطسلاني في الحديث الخامس "ولا تردهم على أعقابهم": بترك هجرتهم ورجوعهم عن استقامتهم. "أن توفى" أي لأجل وفاته "بمكة" التي هاجر منها اهـ. وقال القسطلاني في الحديث السادس: وتأمل كيف تعزى أبو بكر رضي الله عنه عند أخذ الحمى بما ينزل به من الموت الشامل للأصيل والغريب، وبلال رضي الله عنه تمنى الرجوع إلى وطنه على عادة الغرباء، يظهر لك فضل أبي بكر على غيره من الصحابة رضي الله عنهم اهـ.

ومنها ما روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلا إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، والمحيا محياكم والممات مماتكم". قال النووي: معنى هذه الجملة أنهم رأوا رأفة النبي صلى الله عليه وسلم بأهل مكة وكف القتل عنهم فظنوا أنه يرجع إلى سكنى مكة والمقام فيها دائماً ويرحل عنهم ويهجر المدينة، فشق ذلك عليهم، فأوحى الله تعالى إليه صلى الله عليه وسلم فأعلمهم بذلك اهـ. وأيضاً قال: فمعناه إني هاجرت إلى الله وإلى دياركم لاستيطانها، فلا أتركها ولا أرجع عن هجرتي الواقعة لله تعالى، بل أنا ملازم لكم، المحيا محياكم، والممات مماتكم، إني لا أحيا إلا عندكم، ولا أموت إلا عندكم. اهـ. ومنها ما روى الترمذي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة: "ما أطيبك من بلد وأحبك إلىّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك". ومنها ما روى مسلم عن سلمة بن الأكوع أنه دخل على الحجاج فقال: "يا ابن الأكوع ارتددت على عقبيك، تعربت، قال: لا ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لي في البدو". قال النووي: قال القاضي عياض أجمعت الأمة على تحريم ترك المهاجر هجرته ورجوعه إلى وطنه، وعلى أن ارتداد المهاجر أعرابياً من الكبائر، ولهذا أشار الحجاج، إلى أن أعلمه سلمة أن خروجه إلى البادية إنما هو بإذن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ولعله رجع إلى غير وطنه، أو لأن الغرض في ملازمة المهاجر أرضه التي هاجر إليها وفرض ذلك إنما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لنصرته، أو ليكون معه، أو لأن ذلك إنما كان قبل فتح مكة لمواساة النبي صلى الله عليه وسلم ومؤازرته ونصرة دينه وضبط شريعته اهـ. ومن ثم قال عثمان رضي الله عنه لما قال له الصحابة رضي الله عنهم -وقد حوصر- الحق بالشام: لن أفارق هجرتي، ومجاورة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها. كذا في الجوهر المنظم لابن حجر المكي. فقد علم من تلك الأحاديث أن الأمرين المذكورين معتبران في معنى الهجرة. وجملة القول في هذا المقال أن ليست الهجرة عين الخروج لزيارته صلى الله عليه وسلم، بل بينهما

عموم وخصوص من وجه يجتمعان في مادة كمن هاجر في حياته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وزار النبي صلى الله عليه وسلم، ويفترقان كمن هاجر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من دار حرب إلى دار الإسلام فيصدق عليه أنه خرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله، فإن معنى "إلى الله وإلى رسوله" حيث أمر الله ورسوله، كذا في المدارك، ولا يصدق عليه أنه زار النبي صلى الله عليه وسلم وكمن زار النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة ثم رجع إلى وطنه فيصدق عليه أنه زار، ولا يصدق عليه أنه هاجر، فدخول زيارته صلى الله عليه وسلم في حياته في الآية الكريمة ممنوع فضلاً عن دخول الزيارة فيها بعد مماته. (والثاني) أن مثل من يستدل بهذه الآية على كون الزيارة قربة كمثل من يستدل على كون الزيارة قربة بحديث: "انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة" متفق عليه، وحديث: "لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها" متفق عليه، وحديث: "ما أغبرَّت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار" رواه البخاري، وحديث: "من فصل في سبيل الله فمات أو قتل أو وقصه فرسه أو بعيره أو لدغته هامة أو مات على فراشه بأي حتف شاء فإنه شهيد وإن له الجنة". رواه أبو داود، وحديث: "إن الهجرة تهدم ما كان قبلها "، وحديث: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله" وجميع الآيات التي ورد فيها ذكر الهجرة كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . وقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} . وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} . وغير ذلك من الآيات، مع أن أحداً من أهل العلم والدين لم يستدل بهذه الأحاديث والآيات على كون الزيارة قربة. (والثالث) أنه لو سلم دخول زيارته صلى الله عليه وسلم في الآية الكريمة في الحياة فلا نسلم

دخول زيارته صلى الله عليه وسلم بعد الممات فيها، والأحاديث الدالة على أن زيارته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كزيارته في حياته لم يثبت واحد منها كما سيأتي: قوله: أما السنة فما يأتي من الأحاديث. أقول: تلك الأحاديث ليس شيء منها قابلاً لأن يحتج به، كما ستطلع عليه عن قريب. قوله: وأما القياس فقد جاء أيضاً في السنة الصحيحة المتفق عليها الأمر بزيارة القبور.. الخ. أقول: الاستدلال بالسنة التي فيها الأمر بزيارة القبور استدلال بالسنة لا بالقياس، ولذا ذكر السبكي هذا الاستدلال في الاستدلال بالسنة في شفاء الأسقام ونصه هذا: وأما السنة فما ذكرناه في الباب الأول والثاني من الأحاديث وهي أدلة على زيارة قبره صلى الله عليه وسلم بخصوصه، وفي السنة الصحيحة المتفق عليها الأمر بزيارة القبور، فقبر النبي صلى الله عليه وسلم سيد القبور داخل في عموم القبور المأمور بزيارتها اهـ ملخصاً، وهذا الغلط قد صدر من المؤلف تقليداً لابن حجر المكي في الجوهر المنظم، وعبارته هكذا: وأما القياس فقد جاء أيضاً في السنة الصحيحة المتفق عليها الأمر بزيارة القبور، فقبر نبينا منها أولى وأحرى، وأحق وأعلى، بل لا نسبة بينه وبين غيره. قوله: وأما إجماع المسلمين فقد قال العلامة ابن حجر في الجوهر المنظم في زيارة قبر النبي المكرم صلى الله عليه وسلم: قد نقل جماعة من الأئمة حملة الشرع الشريف الذين عليهم المدار والمعول الإجماع. أقول ليس في المسألة إجماع، لتحقق ثبوت الخلاف فيها عن بعض المجتهدين، وإن كان قوله ضعيفاً من حيث الدليل. قال شيخ الإسلام في أثناء كلمه: مع أن نفس زيارة القبور مختلف في جوازها، قال ابن بطال في شرح البخاري: كره قوم زيارة القبور لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في النهي عنها، وقال الشعبي: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور لزرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم. وقال إبراهيم النخعي: كانوا

يكرهون زيارة القبور. وعن ابن سيرين مثله. قال: وفي مجموعه قال علي بن زياد: سئل مالك عن زيارة القبور فقال: قد نهى عنه عليه الصلاة والسلام ثم أذن فيه، فلو فعل ذلك إنسان ولم يقل إلا خيراً لم أر بذلك بأساً، وليس من عمل الناس، وروي عنه أنه كان يضعف زيارتها، فهذا قول طائفة من السلف، ومالك في القول الذي رخص فيه يقول: ليس من عمل الناس، وفي الآخر ضعفها فلم يستحبها لا في هذا ولا في هذا، اهـ ما حكاه الشيخ، كذا في الصارم، وأما ما قال ابن حجر المكي في الجوهر المنظم "شاذ لا يلتفت إليه لمخالفة إجماع غيرهما" فهو مردود من وجهين: (الأول) أن قوله "لمخالفة إجماع غيرهما" غير صحيح، فإن ابن سيرين ومالكاً في قول موافق لهما. (والثاني) سلمنا أنه شاذ لكن كاف لنقض الإجماع كما تقرر في الأصول، وما قال ابن حجر المكي من أنه مؤول بفرض تسليمه الاعتداد به فهو لا يأتي في قبر نبينا صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم لا يخفى سخافته. قوله: واحتج القائلون بوجوب الزيارة بقوله صلى الله عليه وسلم: "من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني" رواه ابن عدي بسند يحتج به. أقول: في سند ابن عدي نعمان بن شبل ومحمد بن محمد بن النعمان بن شبل، وهما ضعيفان جداً، أما النعمان فقد قال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير: النعمان ضعيف جداً، وقال الذهبي في الميزان: النعمان بن شبل الباهلي البصري عن أبي عوانة ومالك، قال موسى بن هارون: كان متهماً. وقال ابن حبان: يأتي بالطامات. وقال في تنزيه الشريعة: النعمان بن شبل الباهلي البصري عن أبي عوانة ومالك قال موسى بن هارون: كان متهماً. وقال ابن حبان: يأتي بالطامات، وعن الأثبات بالمقلوبات، وقال في الصارم: قد اتهمه موسى بن هارون الحمال. وقال أبو حاتم البستي: يأتي عن الثقات بالطامات، وعن الأثبات بالمقلوبات. وأما محمد بن محمد بن النعمان فقال الحافظ في اللسان: محمد بن محمد بن النعمان ابن شبل الباهلي عن مالك روى عنه الوراق وقد طعن فيه الدارقطني واتهمه، وقال في تنزيه الشريعة: محمد بن محمد بن النعمان ابن شبل الباهلي طعن فيه الدارقطني واتهمه،

وقال في الصارم: والطعن فيه على ابنه محمد بن محمد بن النعمان كما ذكر ذلك شيخ الصنعة إمام عصره وفريد دهره ونسيج وحده الحافظ الكبير أبو الحسن الدارقطني ولم يخالفه أحد يعتمد على قوله اهـ. وقال الحافظ في التقريب: محمد بن محمد بن النعمان بن شبل الباهلي البصري متروك اهـ. فقولك "بسند يحتج به" باطل قطعاً، ومن ثم صرح جماعة من أهل النقد بضعف الحديث وجماعة بوضعه، ولم يذهب أحد إلى صحته أو حسنه، إنما تفرد به ابن حجر المكي وقلده على القارئ ولا عبرة بتحسينهما فإنهما ليسا بأهل لذلك ومن يدعي فعليه الإثبات. قوله: ويدل لذلك أحاديث كثيرة صحيحة صريحة لا يشك فيها إلا من انطمس نور بصيرته. أقول: ليس في الباب حديث واحد صحيح فضلاً عن الأحاديث الكثيرة الصحيحة، ولا أراك شاكاً في أن هذا القول غلط واضح وخطأ بين، فإن السبكي مع شدة سعيه في هذا الباب لم يثبت في زعمه إلا حسن حديثين أو صحتهما، الأول "من زار قبري وجبت له شفاعتي" والثاني "من جاءني زائراً لا تعمله حاجة إلا زيارتي كان حقاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة" هذان الحديثان فيهما أيضاً كلام شديد كما سيأتي، وبالجملة ادعاء صحة الأحاديث الكثيرة في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم باطل بالبداهة. قوله: منها صلى الله عليه وسلم "من زار قبري وجبت له شفاعتي". أقول في هذا الحديث كلام من وجهين: (الأول) أن في سنده موسى بن هلال العبدي وهو ضعيف، قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان قال أبو حاتم: مجهول، وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه، ثم ذكر أي ابن القطان1 كلامهم في موسى بن هلال وقال: الحق أنه لم تثبت عدالته، وفي أسئلة البرقاني أنه سأل الدارقطني عن موسى

_ 1 ابن القطان لم يسبق له ذكر يصحح عود الضمير إليه كما في لسان الميزان فكان ينبغي للمؤلف أن يقول ثم ذكر الحافظ عن ابن القطان كذا.

ابن هلال فقال: هو مجهول، وقد أورد شيخنا في الذيل وهو المذكور فيه وأطلق عليه ذلك أبو حاتم اهـ ملخصاً. فإن قلت: قال الحافظ ابن حجر فيه قال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به، قلت هو صالح الحديث فقد حصل التوثيق. (قلت) : هاتان الكلمتان للتوثيق مما يكتب حديث صاحبها للاعتبار لا للاحتجاج، قال السيوطي في التدريب: الرابعة وهي سادسة بحسب ما ذكرنا "صالح" فإنه يكتب حديثه للاعتبار، وزاد العراقي فيها: صدوق إن شاء الله تعالى، أرجو أن لا بأس به، صويلح اهـ. وبالجملة فموسى بن هلال في عداد من ينجبر ضعفه بالمتابعة وتعدد الطرق، فلينظر هل تابع أحد موسى بن هلال في رواية هذا الحديث أم لا؟ وعلى الأول فهل ذلك المتابع صالح للمتابعة أم لا؟ فأقول: قد تابعه مسلم بن سالم الجهني وهو لا يصلح للمتابعة، فإن أبا داود السجستاني قال في حقه: إنه ليس بثقة، نص عليه الحافظ في اللسان. ومن يكتب في حقه هذا اللفظ فهو لا يصلح للمتابعة. قال السيوطي في التدريب: وإذا قالوا متروك الحديث أو ذاهبه أو كذاب فهو ساقط لا يكتب حديثه ولا يعتبر به ولا يستشهد، إلا أن هاتين مرتبتان وقبلهما مرتبة أخرى ولا يعتبر بحديثها أيضاً، وقد أوضح ذلك العراقي، فالمرتبة التي قبل وهي الرابعة رد حديثه، ردوا حديثه، مردود الحديث، ضعيف جداً، واه بمرة، طرحوا حديثه، مطرح، مطرح الحديث، ارم به، ليس بشيء، لا يساوي شيئاً، يليها متروك الحديث، تركوه، ذاهب، ذاهب الحديث، ساقط، هالك، فيه نظر، سكتوا عنه، لا يعتبر به، لا يعتبر بحديثه، ليس بالثقة، ليس بثقة، غير ثقة اهـ. (الثاني) أن في سنده عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف، قال أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي في الصارم: وقد تكلم في عبد الله العمري جماعة من أئمة الجرح والتعديل ونسبوه إلى سوء الحفظ والمخالفة للثقات في الروايات. قال أبو حاتم محمد بن حبان البستي في كتاب المجروحين من المحدثين: عبد الله بن

عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري أخو عبيد الله بن عمر من أهل المدينة يروي عن نافع، روى عنه العراقيون وأهل المدينة، كان ممن غلب عليه الصلاح والعبادة حتى غفل عن حفظ الأخبار، وجودة الحفظ للآثار، فوقع المناكير في روايته، فلما فحش خطؤه استحق الترك، ومات سنة ثلاث وأربعين ومائة، حدثنا الهمداني حدثنا عمرو بن علي قال: كان يحيى بن سعيد لا يحدث عن عبد الله بن عمر. قال أبو حاتم: وهو الذي روى عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ خلل لحيته. وروى عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى عرافاً يسأله لم تقبل له صلاة أربعين يوماً". وروى عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم للفارس سهمين وللراجل سهماً -فيما يشبه هذا من المقلوبات والملزوقات التي ينكرها من أمعن في العلم وطلبه من مظانه. وقال أبو عيسى والترمذي في جامعه: وعبد الله بن عمر ضعفه يحيى بن سعيد من قبل حفظه. وقال البخاري في تاريخه: عبد الله بن عمر بن حفص العمري المدني القرشي كان يحيى بن سعيد يضعفه. وقال النسائي في كتاب الكنى: أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر ضعيف. وقال العقيلي: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سألت يحيى بن معين عن عبد الله بن عمر العمري فقال ضعيف. حدثنا عبد الله قال: سألت أبي عن عبد الله بن عمر فقال كذا وكذا. وقال أبو زرعة الدمشقي قيل لأحمد بن حنبل: كيف حديث عبد الله بن عمر؟ فقال: كان يزيد في الأسانيد ويخالف، وكان رجل صالحاً، وقد ذكر العقيلي هذا القول عن الإمام أحمد بن حنبل من رواية أبي بكر الأثرم عنه، وروى إسحاق بن منصور عن يحيى ابن معين قال: عبد الله بن عمر صويلح. وقال عبد الله بن علي بن المديني عن أبيه: ضعيف، وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال يعقوب بن شيبة: صدوق، في حديثه اضطراب. وقل صالح بن محمد البغدادي: لين، مختلط الحديث، وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالقوي عندهم اهـ. قال الحافظ في التقريب: عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب أبو عبد الرحمن المدني ضعيف عابد اهـ. فإن قلت: قد ورد عن أئمة الجرح والتعديل في حقه ما يدل على حسن روايته

وتقويته كما في الكاشف وتهذيب التهذيب، قلت: تلك الألفاظ إنما هي صويلح، لا بأس به، صدوق، ليس به بأس، يكتب حديثه، ثقة في حديثه اضطراب، صالح ثقة، فمنها ما يكتب حديثه للاعتبار والاستشهاد لا للاحتجاج، ومنها ما يكتب حديثه وينظر فيه. وطريق النظر أن يقابل حديثه بحديث الضابطين فإن كان أكثره موافقاً فهو ضابط يحتج بحديثه ولا تضره مخالفته النادرة، وإن كانت المخالفة أكثر والموافقة نادرة ففي ضبطه خلل لا يحتج به. وعبد الله بن عمر العمري كثير المخالفة، قال أبو حاتم محمد بن حبان البستي في كتاب المجروحين: كان ممن غلب عليه الصلاح والعبادة حتى غفل عن حفظ الأخبار وجودة الحفظ للآثار فوقع المناكير في روايته، فلما فحش خطؤه استحق الترك اهـ. ومنها ما يدل على أن حديثه بانفراده لائق للاحتجاج وهو لفظ ثقة، وهذا مما كتبه يعقوب بن شيبة وابن معين، ولكن يعلم بعد البحث والنظر أن هذه اللفظة ليست نصاً على كونه قابلاً للاحتجاج عموماً، فإن لفظة "ثقة" تطلق على معاني: (الأول) العدل المطلق، (والثاني) العدل الضابط، (والثالث) رجل لم يرد في حقه جرح ولا تعديل، وشيخه والذي يروي عنه ثقتان، ولم يأت بحديث منكر، فيحتمل أن يكون المراد في كلامهما بالثقة العدل المطلق، وحديث العدل المطلق لا يصح الاحتجاج به حتى يكون ضابطاً، ومما يعين ذلك الاحتمال أن يعقوب بن شيبة قال مع ذلك: في حديثه اضطراب، ويحيى بن معين قال مع ذلك: ضعيف. قوله: وفي رواية "حلت له شفاعتي" رواه الدراقطني وكثير من أئمة الحديث. أقول: هذا اللفظ رواه البزار في مسنده وإسناده هكذا: حدثنا قتيبة حدثنا عبد الله بن إبراهيم حدثنا عبد الرحمن بن زيد عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من زار قبري حلت له شفاعتي". وفي هذا السند ضعيفان: (أحدهما) عبد الله بن إبراهيم الغفاري، (والآخر) عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. قال ابن عبد الهادي في الصارم المنكى: واعلم أن هذا الحديث الذي ذكره من رواية البزار حديث ضعيف منكر ساقط الإسناد لا يجوز الاحتجاج بمثله عند أحد من أئمة الحديث وحفاظ الأثر كما سنبين ذلك إن شاء الله تعالى. وقتيبة شيخ البزار

هو ابن المرزبان روى عنه غير هذا الحديث، وأما عبد الله بن إبراهيم فهو ابن أبي عمرو الغفاري أبو محمد المدني، يقال إنه من ولد أبي ذر الغفاري، وهو شيخ ضعيف الحديث جداً منكر الحديث، وقد نسبه بعض الأئمة إلى الكذب ووضع الحديث نعوذ بالله من الخذلان. قال أبو داود: وهو شيخ منكر الحديث. وقال الدراقطني: حديثه منكر. وقال الحاكم أبو عبد الله: يروي عن جماعة من الثقات أحاديث موضوعة لا يرويها عنهم غيره. وقال البزار عقب رواية حديثه: وعبد الله بن إبراهيم حدّث بأحاديث لا يتابع عليها. وقال أبو حاتم بن حبان البستي: عبد الله بن أبي عمرو الغفاري شيخ يروي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وأهل المدينة. واسم أبيه إبراهيم، روى عنه سلمة بن شبيب والناس، كان ممن يأتي عن الثقات بالمقلوبات، وعن الضعفاء بالملزوقات، روى عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما جزت ليلة أسري بي من سماء إلى سماء إلا رأيت اسمي مكتوباً محمد رسول الله أبو بكر الصديق" وهذا خبر باطل، فلست أدري البلية منه أو من عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، على أن عبد الرحمن بن زيد ليس هذا من حديثه بمشهور، فكان القلب إلى أنه من عمل عبد الله بن أبي عمرو1 أميل اهـ. وأيضاً قال في الصارم: وذكر ابن عدي لعبد الله بن إبراهيم أحاديث كثيرة منكرة بل موضوعة، ثم قال: وعامة ما يرويه لا يتابعه عليه الثقات، وقال العقيلي: عبد الله بن إبراهيم الغفاري كان يغلب على حديثه الوهم. وأما عبد الرحمن بن زيد بن أسلم فضعيف غير محتج به عند أهل الحديث، قال الفلاس: لم أسمع عبد الرحمن بن مهدي يحدث عنه، وقال أبو طالب عن أحمد بن حنبل: ضعيف، وقال عباس الدوري عن يحيى بن معين: ليس حديثه بشيء وقال البخاري وأبو حاتم الرازي: ضعفه علي بن المديني جداً، وقال أبو داود وأبو زرعة والنسائي والدراقطني: ضعيف. وقال ابن حبان: كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم، حتى أكثر من ذلك في روايته من رفع المراسيل وإسناد الموقوف فاستحق الترك.

_ 1 في الصارم المنكى ابن إبراهيم بدل ابن أبي عمرو، وهو هو.

وقال الحاكم أبو عبد الله: روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه، وقال ابن خزيمة: عبد الرحمن بن زيد ليس ممن يحتج أهل الحديث بحديثه، وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني: حدث عن أبيه لا شيء، وقال محمد بن عبد الله بن الحكم: سمعت الشافعي يقول: ذكر رجل لمالك حديثاً فقال: من حدثك؟ فذكر إسناداً منقطعاً، فقال: اذهب إلى عبد الرحمن بن زيد يحدثك عن أبيه عن نوح. وقال الربيع بن سليمان سمعت الشافعي يقول: سأل رجل عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: حدثك أبوك عن أبيه عن جده أن سفينة نوح طافت بالبيت وصلت ركعتين؟ قال: نعم اهـ. وقال في الخلاصة: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم المدني عن أبيه، وعنه وكيع وابن وهب وقتيبة وخلق، ضعفه أحمد وابن المديني والنسائي وغيرهم، مات سنة اثنتين وثمانين ومائة، وقال الذهبي في الميزان: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العمري مولاهم المدني أخو عبد الله وأسامه، قال أبو يعلى الموصلي سمعت يحيى بن معين يقول: بنو زيد بن أسلم ليسوا بشيء، وروى عثمان الدرامي أن يحيى بن معين يقول: بنو زيد ضعفاء. وقال البخاري: عبد الرحمن ضعفه علي جداً. وقال النسائي: ضعيف. وقال أحمد: عبد الله ثقة والآخران ضعيفان اهـ. وقال الترمذي في جامعه: وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف في الحديث، ضعفه أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وغيرهما من أهل الحديث، وهو كثير الغلط اهـ. وقال الحافظ ابن حجر في اللسان وذكر -يعني عبد الحق- أن البزار رواه أيضاً، وإنما رواه البزار من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف أيضاً. وفيه أيضاً عبد الله بن إبراهيم الغفاري وقد تكلموا فيه أيضاً اهـ. وقال في تنزيه الشريعة: عبد الله بن إبراهيم الغفاري ويقال ابن أبي عمرو نسبه ابن حبان إلى وضع الحديث. وقال الذهبي في الميزان: نسبه ابن حبان إلى أن يضع الحديث. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه. وقال الدراقطني: حديثه منكر. وذكر له ابن عدي الحديثين اللذين في جزء ابن عرفة في فضل أبي بكر وعمر وهما باطلان. وقال الحاكم: عبد الله يروي عنجماعة من الضعفاء أحاديث موضوعة اه‍ـ ملخصاً. وقال في تهذيب التهذيب قال أبو داود: منكر الحديث. وقال ابن حبان: يضع الحديث. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه اهـ.

وقال الحافظ في التقريب: عبد الله بن إبراهيم بن أبي عمرو الغفاري أبو محمد المدني متروك، ونسبه ابن حبان إلى الوضع، من العاشرة اهـ. وقال الذهبي في الكاشف: عبد الله بن إبراهيم بن الغفاري المدني، عن إبراهيم بن مهاجر ومالك، وعنه الكديمي وأبو قلابة، متهم. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من زار قبري حلت له شفاعتي" رواه البراز، وفيه عبد الله بن إبراهيم الغفاري وهو ضعيف اهـ، وقال في تنزيه الشريعة في حق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال الحاكم: روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيه عليه، وقال الذهبي في التذهيب: ضعفه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم. وقال أبو حاتم: كان في نفسه صالحاً وفي الحديث واه، وضعفه ابن المديني جداً. وقال الحافظ في التقريب: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوي مولاهم ضعيف اهـ. وقال الذهبي في الكاشف: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم المدني عن أبيه وابن المنكدر وعنه أصبغ وقتيبة وهشام، ضعفوه اهـ. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من زار قبري حلت له شفاعتي". رواه البزار، وفيه عبد الله بن إبراهيم الغفاري وهو ضعيف اهـ، وقال الحافظ في التلخيص: ورواه البزار من حديث زيد بن أسلم عن ابن عمر، وفي إسناده عبد الله بن إبراهيم الغفاري وهو ضعيف اهـ. وقال الإمام الحافظ صفي الدين أحمد بن عبد الله الخزرجي الأنصاري في الخلاصة: عبد الله بن إبراهيم بن عمر الغفاري أبو محمد المدني عن أبيه وإبراهيم بن مهاجر، وعنه الحسن بن عرفة وسلمة بن شبيب: قال ابن حبان: يضع اهـ. وقال في التهذيب: قال ابن عدي عامة ما يرويه لا يتابعه عليه الثقات. وقال الدراقطني: حديثه منكر اهـ. قوله: وقد أطال الإمام السبكي في كتابه المسمى شفاء السقام في زيارة قبر خير الأنام في بيان طرق هذا الحديث وبيان من صححه من الأئمة. أقول: قد ردّ الإمام ابن عبد الهادي على السبكي رداً شنيعاً في كتابه المسمى (الصارم المنكى) وقد بين من ضعفه من الأئمة. قوله: منها رواية "من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي".

أقول: هذا الحديث رواه الدراقطني في سننه وإسناده هكذا: حدثنا أبو عبيد والقاضي أبو عبد الله وابن مخلد قالوا حدثنا محمد بن الوليد البسري حدثنا وكيع حدثنا خالد بن أبي خالد وأبو عون عن الشعبي والأسود بن ميمون عن هارون بن أبي قزعة عن رجل من آل حاطب عن حاطب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن مات بأحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة". قال في الصارم والجواب أن يقال: هذا الحديث الذي جعله ثامناً هو بعينه الحديث السادس والسابع، فهو حديث واحد ضعيف مضطرب الإسناد، وهذه الرواية التي ذكرها لم تزده إلا اضطراباً في الإسناد، وفي المتن أيضاً، وقد أخرجها البيهقي في كتاب شعب الإيمان من طريق الدارقطني ثم قال: كذا وجدته في كتابه، وقال غيره سوار بن ميمون وقيل ميمون بن سوار، ووكيع هو الذي يروي عنه أيضاً. وفي تاريخ البخاري: ميمون بن سوار العبدي عن هارون بن أبي قزعة عن رجل من ولد حاطب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات في أحد الحرمين". قال يوسف بن راشد حدثنا وكيع حدثنا ميمون. والحاصل أن هذه الرواية المذكورة عن محمد بن الوليد عن وكيع لم تزد الحديث إلا ضعفاً واضطراباً في إسناده وفي لفظه، فالحديث حديث واحد مجهول الإسناد مضطرب اضطراباً شديداً، ومداره على هارون أبي قزعة، وقيل ابن قزعة، وقيل ابن أبي قزعة، وبعض الرواة يذكره وبعضهم يسقطه، وشيخه بعضهم يذكره وبعضهم يسقطه، وبعضهم يقول فيه عن رجل من آل عمر، وبعضهم يقول عن رجل من آل الخطاب، وبعضهم يقول عن رجل من ولد حاطب، ثم الرجل المبهم بعضهم يسنده عن عمر، وبعضهم يسنده عن حاطب، وبعضهم يرسله ولا يسنده لا عن حاطب ولا عن عمر، وهو الذي ذكره البخاري وغير واحد، ثم الراوي عن هارون يسميه بعض الرواة سوار بن ميمون ويقلبه بعضهم فيقول ميمون ابن سوار، ويسميه بعضهم الأسود بن ميمون، ولا يرتاب من عنده أدنى معرفة بعلم المنقولات أن مثل هذا الاضطراب الشديد من أقوى الحجج وأبين الأدلة على ضعف الخبر، وسقوطه وردّه، وعدم قبوله وترك الاحتجاج به، ومع هذا الاضطراب

الشديد في الإسناد، فاللفظ مضطرب أيضاً اضطراباً شديداً مشعراً بالضعف وعدم الضبط. وأما ما وقع من الزيادة في الإسناد عن وكيع عن خالد بن أبي خالد وأبي عون أو ابن عون عن الشعبي أو بإسقاط الشعبي فإنها زيادة منكرة غير محفوظة، وليس للشعبي مدخل في إسناد هذا الحديث، وخالد بن أبي خالد وأبو عون أو ابن عون قد ذكر في الرواية الأولى أنهما يرويان عن الشعبي وفي الأخرى أنهما يرويان عن هارون بن أبي قزعة، ولم يذكر في الأولى عمن أسند الشعبي الحديث، وأسقط في الأخرى ذكره بالكية، وذكر الرجل الذي يروي عنه هارون الحديث، وكل ذلك مشعر بشدة الضعف وعدم الضبط. وقوله عن خالد بن أبي خالد وهم، وإنما هو ابن أبي خلدة، قال البخاري في تاريخه: خالد بن أبي خلدة الحنفي الأعور، سمع الشعبي وإبراهيم، روى عنه الثوري ومروان ابن معاوية منقطع، وقال ابن أبي حاتم: خالد بن أبي خلدة الحنفي الأعور روى عن الشعبي وإبراهيم وروى عنه الثوري وابن عيينة ومروان بن معاوية سمعت أبي يقول. والحاصل أن ذكر هذه الزيادة المظلمة في الإسناد لم يزد في الحديث قوة بل لم يزده إلا ضعفاً واضطراباً، فقد تبين أن هذا الحديث الذي احتج به المعترض على شيخ الإسلام وجعله ثلاثة أحاديث هو حديث واحد غير صحيح اهـ. وقال في الصارم تحت حديث: "من زار قبري – أو من زارني – كنت له شفيعاً أو شهيداً". ومدار الحديث على هارون، وهو شيخ مجهول لا يعرف له ذكر إلا في هذا الحديث، وقد ذكره أبو الفتح الازدي وقال: هو متروك الحديث لا يحتج به، وقال أبو بشر محمد بن أحمد بن حماد الدولابي في كتاب الضعفاء والمتروكين له: هارون أبو قزعة روى عنه ميمون بن سوار لا يتابع عليه، قاله البخاري، وقال أبو أحمد ابن عدي في كتاب الكامل في معرفة الضعفاء وعلل الأحاديث: هارون أبو قزعة، سمعت ابن حماد يقول قال البخاري: هارون أبو قزعة روى عنه ميمون بن سوار لا يتابع عليه، قال ابن عدي: وهارون أبو قزعة لم ينسب، وإنما روى الشيء الذي أشار إليه البخاري.

هذا جميع ما ذكره ابن عدي في ترجمة هارون، ولو كان عنده شيء عن أمره غير ما قاله البخاري لذكره كما هي عادته. فقد تبين أن مدار هذا الحديث على هارون بن قزعة، وهو شيخ لا يعرف إلا بهذا الحديث الضعيف، ولم يشتهر من حاله ما يوجب قبول خبره، ولم يذكره ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل، ولا ذكره الحاكم أبو أحمد في كتاب الكنى، ولم يذكر النسائي في كتاب الكنى أيضاً اهـ. قال الحافظ في اللسان: هارون بن قزعة عن رجل في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم قال البخاري: لا يتابع عليه. قال الأزدي: هارون أبو قزعة يروي عن رجل من آل حاطب المراسيل. قلت: فتعين أنه الذي أراد الأزدي، وقد ضعفه أيضاً يعقوب بن شيبة، وذكره العقيلي والساجي وابن الجارود في الضعفاء، وأورد العقيلي حديثه من طريق الجندي اه‍ـ ملخصاً. وقال الحافظ أيضاً في اللسان: هارون بن قزعة لا يعرف، قال الأزدي: متروك اهـ. وقال البخاري روى عنه ميمون بن سوار لا يتابع عليه. قلت: ما يبعد أن الأزدي أراد من فوقه الذي تقدم. اهـ. قوله: وفي رواية "من جاءني زائراً لا تعمله حاجة إلا زيارتي كان حقاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة". أقول: رواه الطبراني، وفي سنده مسلمة بن سالم الجهني. قال في اللسان: مسلم بن سالم الجهني البصري كان يكون بمكة، قال أبو داود السجستاني: ليس بثقة اهـ. وقال في التقريب: مسلم بن سالم الجهني بصري، كان يكون بمكة، ضعيف. ويقال فيه مسلمة بزيادة هاء اهـ. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جاءني زائراً لا تعمله حاجة إلا زيارتي كان حقاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة" رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وفيه مسلمة بن سالم وهو ضعيف. قال الإمام ابن عبد الهادي في الصارم: هذا الحديث ليس فيه ذكر زيارة القبر ولا ذكر الزيارة بعد الموت مع أنه حديث ضعيف الإسناد، منكر المتن، لا يصلح الاحتجاج به ولا يجوز الاعتماد على مثله، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، ولا رواه الإمام أحمد في مسنده ولا أحد من الأئمة المعتمد على ما أطلقوه في روايتهم،

ولا صححه إمام يعتمد على تصحيحه، وقد تفرد به هذا الشيخ الذي لم يعرف بنقل العلم ولم يشتهر بحمله ولم يعرف من حاله ما يوجب قبول خبره وهو مسلمة بن سالم الجهني الذي لم يشتهر إلا برواية هذا الحديث المنكر وحديث آخر موضوع ذكره الطبراني بالإسناد المتقدم ومتنه "الحجامة في الرأس أمان من الجنون والجذام والبرص والضرس" وروى عنه حديث آخر منكر من رواية غير العبادي، وإذا انفرد مثل هذا الشيخ المجهول الحال القليل الرواية بمثل هذين الحديثين المنكرين عن عبيد الله بن عمر أثبت آل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في زمانه وأحفظهم عن نافع عن سالم عن أبيه عبد الله بن عمر من بين سائر أصحاب عبيد الله الثقات المشهورين، والأثبات المتقنين، علم أنه شيخ لا يحل الاحتجاج بخبره، ولا يجوز الاعتماد على روايته. هذا مع أن الراوي عنه وهو عبد الله بن محمد العبادي أحد الشيوخ الذين لا يحتج بما تفردوا به، وقد اختلف عليه في إسناد الحديث فقيل عنه عن نافع عن سالم كما تقدم، وقيل عنه عن نافع وسالم، وقد خالفه من هو أمثل منه وهو مسلم بن حاتم الأنصاري وهو شيخ صدوق فرواه عن مسلمة بن سالم عن عبد الله – يعني العمري- عن نافع عن سالم عن ابن عمر قال: قال رسول اله صلى الله عليه وسلم: "من جاءني زائراً لم ينزعه حاجة إلا زيارتي كان حقاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة". هكذا رواه الحافظ أبو نعيم عن أبي محمد بن حبان عن محمد بن أحمد بن سليمان الهروي عن مسلم بن حاتم الأنصاري، وهذه الرواية رواية مسلم بن حاتم التي قال فيها عن عبد الله وهو العمري الصغير المكبر1 الضعيف أولى من رواية العبادي التي اضطرب فيها وقال عن عبيد الله يعني العمري الكبير المصغر الثقة الثبت، وكلا الروايتين لا يجوز الاعتماد عليهما لمدارهما على شيخ واحد غير مقبول الرواية وهو مسلمة بن سالم، وهو شيبه بموسى بن هلال صاحب الحديث المتقدم الذي يرويه عن عبد الله العمري أو عن أخيه عبيد الله وقد أختلف عليه في ذلك كما اختلف على مسلمة. اهـ.

_ 1 قوله"المكبر" يعني به المسمى عبد الله، وعن أخيه "المصغر" يعني المسمى عبيد الله.

قوله: وفي رواية "من جاءني زائراً كان له حقاً على الله أن أكون له شفيعاً يوم القيامة". أقول: قد روى1 أبو بكر بن المقري في معجمه بهذه اللفظة، وفي سنده أيضاً مسلمة بن سالم الجهني. قوله: وفي رواية لأبي يعلى والدراقطني والطبراني والبيهقي وابن عساكر "من حج فزار قبري –وفي رواية فزارني– بعد وفاتي عند قبري كان كمن زارني في حياتي". أقول: في سنده حفص بن أبي داود وليث بن أبي سليم، وفي بعض طرقه الحسن ابن طيب وأحمد بن رشدين، وكلهم ضعفاء مجروحون، قال الإمام ابن عبد الهادي في الصارم: واعلم أن هذا الحديث لا يجوز الاحتجاج به ولا يصلح الاعتماد على مثله، فإنه حديث منكر المتن، ساقط الإسناد، لم يصححه أحد من الحفاظ، ولا احتج به أحد من الأئمة، بل ضعفوه وطعنوا فيه، وذكر بعضهم أنه من الأحاديث الموضوعة والأخبار المكذوبة، ولا ريب في كذب هذه الزيادة فيه، وأما الحديث بدونها فهو منكر جداً، وراويه حفص بن أبي داود هو حفص بن سليمان أبو عمر الأسدي الكوفي البزار القاري الغاضري، وهو صاحب عاصم بن أبي النجود في القراءة وابن امرأته، وكان مشهوراً بمعرفة القراءة ونقلها، وأما الحديث فإنه لم يكن من أهله ولا ممن يعتمد عليه في نقله، ولهذا جرحه الأئمة وضعفوه وتركوه، واتهمه بعضهم، قال عثمان بن سعيد الدارمي وغيره عن يحيى بن معين: ليس بثقة. وذكر العقيلي عن يحيى أنه سئل عنه فقال: ليس بشيء، وقال عبد الله بن الإمام أحمد سمعت أبي يقول: حفص بن سليمان أبو عمر القاري متروك الحديث. وقال البخاري: تركوه. وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني قد فرغ منه من دهر، وقال مسلم بن الحجاج: متروك. وقال علي بن المديني: ضعيف الحديث وتركته على عمد. وقال النسائي: ليس بثقة ولا يكتب حديثه. وقال مرة: متروك الحديث. وقال صالح بن محمد

_ 1 الظاهر أن يقول: قد رواه.

البغدادي: لا يكتب حديثه، وأحاديثه كلها مناكير. وقال زكريا الباجي: يحدث عن سماك وعلقمة بن مرثد وقيس بن مسلم وعاصم أحاديث بواطيل. وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث. وقال ابن أبي حاتم سألت أبي عنه فقال: لا يكتب حديثه هو ضعيف الحديث لا يصدق متروك. قال ما حاله في الحروف؟ قال: أبو بكر بن عياش أثبت منه. وقال عبد الرحمن بن يوسف بن خراش: كذاب متروك يضع الحديث. وقال الحاكم أبو أحمد: ذاهب الحديث. وقال الدارقطني: ضعيفه. وقال أبو حاتم بن حبان: كان يقلب الأسانيد، ويرفع المراسيل. وكان يأخذ كتب الناس فينسخها ويرويها من غير سماع، وقال ابن عدي أخبرنا الباجي حدثنا أحمد بن محمد البغدادي قال سمعت يحيى بن معين يقول: "كان حفص بن سليمان وأبو بكر بن عياش من اعلم الناس بقراءة عاصم، وكان حفص أقرأ من أبي بكر، وكان أبو بكر صدوقاً، وكان حفص كذاباً. وروى ابن عدي لحفص أحاديث منكرة غير محفوظة منها هذا الحديث الذي رواه في الزيارة، قال: وهذه الأحاديث يرويها حفص بن سليمان، ولحفص غير ما ذكرت، وعامة حديثه عمن روى عنهم غير محفوظ. وقال العقيلي حدثنا عبد الله بن أحمد قال حدثني أبي قال حدثنا يحيى القطان قال ذكر شعبة حفص بن سليمان وقال: كان يأخذ كتب الناس وينسخها، وقال شعبة: أخذ مني حفص بن سليمان كتاباً فلم يرده، وقال العقيلي أيضاً: حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا الحسن بن علي حدثنا شبابة قال: قلت لأبي بكر بن عياش: أبو عمر رأيته عند عاصم؟ قال: قد سألني عن هذا غير واحد ولم يقرأ على عاصم أحد إلا وأنا أعرفه، ولم أر هذا عند عاصم قط. وقال أبو بشر الدولابي في كتاب الضعفاء والمتروكين: حفص بن سليمان متروك الحديث. وقد روى البيهقي في السنن الكبير حديث حفص الذي رواه في الزيارة وقالك تفرد به حفص وهو ضعيف. وقال في شعب الإيمان: وروى حفص بن أبي داود – وهو ضعيف – عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر مرفوعاً: "من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي". أخبرنا أبو سعد الماليني أنبأنا أبو أحمد

ابن عدي حدثنا عبد الله بن أحمد البغوي حدثنا أبو الربيع الزهراني حدثنا حفص بهذا الحديث، وأخبرنا علي بن أحمد بن عبدان أنبأنا أحمد بن عبيد حدثني محمد بن إسحاق الصفار حدثنا بكار حدثنا حفص بن سليمان فذكره وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال البيهقي: تفرد به حفص وهو ضعيف في رواية الحديث. هكذا ضعف البيهقي حفصاً في كتاب السنن الكبير وفي كتاب شعب الإيمان وذكر أنه تفرد برواية هذا الحديث. فإذا كانت هذه حال حفص عند أئمة هذا الشأن فكيف يحتج بحديث رواه أو يعتمد على خبر نقله؟ مع أنه قد اختلف عليه في رواية هذا الحديث فقيل عنه عن ليث بن أبي سليم كما تقدم مع أن ليثاً مضطرب الحديث عندهم، وقيل عنه عن كثير ابن شنظير عن ليث، قال أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي: حدثنا يحيى بن أيوب المقابري حدثنا حسان بن إبراهيم حدثنا حفص بن سليمان عن كثير بن شنظير عن ليث ابن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من حج فزارني بعد وفاتي عند قبري فكأنما زارني في حياتي". اه‍ـ وأيضاً قال في الصارم: وليث بن أبي سليم مضطرب الحديث قاله الإمام أحمد بن حنبل. وقال أبو معمر القطيعي: كان ابن عيينة يضعف ليث بن أبي سليم، وقال يحيى بن معين والنسائي: ضعيف، وقال السعدي: يضعف حديثه. وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا يحيى بن معين عن يحيى بن سعيد القطان أنه كان لا يحدث عن ليث بن أبي سليم، وقال أحمد بن سليمان الرُّهاوي عن مؤمل بن المفضل قلنا لعيسى بن يونس: ألم تسمع من ليث بن أبي سليم؟ قال: قد رأيته وكان قد اختلط، وكان يصعد المنارة بارتفاع النهار فيؤذن. وقال ابن أبي حاتم سمعت أبي وأبا زرعة يقولان: ليث لا يشتغل به، هو مضطرب الحديث. وقال أيضاً سمعت أبا زرعة يقول: ليث بن أبي سليم لين الحديث، لا تقوم به الحجة عند أهل العلم بالحديث. اهـ. وقال الذهبي في الميزان في ترجمة حفص بن سليمان: وكان ثبتاً في القراءة، واهياً في الحديث، فإنه كان لا يتقن الحديث ويتقن القرآن ويجودّه، وإلا فهو في نفسه

صادق اهـ. وأيضاً فيه قال حنبل بن إسحاق عن أحمد: ما به بأس، وروى الحسين بن حبان عن ابن معين قال: هو أصح قراءة من أبي بكر وأبو بكر أوثق منه. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: متروك الحديث. فهذه رواية ابن أبي حاتم عن عبد الله، وأما رواية أبي علي الصواف عن عبد الله عن أبيه فقال: صالح. وقال ابن معين أيضاً: ليس بثقة. وقال البخاري: تركوه، وقال أبو حاتم: متروك، وقال ابن خراش: كذاب يضع الحديث. وقال ابن عدي: لا يصدق، عامة أحاديثه غير محفوظة، وقال ابن حبان يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل، وكان يأخذ كتب الناس فينسخها ويرويها من غير سماع. وقال أحمد بن حنبل أخبرنا يحيى القطان قال: ذكر شعبة حفص بن سليمان فقال: كان يأخذ كتب الناس وينسخها، أخذ مني كتاباً فلم يرده، وقال أحمد بن محمد الحضرمي: سألت يحيى بن معين عن حفص بن سليمان أبي عمرو البزار فقال: ليس بشيء اهـ، وقال الذهبي في الكاشف: ثبت في القراءة لا الحديث. قال البخاري: تركوه. انتهى. وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: حفص بن سليمان الأسدي أبو عمرو البزاز الغاضري بمجمعتين وهو حفص بن أبي داود القارئ صاحب عاصم ويقال له حفيص متروك الحديث مع إمامته في القراءة. اهـ. وقال الحافظ في التلخيص: أما حفص فهو ابن سليمان ضعيف الحديث، وإن كان أحمد قال فيه صالح اهـ. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: وفيه حفص بن أبي داود القارئ وثقه أحمد وضعفه جماعة اهـ. وقال في الخلاصة: حفص بن سليمان الأسدي الغاضري بمعجمتين ثم مهملة أبو عمرو البزاز ابن امرأة عاصم ويقال له حفيص بن أبي داود الكوفي المقرئ عن علقمة ابن مرثد ومحارب بن دثار، وعنه آدم بن أبي إياس، ومحمد بن سليمان لوين وعلى بن حجر وخلق، قال البخاري: تركوه في رواية الحديث، وأما القراءة فهو فيها ثبت بإجماع اهـ. وقال في تنزيه الشريعة: حفص بن أبي داود، وهو حفص بن سليمان صاحب القراءة، قال ابن خراش: كذاب يضع الحديث، اه‍ـ وقال الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري في ترجمة ليث بن أبي سلم: فيه خلاف، وقد حدث عنه الناس

وضعفه يحيى والنسائي، وقال ابن حبان: اختلط في آخر عمره. وقال مؤمل بن الفضل سألت عيسى بن يونس عن ليث فقال: رأيته وكان قد اختلط، وكنت ربما مررت به ارتفاع النهار وهو على المنارة يؤذّن، وقال الدارقطني: كان صاحب سنة، إنما أنكروا عليه الجمع بين عطاء وطاوس ومجاهد حسبُ، ووثقه ابن معين في رواية. اهـ. وقال النووي في شرح صحيح مسلم: وأما ليث بن سليم فضعفه الجماهير، قالوا: واختلط واضطربت أحاديثه، قالوا: وهو ممن يكتب حديثه، قال أحمد بن حنبل: هو مضطرب الحديث ولكن حدَّث الناس عنه، وقال الدارقطني وابن عدي: يكتب حديثه، وقال كثيرون: لا يكتب حديثه، وامتنع كثيرون من السلف من كتابة حديثه اهـ، وقال في تهذيب الأسماء: اتفق العلماء على ضعفه، وقال ابن جملة في فوائده: وأكثر المحدثين على تضعيفه في الحديث، وصرح جماعة من أئمتهم بتركه. اهـ. وفي الأنساب للسمعاني: ليث بن أبي سليم بن زُنيم الليثي من الأبناء، وأصله من أبناء فارس، واسم أبي سليم أنس، كان مولده بالكوفة فكان معلماً بها يروي عن مجاهد وطاوس وروى عنه الثوري وأهل الكوفة، وكان من العباد، ولكن اختلط في آخر عمره حتى لا يدري ما كان يحدث به، وكان يقلب الأسانيد، ويرفع المراسيل، ويأتي عن الثقات بما ليس من أحاديثهم، كل كان منه من اختلاط، تركه يحيى بن القطان وابن مهدي وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين، ومات ليث سنة ثلاث وأربعين ومائة، قال عيسى بن يونس: ليث بن أبي سليم كان قد اختلط، ربما مررت به ارتفاع النهار وهو على المنارة يؤذن. وذكر محمد بن خلف العسقلاني أنه رأى مجاهداً في النوم فقال له: يا أبا الحجاج أي شيء حال ليث بن أبي سليم عندكم؟ قال: مثل حاله عندكم، هكذا في تراجم الحفاظ للبدخشى، وقال الحافظ في التقريب: الليث بن أبي سليم بن زُنيم بالزاى والنون مصغراً، واسم أبيه أيمن، وقيل أنس، وقيل غير ذلك صدوق، اختلط أخيراً ولم يتميز حديثه فترك اهـ. وقال الحافظ في الفتح: قوله ولم يصح وذلك لضعف

إسناده واضطرابه، تفرد به ليث بن أبي سليم وهو ضعيف. اهـ. وقال الذهبي في الميزان في ترجمة الحسن بن الطيب: الحسن بن الطيب البلخي عن قتيبة، قال ابن عدي: كان له عم يقال له الحسن بن شجاع فادعى كتبه حيث وافق اسمه اسمه، أخبرني بهذا عبدان، وكان عبدان يروي عن عمه، وقال ابن عدي: وقد حدث أيضاً بأحاديث سرقها، وكان قد حمل إلى بغداد وقرئ عليه، وقال الخطيب: حدث عن هدبة وقتيبة وأبي كامل الجحدري، روى عنه ابن المظفر والزيات وطائفة، قال البرقاني: إنه ذاهب الحديث، وقال الدارقطني: لا يساوي شيئاً، يحدث بما لا يسمع، وعن مطين: إنه كذاب. اهـ. وقال في الميزان في ترجمة أحمد بن رشدين قال ابن عدي: كذبوه وأنكرت عليه أشياء، قلت: فمن أباطيله رواية الطبراني وغيره عنه قال: حدثنا حميد بن علي البجلي الكوفي حدثنا ابن أبي لهيعة عن أبي عثانة عن عقبة بن عامر مرفوعاً "قالت الجنة يا رب، أليس وعدتني أن تزينني بركنين؟ قال: ألم أزينك بالحسن والحسين؟ فماست الجنة كما تميس العروس" اهـ. وقال في تنزيه الشريعة: أحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدين بن سعد أبو جعفر المصري، قال ابن عدي: كذبوه، اهـ. وقال السيوطي في التدريب: وأوهى أسانيد المصريين أحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدين بن سعد عن أبيه عن جده عن قرة بن عبد الرحمن عن كل من روى عنه فإنها نسخة كبيرة اهـ. وقال الحافظ في اللسان: محمد بن حجاج بن رشدين المهري عن أبيه عن جده قال العقيلي: في حديثه نظر، روى عنه ابنه أحمد بن محمد، ويروى أيضاً عن ابن وهب. توفي سنة 231. اهـ. وقال ابن عدي: كأن بيت رشدين خصوا بالضعف، رشدين ضعيف، وابنه حجاج ضعيف، وللحجاج ابن يقال له محمد ضعيف. قلت: وابن محمد أحمد ضعيف، وقد تقدم، ويقال له أحمد بن رشدين ينسب إلى جده الأعلى. اهـ. قوله: وفي رواية "من حج فزارني في مسجدي بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي".

أقول: رواه بهذا اللفظ بعض الحفاظ في زمن عبد الله بن منده، وفي سنده حفص بن سليمان وليث بن أبي سليم وقد تقدم الكلام فيهما، قال في الصارم: وقال بعض الحفاظ في زمن عبد الله بن منده: حدثنا أبو الحسن حامد بن حماد بن المبارك السر من رأى1 بنصيبين حدثنا أبو يعقوب إسحاق بن سيار بن محمد النصيبي حدثنا عمر بن سيار بمصر حدثنا حفص بن سليمان، عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن عبد الله بن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من حج فزارني في مسجدي بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي" هكذا رواه بهذا اللفظ اهـ. قوله: وفي رواية "من زارني إلى المدينة كنت له شفيعاً وشهيداً". أقول: قال في (الصارم) والجواب أن يقال: هذا اللفظ المذكور غلط في هذا الحديث -حديث نافع عن ابن عمر- ولفظ الزيارة فيه غير محفوظ، ولو كان محفوظاً لم يكن فيه حجة على محل النزاع، والمحفوظ في هذا عن أيوب السختياني ما رواه هشام الدستوائي وسفيان بن موسى عنه عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت فنه من مات بها كنت له شفيعاً أو شهيداً". هذا هو حديث أيوب عن نافع، ليس فيه ذكر الزيارة أصلاً، وكذلك رواه الحسن بن أبي جعفر الجعفري -وهو ضعيف- عن أيوب عن نافع عن ابن عمر، ورواه وهيب عن أيوب عن نافع مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه إسماعيل بن علية عن أيوب قال نبئت عن نافع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال موسى بن هارون: ووهيب وابن علية اثبت من الدستوائي ومن الجعفري ومن سفيان بن موسى، وقد ذكرنا ألفاظ هذا الحديث فيما تقدم، وذكرنا من رواته نافعاً من أصحابه، وحكينا ما ذكره الدارقطني وغيره في ذلك، وقد وقف هذا المعترض على ما ذكره في كتاب العلل من الاختلاف في إسناد الحديث ومتنه ولم ينقل منه إلا طريقاً واحدة أخطأ فيها، ولفظاً

_ 1 سر من رأى اسم مدينة بين بغداد وتكريت استحدثه المعتصم، قال أبو عثمان المازني: سألني الخليفة الواثق: كيف ينسب رجل إلى سر من رأى؟ فقلت: سرى، بضم السين وتشديد الراء كالنسبة إلى تابط شراً: تأبطى.

واحداً وهم فيه الناقل، وأعرض عن ذكر الطرق الواضحة والألفاظ الصحيحة، وهل هذا إلا عين الخذلان أن ينظر الرجل في ألفاظ الحديث وطرقه في موضع واحد فينقل منها الضعيف السقيم، ويدع القوي الصحيح من غير بيان لذلك، ثم يعتل بأن النسخة التي نقل منها سقيمة. وهذا الحديث الذي نقله المعترض من كتاب العلل للدارقطني أخطأ راويه في إسناده، ووهم في متنه، أما خطؤه في إسناده فقوله: "عن عون بن موسى" وإنما هو سفيان بن موسى، وهو شيخ من أهل البصرة روى له مسلم في صحيحه حديثاً واحداً متابعة يرويه عن أيوب عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أقيمت الصلاة ووضع العشاء فابدءوا بالعشاء" وقد ذكر ابن أبي حاتم أنه سئل عنه فقال مجهول، وذكره ابن حبان في آفات الثقات. وأما وهمه في متنه فقوله صلى الله عليه وسلم: "من زارني إلى المدينة" ولفظ الزيارة في حديث أيوب عن نافع ليس بصحيح، والمعروف من حديثه عنه "من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليفعل"، وأصح منه الفظ الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يصبر عن لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة". اهـ. قوله: وفي رواية: "من زارني إلى المدينة كنت له شفيعاً وشهيداً، ومن مات بأحد الحرمين بعثه الله من الآمنين يوم القيامة". رواه بهذه الزيادة أبو داود الطيالسي. أقول: قال في (الصارم) والجواب أن يقال: هذا الحديث ليس بصحيح لانقطاعه وجهالة إسناده واضطرابه، ولأجل اختلاف الرواة في إسناده واضطرابهم فيه جعله المتعرض ثلاثة أحاديث، وهو حديث واحد ساقط الإسناد لا يجوز الاحتجاج به ولا يصلح الاعتماد على مثله كما سنبين ذلك إن شاء الله تعالى، وقد خرجه البيهقي في كتاب شعب الإيمان وفي كتاب السنن الكبير، وقال في كتاب السنن بعد تخريجه، هذا إسناد مجهول. (قلت) : وقد خالف أبو داود غيره في إسناده ولفظه، وسوار بن ميمون شيخه يقلبه بعض الرواة ويقول ميمون بن سوار، وهو شيخ مجهول،

لا يعرف بعدالة ولا ضبط، ولم يشتهر بحمل الحديث ونقله. وأما شيخ سوار في هذه الرواية رواية أبي داود فإنه شيخ مبهم، وهو أسوأ حالاً من المجهول، وبعض الرواة يقول فيه" عن رجل من آل عمر" كما في هذه الرواية، وبعضهم يقول: "عن رجل من ولد حاطب"، وبعضهم يقول: "عن رجل من آل الخطاب". وقد قال البخاري في تاريخه: ميمون بن سوار العبدي عن هارون أبي قزعة عن رجل من ولد حاطب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات في أحد الحرمين" قاله يوسف بن راشد حدثنا وكيع حدثنا ميمون، هكذا سماه البخاري ميموناً من رواية وكيع عنه، ولم يذكر فيه عمر، وزاد فيه ذكر هارون، وقال: "عن رجل من ولد حاطب". وفي هذا مخالفة لرواية أبي داود من وجوه. وقال في حرف الهاء من التاريخ هارون أبو قزعة عن رجل من ولد حاطب عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من مات في أحد الحرمين" روى عنه ميمون بن سوار لا يتابع عليه، وقال العقيلي في كتاب الضعفاء: هارون بن قزعة مدني، روى عنه سوار بن ميمون حدثني آدم قال سمعت البخاري يقول: هارون بن قزعة مدني لا يتابع عليه، هكذا ذكر العقيلي هارون بن قزعة، والذي في تاريخ البخاري: هارون أبو قزعة، وقد يكون اسم أبي هارون قزعة وهارون يكنى بأبي قزعة. ثم قال العقيلي: حدثنا محمد بن موسى حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي حدثنا عبد الملك بن إبراهيم الجدي حدثنا شعبة عن سوار بن ميمون عن هارون بن قزعة عن رجل من آل الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من زارني متعمداً كان في جواري يوم القيامة، ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله من الآمنين يوم القيامة". قال العقيلي بعد ذكر هذا الحديث: الرواية في هذا لينة. (قلت) : هكذا في هذه الرواية: "عن رجل من آل الخطاب" وهو يوافق رواية الطيالسي "عن رجل من آل عمر"، وكأنه تصحيف من حاطب، والذي في تاريخ البخاري "عن رجل من ولد حاطب" وليس في هذه الرواية التي ذكرها العقيلي ذكر عمر كما في رواية الطيالسي، وكذلك رواية وكيع التي ذكرها البخاري، وليس فيها ذكر عمر أيضاً، فالظاهر أن ذكره وهم من

الطيالسي، وكذلك إسقاطه هارون من روايته وهم أيضاً. اهـ. قوله: ثم ذكر أحاديث كلها تدل على مشروعية الزيارة. أقول: قد رد على كلها صاحب الصارم، فلم يبق واحد منها قابلاً لأن يحتج به على مشروعية الزيارة. قوله: فتلك الأحاديث كلها مع ما ذكرنا صريحة في ندب بل تأكد زيارته صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً للذكر والأنثى. أقول: قد عرفت فيما تقدم أن تلك الأحاديث ليست قابلة لأن يحتج بها على حكم من الأحكام الشرعية، على أن بعضا فيها غير دال على المطلوب، فإنه ليس فيه ذكر القبر ولا ذكر الوفاة. قوله: والزيارة شاملة للسفر، لأنها تستدعي الانتقال من مكان الزائر إلى مكان المزور كلفظ المجيء الذي نصت عليه الآية الكريمة. أقول: هب أن الزيارة مطلقة شاملة للسفر، ولكن قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى". مقيد لذلك الإطلاق، والتأويل الذي ذكره صاحب الرسالة ستطلع على فساده، على أن لفظ الزيارة مجمل كالصلاة والزكاة والربا فإن كل زيارة قبر ليست قربة بالإجماع للقطع بأن الزيارة الشركية والبدعية غير جائزة، فلما زار النبي صلى الله عليه وسلم القبور وقع ذلك الفعل بياناً لمجمل الزيارة، ولا يثبت السفر من فعله صلى الله عليه وسلم مع أن الخروج إلى مطلق المسجد أيضاً شامل للسفر وهو قربة كما سيأتي بيانه، فيكون السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة أيضاً قربة والخصم أيضاً لا يقول به، وكذلك الصلاة والذكر شاملان لجميع الصلوات المبتدعة والأذكار المحدثة، فلو سوغ الاستدلال بمثل تلك الإطلاقات للزم جواز تلك الصلوات المبتدعة والأذكار المحدثة. قوله: وإذا كانت كل زيارة قربة كان كل سفر إليها قربة. أقول: هذا إما مبنى على القاعدة الآتية وهي فاسدة كما سيأتي بيانه، والمبني على

الفاسد فاسد، أو مبني على أن الزيارة شاملة للسفر فالجواب ما تقدم آنفاً من كون لفظ الزيارة مجملاً ووقوع فعل النبي صلى الله عليه وسلم بياناً لإجماله وكون حديث: "لا تشد الرحال" الحديث مقيداً لإطلاق الزيارة على تقدير تسليم شمول الزيارة للسفر. قوله: وقد صح خروجه صلى الله عليه وسلم لزيارة قبور أصحابه بالبقيع وبأحد، فإذا ثبت مشروعية الانتقال لزيارة قبر غير قبره صلى الله عليه وسلم فقبره الشريف أولى. أقول: الثابت بالحديث المذكور إنما هو مشروعية الانتقال الذي هو دون السفر للزيارة، ولا ينكره أحد، والانتقال الذي تنكر مشروعيته هو السفر وهو ليس بثابت. قوله: والقاعدة المتفق عليها أن وسيلة القربة المتوقفة عليها قربة -إلى قوله-: صريحة في أن السفر للزيارة قربة مثلها. أقول: فيه كلام من وجوه: (الأول) أن هذه القاعدة في أي كتاب من كتب الأصول والفقه؟ وما الدليل عليها من الكتاب والسنة؟ ولابد من نقل الإجماع عليها. و (الثاني) أن هذه القاعدة منقوضة بأن إتيان مسجد قباء والصلاة فيه ركعتين قربة لما روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء كل سبت ماشياً وراكباً ويصلي فيه ركعتين، وعن أسيد بن ظهير الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجد قباء كعمرة" رواه الترمذي وابن ماجه والبيهقي، وعن سهل بن حنيف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم دخل مسجد قباء فركع فيه أربع ركعات كان ذلك عدل رقبة" رواه الطبراني في الكبير. مع أن السفر إلى قباء ليس بقربة، فإنه سفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، وكذلك تحية المسجد في غير المساجد الثلاثة قربة، لحديث أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس" متفق عليه. وكذلك الغدوّ إلى مسجد غير المساجد الثلاثة لتعليم الآيتين إذ قراءتهما قربة لحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفلا

يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله". الحديث رواه مسلم. وكذلك الخروج إلى مسجد غير المساجد الثلاثة قربة لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غدا إلى المسجد أو راح أعدّ الله له نزله من الجنة كلما غدا أو راح" متفق عليه. ولحديث أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى". متفق عليه. ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة". متفق عليه. وعن بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة". رواه أبو داود والترمذي. وعن أبي أمامة رضي الله عنه: "من خرج إلى المسجد فهو ضامن على الله". رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه، مع أن السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة ليس بقربة، وكذلك دخول بيت الله قربة مع أن وسيلته في بعض الأحيان -أي دفع الرشوة التي يأخذها الحجبة- ليس بقربة، كذا في كتب الفقه، وكذلك الحج قربة مع أن وسيلته في بعض الأزمنة والأمكنة دفع الرشوة وإعطاء المكس والخفارة، وهي ليست من القربة في شيء. و (الثالث) أن القربة على نوعين: نوع ورد الترغيب فيه من الشارع بخصوصه كصلاة الليل والضحى وغيرهما، ونوع لم يرد الترغيب فيه من الشارع بخصوصه بل وقع الترغيب في عام وهي من أفراده، كالنفل الذي يؤدي بعد الظهر عقب الراتبة فإنه لم يرد في حقه ترغيب في حديث بل إنما ورد الترغيب في مطلق التطوع وهو من أفراده، والقربة التي هي من النوع الأول قربة بالذات، وأما القربة التي هي من النوع الثاني فإنها داخلة في عموم الأمر بزيارة القبور1، ولم يثبت حديث في خصوص كون زيارة قبره صلى الله عليه وسلم قربة كما عرفت فيما تقدم، فالقربة حقيقة فيما هنالك مطلق الزيارة وهو لا يتوقف على السفر بل تحصل هذه القربة بزيارة قبر من قبور بلد الزائر وقريته،

_ 1 لعله سقط من هنا بيان أن عموم الأمر بصلاة التطوع من هذا النوع، وأن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم تدخل في عموم الأمر بزيارة القبور.

وإن كان فرده الكامل هو زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم. و (الرابع) أنا لا نسلم أن مطلق زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم قربة، بل القربة هي الزيارة التي لا يقع فيها شد رحل بدليل حديث "لا تشد الرحال". و (الخامس) أنه لو سلم كون مطلق زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم قربة فلا نسلم كونها متوقفة على السفر للزيارة، لجواز أن يسافر لزيارة المسجد النبوي أو أمر آخر من التجارة وغيرها، ثم بعد وصول المدينة الطيبة يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فحينئذ تكون الزيارة متوقفة على مطلق السفر لا على سفر الزيارة1، فيكون مطلق السفر قربة لا سفر الزيارة، ومطلوب الخصم هذا دون ذاك فلا يتم التقريب. (السادس) أنه لو سلمت هذه القاعدة فهي إنما هي وسيلة لم ينه الشارع عنها، والسفر للزيارة قد نهى الشارع عنه بدليل حديث "لا تشد الرحال". قوله: ومن زعم أن الزيارة قربة في حق القريب فقط فقد افترى على الشريعة الغراء فلا يعول عليه. أقول: هذا ليس من الافتراء على الشريعة في شيء بل هو الحق والصواب، فإن لفظ الزيارة الواقعة في الأحاديث مجمل يشمل الزيارة البدعية والشركية وهما غير مرادتين بالإجماع ولم يعلم أن المراد أي الزيارة، فبين النبي صلى الله عليه وسلم المراد منها بفعله، والثابت من قوله صلى الله عليه وسلم ليس إلا زيارة القبور القريبة التي ليست بينه صلى الله عليه وسلم وبينها مسافة سفر، ولو سلم أن المراد بالزيارة في الأحاديث مطلقها فحديث "لا تشد الرحال" يكون مقيداً لها، على أن لو كانت الزيارة قربة في حق البعيد لفعلها النبي صلى الله عليه وسلم أو واحد من أصحابه في زمنه صلى الله عليه وسلم أو بعده، ولما لم يفعلها النبي صلى الله عليه ولا أحد من أصحابه في زمنه صلى الله عليه وسلم ولا بعده، بل ولا فعلها واحد من التابعين وتبع التابعين علم أن السفر لزيارة القبور ليس من القربة في شيء. قوله: وأما تخيل بعض المحرومين أن منع الزيارة أو السفر إليها من باب المحافظة

_ 1 إنما يجيء هذا في غير المقيم بالمدينة وجوارها.

على التوحيد، وأن ذلك مما يؤدي إلى الشرك، فهو تخيل باطل. أقول: لعل المراد ببعض المحرومين شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله وأتباعه، ولكن لم أجد بعد1 ذلك التخيل في كلام الشيخ المذكور ولا في كلام أحد من أتباعه، بل قد وجد في غير ما موضع من كلامه ما يدل صراحة على مشروعية زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم نقل بعض عباراته في هذا الباب فتذكر، فعل هذا افتراء على الشيخ رحمه الله، نعم قد منع شيخ الإسلام الإفراط في تعظيم قبره صلى الله عليه وسلم معللاً بالعلة المذكورة، وعليه اعترض السبكي في شفاء الأسقام حيث قال: فإن قلت: الفرق أيضاً أن غيره لا يخشى فيه محذور، وقبره صلى الله عليه وسلم يخشى الإفراط في تعظيمه أن يعبد. قلت: هذا كلام تقشعر منه الجلود، ولولا خشية اغترار الجهال به لما ذكرته، فإن فيه تركاً لما دلت عليه الأدلة الشرعية بالآراء الفاسدة الخيالية، وكيف يقدم على تخصيص قوله صلى الله عليه وسلم "زوروا القبور" وعلى ترك قوله "من زار قبري وجبت له شفاعتي" وعلى مخالفة إجماع السلف والخلف بمثل هذا الخيال الذي لم يشهد به كتاب ولا سنة، وهذا بخلاف النهي عن اتخاذه مسجداً وكون الصحابة احترزوا عن ذلك للمعنى المذكور، لأن ذلك قد ورد النهي فيه وليس لنا أن نشرع أحكاماً من قبلنا {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} فمن منع زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقد شرع في الدين ما لم يأذن به الله، وقوله مردود عليه، ولو فتحنا هذا الخيال الفاسد لتركنا كثيراً من السنن بل ومن الواجبات، والقرآن كله والإجماع المعلوم من الدين بالضرورة وسير الصحابة والتابعين وجميع علماء المسلمين والسلف والصالحين على وجوب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم والمبالغة في ذلك، ومن تأمل القرآن العزيز وما تضمنه من التصريح والإيماء إلى وجوب المبالغة في تعظيمه وتوقيره والأدب معه وما كانت الصحابة يعاملونه به من ذلك امتلأ قلبه إيماناً واحتقر هذا الخيال الفاسد واستنكف

_ 1 لعل كلمة "بعد": هنا من سبق القلم أو غلط الطبع، لأنها تدل على أنه يتوقع أن يجد ذلك بعد الآن، وكيف وقد وجد ما يخالفه؟ وهو ما ذكره بعده من تصريح شيخ الإسلام بأن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم قربة، وهو ما تقدم في أول الكتاب.

أن يصغي إليه، والله تعالى هو الحافظ لدينه {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} و {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} . وعلماء المسلمين مكلفون بأن يبينوا للناس ما يجب من الأدب والتعظيم والوقوف عند الحد الذي لا يجوز مجاوزته بالأدلة الشرعية، وبذلك يحصل الأمن من عبادة غير الله، ومن أراد الله ضلاله من أفراد الجهال فلن يستطيع أحد هدايته، فمن ترك شيئاً من التعظيم المشروع لمنصب النبوة زاعماً بذلك الأدب مع الربوبية فقد كذب على الله تعالى وضيع ما أمر به في حق رسله، كما أن من أفرط وجاوز الحد إلى جانب الربوبية فقد كذب على رسل الله وضيع ما أمروا به في حق ربهم سبحانه وتعالى، والعدل حفظ ما أمر الله به في الجانبين، وليس في الزيارة المشروعة من التعظيم ما يفضي إلى محذور، انتهى ما ذكره1. وقد أجاب عنه الإمام العلامة أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي في الصارم المنكى2 فقال: "قوله: فإن قلت الفرق أيضاً أن غيره لا يخشى فيه محذور وقبره يخشى الإفراط في تعظيمه أن يعبد – سؤال لا تخفى صحته وقوته على أهل العلم والإيمان، وقوله في جوابه: هذا كلام تقشعر منه الجلود ولولا خشية اغترار الجهال به لما ذكرته. فيقال: نعم تقشعر منه جلود عباد القبور الذين إذا دعوا إلى عبادة الله وحده وأن لا يشرك به، ولا يتخذ من دونه وثن يعبد، اشمأزت قلوبهم، واقشعرت جلودهم واكفهرت وجوههم، ولا يخفى أن هذا نوع شبه وموافقة للذين قال الله فيهم {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} . ثم يقال: أما جلود أهل التوحيد المتبعين للرسول، العالمين بمقاصده، الموافقين له فيما أحبه ورغب فيه، وكرهه وحذر منه، فإنها لا تقشعر من هذا الفرق، بل تزيد قلوبهم وجلودهم طمأنينة وسكينة {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} . وأما الذين في قلوبهم مرض فلا تزيدهم قواعد التوحيد وأدلته، وحقائقه وأسراره إلا رجساً إلى رجسهم، وإذا سلك التوحيد في قلوبهم دفعته قلوبهم وأنكرته ظناً منهم أنه تنقص وهضم

_ 1 أي السبكي في شفائه. 2 ص332-338.

للأكابر وإزراء بهم وحط لهم عن مراتبهم، وأتباع هؤلاء ضعفاء العقول، وهم أتباع كل ناعق، يميلون مع كل صائح، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق، وأما أهل العلم والإيمان فإنما تقشعر جلودهم من مخالفة الرسول فيما أمر، ومن ترك قبول قوله فيما أخبر، ومن قول القائل وإقراره بأن اليقين لا يستفاد بقوله، وأنه يجب أو يشرع الحج إلى قبره ويجعل من أعظم الأعياد، ويحتج بفعل العوام والطغام على أن هذا من دينه، ويقدم هديهم على هدي المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ويستحل تكفير من نهى عن أسباب الشرك والبدع، ودعا إلى ما كان عليه خيار الأمة وساداتها، ويستحل عقوبته وينسبه إلى التنقص والإزراء، فهذا وأمثاله تقشعر منه جلود أهل العلم والإيمان. وقوله إن في هذا الفرق "تركا لما دلت عليه الأدلة الشرعية بالآراء الفاسدة الخيالية"، ففي هذا الكلام من قلب الحقائق وترك موجب النصوص النبوية والقواعد الشرعية والمحكم الخاص المقيد، إلى المجمل المتشابه العام المطلق، كما يفعله أهل الأهواء الذين في قلوبهم زيغ، ما نبينه بحول الله ومعونته وتأييده، فإن النصوص التي صحت عنه صلى الله عليه وسلم بالنهي عن تعظيم القبور بكل نوع يؤدي إلى الشرك ووسائله من الصلاة عندها وإليها واتخاذها مساجد، وإيقاد السرج عليها، وشد الرحال إليها، وجعلها أعياداً يجتمع لها كما يجتمع للعيد ونحو ذلك، صحيحة صريحة محكمة فيما دلت عليه، وقبور المعظمين مقصودة بذلك النص والعلة، ولا ريب أن هذا من أعظم المحاذير، وهو أصل أسباب الشرك والفتنة به في العالم، فكيف يناقض هذا ويعارض بإطلاق "زوروا القبور" وبأحاديث لا يصح منها شيء البتة في زيارة قبره ولا يثبت خبر واحد، ونحن نشهد بالله أنه لم يقل شيئاً منها، كما نشهد بالله أنه قال تلك النصوص الصحيحة الصريحة، وهؤلاء فرسان الحديث وأئمة النقل ومن إليهم المرجع في الصحيح والسقيم من الآثار، وقد ذكرنا فيما تقدم أنهم لم يصححوا منها خبراً واحداً، ولم يحتجوا منها بحديث واحد، بل ضعفوا جميع ما ورد في ذلك وطعنوا فيه وبينوا سبب ضعفه وحكم عليه جماعة منهم بالكذب والوضع.

وكذلك دعواه إجماع السلف والخلف على قوله، فإذا أراد بالسلف المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان فلا يخفى أن دعوى إجماعهم مجاهرة بالكذب، وقد ذكرنا غير مرة فيما تقدم أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة شيء في هذا إلا عن ابن عمر وحده فإنه ثبت عنه إتيان القبر للسلام عند القدوم من سفر، ولم يصح هذا عن أحد غيره، ولم يوافقه عليه أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا من الخلفاء الراشدين ولا من غيرهم، وقد ذكر عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن عبيد الله بن عمر أنه قال: ما نعلم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر، وكيف ينسب مالك إلى مخالفة إجماع السلف والخلف في هذه المسألة وهو أعلم أهل زمانه بعمل أهل المدينة قديماً وحديثاً، وهو يشاهد التابعين الذين شاهدوا الصحابة وهم جيرة المسجد وأتبع الناس للصحابة، ثم يمنع الناذر من إتيان القبر ويخالف إجماع الأمة؟ هذا لا يظنه إلا جاهل كاذب على الصحابة والتابعين وأهل الإجماع. "وقد نهى علي بن الحسين زين العابدين -الذي هو أفضل أهل بيته وأعلمهم في وقته- ذلك الرجل الذي كان يجيء إلى فرجة كانت عند القبر فيدخل فيها فيدعو، واحتج عليه بما سمعه من أبيه عن جده علي بن أبي طالب رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم" وكذلك ابن عمه الحسن بن الحسن بن علي شيخ أهل بيته كره أن يقصد الرجل القبر للسلام عليه ونحوه عند غير دخول المسجد، ورأى أن ذلك من اتخاذه عيداً، وقال للرجل الذي رآه عند القبر: مالي رأيتك عند القبر؟ فقال: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: إذا دخلت المسجد فسلم. ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا بيتي عيداً ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم" ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء. "وكذلك سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري أحد الأئمة الأعلام وقاضي المدينة في عصر التابعين ذكر عنه ابنه إبراهيم أنه كان لا يأتي القبر قط، وكان يكره إتيانه، أفيظن بهؤلاء السادة الأعلام أنهم خالفوا الإجماع وتركوا تعظيم صاحب

القبر وتنقصوا به؟ فهذا لعمر الله هو الكلام الذي تقشعر منه الجلود. "وليس مع عباد القبور من الإجماع إلا ما رأوا عليه العوام والطغام في الأعصار التي قل فيها العلم والدين، وضعفت فيها السنن، وصار المعروف فيها منكراً والمنكر معروفاً من اتخاذ القبر عيداً والحج إليه، واتخاذه منسكاً للوقوف والدعاء، كما يفعل عند مواقف الحج بعرفة ومزدلفة، وعند الجمرات، وحول الكعبة، ولا ريب أن هذا وأمثاله في قلوب عباد القبور لا ينكرونه ولا ينهون عنه، بل يدعون إليه ويرغبون فيه، ويحضون عليه، ظانين أنه من تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم والقيام بحقوقه، وإن من لم يوافقهم على ذلك أو خالفهم فيه فهو منتقص تارك للتعظيم الواجب، وهذا قلب لدين الإسلام وتغيير له، ولولا أن الله سبحانه وتعالى ضمن لهذا الدين أن لا تزال طائفة من الأمة قائمة به لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى قيام الساعة لجرى عليه ما جرى على دين أهل الكتاب قبله، وكل ذلك باتباع المتشابه، ولما لا يصح من الحديث، وترك النصوص المحكمة الصحيحة الصريحة. وقوله1: إن من منع زيارة قبره فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، وليس لنا ذلك. جوابه2 أن يقال: أما من منع مما منع الله ورسوله منه، وحذر مما حذر منه الرسول بعينه، ونبه على المفاسد التي حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم بتعظيم القبور وجعلها أعياداً واتخاذها أوثاناً ومناسك يحج إليها كما يحج إلى البيت العتيق، ويوقف عندنا للدعاء والتضرع والابتهال كما يفعل عند مناسك الحج، وجعلها مستغاثاً للعالمين ومقصداً للحاجات، ونيل الرغبات، وتفريج الكربات، فإنه لم يشرع ديناً لم يأذن به الله، وإنما شرعه من خالف ذلك ودعا إليه ورغب فيه، وحض النفوس عليه، واستحب الحج إلى القبر وجعله عيداً يجتمع إليه كما يجتمع للعيد، وجعله منسكاً للوقوف والسؤال والاستغاثة به، فأي الفريقين الذي شرع من الدين ما لم يأذن به الله إن كنتم تعلمون؟ ونحن نناشد عباد القبور هل هذا الذي ذكرناه عنهم وأضعافه كذب عليهم، أو هو أكبر مقاصدهم وحشو قلوبهم؟ والله المستعان.

_ 1 يعني السبكي. 2 هذا خبر "وقوله".

"وقوله1: والقرآن كله والإجماع المعلوم من الدين بالضرورة وسير الصحابة والتابعين وجميع علماء المسلمين والسلف الصالحين على وجوب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم والمبالغة في ذلك. جوابه: أنه قد عرف بما قررناه أهل تعظيمه المتبعون له، الموافقون لما جاء به والتارك لتعظيمه بتقرير خلاف ما جاء به، والحض على ما حذر منه، والتحذير مما رغب فيه، وترك ما جاء به لآراء الرجال وعقولهم، وتقريره وتقرير سلفه أن اليقين والهدى لا يستفاد بكلامه، وأن ما عليه عباد القبور هو من الغلو لا من التعظيم الذي هو من لوازم الإيمان، فلا حاجة إلى إعادته. "وقوله": من تأمل القرآن وما تضمنه من التصريح والإيماء إلى وجوب المبالغة في تعظيمه وتوقيره والأدب معه، وما كانت الصحابة تعامله به من ذلك، امتلأ قلبه إيماناً واحتقر هذا الخيال الفاسد واستنكف أن يصغي إليه. جوابه أن يقال: أنت وأضرابك من أقل الناس نصيباً من ذلك التعظيم، وإن كان نصيبكم من الغلو الذي ذمه وكرهه ونهى عنه نصيباً وافراً. فإن أصل هذا التعظيم وقاعدته التي يبتنى عليها هو طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر. وأنت وأضرابك اكتفيتم من طاعته بأن أقمتم غيره مقامه، تطيعونه فيما قاله، وتجعلون كلامه بمنزلة النص المحكم، وكلام المعصوم أن التفتم إليه بمنزلة المتشابه، فما وافق نصوص من اتخذتموه من دونه قبلتموه، وما خالفها تأولتموه أو رددتموه أو أعرضتم عنه ووكلتموه إلى عالمه، فنحن ننشدكم الله هل تتركون نصوص من قلدتموه لنصه؟ أو تتركون نصه لنص من قلدتموه، واكتفيتم من خبره عن الله وصفاته بخبر من عظمتموه من المتكلمين الذين أجمع الأئمة الأربعة والسلف على ذمهم والتحذير منهم والحكم عليم بالبدعة والضلالة، فاكتفيتم من خبره عن الله وصفاته بخبر هؤلاء، وجعلتم خبرهم قواطع عقلية، وأخباره ظواهر لفظية لا تفيد اليقين، ولا يجوز تقديمها على أقوال المتكلمين. ثم مع هذا العزل الحقيقي عظمتم ما يكره تعظيمه من القبور، وشرعتم فيها وعندها ضد ما شرعه، وعدتم بهذا التعظيم على مقصوده بالإبطال فعظمتم بزعمكم ما يكره

_ 1 أي السبكي.

تعظيمه، وتقربتم إليه بما يباعدكم منه، واستهنتم بالإيمان كله في تعظيمه، ونبذتموه وراء ظهوركم، واتخذتم من دونه من عظمتم أقواله غاية التعظيم حتى قدمتموها عليه، وما أشبه هذا بغلو الرافضة في علي رضي الله عنه وهم أشد الناس مخالفة له، وكذلك غلو النصارى في المسيح وهم من أبعد الناس منه، وإن ظنوا أنهم معظمون له، فالشأن كل الشأن في التعظيم الذي لا يتم الإيمان إلا به، وهو لازم وملزوم له، والتعظيم الذي لا يتم الإيمان إلا بتركه، فإن إجلاله عن هذا الإجلال واجب، وتعظيمه عن هذا التعظيم متعين. "وقوله: إن المبالغة في تعظيمه واجبة. أيريد بها المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظيماً حتى الحج إلى قبره، والسجود له والطواف به، واعتقاد أنه يعلم الغيب، وأنه يعطي ويمنع ويملك لمن استغاث به دون الله الضر والنفع، وأنه يقضي حوائج السائلين، ويفرج كربات المكروبين، وأنه يشفع فيمن شاء، ويدخل الجنة من يشاء؟ فدعوى وجوب المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك وانسلاخ من جملة الدين، أم يريد بها التعظيم الذي شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من وجوب محبته وطاعته ومعرفة حقوقه، وتصديق أخباره وتقديم كلامه على كلام غيره، ومخالفة غيره لموافقته ولوازم ذلك؟ فهذا التعظيم لا يتم الإيمان إلا به، ولكن هذا المعترض وأضرابه عن ذلك بمعزل، وإذا أخذ الناس منازلهم من هذا التعظيم فمنزلتهم منه أبعد منزل، وهو وحقوقه كما قال الأول: نزلوا بمكة في قبائل هاشم ... ونزلت بالبيداء أبعد منزل "وقوله: إن من ترك شيئاً من التعظيم المشروع لمنصب النبوة زاعماً بذلك الأدب مع الربوبية إلى آخر كلامه، فنعم ولكن الشأن في التعظيم المشروع وتركه وهل هو إلا طاعته وتقديمها على طاعة غيره، وتقديم خبره على خبر غيره، وتقديم محبته على محبة الولد والوالد والناس أجمعين. فمن ترك هذا فقد كذب على الله وعصى أمره وترك ما أمر به من التعظيم، وأما جعل قبره الكريم عيداً تشد المطايا إليه كما تشد إلى البيت العتيق، ويصنع عنده ما يكرهه الله ورسوله ويمقت فاعله، ويتخذ موقفاً للدعاء

وطلب الحاجات وكشف الكربات، فمن جعل ذلك من دينه فقد كذب عليه وبدل دينه". انتهى. هذا آخر ما في الصارم، ومحصوله أن شيخ الإسلام لا يقول إن نفس الزيارة مما يؤدي إلى الشرك، إنما يقول: إن الإفراط في تعظيم قبره صلى الله عليه وسلم -بأن يجعل قبره الكريم عيداً أو يتخذ مسجداً أو موقفاً، أو تطلب الحاجات عنده، أو يعتقد وجوب زيارة قبره صلى الله عليه وسلم أو استحبابه استحباباً متأكداً فوق ما يثبت من قوله صلى الله عليه وسلم "فزوروها" أو من فعله صلى الله عليه وسلم في زيارة قبور المسلمين- مما يؤدي إلى الشرك، ولا يبعد أن يقال إن نفس الزيارة وإن كانت مشروعة عند شيخ الإسلام وجميع المسلمين ولكنها بالنسبة إلى العوام والطغام قد تفضي إلى الشرك، فإذن يمنعون عن نفس الزيارة قطعاً للذريعة وسداً للوسيلة، كما لو كانت زيارة قبر أحد غيره صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى العوام مفضية إلى الشرك فيمنع العوام عن نفس الزيارة هناك أيضاً. وهذا أمر جلي لا يجحده من فهم باب قطع الذرائع وسد الوسائل حق الفهم من أهل الفقه والحديث، ويدل عليه آيات بينات وأحاديث صحيحة وعبارات السلف والخلف من المتقدمين والمتأخرين لم تتعرض لذكرها خشية الإطناب. قوله1: " ومنها أمران لا بد منهما: أحدهما وجوب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ورفع رتبته عن سائر الخلق، والثاني إفراد الربوبية واعتقاد أن الرب تبارك وتعالى منفرد بذاته وصفاته وأفعاله عن جميع خلقه". أقول: لا يخفى ما في هذا الحصر من النظر، فإنه لا بد هناك من أمر ثالث وهو عدم إحداث ما ليس من أمر الدين مما لم يأذن به الله ورسوله، بل من أمر رابع هو الاجتناب عما نهى الله عنه ورسوله، فمن أحدث في أمر الزيارة ما ليس عليه دليل

_ 1 يعني قول الشيخ دحلان.

شرعي أو ارتكب ما نهى الله عنه ورسوله فقد صار مبتدعاً ضالاً1. قوله: ومن بالغ في تعظيمه صلى الله عليه وسلم بأنواع التعظيم ولم يبلغ به ما يختص بالباري سبحانه وتعالى فقد أصاب الحق وحافظ على جانب الربوبية والرسالة جميعاً، وذلك هو القول الذي لا إفراط فيه ولا تفريط. أقول: فيه نظر عويص، فإن من أنواع التعظيم ما هو محدث، ومنها ما هو منهي عنه، مع أنهما مما لا يختص بالباري سبحانه وتعالى. فكيف يقال لمرتكبه أنه أصاب الحق؟ قوله: وأما قوله صلى الله عليه وسلم " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى"، فمعناه أن لا تشد الرحال إلى مسجد لأجل تعظيمه والصلاة فيه إلا إلى المساجد الثلاثة –إلى قوله- وهذا التقدير لا بد منه، ولو لم يكن التقدير هكذا لاقتضى منع شد الرحال للحج والجهاد والهجرة من دار الكفر ولطلب العلم وتجارة الدنيا وغير ذلك، ولا يقول بذلك أحد. أقول: عدم التقدير المذكور لو اقتضى منع شد الرحال إلى الأمور المذكورة فأي محذور فيه؟ فإن الآيات والأحاديث الدالة على وجوبها أو جوازها تقع مخصصة لعموم حديث "لا تشد الرحال"، وبناء العام على الخاص مسألة مشهورة، على أن ذكر الحج في الأمور المذكورة غفلة شديدة، إذ حديث "لا تشد الرحال" لا يقتضي

_ 1 هذه مسألة أخطأ فيها كثير من الناس، زعموا أنه لا يحظر من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم إلا وصفه بالربوبية والألوهية كما قال البوصيري: دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... واحكم بما شئت مدحاً فيهم واحتكم وفي معناه: دعوا مقال النصارى في نبيهم ... يا مادحيه، ومهما شئتم قولوا والحق أن التعظيم غير المشروع نوعان: أحدهما كفر وهو ما يختص بالله تعالى، ومنه الدعاء والاستغاثة في الشدائد، والآخر معصية، كالكذب واختراع الآيات والمعجزات غير المروية بالأسانيد القوية وهو كثير.

منع شد الرحال للحج أصلاً1. قوله: قال العلامة ابن حجر في الجوهر المنظم: ومما يدل أيضاً لهذا التأويل للحديث المذكور التصريح به في حديث سنده حسن، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي للمطي أن تشد رحالها إلى مسجد يبتغى الصلاة فيه، غير المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى". أقول: هذا الحديث رواه أحمد في مسنده عن شهر بن حوشب قال: سمعت أبا سعيد الخدري وذكر عنده صلاة في الطور فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا ينبغي أن تشد رحال إلى مسجد ينبغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا. ولا ينبغي لامرأة دخلت في الإسلام أن تخرج من بيتها مسافرة إلا مع بعل أو ذي محرم منها. ولا ينبغي الصلاة في ساعتين من النهار: من بعد صلاة الفجر إلى أن ترتحل الشمس، ولا بعد العصر إلى أن تغرب الشمس. ولا ينبغي الصوم في يومين من الدهر: يوم الفطر من رمضان والأضحى". قال الهيثمي في مجمع الزوائد قلت: هو في الصحيح بنحوه، وإنما أخرجته لغرابة لفظه. انتهى. فحكم الهيثمي عليه بالغرابة. والجواب عنه بوجوه: (الأول) أن هذا الحديث ضعيف لأن في سنده شهر ابن حوشب، وهو وإن وثقه جماعة من الأئمة فقد جرحه جماعة من النقاد هي أكثر عدداً من الأولى. قال الدارقطني في سننه: شهر بن حوشب ليس بالقوي. وقال في موضع آخر منه: حدثنا صالح بن أحمد قال: سألت موسى بن هارون عن هذا الحديث، قال: ليس بشيء، فيه شهر بن حوشب، وشهر ضعيف اهـ. وقال مسلم في صحيحه: وحدثنا

_ 1 الاكتفاء بهذا التعليل السلبي قصور في تشنيع غفلة المعترض وبلادته. فكان ينبغي أن يقول: غفلة عن كون شد الرحال إلى الحج هي عين شدها إلى المسجد الحرام، أفما قرأت يا دحلان قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} ، وتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم الاستطاعة بالزاد والراحلة، ثم ألم تعلم أيها المفتي الذكي لم سميت الراحلة راحلة.

عبيد الله بن سعيد قال سمعت النضر يقول: سئل ابن عون عن حديث شهر وهو قائم على أسكفة الباب فقال: إن شهراً نزكوه إن شهراً نزكوه1. قال أبو الحسين مسلم بن الحجاج: يقول أخذته ألسنة الناس، تكلموا فيه، وحدثني الحجاج بن الشاعر قال حدثنا شبابة قال: قال شعبة: ولقد لقيت شهراً فلم أعتد به اهـ. قلت: نقل مسلم جرحه عن ابن عون وشعبة وسكت عليه، ولم ينقل توثيقه عن أحد، وهذا يدل على أن الراجح عنده الجرح، ومن ثم والله أعلم لم يورد حديثه في صحيحه إلا مقروناً بغيره. وقال الترمذي في جامعه قال أحمد بن حنبل: لا بأس بحديث عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب. قال محمد2: شهر حسن الحديث وقوى أمره، وقال إنما تكلم فيه ابن عون. ثم روى عن هلال بن أبي زينب عن شهر بن حوشب حدثنا أبو داود أخبرنا النضر بن شميل عن ابن عون قال: إن شهراً نزكوه، قال أبو داود قال النضر: نزكوه أي طعنوا فيه ا. هـ قال الذهبي في الميزان: شهر بن حوشب الأشعري عن أم سلمة وأبي هريرة وجماعة، وعنه قتادة وداود بن أبي هند وعبد الحميد بن بهرام وجماعة. قال أحمد: روى عن أسماء بنت يزيد أحاديث حساناً. وروى ابن أبي خيثمة ومعاوية ابن أبي صالح عن ابن معين ثقة، وقال أبو حاتم: ليس هو بدون أبي الزبير ولا يحتج به، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وروى النضر بن شميل عن ابن عون قال: إن شهراً نزكوه، وقال النسائي وابن عدي: ليس بالقوي. يحيى بن أبي بكير الكرماني حدثني أبي قال: كان شهر على بيت المال فأخذ منه دراهم فقال قائل: لقد باع شهر دينه بخريطة ... فمن يأمن القراء بعدك يا شهر

_ 1 نزكوه بالنون والزاي: عابوه وطعنوا فيه. وأصله الطعن بالنيزك، وهو الريح القصير، واستعمل الطعن بغير حق علمه الطاعن. قال في مجاز الأساس: نزكه: عابه بغير ما رأى منه، وشهر قد نزكوه اهـ. يعني شهر بن حوشب فهو قد حكى عبارتهم فيه شاهداً، وكتبه محمد رشيد رضا. 2 يعني البخاري.

وقال الدولابي: شهر لا يشبه حديثه حديث الناس، كأنه مولع بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم. قال السعدي قال الفلاس: كان يحيى بن سعيد لا يحدث عن شهر، وكان عبد الرحمن يحدث عنه. أبو داود أخبرنا شعبة عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر، قال شعبة فلقيت ابن عطاء فسألته فقال حدثني زياد بن مخراق، فقدمت على زياد فسألته، فقال حدثني رجل من بني ليث عن مجاهد عن شهر من حديث عقبة بن عامر عن عمر بن الخطاب في الوضوء. معاذ بن معاذ سألت ابن عون عن حديث هلال بن أبي زينب عن شهر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "لا تجف الأرض من دم الشهيد حتى تبتدره زوجتهاه" فقال ما يصنع بشهر؟ إن شعبة قد ترك شهراً. يحيى القطان عن عباد بن منصور قال: حججت مع شهر بن حوشب فسرق عيبتي. وقال علي بن حفص المدايني سألت شعبة عن عبد الحميد بن بهرام فقال: صدوق، إلا أنه يحدث عن شهر. قال أحمد بن حنبل: عبد الحميد حديثه مقارب من حديث شهر وكان يحفظها كأنه يقرأ سورة وهي سبعون حديثاً. سيار بن حاتم حدثنا جعفر بن سليمان عن أبي بكر عن شهر بن حوشب قال: لما قتل ابن آدم أخاه مكث آدم مائة سنة لا يضحك، ثم أنشأ يقول: تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح تغير كل ذي لون وطعم ... وكل بشاشة الوجه المليح إسحاق بن المنذر صدوق حدثنا عبد الحميد بن بهرام عن شهر عن ابن عباس مرفوعاً قال "لكل نبي حرم وحرمي المدينة". قال ابن عدي حدثنا محمد بن يحيى المروذي حدثنا إسحاق قال أبو عيسى الترمذي قال محمد –هو البخاري-: شهر حسن الحديث، وقوّى أمره، وقال أحمد بن عبد الله العجلي" ثقة شامي، وروى عباس عن يحيى: ثبت، وقال يعقوب بن شيبة شهر ثقة طعن فيه بعضهم، قال ابن عدي: شهر ممن لا يحتج به، ولا يتدين بحديثه، قلت: قد ذهب إلى الاحتجاج به جماعة، فقال حرب الكرماني عن أحمد: ما أحسن حديثه، ووثقه، وهو حمصي، وروى حنبل عن أحمد: ليس به

بأس، وقال الفسوي: شهر وإن تكلم فيه ابن عون فهو ثقة، قلت: أما روايته عن بلال وتميم الداري فظاهرة الانقطاع، قال صالح جزرة: قدم على الحجاز فحدث بالعراق ولم يوقف منه على كذب، وكان رجلاً يتنسك. وتفرد ثابت عنه عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كل مسكر ومفتر. انتهى. قال المنذري في الترغيب والترهيب: شهر بن حوشب قال ابن عون نزكوه، وقال سبابة عن شعبة لقيت شهراً فلم أعتد به، وقال ابن عدي شهر ممن لا يعتد بحديثه ولا يتدين بدينه، وقال أبو حاتم: ليس بدون أبي الزبير، ولا يحتج به، وقال النسائي وغيره: ليس بالقوي، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال يعقوب بن شيبة: شهر ثقة طعن فيه بعضهم، ووثقه ابن معين وأحمد بن حنبل والعجلي والفسوي، وروى له مسلم مقروناً، واحتج به غير واحد. انتهى. وقال النووي في شرح صحيح مسلم: ويدل عليه أيضاً أن شهراً ليس متروكاً بل وثقه كثيرون من كبار أئمة السلف أو أكثرهم، فممن وثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وآخرون. وقال أحمد بن حنبل: ما أحسن حديثه ووثقه، وقال أحمد بن عبد الله العجلي: هو تابعي ثقة، وقال ابن أبي خيثمة عن يحيى بن معين: هو ثقة، ولم يذكر ابن أبي خيثمة غير هذا، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال الترمذي قال محمد –يعني البخاري- شهر حسن الحديث وقوى أمره، وقال: إنما تكلم فيه ابن عون. ثم روى عن هلال بن أبي زينب عن شهر. وقال يعقوب بن أبي شيبة: شهر ثقة، وقال صالح بن محمد: شهر روى عنه الناس من أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الشام، ولم يوقف منه على كذب وكان رجلاً يتنسك أي يتعبد إلا أنه روى أحاديث لم يشركه فيها أحد. اهـ. قال الحافظ في التقريب: شهر بن حوشب الأشعري الشامي مولى أسماء بنت يزيد ابن السكن صدوق كثير الإرسال والأوهام اهـ. وقال في الخلاصة: شهر بن حوشب مولى أسماء بنت يزيد بن السكن أبو سعيد الشامي أرسل عن تميم الداري وسلمان، وروى عن مولاته وابن عباس وعائشة وأم سلمة وجابر وطائفة، وعنه قتادة وثابت والحكم وعاصم بن بهدلة، ووثقه ابن معين وأحمد، وقال يعقوب بن سفيان: شهر

وإن قال ابن عون نزكوه فهو ثقة، وقال ابن معين ثبت، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال أبو زرعة: لا بأس به لم يلق عمرو بن عبسة، وقال البخاري وجماعة: مات سنة مائة وقيل سنة إحدى عشرة ا. هـ إذا دريت ما تلونا عليك من العبارات فقد علمت أن القوم قد تحزبوا في شهر ثلاثة أحزاب: فحزب يقتصر على الجرح، وحزب يقتصر على التوثيق، وحزب يجمع بين الجرح والتعديل. فمن الأول الدارقطني وموسى بن هارون وابن عون وشعبة ومسلم والنسائي وابن عدي وأبو بكير والدولابي ويجيى بن سعيد وعباد بن منصور. ومن الثاني أحمد بن حنبل والبخاري والترمذي وابن معين وأبو زرعة والعجلي ويعقوب بن أبي شيبة والفسوي. ومن الثالث أبو حاتم الرازي وصالح بن محمد وابن حجر العسقلاني. ومن البين أن حديث شهر -على رأي الحزب الأول- ليس مما يحتج به قطعاً، وكذلك على رأي الجامعين بين التوثيق والجرح لا يكون حديث منفرداً قابلاً للاحتجاج، فإن أبا حاتم قد نص على أنه لا يحتج به، وأما صالح بن محمد فإنه قال: روى أحاديث لم يشركه فيها أحد، فيكون عنده منكر الحديث، والحافظ ابن حجر قد صرح بأنه كثير الإرسال والأوهام، وقد ثبت في الأصول أن حديث منكر الحديث وكثير الأوهام مما لا يحتج به. قال ابن الصلاح: ولا تقبل رواية من كثرت الشواذ والمناكير في حديثه، جاء عن شعبة أنه قال: لا يجيئك الحديث الشاذ إلا من الرجل الشاذ، ولا تقبل رواية من عرف بكثرة السهو في رواياته إذا لم يحدث من أصل صحيح اهـ. وأيضاً من شرائط من يحتج بروايته أن يكون عدلاً ضابطاً لما يرويه، وكونه منكر الحديث كثير الأوهام مشعر بعدم ضبطه، فيكون حديثه على رأي أربعة عشر إماماً مما لا يحتج به، وعلى رأي ثمانية أئمة مما يحتج به، وكثرة العدد من المرجحات كما تقرر في الأصول. قال الحافظ في الفتح، باب الخلع: ويؤخذ من إخراج البخاري هذا الحديث في الصحيح فوائد: منها أنا الأكثر إذا وصلوا وأرسل الأقل قدم الواصل ولو كان الذي أرسل أحفظ، ولا يلزم منه أنه تقدم رواية الواصل على المرسل دائماً اهـ.

فالراجح أن حديث شهر مما لا يحتج به منفرداً، ومن ثم لم يرو عنه مسلم إلا مقروناً بغيره، على أن الجرح مقدم على التعديل. قال ابن الصلاح في مقدمته: إذا اجتمع في شخص جرح وتعديل، فالجرح مقدم، لأن المعدل يخبر عما ظهر من حاله والجارح مخبر عن باطن خفي على المعدل، فإن كان عدد المعدلين أكثر فقد قيل التعديل أولى، والصحيح الذي عليه الجمهور أن الجرح أولى لما ذكرنا اهـ. فإن قلت: الجرح المبهم غير مقبول وجرح شهر كذلك فلا يقبل. قلت: بعض جروحه مفسر كجرح أبي بكير حيث قال: كان شهر على بيت المال فأخذ منه دراهم، وكجرح عباد بن منصور فإنه قال: حججت مع شهر بن حوشب فسرق عيبتي. والبعض الآخر وإن كان مبهماً والجرح المبهم لا يقبل، ولكن يقبل لأن يتوقف في قبول حديثه. قال ابن الصلاح في مقدمته: ولقائل أن يقول إنما يعتمد الناس في جرح الرواة ورد حديثهم على الكتب التي صنفها أئمة الحديث في الجرح أو في الجرح والتعديل، وقلما يتعرضون لبيان السبب، بل يقتصرون على مجرد قولهم فلان ضعيف، وفلان ليس بشيء، ونحو ذلك، أو هذا حديث ضعيف، وهذا حديث غير ثابت، ونحو ذلك، فاشتراط بيان السبب يفضي إلى تعطيل ذلك وسد باب الجرح في الأغلب والأكثر. وجوابه أن ذلك وإن لم نعتمده في إثبات الجرح والحكم به فقد اعتمدناه في أن توقفنا عن قبول حديث من قالوا فيه مثل ذلك، بناء على أن ذلك أوقع عندنا فيهم ريبة قوية يوجب مثلها التوقف، ثم من انزاحت عنه الريبة منهم ببحث عن حاله أوجب الثقة بعدالته قبلنا حديثه ولن نتوقف، كالذين احتج بهم صاحبا الصحيحين وغيرهما ممن فيهم مثل هذا الجرح من غيرهم، فافهم ذلك فإنه مخلص حسن اهـ. ولو سلم أن شهراً عدل ضابط، فعلى هذا أيضاً لا يقبل حديثه لأنه شاذ، رواه مخالفاً لمن هو أوثق وأحفظ وأضبط منه، فإن قزعة مولى زياد روى عن أبي سعيد الخدري هذا الحديث، وليس فيه ذكر المستثنى منه.

قال البخاري في صحيحه1: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا شعبة عن عبد الملك قال: سمعت قزعة مولى زياد قال: سمعت أبا سعيد الخدري يحدث بأربع عن النبي صلى الله عليه وسلم فأعجبنني وآنقنني2 قال: "لا تسافر المرأة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم. ولا صوم في يومين: الفطر والأضحى، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام ومسجد الأقصى، ومسجدي". وقال مسلم في صحيحه حدثنا قتيبة بن سعيد وعثمان بن أبي شيبة جميعاً عن جرير، قال قتيبة: حدثنا جرير عن عبد الملك وهو ابن عمير عن قزعة عن أبي سعيد قال: سمعت منه حديثاً فأعجبني، فقلت له: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فأقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم أسمع؟ قال: ما سمعته يقول؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى"، وسمعته يقول: "لا تسافر المرأة يومين من الدهر إلا ومعها ذو محرم منها أو زوجها". وقال الترمذي في جامعه: حدثنا ابن أبي عمر أخبرنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن قزعة عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تشد الرحال إلى إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجدي هذا، ومسجد الأقصى" قال: هذا حديث حسن صحيح اهـ. ومن أجل ذلك حكم صاحب مجمع الزوائد على حديث شهر بالغرابة، وقزعة أثبت من شهر، وحسبك في توثيقه أنه من رجال الصحيحين، ولا أعلم أحدا ذكره بجرح، ولذا والله أعلم لم يذكره الذهبي في الميزان لأنه موضوع لذكر الضعفاء، ولو كان فيه جرح خفيف وجرحه من لا يعتمد على جرحه.

_ 1 رواه في باب مسجد بيت المقدس (فتح الباري) قبل أبواب العمل في الصلاة. 2 أعجبني الشيء استحسنته، وآنقني راعني حسنه أو إتقانه، فهو أخص مما قبله، وقل من يدقق في التفرقة بينهما.

وروى قزعة وغيره عن غير أبي سعيد هذا الحديث، وليس فيه أيضاً ذكر المستثنى منه، فقد روى سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول، ومسجد الأقصى"، هذا لفظ البخاري. ولفظ مسلم في رواية هكذا: "لا تشد الرجال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى". وفي رواية: "تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد". وروى سلمان الأغر عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد: مسجد الكعبة، ومسجدي، ومسجد إيليا"، رواه مسلم. وروى أبو سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: الكعبة ومسجدي هذا، ومسجد الأقصى" رواه الدارمي. وروى حجية بن عدي عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى"، رواه الطبراني في المعجم الصغير. وروى قزعة بن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: إلى المسجد الحرام، وإلى المسجد الأقصى، وإلى مسجدي هذا" رواه ابن ماجه. وروى أبو سلمة بن عبد الرحمن من حديث أبي هريرة عن بصرة بن أبي بصرة الغفاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تعمل المطي إلا على ثلاثة مساجد: إلى المسجد الحرام، وإلى مسجدي هذا، وإلى مسجد إيلياء أو بيت المقدس"، رواه مالك في الموطأ. قال ابن عبد البر الصواب أبا بصرة1 واسمه جميل بن أبي بصرة، والغلط من يزيد لا من مالك، وفي التقريب: أبو بصرة الغفاري جميل بن بصرة اهـ. فيكون حديث شهر شاذاً مردوداً.

_ 1 كذا في الأصل ومقتضى الإعراب: أبو بصرة.

قال السيوطي في التدريب في بيان الشاذ "فالصحيح التفصيل: فإن كان الثقة بتفرده مخالفاً لمن هو أحفظ منه وأضبط؟ عبارة ابن الصلاح: لما رواه من هو أولى بالحفظ لذلك، وعبارة شيخ الإسلام: لمن هو أرجح منه لمزيد ضبط أو كثرة عدد أو غير ذلك من وجوه الترجيحات "كان ما انفرد به شاذاً مردوداً" قال شيخ الإسلام: ومقابله يقابله يقال له المحفوظ، قال: مثاله ما رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من طريق ابن عيينة عن ابن عباس "أن رجلاً توفي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدع وارثاً إلا مولى هو أعتقه"، الحديث، وتابع ابن عيينة على وصله ابن جريج وغيره، وخالفهم حماد بن زيد رواه عن عمرو بن دينار عن عوسجة ولم يذكر ابن عباس، قال أبو حاتم: المحفوظ حديث ابن عيينة. قال شيخ الإسلام: فحماد بن زيد من أهل العدالة والضبط، ومع ذلك رجح أبو حاتم رواية من هم أكثر عدداً منه، قال: وهذا هو المعتمد في حد الشاذ بحسب الاصطلاح. ومن أمثلته في المتن ما رواه أبو داود والترمذي من حديث عبد الواحد بن زياد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً "إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه"، قال البيهقي: خالف عبد الواحد العدد الكثير في هذا، فإن الناس إنما رووه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم لا من قوله، وانفرد عبد الواحد من بين ثقات أصحاب الأعمش بهذا اللفظ. انتهى. قال الذهبي في الميزان: عبد الواحد بن زياد بن شيبة العبدي البصري أحد المشاهير احتجا به في الصحيحين، وتجنبا تلك المناكير التي نقمت عليه فيحدث عن الأعمش بصيغة السماع عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى أحدكم الركعتين قبل الصبح فليضطجع على يمينه" أخرجه أبو داود. انتهى وقال السيوطي في بحث المنكر مثل الأول، وهو المنفرد المخالف لما رواه الثقات، رواية مالك عن الزهري عن علي بن حسين عن عمر بن عثمان عن أسامة بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم" فخالف مالك غيره

من الثقات في قوله: "عمر بن عثمان"، بضم العين. وذكر مسلم في التمييز أن كل من رواه من أصحاب الزهري قال بفتحها وأن مالكاً وهم في ذلك. قال العراقي: وفي هذا التمثيل نظر، لأن الحديث ليس بمنكر، ولم يطلق عليه أحد اسم النكارة فيما رأيت، وغايته أن يكون السند منكراً أو شاذاً لمخالفة الثقات لمالك، ولا يلزم من شذوذ في السند ونكارته وجود ذلك الوصف في المتن. وقد ذكر ابن الصلاح في نوع المعل أن العلة الواقعة في السند قد تقدح في المتن، وقد لا تقدح كما سيأتي، قال فالمثال الصحيح لهذا القسم ما رواه أصحاب السنن الأربعة من رواية همام بن يحيى عن ابن جريج عن الزهري عن أنس رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه". قال أبو داود بعد تخريجه: هذا حديث منكر، وإنما يعرف عن ابن جريج عن زياد بن سعد الزهري عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من ورق ثم ألقاه" قال: والوهم فيه من همام ولم يروه إلا همام، وقال النسائي بعد تخريجه: هذا حديث غير محفوظ، فهمام بن يحيى ثقة احتج به أهل الصحيح، ولكن خالف الناس فروى عن ابن جريج هذا المتن بهذا السند، وإنما روى الناس عن ابن جريج الحديث الذي أشار إليه أبو داود. فلهذا حكم عليه بالنكارة اهـ. قال المؤلف: قد علم من العبارة المنقولة أن العلة الواقعة في السند قد تقدح في المتن ومثل لها ابن الصلاح بالإرسال والوقف، وكم من أحاديث رواتها ثقات عدت من الشواذ لمخالفة روايات الثقات، وتلك المخالفة الموجبة لشذوذها قد تكون في السند بحيث توجب شذوذ المتن أيضاً، وقد تكون في نفس المتن. فمن أمثلة القسم الأول حديث محمد بن فضيل الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن للصلاة أولاً وآخراً" قال الترمذي في جامعه قال أبو عيسى: سمعت محمداً يقول: حديث الأعمش عن مجاهد في المواقيت أصح من حديث محمد بن فضيل عن الأعمش، وحديث محمد بن فضيل خطأ أخطأ فيه محمد ابن فضيل: حدثنا هناد حدثنا أبو أسامة عن أبي إسحاق الفزاري عن الأعمش عن

مجاهد قال: كان يقال إن للصلاة أولاً وآخراً، فذكر نحو حديث محمد بن فضيل عن الأعمش، نحوه بمعناه اهـ. وقال الدارقطني: هذا لا يصح مسنداً، وهمَ في إسناده ابن فضيل، وغيره يرويه عن الأعمش عن مجاهد مرسلاً، أخبرنا أبو سهل بن زياد أخبرنا محمد بن أحمد بن النضر حدثنا معاوية بن عمرو أخبرنا زائدة عن الأعمش عن مجاهد قال: كان يقال إن للصلاة أولاً وآخراً، ثم ذكر هذا الحديث وهو أصح من قول ابن فضيل، وقد تابع زائدة عبثر بن القاسم. وحدثنا أبو بكر الشافعي حدثنا محمد بن شاذان أخبرنا معلى بن منصور أخبرني أبو زبيد –وهو عبثر- أخبرنا الأعمش عن مجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، اهـ. مع أن محمد بن فضيل ثقة من رجال الصحيحين. قال الذهبي في الميزان: إن محمد بن فضيل بن غزوان كوفي صدوق مشهور، كان صاحب حديث ومعرفة، وثقه ابن معين، وقال أحمد: حسن الحديث شيعي، وقال النسائي: لا بأس به ا. هـ ملخصاً. وقال الحافظ في التقريب: صدوق عارف، رمي بالتشيع اهـ. وقال أبو زرعة: صدوق كذا في التهذيب، وقال الذهبي في الكاشف: ثقة شيعي اهـ. ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه". عند جماعة قال الحافظ في البلوغ: رواه الدارقطني والحاكم ورجاله ثقات، إلا أن المحفوظ عند أبي داود وغيره إرساله. ومنها حديث ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من وهب هبة فهو أحق بها ما لم يثب عليها"، قال الحافظ في البلوغ: رواه الحاكم وصححه، والمحفوظ من رواية ابن عمر عن عمر من قوله اهـ. وقال في تخريج الهداية: وعن ابن عمر أخرجه الحاكم والدارقطني وإسناده صحيح، إلا أن البيهقي قال: غلط فيه عبد الله بن موسى عن حنظلة عن سالم عنه، والصواب رواية ابن وهب عن حنظلة عن سالم عن ابن عمر عن عمر قوله، وهكذا قال ابن عيينة عن عمرو عن سالم. انتهى

وقال الدارقطني: حدثنا أبو علي الصفار من أصل كتابه حدثنا علي بن سهل بن المغيرة حدثنا عبد الله بن موسى أخبرنا حنظلة عن أبي سفيان قال: سمعت سالم بن عبد الله عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من وهب هبة فهو أحق بها ما لم يثبت منها"، لا يثبت هذا مرفوعاً، والصواب عن ابن عمر عن عمر مرفوعاً. انتهى ما في سنن الدارقطني، هكذا في النسخة المكتوبة في سنة تسع وعشرين وسبع مائة المقروءة على ابن الجزري بلفظ: والصواب عن ابن عمر عن عمر مرفوعاً. ولعله من سهو الناسخ، والصواب: عن ابن عمر عن عمر موقوفاً كما قال الحافظ، والله أعلم. ومنها حديث عكرمة أن أخت عبد الله ابن أبيّ أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين، الحديث الذي روي مرسلاً، فإن البخاري قدم هنالك الموصول على المرسل لكثرة الواصلين. قال الحافظ في الفتح: ويؤخذ من إخراج البخاري في هذا الحديث في الصحيح فوائد: (منها) أن الأكثر إذا وصلوا وأرسل الأقل قدم الواصل، ولو كان الذي أرسل أحفظ، ولا يلزم منه أنه تقدم رواية الواصل على المرسل دائماً. (ومنها) أن الراوي إذا لم يكن في الدرجة العليا من الضبط ووافقه من هو مثله اعتضد وقاومت الروايتان رواية الضابط المتقن، انتهى. مع أن رجاله كلهم ثقات أثبات. ومن أمثلة القسم الثاني حديث عبد الرحمن بن سابط عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله أي الدعاء أسمع؟ قال: "جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات" رواه الترمذي. قال الحافظ في شرح الأذكار: قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وفيما قاله نظر، لأن فيه عللاً: (منها) الشذوذ فإنه جاء عن خمسة من أصحاب أبي أمامة أصل الحديث من رواية صاحب النبي صلى الله عليه وسلم عن عمرو بن عبسة واقتصروا كلهم على الشق الأول، انتهى ملخصاً. مع أن عبد الرحمن بن سابط ثقة من رجال صحيح مسلم. (ومنها) حديث أبي إسحاق عن الأسود عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينام وهو

جنب ولا يمس ماء، رواه الترمذي. قال: وقد روى غير واحد عن الأسود عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتوضأ قبل أن ينام، وهذا أصح من حديث أبي إسحاق عن الأسود، وقد روى عن أبي إسحاق هذا الحديث شعبة والثوري وغير واحد، ويرون أن هذا غلط من أبي إسحاق، انتهى. مع أن أبا إسحاق ثقة من رجال الصحيحين. (ومنها) حديث أبي قيس عن هزيل بن شرحبيل عن المغيرة بن شعبة قال: توضأ النبي صلى الله عليه وسلم ومسح على الجوربين والنعلين رواه الترمذي، فإن راويه عبد الرحمن ابن ثروان أبا قيس الأودي مع أنه ثقة، وثقه ابن معين وغيره وهو من رجال صحيح البخاري لما خالف الثقات في رواية هذا الحديث عد حديثه هذا من الشواذ، فإن نافع بن جبير روى هذا الحديث عن عروة بن المغيرة عن أبيه المغيرة بن شعبة، أخرجها البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه، وأن عامراً الشعبي رواه عن عروة بن المغيرة عن أبيه أخرجها البخاري ومسلم وأبو داود والدارمي والدارقطني، وأن أشعث رواه عن الأسود بن هلال عن المغيرة أخرجها مسلم، وأن مسلماً روى عن مسروق عن المغيرة بن شعبة أخرجها مسلم والنسائي، وإن بكر بن عبد الله المزني رواه عن عروة بن المغيرة بن شعبة عن أبيه أخرجها مسلم، وأن ابن سيرين رواه عن عمرو بن موهب الثقفي عن المغيرة بن شعبة أخرجها النسائي والدارقطني، وأن عبد الرحمن بن أبي الزناد رواه عن أبيه عن عروة بن الزبير عن المغيرة بن شعبة أخرجها أبو داود والترمذي والدارقطني، وأن عباد بن زيد رواه عن عروة بن المغيرة بن شعبة عن أبيه رواه أبو داود ومالك بغير ذكر عروة، وأن قتادة رواه عن الحسن وعن زرارة بن أوفى عن المغيرة بن شعبة أخرجها أبو داود، وأن بكر ابن عامر البجلي رواه عن عبد الرحمن بن أبي أنعم عن المغيرة بن شعبة أخرجها أبو داود، وأن إسماعيل بن محمد بن سعد رواه عن حمزة بن المغيرة بن شعبة عن أبيه، وأن بكر بن عبد الله المزني رواه عن حمزة ابن المغيرة بن شعبة عن أبيه أخرجها النسائي، وأن بكر بن عبد الله المزني رواه عن ابن المغيرة عن أبيه أخرجها أبو داود والنسائي والدارقطني، وليس في رواية هؤلاء الثقات الأثبات المسحُ على الجوربين

ومن أجل ذلك ضعفه الأئمة. قال النسائي: لا أعلم أحداً تابع أبا قيس، والصحيح عن المغيرة المسح على الخفين، وقال أبو داود: كان ابن مهدي لا يحدث به، وقال البيهقي: ضعف هذا الحديث الثوري وابن مهدي وابن معين وأحمد وابن المديني ومسلم، كذا في تخريج الهداية للحافظ ابن حجر. قوله: وأما التوسل فقد صح صدوره من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد صح في أحاديث كثيرة منها أنه صلى الله عليه وسلم كان من دعائه: "اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك"، وهذا توسل لا شك فيه. وصح في أحاديث كثيرة أنه كان يأمر أصحابه أن يدعوا بها، فمنها ما رواه ابن ماجه بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وأسألك بحق ممشاي هذا إليك، فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياء ولا سمعة" اهـ. أقول في حديث أبي سعيد كلام من وجوه: (الأول) أن في سنده عطية بن سعد العوفي، وهو وإن كان ممن اختلف في الاحتجاج به، لكن الراجح والمحقق أنه ضعيف، وها أنا أذكر عبارات القوم ثم أرجح ما هو الراجح فنقول: قال الذهبي في الميزان: عطية بن سعد العوفي الكوفي تابعي شهير ضعيف عن ابن عباس وأبي سعيد وابن عمر، وعنه مسعر وحجاج بن أرطأة وطائفة وابنه الحسن، قال أبو حاتم: يكتب حديثه ضعيف، وقال سالم المرادي: كان عطية يتشيع، وقال ابن معين: صالح، وقال أحمد: ضعيف الحديث، وكان هشيم يتكلم في عطية. وروى ابن المديني عن يحيى قال: عطية وأبو هارون وبشر بن حرب عندي سواء. وقال أحمد: بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي فيأخذ عنه التفسير كان يكنيه بأبي سعيد فيقول، قال أبو سعيد، قلت: يعني يوهم أنه الخدري. وقال النسائي

وجماعة: ضعيف اهـ. وقال المنذري في الترغيب والترهيب: عطية بن سعد العوفي قال أحمد وغيره: ضعيف الحديث، وقال أبو حاتم: ضعيف يكتب حديثه، ووثقه ابن معين وغيره، وحسن له الترمذي غير ما حديث، وأخرج حديثه ابن خزيمة في صحيحه وقال: في القلب من عطية شيء اهـ. وقال الحافظ ابن القيم في الهدى في بيان سنة الجمعة: عطية العوفي قال البخاري كان هشيم تكلم فيه، وضعفه أحمد وغيره. وقال البيهقي: عطية العوفي لا يحتج به، ومبشر بن عبيد الحمصي منسوب إلى وضع الحديث، والحجاج بن أرطأة لا يحتج به. قال بعضهم: ولعل الحديث انقلب على بعض هؤلاء الثلاثة الضعفاء لعدم ضبطهم وإتقانهم اهـ ملخصاً. وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: عطية بن سعد ابن جنادة بضم الجيم بعدها نون خفيفة العوفي الجدلي بفتح الجيم والمهملة الكوفي أبو الحسن صدوق يخطئ كثيراً، كان شيعياً مدلساً من الثالثة، مات سنة إحدى عشرة1 اهـ. وقال الذهبي في الكاشف: عطية بن سعد العوفي أبو الحسن عن أبي سعيد وطائفة وعنه ابناه عمر والحسن ومسعر ومرة وخلق، ضعفوه، مات سنة 111 اهـ. وقال الحافظ صفي الدين بن أحمد بن عبد الله الخزرجي في الخلاصة: عطية بن سعد بن جنادة العوفي بفتح المهملة وإسكان الواو بعدها فاء الجدلي بفتح الجيم أبو الحسن الكوفي عن أبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس، وعنه ابناه عمر والحسن وإسماعيل ابن أبي خالد ومسعر وخلق، ضعفه الثوري وهشيم وابن عدي، وحسن له الترمذي أحاديث، قال مطين: مات سنة إحدى عشرة ومائة اهـ. وقال في التهذيب: قال أبو حاتم وابن سعد مع ضعفه يكتب حديثه اهـ. وقال المنذري في تلخيصه لسنن أبي داود: عطية ضعيف الحديث، وقال في غير ما موضع لا يحتج بحديثه، وقال في موضع: في إسناده محمد بن الحصين بن عطية العوفي عن أبيه

_ 1 أي بعد المائة.

عن جده وثلاثتهم ضعفاء، وقال في موضع: في إسناده عطية العوفي وهو ضعيف، وقال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير تحت حديث أبي سعيد "من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره"، أبو داود وابن ماجه، وفيه عطية بن سعد العوفي وهو ضعيف، وأعله أبو حاتم والبيهقي وعبد الحق بن القطان بالضعف والاضطراب اهـ. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: عطية مختلف في الاحتجاج به، وفي موضع: وفيه الحجاج بن أرطأة وعطية وكلاهما فيه كلام، وفي موضع: وفيه عطية وثقه ابن معين وضعفه جماعة تضعيفا لينا اهـ. وقال الدارقطني في سننه تحت حديث عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طلاق الأمة اثنتان وعدتها حيضتان"، وحديث عبد الله ابن عيسى عن عطية عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم منكر غير ثابت من وجهين: (أحدهما) أن عطية ضعيف وسالم ونافع أثبت منه وأصح رواية، (والوجه الآخر) أن عمر بن شبيب ضعيف الحديث لا يحتج بروايته والله أعلم اهـ. فهذه عبارات القوم في عطية، وقد اتضح من هذه العبارات أمور: (الأول) أن الذهبي مختاره التضعيف حيث قال في حقه في الميزان: تابعي شهير ضعيف. يؤيد ما قاله في الكاشف من قوله ضعفوه، ولم ينقل هناك القول بالتوثيق، فعلم أنه رجح التضعيف. وقال في الميزان في ترجمة الحكم بن فضيل عن عطية العوفي: (قلت) وقد وثقه أبو داود وعطية واه. وقال في الميزان في ترجمة فضيل بن مرزوق: وقال ابن حبان منكر الحديث جداً، كان ممن يخطئ على الثقات، ويروى عن عطية الموضوعات، (قلت) عطية أضعف منه اهـ، وكذا اختار الحافظ ابن القيم تضعيفه في الهدى، وكذا المنذري في تلخيصه لسنن أبي داود في غير ما موضع، والحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير، والدارقطني في سننه. (والثاني) أن عطية وأبا هارون وبشر بن حرب سواء كما نقل عن يحيى، أما أبو هارون فاسمه عمارة بن جوين. قال الذهبي في الميزان: عمارة بن جوين أبو هارون العبدي تابعي لين بمرة، كذبه حماد بن زيد. وقال شعبة: لأن أقدم فتضرب عنق أحب إلي من أن أحدث عن أبي هارون. وقال أحمد: ليس بشيء، وقال ابن

معين: ضعيف لا يصدق في حديثه. وقال س متروك الحديث. وقال الدارقطني: يتلون خارجي وشيعي، فيعتبر بما روى عنه الثوري. وقال ابن حبان: كان يروي عن أبي سعيد ما ليس من حديثه. وروى معاوية بن صالح عن يحيى: ضعيف، يحيى القطان قال: قال شعبة: كنت أتلقى الركبان أسأل عن أبي هارون العبدي فقدم، فرأيت عنده كتاباً فيه أشياء منكرة في علي رضي الله عنه فقلت: ما هذا الكتاب؟ قال: هذا الكتاب حق، قال القطان: لم يزل ابن عون يروي عن أبي هارون حتى مات، قال الجوزجاني: أبو هارون كذاب مفتر، ابن عدي حدثنا الحسن بن سفيان حدثني عبد العزيز بن سلام حدثني علي بن مهران سمعت بهز بن أسد سمعت شعبة يقول: أتيت أبا هارون فقلت أخرج إلى ما سمعته من أبي سعيد، فأخرج إلي كتابا فإذا فيه حدثنا أبو سعيد أن عثمان أدخل حفرته وإنه لكافر بالله؟ فدفعت الكتاب في يده وقمت. الأثرم حدثنا يحيى بن آدم حدثنا معلى بن خالد قال لي شعبة: لو شئت أن يحدثني أبو هارون العبدي عن أبي سعيد بكل شيء أرى أهل واسط يصنعونه بالليل لفعلت. وقال ابن معين: كانت عند أبي هارون صحيفة يقول: هذه صحيفة الوحي، قال السليماني: سمعت أبا بكر بن حامد يقول سمعت صالح بن محمد أخبرنا علي وسئل عن أبي هارون العبدي فقال: أكذب من فرعون. أبو أحمد الزبيري حدثنا سفيان عن أبي هارون سمعت أبا سعيد قال: كانت لي جارية كنت أعزل عنها فولدت أحب الناس إلي، رواه محمد بن كثير عن الثوري. وبالإسناد الثاني عن أبي سعيد مرفوعاً "وإذا ضرب أحدكم خادمه فذكر الله فارفعوا أيديكم"اهـ. وأما بشر بن حرب فقال الذهبي في الميزان: بشر بن حرب أبو عمر الندبي البصري، والندب حي من الأزد، له عن أبي سعيد وجماعة، وعنه شعبة وحماد بن زيد، ضعفه علي ويحيى، وقال أحمد: ليس بالقوي، وقال ابن خراش: متروك، وكان حماد بن زيد يمدحه، وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: سألت ابن المديني عنه فقال: كان ثقة عندنا، وقال

ابن عدي لا بأس به عندي، لا أعرف له حديثاً منكرا. وحيث كان عطية سواء لهما1 صدق عليه أنه لين بمرة، كذاب ليس بشيء لا يصدق في حديثه، متروك الحديث، كذاب مفتر، أكذب من فرعون فعلم أن في عطية كلاماً شديداً لا كما قال الهيثمي. وضعفه جماعة تضعيفاً ليناً، والغرض من نقل هذا ليس أن إطلاق تلك الكلمات عليه مختار عندي، فإن المختار عندي قول أبي حاتم: ضعيف يكتب حديثه. فإنه أعدل الأقوال وأصوبها، ولكن المقصود التنبيه على خطأ الهيثمي في قصر التضعيف على تضعيف لين. (والثالث) أنه مدلس كما صرح به الحافظ ابن حجر، ويدلس شر تدليس كما قال الإمام أحمد: بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي فيأخذ عنه التفسير، كان يكنيه بأبي سعيد، فيقول قال أبو سعيد، يعني أنه يوهم أنه الخدري، فهذا تدليس أي تدليس، قال في توضيح الأفكار: فإن صادف شهرة راو ثقة يمكن أخذ ذلك الراوي عنه فمفسدته أشد كما وقع لعطية العوفي في تكنية محمد بن السائب الكلبي أبا سعيد فكان إذا حدث عنه يقول حدثني أبو سعيد، فيوهم أنه أبو سعيد الخدري، لأن عطية كان قد لقيه وروى عنه، وهذا أشد ما بلغنا من مفسدة تدليس الشيوخ اهـ. يعني ما قال الحافظ ابن حجر اهـ. (والرابع) أن جماعة من النقاد أعلوا حديث أبي سعيد "من أسلف في شيء فلا يصرفة إلى غيره" بالضعف، كما نقله الحافظ في تلخيص الحبير مع أن رواته كلهم إلى عطية موثقون، فما جاء فيه الضعف إلى من قبله، فإن سنده في سنن أبي داود هكذا: حدثنا محمد بن عيسى أخبرنا أبو بدر عن زياد بن خيثمة عن سعد –يعني الطائي- عن عطية بن سعد عن أبي سعيد الخدري. وفي سنن ابن ماجه هكذا: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا شجاع بن الوليد حدثنا زياد بن خيثمة عن سعد عن عطية عن أبي سعيد، وفي رواية أخرى هكذا: حدثنا عبد الله بن سعيد حدثنا شجاع بن الوليد عن زياد بن خيثمة عن عطية عن أبي

_ 1 أي مساويا لبشر بن حرب وأبي هارون عمارة ابن جوين المار ذكرهما.

سعيد، قال ابن ماجه فذكر مثله، لم يذكر سعداً، أما محمد بن عيسى فقال الحافظ في التقريب: محمد بن عيسى بن نجيح أبو جعفر الطباع البغدادي نزيل أذنة1 ثقة فقيه، كان من أعلم الناس بحديث هيثم، من العاشرة، مات سنة أربع وعشرين وله أربع وسبعون اهـ. وقال في الخلاصة: محمد بن عيسى بن نجيح البغدادي أبو جعفر الطباع سكن أذنة، عن محمد بن مطرف وابن إبراهيم بن سعد وهيثم وخلق، وعنه البخاري تعليقاً وأبو داود والذهلي والدارمي، وقال أبو حاتم: ثقة مأمون، وقال أبو داود: وكان يحفظ نحوا من أربعين ألف حديث اهـ. وقال في الكاشف: محمد بن عيسى بن الطباع أبو جعفر أخو إسحاق ويوسف، نزل أذنة، وروى عن مالك وأبي غسان ومحمد بن مطرف وعبدة، وعنه الدارمي وأحمد بن جليد الحلبي وعلق له البخاري، وكان حافظاً مكثراً فقيهاً، قال وكان يحفظ نحواً من أربعين ألف حديث، وقال أبو حاتم: ثقة مأمون، ما رأيت أحفظ للأبواب منه اهـ. وأما أبو بدر فاسمه شجاع بن الوليد قال في التقريب: شجاع بن الوليد بن قيس السكوني أبو بدر الكوفي صدوق ورع له أوهام، من التاسعة، مات سنة أربع ومائتين اهـ، ورمز له الحافظ ع الدال على أنه روى له أصحاب الأصول الستة، وقال في الكاشف: شجاع بن الوليد وأبو بدر السكوني الحافظ الصالح عن الأعمش وهشام ابن عروة وعنه ابنه الوليد اهـ. وقال في الخلاصة: شجاع بن الوليد بن قيس السكوني أبو بدر الكوفي نزيل بغداد محدث صالح عن الأعمش وهشام وعطاء بن السائب، وعنه محمد بن عبد الرحيم البزار وأحمد بن محمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وابنه الوليد بن شجاع، قال أحمد: كان شيخاً صالحاً صدوقاً، وقال أحمد بن أبي خيثمة وعبد الخالق بن منصور: ثقة، قال ابن سعد: مات سنة أربع ومائتين، له في البخاري فرد حديث اهـ. وقال في

_ 1 أذنة هي التي يسميها الترك أطنة، وهي في الأصل من سورية.

الميزان: شجاع بن الوليد أبو بدر الكوفي السكوني الحافظ صدوق مشهور، روى عن مغيرة بن مقسم وليث، وعنه ابنه الوليد وأبو خيثمة وخلق، وثقه ابن معين وغيره، قال أبو زرعة: لا بأس به، وقال أبو حاتم: لين الحديث شيخ ليس بالمتين، لا يحتج به إلا أن عنده عن محمد بن عمرو أحاديث صحاح، وقال المروزي: قلت لأبي عبد الله: أبو بدر ثقة؟ قال: أرجو أن يكون صدوقاً قد جالس الصالحين، وروى وكيع عن الثوري قال: ليس في الكوفة أعبد من أبي بدر اهـ ملخصاً. وأما زياد بن خيثمة فقال في التقريب: زياد بن خيثمة الجعفي الكوفي ثقة من السابعة اهـ. وقال في الخلاصة: زياد بن خيثمة الجعفي عن الشعبي ومجاهد وعنه زهير بن معاوية وهشيم ووكيع، وثقه ابن معين اهـ. ورمز له في الخلاصة م 4 الدال على أنه روى له مسلم وأصحاب السنن الأربعة، وقال في الكاشف: زياد بن خيثمة الكوفي عن الشعبي ومجاهد وعنه هشيم ووكيع ثقة اهـ. وأما سعد الطائي فقال الحافظ في التقريب: سعد أبو مجاهد الطائي الكوفي لا بأس به من السادسة، ورمز له خ د ت ق وهذا يدل على أنه من رجال البخاري، وقال في الخلاصة: سعد الطائي أبو مجاهد الكوفي عن محل بن خليفة وعنه إسرائيل والأعمش وثقه ابن حبان اهـ. وقال في التهذيب: ووكيع اهـ. وأما محمد بن عبد الله بن نمير الواقع في سند ابن ماجه فقال الحافظ في التقريب: محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني بسكون الميم الكوفي أبو عبد الرحمن ثقة حافظ فاضل من العاشرة، مات سنة أربع وثلاثين1 اهـ، وقال في الخلاصة: محد بن عبد الله ابن نمير بضم النون الهمداني خارفي بمعجمة أبو عبد الرحمن الكوفي الحافظ أحد الأعلام عن أبي خالد الأحمر وابن عيينة وأبي معاوية وخلق وعنه خ م د ق، عظمه أحمد وأجله، وقال النسائي: ثقة مأمون، قال ابن حبان: مات سنة أربع وثلاثين ومائتين اهـ. وقال في الكاشف: محمد بن عبد الله بن نمير أبو عبد الرحمن الخارفي الحافظ الزاهد عن المطلب بن زياد وابن عيينة وخلق، وعنه خ م د ق ومطين وأبو يعلى، قال أبو إسماعيل الترمذي: كان أحمد بن حنبل يعظم ابن نمير تعظيماً

_ 1 أي ومائتين.

عجيباً، وقال أحمد بن صالح: ما رأيت بالعراق مثله اهـ. وأما عبد الله بن سعيد -الواقع في سند ابن ماجه الآخر- فقال الحافظ في التقريب: عبد الله بن سعيد بن حصين الكندي أبو سعيد الأشج الكوفي ثقة من صغار العاشرة مات سنة سبع وخمسين1 اهـ. وقال في الخلاصة: عبد الله بن سعيد بن حصين الكندي الكوفي أبو سعيد الأشج الحافظ أحد الأئمة عن عبد السلام بن حرب وأبي خالد الأحمر والمحاربي وابن إدريس وهشيم وطبقتهم وعنه ع قال أبو حاتم: ثقة إمام أهل زمانه، قيل مات سنة سبع وخمسين ومائتين اهـ. وقال في الكاشف: عبد الله بن سعيد أبو سعيد الأشج الكندي الحافظ عن هشيم والمطلب بن زياد وعنه ع وابن أبي حاتم، قال أبو حاتم: ثقة إمام أهل زمانه. وقال الشطوى2: ما رأيت أحفظ منه اهـ. فقد ثبت أن ضعف الحديث المذكور ليس إلا من قبل عطية، ولذا صرح به الحافظ، فعلم أنه عند هؤلاء النقاد ضعيف. (والخامس) أن وجه ضعف عطية ليس منحصراً في التشيع والتدليس، بل له وجه آخر أيضاً غيرهما وهو عدم الضبط وكثرة الخطأ، صرح به الحافظ ابن القيم في الهدى والحافظ ابن حجر في التقريب، فليفهم. (السادس) أن جارحيه أكثر من موثقيه، فلنعد الجارحين فنقول: من الجارحين أبو حاتم وسالم المرادي وأحمد وهشيم ويحيى والنسائي والبيهقي والثوري وابن عدي وعبد الحق والذهبي والمنذري والحافظ ابن القيم والحافظ ابن حجر والدارقطني، ومن الموثقين ابن معين والترمذي، فما وزانهما في جنب ذلك السواد الأعظم

_ 1 أي ومائتين. 2 وهو محمد بن أحمد بن بلال، كذا في تهذيب التهذيب في ترجمة أبي سعيد الأشج هذا.

إذا تمهد هذا فنقول: الراجح في عطية الضعف، فإن جارحيه أكثر من معدّليه، ولأن كلام الموثقين أيضاً لا يقتضي أن حديثه فيما تفرد به مما يحتج به، فإن ابن معين قال في حقه صالح كما في الميزان، وهذه اللفظة في المرتبة السادسة من مراتب التوثيق، فهذا توثيق لين، وحكمه أنه يكتب حديث للاعتبار، فهذا التوثيق لا ينافي القول بالضعف، وأما الترمذي فلم يصرح بتوثيقه، نعم حسن له غير ما حديث، وتحسينه لا يدل على أن عطية ممن يحتج بحديثه في كل موضع، فإنه ربما يحسن الحديث لمجيئه من طريق أخرى، ولاحتمال أن يكون التحسين في موضع قد ثبت عند الترمذي التصريح بالتحديث فيه، فإن عطية مدلس، وحديث المدلس إنما يقبل إذا صرح بالتحديث، على أن الترمذي متساهل في التصحيح والتحسين، ولذا لم يعتمد العلماء عليه في هذا الباب، وردوا على تصحيحه وتحسينه في غير ما موضع. قال الذهبي في الميزان في ترجمة كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف بن زيد المزني: وأما الترمذي فروى من حديثه "الصلح جائز بين المسلمين" وصححه، فلذا لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي اهـ. وقال في (البرهان شرح مواهب الرحمن) : وقال ابن دحية في العلم المشهور: وكم حسن الترمذي في كتابه من أحاديث موضوعة وأسانيد واهية، منها هذا الحديث اهـ. وابن حزم قد زعم أنه مجهول، والمجهول لا يعتبر تحسينه وتصحيحه، كذا في توضيح الأفكار، وهذا القول وإن كان متعقباً ولكن المقصود هناك تعداد من لم يعتمد على تصحيح الترمذي وتحسينه، وقال المنذري في الترغيب والترهيب: وأنبّه على كثير مما حضر في حال الإملاء مما تساهل أبو داود في السكوت عن تضعيفه، أو الترمذي في تحسينه، أو ابن حبان والحاكم في تصحيحه، لا انتقادا عليهم رضي الله عنهم، بل مقياساً للتبصر في نظائرها من هذا الكتاب، وكل حديث عزوته إلى أبي داود وسكت عنه فهو كما ذكر أبو داود، ولا ينزل عن درجة الحسن، وقد يكون على شرط الصحيحين اهـ. وقال الحافظ ابن حجر في (تلخيص الحبير) تحت حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم

سئل عن العمرة أواجبة؟ قال "لا وإن تعتمر فهو أولى" اهـ: في تصحيحه أي الترمذي نظر كثير من أجل الحجاج، فإن الأكثر على تضعيفه، والاتفاق على أنه مدلس، وقال النووي: ينبغي أن لا يغتر بكلام الترمذي في تصحيحه فقد اتفق الحفاظ على تضعيفه اهـ. وقال في التلخيص تحت حديث جد كثير1 في تكبير العيد: وقد قال البخاري والترمذي: إنه أصح شيء في هذا الباب، وأنكر جماعة تحسينه على الترمذي. وقال تحت حديث عبد الله بن مسعود في عدم رفع اليدين: هذا الحديث حسنه الترمذي، وصححه ابن حزم، وقال ابن المبارك: لم يثبت عنه، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: هذا خطأ، وقال أحمد بن حنبل وشيخه يحيى بن آدم: هو ضعيف. نقله البخاري عنهما وتابعهما على ذلك، وقال أبو داود: ليس بصحيح، وقال الدارقطني: لم يثبت، وقال ابن حبان في الصلاة: هذا أحسن خبر روى أهل الكوفة في نفي رفع اليدين في الصلاة عند الركوع وعند الرفع منه، وهو في الحقيقة أضعف شيء يعول عليه، وإن له عللاً تبطله. وهؤلاء الأئمة إنما طعنوا كلهم في طريق عاصم بن كليب الأولى اهـ. ومن ثم صرح العلماء بأن ما حسنه الترمذي أو صححه ليس من جنس ما صححه إمام من الأئمة أو حسنه حتى يكون مما يجب العمل به، بل هو اصطلاح جديد، قال في (توضيح الأفكار) : فإن قلت قد صرحوا بأن عنده –أي الترمذي- نوع تساهل في التصحيح، فقد حكم بالحسن مع وجود الانقطاع في أحاديث في سننه، وحسن فيها بعض ما انفرد به راويه كما صرح هو بذلك، فإنه يورد الحديث ثم يقول عقيبه: إنه حسن غريب، وحسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، قلت: هذا كله لا يضر، لأن ذلك اصطلاح جديد له، ومن بلغ النهاية في الإمامة والحفظ

_ 1 كذا في الأصل، وهو مغلق لا يفهم، والمراد كما في التلخيص: حديث كثير ابن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده، قال الحافظ بعد ذكره هكذا: وكثير ضعيف وقد قال البخاري الخ. وكتبه محمد رشيد رضا.

لا ينكر عليه ابتداع اصطلاح يختص به، وحينئذ فلا مشاحة في الاصطلاح، وبهذا يجاب عما استشكلوه من جمعه بين الصحة والحسن على متن واحد مع ما هو معلوم من تغابرهما اهـ. أي كلام ابن حجر الهيتمي. قلت: إذا كان اصطلاح الترمذي أن الحسن والصحيح شيء واحد، فإنه لا يصح حمل قوله صحيح على المعنى الذي نحن بصدده، بل يحمل على أنه قسم من الحسن. ثم قال: وقد وقع للبغوي في المصابيح اصطلاح آخر في الصحيح والحسن، فجعل الصحيح ما رواه الشيخان أو أحدهما في كتابيهما، والحسن ما روى غيرهما. وقد اخترع غيره اصطلاحاً آخر كالحاكم والخطيب، فإنهما اصطلحا على إطلاق الصحة على جميع ما في سنن أبي داود والنسائي، ووافقهما في النسائي جماعة منهم أبو علي النيسابوري وأبو أحمد بن عدي والدارقطني، اهـ. ملتقطاً من فهرست ابن حجر الهيتمي. وإنما نقلته لئلا يقع الناظر على تصحيح الترمذي أو تحسين البغوي فيظن أنه من قسم ما صححه إمام من الأئمة، أو تحسين بالمعنى الذي ذكره المصنف وغيره للصحيح، بل لا بد من معرفة اصطلاح الإمام الذي قال صحيح أو حسن قبل ذلك اهـ. وقال في (توضيح الأفكار) بعد ذكر صحيح ابن خزيمة وابن حبان: وعلى كل حال فلا بد للتأهل من الاجتهاد والنظر، ولا يقلد هؤلاء ومن نحا نحوهم، فكم حكم ابن خزيمة بالصحة لما لا يرتقي عن رتبة الحسن، بل فيما صححه الترمذي من ذلك جملة مع أنه يفرق بين الحسن والصحيح. انتهى ما قال ابن حجر في فهرسته. قلت: فلا تأخذ مما قاله المصنف والزين وغيرهما حكماً كلياً اهـ. وأيضاً قال في (توضيح الأفكار) : اعلم أنه يظهر من كلام المنصف أنه يعمل بما حسنه الترمذي، وقد عرفت مما سقناه عن الحافظ ابن حجر أنه حسن الترمذي أحاديث فيها ضعيف، وفيها من رواية المدلسين ومن كثر غلطه وغير ذلك، فكيف يعمل بتحسينه وهو بهذه الصفة؟ وقد نقل الحافظ عن الخطيب أنه قال: أجمع أهل العلم على أن الخبر لا يجب قبوله إلا من العاقل الصدوق المأمون على ما يخبر به، قال الحافظ أيضاً: وقد صرح أبو الحسن بن القطان أحد الحفاظ النقاد من أهل

الغرب في كتابه (بيان الوهم والإيهام) بأن هذا القسم لا يحتج به كله بل يعمل به في فضائل الأعمال، ويتوقف على العمل به في الأحكام، إلا إذا كثرت طرقه أو عضده اتصال عمل أو موافقة شاهد صحيح أو ظاهر القرآن، وهذا حسن قوي واثق ما أظن منصفاً يأباه دال على أن الحديث إذا وصفه الترمذي بالحسن لا يلزم أن يحتج به، لأنه أخرج حديث خيثمة البصري عن الحسن عن عمران بن حصين وقال بعده: هذا حديث حسن، وليس إسناده بذاك. وقال في كتاب العلم بعد أن أخرج حديثاً في فضل العلم: هذا حديث حسن، وإنما لم نقل هذا الحديث صحيح لأنه يقال إن الأعمش دلس فيه، فقال: حدثت عن أبي صالح عن أبي هريرة، فحكم له بالحسن للتردد الواقع فيه، وامتنع عن الحكم عليه بالصحة لذلك، لكن في كل من المثالين نظر، لاحتمال أن يكون سبب تحسينه لهما إنما جاء من وجه آخر كما تقدم تقريره، ولكن محل بحثنا هنا هل يلزم من الوصف بالحسن الحكم له بالحجة أم لا بل يتوقف، والقلب إلى ما حررة ابن القطان أميل. وأيضاً قال فيه: ثم قال –أي الحافظ في نكته على ابن الصلاح-: إنه يدل على أن الحديث إذا وصفه الترمذي بالحسن لا يلزم أن يحتج به، فإنه أخرج حديثاً من طريق خيثمة البصري عن الحسن عن عمران بن الحصين، وقال بعده: هذا حديث حسن، وليس إسناده بذاك، وقد قدمنا ذلك اهـ. وأيضاً قال فيه: على أنه لا يعزب عنك ما أسلفناه فيما صححه أو حسنه من البحث فتذكر اهـ. ومن أجل ذلك قد رد المنذري في (تلخيص سنن أبي داود) على الترمذي في غير ما موضع ولم يقبل تصحيحه وتحسينه. فمنه ما قال تحت حديث المغيرة بن شعبة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين: أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح، وذكر أبو بكر البيهقي حديث المغيرة هذا وقال: ذلك حديث منكر ضعفه سفيان الثوري وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني ومسلم بن الحجاج. وأبو قيس الأودي اسمه عبد الرحمن بن مروان الأودي الكوفي هو وإن كان

البخاري قد احتج به، فقد قال الإمام أحمد بن حنبل: لا يحتج بحديثه، وسئل عنه أبو حاتم الرازي فقال: ليس بقوي، هو قليل الحديث وليس بحافظ، قيل له كيف حديثه؟ قال صالح، هو لين الحديث اهـ. ومنه ما قال تحت حديث علي إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج من الخلاء فيقرئنا القرآن، الحديث، قال الترمذي: حسن صحيح، وذكر أبو بكر البزار أنه لا يروى عن علي إلا من حديث عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة، وحكى البخاري عن عمرو بن مرة: كان عبد الله يعني ابن سلمة يحدثنا فنعرف وننكر وكان قد كبر، لا يتابع في حديثه. وذكر الإمام الشافعي هذا الحديث وقال: وإن لم يكن أهل الحديث يثبتونه. وذكر الخطابي أن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه كان يوهن حديث علي هذا. ومنه ما قال تحت حديث أبي عطية قال: كان مالك بن حويرث يأتينا إلى مصلانا هذا فأقيمت الصلاة، الحديث. قال الترمذي: حسن. وسئل أبو حاتم الرازي عن أبي عطية قال: لا يعرف ولا يسمى اهـ. قلت: قال الترمذي تحت حديث أبي عطية في تعجيل الإفطار: وأبو عطية اسمه مالك بن أبي عامر الهمداني، ويقال مالك بن عامر وهو أصح. هذا آخر كلام الترمذي، فقول أبي حاتم "لا يسمى" يعارضه1. ومنه ما قال تحت حديث وائل بن حجر في باب وضع الركبتين قبل يديه: قال الترمذي: حسن، قال الدارقطني: تفرد به يزيد عن شريك ولم يحدث به عن عاصم ابن كليب غير شريك، وشريك ليس بالقوي فيما يتفرد به، وقال أبو بكر البيهقي: هذا حديث يعد في أفراد شريك القاضي، وإنما تابعه همام مرسلاً، هكذا ذكره البخاري وغيره من الحفاظ المتقدمين. قلت: قال الترمذي نفسه تحت حديث جابر إن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثا ثلاثا، قال: نعم، وشريك كثير الغلط، وقد استغرب الترمذي حديث علي "أنا دار الحكمة وعلي بابها" وأنكره من جهة تفرد شريك، ولم يحسنه.

_ 1 أي يعارض قول الترمذي في تسمية أبي عطية.

ومنه ما قال تحت حديث "لا جلب ولا جنب": وأخرج الترمذي من حديث الحسن البصري عن عمران بن حصين وقال: حديث حسن صحيح. وقد ذكر علي بن المديني وأبو حاتم الرازي وغيرهما من الأئمة أن الحسن لم يسمع من عمران بن حصين اهـ. قلت: قد حسن الترمذي حديث الحسن عن عمران وصححه في ما موضع، منه حديث في ميراث الجد، ومنه حديث في الكي، ومنه حديث "لا أركب الأرجوان ولا ألبس المعصفر"، ومنه حديث في الجلب على الخيل في السباق. ومنه ما قال تحت حديث سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تخرص العنب كما تخرص النخل. أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب. وذكر غير الترمذي أنه هذا الحديث منقطع، وما ذكره ظاهر جدا فإن عتاب بن أسيد توفي في اليوم الذي توفي فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ومولد سعيد بن المسيب في خلافة عمر سنة خمس عشرة على المشهور، وقيل كان مولده بعد ذلك، والله عز وجل أعلم. ومنه ما قال تحت حديث أبي سلمة عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: سمعت رسول اله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: أنا الرحمن وهي الرحم"، وأخرجه الترمذي وقال: حديث صحيح. وفي تصحيحه نظر، قال يحيى بن معين: أبو سلمة ابن عبد الرحمن لم يسمع من أبيه شيئاً، وذكر غيره أن أبا سلمة وأخاه حميداً لم يصح لهما سماع من أبيهما. ومنه ما قال تحت حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق العقيق. وأخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن. هذا آخر كلامه، وفي إسناده يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف، وذكر البيهقي أنه تفرد به. قلت: وقد صحح الترمذي حديث ابن أبي زياد في مواضع: منها حديث علي في المذي، وحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم، وحديث أن العباس دخل على النبي صلى الله عليه وسلم مغضباً. وقد حسن أيضاً حديثه في حديث إنها

دخلت العمرة في الحج، وفي حديث عبد الله بن عمر في التولي يوم الزحف، مع أن يزيد ليس من رجال الحسن، فكيف الصحيح؟ قال الذهبي: يزيد بن أبي زياد الكوفي أحد علماء الكوفة المشاهير المجمع على سوء حفظه، قال يحيى: ليس بالقوي، وقال أيضا: لا يحتج به، وقال ابن المبارك: ارم به، وقال شعبة: كان يزيد بن أبي زياد رفاعا1، وقال علي بن عاصم قال لي شعبة: ما أبالي إذا كتبت عن يزيد بن أبي زياد أن لا أكتبه عن أحد، وقال وكيع: يزيد بن أبي زياد عن إبراهيم بن علقمة عن عبد الله –يعني حديث الرايات- ليس بشيء، وقال أحمد: حديثه ليس بذاك، وحديثه عن إبراهيم يعني في الرايات ليس بشيء. ثم ذكر حديث الرايات قال: قلت هذا ليس بصحيح. أما أحسن ما روى أبو قدامة سمعت أبا أسامة يقول في حديث يزيد عن إبراهيم في الرايات: لو حلف عندي خمسين يميناً قسامة ما صدقته أبداً، أهذا حديث إبراهيم؟ أهذا مذهب علقمة؟ أهذا مذهب عبد الله؟ قال ابن عدي: يزيد بن أبي زياد مولى بني هاشم يكنى أبا عبد الله، علي بن المنذر حدثنا ابن فضيل قال: كان يزيد بن أبي زياد من أئمة الشيعة الكبار، خرج له مسلم مقروناً بآخر اهـ. قال المنذري في الترغيب والترهيب: يزيد بن أبي زياد الكوفي أحد الأعلام، قال يحيى: لا يحتج به، وقال مرة: ليس بالقوي، ووهاه ابن المبارك، وقال علي بن عاصم قال لي شعبة: ما أبالي إذا كتبت عن يزيد بن أبي زياد أن لا أكتبه عن أحد، وقال أحمد: حديثه ليس بذاك، وأخرج له مسلم مقروناً، وحسن له الترمذي اهـ. قال الحافظ ابن حجر في التقريب: يزيد بن أبي زياد الهاشمي مولاهم الكوفي ضعيف، كبر فتغير، صار يتلقن، وكان شيعياً، من الخامسة، مات سنة ست وثلاثين2 اهـ. قال الذهبي في الكاشف: يزيد بن أبي زياد الكوفي مولى بني هاشم عن مولاه عبد الله بن الحارث بن نوفل وابن جحيفة وابن أبي ليلى، وعنه زائدة وابن إدريس،

_ 1 أي يرفع الأحاديث الموقوفة كثيراً. 2 أي ومائة.

شيعي عالم فهيم صدوق رديء الحفظ لين ولم يترك اهـ. وقال في الخلاصة: يزيد بن أبي زياد الهاشمي عن مولاه عبد الله بن الحارث بن نوفل وأبي جحيفة، وعنه زائدة بن قادمة وأبو عوانة وابن فضيل، وقال: كان من أئمة الشيعة الكبار، وقال ابن عدي: يكتب حديثه، وقال الحافظ شمس الدين الذهبي: هو صدوق رديء الحفظ، قال مطين: مات سنة سبع وثلاثين ومائة، روى له مسلم مقروناً اهـ. ومنه ما قال في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر" وأخرجه الترمذي وقال صحيح، هذا آخر كلامه، وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وقد تكلم فيه جماعة من الأئمة اهـ. قلت: قال المنذري في الترغيب والترهيب: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي صدوق إمام ثقة رديء الحفظ كثيراً، كذا قال الجمهور فيه. وقال ابن حبان: كان رديء الحفظ فاحش الخطأ فكثر المناكير في حديثه فاستحق الترك، تركه أحمد ويحيى كذا قال اهـ. قال الحافظ في التقريب: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي القاضي أبو عبد الرحمن صدوق سيء الحفظ جدا اهـ. وقال في الخلاصة: قال أبو حاتم: محله الصدق، شغل بالقضاء فساء حفظه، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال العجلي: كان فقيهاً صاحب سنة جائز الحديث اهـ. وقال الذهبي في الكاشف: قال أحمد سيء الحفظ، وقال أبو حاتم محله الصدق اهـ. ومنه ما قال تحت حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه في ميراث ابن الملاعنة: قال الترمذي: حسن، وفي إسناده عمرو بن رؤبة التغلبي قال البخاري: فيه نظر، وسئل أبو حاتم الرازي فقال: صالح الحديث. قيل تقوم به الحجة؟ فقال: لا ولكن صالح، وقال الخطابي: وهذا الحديث غير ثابت عند أهل النقل، وقال البيهقي: لم يثبت البخاري ولا مسلم هذا الحديث لجهالة بعض رواته اهـ. ومنه ما قال تحت حديث عائشة رضي الله عنها في تقبيل الميت: قال الترمذي حسن صحيح، وفي إسناده عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب وقد تكلم

فيه غير واحد من الأئمة اهـ. ومنه ما قال تحت حديث أبي صالح عن ابن عباس في زيارة النساء القبور: قال الترمذي حديث حسن، وفيما قاله نظر، فإن أبا صالح هذا هو باذام ويقال باذان مولى أم هانئ بنت أبي طالب وهو صاحب الكلبي، وقد قيل: إنه لم يسمع من ابن عباس، وقد تكلم فيه جماعة من الأئمة، وقال ابن عدي: ولا أعلم أحداً من المتقدمين رضيه، وقد قيل عن يحيى بن سعيد القطان وغيرها: بخير أمره ولعله براضيه1، حجة أو قال هو ثقة اهـ. وقال الذهبي في الميزان: باذام أبو صالح تابعي ضعفه البخاري، وقال النسائي: باذام ليس بثقة، وقال ابن معين: ليس به بأس، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه تفسير. قلت: روى عن مولاته أم هانئ وأخيها علي وأبي هريرة، وعنه مالك بن مغول وسفيان الثوري وابن أخته عمار بن محمد، وقال يحيى القطان: لم أر أحداً من أصحابنا ترك أبا صالح مولى هانئ. وقال محمد بن قيس عن حبيب بن أبي ثابت: كنا نسمي أبا صالح باذام مولى أم هانئ: دروغ زن، وقال زكريا بن أبي زائدة: كان الشعبي يمر بأبي صالح فيأخذ بأذنه فيهزها ويقول له: ويلك تفسر القرآن وأنت لا تحفظ القرآن! وقال إسماعيل بن أبي خالد: كان أبو صالح يكذب، فما سألته عن شيء إلا فسره لي. وروى ابن إدريس عن الأعمش قال: كنا نأتي مجاهداً فنمر على أبي صالح وعنده بضعة عشر غلاماً ما نرى أن عنده شيئاً، ابن المديني سمعت يحيى بن سعيد يذكر عن سفيان قال: قال الكلبي قال لي أبو صالح: كل ما حدثتك كذب: وروى مفضل بن مهلهل عن مغيرة قال: إنما كان أبو صالح صاحب الكلبي يعلم الصبيان، وضعف تفسيره، وقال ابن معين: إذا روى عنه الكلبي فليس بشيء، وقال عبد الحق في أحكامه ضعيف جداً، فأنكر هذه العبارة عليه أبو الحسن بن القطان.

_ 1 كذا في الأصل.

ومنه ما قال تحت حديث عبد الله بن مالك عن عقبة بن عامر في باب النذر في المعصية قال الترمذي: حديث حسن، وفي إسناده عبد الله بن زحر وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة. قلت: قال المنذري في الترغيب والترهيب: عبيد الله بن زحر قال ابن معين: ليس بشيء. وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات، وإذا روى عن علي بن زيد أتى بالطامات، وإذا اجتمع في إسناد عبيد الله وعلي بن زيد والقاسم ابن عبد الرحمن لم يكن ذلك الحديث إلا مما عملت أيديهم. وقال الدارقطني: ليس بالقوي اهـ. وقال ابن عدي: يقع في أحاديثه ما لا يتابع عليه، كذا في الخلاصة. ومنه ما قال تحت حديث الحسن عن سمرة رضي الله عنه في الشفعة: قال الترمذي: حسن صحيح، هذا آخر كلامه. وقد تقدم اختلاف الأئمة في سماع الحسن من سمرة، والأكثر على أنه لم يسمع منه إلا حديث العقيقة اهـ. قلت: قد حسن الترمذي وصحح حديث الحسن عن سمرة في غير ما موضع، ومنها حديث في الصلاة الوسطى، وحديث في السكتتين، وحديث في غسل يوم الجمعة، وحديث: نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، وحديث "جار الدار أحق بدار الجار"، وحديث "لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضب الله ولا بالنار"، فأكثر المحدثين لم يقبلوا تصحيحه في تلك الأحاديث. ومنه ما قال تحت حديث عمر بن حرملة عن ابن عباس في "باب ما يقول إذا شرب اللبن" قال الترمذي: حسن، وعمر بن حرملة -ويقال ابن أبي حرملة- سئل عنه أبو زرعة الرازي فقال: بصري لا أعرفه إلا في هذا الباب، وفي إسناده أيضاً علي بن زيد بن جدعان أبو الحسن البصري، وقد ضعفه جماعة من الأئمة اهـ. ومنه ما قال تحت حديث ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} الحديث، قال الترمذي: حسن، وفي إسناده خصيف وهو ابن عبد الرحمن الجزري وقد تكلم فيه غير واحد. ومنه ما قال في (كتاب الحمام) وأما حديث ابن عباس فأخرجه الترمذي وقال

حسن، وفي إسناده أبو يحيى القتات، واسمه عبد الرحمن بن دينار –وقيل اسمه زاذان، وقيل عمران وقيل غير ذلك- وقد تكلم فيه غير واحد اهـ. ومنه ما قال تحت حديث سهل بن معاذ بن أنس في كتاب اللباس، قال الترمذي: حسن، وسهل بن معاذ بصري ضعيف، والراوي عنه أبو مرحوم عبد الرحيم بن ميمون بصري أيضاً لا يحتج به اهـ. قال الذهبي في الميزان: سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه ضعفه ابن معين، وقال ابن حبان في الثقات: لست أدري أوقع التخليط منه أو من صاحبه زبان بن فائد. ومنه ما قال تحت حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل عليه ثوبان أحمران فسلم، الحديث، قال الترمذي: حسن. وفي إسناده أبو يحيى القتات وهو كوفي لا يحتج بحديثه، وقال أبو بكر البزار: وهذا الحديث لا نعلم يروى بهذا اللفظ إلا عن عبد الله بن عمرو، ولا نعلم له طريقاً إلا هذه الطريق، ولا نعلم رواه عن إسرائيل إلا إسحاق بن منصور اهـ. ومنه ما قال تحت حديث أبي عبيدة وهو ابن عبد الله بن مسعود عن عبد الله بن مسعود في باب الأمر والنهي قال الترمذي: حسن. وقد تقدم أن أبا عبيدة ابن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه، فهو منقطع اهـ. قال الحافظ في التقريب: والراجح أنه لا يصح سماعه من أبيه اهـ. ومنه ما قال تحت حديث عبد الله بن محيريز عن فضالة بن عبيد في تعليق يد السارق في عنقه. قال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن علي المقدمي عن الحجاج بن أرطأة. وقال النسائي: الحجاج بن أرطأة ضعيف لا يحتج بحديثه، قاله غير واحد من الأئمة. ومنه ما قال تحت حديث عبد الله بن سراقة عن أبي عبيدة بن الجراح في الدجال، قال الترمذي: حسن، وذكر البخاري أن عبد الله بن سراقة لا يعرف له سماع من أبي عبيدة. ومنه ما قال تحت حديث عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه في باب الصبي يولد فيؤذن

في أذنه، قال الترمذي: حسن صحيح، وفي إسناده عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وقد غمزه الإمام مالك، وقال ابن معين: ضعيف لا يحتج بحديثه، وتكلم فيه غيرهما، وانتقد عليه أبو حاتم محمد بن حبان البستي رواية هذا الحديث وغيره اهـ. قال الحافظ في التقريب: عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب العدوي المدني ضعيف من الرابعة اهـ، قال الذهبي في الميزان عفان1 قال كان شعبة يقول: عاصم بن عبيد الله لو قلت له: من بنى مسجد البصرة؟ فيقول: أنبأنا فلان عن فلان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بناه. وقال أبو زرعة وأبو حاتم: منكر الحديث، قال الدارقطني يترك وهو مغفل، وقال ابن عدي: هو مع ضعفه يكتب حديثه، وقال العجلي: لا بأس به، وقال ابن خزيمة: لا أحتج به لسوء حفظه. ومنه ما قال تحت حديث ابن عباس في اتباع الصيد، قال الترمذي: حسن، وفي إسناده أبو موسى عن وهب بن منبه ولا نعرفه. قال الحافظ أبو أحمد الكرابيسي: حديثه ليس بالقائم اهـ، قال الحافظ في التقريب: أبو موسى عن وهب بن منبه مجهول من السادسة اهـ. ومنه ما قال تحت حديث عامر وهو الشعبي قال أخبرني عروة بن مضرس الطائي قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموقف يعني بجمع2 قلت: جئت يا رسول الله من جبلى طيء، الحديث، قال الترمذي: حسن صحيح. هذا آخر كلامه، وقال علي بن المديني: عروة بن مضرس لم يرو عنه الشعبي. والله أعلم اهـ. قلت: قد راجعت سنن أبي داود فوجدت فيه من رواية إسماعيل أنبأنا عامر أخبرني عروة بن مضرس. وراجعت سنن الترمذي فوجدت فيه هكذا عن داود بن أبي هند وإسماعيل بن أبي خالد وزكريا بن أبي زائدة عن الشعبي عن عروة بن مضرس

_ 1 قوله عفان الخ كذا في الأصل، وليس في ترجمة عاصم في الميزان ولا في ترجمة من اسمه عفان، فلينظر أين هو وما أصله؟ وكتبه محمد رشيد 2 جمع هي مزدلفة.

ابن أوس بن حارثة بن لأم الطائي اهـ. ومنه ما قال تحت حديث أبي سعيد في ذكاة الجنين، قال الترمذي: حديث حسن، هذا آخر كلامه. وفي إسناده مجالد بن سعيد الهمداني وقد تكلم فيه غير واحد اهـ. ومنه ما قال تحت حديث أبي واقد في صيد قطع منه قطعة، قال الترمذي: حسن، وفي إسناده عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار المديني قال يحيى بن معين: في حديثه ضعف، وقال أبو حاتم الرازي: لا يحتج به اهـ. قال ابن عدي: هو في جملة من يكتب حديثه من الضعفاء. كذا في الخلاصة. ومنه ما قال تحت حديث سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر البياضي في الظهار، قال الترمذي: حسن، وقال محمد -يعني البخاري-: سليمان بن يسار لم يسمع عندي من سلمة بن صخر، وقال البخاري أيضاً: هو مرسل، سليمان بن يسار لم يدرك سلمة بن صخر. ومنه ما قال تحت حديث قيس بن طلق عن أبيه في السحور، أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب، وقيس هذا قد تكلم فيه غير واحد من الأئمة اهـ. ومنه ما قال تحت حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه في السواك للصائم، أخرجه الترمذي وقال: حسن. وفي إسناده عاصم بن عبيد الله وقد تكلم فيه غير واحد اهـ. ومنه ما قال تحت حديث يونس بن عبيد مولى محمد بن القاسم قال: بعثني محمد بن القاسم إلى البراء بن عازب اهـ. في باب الرايات والألوية. قال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي زائدة. هذا آخر كلامه، وأبو يعقوب الثقفي هذا كوفي، وقال ابن عدي الجرجاني: روى عنه الثقات ما لا يتابع عليه، وقال أيضاً أحاديث غير محفوظة اهـ. قال الذهبي في الميزان: إسحاق بن إبراهيم الثقفي الكوفي عن ابن المنكدر وأبي إسحاق وعنه أبو نعيم وطائفة، قال ابن عدي: روى عن الثقات ما لا يتابع عليه اهـ.

وللترمذي أحاديث أخر صححها أو حسنها وليست بحرية للتصحيح والتحسين: (منها) حديث إسماعيل بن عبيد بن رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه عن جده "إن التجار يبعثون فجاراً إلا من اتقى الله وبر" ما علمت روى عنه سوى عبد الله بن عثمان ابن خثيم، ولكن صحح هذا الترمذي، قاله الذهبي في الميزان. (ومنها) أن الترمذي حسن حديث جميع بن عمير التيمي وفيه كلام شديد، قال الذهبي في الميزان: قال ابن حبان: رافضي يضع الحديث، وقال ابن نمير: كان من أكذب الناس، كان يقول الكراكي تفرخ في السماء ولا تقع فراخها، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه اهـ ملخصاً. (ومنها) أن الترمذي صحح حديث حفص بن عبد الله عن عمران بن حصين في النهي عن التختم بالذهب، وهو حفص الليثي ما علمت روى عنه سوى أبي التياح، ففيه جهالة، قاله الذهبي في الميزان. (ومنها) حديث حنظلة السدوسي البصري: أينحني بعضنا لبعض؟ قال يحيى القطان: تركته عمداً كان قد اختلط، وضعفه أحمد وقال: منكر الحديث يحدث بأعاجيب، وقال ابن معين: ليس بشيء، تغير في آخر عمره، وقال النسائي: ليس بقوي، وقال مرة: ضعيف. قاله الذهبي في الميزان. (ومنها) حديث "صلاة في مسجد قباء كعمرة" في سنده زياد أبو الأبرد عن أسيد بن ظهير، وهذا حديث منكر، ورى عنه عبد الحميد بن جعفر فقط. (ومنها) حديث "الفريعة في العدة" قال الذهبي: زينب بنت كعب بن عجرة ما روى عنها سوى سعد بن إسحاق حديث الفريعة في العدة، قال ابن حزم مجهولة، وقال ت1: تحديثها صحيح.

_ 1 أي الترمذي، وقوله هو الصواب، وقد ذكرها بعضهم في الصحابة كما في تهذيب التهذيب. وكتبه محمد رشيد رضا.

(ومنها) حديث ابن مسعود "لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا"، حسنه الترمذي، مع أن في سنده سعد بن الأحزم الطائي الكوفي وهو مجهول ذكره الذهبي في الميزان فقال: تفرد عنه ولده مغيرة ا.?. (ومنها) حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: "إذا كان غداة الإثنين فائتني أنت وولدك" الحديث أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. أنكر هذا الحديث على رواية عبد الوهاب ابن عطاء حتى قال ابن معين: موضوع. كذا في الخلاصة. (ومنها) حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سبح مائة بالغداة ومائة بالعشي كان كمن حج حجة" الحديث، قال الذهبي في الميزان: رواه الترمذي عن محمد بن وزير وحسنه فلم يصنع شيئاً اهـ. (ومنها) حديث عثمان في تخليل اللحية، فإن الترمذي حسنه وصححه، مع أن في سنده عامر بن شقيق ضعفه ابن معين، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، وقال النسائي: ليس به بأس، كذا في الميزان، والراجح فيه الضعف، قال الحافظ في التقريب: لين الحديث، وقال أحمد: ليس في تخليل اللحية شيء صحيح، وقال أبو حاتم: لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في تخليل اللحية شيء. (ومنها) حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة اهـ. في سنده سلمة بن الفضل الأبرش قاضي الري، وراوي المغازي عن ابن إسحاق يكنى أبا عبد الله، ضعفه ابن راهويه، قال البخاري: في حديثه بعض المناكير، وقال النسائي: ضعيف، وقال ابن المديني: ما خرجنا من الري حتى رمينا بحديث سلمة، وقال أبو حاتم: لا يحتج به، وقال أبو زرعة: كان أهل الري لا يرغبون فيه لسوء رأيه وظلم فيه، كذا في الميزان، وقال الحافظ في التقريب: سلمة بن الفضل الأبرش بالمعجمة مولى الأنصار قاضي الري صدوق كثير الخطأ اهـ. وفي سنده حميد أيضاً وهو مدلس، وقد عنعنه، وفيه محمد بن إسحاق وهو أيضاً مدلس وقد عنعنه.

هذا كله كلام على تحسين الترمذي وتصحيحه، ولو سلم أن تحسين الترمذي وتصحيحه حقيق بالقبول فلا يقبل تحسينه لحديث عطية بالخصوص لظهور علة قادحة. قال في تنقيح الأنظار: اعلم أن التصحيح على ضربين: أحدهما أن ينص على صحة الحديث أحد الحفاظ المرضيين المأمومين فقبل ذلك منه للإجماع وغيره من الأدلة الدالة على وجوب قبول خبر الآحاد كما ذلك مبين في موضعه، إلا أن تظهر علة قادحة في صحة الحديث من فسق في الراوي خفي على من صحح حديثه أو تغفل كثيراً وغير ذلك من المانع من قبول الثقات اهـ. وقال في توضيح الأفكار: حاصله أن قبول خبر العدل بأن الحديث صحيح مقتض للعمل به ما لم يعارضه المانع. انتهى. ومن موجبات ضعف حديث عطية العوفي أنه قد روى عنه حديثان منكران ضعيفان جداً حتى قيل إنهما موضوعان، ورجال سندهما كلهم ثقات غير عطية فهما من بلاياه: (أحدهما) ما ذكره الذهبي في الميزان في ترجمة الحكم بن فضيل ونصه: حدثنا القاسم بن زكريا عن سويد أنبأنا الحكم بن فضيل حدثنا عطية عن أبي سعيد مرفوعاً "اليدان جناح، والرجلان بريد، والأذنان قمع، والعينان دليل، واللسان ترجمان، والطحال ضحك، والرئة نفس، والكليتان مكر، والكبد رحمة، والقلب ملك، فإذا فسد الملك فسد جنوده"، قلت: وقد وثقه أبو داود، وعطية واه. قال الخطيب: الحكم بن فضيل واسطي سكن المدائن يكنى أبا محمد عن سيار أبي الحكم ويعلى بن عطاء روى عنه عاصم بن علي ومحمد بن أبان الواسطي، وقال: كان من العباد. هذا آخر كلام الذهبي، فعلم أن ضعف هذا الحديث ليس من قبل الحكم بن فضيل بل من جهة عطية. و (ثانيهما) ما ذكره الذهبي أيضاً في الميزان في ترجمة سلام بن سليمان1 ونصه هكذا: أخبرنا عبد الرحمن بن مخلد بن كنانة أخبرنا عبد الصمد بن محمد سنة تسع

_ 1 أي ابن سوار.

وستمائة أنبأنا عبد الكريم بن حمزة أنبأنا عبد العزيز بن أحمد أنبأنا تمام أنبأنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن راشد حدثنا يزيد بن محمد بن عبد الصمد حدثنا سلام ابن سليمان حدثنا فضيل بن مرزوق عن عطية العوفي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوم السبت يوم مكر وخديعة، ويوم الأحد يوم عرس وبناء، ويوم الإثنين يوم سفر، ويوم الثلاثاء يوم حديد وبأس، ويوم الأربعاء يوم الأخذ والإعطاء، ويوم الخميس يوم طلب الحوائج ودخول على السلطان، ويوم الجمعة يوم خطبة ونكاح"، وقال النسائي في الكنى: أنبأنا العباس بن الوليد حدثنا سلام بن سليمان ثقة مدائني، وقال ابن عدي: سلام بن سليمان عامة ما يرويه حسان، إلا أن أنه لا يتابع عليه، كذا في الميزان. فعلم أن هذا البلاء ما جاء من قبل سلام بن سليمان إنما جاء من قبل عطية. و (الثاني) أن في سنده فضيل بن مرزوق وهو ممن اختلف فيه، قال الذهبي في الميزان قال النسائي: ضعيف، وكذا ضعفه عثمان بن سعيد. قلت: كان معروفاً بالتشيع من غير سب، وقال أبو عبد الله الحاكم: فضيل بن مرزوق ليس من شرط الصحيح، عيب على مسلم إخراجه في الصحيح، وقال ابن حبان: منكر الحديث جداً، كان ممن يخطئ على الثقات، ويروي عن عطية الموضوعات. قلت: عطية أضعف منه، قال ابن عدي إنه إذا وافق الثقات يحتج به، وروى أحمد بن أبي خيثمة عن ابن معين: ضعيف. انتهى ملخصاً. وأيضاً قال في الميزان: فضيل بن مرزوق الرقاشي هو الأول روى عطية وضعف، وهم من فرّقهما اهـ. وقال أبو حاتم: صدوق يهم كثيراً يكتب حديثه ولا يحتج به كذا في التهذيب. وقال الحافظ في التقريب: صدوق يهم، ورمي بالتشيع اهـ. والقول الراجح فيه ما قاله ابن عدي من أنه إذا وافق الثقات يحتج به، وفي روايته هذا الحديث لا يعلم أحد تابعه، ومن يدعي فعليه البيان. و (الثالث) أن في سنده الفضل بن موفق عن مسعر، ضعفه أبو حاتم، كذا في الميزان والترغيب والترهيب للمنذري والكاشف والتلخيص. فإن قلت: قد وثقه

ابن حبان كما ذكر المنذري في الترغيب والترهيب، قلت لا اعتداد بتوثيق ابن حبان إذا تفرد به. قال الذهبي في الميزان في ترجمة عمارة بن حديد: ولا تفرح بذكر ابن حبان له بين الثقات فإن قاعدته معروفة من الاحتجاج بمن لا يعرفه اهـ. و (الرابع) أن الأشبه أن هذا الحديث موقوف، قال الذهبي في الميزان في ترجمة عبد الله بن صالح بن مسلم العجلي الكوفي: وله عن فضيل بن مرزوق عن عطية عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خرج الرجل من بيته قال: اللهم بحق السائلين عليك وبحق ممشاي" خالفه أبو نعيم رواه عن فضيل فما رفعه، قال أبو حاتم: وقفه أشبه اهـ. والموقوف ليس بحجة عند المحققين. و (الخامس) أن عطية مدلس وقد عنعنه فلا يقبل. فإن قلت: قال الحافظ ابن حجر في تخريج الأذكار: في كتاب الصلاة لأبي نعيم عن فضيل عن عطية قال حدثني أبو سعيد فذكره، لكن لم يرفعه، فقد أمن بذلك تدليس عطية العوفي. قلت: لا يحصل الأمن من تدليس عطية، فإن عطية يكنى محمد بن السائي الكلبي أبا سعيد، فكان إذا حدث عنه يقول حدثني أبو سعيد فيوهم أنه أبو سعيد الخدري كما تقدم. على أن الحديث على ذلك التقدير موقوف لا مرفوع، فإذا لا أظنك شاكاً في الحكم بضعف هذا الحديث، ومن ثم صدّر المنذري هذا الحديث في باب الترغيب في المشي إلى المساجد بلفظ: "روي"، وأهمل الكلام عليه في آخره، وهما عنده دلالتان للإسناد الضعيف كما قال في ديباجة الكتاب، وصرح النووي في الأذكار بضعفه، فبطل قول صاحب الرسالة1 "بسند صحيح". قوله: وروى الحديث المذكور أيضا ابن السني بإسناد صحيح عن بلال رضي الله عنه مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج، الحديث. أقول: القول بصحة إسناده خطأ بين، وغلط فاحش، فإن هذا الحديث أشد

_ 1 أي المردود عليه وهو أحمد دحلان.

ضعفاً من حديث أبي سعيد الخدري، قال النووي في الأذكار: حديث ضعيف، أحد رواته الوازع بين نافع العقيلي وهو متفق على ضعفه، وأنه منكر الحديث اهـ. قال الحافظ في شرح الأذكار بعد تخريجه من طريق ابن السني بهذا اللفظ: هذا حديث واه أخرجه الدارقطني في الأفراد من هذا الوجه، وقال: تفرد به الوازع، وهو متفق على ضعفه وأنه منكر الحديث، قال الحافظ: والقول فيه أشد من ذلك، فقال ابن معين والنسائي: ليس بثقة، وقال أبو حاتم وجماعة: متروك، وقال الحاكم: روى أحاديث موضوعة، قال ابن عدي: أحاديثه كلها غير محفوظة. قال الحافظ: وقد اضطرب في هذا الحديث فأخرجه أبو نعيم في اليوم والليلة من وجه آخر عنه فقال عن سالم بن عمر عن بلال –محل قوله في الطريق الأول: عن نافع عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله عن بلال- قال الحافظ ولم يتابع عليه. كذا في الفتوحات الربانية. وفي (كتاب الجرح والتعديل) لأبي حاتم: الوازع بن نافع العقيلي أصله من المدينة سكن الجزيرة، يروي عن سالم بن عبد الله وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وروى عنه أهل الجزيرة، وكان ممن يروي الموضوعات عن الثقات على قلة روايته، ويشبه أنه لم يكن المتعمد لذلك، بل وقع في روايته لكثرة وهمه، فبطل الاحتجاج به لما انفرد به عن الثقات بما ليس من أحاديثهم. حدثنا الحنبلي قال حدثنا أحمد بن زهير عن يحيى بن معين قال: وازع بن نافع ليس بثقة، ثم نقل عنه أحاديث تكلم في إسناد بعضها بأنه موضوع أو مقلوب اهـ. كذا في الفتوحات الربانية، وقال الذهبي في الميزان: الوازع بين نافع العقيلي الجزيري روى عن أبي سلمة وسالم بن عبد الله وعنه علي بن ثابت وبقية وجماعة، قال ابن معين: ليس بثقة. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: متروك. وقال: ليس بثقة. قال ابن عدي: عامة ما يرويه الوازع غير محفوظ اهـ ملخصاً. وقال الدارقطني في سننه: الوازع بن نافع ضعيف الحديث. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: وهو ضعيف. وقال أيضاً: وهو متروك. وقال أيضاً: مجمع على ضعفه.

قوله: ومما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من التوسل أنه كان يقول في بعض أدعيته: بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي -إلى قوله- وهذا الفظ قطعة من حديث طويل رواه الطبراني في الكبير والأوسط وابن حبان والحاكم وصححوه. أقول: قال الهيثمي في مجمع الزوائد: وعن أنس بن مالك قال: لما توفيت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس عند رأسها فقال: "رحمك الله يا أمي كنت أمي بعد أمي، تجوعين وتشبعينني، وتعرين وتكسونني، وتمنعين نفسك طيباً وتطعمينني، تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة"، ثم أمر أن تغسل ثلاثاً ثلاثاً، فلما بلغ الماء الذي فيه الكافور سكبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثم خلع رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه فألبسها إياه وكفنها ببرد فوقه، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاماً أسود يحفرون فحفروا قبرها، فلما بلغوا اللحد حفره رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وأخرج ترابه بيده، فلما فرغ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضطجع فيه ثم قال: "الله الذي يحيى ويميت وهو حي لا يموت، اللهم اغفر لي ولأمي فاطمة بنت أسد، ولقنها حجتها ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي فإنك أرحم الراحمين" وكبر عليها وأدخلوا بها اللحد هو والعباس وأبو بكر الصديق رضي الله عنهما، رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه روح بن صلاح وثقه ابن حبان والحاكم وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح اهـ. وقال الذهبي في الميزان: روح بن صلاح المصري يقال به ابن سبابة، ضعفه ابن عدي، يكنى أباب الحارث، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحاكم: ثقة مأمون اهـ. فقد علم بذلك أن في سنده روح بن صلاح المصري وهو ضعيف ضعفه ابن عدي، وهو داخل في القسم المعتدل من أقسام من تكلم في الرجال كما في فتح المغيث للسخاوي، ولا اعتداد بذكر ابن حبان له في الثقات، فإن قاعدته معروفة من الاحتجاج بمن لا يعرف كما في الميزان، وقد تقدم. وكذلك لا اعتداد بتوثيق الحاكم وتصحيحه فإنه داخل في القسم المتسمح، قال السخاوي: وقسم منهم متسمح كالترمذي

والحاكم اهـ. قال السيوطي في تدريب الراوي: وهو متساهل، فما صححه ولم نجد فيه لغيره من المعتمدين تصحيحاً ولا تضعيفاً حكمنا بأنه حسن، إلا أن تظهر فيه علة توجب ضعفه. قال البدر بن جماعة: والصواب أنه يتتبع ويحكم عليه بما يليق بحاله من الحسن أو الضعف أو الصحة. ووافقه العراقي وقال: إن حكمه عليه بالحسن فقط تحكم، قال: إلا أن ابن الصلاح قال ذلك بناء على رأيه أنه انقطع التصحيح في هذه الأعصار، فليس لأحد أن يصححه، فلهذا قطع النظر عن الكشف عليه. والعجب من المصنف كيف وافقه هنا مع مخالفته له في المسألة المبني عليها كما سيأتي اهـ. وليعلم أن في هذا الباب أيضا حديث أبي أمامة فيه: "أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السموات والأرض وبكل حق هو لك وبحق السائلين عليك" رواه الطبراني في الكبير. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: وفيه فضالة بن جبير وهو ضعيف مجمع على ضعفه اهـ. قال الذهبي في الميزان: فضالة بن جبير أبو المهند الغداني صاحب أبي أمامة، قال ابن عدي: عامة أحاديثه غير محفوظة، وقال ابن حبان لا يحل الاحتجاج به بحال، يروي أحاديث لا أصل لها، وروى الكناني عن أبي حاتم الرازي قال: ضعيف الحديث. انتهى ملخصاً. وفي الباب حديث أن ابن عباس قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه1 قال: "سأل بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلا تبت عليّ، فتيب عليه"، قال الدارقطني: تفرد به عمرو بن ثابت، وقد قال يحيى: إنه لا ثقة ولا مأمون، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات، كذا في الفوائد المجموعة للشوكاني. قال الذهبي في الميزان: عمرو بن ثابت أبي المقدام بن هرمز الكوفي يكنى أبا ثابت، قال ابن معين: ليس بشيء، وقال مرة: ليس بثقة ولا مأمون، وقال النسائي:

_ 1 إن الله تعالى قد بين الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فدعا بها هو وحواء بقوله {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، وهذا أقوى رد للمتن الذي رواه هذا الوضاع المجوسي الأصل من غلاة الرافضة، وكتبه محمد رشيد رضا.

متروك الحديث، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات، وقال أبو داود: رافضي، وقال البخاري ليس بالقوي عندهم. وقال هناد: كتبت عنه كثيراً فبلغني أنه كان عند حبان بن علي فأخبرني من سمعه يقول: كفر الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أربعة، فقيل لحبان: ألا تنكر عليه؟ فقال حبان: هو جليسنا. ولما تكلم عمرو بهذا أخذ يتنادم1 يعني حبان. وقال ابن المبارك: لا تحدثوا عن عمرو بن ثابت فإنه كان يسب السلف. وقال الفلاس: سألت عبد الرحمن عن حديث لعمرو بن ثابت فأبى أن يحدث عنه. وروى معاوية ابن صالح عن يحيى قال: عمرو بن ثابت لا يكذب في حديثه. وفي سؤالات الآجري أبا داود عنه فقال: رافضي خبيث. وقد روى إسماعيل بن أبي خالد وسفيان عنه كذا. انتهى ملخصاً. قوله: ومن الأحاديث الصحيحة التي جاء التصريح فيها بالتوسل ما رواه الترمذي والنسائي والبيهقي والطبراني بإسناد صحيح عن عثمان بن حنيف وهو صحابي مشهور رضي الله تعالى عنه أن رجلاً ضريراً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ادع الله أن يعافيني" فقال: "إن شئت دعوت وإن شئت صبرت وهو خير" قال فادعه. فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد أني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضى، اللهم شفعه فيّ"، فعاد وقد أبصر، إلى قوله: ففي هذا الحديث التوسل والنداء أيضاً. أقول: في سنده أبو جعفر، فإن كان هو عيسى بن أبي عيسى ماهان أبو جعفر الرازي التميمي –كما ظنه الحافظ ابن حجر في التقريب- فالأكثرون على ضعفه. قال الذهبي في الميزان: عيسى بن أبي عيسى ماهان الرازي صالح الحديث، روى عن الشعبي وعطاء بن أبي رباح وقتادة وجماعة، ولد بالبصرة واستوطن الري. روى عنه ابنه عبد الله وأبو نعيم وأبو أحمد الزبيري وعلي بن الجعد وآخرون، قال ابن معين:

_ 1 كذا في الأصل المطبوع، والتنادم تفاعل من المنادمة على الشراب، فالظاهر أن أصله يتندم من الندم. وكتبه محمد رشيد رضا.

ثقة، وقال أحمد والنسائي: ليس بالقوي. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال ابن المديني: ثقة كان يخلط. وقال مرة: يكتب حديثه، إلا أنه يخطئ. وقال الفلاس: سيء الحفظ. وقال ابن حبان: ينفرد بالمناكير عن المشاهير. وقال أبو زرعة: يهم كثيراً. وروى حاتم بن إسماعيل وهاشم أبو النضر وحجاج بن محمد وغيره عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي هريرة أو غيره عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً طويلاً في المعارج وفيه ألفاظ منكرة اهـ. وقال الحافظ في التقريب في ترجمة الرازي التميمي: أبو جعفر الرازي التميمي مولاهم مشهور بكنيته، واسمه عيسى بن أبي عيسى عبد الله بن ماهان، وأصله من مرو وكان يتجر إلى الري، صدوق سيء الحفظ خصوصاً عن مغيرة، من كبار السابعة مات في حدود الستين اهـ. وقال في الكاشف: أبو جعفر الرازي مولى تميم عيسى بن أبي عيسى مروزي يتجر إلى الري، عن عطاء وابن المنكدر، وعنه ابنه عبد الله وأبو أحمد الزبير وعبد الرحمن الفتكي، قال أبو زرعة: يهم كثيراً، وقال النسائي: ليس بالقوي، ووثقه أبو حاتم اهـ. قال في الخلاصة: أبو جعفر التميمي مولاهم الرازي اسمه عيسى عن عطاء وعمرو بن دينار وقتادة، وعنه أبو عوانة وشعبة، وقال ابن معين: ثقة، قال الفلاس: سيء الحفظ، قال ابن المديني: يخلظ عن المغيرة اهـ. وإن كان أبا جعفر المدني كما في سنن ابن ماجه –ولكن النسخة التي رأيت فيها سقيمة جداً- فهو مجهول لأن الذهبي قال في الميزان في ترجمته: روى عنه يحيى بن أبي كثير وحده. على أن قول الذهبي هذا يرد هذا الاحتمال، فإن الراوي عنه في الحديث المتنازع فيه هو شعبة لا يحيى بن أبي كثير. وأما ما في التقريب من أن أبا جعفر المؤذن الأنصاري المدني مقبول من الثالثة، ومن زعم أنه محمد بن علي بن الحسين فقد وهم انتهى، وما في الخلاصة ومن أن أبا جعفر الأنصاري المؤذن المدني عن أبي هريرة، وعنه يحيى بن أبي كثير حسن الترمذي حديثه اهـ، فلا تقتضى أنه ممن يحتج به، فإن لفظ مقبول من ألفاظ المرتبة

السادسة التي يكتب حديثها للاعتبار لا للاحتجاج بها، وتحسين الترمذي لا يغني عنك شيئاً لما قد عرفت فيما تقدم من الكلام فيه. على أنه لا يعرف رواية شعبة عن أبي جعفر المدني هذا، ولا رواية أبي جعفر هذا عن عمار بن خزيمة. وإن كان رجلاً آخر فلا بد من تعيينه حتى ينظر فيه، فإن قلت قال الترمذي حديث حسن صحيح، ورواه ابن خزيمة في صحيحه والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم، كذا في الترغيب والترهيب للمنذري، قلت: قد عرفت ما في تصحيح الترمذي والحاكم من التساهل، وأما رواية ابن خزيمة في صحيحه فلا تقتضي الصحة مطلقاً. قال في توضيح الأفكار: ونقل العماد ابن كثير أيضاً أن ابن حبان وابن خزيمة التزما الصحة وهما خير من المستدرك بكثير وأنظف إسنادا ومتونا، وعلى كل حال فلا بد للمتأهل من الاجتهاد والنظر ولا يقلد هؤلاء ومن نحا نحوهم، فكم حكم ابن خزيمة بالصحة لما لا يرتقي عن رتبة الحسن، بل فيما صححه الترمذي من ذلك جملة، مع أنه يفرق بين الحسن والصحيح اهـ. قلت: فلا تأخذ ما قاله المصنف والزين وغيرهما مما ذكروه حكماً كلياً اهـ. قوله: وليس لمنكر التوسل أن يقول إن هذا إنما كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، لأن قوله ذلك غير مقبول، لأن هذا الدعاء استعمله الصحابة رضي الله عنهم والتابعون أيضاً بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لقضاء حوائجهم، فقد روى الطبراني والبيهقي أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان في زمن خلافته في حاجة، فكان لا يلتفت إليه ولا ينظر إليه في حاجته، فشكا ذلك لعثمان بن حنيف الراوي للحديث المذكور فقال: ائت الميضأة فتوضأ، ثم ائت المسجد فصل، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك لتقضى حاجتي. وتذكر حاجتك"، إلى قوله: فهذا توسل ونداء بعد وفاته صلى الله عليه وسلم. أقول: هذا الحديث قال الطبراني عقبه والحديث صحيح بعد ذكر طرقه التي روى بها، كذا في مجمع الزوائد والترغيب والترهيب للمنذري، ولكن في سنده روح بن

صلاح وقد ضعفه ابن عدي كما تقدم. قوله: وروى البيهقي وابن أبي شيبة بإسناد صحيح أن الناس أصابهم قحط في خلافة عمر رضي الله عنه، فجاء بلال بن الحارث رضي الله عنه وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم هلكوا، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وأخبره أنهم يسقون. أقول: قال الحافظ في الفتح: وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الداري وكان خازن عمر رضي الله عنه قال: أصاب الناسَ قحط في زمن عمر رضي الله عنه، فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتي الرجل في المنام فقيل له: ائت عمر الحديث. وقد روى سيف في الفتوح أن الذي رأى المنام المذكور هو بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة. انتهى. فعلم أن ما روي بإسناد صحيح ليس فيه أن الجائي أحد الصحابة، وما فيه أن الجائي أحد الصحابة ضعيف غاية الضعف. قال الذهبي في الميزان: سبق بن عمر الضبي الأسدي –ويقال التميمي البرجمي ويقال السعدي الكوفي- مصنف الفتوح والردة وغير ذلك هو كالواقدي يروي عن هشام بن عروة وعبيد الله بن عمر وجابر الجعفي وخلق كثير من المجهولين، كان أخباريا عارفا، روى عنه عبادة بن المفلس وأبو معمر القطيعي والنضر بن حماد العتكي وجماعة، قال عباس عن يحيى: ضعيف، وروى مطين عن يحيى: فليس خير منه، قال أبو داود: ليس بشيء، وقال أبو حاتم: متروك، وقال ابن حبان: اتهم بالزندقة، وقال ابن عدي: عامة حديثه منكر. مكحول البيروتي: سمعت جعفر بن أبان سمعت ابن نمير يقول: سيف الضبي تميمي، كان جميع يقول: حدثني رجل من بني تميم كان سيف يضع الحديث وقد اتهم بالزندقة. انتهى ملخصاً. قال الحافظ في التقريب: سيف بن عمر التميمي صاحب الردة –ويقال له الضبي ويقال غير ذلك- الكوفي ضعيف في الحديث، عمدة في الأخبار. أفحش ابن حبان القول فيه اهـ. وقال الذهبي في الكاشف: قال ابن معين وغيره ضعيف.

وقال في الخلاصة: سيف بن عمر الأسدي الكوفي صاحب الردة عن جابر الجعفي وأبي الزبير، وعنه محمد بن عيسى الطباع وأبو معمر الهذلي ضعفوه اهـ. قوله: وحديث توسل آدم عليه السلام بالنبي صلى الله عليه وسلم رواه البيهقي بإسناد صحيح في كتابه المسمى "دلائل النبوة" الذي قال فيه الحافظ الذهبي: عليك به فإنه كله هدى ونور، فرواه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد إلا ما غفرت لي"، إلى قوله: رواه الحاكم وصححه والطبراني. أقول: العجب من المؤلف أنه ينقل عن الذهبي ما قال في وصف (كتاب دلائل النبوة) ولم يذكر ما قال في حق الحديث بالخصوص. قال الذهبي في الميزان: عبد الله ابن مسلم أبو الحارث الفهري عن إسماعيل بن مسلمة بن قعنب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم خبراً باطلاً فيه "يا آدم لولا محمد ما خلقتك" رواه البيهقي في دلائل النبوة. قال في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الأوسط والصغير، وفيه من لم أعرفهم اهـ. قال في الصارم المنكي: وإني لأتعجب منه كيف قلد الحاكم فيما صححه من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم الذي رواه في التوسل وفيه قول الله لآدم "ولولا محمد ما خلقتك"، مع أنه حديث غير صحيح ولا ثابت، بل هو حديث ضعيف الإسناد جداً، وقد حكم عليه بعض الأئمة بالوضع، وليس إسناده من الحاكم إلى عبد الرحمن ابن زيد بصحيح بل هو مفتعل على عبد الرحمن كما سنبينه، ولو كان صحيحاً إلى عبد الرحمن لكان ضعيفاً غير محتج به، لأن عبد الرحمن في طريقه، وقد أخطأ الحاكم في تصحيحه وتناقض تناقضاً فاحشاً كما عرف له ذلك في موضع، فإنه قال في كتاب الضعفاء بعد أن ذكر عبد الرحمن منهم، وقال ما حكيته عنه فيما تقدم أنه روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه. قال في آخر هذا الكتاب: فهؤلاء الذين قدمت ذكرهم قد ظهر عندي جرحهم لأن الجرح لا يثبت إلا ببينة، فهم الذين أبين جرحهم لمن طالبني به، فإن الجرح

لا أستحله تقليداً. والذي أختاره لصاحب هذا الشأن أن لا يكتب حديث واحد من هؤلاء الذين سميتهم، فالراوي لحديثهم داخل في قوله صلى الله عليه وسلم "من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" هذا كله كلام الحاكم أبي عبد الله صاحب المستدرك، وهو متضمن أن عبد الرحمن بن زيد قد ظهر له جرحه بالدليل، وأن الراوي لحديثه داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: "من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين". ثم إنه رحمه الله لما جمع المستدرك على الشيخين ذكر فيه من الأحاديث الضعيفة والمنكرة –بل والموضوعة- جملة كثيرة، وروى فيه لجماعة من المجروحين الذين ذكرهم في كتابه في الضعفاء، وذكر أنه تبين له جرحهم، وقد أنكر عليه غير واحد من الأئمة هذا الفعل، وذكر بعضهم أنه حصل له تغير وغفلة في آخر عمره فلذلك وقع منه ما وقع، وليس ذلك ببعيد. ومن جملة ما أخرجه في المستدرك حديث لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذا الكتاب في التوسل، قال بعد روايته: هذا حديث صحيح الإسناد، وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذا الكتاب. فانظر إلى ما وقع للحاكم في هذا الموضع من الخطأ العظيم، والتناقض الفاحش. ثم إن هذا المعترض المخذول1 عمد إلى هذا الذي أخطأ فيه الحاكم وتناقض فقلده فيه، واعتمد عليه، وأخذ في التشنيع على من خالفه، فقال: والحديث المذكور لم يقف ابن تيمية عليه بهذا الإسناد ولا بلغه أن الحاكم صححه2 ولو بلغه أن الحاكم صححه لما قال ذلك، يعني أنه كذب. ولنعرض للجواب عنه. قال وكأني به إن بلغه بعد ذلك يطعن في عبد الرحمن بن زيد بن أسلم راوي الحديث، ونحن نقول قد

_ 1 أي السبكي. 2 زاد في شفاء السقام هنا ما نصه: فإنه قال أعني ابن تيمية: أما ما ذكره في قصة آدم من توسله فليس له أصل ولا نقله أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد يصلح للاعتماد عليه ولا الاعتبار ولا الاستشهاد، ثم ادعى ابن تيمية أنه كذب وأطال الكلام في ذلك جداً بما لا حاصل تحته بالتوهم والتخرص اهـ.

اعتمدنا في تصحيحه على الحاكم، وذكر قبل ذلك بقليل أنه مما تبين له صحته، فانظر رحمك الله إلى هذا الخذلان البين والخطأ الفاحش، كيف جاء هذا المعترض إلى حديث غير صحيح ولا ثابت –بل هو حديث موضوع- فصححه، واعتمد عليه، وقلد في ذلك الحاكم مع ظهور خطأه وتناقضه، ومع معرفة هذا المعترض لضعف راويه وجرحه واطلاعه على الكلام المشهور فيه، وأخذ مع هذا التشنيع على من رد هذا الحديث المنكر ولم يقبله، ويبالغ في تخطئته وتضليله. وليس المقصود هنا الكلام على ضعف هذا الحديث، ومناقشة المعترض على ما وقع منه من الكلام عليه بغير علم، وإنما أشرنا إلى ذلك إشارة لما أخذ المعترض يقوي أمر عبد الرحمن بن زيد عند ذكر الحديث المروي عنه في الزيارة اهـ. قال الترمذي في جامعه تحت حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا يفطرن الصائم: الحجامة والقيء، والاحتلام"، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم يضعف في الحديث، سمعت أبا داود السجزي يقول: سألت أحمد بن حنبل عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم فقال: أخوه عبد الله بن زيد لا بأس به، وسمعت محمداً يذكر عن علي بن عبد الله قال: عبد الله بن زيد بن أسلم ثقة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف، قال محمد1 ولا أروي عنه شيئاً اهـ. قال السيوطي في مناهل الصفا في تحريج أحاديث الشفا: حديث أن آدم قال عند معصيته الحديث عند البيهقي والطبراني من حديث عمر رضي الله عنه بسند ضعيف اهـ. قوله وإلى هذا التوسل أشار الإمام مالك رضي الله عنه للخليفة المنصور، وذلك أنه لما حج المنصور وزار قبر النبي صلى الله عليه وسلم سأل الإمام مالكاً رضي الله عنه وهو بالمسجد النبوي فقال لمالك: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو، أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال له الإمام مالك: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به يشفعه الله فيك، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ

_ 1 أي البخاري.

الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} . ذكره القاضي عياض في الشفاء وساقه بإسناد صحيح. أقول: قال في الصارم المنكي: وهذه الحكاية التي ذكره القاضي عياض ورواها بإسناده عن مالك ليست بصحيحة عنه، وقد ذكر المعترض في موضع من كتباه أن إسنادها إسناد جيد، وهو مخطئ في هذا القول خطأ فاحشا، بل إسنادها ليس بجيد، بل إسناد مظلم منقطع، وهو مشتمل على من يتهم بالكذاب، وعلى من يجهل حاله. وابن حميد هو محمد بن حميد الرازي، وهو ضعيف كثير المناكير غير محتج بروايته ولم يسمع من مالك شيئاً ولم يلقه، بل روايته منقطعة غير متصلة، وقد ظن المعترض أنه أبو سفيان محمد بن حميد المعمري أحد الثقات المخرج لهم في صحيح مسلم، قال: فإن الخطيب ذكره في الرواة عن مالك، وقد أخطأ فيما ظنه خطأ فاحشاً، ووهم وهما قبيحاً، فإن محمد بن حميد المعمري رجل متقدم لم يدركه يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل راوي الحكاية عن ابن حميد بل بينهما مفازة بعيدة. وقد روى المعمري عن هشام بن حسان ومعمر والثوري وتوفي سنة اثنتين وثمانين ومائة قبل أن يولد يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل. وأما محمد بن حميد الرازي فإنه في طبقة الرواة عن المعمري كأبي خيثمة وابن نمير وعمرو الناقد وغيرهم، وكانت وفاته سنة ثمان وأربعين ومائتين، فرواية يعقوب بن إسحاق عنه ممكنة، بخلاف روايته عن المعمري فإنها غير ممكنة. وقد تكلم في محمد بن حميد الرازي، -وهو الذي رويت عنه هذه الحكاية- غير واحد من الأئمة، ونسبه بعضهم إلى الكذب. قال يعقوب بن شيبة السدوسي: محمد ابن حميد الرازي كثير المناكير. وقال البخاري: حديثه فيه نظر، وقال النسائي: ليس بثقة. وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: رديء المذهب، غير ثقة. وقال فضلك الرازي: عندي عن ابن حميد خمسون ألف حديث لا أحدث عنه بحرف. وقال أبو العباس أحمد بن محمد الأزهري سمعت إسحاق بن منصور يقول: أشهد

على محمد بن حميد وعبيد بن إسحاق العطار بين يدي الله أنهما كذابان. وقال صالح بن محمد الحافط: كان كل ما بلغه من حديث سفيان يحيله على مهران، وما بلغه من حديث منصور يحيله على عمرو بن قيس، وما بلغه من حديث الأعمش يحيله على مثل هؤلاء وعلى عنبسة، ثم قال: كل شيء كان يحدثنا ابن حميد كنا نتهمه فيه. وقال في موضع آخر: كان أحاديثه تزيد، وما رأيت أحداً أجرأ على الله منه، وكان يأخذ أحاديث الناس فيقلب بعضها على بعض. وقال في موضع آخر: ما رأيت أحداً أحذق بالكذب من رجلين، سليمان الشاذكوني، ومحمد بن حميد الرازي، كان يحفظ حديثه كله، وكان حديثه كل يوم يزيد. وقال أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد الكريم الرازي ابن أخي أبي زرعة: سألت أبا زرعة عن محمد بن حميد فأومأ بأصبعه إلى فمه، فقلت له كان يكذب؟ فقال برأسه: نعم. قلت له: قد شاخ، لعله كان يعمل عليه ويدلس عليه؟ فقال: لا يا بني، كان يتعمد. وقال أبو حاتم الرازي: حضرت محمد بن حميد وحضره عون بن جرير، فجعل ابن حميد يحدث بحديث عن جرير فيه شعر، فقال عون: ليس هذا الشعر في الحديث، إنما هو من كلام أبي. فتغافل ابن حميد فمر فيه. وقال أبو نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي: سمعت أبا حاتم محمد بن إدريس الرازي في منزله وعنده عبد الرحمن بن يوسف بن خراش وجماعة من مشايخ أهل الري وحفاظهم للحديث، فذكروا ابن حميد، فأجمعوا على أنه ضعيف في الحديث جداً، وأنه يحدث بما لم يسمعه وأنه يأخذ أحاديث لأهل البصرة والكوفة فيحدث بها عن الرازيين. وقال أبو العباس بن سعيد سمعت داود بن يحيى يقول: حدثنا عنه – يعني محمد بن حميد- أبو حاتم قديماً ثم تركه بأخرة قال: سمعت عبد الرحمن بن يوسف بن خراش

يقول: حدثنا ابن حميد، وكان والله يكذب. وقال أبو حاتم بن حبان البستي في كتاب الضعفاء: محمد بن حميد الرازي، كنيته أبو عبد الله، يروي عن ابن المبارك وجرير، حدثنا عنه شيوخنا، مات سنة ثمان وأربعين ومائتين، كان ممن ينفرد عن الثقات بالأشياء المقلوبات، ولا سيما إذا حدث عن شيوخ بلده، سمعت إبراهيم بن عبد الواحد البغدادي يقول قال صالح بن أحمد بن حنبل: كنت يوماً عند أبي إذ دق عليه الباب، فخرجت فإذا أبو زرعة ومحمد بن مسلم بن وارة يستأذنان على الشيخ، فدخلت وأخبرته فأذن لهم، فدخلوا وسلموا عليه، فأما ابن وارة فباس يده فلم ينكر عليه ذلك، وأما أبو زرعة فصافحه، فتحدثوا ساعة، فقال ابن وارة: يا أبا عبد الله إن رأيت تذكر حديث أبي القاسم بن أبي الزناد فقال نعم حدثنا، أبو القاسم بن أبي الزناد عن إسحاق بن حازم عن ابن مقسم –يعني عبيد الله- عن جابر ابن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ماء البحر فقال: "هو الطهور ماؤه، الحلال ميتته"، وقام فقالوا ما له؟ قلنا: شك في شيء، ثم خرج والكتاب بيده، فقال في كتابه "ميته" بتاء واحدة، والناس يقولون: "ميتته". ثم تحدثوا ساعة فقال له ابن وارة: يا أبا عبد الله رأيت محمد بن حميد؟ قال: نعم، قال كيف رأيت حديثه؟ قال: إذا حدث عن العراقيين يأتي بأشياء مستقيمة، وإذا حدث عن أهل بلده مثل إبراهيم ابن المختار وغيره أتى بأشياء لا تعرف، لا يدرى ما هي. قال فقال أبو زرعة وابن وارة: صح عندنا أنه يكذب. قال: فرأيت أبي بعد ذلك إذا ذكر ابن حميد نفض يده. وقال العقيلي في (كتاب الضعفاء) : حدثني إبراهيم بن يوسف قال: كتب أبو زرعة ومحمد بن مسلم عن محمد بن حميد حديثاً كثيراً، ثم تركا الرواية عنه، وقال الحاكم أبو أحمد في (كتاب الكنى) : أبو عبد الله محمد بن حميد الرازي ليس بالقوي عندهم، تركه أبو عبد الله محمد بن يحيى الذهلي، وأبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة. فإذا كانت هذه حال محمد بن حميد الرازي عند أئمة هذا الشأن، فكيف يقال

في حكاية رواها منقطعة إن إسنادها إسناد جيد، مع أن في طريقها إليه من ليس بمعروف؟ وقد قال المعترض بعد أن ذكر هذه الحكاية وتكلم على رواتها: فانظر هذه الحكاية وثقة رواتها، وموافقتها لما رواه ابن وهب عن مالك. هكذا قال، والذي حمله على ارتكاب هذه السقطة قله علمه وارتكاب هواه، نسأل الله التوفيق. والذي ينبغي أن يقال: فانظر هذه الحكاية وضعفها وانقطاعها ونكارتها، وجهالة بعض رواتها، ونسبة بعضهم إلى الكذب، ومخالفتها لما يثبت عن مالك وغيره من العلماء اهـ. وقال الذهبي في الميزان: محمد بن حميد الرازي الحافظ عن يعقوب القمي وابن المبارك من بحور العلم وهو ضعيف. قال يعقوب بن شيبة: كثير المناكير. وقال البخاري: فيه نظر، وكذبه أبو زرعة. وقال فضلك الرازي: عند ابن حميد خمسون ألف حديث، ولا أحدث عنه بحرف. وروى محمد بن شاذان عن إسحاق الكوسج قال: قرأ علينا ابن حميد كتاب المغازي عن سلمة، فقلت له: قرأه عليه ابن حميد –يعني عن سلمة- فتعجب علي وقال سمعه محمد بن حميد مني، وعن الكوسج قال أشهد أنه كذاب. وقال صالح جزرة: كنا نتهم ابن حميد في كل شيء يحدثنا، ما رأيت أجرأ على الله منه، كان يأخذ أحاديث الناس فيقلب بعضها على بعض. وقال ابن خراش: حدثنا ابن حميد، وكان والله يكذب. وجاء عن غير واحد: كان يسرق الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة. وقال صالح جزرة: ما رأيت أحذق بالكذب من ابن حميد ومن ابن الشاذكوني. وقال أبو علي النيسابوري: قلت لابن خزيمة لو أخذت الإسناد عن ابن حميد فإن أحمد بن حنبل قد أحسن الثناء عليه. قال: إنه لم يعرفه، ولو عرفه كما عرفناه لما أثنى عليه أصلاً. وقال أبو أحمد العسال: سمعت فضلك الرازي يقول دخلت على محمد بن حميد وهو يركب الأسانيد على المتون. قلت: ولم يكن يحفظ القرآن، فقد قال محمد بن جرير الطبري فيما صح عنه قال: قرأ علينا محمد بن حميد الرازي {لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوك} . وقال أبو بكر الصنعاني: حدثنا محمد بن حميد، فقيل له: أتحدث عنه؟ فقال: وما لي لا أحدث عنه

وقد حدث عنه أحمد بن حنبل وابن معين. وقال أبو زرعة من فاته محمد بن حميد يحتاج أن يترك في عشرة آلاف حديث. ومن آخر أصحاب ابن حميد أبو القاسم البغوي وابن جرير الطبري. مات سنة ثمان وأربعين ومائتين اهـ. قوله: وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} : أن من جملة تلك الكلمات توسل آدم بالنبي صلى الله عليه وسلم حين قال يا رب أسألك بحرمة محمد إلا ما غفرت لي. أقول قد عرفت فيما تقدم أن هذه الرواية ليست صالحة لأن يحتج بها على حكم من أحكام الشريعة. قوله: واستسقى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في زمن خلافته بالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم. أقول: هذا الحديث مما لا شك في صحته، ولكنه بمعزل عما نتكلم فيه، فإن الكلام في التوسل بالأموات وهذا التوسل بدعاء الأحياء، وهو مما لا نزاع فيه. قال في الصارم: وقد أجدب الناس على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاستسقى بالعباس رضي الله عنه، ففي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه أن عمر استسقى بالعباس رضي الله عنه وقال: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون"، فاستسقوا به كما كانوا يستسقون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وهم إنما كان يتوسلون بدعائه وشفاعته لهم فيدعو لهم ويدعون معه، كالإمام والمأمومين من غير أن يكونوا يقسمون على الله بمخلوق، كما ليس لهم أن يقسم بعضهم على بعض بمخلوق، ولما مات صلى الله عليه وسلم توسلوا بدعاء العباس واستسقوا به اهـ. قال الحافظ في الفتح: وقد بين الزبير بن بكار في الأنساب صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة والوقت الذي وقع فيه ذلك، فأخرج بإسناد له أن العباس لما استسقى به عمر قال: اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبته، وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة،

فاسقنا الغيث، فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض وعاش الناس اهـ. قوله: وفعلُ عمر رضي الله تعالى عنه حجة لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه" رواه الإمام أحمد والترمذي عن ابن عمر رضي الله عنه. أقول: فيه كلام من وجوه: (الأول) أن في سنده خارجة بن عبد الله الأنصاري، وهو ضعيف، ضعفه أحمد، قال الذهبي في الكاشف: خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت عن أبيه ونافع، وعنه معن والقضبي، ضعفه أحمد. توفي سنة 165هـ. وقال الحافظ في التقريب: صدوق له أوهام من السابعة مات سنة خمس وستين1 اهـ. و (الثاني) أن جعل الحق على لسان عمر وقلبه لا يستلزم كون فعله رضي الله عنه حجة، ومن يدعيه فعليه البيان. و (الثالث) أن المقصود أن الله تعالى أجرى الحق على لسان عمر رضي الله عنه في وقائع، كما قال ابن عمر راوي الحديث: ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه، وقال فيه عمر إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر، ويقويه الحديث المتفق عليه عن أنس وابن عمر أن عمر قال: وافقت ربي في ثلاث، قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} . وقلت يا رسول الله يدخل على نسائك البر والفاجر فلو أمرتهن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب. واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة، فقلت عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت كذلك. وفي رواية لابن عمر قال: قال عمر وافقت ربي في ثلاث: في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر. قال الحافظ في الفتح: قوله وافقت ربي في ثلاث اهـ أي وقائع، والمعنى وافقني ربي فأنزل القرآن على وفق ما رأيت. لكن لرعاية الأدب أسند الموافقة إلى نفسه، أو أشار إلى حدوث رأيه وقدم الحكم. وليس في تخصيصه العدد بالثلاث ما ينفي الزيادة عليها، لأنه حصلت له الموافقة في أشياء غير هذه من مشهور قصة أسارى بدر، وقصة الصلاة على المنافقين، وهما في الصحيح.

_ 1 أي بعد المائة.

وصحح الترمذي من حديث ابن عمر أنه قال: ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه، وقال فيه عمر أو قال ابن الخطاب فيه –شك خارجة- إلا نزل القرآن فيه على نحو ما قال عمر، وهذا دال على كثرة موافقته، وأكثر ما وقفنا منها بالتعيين على خمسة عشر لكن ذلك بحسب المنقول اهـ. وجملة القول أن هذا الحديث على تقدير ثبوته ليس معناه إلا ما روى في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر"، وفقي رواية: "لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر". قال الحافظ في الفتح: قوله "محدثون" بفتح الدال جمع محدث، واختلف في تأويله، فقيل ملهم قاله الأكثر، قالوا المحدث بالفتح هو الرجل الصادق الظن، وهو من ألقى في روعه شيء من قبل الملأ الأعلى فيكون كالذي حدثه غيره به، وبهذا جزم أبو أحمد العسكري. وقيل من يجري الصواب على لسانه من غير قصد. وقيل مكلم أي تكلمه الملائكة بغير نبوة. وهذا ورد من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً ولفظه: "قيل يا رسول الله وكيف يحدث؟ قال تتكلم الملائكة على لسانه" رويناه في فوائد الجوهري، وحكاه القابسي وآخرون، ويؤيده ما ثبت في الرواية المعلقة ويحتمل رده إلى المعنى الأول أي تكلمه في نفسه وإن لم ير مكلماً في الحقيقة فيرجع إلى الإلهام، وفسره ابن التين بالتفرس. ووقع في مسند الحميدي عقب حديث عائشة: المحدث الملهم بالصواب الذي يلقى على فيه. وعند مسلم من رواية ابن وهب "ملهمون" وهي الإصابة بغير نبوة، وفي رواية الترمذي عن بعض أصحاب ابن عيينة "محدثون" يعني مفهمون. وفي رواية الإسماعيلي قال إبراهيم –يعني ابن سعد- رواية قوله "محدث" أي يلقى في روعه اهـ. ويؤيده حديث "إن الله جعل الحق على لسان عمر قلبه" أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر وأحمد من حديث أبي هريرة والطبراني من حديث بلال،

وأخرجه في الأوسط من حديث معاوية، وفي حديث أبي ذر عند أحمد وأبي داود يقول به بدل قوله وقلبه، وصححه الحاكم، وكذا أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث عمر نفسه اهـ. وأيضاً قال في الفتح: وقوله "وإن يك في أمتي"، قيل لم يورد هذا القول مورد الترديد، فإن أمته أفضل الأمم، وإذا ثبت أن ذلك وجد في غيرهم فإمكان وجوده فيهم أولى، وإنما أورد مورد التأكيد كما يقول الرجل إن يكن لي صديق فإنه فلان يريد اختصاصه بكمال الصداقة لا نفي الأصدقاء، ونحوه قول الأجير: إن كنت عملت لك توفني حقي، وكلاهما عالم، لكن مراد القائل إن تأخيرك حقي عمل من عنده شك في كوني عملت. وقيل الحكمة فيه أن وجودهم في بني إسرائيل قد تحقق وقوعه، وسبب ذلك احتياجهم حيث لا يكون حينئذ فيهم نبي، واحتمل عنده صلى الله عليه وسلم أن لا تحتاج هذه الأمة إلى ذلك لاستغنائها بالقرآن عن حدوث نبي، وقد وقع الأمر كذلك حتى أن المحدث منهم إذا تحقق وجوده لا يحكم بما وقع له، بل لا بد له من عرضه على القرآن، فإن وافقه أو وافق السنة عمل به وإلا تركه، وهذا وإن جاز أن يقع لكنه نادر ممن يكون أمره مبنياً على اتباع الكتاب والسنة، وتمحضت الحكمة في وجودهم وكثرتهم بعد العصر الأول في زيادة شرف هذه الأمة لوجود أمثالهم فيها، وقد تكون الحكمة في تكثيرهم مضاهاة بني إسرائيل في كثرة الأنبياء فيهم، فلما فات هذه الأمة كثرة الأنبياء فيها -لكون نبيها خاتم الأنبياء- عوضوا بكثرة الملهمين اهـ. وأيضاً قال فيه: والسبب في تخصيص عمر بالذكر لكثرة ما وقع له في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من الموافقات التي نزل القرآن مطابقاً لها، ووقع له بعد النبي صلى الله عليه وسلم عدة إصابات. انتهى. إذا عرفت هذا فقد علمت أن معنى ما ورد في الصحيح عند الأكثر أنه ملهم، وعند البعض أنه ممن يجري الصواب على لسانه من غير قصد، وعند البعض أنه مكلم تكلمه الملائكة بغير نبوة. وقد رده الحافظ إلى المعنى الأول، وعند البعض أنه

متفرس، وعلى كل تقدير لا يحكم بما وقع للمحدث، بل لا بد له من عرضه على الكتاب والسنة. ومن ثم أجمع أهل السنة على أن إلهام غير النبي صلى الله عليه وسلم ليس بحجة، وعلى هذا المعنى ينبغي أن يحمل حديث ابن عمر المذكور، وليس الغرض أن الله جعل الحق في كل حادثة وواقعة على لسان عمر وقلبه، وأن فعله وقوله حجة شرعية، وأنه لا يقع منه خطأ قط، وإلا لما خالفة ونازعه أحد من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل الحديث والفقه. (والثاني) باطل فإن مخالفات الصحابة والتابعين وغيرهم لعمر رضي الله عنه أكثر من أن تكتب في هذا المختصر، وأشهر من أن تخفى على من له إلمام بصحف الحديث والأثر، فالمقدم مثله. ويا لله العجب كيف يصح القول بحجية فعل عمر رضي الله عنه عموماً كما زعم هذا المؤلف، فقد أخطأ عمر رضي الله عنه في مسائل: (منها) عدم جواز التيمم عنده لمن أجنب فلم يجد الماء. (ومنها) عدم جواز التمتع في الحج عنده. (ومنها) قوله رضي الله عنه: إن لمعتدة الثلاث السكنى والنفقة. وإذ قد ثبت من عبارة الفتح أن الحديث المتنازع فيه قد روي بطرق كثيرة، فلا بأس أن نذكر منها ما وقفنا عليه، ونتكلم عليه بالعدل والإنصاف فنقول: أما حديث ابن عمر فقد رواه الترمذي، وفي سنده خارجة بن عبد الله الأنصاري ضعفه أحمد، له أوهام، كذا في الكاشف والتقريب. ولكن حسنه الترمذي وصححه، وقد عرفت فيما سلف ما في تحسين الترمذي وتصحيحه من التساهل. وأما حديث أبي هريرة، فقد رواه أحمد والبزار والطبراني في الأوسط، ورجال البزار رجال الصحيح، غير الجهم بن أبي الجهم وهو ثقة، كذا في مجمع الزوائد. قال الذهبي في الميزان: جهم بن أبي الجهم عن ابن جعفر بن أبي طالب وعنه محمد بن إسحاق، لا يعرف له قصة حليمة السعدية اهـ. فعلم أن جهماً هذا مجهول.

وأما حديث بلال فقد رواه الطبراني، وفيه أبو بكر بن أبي مريم وقد اختلط كذا في مجمع الزوائد، قال الذهبي في الميزان: أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني الحمصي، يقال اسمه بكر، وقيل بكير، وقيل عمرو وقيل عامر وقيل عبد السلام، ضعيف عندهم. قلت: وكان من العباد، عن راشد بن أسعد وخالد بن معدان، وعنه بقية وأبو اليمان وطائفة، ضعفه أحمد وغيره لكثرة ما يغلط، وكان أحد أوعية العلم، وقال ابن حبان: رديء الحفظ لا يحتج به إذا انفرد. قال بقية: قال لنا رجل في قرية أبي بكر وهي كثيرة الزيتون: ما في هذه القرية شجرة إلا وقد أقام أبو بكر إليها ليلة جمعا، وقال آخر: كان كثير البكاء، وقال الجوزجاني: هو متماسك، وقال ابن عدي: أحاديثه صالحة ولا يحتج به، وقال يزيد بن عبد ربه: مات سنة ست وخمسين ومائة. وله حديث آخر منكر جداً. قال أبو داود سُرق لأبي بكر بن أبي مريم حلى فأنكر عقله، وسمعت أحمد يقول: ليس بشيء اهـ ملخصاً. قال الحافظ في التقريب: أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني الشامي، وقد ينسب إلى جده، قيل اسمه بكير وقيل عبد السلام ضعيف. وكان قد سرق بيته فاختلط، من السابعة، مات سنة ست وخمسين اهـ. وقال الذهبي في الكاشف: أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني اسمه بكير وقيل عبد السلام، عن خالد بن معدان ومكحول، وعنه ابن المبارك وأبو اليمان ضعفوه، وله علم وديانة اهـ. وأما حديث معاوية قد رواه الطبراني وفيه ضعفاء، سليمان الشاذكوني وغيره، كذا في مجمع الزوائد، قال الذهبي في الميزان: سليمان بن داود المنقري الشاذكوني البصري الحافظ أبو أيوب، لقي حماد بن زيد وجعفر بن سليمان فمن بعدهما، قال البخاري: فيه نظر، وكذبه ابن معين في حديثه ذكر له عنه، وقال عبدان الأهوازي: معاذ الله أن يتهم، إنما كانت كتبه قد ذهبت فكان يحدث من حفظه، وقال ابن عدي: كان أبو يعلى والحسن بن سفيان إذا حدثا عنه يقولان: حدثنا سليمان أبو أيوب، ولم يزيدا فيدلسانه ويسترانه.

وقال أبو حاتم: متروك الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال يحيى بن معين: قال لنا سيمان الشاذكوني هاتوا حرفاً من رأي الحسن البصري لا أحفظه، وقال حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: كان أعلمنا بالرجال يحيى بن معين وأحفظنا للأبواب الشاذكوني، وكان ابن المديني أحفظنا للطوال، وقال صالح بن محمد الحافظ: ما رأيت أحفظ من الشاذكوني، وكان يكذب في الحديث، وقال أحمد: جالس الشاذكوني حماد بن زيد وبشر بن المفضل ويزيد بن زريع فما نفعه الله بواحد منهم، وقيل كان يتعاطى المسكر ويتماجن، مات سنة أربع وثلاثين ومائتين، وقال ابن عدي: قال محمد بن موسى السواق قال ابن الشاذكوني لما حضرته الوفاة: اللهم من اعتذر إليك فإني لا أعتذر إليك ما قذفت محصنة، ولا دلست حديثاً، وساق له ابن عدي أحاديث خولف فيها ثم قال: وللشاذكوني حديث كثير مستقيم، وهو من الحفاظ المعدودين ما أشبه أمره بما قال عبدان: يحدث حفظاً فيغلط. اهـ. وأما حديث عمر بن الخطاب فقد رواه الطبراني في الأوسط، وفيه علي بن سعيد المقيري العقاري ولم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح، غير عبد الله بن صالح كاتب الليث، وقد وثق وفيه ضعف، كذا في مجمع الزوائد، قال الحافظ في التقريب: عبد الله بن صالح بن محمد بن مسلم الجهني أبو صالح المصري كاتب الليث، صدوق كثير الغلط، ثبت في كتابه وكانت فيه غفلة، من العاشرة مات سنة اثنتين وعشرين وله خمس وثمانون سنة. اهـ. وقال الذهبي في الكاشف: عبد الله بن صالح الجهني مولاهم كاتب الليث، عن معاوية بن صالح وموسى بن علي، وعنه البخاري تعليقاً، والأصح أنه أيضاً روى عنه في الصحيح، وابن معين وبكر بن سهل، وكان مكثراً جداً، قال أبو زرعة: كان حسن الحديث، لم يكن ممن يكذب، وقال الفضل الشعراني: ما رأيته إلا يحدث أو يسبح، وقال ابن عدي: هو عندي مستقيم الحديث، وله أغاليط، وكذبه جزرة اهـ. وقال الذهبي في الميزان: عبد الله بن صالح بن محمد بن مسلم الجهني المصري أبو صالح كاتب الليث بن سعد على أمواله، صاحب حديث وعلم، مكثر له مناكير، حدث عن معاوية

ابن صالح وخلق، وعن شيخه الليث وابن وهب وابن معين وأحمد بن الفرات والناس. قال عبد الملك بن شعيب بن الليث: ثقة مأمون سمع من جدي حديثه، وقال أبو حاتم: سمعت محمد بن عبد الله بن عبيد الحكم وسئل عن أبي صالح فقال: تسألني عن أقرب رجل إلى الليث لزمه سفراً وحضراً وكان يخلو معه كثيراً، لا ينكر لمثله أن يكون قد سمع منه لكثرة ما أخرج عن الليث، وقال أبو حاتم سمعت ابن معين يقول: أقل أحواله أن يكون قرأ هذه الكتب على الليث وأجازها له، ويمكن أن يكون ابن أبي ذئب كتب إليه بهذا الدرج، قال: وسمعت أحمد بن صالح يقول: لا أعلم أحداً روى عن الليث عن أبي ذئب إلا أبو صالح، وقال أحمد بن حنبل: كان أول أمره متماسكاً ثم فسد بأخرة، يروي عن ابن أبي ذئب، ولم يسمع الليث من ابن أبي ذئب شيئاً. وقال أبو حاتم: هو صدوق أين ما علمته، وقال أبو زرعة: لم يكن عندي ممن يتعمد الكذب، وكان حسن الحديث. وقال أبو حاتم: أخرج أحاديث في آخر عمره أنكروها عليه، يرى أنها مما افتعل خالد بن نجيح، وكان أبو صالح يصحبه، وكان سليم الناحية، لم يكن وزن أبي صالح الكذب، كان رجلاً صالحاً. وقال أحمد بن محمد الحجاج بن رشدين: سمعت أحمد بن صالح يقول: متهم، ليس بشيء، يعني الحمراوي عبد الله بن صالح، وسمعت أحمد بن صالح يقول في عبد الله بن صالح: فأجروا عليه كلمة أخرى. وقال ابن عبد الحكم: سمعت أبا عبد الله يقول ما لا أحصي وقد قيل له إن يحيى ابن بكير يقول في أبي صالح شيئاً فقال: قل له هل حدثك الليث؟ قال لا. وأبو صالح عنده وقد كان يخرج معه إلى الأسفار وهو كاتبه فينكر أن يكون عند غيره. وقال سعيد بن منصور: كلمني يحيى بن معين وقال: أحب أن تمسك عن عبد الله ابن صالح، فقلت: لا أمسك عنه، وأنا أعلم الناس به، إنما كان كاتباً للضياع، وقال:

أحمد: كتب إليّ وأنا بحمص يسألني الزيارة، قال الفضل بن محمد الشعراني: ما رأيت أبا صالح إلا وهو يحدّث أو يسبح، قال صالح جزرة: كان ابن معين يوثقه، وهو عندي يكذب في الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة، ويحيى بن بكير أحب إلينا منه، وقال ابن المديني: لا أروى عنه شيئاً، وقال ابن حبان: كان في نفسه صدوقاً، إنما وقعت المناكير في حديثه من قبل جار له، فسمعت ابن خزيمة يقول: كان له جار كان بينه وبينه عداوة، كان يضع الحديث على شيخ أبي صالح ويكتبه بخط يشبه خط عبد الله ويرميه في داره بين كتبه فيتوهم عبد الله أنه خطه فيحدّث به. وقال ابن عدي: هو عندي مستقيم الحديث، إلا أنه يقع في أسانيده ومتونه غلط ولا يتعمد، قلت: وقد روى عنه البخاري في الصحيح على الصحيح، ولكنه يدلسه فيقول: حدثنا عبد الله ولا ينسبه وهو هو. نعم قد علق البخاري حديثاً فقال فيه: قال الليث ابن سعد حدثني جعفر بن ربيعة. ثم قال في آخر الحديث حدثني عبد الله بن صالح أنبأنا الليث فذكره، ولكن هذا عند ابن حمويه السرخسي دون صاحبيه، وفي الجملة ما هو بدون نعيم بن حماد ولا إسماعيل بن أبي أويس ولا سويد بن سعيد وحديثهم في الصحيحين، ولكل منهما مناكير تغتفر في كثرة ما روى، وبعضها منكر واه، وبعضها غريب محتمل، انتهى. وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما كان نبي إلا في أمته معلم أو معلمان، فإن يكن في أمتي منهم أحد فهو عمر بن الخطاب، إن الحق على لسان عمر وقلبه". قلت في الصحيح بعضه بغير سياق، رواه الطبراني في الأوسط وفيه عبد الرحمن بن أبي الزناد وهو لين الحديث كذا في مجمع الزوائد، قال ابن معين: هو أثبت الناس في هشام بن عروة، وقال أبو حاتم وغيره: لا يحتج به، كذا في الكاشف، وقال الحافظ في التقريب: صدوق، تغير حفظه لما قدم بغداد، وكان فقيهاً من السابعة، ولي خراج المدينة فحمد. اهـ. وعن علي قال: إذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر، ما كنا نبعد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن السكينة تنطق على لسان عمر، رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن. وعن ابن مسعود قال: ما كنا نبعد أن السكينة تنزل على لسان عمر رضي الله

عنه. رواه الطبراني وإسناده حسن. وعن طارق بن شهاب قال: كنا نتحدث أن السكينة تنزل على لسان عمر، رواه الطبراني ورجاله ثقات. كذا في مجمع الزوائد، فالصواب أن حديث "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه". وإن كان لا يخلو طريق من طرقه من مقال ولكنه لكثرة الشواهد صالح لأن يحتج به، إلا أن دلالته على أن فعل عمر رضي الله عنه حجة ممنوعة. قوله: روى الطبراني في الكبير وابن عدي في الكامل عن الفضل بن العباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عمر معي وأنا مع عمر والحق بعدي مع عمر حيث كان". أقول: مجرد رواية الطبراني وابن عدي هذا الحديث لا يقتضي أن يصح الاحتجاج به ما لم يثبت كونه صحيحاً أو حسناً، فيجب على من يحتج به أن يبين صحته أو حسنه، ودونه خرط القتاد، على أن دلالته على المطلوب غير مسلمة على نحو ما مر في الحديث المتقدم. قوله: وهذا مثل ما صح في حق علي رضي الله عنه حيث قال صلى الله عليه وسلم في حقه: "وأدر الحق معه حيث دار". وهو صحيح. أقول: مدّعي صحة هذا الحديث يطالب أولاً بإقامة الدليل عليه، وأنى له ذلك؟ كيف وهذا الحديث رواه الترمذي وفي سنده سعيد بن حبان، قال الذهبي في الميزان: لا يكاد يعرف. اه‍. وأيضاً فيه مختار بن نافع التيمي عن أبي حيان التيمي قال النسائي وغيره: ليس بثقة، وقال ابن حبان: منكر الحديث جداً. أحمد بن عبد الرحمن الكزبراني حدثنا مختار بن نافع عن أبي حيان عن أبيه عن علي مرفوعاً: "رحم الله أبا بكر زوجني ابنته وصحبني إلى دار الهجرة". وذكر الحديث. قال البخاري: منكر الحديث، كنيته أبو إسحاق، كذا في الميزان، وقال الحافظ في التقريب: مختار بن نافع التيمي – ويقال العكلي – أبو إسحاق التمار الكوفي ضعيف من السادسة اهـ. وفيه أيضاً سهل بن حماد، قال الذهبي في الميزان: كان بعد المائتين

لا يدري من هو وليس بالدلال أبي عتاب، والظاهر أنه هو فقد قال عثمان الدارمي: سألت يحيى بن معين عن سهل بن حماد الدلال فقال لا أعرفه، عنى أنه ما يخبر حاله وقال فيه أبو زرعة وأبو حاتم: صالح الحديث، شيخ، وأما أحمد فقال: لا بأس به. قلت: مات سنة ثمان ومائتين، روى عن قرة بن خالد وشعبة وطبقتها، ما خرج له البخاري شيئاً. اهـ. ويالله العجب ما أجرأ هذا المؤلف على تصحيح هذا الحديث، مع أن في سنده مختار بن نافع التيمي وهو ضعيف جداً، على أن دلالة مثل هذا الحديث على المطلوب غير مسلمة وإلا لزم أن يكون فعل معاوية رضي الله عنه أيضاً حجة، فإنه روى عن عبد الرحمن بن أبي عميرة، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاوية: "اللهم اجعله هادياً مهدياً واهد به". أخرجه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب، وعن عمير رضي الله عنه قال: لا تذكروا معاوية إلا بخير، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم اهد به". رواه الترمذي. وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اهده بالهدى، وجنبه الردى، واغفر له في الآخرة والأولى". رواه الطبراني في الأوسط وفيه السدي بن عاصم وهو ضعيف كذا في مجمع الزوائد، مع أن القول بحجية فعله رضي الله عنه بعيد جداً. قوله: ومن الأدلة على أن توسل عمر بالعباس رضي الله عنه حجة على جواز التوسل قوله صلى الله عليه وسلم: "لو كان بعدي نبي لكل عمر". اهـ. أقول: أخرجه الترمذي، وفي سنده مشرح بن هاعان، قال الذهبي في الميزان: مشرح بن هاعان المصري عن عقبة بن عامر صدوق لينه ابن حبان، وقال عثمان بن سعيد عن ابن معين: ثقة، قال ابن حبان يكنى أبا مصعب، يروي عن عقبة مناكير لا يتابع عليها، روى عن الليث وابن لهيعة، فالصواب ترك ما انفرد به وذكره العقيلي فما زاد في ترجمته أكثر من أن قيل: إنه ممن جاء مع الحجاج إلى مكة، ونصب المنجنيق على الكعبة. اهـ.

وأما حديث عصمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كان بعدي نبي لكان عمر" فقد رواه الطبراني، وفيه الفضل بن المختار وهو ضعيف، كذا في مجمع الزوائد، قال الذهبي في الميزان: الفضل بن المختار أبو سهل البصري عن ابن أبي ذئب وغيره قال أبو حاتم: أحاديثه منكرة يحدث بالأباطيل، وقال الأزدي: منكر الحديث جداً، وقال ابن عدي: أحاديثه منكرة، عامتها لا يتابع عليها، ثم ذكر له أربعة أحاديث وقال بعده: فهذه أباطيل وعجائب، ثم ذكر حديث عصمة بن مالك في السرقة الذي رواه الطبراني وقال: هذا يشبه أن يكون موضوعاً، والله أعلم. اهـ. وفي الباب عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كان الله باعثاً رسولاً بعدي لبعث عمر بن الخطاب" رواه الطبراني في الأوسط. وفيه عبد المنعم ابن بشير وهو ضعيف، كذا في مجمع الزوائد، قال الذهبي في الميزان: عبد المنعم بن بشير أبو الخير الأنصاري المصري عن عبد الله بن عمر العمري وعنه يعقوب الفسوي جرحه ابن معين، وقال ابن حبان: منكر الحديث جداً، لا يجوز الاحتجاج به، قال الحنبلي: سمعت ابن معين يقول: أتيت عبد المنعم فأخرج إليّ أحاديث أبي مودود نحواً من مائتي حديث كذب، فقلت له يا شيخ أنت سمعت هذا من أبي مودود؟ قال: نعم. قلت: اتق الله فإن هذه كذب. وقمت ولم أكتب عنه شيئاً، اهـ. ملخصاً، على أن دلالة تيك الأحاديث على المطلوب ممنوعة. قوله: وروى الطبراني في الكبير عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر، فإنهما حبل الله الممدود، من تمسك بهما فقد تمسك بالعورة الوثقى لا انفصام لها". أقول: قال في مجمع الزوائد: رواه الطبراني وفيه من لم أعرفهم، اهـ. وفي الباب عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر". أخرجه الترمذي بثلاث طرق في اثنتين منهما عبد الملك بن عمير اللخمي الكوفي الثقة كان من أوعية العلم، ولكنه طال عمره وساء حفظه، قال أبو حاتم: ليس بحافظ تغير حفظه، وقال أحمد: ضعيف يغلط، وقال ابن معين: مخلط،

وقال ابن خراش: كان شعبة لا يرضاه، وذكر الكوسج عن أحمد أنه ضعفه جداً، ووثقه العجلي، وقال النسائي وغيره: ليس به بأس. قال عبد الله بن أحمد: سئل أبي عن عبد الملك بن عمير وعاصم بن أبي النجود فقال: عاصم أقل اختلافاً عندي، وقدم عاصما. قلت: لم يورده ابن عدي ولا العقيلي، ولا ابن حبان، وقد ذكروا من هو أقوى حفظاً منه، وأما ابن عمير فذكر فحكى الجرح، وما ذكر التوثيق، والرجل فمن نظراء السبيعي أبي إسحاق وسعيد المقبري لما وقعوا في هرم الشيخوخة فنقص حفظهم، وساءت أذهانهم، ولم يختلطوا، وحديثهم في كتب الإسلام كلها، وكان عبد الملك ممن جاوز المائة، كذا في الميزان، وقال الحافظ في التقريب: ثقة فقيه، تغير حفظه، وربما دلس. اهـ. وإذ قد عرفت أنه مع تغير حفظه مدلس، وقد عنعن في هذا الحديث، فلا يقبل حديثه. وفي الأولى منها الحسن بن الصباح البزار، وهو وإن كان صدوقاً لكنه يهم كما قال الحافظ في التقريب، وقال النسائي: ليس بالقوي، كذا في الميزان. وفي الثانية منها هلال مولى ربعي وهو مجهول، ما حدث عنه سوى عبد الملك ابن عمير كذا في الميزان، وأيضاً فيها سفيان الثوري وهو مدلس وقد عنعنه، وفي الثالثة منها عمرو بن هرم ضعفه يحيى القطان ووثقه أحمد وابن معين وأبو حاتم كذا في الميزان، وفيها سالم بن العلاء أبو العلاء المرادي، وقيل سالم بن عبد الواحد عن ربعي بن حراش وعطية العوفي، وعنه يعلى بن عبيد وجماعة، وضعفه ابن معين والنسائي، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، كذا في الميزان، على أن دلالة هذا الحديث على المقصود أيضاً غير مسلمة، لاحتمال أن يكون المراد بالاقتداء الاقتداء في الأمور التي يجب فيها طاعة الخلفاء وأولي الأمر، كما هو المراد بلفظ السمع والطاعة الواردين في الأحاديث التي أمر فيها بإطاعة الأمراء والأئمة كقوله صلى الله عليه وسلم: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصىالله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني". رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، وعن أم الحصين قالت:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أمر عليكم عبد مجدع يقودكم بكتاب الله فاسمعوا وأطيعوا". رواه مسلم. وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة". رواه البخاري، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة، متفق عليه. وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم". وفي رواية: "على أن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان". متفق عليه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية". متفق عليه، وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية". رواه مسلم، وغير ذلك من الأحاديث الواردة في ذلك الباب. ومن البين أن المراد بالسمع والطاعة في تيك الأحاديث ليس إلا الاتباع في الأمور المتعلقة بالخلافة والإمامة، لا أن أفعالهم وأقوالهم وتقريراتهم حجة كفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله وتقريره، ولعل هذا هو المراد في حديث أمر فيه بالتمسك بسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وفي حديث: "اتبعوا السواد الأعظم، وعليك بالجماعة والعامة". ومما يؤيد إرادة هذا المعنى في الحديث المتنازع فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "اللذين من بعدي ". فإنه لو كان المقصود أن أفعالهما حجة لكفى أن يقال اقتدوا بأبي بكر وعمر، فلما زيد فيه "اللذين من بعدي " علم أن الاقتداء بهما ليس إلا في أمر يحصل لهما بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لا في حياته، وهو أمر الخلافة والإمارة، ونظير ذلك إطاعة المرأة لبعلها

وإطاعة الولد للوالدين، ولن ترى أحداً من المسلمين يقول إن فعل البعل والوالدين وقولهم أو تقريرهم حجة، فكذلك الحال فيما نحن فيه. وهذا كله كان تكلماً على الأحاديث التي ذكرها صاحب الرسالة لإثبات التوسل وما والاه، وها أنا أشرع في تحقيق مسألة التوسل، فننقل أولاً كلام بعض أهل العلم والتحقيق، ثم نذكر ما هو الحق عندي فأقول: قال العلامة محمد بن إسماعيل بن صلاح الأمير اليماني الصنعاني في (تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد) في ديباجة الكتاب1. "الحمد لله الذي لا يقبل توحيد ربوبيته من العباد، حتى يفردوه بتوحيد العبادة كل الأفراد، من اتخاذ الأنداد، فلا يتخذون له نداً، ولا يدعون معه أحداً، ولا يتوكلون إلا عليه، ولا يفزعون في كل حال إلا إليه، ولا يدعونه بغير أسمائه الحسنى ولا يتوسلون إليه بالشفاء {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} . اهـ. ثم ذكر أصولاً خمسة هي من قواعد الدين فقال في الأصل الثاني: "إن رسل الله وأنبياءه من أولهم إلى آخرهم بعثوا لدعاء العباد إلى توحيد الله تعالى بتوحيد العبادة، وكل رسول أول ما يقرع به أسماع قومه قوله: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} . و {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} . و {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} . وهذا هو الذي تضمنه قول لا إله إلا الله، فإنما دعت الرسل أممها إلى قول هذه الكلمة واعتقاد معناها، لا مجرد قولها باللسان، ومعناها هو إفراد الله بالإلهية والعبادة، والنفي لما يعبد من دونه والبراءة منه". وقال في الأصل الثالث: "إن التوحيد قسمان: (القسم الأول) توحيد الربوبية والخالقية والرازقية ونحوها، ومعناه أن الله وحده هو الخالق للعالم وهو الرب لهم

_ 1 قد قابلنا ما نقله المؤلف من (تطهير الاعتقاد) عند التصحيح بالأصل المطبوع، فوجدنا فيه زيادة سقطت من مؤلفنا فلم نثبتها، لأن الظاهر أنه قد تركها اختصاراً.

والرازق لهم، وهذا لا ينكره المشركون ولا يجعلون لله فيه شريكاً، بل هم مقرون به. (والقسم الثاني) توحيد العبادة، ومعناه إفراد الله وحده بجميع أنواع العبادات الآتي بيانها، فهذا هو الذي جعلوا لله فيه شركاء، بهذا تعرف أن المشركين لم يتخذوا الأوثان والأصنام ولم يتخذوا المسيح وأمه ولم يتخذوا الملائكة شركاء لله تعالى لأجل أنهم أشركوهم في خلق السموات والأرض وفي خلق أنفسهم، بل اتخذوهم لأنهم يقربونهم إلى الله زلفى كما قالوه، فهم مقرون بالله تعالى في نفس كلمات كفرهم، وأنهم شفعاء عند الله، قال الله تعالى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فجعل الله اتخاذهم الشفعاء شركاً فيه نزه نفسه عنه، لأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه". اهـ. وقال في الأصل الرابع: "إن المشركين الذين بعث الله الرسل إليهم مقرون بأن الله تعالى خلقهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} . وأنه خلق السموات والأرض: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} . وبأنه الرزاق الذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، وأنه هو الذي يدبر الأمر من السماء والارض، وأنه هو الذي يملك السمع والأبصار والأفئدة: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} . {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ. قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} . وكل مشرك مقر بأن الله خالقه وخالق السموات والأرض ورب ما فيهما ورازقهم". اهـ. ثم قال: "إذا عرفت هذه الأصول فاعلم أنه سبحانه جعل العبادة له أنواعاً: (منها) اعتقادية وهي أساسها، وذلك أن تعتقد أنه الرب الواحد الأحد الذي له الخلق والأمر بيده النفع والضر، وأنه الذي لا شريك له ولا يشفع عنده أحد إلا

بإذنه، وأنه لا معبود بحق غيره، وغير ذلك مما يجب من لوازم الإليهة. (ومنها) لفظية وهي النطق بكلمة التوحيد. (ومنها) بدنية كالقيام والركوع والسجود. (ومنها) الصوم وأفعال الحج والطواف. (ومنها) مالية كإخراج جزء من المال امتثالاً لما أمر الله تعالى به، وأنواع الواجبات والمندوبات في الأبدان والأموال والأفعال والأقوال كثيرة، ولكن هذه أمهاتها". اهـ. ثم أدرج التوسل في الشرك في العبادة حيث قال: "قد عرفت من هذا كله أن من اعتقد في شجر أو حجر أو قبر أو ملك أو جني أو حي أو ميت أنه ينفع أو يضر، أو أنه يقرب إلى الله تعالى أو يشفع عنده في حاجة من حوائج الدنيا بمجرد التشفع والتوسل إلى الرب تعالى إلا ما ورد من حديث فيه مقال في حق نبينا صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك فإنه قد أشرك مع الله غيره". اهـ. وقال في موضع آخر: "والنذر بالمال على الميت ونحوه والنحر على قبره والتوسل به وطلب الحاجات منه، هو بعينه الذي كان تفعله الجاهلية" اهـ. وقال في موضع آخر: "فإن قلت: القبوريون وغيرهم الذين يعتقدون في فسقة الناس وجهالهم من الأحياء يقولون: نحن لا نعبد هؤلاء ولا نعبد إلا الله وحده ولا نصلي لهم ولا نصوم ولا نحج. قلت: هذا جهل بمعنى العبادة، فإنها ليست منحصرة فيما ذكرت، بل رأسها وأساسها الاعتقاد، وقد حصل في قلوبهم ذلك، بل يسمونه معتقداً ويصنعون له ما سمعته مما تفرع عن الاعتقاد من دعائهم وندائهم، والتوسل بهم، والاستغاثة والاستعانة والحلف والنذور وغير ذلك". اهـ. وقد ظهر من ملاحظة تلك العبارات أن التوسل عند هذا الإمام داخل في الشرك في العبادة. وقال الإمام محمد بن علي الشوكاني في (الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد) : "اعلم أن الكلام على هذه الأطراف يتوقف على إيضاح ألفاظ هي منشأ

الاختلاف والالتباس: (فمنها) الاستغاثة بالغين المعجمة والمثلثة، (ومنها) الاستعانة بالعين المهملة والنون، (ومنها) التشفع، (ومنها) التوسل، فأما الاستغاثة بالمعجمة والمثلثة فهي طلب الغوث وهو إزالة الشدة، كالاستنصار وهو طلب النصر، ولا خلاف أنه يجوز أن يستغاث بالمخلوق فيما يقدر على الغوث فيه من الأمور، ولا يحتاج مثل ذلك إلى استدلال فهو في غاية الوضوح، وما أظنه يوجد فيه خلاف، ومنه: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} . وكما قال: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} . وكما قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} . "وأما ما لا يقدر عليه إلا الله فلا يستغاث فيه إلا به كغفران الذنوب، والهداية، وإنزال المطر والرزق، ونحو ذلك، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} . وقال: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} . وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} . وعلىهذا يحمل ما أخرجه الطبراني في معجمه الكبير أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال أبو بكر رضي الله عنه: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال صلى الله عليه وسلم: "إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله". فمراده صلى الله عليه وسلم أنه لا يستغاث به فيما لا يقدر عليه إلا الله. "وأما ما يقدر عليه المخلوق فلا مانع من ذلك، مثل أن يستغيث المخلوق بالمخلوق ليعينه على حمل حجر، أو يحول بينه وبين عدوه الكافر، أو يدفع عنه سبعاً صائلاً أو لصاً أو نحو ذلك". " وقد ذكر أهل العلم أنه يجب على كل مكلف أن يعلم أن لا غياث ولا مغيث على الإطلاق إلا الله سبحانه، وأن كل غوث من عنده، وإذا حصل شيء من ذلك على يد غيره فالحقيقة له سبحانه ولغيره مجاز، ومن أسمائه المغيث والغياث. قال أبو عبد الله الحليمي: الغياث هو المغيث، وأكثر ما يقال: يا غياث المستغيثين، ومعناه المدرك عباده في الشدائد إذا دعوه ومجيبهم ومخلصهم، وفي خبر الاستسقاء في الصحيحين: "اللهم أغثنا، اللهم أغثنا". إغاثة وغياثة وغوثاً، وهو في معنى المجيب

والمستجيب، قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} . إلا أن الإغاثة أحق بالأفعال، والاستجابة بالأقوال، وقد يقع كل منهما موقع الآخر. "قال شيخ الإسلام ابن تيميه في بعض فتاواه ما لفظه: والاستغاثة بمعنى أن يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيه مسلم، ومن نازع في هذا المعنى فهو إما كافر وإما مخطئ ضال، وأما بالمعنى الذي نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أيضاً مما يجب نفيه، ومن أثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله فهو أيضاً كافر إذا قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها. "ومن هذا الباب قول أبي يزيد البسطامي: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق، وقول الشيخ أبي عبد الله القرشي: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون". "وأما الاستعانة بالنون فهو طلب العون، ولا خلاف أنه يجوز أن يستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه من أمور الدنيا، كأن يستعين به على أن يحمل معه متاعه أو يعلف دابته أو يبلغ رسالته، وأما ما لا يقدر عليه إلا الله جل جلاله فلا يستعان فيه إلا به، ومنه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . "وأما التشفع بالمخلوق فلا خلاف بين المسلمين أنه يجوز طلب الشفاعة من المخلوقين فيما يقدرون عليه من أمور الدنيا، وثبت بالسنة المتواترة واتفاق جميع الأئمة أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو الشافع المشفع، وأنه يشفع للخلائق يوم القيامة، وأن الناس يستشفعون به ويطلبون منه أن يشفع لهم إلى ربه، ولم يقع الخلاف إلا في كونها لمحو ذنوب المذنبين أو لزيادة ثواب المطيعين، ولم يقل أحد بنفيها قط، وفي سنن أبي داود أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا نستشفع بالله عليك ونستشفع بك على الله، فقال: "شأن الله أعظم من ذلك، أنه لا يستشفع به على أحد من خلقه". فأقره على قوله نستشفع بك على الله، وأنكر عليه قوله نستشفع بالله عليك، وسيأتي تمام الكلام في الشفاعة.

"أما التوسل إلى الله سبحانه بأحد من خلقه في مطلب يطلبه العبد من ربه فقد قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: إنه لا يجوز التوسل إلى الله تعالى إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم أن صح الحديث فيه. ولعله يشير إلى الحديث الذي أخرجه النسائي في سننه والترمذي وصححه ابن ماجه وغيرهم أن أعمى أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أصبت في بصري، فادع الله تعالى لي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "توضأ وصل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد، يا محمد إني استشفع بك في رد بصري، اللهم شفع النبي فيّ، وقال: فإن كان لك حاجة فمثل ذلك، فرد الله بصره". "وللناس في معنى هذا قولان: أحدهما أن التوسل هو الذي ذكره عمر بن الخطاب لما قال: كنا إذا أجدبنا نتوسل بنبينا إليك فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، وهو في صحيح البخاري وغيره، فقد ذكر عمر رضي الله عنه أنهم كانوا يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته في الاستسقاء، ثم توسلوا بعمه العباس بعد موته، وتوسلهم هو استسقاؤهم بحيث يدعو ويدعون معه فيكون هو وسيلتهم إلى الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم كان في مثل هذا شافعاً وداعياً لهم. "والقول الثاني التوسل به صلى الله عليه وسلم يكون في حياته وبعد موته وفي حضرته ومغيبه". ولا يخفاك أنه قد ثبت التوسل به صلى الله عليه وسلم في حياته، وثبت التوسل بغيره بعد موته بإجماع الصحابة إجماعاً سكوتياً لعدم إنكار أحد منهم على عمر رضي الله عنه في التوسل بالعباس رضي الله عنه. "وعندي أنه لا وجه لتخصيص جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم كما زعمه الشيخ عز الدين بن عبد السلام لأمرين: (الأول) ما عرفناك به من إجماع الصحابة رضي الله عنهم. و (الثاني) أن التوسل إلى الله بأهل الفضل والعلم هو في التحقيق توسل بأعمالهم الصالحة ومزاياهم الفاضلة1، إذ لا يكون الفاضل فاضلاً إلا بأعماله، فإذا قال القائل:

_ 1 هذا خطأ من وجهين: أحدهما أن توسل الإنسان بعمل غيره ومزاياه غير مشروع ولا معقول، وإنما توسل أصحاب الغار بعملهم. والثاني سيأتي الرد عليه: وكتبه محمد رشيد.

اللهم إني أتوسل إليك بالعالم الفلاني، فهو باعتبار ما قام به من العلم، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم حكى عن الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة أن كل واحد منهم توسل إلى الله بأعظم عمل عمله فارتفعت الصخرة، فلو كان التوسل بالأعمال الفاضلة غير جائز أو كان شركاً كما يزعمه المتشددون في هذا الباب كابن عبد السلام ومن قال بقوله من أتباعه لم تحصل الإجابة من الله لهم ولا سكت النبي صلى الله عليه وسلم عن إنكار ما فعلوه بعد حكايته عنهم، ولهذا تعلم أن ما يورده المانعون من التوسل إلى الله بالأنبياء والصلحاء من نحو قوله تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} . ونحو قوله تعالى: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} . ونحو قوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} . ليس بوارد، بل هو من الاستدلال على محل النزاع بما هو أجنبي عنه، فإن قولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} . مصرح بأنهم عبدوهم لذلك، والمتوسل بالعالم مثلاً لم يعبده بل علم أن له مزية عند الله بحمله العلم فتوسل به لذلك، وكذلك قوله تعالى: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} . فإنه نهي أن يدعى مع الله غيره، كأن يقول يا الله ويا فلان، والمتوسل بالعالم مثلاً لم يدع إلا الله، وإنما وقع منه التوسل إليه بعمل صالح عمله بعض عباده كما توسل الثلاثة الذين انطلقت عليهم الصخرة بصالح أعمالهم، وكذلك قوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} . الآية، فإن هؤلاء دعوا من لا يستجيب لهم ولم يدعوا ربهم الذي يستحبب لهم، والمتوسل بالعالم مثلاً لم يدع إلا الله ولم يدع غيره دونه ولا دعا غيره معه. "فإذا عرفت هذا لم يخف عليك دفع ما يورده المانعون للتوسل من الأدلة الخارجة عن محل النزاع خروجاً زائداً على ما ذكرنا كاستدلالهم بقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ. ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ. يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} . فإن هذه الآية الشريفة ليس فيها إلا أنه تعالى المنفرد بالأمر في يوم الدين، وأنه ليس لغيره من الأمر شيء، والمتوسل بنبي من الأنبياء أو عالم من العلماء هو لا يعتقد أن لمن توسل به مشاركته جل جلاله في أمر يوم الدين، ومن اعتقد هذا لعبد من العباد سواء كان نبياً أو غير نبي فهو في ضلال مبين، وهكذا الاستدلال على منع التوسل بقوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} ، {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً} . فإن هاتين

الآيتين مصرحتان بأنه ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر الله شيء وأنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فكيف يملك لغيره، وليس فيها منع التوسل به أو بغيره من الأنبياء والأولياء أو العلماء، وقد جعل الله لرسوله صلى الله عليه وسلم المقام المحمود، مقام الشفاعة العظمى، وأرشد الخلق إلى أن يسألوه ذلك1 ويطلبوه منه، وقال له "سل تعطه واشفع تشفع" وقيد ذلك في كتابه العزيز بأن الشفاعة لا تكون إلا بإذنه، ولا تكون إلا لمن ارتضى، ولعله يأتي تحقيق هذا المقام إن شاء الله تعالى. "وهكذا الاستدلال على منع التوسل بقوله صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} : "يا فلان ابن فلان لا أملك لك من الله شيئاً، يا فلانة بنت فلان لا أملك لك من الله شيئاً". فإن هذا ليس فيه إلا التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم لا يستطيع نفع من أراد الله تعالى ضره، ولا ضر من أراد الله نفعه، وأنه لا يملك لأحد من قرابته فضلاً عن غيرهم شيئاً من الله، وهذا معلوم لكل مسلم، وليس فيه أنه لا يتوسل به إلى الله، فإن ذلك هو طلب الأمر ممن له الأمر والنهي، وإنما أراد الطالب أن يقدم بين يدي طلبته ما يكون سبباً للإجابة ممن هو المتفرد بالعطاء والمنع وهو مالك يوم الدين. "وإذا عرفت هذا فاعلم أن الرزية كل الرزية، والبلية كل البلية، أمر غير ما ذكرنا من التوسل المجرد والتشفع بمن له الشفاعة، وذلك ما صار يعتقده كثير من العوام وبعض الخواص في أهل القبور، وفي المعروفين بالصلاح من الأحياء من

_ 1 نعم، إن الله تعالى يلهم الخلائق يوم القيامة أن يطلبوا الشفاعة من أنبياء الله تعالى في فصل القضاء، ولكن الله تعالى لم يأمرهم في كتابه بأن يقصدوا قبور الأنبياء والأولياء والعلماء ليسألوهم عندها قضاء حوائج الدنيا ولا الآخرة، ولم يشرع لهم أن هذا عبادة، ولا أنه سبب لقضاء الحوائج ولا لمغفرة الذنوب وسعادة الآخرة، وإنما شرع لهم أن يطلبوا الرزق وشفاء الأمراض ونحو ذلك من أسبابها المعروفة بالاختبار والتجارب، وسعادة الآخرة بالإيمان والعمل مصالح والتوبة من الذنوب، وأن لا يدعوا غير الله تعالى فيما وراء الأسباب التي أقدر الله عليها الناس وأمرهم بالتعاون عليها في دائرة الشرع، وهو ينكر هذا أشد الإنكار كما يأتي قريباً. وكتبه محمد رشيد.

أنهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلا الله جل جلاله، ويفعلون ما لا يفعله إلا الله عز وجل، حتى نطقت ألسنتهم بما انطوت عليه قلوبهم، فصاروا يدعونهم تارة مع الله وتارة استقلالاً، ويصرخون بأسمائهم ويعظمونهم تعظيم من يملك الضر والنفع، ويخضعون لهم خضوعاً زائداً على خضوعهم عند وقوفهم بين يدي ربهم في الصلاة والدعاء، وهذا إذا لم يكن شركاً فلا ندري ما هو الشرك، وإذا لم يكن كفراً فليس في الدنيا كفر، وها نحن نقص عليك أدلة في كتاب الله سبحانه، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيها المنع مما هو دون هذا بمراحل، وفي بعضها التصريح بأنه شرك، وهو بالنسبة إلى هذا الذي ذكرناه يسير حقير، ثم بعد ذلك نعود إلى الكلام على مسألة السؤال". اه‍ ثم قال بعد عدة أوراق: "وبالجملة فالوارد عن الشرع من الأدلة الدالة على قطع ذرائع الشرك وهدم كل شيء يوصل إليه في غاية الكثرة، ولو رمت حصر ذلك على التمام لجاء في مؤلف بسيط، فلنقتصر على هذا المقدار ونتكلم على حكم ما يفعله القبوريون من الاستغاثة بالأموات، ومناداتهم لقضاء الحاجات، وتشريكهم مع الله في بعض الحالات، وإفرادهم بذلك في بعضها، فنقول: "أعلم أن الله لم يبعث رسله ولم ينزل كتبه لتعريف خلقه بأنه الخالق لهم، والرازق لهم ونحو ذلك، فإن هذا يقر به كل مشرك قبل بعثة الرسل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} . {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} . {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} . {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ. قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} . ولهذا نجد كل ما ورد في الكتاب العزيز في شأن خالق الخلق ونحوه في مخاطبة الكفار معنوناً باستفهام التقرير: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} ، {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ، {أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ

وَالأَرْضِ} ، {فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} . بل بعث الله رسله وأنزل كتبه لإخلاص توحيده وإفراده بالعبادة: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} – {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} – {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} – {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} – {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} – {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} . وإخلاص التوحيد لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله لله والنداء والاستغاثة والرجاء واستجلاب الخير واستدفاع الشر له ومنه لا لغيره ولا من غيره: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} – {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} – {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} – {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . وقد تقرر أن شرك المشركين الذين بعث الله إليهم خاتم رسله صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا باعتقادهم أن الأنداد التي اتخذوها تنفعهم وتضرهم وتقربهم إلى الله وتشفع لهم عنده، مع اعترافهم بأن الله سبحانه هو خالقها وخالقهم، ورازقها ورازقهم، ومحييها ومحييهم، ومميتها ومميتهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} . {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . {إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} ، {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} . وكانوا يقولون في تلبيتهم:1 لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك. "وإذا تقرر هذا فلا شك أن من اعتقد في ميت من الأموات، أو حيّ من الأحياء أنه يضره أو ينفعه إما استقلالاً أو مع الله تعالى، وناداه أو توجه إليه، أو استغاث به في أمر من الأمور التي لا يقدر عليها المخلوق فلم يخلص التوحيد لله، ولا أفرده بالعبادة، إذ الدعاء بطلب وصول الخير إليه ودفع الضر عنه، هو نوع من أنواع العبادة، ولا فرق بين أن يكون هذا المدعو من دون الله أو معه حجراً أو ملكاً أو شيطاناً كما كان يفعل ذلك أهل الجاهلية، وبين أن يكون إنساناً من الأحياء أو الأموات، كما يفعله الآن كثير من المسلمين، وكل عالم بعلم هذا ويقر به، فإن العلة واحدة، وعبادة غير الله تعالى وتشريك غيره معه يكون للحيوان كما يكون للجماد،

_ 1 كما في صحيح البخاري.

وللحي كما يكون للميت". "فمن زعم أن ثم فرقاً بين من اعتقد في وثن من الأوثان أنه يضر أو ينفع، أو يقدر على أمر لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فقد غلط غلطاً بيناً، وأقر على نفسه بجهل كثير، فإن الشرك هو دعاء غير الله في الأشياء التي تختص به أو اعتقاد القدرة لغيره فيما لا يقدر عليه سواه، أو التقرب إلى غيره بشيء مما لا يتقرب به إلا إليه. ومجرد تسمية المشركين لما جعلوه شريكاً بالصنم والوثن والإله لغير الله زيادة على التسمية بالولي والقبر والمشهد كما يفعله كثير من المسلمين1 بل الحكم واحد إذا حصل لمن يعتقد في الولي والقبر ما كان يحصل لمن كان يعتقد في الصنم والوثن، إذ ليس الشرك هو مجرد إطلاق بعض الأسماء على بعض المسميات، بل الشرك هو أن يفعل لغير الله شيئاً يختص به سبحانه، سواء أطلق على ذلك الغير ما كانت تطلقه عليه الجاهلية أو أطلق عليه اسماً آخر، فلا اعتبار بالاسم قط، ومن لم يعرف هذا فهو جاهل لا يستحق أن يخاطب بما يخاطب به أهل العلم. "وقد علم كل عالم أن عبادة الكفار للأصنام لم تكن إلا بتعظيمها، واعتقاد أنها تضر وتنفع، والاستغاثة بها عند الحاجة والتقريب لها في بعض الحاجات بجزء من أموالهم، وهذا كله قد وقع من المعتقدين في القبور، فإنهم قد عظموها إلى حد لا يكون إلا لله سبحانه، بل ربما يترك العاصي منهم فعل المعصية إذا كان في مشهد من يعتقده أو قريباً منه مخافة تعجيل العقوبة من ذلك الميت، وربما لا يتركها إذا كان في حرم الله أو في مسجد من المساجد أو قريباً من ذلك، وربما حلف بعض غلاتهم بالله كاذباً ولم يحلف بالميت الذي يعتقده. "وأما اعتقادهم أنها تضر وتنفع فلولا اشتمال ضمائرهم على هذا الاعتقاد لم يدع أحد منهم ميتاً أو حياً عند استجلابه لنفع، أو استدفاعه لضر، قائلاً: يا فلان افعل لي كذا وكذا، وعلى الله وعليك، وأنا بالله وبك.

_ 1 لعله سقط من هنا خبر المبتدأ الذي عطف عليه الاضطراب بعده، والمعنى أن مجرد التسمية لا تقتضي التفرقة في الحكم بين المتفقين في الاعتقاد.

وأما التقرب للأموات فانظر ما يجعلونه من النذور لهم وعلى قبورهم في كثير من المحلات، ولو طلب الواحد منهم ليسمح بجزء من ذلك لله تعالى لم يفعل، وهذا معلوم يعرفه من عرف أحوال هؤلاء. فإن قلت: إن هؤلاء القبوريين يعتقدون أن الله تعالى هو الضار، والنافع، والخير والشر بيده، وإن استغاثوا بالأموات قصداً لإنجاز ما يطلبونه من الله سبحانه. قلت: وهكذا كانت الجاهلية، فإنهم يعلمون أن الله هو الضار النافع وأن الخير والشر بيده، وإنما عبدوا أصنامهم لتقربهم إلى الله زلفى كما حكاه الله عنهم في كتابه العزيز. نعم إذا لم يحصل من المسلم إلا مجرد التوسل الذي قدمنا تحقيقه فهو كما ذكرناه سابقاً، ولكن من زعم أنه لم يقع منه إلا مجرد التوسل – وهو يعتقد من تعظيم ذلك الميت ما لا يجوز اعتقاده في أحد من المخلوقين، وزاد على مجرد الاعتقاد فتقرب إلى الأموات بالذبائح والنذور، وناداهم مستغيثاً بهم عند الحاجة – فهذا كاذب في دعواه أنه متوسل فقط، فلو كان الأمر كما زعمه لم يقع منه شيء من ذلك المتوسل به: لا يحتاج إلى رشوة بنذر أو ذبح ولا تعظيم ولا اعتقاد، لأن المدعو هو الله سبحانه وهو أيضاً المجيب، ولا تأثير لمن وقع به التوسل قط، بل هو بمنزلة التوسل بالعمل الصالح فأي جدوى في رشوة من قد صار تحت أطباق الثرى بشيء من ذلك؟ وهل هذا إلا فعل من يعتقد التأثير اشتراكاً أو استقلالاً، ولا أعدل من شهادة أفعال جوارح الإنسان على بطلان ما ينطق به لسانه من الدعاوى الباطلة العاطلة، بل زعم أنه لم يحصل منه إلا مجرد التوسل –وهو يقول بلسانه "يا فلان" منادياً لمن يعتقده من الأموات– فهو كاذب على نفسه، ومن أنكر حصول النداء للأموات والاستغاثة بهم استقلالاً فليخبرنا ما معنى ما سمه في الأقطار اليمنية من قولهم: يا ابن العجيلي، يا زيلعي، يا ابن علوان، يا فلان يا فلان؟ هل ينكر هذا منكر، ويشك فيه شاك؟ وما عدا ديار اليمن فالأمر فيها أطم وأعم، ففي كل قرية ميت يعتقده أهلها وينادونه وفي كل مدينة جماعة منهم، حتى أنهم في حرم الله ينادون: يا ابن عباس، يا محجوب، فما ظنك بغير ذلك؟ فلقد تلطف إبليس وجنوده أخزاهم الله تعالى لغالب أهل الملة الإسلامية بلطفة تزلزل الأقدام عن الإسلام، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

أين من يعقل معنى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} – {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} – {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} . وقد أخبرنا الله سبحانه أن الدعاء عبادة بمحكم كتابه بقوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} . وأخرج أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح من حديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الدعاء هو العبادة". وفي رواية "مخ العبادة". ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية المذكورة، وأخرجه أيضاً النسائي وابن ماجه والحاكم وأحمد وابن أبي شيبة باللفظ المذكور، وكذلك النحر للأموات عبادة لهم، والنذر لهم بجزء من المال عبادة لهم، والتعظيم عبادة لهم، كما أن النحر للنسك وإخراج صدقة المال والخضوع والاستكانة عبادة لله عز وجل بلا خلاف، ومن زعم أن ثم فرقاً بين الأمرين فليهده إلينا. ومن قال إنه لم يقصد بدعاء الأموات والنحر لهم والنذر عليهم عبادتهم، فقل له فلأي مقتض صنعت هذا الصنيع؟ فإن دعاءك للميت عند نزول أمر بك لا يكون إلا لشيء في قلبك عبر عنه لسانك، فإن كنت تهذي بذكر الأموات عند عروض الحاجات من دون اعتقاد منك لهم فأنت مصاب بعقلك، وهكذا إن كنت تنحر لله وتنذر لله فلأي معنى جعلت ذلك للميت وحملته إلى قبره؟ فإن الفقراء على ظهر البسيطة في كل بقعة من بقاع الأرض، وفعلك وأنت عاقل لا يكون إلا لمقصد قد قصدته أو أمر قد أردته، وإلا فأنت مجنون قد رفع عنك القلم، ولا نوافقك على دعوى الجنون إلا بعد صدور أفعالك وأقوالك في غير هذا على نمط أفعال المجانين، فإن كنت تصدرها مصدر أفعال العقلاء فأنت تكذب على نفسك في دعواك الجنون في هذا الفعل بخصوصه فراراً عن أن يلزمك ما لزم عباد الأوثان الذين حكى الله عنهم في كتابه العزيز ما حكاه بقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} . وبقوله: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} .

فإن قلت: إن المشركين كانوا لا يقرون بكلمة التوحيد، وهؤلاء المعتقدون في الأموات يقرون بها، قلت: هؤلاء إنما قالوها بألسنتهم وخالفوها بأفعالهم، فإن من استغاث بالأموات أن طلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه، أو عظمهم أو نذر عليهم بجزء من ماله أو نحر لهم فقد نزلهم منزلة الآلهة التي كان المشركون يفعلون لها هذه الأفعال، فهو لم يعتقد معنى لا إله إلا الله ولا عمل بها، بل خالفها اعتقاداً وعملاً، فهو في قوله لا إله إلا الله كاذب على نفسه، فإنه قد جعل إلهاً غير الله يعتقد أنه يضر وينفع، وعبده بدعائه عند الشدائد والاستغاثة به عند الحاجة، وبخضوعه له وتعظيمه إياه نحر له النحائر، وقرب إليه نفائس الأموال. وليس مجرد قول لا إله إلا الله من دون عمل بمعناه مثبتاً للإسلام، فإنه لو قالها أحد من أهل الجاهلية وعكف على صنمه يعبده لم يكن ذلك إسلاماً. اه‍ وأيضاً قال فيه1: "فإن قلت: فقد ورد الحديث الصحيح بأن الخلائق يوم القيامة يأتون آدم فيدعونه ويستغيثون ثم نوحاً ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم محمداً صلى الله عليه وسلم وسائر إخوانه من الأنبياء. قلت: أهل المحشر إنما يأتون هؤلاء الأنبياء يطلبون منهم أن يشفعوا لهم إلى الله سبحانه ويدعوا لهم بفصل الحساب، والإراحة من ذلك الموقف، هذا جائز فإنه من طلب الشفاعة والدعاء المأذون فيهما. وقد كان الصحابة يطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته أن يدعو لهم كما في حديث "يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم" لما أخبرهم بأنه يدخل الجنة سبعون ألفاً، وحديث: "سبقك بها عكاشة". وقول أم سليم: "يا رسول الله خادمك أنس ادع الله له". وقول المرأة التي كانت تصرع: "يا رسول الله ادع الله لي". وآخر الأمر سألته الدعاء بأن لا تتكشف عند الصرع فدعا لها. ومنه إرشاده صلى الله عليه وسلم لجماعة من الصحابة بأن يطلبوا الدعاء من أويس القرني إذا أدركوه، ومنه ما ورد في دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب، وغير ذلك مما لا يحصر، حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر لما خرج معتمراً: "لا تنسني يا أخي من دعائك".

_ 1 أي الشوكاني في كتابه الدر النضيد.

فمن جاء إلى رجل صالح واستمد منه أن يدعو له، فهذا ليس من ذلك الذي يفعله المعتقدون في الأموات، بل هو سنة حسنة وشريعة ثابتة، وهكذا طلب الشفاعة ممن جاءت الشريعة المطهرة بأنه من أهلها كالأنبياء، ولهذا يقول الله لرسوله يوم القيامة: "سل تعطه واشفع تشفع", وذلك هو المقام المحمود الذي وعده الله به كما في كتابه العزيز. والحاصل أن طلب الحوائج من الأحياء جائز إذا كانوا يقدرون عليها، ومن ذلك الدعاء فإنه يجوز استمداده من كل مسلم بل يحسن ذلك، وكذلك الشفاعة من أهلها الذين ورد الشرع بأنهم يشفعون، ولكن ينبغي أن يعلم أن دعاء من يدعو له لا ينفع إلا بإذنه وإرادته ومشيئته، وكذلك شفاعة من شفع لا تكون إلا بإذن الله كما ورد بذلك القرآن العظيم، فهذا تقييد للمطلق لا ينبغي العدول عنه بحال". اهـ. وأيضاً قال فيه: "ومن جملة الشبه التي عرضت لبعض أهل العلم ما صرح به السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير رحمه الله في شرحه لأبياته التي يقول في أولها: رجعت عن النظم الذي قلت في النجدي فإنه قال: إن كفر هؤلاء المعتقدين للأموات هو من الكفر العملي، لا الكفر الجحودي، ونقل ما ورد في كفر تارك الصلاة كما ورد في الأحاديث الصحيحة، وكفر تارك الحج وكما في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} . ونحو ذلك من الأدلة الواردة فيمن زنى ومن سرق ومن أتى امرأة حائضاً أو امرأة في دبرها أو أتى كاهناً أو عرافاً أو قال لأخيه يا كافر. قال: فهذه الأنواع وإن أطلقها الشارع على فعل هذه الكبائر فإنه لا يخرج به العبد عن الإيمان ويفارق به الملة ويباح به دمه وماله وأهله كما ظنه من لم يفرق بين الكفرين ومن لم يميز بين الأمرين، وذكر ما عقده البخاري في صحيحه من كتاب الإيمان في كفر دون كفر، وما قاله العلامة ابن القيم أن الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة من الكفر العملي، وتحقيقه أن الكفر كفر عمل وكفل جحود وعناد، فكفر الجحود أن يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحوداً وعناداً، فهذا الكفر يضاد الإيمان من

كل وجه. وأما كفر العمل فهو نوعان: نوع يضاد الإيمان ونوع لا يضادّه، ثم نقل عن ابن القيم كلاماً في هذا المعنى، ثم قال السيد المذكور "قلت: ومن هذا –يعني الكفر العملي– من يدعو الأولياء، ويهتف بهم عند الشدائد، ويطوف بقبورهم، ويقبل جدرانها وينذر له بشي من ماله، فإنه كفر عملي لا اعتقادي، فإنه مؤمن بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وباليوم الآخر، لكن زين له الشيطان أن هؤلاء عباد الله الصالحين ينفعون ويشفعون ويضرون فاعتقد ذلك كما اعتقد ذلك أهل الجاهلية في الأصنام، لكن هؤلاء مثبتون التوحيد لله لا يجعلون الأولياء آلهة كما قاله الكفار إنكاراً على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى كلمة التوحيد: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} . فهؤلاء جعلوا لله شركاء حقيقة فقالوا في التلبية،: لبيك لا شريك لك، إلا شرك هو لك، تملكه وما ملك، فأثبتوا للأصنام شركة مع رب الأنام، وإن كانت عباراتهم الضالة قد أفادت أنه لا شريك له، لأنه إذا كان يملكه وما ملك فليس بشريك له تعالى بل مملوك. فعباد الأصنام الذين جعلوا لله أنداداً واتخذوا من دونه شركاء يقولون إنهم شفعاء يقربونهم إلى الله زلفى، بخلاف جهلة المسلمين الذين اعتقدوا في أوليائهم النفع والضر، فإنهم مقرّون لله بالوحدانية وإفراده بالإلهية وصدقوا رسله، فالذي أتوه من تعظيم الأولياء كفر عمل لا اعتقاد، فالواجب وعظهم وتعريفهم جهلهم وزجرهم ولو بالتعزير، كما أمرنا بحد الزاني والشارب والسارق من أهل الكفر العملي، إلى أن قال: فهذه كلها قبائح محرمة من أعمال الجاهلية، فهو من الكفر العملي، وقد ثبت أن هذه الأمة تفعل أموراً من أمور الجاهلية هي من الكفر العملي كحديث: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة". أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي مالك الأشعري فهذه من الكفر العملي لا تخرج به الأمة من الملة، بل هم من إتيانهم بهذه الخصلة الجاهلية أضافهم إلى نفسه فقال: "من أمتي".

فإن قلت: أهل الجاهلية تقول في أصنامها إنهم يقربونهم إلى الله زلفى كما يقوله القبوريون، ويقولون: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} . كما يقوله القبوريون. قلت: لا سواء، فإن القبوريين مثبتون التوحيد لله قائلون إنه لا إله إلا هو، ولو ضربت عنقه على أن يقول إن الولي إله مع الله لما قالها، بل عنده اعتقاد جهل أن الولي لما أطاع الله كان له لطاعته عنده تعالى جاه به تقبل شفاعته ويرجى نفعه، لا أنه إله مع الله، بخلاف الوثني فإنه امتنع عن قوله إله لا إله الله حتى ضربت عنقه زاعماً أن وثنه إله مع الله ويسميه رباً وإلهاً، قال يوسف عليه السلام: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} . سماهم أرباباً لأنهم كانوا يسمونهم بذلك كما قال الخليل: {هَذَا رَبِّي} . في الثلاث الآيات مستفهماً لهم مبكتاً متكلماً على خطئهم حيث يسمون الكواكب أرباباً وقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} . وقال قوم إبراهيم: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا} - {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} . وقال إبراهيم: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} ؟ ومن هنا يعلم أن الكفار غير مقرّين بتوحيد الإلهية كما توهمه من توهم من قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} – {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} ، {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ -إلى قوله- فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} . فهذا إقرار بتوحيد الخالقية والرازقية ونحوهما، لا أنه إقرار بتوحيد الإلهية، لأنهم يجعلون أوثانهم أرباباً كما عرفت. فهذا الكفر الجاهلي كفر اعتقاد، ومن لازمه كفر العمل، بخلاف من اعتقد في الأولياء النفع والضر مع توحيد الله وإيمان به وبرسوله وباليوم الآخر فإنه كفر عمل، فهذا تحقيق بالغ وإيضاح لما هو الحق من غير إفراط ولا تفريط اهـ، كلام السيد المذكور رحمه الله تعالى. وأقول: هذا الكلام في التحقيق ليس بتحقيق بالغ، بل كلام متناقض متدافع، وبيانه أنه لا شك أن الكفر ينقسم إلى كفر اعتقاد وكفر عمل، ولكن دعوى أن ما يفعله المعتقدون في الأموات من كفر العمل في غاية الفساد، فإنه قد ذكر في هذا

البحث أن كفر من اعتقد في الأولياء كفر عملي، هذا عجيب، كيف يقول كفر من يعتقد في الأولياء كفر عمل، ويسمى ذلك اعتقاداً ثم يقول إنه من الكفر العملي؟ وهل هذا إلا التناقض البحت، والتدافع الخالص؟ انظر كيف ذكر في أول البحث أن كفر من يدعو الأولياء ويهتف بهم عند الشدائد ويطوف بقبورهم ويقبل جدرانها وينذر لها بشيء من ماله هو كفر عملي، فليت شعري ما هو الحامل له على الدعاء والاستغاثة، وتقبيل الجدارات، ونذر النذورات؟ هل هو مجرد اللعب والعبث من دون اعتقاد؟ فهذا لا يفعله إلا مجنون. أم الباعث عليه الاعتقاد في الميت، فكيف لا يكون هذا من كفر الاعتقاد الذي لولاه لم يصدر فعل من تلك الأفعال؟ ثم انظر كيف اعترف بعد أن حكم على هذا الكفر بأنه كفر عمل لا كفر اعتقاد بقوله: لكن زين له الشيطان أن هؤلاء عباد الله الصالحين ينفعون ويشفعون، فاعتقد ذلك جهلاً كما اعتقده أهل الجاهلية في الأصنام، فتأمل كيف حكم بأن هذا كفر اعتقاد ككفر أهل الجاهلية، وأثبت الاعتقاد واعتذر عنهم بأنه اعتقاد جهل، وليت شعري أي فائدة لكونه اعتقاد جهل؟ فإن طوائف الكفر بأسرها وأهل الشرك قاطبة إنما حملهم على الكفر ودفع الحق والبقاء على الباطل الاعتقاد جهلاً، وهل يقول قائل إن اعتقادهم اعتقاد علم حتى يكون اعتقاد الجهل عذراً لإخوانهم المعتقدين في الأموات؟ ثم تمم الاعتذار بقوله: لكن هؤلاء مثبتون للتوحيد إلى آخر ما ذكره. ولا يخفاك أن هذا عذر باطل، فإن إثباتهم التوحيد إن كان بألسنتهم فقط فهم مشتركون في ذلك هم واليهود والنصارى والمشركون والمنافقون، وإن كان بأفعالهم فقد اعتقدوا في الأموات ما اعتقده أهل الأصنام في أصنامهم، ثم كرر هذا المعنى في كلامه وجعله السبب في رفع السيف عنهم وهو باطل، فما ترتب عليه مثله باطل، فلا نطوِّل بردّه، بل هؤلاء القبوريون قد وصلوا إلى حد في اعتقادهم في الأموات لم يبلغه المشركون في اعتقادهم في أصنامهم، وهو أن الجاهلية كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله وحده، وإنما يدعون أصنامهم مع عدم نزول الشدائد من الأمور كما حكاه الله عنهم بقوله: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ

الإِنسَانُ كَفُوراً} . وبقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} . وبقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ} . وبقوله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} . بخلاف المعتقدين في الأموات فإنهم إذا دهتم الشدائد استغاثوا بالأموات ونذروا لهم النذور، وقل من يستغيث بالله سبحانه في تلك الحال، وهذا يعلمه كل من له بحث عن أحوالهم. ولقد أخبرني بعض من ركب البحر أنه اضطرب اضطراباً شديداً، فسمع من أهل السفينة من الملاحين وغالب الراكبين معهم ينادون الأموات ويستغيثون بهم، ولم يسمعهم يذكرون الله قط، قال: ولقد خشيت في تلك الحال الغرق لما شاهدته من الشرك بالله. وقد سمعنا عن جماعة من أهل البادية المتصلة بصنعاء أن كثيراً منهم إذا حدث له ولد جعل قسطاً من ماله لبعض الأموات المعتقدين ويقول إنه قد اشترى ولده من ذلك الميت الفلاني بكذا، فإذا عاش حتى بلغ سن الاستقلال دفع ذلك الجعل لمن يعتكف على قبر ذلك الميت من المحتالين لكسب الأموال. وبالجملة فالسيد المذكور رحمه الله تعالى قد جرد النظر في بحثه السابق إلى الإقرار بالتوحيد الظاهري، واعتبر مجرد التكلم بكلمة التوحيد، ويخالفه من اعتقاده الذي صدرت عنه تلك الأفعال المتعلقة بالأموات، وهذا الاعتبار لا ينبغي التعويل عليه ولا الاشتغال به، فالله سبحانه إنما ينظر إلى القلوب وما صدر من الأفعال عن اعتقاد لا إلى مجرد الألفاظ، وإلا لما كان فرق بين المؤمن والمنافق. اه‍. وأيضاً قال فيه1 وأقول: قد قدمنا في أوائل هذا الجواب أنه لا بأس بالتوسل بنبي من الأنبياء أو ولي من الأولياء أو عالم من العلماء، وأوضحنا ذلك بما لا مزيد

_ 1 أي الشوكاني.

عليه، فهذا الذي جاء إلى القبر زائراً ودعا الله وحده وتوسل بذلك الميت كأن يقول: اللهم إني أسألك أن تشفيني من كذا، وأتوسل إليك بما لهذا العبد الصالح من العبادة لك والمجاهدة فيك أو التعلم والتعليم خالصاً لك، فهذا لا تردد في جوازه1 لكن لأي معنى قام يمشي إلى القبر؟ فإن كان لمحض الزيارة ولم يعزم على الدعاء والتوسل إلا بعد تجريد القصد إلى الزيارة فهذا ليس بممنوع، فإنه إنما جاء ليزور، وقد أذن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بزيارة القبور لحديث: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها" وهو في الصحيح، وخرج لزيارة الموتى ودعا لهم وعلمنا كيف نقول إذا نحن زرناهم وكان يقول: "السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا بكم إن شاء الله لاحقون، وأتاكم ما توعدون، نسأل الله لنا ولكم العافية". وهو أيضاً في الصحيح بألفاظ وطرق، فلم يفعل هذا الزائر إلا ما هو مأذون له به ومشروع، لكن بشرط أن لا يشد راحلته، ولا يعزم على سفر ولا يرحل كما ورد تقييد الإذن بالزيارة للقبور بحديث: "لا تشدوا الرحال إلا لثلاثة مساجد". وهو مقيد لمطلق الزيارة، وقد خصص بمخصصات: (منها) زيارة القبر الشريف النبوي المحمدي على صاحبه أفضل الصلاة والتسليم، وفي ذلك خلاف بين العلماء، وهي مسألة من المسائل التي طالت ذيولها، واشتهرت أصولها، وامتحن بسببها من امتحن، وليس ذكر ذلك من مقصودنا. وأما إذا لم يقصد مجرد الزيارة بل قصد المشي إلى القبر ليفعل الدعاء عند فقط وجعل الزيارة تابعة لذلك أو مشى لمجموع الزيارة والدعاء فقد كان يغنيه أن يتوسل إلى الله بما لذلك الميت من الأعمال الصالحة من دون أن يمشي إلى قبره، فإن قال إنما مشيت إلى قبره لأشير إليه عند التوسل به، فيقال له إن الذي يعلم السر وأخفى، ويحول بين المرء وقلبه، ويطلع على خفيات الضمائر، وتنكشف لديه مكنونات السرائر لا يحتاج منك إلى هذه الإشارة التي زعمت أنها الحاملة لك على قصد القبر والمشي إليه، وقد كان يغنيك أن تذكر ذلك الميت باسمه العلم أو بما يتميز به عن غيره، فما أراك

_ 1 فيه نظر، وهو أن توسل الإنسان بعبادة غيره غير مشروع ولا مأثور ولا معقول، فالتوسل تقرب شرعي، وإنما يتقرب العباد إلى ربهم بما شرعه لهم من الإيمان والعمل الصالح كما فعل أصحاب الغار الثلاثة، وتقدمت الإشارة إليه. وكتبه محمد رشيد رضا.

مشيت لهذه الإشارة، فإن الذي تدعوه في كل مكان مع كل إنسان، بل مشيت لتسمع الميت توسلك به وتعطف قلبك عليك، وتتخذ عنده يداً بقصده وزيارته والدعاء عنده والتوسل به، وأنت إن رجعت إلى نفسك، وسألتها عن هذا المعنى فربما تقر لك به وتصدقك الخبر، فإن وجدت عندها هذا المعنى الدقيق، الذي هو بالقبول منك حقيق فاعلم أنه قد علق بقلبك ما علق بقلوب عباد القبور، ولكنك قهرت هذه النفس الخبيثة عن أن تترجم بلسانك عنها، وتنشد ما انطوت عليه من محبة ذلك القبر والاعتقاد فيه والتعظيم له والاستغاثة به، فأنت مالك لها من هذه الحيثية، مملوك لها من الحيثية التي أقامتك من مقامك، ومشيت بك إلى فوق القبر، فإن تداركت نفسك بعد هذه وإلا كانت المستولية عليك المتصرفة فيك، والمتلاعبة بك في جميع ما تهواه مما قد وسوس به لها الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس. اه‍ وأيضاً قال فيه: قد ظهر بمجموع هذا التقسيم أن من يقصد القبر ليدعو عنده هو أحد ثلاثة: إن مشى لقصد الزيارة فقط وعرض له الدعاء ولم يحصل بدعائه تغرير على الغير فذلك جائز، وإن مشى لقصد الدعاء فقط أو له مع الزيارة وكان له من الاعتقاد ما قدمنا فهو على خطر الوقوع في الشرك فضلاً عن كونه عاصياً، وإذا لم يكن له اعتقاد في الميت على الصفة التي ذكرنا فهو عاص آثم، وهذا أقل أحواله، وأحقر ما يربحه في رأس ماله. اه‍ وأيضاً قال فيه: وإذا عرف هذا فالذي نعتقده وندين به الله أن من دعا نبياً أو ولياً أو غيرهما وسأل منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات أن هذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين حيث اتخذوا أولياء وشفعاء يستجلبون بهم المنافع ويستدفعون بهم المضار بزعمهم، قال الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} . فمن جعل الأنبياء أو غيرهم كابن عباس أو أبي طالب1 وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع بمعنى أن الخلق

_ 1 مع أن أبا طالب اختار أن يموت على ملة عبد المطلب في الجاهلية، وأبى أن ينطق بكلمة التوحيد التي دعاه صلى الله عليه وسلم إلى النطق بها ساعة الاحتضار، ونزلت فيه الآية: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} . محب الدين.

يسألونهم وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك حوائج الناس لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملوك، أو لكونهم أقرب إلى الملك، فمن جعلهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك حلال الدم والمال وقد نص العلماء رحمهم الله تعالى على ذلك وحكوا عليه الإجماع. قال في (الإقناع) : وشرحه: من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم كفر إجماعاً، لأن ذلك كفعل عبادي الأصنام قائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} . انتهى. وقال الإمام أبو الوفاء علي بن عقيل الحنبلي رحمه الله: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وإكرامها وإلزامها بما نهى عنه الشرع من إيقاد النيران وتقبيلها وتخليقها1 وخطاب الموتى بالحوائج وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل لي كذا وكذا وأخذ تربتها تبركاً، وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى2. انتهى. وقال الإمام البكري الشافعي في تفسيره عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} : وكانت الكفار إذا سئلوا من خلق السموات والأرض؟ قالوا الله. فإذا سئلوا عن عبادة الأصنام قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، لأجل طلب شفاعتهم عند الله، وهذا كفر. انتهى كلامه. فتأمل ما ذكره صاحب الإقناع، وكذلك ما ذكره ابن عقيل من تعظيم القبور وخطاب الموتى بالحوائج وهو كفر.

_ 1 تخليقها تضميخها بالخلوق، وهو بالفتح نوع من الطيب، ومثله كل تعطير وتطييب. 2 هو اقتداء بهم وإن لم يقصد فاعله الاقتداء ولا علم بحالهم، والحكم منوط بهذا العمل الوثني لا بقصد الاقتداء بالمشركين، وكتبه وما قبله محمد رشيد.

قال الحافظ العماد بن كثير رحمه الله في تفسيره عند قوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} : أي إنما يحملهم على عبادتهم أنهم عمدوا إلى أصنام اتخذوها على صور الملائكة المقربين في زعمهم فعبدوا تلك الصور تنزيلاً لذلك منزلة عبادتهم الملائكة ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم ورزقهم وما ينوبهم من أمر الدنيا، فأما المعاد فكانوا جاحدين له كافرين به. قال قتادة والسدي ومالك عن زيد بن أسلم وابن زيد: {إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} : أي ليشفعوا لنا ويقربونا عنده، ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهليتهم لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك، وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدهر وحديثه، وجاءتهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم بردها والنهي عنها، والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له، وأن هذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم لم يأذن الله فيه ولا رضي به، بل أبغضه ونهى عنه، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} . فأخبر أن الملائكة في السموات من المقربين وغيرهم كلهم عبيد خاضعون لله لا يشفعون عنده إلا بإذنه لمن ارتضى، وليسوا عنده كالأمراء عند ملوكهم يشفعون عندهم بغير إذنهم فيما أحبه الملوك أو أبغضوه: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} . تعالى الله عن ذلك. انتهى كلامه. وقال الإمام البكري رحمه الله عند قوله: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ} . الآية: فإن قلت إذا أقروا فكيف عبدوا الأصنام؟ قلت: كلهم يعتقدون بعبادتهم الأصنام عبادة الله تعالى، والتقرب إليه، ولكن بطرق مختلفة، ففرقة قالت: ليس لنا أهلية عبادة الله تعالى بلا واسطة لعظمته، فعبدناها لتقربنا إليه زلفى، وفرقة قالت: الملائكة ذوو جاه ومنزلة عند الله تعالى، فاتخذنا لنا أصناماً على هيئة الملائكة لتقربنا إلى الله زلفى، وفرقة قالت: جعلنا الأصنام لنا قبلة في العبادة، كما أن الكعبة قبلة في عبادته، وفرقة اعتقدت أن لكل صنم شيطاناً موكلاً بأمر الله، فمن عبد الصنم حق عبادته قضى الشيطان

حوائجه بأمر الله، وإلا أصابه شيطانه بنكبة بإذن الله. اه‍ـ كلامه. فانظر إلى كلام هؤلاء الأئمة وتصريحهم بأن المشركين ما أرادوا مما عبدوا إلا التقرب إلى الله وطلب شفاعتهم عند الله، وتأمل ما ذكره ابن كثير، وما حكاه عن زيد بن أسلم وابن زيد ثم قال: وهذه الشبهة هي التي اعتقدها المشركون في قديم الدهر وحديثه، وجاءتهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم بردها والنهي عنها، وتأمل ما ذكره البكري رحمه الله عند آية الزمر: إن الكفار ما أرادوا إلا الشفاعة، ثم صرح بأن هذا كفر، فمن تأمل ما ذكره الله في كتابه تبين له أن الكفار ما أرادوا ممن عبدوا إلا التقرب إلى الله وطلب شفاعتهم عند الله، فإنهم لم يعتقدوا فيها أنها تخلق الخلائق وتنزل المطر وتنبت النبات، بل كانوا مقرين أن الفاعل لذلك هو الله وحده، قال الله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} . وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} . وقال تعالى: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} . الآيتين، إلى غير ذلك من الآيات التي أخبر الله فيها أن المشركين معترفون أن الله هو الخالق الرازق، وإنما كانوا يعبدونهم ليقربوهم ويشفعوا لهم كما ذكره الله سبحانه في قوله: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} . فبعث الله الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده، لا يجعل معه إله آخر، وأخبر أن الشفاعة كلها لله، وأنه لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، وأنه لا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله، وأنه لا يرضى إلا التوحيد، والشفاعة مقيدة بهذه القيود، قال الله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ. قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} . وقال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} . وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} . وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} . وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} . وقال تعالى: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . اه‍ـ

وأيضاً قال فيه: والمقصود أن الكتاب والسنة دلا على أن من جعل الملائكة والأنبياء أو ابن عباس أو أبا طالب1 أو المحجوب وسائط بينه وبين الله يشفعون له عند الله لأجل قربهم من الله كما يفعل عند الملوك أنه كافر مشرك حلال المال والدم وإن قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى وصام وزعم أنه مسلم، بل هو من الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يسحبون أنهم يحسنون صنعاً. اهـ. وأيضاً قال فيه: فإذا تبين لكم أن القرآن قد صرح بهذه المسائل الثلاث –أعني اعتراف المشركين بتوحيد الربوبية، وأنهم يدعون الصالحين، وأنهم ما أرادوا منهم إلا الشفاعة– تبين لكم أن هذا الذي يفعل عند القبور اليوم من سؤال جلب الفوائد وكشف الشدائد أنه الشرك الأكبر الذي كفّر الله به المشركين، فإن هؤلاء المشركين شبهوا الخالق بالمخلوق. وفي القرآن العزيز وكلام أهل العلم من الرد على هؤلاء ما لا يتسع له هذا الموضع، فإن الوسائط التي تكون بين الملوك وبين الناس تكون على أحد وجوه ثلاثة: إما لإخبارهم من أحوال الناس بما لا يعرفونه، ومن قال إن الله لا يعرف أحوال العباد حتى يخبره بذلك بعض الأنبياء أو غيرهم من الأولياء والصالحين فهو كافر، بل هو سبحانه يعلم السر وأخفى، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء. الثاني أن يكون الملك عاجزاً عن تدبير رعيته ودفع أعدائه إلا بأعوان يعاونونه، فلابد له من أعوان وأنصار، لذله وعجزه! والله سبحانه ليس له ولي ولا ظهير من الذل، وكل ما في الوجود من الأسباب فهو سبحانه ربه وخالقه، فهو الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، بخلاف الملوك المحتاجين إلى ظهرائهم وهم في الحقيقة شركاؤهم، والله سبحانه ليس له شريك في الملك، بل لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، ولهذا لا يشفع عنده إلا بإذنه لا ملك مقرب ولا نبي

_ 1 انظر التعليق ص 170.

مرسل فضلاً عن غيرهما، فإن من شفع عنده بغير إذنه فهو شريك له في حصول المطلوب أثر فيه بشفاعته حتى يفعل ما يطلب منه، والله لا شريك له بوجه من الوجوه. الثالث أن يكون الملك ليس مريداً لنفع رعيته والإحسان إليهم إلا بمحرك يحركه من خارج، فإذا خاطب الملك من ينصحه ويعظه أو من يدل عليه بحيث يكون يرجوه أو يخافه تحركت إرادة الملك وهمته في قضاء حوائج رعيته، والله سبحانه رب كل شيء ومليكه، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وكل الأسباب إنما تكون بمشيئته، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وهو سبحانه إذا أجرى نفع العباد بعضهم على يد بعض فجعل هذا يحسن إلى هذا ويدعو له ويشفع له فهو الذي خلق ذلك كله، وهو الذي خلق في قلب هذا المحسن والداعي إرادة الإحسان والدعاء، ولا يجوز أن يكون في الوجود من يكرهه على خلاف مراده، أو يعلمه ما لم يكن يعلمه، والشفعاء الذين يشفعون عنده لا يشفعون عنده إلا بإذنه كما تقدم بيانه، بخلاف الملوك فإن الشافع عندهم يكون شريكاً لهم في الملك، وقد يكون مظاهراً لهم ومعاوناً لهم على ملكهم، وهم يشفعون عند الملوك بغير إذن الملوك، والملك يقبل شفاعتهم: تارة لحاجته إليهم، وتارة لجزاء إحسانهم ومكافأتهم، حتى أنه يقبل شفاعة ولده وزوجته لذلك، فإنه محتاج إلى الزوجة والولد حتى لو أعرض عنه ولده وزوجته لتضرر بذلك ويقبل شفاعة مملوكه، فإنه إذا لم يقبل شفاعته يخاف أن لا يطيعه، ويقبل شفاعة أخيه مخافة أن يسعى في ضرره، وشفاعة العباد بعضهم عند بعض كلها من هذا الجنس، فلا أحد يقبل شفاعة أحد إلا لرغبة أو لرهبة، والله سبحانه لا يرجو أحداً ولا يخافه، ولا يحتاج إلى أحد، بل هو الغني سبحانه عما سواه، وكل ما سواه فقير إليه. اهـ. وأيضاً قال فيه: وقال شيخ الإسلام تقي الدين في الإقناع: إن من دعا ميتاً وإن كان من الخلفاء الراشدين فهو كافر، وإن من شك في كفره فهو كافر، وقال في النهر الفائق: اعلم أن الشيخ قاسماً قال في شرح البحار: إن النذر الذي يقع من أكثر العوام،

بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلاً: يا سيدي فلان إن رُد غائبي أو عوفي مريضي فلك من الذهب أو الفضة أو الشمع أو الزيت كذا، باطل إجماعاً لوجوه -إلى أن قال:- ومنها ظن أن الميت يتصرف في الأمر، واعتقاد هذا كفر، وقال ابن حجر في شرح أربعين له: من دعا غير الله فهو كافر. اهـ. وقال شيخ الإسلام تقي الدين رحمه الله في (الرسالة السنية) : إن كل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعاً من الإلهية مثل أن يقول: يا سيدي فلان أغثني أو انصرني أو ارزقني أو أجبرني، وأنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب نجا وإلا قتل، فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده، لا يجعل معه إله آخر، والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تنزل المطر أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم ويعبدون قبورهم أو صورهم ويقولون: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فبعث رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً. أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} . الآية. اه‍ قال العلامة ابن القيم: ومن العجب أنهم ينسبون أهل التوحيد إلى التنقص بالمشايخ والأنبياء والصالحين، وما ذنبهم إلا أن قالوا: إنهم عبيد لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، وإنهم لا يشفعون لعابديهم أبداً، بل حرم الله تعالى شفاعتهم لهم، ولا يشفعون لأهل التوحيد إلا بعد إذن الله لهم في الشفاعة، فليس لهم من الأمر شيء، بل الأمر كله لله، والشفاعة كلها لله سبحانه، والولاية له، فليس لخلقه من دونه ولي ولا شفيع. فالمشرك إما أن يظن أن الله سبحانه يحتاج إلى من يدبر أمر العالم معه من وزير أو ظهير أو عوين، وهذا أعظم التنقص لمن هو غني عن كل ما سواه بذاته، وكل ما سواه فقير إليه بذاته، وإما أنه يظن أنه لا يعلم حتى يعلمه الواسطة، ولا يرحم حتى يجعله

الواسطة يرحم، ولا يكفي وحده أو لا يفعل ما يريد العبد حتى يشفع عنده الواسطة كما يشفع المخلوق عند المخلوق، فيحتاج أن يقبل شفاعته لحاجته إلى الشافع وانتفاعه به وتكثره به من القلة وتعززه به من الذلة، أو لا يجيب دعاء عباده حتى يسألوا الواسطة أن يرفع تلك الحاجة إليه، كما هو حال ملوك الدنيا، وهذا أصل شرك الخلق، أو يظن أنه لا يسمع دعاءه لبعده عنهم حتى يرفع الوسائط إليه ذلك أو يظن أن للمخلوق عليه حقاً فهو يقسم عليه بحق ذلك المخلوق عليه، ويتوسل إليه بذلك المخلوق كما يتوسل الناس إلى الأكابر والملوك بمن يعز عليهم ولا يمكنهم مخالفته، وكل ذلك تنقص للربوبية وهضم لحقها، ولو لم يكن فيه إلا نقص محبة الله وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه من قلب المشرك بسبب قسمه ذلك بينه سبحانه وبين من أشرك به، فيضعف أو يضمحل ذلك التعظيم والمحبة والخوف والرجاء بسبب صرف أكثره أو بعضه إلى من عبده من دون الله، فالشرك ملزم لتنقص الرب سبحانه، والتنقص لازم له ضرورة، شاء المشرك أم أبى، ولهذا اقتضى حمده سبحانه وكمال ربوبيته أن لا يغفره، وأن يخلد صاحبه في العذاب الأليم، ويجعله أشقى البرية، فلا تجد مشركاً قط إلا وهو منتقص لله سبحانه وإن زعم أنه معظم له بذلك اهـ. هكذا نقله بعض المحققين في كتاب رد فيه على داود بن جرجيس العراقي لم أقف على اسمه1. وأيضاً قال فيه: وأما قول هذا الجاهل العراقي، وكذلك المسلمون يذكرون أن طلبتهم من غير الله إنما هي من باب التسبب، فالجواب أن نسبة الطلب من غير الله إلى المسلمين من أمحل المحال وأبطل الباطل، فإن المسلم لا يطلب من غير الله، فإن من طلب وسأل حاجته من ميت أو غائب فقد فارق الإسلام، لأن المشرك ينافي الإسلام، لما تقدم من أن الإسلام هو إسلام الوجه والقلب واللسان والأركان لله وحده دون ما سواه، فالمسلم المخلص يخلص دعاءه لله، والمشرك يصرف جل الدعاء والعبادة أو بعضه لغير الله، وقد عرفت مما تقدم أن الدعاء هو العبادة، وقد

_ 1 هو الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في كتاب (منهاج التأسيس في الرد على داود بن جرجيس) البغدادي.

نهى سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو غيره فقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} . وهذا خرج مخرج الخصوص وهو عام لجميع الأمة، وكذلك: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} . وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} . فظهر من هذه الآية أن الدعاء تأله المدعو، فإن المألوه هو المعبود، والعابد آلهٌ له. اهـ. وأيضاً قال فيه: وأما ما ادعاه المنحرفون عن الإيمان من أن الوسيلة هو التوسل إلى الله تعالى بالأنبياء والصالحين فهذا باطل يناقض ما ذكره الله تعالى في أول الآية من تهديد من دعاهم وإنكاره عليهم دعوتهم، وقد تقدم ما يدل على أن هذا المدعى هو بعينه دين المشركين المتخذين الشفعاء يسألونهم أن يشفعوا لهم عند الله ويقربوهم إليه زلفى، والقرآن كله من أوله إلى آخره يبطل هذه الوسيلة ويبين أنها شرك وكفر كما قال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} . وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} . الآية، وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ -إلى قوله– وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} . فتظاهرت الآيات والأحاديث على أن هذه الوسيلة التي يدعيها أولئك الضلال من التعلق بالأموات والغائبين برغبة أو رهبة أن هذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله كما تقدم ذلك صريحاً في كلام العلماء والاستدلال على ذلك بهذه الآيات ونظائرها. اه‍ وأيضاً قال فيه: فالإجماع الصحيح هو ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله وتلقاه عنه الفقهاء في كتبهم فإنه قال: ومن جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم كفر إجماعاً. اه‍ وأيضاً قال فيه: قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله في مسألة الوسائط –وقد سئل عن رجل قال لابد لنا من واسطة بيننا وبين الله– فأجاب: الحمد لله رب العالمين، إنه إن أراد أنه لا بد لنا من واسطة تبلغنا أمر الله فهذا حق، فإن الخلق

لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه، وما أمر به ونهى عنه ولا يعرفون ما يستحقه من أسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وأمثال ذلك إلا بالرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده –إلى أن قال:- وإن أراد بالواسطة أنه لا بد من واسطة تتخذه العباد بينهم وبين الله في جلب المنافع ودفع المضار، يسألونه ويرجونه، فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين، حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء يجتلبون بهم المنافع ويستدفعون بهم المضار، لكن الشفاعة لمن أذن الله له فيها. قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} . وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} . وذكر قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً. أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} . وقد تقدم. فبين الله لهم أن الملائكة والأنبياء لا يمكلون كشف الضر عنهم ولا تحويله، وأنهم يتقربون إليه بما يحبه ويرضاه، ويرجون رحمته ويخافون عذابه، وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ. وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . فبين سبحانه أن اتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً كفر، فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويسألهم جلب المنافع وسد الفاقات، وتفريج الكربات، فهو كافر بإجماع المسلمين. اه‍ وأيضاً فيه: وذكر شيخ الإسلام أيضاً كلامه الذي سبق في مشايخ العلم الذين جعلهم وسائط بين الرسول وأمته يبلغون عنه ويقتدون به، فمن جعلهم وسائط بين الرسول وبين أمته في البلاغ عنه فقد أصاب، وأما جعل الوسائط بين الله وبين خلقه كالحجّاب الذين بين الملك ورعيته بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه بمعنى أن الخلق يسألونهم وهم يسألون الله كما أن الوسائط عند الملوك يسألون حوائج

الناس لقربهم منهم والناس يسألونهم أدباً منهم ليباشروا سؤال الملك أو أن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهؤلاء شبهوا الخالق بالمخلوق، وجعلوا لله أنداداً، وفي القرآن من الرد على هؤلاء ما لا تتسع له هذه الفتوى. وأيضاً فيه: والمقصود هنا أن من أثبت وسائط بين الله وبين خلقه كالوسائط التي تكون بين الملوك والرعية فهو مشرك، بل هذا دين المشركين عباد الأوثان. اه‍ وأيضاً فيه: قال شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيميه: (الوجه الخامس) أن يقال: نحن لا ننازع في إثبات ما أثبته الله من الأسباب والحكم، لكن من هو الذي جعل الاستغاثة بالمخلوق ودعاءه سبباً في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله؟ ومن الذي قال إنك إذا استغثت بميت أو غائب من البشر كان أو غيره كان ذلك سبباً في حصول الرزق والنصر والهدى وغير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله؟ ومن الذي شرع ذلك وأمر به ومن الذي فعل ذلك من الأنبياء والصحابة والتابعين لهم بإحسان؟ فإن هذا المقام يحتاج إلى مقدمتين: (إحداهما) أن هذه أسباب لحصول المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله. (والثانية) أن هذه الأسباب مشروعة لا يحرم فعلها، فإنه ليس كل ما كان سبباً كونياً يجوز تعاطيه، فإن المسافر قد يكون سفره سبباً لأخذ ماله وكلاهما محرم، والدخول في دين النصارى قد يكون سبباً لمال يعطونه له وهو محرم، وشهادة الزور قد تكون سبباً لنيل المال يؤخذ من المشهود له وهو حرام، وكثير من الفواحش والظلم قد يكون سبباً لنيل مطالب وهو محرم، والسحر والكهانة سبب في بعض المطالب وهو محرم، وكذلك الشرك كدعوة الكواكب والشياطين، بل وعبادة البشر قد تكون سبباً لبعض المطالب وهو محرم، فإن الله تعالى حرم من الأسباب ما كانت مفسدته راجحة على مصلحته كالخمر، وإن كان يحصل به بعض الأغراض أحياناً. وهذا المقام مما يظهر به ضلال هؤلاء المشركين خلقاً وأمراً، فإنهم مطالبون بالأدلة الشرعية. اه‍.

وقال بعض أهل العلم في كتاب رد فيه على كتاب بعض معاصريه المسمى (جلاء الغمة عن تكفير هذه الأمة) لم أقف على اسمه1: والتوسل صار مشتركاً في عرف كثير، فبعض الناس يطلقه على قصد الصالحين، ودعائهم وعبادتهم مع الله، وهذا هو المراد بالتوسل في عرف عباد القبور وأنصارهم، وهو عند الله ورسوله وعند أولي العلم من خلقه الشرك الأكبر والكفر البواح، والأسماء لا تغير الحقائق، ويطلق أيضاً في عرف السنة والقرآن وأهل العلم بالله ودينه على التوسل والتقرب إلى الله تعالى بما شرعه من الإيمان به وتوحيده وتصديق رسله وفعل ما شرعه من الأعمال الصالحة التي يحبها الرب ويرضاها، كما توسل أهل الغار الثلاثة بالبر والعفة والأمانة، فإذا أطلق التوسل في كتاب الله تعالى وسنة رسوله وكلام أهل العلم من خلقه، فهذا هو المراد به، لا ما اصطلح عليه المشركون الجاهلون بحدود ما أنزل الله على رسوله، فلبّس هذا المعترض بكلمة مشتركة ترويجاً لباطله. وأما ما ورد في السنن من السؤال بحق السائلين عليك وبحق ممشاي ونحو ذلك فالله سبحانه وتعالى جعل على نفسه حقاً تفضلاً منه وإحساناً إلى عباده، فهو توسل إليه بوعده وإحسانه وما جعله لعباده المؤمنين على نفسه، فليس من هذا الباب، أعني باب مسألة الله بخلقه، وقد منع ذلك فقهاء الحنفية كما حدثني به محمد بن محمود الجزائري الحنفي رحمه الله بداره باسكندرية، وذكر أنهم قالوا: لا حق لمخلوق على الخالق، ويشهد بهذا ما يروى أن داود قال: "اللهم إني أسألك بحق آبائي عليك". فأوحى إليه: "أي حق لآبائك عليّ؟ " أو نحو هذا. وأما الحق المشار إليه بالنفي هنا غير ما تقدم إثباته، فإن المثبت بمعنى الوعد الصادق، وما جعله الله تعالى للماشي إلى الصلاة وللسائلين من الإجابة والإثابة فضلاً منه وإحساناً، والمنفي هنا هو الحق الثابت بالمعاوضة والمقابلة على الإيمان والأعمال

_ 1 هو الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب واسم كتابه (مصباح الظلام) رد فيه على كتاب (كشف الغمة عن تكفير هذه الأمة) لعثمان بن منصور من أهل سدير.

الصالحات، فالأول يعود ويرجع إلى التوسل بصفاته الفعلية الذاتية، والثاني يرجع إلى التوسل بذوات المخلوقين، فتأمله فإنه نفيس جداً. اه‍ وقال أيضاً فيه قبيله: فاعلم أن قول الملحد "فجعل بكلامه هذا كما ترى التوسل بذوات الصالحين والرسل عليهم الصلاة والسلام وطلبه جل وعلا بأوليائه من دين المشركين الشرك الأكبر المخرج عن الملة وكفر به، كما ترى صريحاً من قوله تمويه وتلبيس أدخل فيه قوله "وطلبه جل وعلا بأوليائه" ليوهم الجهال ومن لا علم عندهم بحقيقة الحال، وموضوع الكلام أن مراد الشيخ مسألة التوسل في دعاء الله بجاه الصالحين، وهذه مسألة ودعاء الصالح وقصده فيما لا يقدر عليه إلا الله مسألة أخرى، فخلطهما ليروّج باطله فقبحاً قبحاً، وسحقاً سحقاً لمن ورث اليهود، وحرف الكلم عن مواضعه، وكلام الشيخ صريح فيمن دعا مع الله إلهاً آخر في حاجاته وملماته وقصده بعباداته فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى كحال من عبد عبد القادر أو أحمد البدوي أو العيدروس أو علياً والحسين، ومع هذا الصنيع الفظيع، والشرك الجلي، يقول: أنا لا أشرك بالله شيئاً، وأشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله، ظناً منهم أن ذلك هو الإسلام فقط، وأنه ينجو به من الشرك وما رتب عليه، فكشف الشيخ شبهته، وأدحض حجته بما تقدم من الآيات: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . وأما مسألة الله تعالى بحق أنبيائه وأوليائه أو بجاههم، بأن يقول السائل "اللهم إني أسألك بحق أنبيائك أو بجاه أوليائك" أو نحوها فليس الكلام فيه ولم يقل الشيخ إنه شرك ولا له ذكر في كلامه، وحكمه عند أهل العلم معروف، وقد نص على المنع منه جمهور أهل العلم، بل ذكره الشيخ في رده على ابن البكري أنه لا يعلم قائلاً بجوازه إلا ابن عبد السلام في حق النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجزم بذلك، بل علق القول على ثبوت حديث الأعمى وصحته، وفيه من لا يحتج به عند أهل الحديث، وعلى تسليم صحته فليس الكلام فيه. اه‍ وأيضاً قال فيه: حديث الأعمى قد تكلم فيه أهل الحديث ولم يصححوه كما تقدم،

لأن فيه من لا يحتج به، ولذلك توقف ابن عبد السلام في صحته وقال: إن صح الحديث فيجوز ذلك بالنبي خاصة، وغيره يقول: إن صح الحديث فليس فيه ما ذهب إليه من أجاز سؤال الله بجاه خلقه وبحقهم، لأن نص الحديث يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له وسأل الله أن يرد بصره، فهو توسل بدعائه كما في حديث عمر رضي الله عنه "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبيك". فدعاء الأنبياء وأقاربهم المؤمنين وأهل الفضل والصلاح من أعظم الوسائل إلى الله تعالى، وما المانع أن يكون هذا هو المراد؟ وعلى كل تقدير فالنزاع ليس في هذا، وكلام شيخنا ليس فيه، وإنما أورده المعترض لبساً ومغالطة، والمعترض ظن أن قول شيخنا فيما حكاه من شبه المشرك، وأنه يقول: وأطلب من الله بهم بجاههم وحقهم، وليس كذلك، لأن سياق الكلام وموضوعه فيمن يدعوهم مع الله، ويجعلهم وسائط بينه وبين ربه، في شأنه وأمره، وحاجته وملماته، فالمعنى حينئذ أطلب من الله بواسطتهم، بمعنى أنه يدعوهم لتحصيل مراده ومطلوبه من الله تعالى، فالغبي لم يفهم، ولبس وموه كما تقدم. وقال الشيخ حسين بن غنام الأحسائي في (روضة الأفكار والأفهام، لمرتاد حال الإمام) : (العاشرة) قولهم في الاستسقاء: لا بأس بالتوسل بالصالحين، وقول أحمد يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة مع قولهم إنه لا يستغاث بمخلوق، فالفرق ظاهر جداً، وليس الكلام مما نحن فيه، فكون بعضهم يرخص بالتوسل بالصالحين وبعضهم يخصه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر العلماء ينهى عن ذلك ويكرهه، هذه المسألة من مسائل الفقه ولو كان الصواب عندنا قول الجمهور إنه مكروه فلا ننكر على من فعله، ولا إنكار في مسائل الاجتهاد، لكن إنكارنا على من دعا المخلوق أعظم مما يدعو الله تعالى، ويقصد القبر يتضرع عند الشيخ عبد القادر أو غيره يطلب منه تفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وإعطاء الرغبات، فأين هذا ممن يدعو الله مخلصاً له الدين، لا يدعو مع الله أحداً، ولكن يقول في دعائه: أسألك بنبيك أو بالمرسلين أو بعبادك الصالحين، أو يقصد قبر معروف أو غيره يدعو عنده، لكن لايدعو إلا الله يخلص له الدين، فأين هذا مما نحن فيه؟!

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الرسالة التي كتبها لأهل مكة بعد مناظرتهم إذا عرف هذا فالذي نعتقده وندين الله به أن من دعا نبياً أو ولياً أو غيرهما، وسأل منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات، أن هذا من أعظم الشرك الذي كفرّ الله به المشركين، حيث اتخذوا أولياء وشفعاء يستجلبون بهم المنافع، ويستدفعون بهم المضار بزعمهم، قال الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} . فمن جعل الأنبياء أو غيرهم كابن عباس أو المحجوب أو أبي طالب وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع، بمعنى أن الخلق يسألونهم وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك حوائج الناس لقربهم منهم والناس يسألونهم أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملك، أو لكونهم أقرب إلى الملك، فمن جعلهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك حلال الدم والمال. اه‍ وقال الشيخ في الرسالة التي كتبها إلى عبد الله بن سحيم: إذا تبين هذا فالمسائل التي شنع بها منها ما هو البهتان الظاهر وهي قوله إني مبطل كتب المذاهب، وقوله إني أقول إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء، وقوله إني أدّعي الاجتهاد، وقوله إني خارج عن التقليد، وقوله إني أقول إن اختلاف العلماء نقمة، وقوله إني أكفر من توسل بالصالحين –إلى أن قال– فهذه اثنا عشر مسألة جوابي فيها أن أقول: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} . ولكن كان قبله من بهت محمداً صلى الله عليه وسلم أنه يسب عيسى ابن مريم ويسب الصالحين: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} . وبهتوه بأنه يزعم أن الملائكة وعيسى وعزيراً في النار فأنزل الله في ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} . الآية اه‍ قال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في الرسالة التي اختصرها من رسائل محمد بن عبد الوهاب المؤلفة في التوحيد: فأخبر تبارك وتعالى أن دعاء غير الله شرك، فمن قال: يا رسول الله، أو يا ابن عباس أو يا عبد القادر أو يا محجوب أو غيرهم، زاعماً أنه باب حاجته إلى الله تعالى وشفيعه

عنده، ووسيلته إليه، فهو المشرك الذي يهدر دمه ويباح ماله، إلا أن يتوب من ذلك. اه‍ وقال في موضع آخر: ونثبت لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم الشفاعة يوم القيامة كما ورد أيضاً، ونسألها من الله المالك لها والآذن فيها لمن شاء من الموحدين الذين هم أسعد الناس بها كما ورد، بأن يقول أحدنا متضرعاً إلى الله تعالى: الهم شفع نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم فينا يوم القيامة، أو: اللهم شفع فينا عبادك الصالحين أو ملائكتك، ونحو ذلك مما يطلب من الله لا منهم، فلا يقال: يا رسول الله أو يا ولي الله أسألك الشفاعة وغيرها وأدركني وأغثني أو انصرني على عدوي أو نحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله، فإذا طلب ذلك مما ذكر في أيام البرزخ كان من أقسام الشرك، إذ لم يرد بذلك نص من الكتاب ولا من السنة، ولا حث من السلف الصالح عن ذلك، بل ورد الكتاب والسنة وإجماع السلف أن ما ذكر شرك أكبر، قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. اه‍ وأيضاً قال فيها: وأما التوسل، وهو أن يقول اللهم إني أتوسل إليك بجاه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم أو بجاه عبادك الصالحين أو نحو ذلك، فهو من البدعة المذمومة، إذ لم يرد بذلك نص. اه‍ قال العلامة السيد نعمان خير الدين الشهير بابن الآلوسي البغدادي في (جلاء العينين في محاكمة الأحمدين) : الخاتمة في التوسط بين القولين، وهو عند المنصف قرة عين الفريقين، فقد قال الوالد عليه الرحمة في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} . ما نصه: "واستدل بعض الناس بهذه الآية على مشروعية الاستغاثة بالصالحين وجعلهم وسيلة بين الله تعالى وبين العباد، والقسم على الله تعالى بهم بأن يقال: اللهم إنا نقسم عليك بفلان أن تعطينا كذا، ومنهم من يقول للغائب أو الميت من عباد الله تعالى الصالحين: يا فلان ادع الله تعالى ليرزقني كذا، ويزعمون أن ذلك من باب ابتغاء الوسيلة ويروون عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور" أو "فاستغيثوا بأهل القبور". وكل ذلك بعيد عن الحق بمراحل.

"وتحقيق الكلام في هذا المقام أن الاستغاثة بمخلوق وجعله وسيلة بمعنى طلب الدعاء منه لا شك في جوازه إن كان المطلوب منه حياً، ولا يتوقف على أفضليته من الطالب، بل قد يطلب الفاضل من المفضول، فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه لما استأذنه في العمرة "لا تنسنا يا أخي من دعائك"، وأمره أيضاً أن يطلب من أويس القرني رحمه الله أن يستغفر له، وأمر أمته صلى الله عليه وسلم بطلب الوسيلة له وبأن يصلوا عليه، وأما إذا كان المطلوب منه ميتاً أو غائباً فلا يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من السلف، نعم السلام على أهل القبور مشروع ومخاطبتهم جائزة. اه‍ وأيضاً قال فيه: وأما القسم على الله تعالى بأحد من خلقه مثل أن يقال: اللهم إني أقسم عليك أو أسألك بفلان إلا ما قضيت لي حاجتي، فعن العز بن عبد السلام جواز ذلك في النبي صلى الله عليه وسلم لأنه سيد ولد آدم، ولا يجوز أن يقسم على الله تعالى بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء لأنهم ليسوا في درجته، وقد نقل ذلك عن المناوي في شرحه الكبير للجامع الصغير، ودليله في ذلك ما رواه الترمذي –وقال حديث حسن صحيح– عن عثمان بن حنيف رضي الله عنه أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ادع الله تعالى أن يعافيني" فقال "إن شئت دعوتُ وإن شئت صبرتَ فهو خير لك". قال فادعه، فأمره عليه الصلاة والسلام أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويدعو بهذا الدعاء "اللهم إني أسألك وأتوجه بنبيك نبي الرحمة، يا رسول الله إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي لتقضى لي، اللهم فشفعه في" ونقل عن أحمد مثل ذلك. "ومن الناس من منع التوسل بالذات، والقسم على الله تعالى بأحد من خلقه مطلقاً، وهو الذي يرشح به كلام التقي بن تيميه، ونقله عن الإمام أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما من العلماء الأعلام، وأجاب عن الحديث بأنه على حذف مضاف أي بدعاء أو شفاعة نبيك صلى الله عليه وسلم، ففيه جعل الدعاء وسيلة، وهو جائز بل مندوب، والدليل على هذا التقدير قوله في آخر الحديث "اللهم فشفعه في" بل في أوله أيضاً ما يدل على ذلك، وقد شنع السبكي –كم هي عادته– على التقي فقال: ويحسن التوسل

والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه ولم ينكر ذلك أحد من السلف والخلف حتى جاء ابن تيميه فأنكر ذلك وعدل عن الصراط المستقيم وابتدع ما لم يقله عالم وصار بين الإسلام مثلة. اه‍ "وأنت تعلم أن الأدعية المأثورة عن أهل البيت الطاهرين وغيرهم من الأئمة ليس فيها التوسل بالذات المكرمة صلى الله عليه وسلم، ولو فرضنا وجود ما ظاهره ذلك فمؤول بتقدير مضاف كما سمعت، أو نحو ذلك كما ستسمع إن شاء الله تعالى، ومن ادعى النص فعليه البيان، وما رواه أبو داود في سننه وغيره من أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا نستشفع بك إلى الله تعالى ونستشفع بالله تعالى عليك، فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رؤى ذلك في وجوه أصحابه فقال صلى الله عليه وسلم " ويحك أتدري ما الله تعالى؟ إن الله تعالى لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن الله تعالى أعظم من ذلك" لا يصلح دليلاً على ما نحن فيه حيث أنكر عليه قوله نستشفع بالله عليك، ولم ينكر عليه الصلاة والسلام قوله نستشفع بك على الله لأن معنى الاستشفاع به صلى الله عليه وسلم طلب الدعاء منه وليس معناه الإقسام به على الله تعالى ولو كان معنى الإقسام الاستشفاع فلم أنكر النبي صلى الله عليه وسلم مضمون الجملة الثانية دون الأولى؟ وعلى هذا لا يصلح الخبر ولا ما قبله لمن ادعى جواز لمن ادعى جواز الإقسام بذاته صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً، وكذا بذات غيره من الأرواح المقدسة مطلقاً، قياساً عليه –عليه الصلاة والسلام– بجامع الكرامة وإن تفاوتت قوة وضعفاً، وذلك لأن ما في الخبر الثاني استشفاع لا إقسام، وما في الخبر الأول ليس نصاً في محل النزاع، وعلى تقدير التسليم ليس فيه إلا الإقسام بالحي والتوسل به، وتساوي حالتي حياته ووفاته صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن يحتاج إلى نص، ولعل النص على خلافه، ففي صحيح البخاري عن أنس أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس رضي الله عنه، قال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون. فإنه لو كان التوسل به عليه الصلاة والسلام بعد انتقاله من هذه الدار جائزاً لما عدلوا عن غيره، بل كانوا يقولون: اللهم إننا نتوسل إليك بنبينا فاسقنا، وحاشاهم أن يعدلوا عن التوسل بسيد الناس، إلى التوسل بعمه العباس، وهم يجدون أدنى مساغ، لذلك فعدولهم هذا مع أنهم السابقون الأولون وهم أعلم منا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وبحقوق

الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام وما يشرع من الدعاء وما لا يشرع، وهم في وقت ضرورة ومخمصة يطلبون تفريج الكربات وتيسير العسير، وإنزال الغيث بكل طريق، دليل واضح على أن المشروع ما سلكوه دون غيره، وما ذكر من قياس غيره من الأرواح المقدسة عليه صلى الله عليه وسلم مع التفاوت في الكرامة الذي لا ينكره إلا منافق مما لا يكاد يسلم. "على أنك قد علمت أن الإقسام به صلى الله عليه وسلم على ربه عز شأنه حياً وميتاً مما لم يقم النص عليه، لا يقال إن في خبر البخاري دلالة على صحة الإقسام به عليه الصلاة والسلام وكذا بغيره كذلك، أما الأول فلقول عمر رضي الله عنه: كنا نتوسل بنبيك صلى الله عليه وسلم، وأما الثاني فلقوله: إنا نتوسل بعم نبيك، لما قيل إن هذا التوسل ليس من باب الإقسام، بل هو من جنس الاستشفاع، وهو أن يطلب من الشخص الدعاء والشفاعة ويطلب من الله تعالى أن يقبل دعاءه وشفاعته، ويؤيد ذلك أن العباس كان يدعو وهم يؤمنون لدعائه حتى سقوا. "وقد ذكر التقي أن لفظ التوسل بالشخص والتوجه إليه وبه فيه إجمال واشتراك بحسب الاصطلاح فمعناه في لغة الصحابة رضي الله عنهم أن يطلب منه الدعاء والشفاعة فيكون التوسل والتوجه في الحقيقة بدعائه وشفاعته وذلك لا محذور فيه، وأما في لغة كثير من الناس فمعناه أن يسأل الله تعالى بذلك ويقسم به عليه، وهذا هو محل النزاع، وقد علمت الكلام فيه، وجعل من الإقسام الغير المشروع قول القائل: اللهم أسألك بجاه فلان، فإنه لم يرو عن أحد من السلف أنه دعا كذلك، وقال: إنما يقسم به تعالى وبأسمائه وصفاته، فيقال: أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت يا الله المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وأسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك –الحديث– ونحو ذلك من الأدعية المأثورة. وما يذكره بعض العامة من قوله صلى الله عليه وسلم "إذا كانت لكم إلى الله تعالى حاجة فاسألوا الله تعالى بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم" لم يروه أحد من أهل العلم، ولا هو في شيء

من كتب الحديث، وما رواه القشيري عن معروف الكرخي قدس سره أنه قال لتلامذته: إن كانت لكم إلى الله حاجة فأقسموا عليه بي فإني الواسطة بينكم وبينه جل جلاله الآن، لا يوجد له سند يعوّل عليه عن المحدثين، وأما ما رواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الخارج إلى الصلاة "اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سمعة، ولكن خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أن تنقذني من النار وأن تدخلني الجنة ". ففي سنده العوفي وفيه ضعف، وعلى تقدير أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم يقال فيه: إن حق السائلين عليه تعالى أن يجيبهم، وحق الماشين في طاعته أن يثيبهم، والحق بمعنى الوعد الثابت المحقق الوقوع فضلاً لا وجوباً كما في قوله تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} . وفي الصحيح من حديث معاذ "حق الله تعالى على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحقهم عليه إن فعلوا ذلك أن لا يعذبهم" فالسؤال حينئذ بالإثابة والإجابة وهما من صفات الله تعالى الفعلية والسؤال بها مما لا نزاع فيه، فيكون هذا السؤال كالاستعاذة في قوله صلى الله عليه وسلم "أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك" فمتى صحت الاستعاذة بمعافاته صح السؤال بإثابته وإجابته، وعلى نحو ذلك يخرج سؤال الثلاثة لله عز وجل بأعمالهم، على أن التوسل بالأعمال معناه التسبب بها لحصول المقصود، ولا شك أن الأعمال الصالحة سبب لثواب الله تعالى لنا ولا كذلك ذوات الأشخاص نفسها، والناس قد أفرطوا اليوم في الإقسام على الله تعالى: فأقسموا عليه عز شأنه بمن ليس في العير ولا في النفير، وليس عنده من الجاه قدر قطمير، وأعظم من ذلك أنهم يطلبون من أصحاب القبور نحو شفاء المريض وإغناء الفقير ورد الضال وتيسير كل عسير، وتوحي إليهم شياطينهم خبر: إذا أعيتكم الأمور الخ1. وهو حديث مفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه لم يروه أحد من العلماء ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد ولعن على ذلك، فكيف يتصور منه عليه الصلاة والسلام الأمر بالاستغاثة بها، والطلب من أصحابها؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.

_ 1 أي فعليكم بأصحاب القبور، وتقدم قريباً في ص 185.

"وعن أبي يزيد البسطامي قدس الله سره أنه قال: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون، ومن كلام السجاد رضي الله عنه: إن طلب المحتاج من المحتاج سفه في رأيه وضلة في عقله، ومن دعاء موسى عليه السلام "وبك المستغاث" وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنه "إذا استعنت فاستعن بالله" الخبر، وقال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . وبعد هذا كله أنا لا أرى بأساً في التوسل إلى الله تعالى بجاه النبي صلى الله عليه وسلم عند الله تعالى حياً وميتاً1، ويراد من الجاه معنى يرجع إلى صفة من صفاته تعالى، مثل أن يراد به المحبة التامة المستدعية عدم رده وقبول شفاعته، فيكون معنى قول القائل: إلهي أتوسل بجاه نبيك صلى الله عليه وسلم أن تقضي لي حاجتي: إلهي اجعل محبتك له وسيلة في قضاء حاجتي، ولا فرق بين هذا وقولك: إلهي أتوسل برحمتك أن تفعل كذا، إذ معناه أيضاً: إلهي اجعل رحمتك وسيلة في فعل كذا، بل لا أرى بأساً أيضاً بالإقسام على الله تعالى بجاهه صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى، والكلام في الحرمة كالكلام في الجاه، ولا يجري ذلك في التوسل والإقسام بالذات البحت. نعم لم يعهد التوسل بالجاه والحرمة عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولعل ذلك كان تحاشياً منهم عما يخشى أن يعلق به في أذهان الناس إذ ذاك وهم قريبو عهد بالتوسل بالأصنام شيء2، ثم اقتدى بهم من خلفهم من الأئمة الطاهرين، وقد ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم هدم الكعبة وتأسيسها على قواعد إبراهيم لكون القوم حديثي عهد بكفر كما ثبت ذلك في الصحيح. وهذا الذي ذكرته إنما هو لدفع الحرج عن الناس، والفرار من دعوى تضليلهم كما يزعمه البعض في التوسل بجاه عريض الجاه صلى الله عليه وسلم، لا للميل إلى أن الدعاء كذلك أفضل من استعمال الأدعية المأثورة التي جاء بها الكتاب وصرحت بها ألسنة السنة، فإنه لا يستريب منصف في أن ما علمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ودرج عليه الصحابة الكرام رضي الله عنهم وتلقاه من بعدهم بالقبول أفضل وأجمع وأنفع وأسلم، فقد

_ 1 سيأتي رده. 2 شيء فاعل يعلق.

قيل ما قيل إن حقاً وإن كذباً. بقي ههنا أمران: (الأول) أن التوسل بجاه غير النبي صلى الله عليه وسلم لا بأس به أيضاً إن كان المتوسل بجاهه مما علم أن له جاهاً عند الله تعالى كالمقطوع بصلاحه وولايته، وأما من لا قطع في حقه بذلك فلا يتوسل بجاهه لما فيه من الحكم الضمني على الله تعالى بما لم يعلم تحققه منه عز شأنه، وفي ذلك جرأة عظيمة على الله تعالى. (الثاني) أن الناس قد أكثروا من دعاء غير الله تعالى من الأولياء الأحياء منهم والأموات، وغيرهم مثل: يا سيدي فلان أغثني، وذلك ليس من التوسل المباح في شيء، واللائق بحال المؤمن عدم التفوه بذلك، وأن لا يحوم حول حماه، وقد عده أناس من العلماء شركاً، وإن لا يكنه فهو قريب منه، ولا أرى أحداً ممن يقول بذلك إلا وهو يعتقد أن الحي الغائب أو الميت المغيب يعلم الغيب، أو يسمع النداء، ويقدر بالذات أو بالغير على جلب الخير ودفع الأذى وإلا لما دعاه، ولا فتح فاه: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} . فالحزم التجنب عن ذلك، وعدم الطلب إلا من الله تعالى القوي الغني الفعال لما يريد. ومن وقف على سر ما رواه الطبراني في معجمه من أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين فقال الصديق رضي الله عنه: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فجاءوا إليه فقال: إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله تعالى" لم يشك في أن الاستغاثة بأصحاب القبور الذين هم بين سعيد شغله نعيمه وتقلبه في الجنان عن الالتفات إلى ما في هذا العالم، وبين شقي ألهاه عذابه وحبسه في النيران عن إجابة مناديه، والإصاخة إلى أهل ناديه، أمر يجب اجتنابه، ولا يليق بأرباب العقول ارتكابه. ولا يغرنك أن المستغيث بمخلوق قد تقضى حاجته، وتنجح طلبته، فإن ذلك ابتلاء وفتنة منه عز وجل، وقد يتمثل الشيطان للمستغيث في صورة الذي استغاث به فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به، هيهات هيهات، إنما هو شيطان أضله وأغواه، وزين له هواه، وذلك ما يتكلم الشيطان في الأصنام ليضل عبدتها الطغام، وبعض

الجهلة يقول إن ذلك من تطور روح المستغاث به، أو من ظهور ملك بصورته كرامة له! ولقد ساء ما يحكمون، لأن التطور والظهور وإن كانا ممكنين لكن لا في مثل هذه الصورة، وعند ارتكاب هذه الجريرة، نسأل الله تعالى بأسمائه أن يعصمنا من ذلك، ونتوسل بلطفه أن يسلك بنا وبكم أحسن المسالك. اه‍1 وهو توسط عند ذوي العقول مقبول، موافق للمنقول والمعقول، ولا أظنك تجده في كتاب، فهو اللباب لذوي الألباب. وقال الوالد عليه الرحمة أيضاً في باب الإشارة من تفسيره ما نصه: قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ} . الآية. فيه إشارة إلى ذم المتصوفة الذين إذا سمعوا الآيات الرادة عليهم ظهر عليهم التجهم والبسور، وهم في زماننا كثيرون، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وفي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً} الآية، إشارة إلى ذم الغالين في أولياء الله تعالى حيث يستغيثون بهم في الشدة، غافلين عن الله تعالى وينذرون لهم النذور، والعقلاء منهم يقولون إنهم وسائلنا إلى الله تعالى، وإنما ننذر لله تعالى عز وجل ونجعل ثوابه للولي، ولا يخفى أنهم في دعواهم الأولى أشبه الناس بعبدة الأصنام القائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} . ودعواهم الثانية لا بأس بها لو لم يطلبوا منهم بذلك شفاء مريضهم أو رد غائبهم أو نحو ذلك، والظاهر من حالهم الطلب، ويرشدك إلى ذلك أنه لو قيل انذروا لله تعالى واجعلوا ثوابه لوالديكم فإنهم أحوج من أولئك الأولياء لم يفعلوا. وقال أيضاً عند تفسير قوله تعالى: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} . الآية ما نصه: فالآية دالة على أن المشركين لا يدعون غيره تعالى في تلك، وأنت خبير بأن الناس اليوم إذا اعتراهم أمر خطير وخطب جسيم في بر أو بحر دعوا من لا يضر ولا ينفع، ولا يرى ولا يسمع، فمنهم من يدعو الخضر وإلياس، ومنهم من ينادي أبا الخميس والعباس، ومنهم من يستغيث بأحد الأئمة، ومنهم من يضرع إلى شيخ من مشايخ

_ 1 أي ما نقله صاحب (جلاء العينين) من تفسير والده المسمى بروح المعاني.

الأمة، ولا ترى فيهم أحداً يخص مولاه، بتضرعه ودعاه، ولا يكاد يمر له ببال، أنه لو دعا الله تعالى وحده ينجو من هاتيك الأهوال. فبالله تعالى عليك قل لي: أي الفريقين من هذه الحيثية أهدى سبيلاً، وأي الداعين أقوم قيلا؟ وإلى الله سبحانه المشتكى من زمان عصفت فيه ريح الجهالة، وتلاطمت أمواج الضلالة، وغرقت سفينة الشريعة، واتخذت الاستغاثة بغير الله تعالى للنجاة ذريعة، وتعذر على العارفين الأمر بالمعروف، وحالت دون النهي عن المنكر صنوف الحتوف. اهـ. ومما يفتى به في هذا المقام ما أنشدنيه لنفسه مفتى مصرنا مدينة السلام وهو قوله: ولا تدع في حاجة بازاً ولا أسدا1 ... الله ربك لا تشرك به أحدا وهو كلام يرشح منه التوحيد، ويكفى من القلادة ما أحاط بالجيد، اه‍ـ ما في جلاء العينين. هذا كله ما عن لي أن أذكره في هذا المقام، من كلام الأئمة الأعلام، والآن اكتب ما ألقى الله تعالى في روعي في هذا الباب، وإن كان مأخوذاً من أقوال من سلف من أهل العلم واللباب، وفي مطاوي هذا التقرير أبين إن شاء الله تعالى بعض ما أظهره الله لي من النقض والإبرام، والرد والقبول في هاتيك الأقوال، وليس المقصود منه إلا إظهار الحق والصواب من دون تعصب لقول دون قول فإنه من سيئ الخلال، فأقول مستعيناً بالرحمن الرحيم، ومتوسلاً بفضله العظيم:

_ 1 يشير بلقب الباز إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني القطب الشهير الذي يعبده الملايين في العراق والهند وغيرهما، وهو مدفون في بغداد، ومن صور استغاثته المشهورة أن من كان له حاجة وصلى ركعتين في الليل ثم استقبل بغداد وتوجه إلى الشيخ عبد القادر واستغاثه بهذين البيتين: أيدركني ضيم وأنت ذخيرتي؟ ... وأظلم في الدنيا وأنت نصيري؟ وعار على راعي الحمى وهو في الحمى ... إذا ضاع في الهجا عقال بعير وناداه باسمه وذكر حاجته فإنها تقضى!

معنى الوسيلة والتوسل لغة وشرعا

معنى الوسيلة والتوسل لغة وشرعا ... بتحقيق المؤلف لمسألة التوسل1 إنه لا بد هناك أولاً من بيان معنى التوسل لغة وشرعاً ثم بيان حكمه قسماً قسماً. قال العلامة أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي في المصباح المنير: وسلت إلى الله بالعمل أسل -من باب وعد- رغبت وتقربت، ومنه اشتقاق الوسيلة، وهي ما يتقرب به إلى الشيء، والجمع الوسائل، والوسيل قيل جمع وسيلة وقيل لغة فيها، وتوسل إلى ربه بوسيلة تقرب إليه بعمل. اه‍ وقال في النهاية: وفي حديث الأذان "آت محمداً الوسيلة". هي في الأصل ما يتوسل به إلى الشيء ويتقرب به، وجمعها وسائل، يقال وسل إليه وسيلة وتوسل، والمراد به في الحديث القرب من الله تعالى، وقيل هي الشفاعة يوم القيامة، وقيل هي منزل من منازل الجنة، كذا جاء في الحديث. اه‍ وقال في مجمع البحار: لأن الواصل إليها يكون قريباً من الله، ومنه "سلوا الله لي الوسيلة". طلب من أمته الدعاء له افتقاراً إلى الله هضماً لنفسه لتنتفع به أمته ويثاب عليه، أو للإرشاد ليسأل كل صاحبه الدعاء له. اه‍ وقال الجوهري في الصحاح: الوسيلة ما يتقرب به إلى الغير، والجمع الوسيل والوسائل والتوسيل والتوسل واحد، يقال وسل فلان إلى ربه وسيلة وتوسل إليه بوسيلة أي تقرب إليه بعمل، والواسل الراغب إلى الله، قال لبيد: بلى كل ذي دين إلى الله واسل ... انتهى ملخصاً. وقال في القاموس: الوسيلة والواسلة المنزلة عند الملك والدرجة والقربة، ووسل إلى الله تعالى توسيلاً عمل عملاً تقرب به إليه كتوسل، والواسل الواجب والراغب إلى الله تعالى. اهـ. وهذا الذي ذكرنا يعلم منه معنى التوسل اللغوي. وأما معناه الشرعي فتحقيقه متوقف على استقراء مواقع هذا اللفظ في الكتاب

_ 1 العنوان للمصحح.

والسنة، فليعلم أن هذا اللفظ قد جاء في سورة المائدة قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بتقواه، وهي إذا قرنت بطاعته كان المراد بها الانكفاف عن المحارم وترك المنهيات، وقد قال بعدها: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} قال سفيان الثوري عن طلحة عن عطاء عن ابن عباس: أي القربة، وكذا قال مجاهد وأبو وائل والحسن وابن زيد وغير واحد، وقال قتادة: أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه، وقرأ ابن زيد: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ} . وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه، وأنشد عليه ابن جرير قال الشاعر: إذا غفل الواشون عدنا لوصلها ... وعاد التصافي بيننا والوسائل والوسيلة هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود. والوسيلة أيضاً علم لأعلى منزلة في الجنة، وهي منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وداره في الجنة، وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش اهـ. وهكذا في سائر التفاسير، وقال تعالى في سورة بني إسرائيل: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} . قال الحافظ ابن كثير: الوسيلة هي القربة كما قال قتادة، ولهذا قال: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} . وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة" رواه البخاري. قال الحافظ في الفتح: قوله: "رب هذه الدعوة" بفتح الدال، زاد البيهقي من طريق محمد بن عون عن علي بن عياش "اللهم إني أسألك بحق هذه الدعوة التامة". قوله "الوسيلة" هي ما يتقرب به إلى الكبير، يقال توسلت أي تقربت، وتطلق على المنزلة

العلية، وقع ذلك في حديث عبد الله بن عمر، وعند مسلم بلفظ "فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله" الحديث، ونحوه للبزار عن أبي هريرة، ويمكن ردها إلى الأول بأن الواصل إلى تلك المنزلة قريب من الله فتكون كالقربة التي يتوسل بها. اه‍ قال المؤلف: محمد بن عون الخراساني عن عكرمة، قال النسائي: متروك، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال عباس عن ابن معين: ليس بشيء، كذا في الميزان فلا تصلح روايته لأن يحتج بها على مسألة من مسائل الشرع، فليعلم. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ فإنه من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة". رواه مسلم. قال النووي: وأما لغاته ففيه الوسيلة، وقد فسرها قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنها منزلة من الجنة" قال أهل اللغة: الوسيلة المنزلة عند الملك. اه‍. وعن أنس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال فيسقون. رواه البخاري، وقد نقلنا فيما تقدم رواية الزبير بن بكار التي فيها صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة والوقت الذي وقع فيه ذلك من الفتح، فتذكر فإنها تفيد أن التوسل بالعباس رضي الله عنه إنما كان بدعائه لا بذاته. وأيضاً قال في الفتح: وأخرج -يعني ابن الزبير بن بكار- أيضاً من طريق داود عن عطاء بن زيد بن أسلم عن ابن عمر قال: استسقى عمر بن الخطاب عام الرمادة بالعباس ابن عبد المطلب فذكر الحديث وفيه فخطب الناس عمر رضي الله عنه فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد، فاقتدوا أيها الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم في عمه العباس واتخذوه وسيلة إلى الله. وفيه فما برحوا حتى سقاهم الله. اهـ. فتحصل من هذا كله أن التوسل في اللغة التقرب، والوسيلة هي ما يتقرب به إلى الشيء، ولم يجعل الشرع للتوسل حقيقة غير الحقيقة اللغوية، نعم جعل للوسيلة حقيقة

حيث استعمل في الآيتين بمعنى القربة باتفاق المفسرين، وفي الحديثين بمعنى أعلى منزلة في الجنة، ولا مرية في كون المعنى الأخير حقيقة شرعية، وأما كون المعنى الأول أي القربة حقيقة شرعية ففيه تأمل لا يخفى على من له أدنى تأمل، وبعد اللتيا والتي فالتوسل إلى الله تعالى على أنواع: (أحدهما) التوسل بأسمائه تعالى وصفاته، وهو ثابت بالكتاب والسنة، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} . وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأنك أن الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، فقال "دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دُعي به أجاب". رواه الترمذي وأبو داود كذا في المشكاة. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بأبي عياش زيد بن الصامت الزرقي وهو يصلي وهو يقول: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت يا منان يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد سألت الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى". رواه أحمد واللفظ له وابن ماجه. ورواه أبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم، وزاد هؤلاء الأربعة: "يا حي يا قيوم". وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. كذا في الترغيب والترهيب للمنذري. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني أسألك باسمك الطاهر الطيب المبارك الأحب إليك الذي إذا دعيت به أجبت، وإذا سئلت به أعطيت وإذا استرحمت به رحمت وإذا استفرجت به فرجت" قال فقال يوماً: ياعائشة: "هل علمت أن الله قد دلني على الاسم الذي إذا دعي به أجاب". قالت فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله فعلمنيه، قال "إنه لا ينبغي لك يا عائشة". قالت فتنحيت وجلست ساعة ثم قمت فقبلت رأسه ثم قلت: يا رسول الله علمنيه، قال: "إنه لا ينبغي لك يا عائشة أن أعلمك، إنه لا ينبغي لك أن تسألي به شيئاً للدنيا" قالت فقمت فتوضأت

ثم صليت ركعتين، ثم قلت: اللهم إني أدعوك الله وأدعوك الرحمن وأدعوك البر الرحيم، وأدعوك بأسمائك الحسنى كلها ما علمت منها وما لم أعلم أن تغفر لي وترحمني. قالت: فاستضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "إنه لفي الأسماء التي دعوت بها" رواه ابن ماجه. و (الثاني) التوسل بالأعمال الصالحة، وهذا أيضاً ثابت بالكتاب والسنة الصحيحة، أما الكتاب فما تقدم ذكره من الآيتين اللتين فيهما ذكر الوسيلة، فإن المراد بها بإجماع المفسرين هي القربة، وفي قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . إشارة إلى ذلك، فإن العبادة قدمت على الاستعانة لكون الأولى وسيلة إلى الثانية، وتقديم الوسائل سبب لتحصيل المطالب وأدعى إلى الإجابة، كذا في البيضاوي وغيره يدل عليه قول الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} . والمعنى: استعينوا على حوائجكم وما تؤملون من خير الدنيا والآخرة إلى الله تعالى بالصبر والصلاة، حتى تجابوا إلى تحصيل المآرب وجبر المصائب، كذا في البيضاوي وغيره، وأخرج أحمد وأبو داود وابن جرير عن حذيفة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. وأما السنة فما روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينما ثلاثة نفر يتماشون أخذهم المطر، فمالوا إلى غاز في الجبل، فانحت على فم غارهم صخرة من الجبل فأطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها لله صالحة فادعوا الله بها لعله يفرجها". الحديث متفق عليه، والحديث دال على أنه يستحب للإنسان أن يتوسل بصالح أعماله إلى الله تعالى، فإن هؤلاء فعلوه واستجيب لهم، وذكره النبي صلى الله عليه وسلم في معرض الثناء عليهم، وجميل فضائلهم، لكن الثابت منه إنما هو توسل الشخص بأعمال نفسه لا بأعمال غيره من الأنبياء والصالحين، كما زعم الإمام الشوكاني رحمه الله. و (الثالث) أن يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بتصديقه على الرسالة، والإيمان بماجاء به، طاعته في أمره ونبيه، ونصرته حياً وميتاً، ومعاداة من عاداه، ومولاة من ولاه، وإعظام حقه وتوقيره، وإحياء طريقته وسنته، وبث دعوته، ونشر شريعته، ونفي التهمة عنها واستشارة علومها، والتفقه في معانيها والدعاء إليها، والتلطف في تعلمها،

وتعليمها وإعظامها وإجلالها، والتأدب عند قراءتها، والإمساك عن الكلام فيها بغير علم، وإجلال أهلها لانتسابهم إليها، والتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه، ومحبته ومحبة أهل بيته وأصحابه ومجانبة من ابتدع في سنته أو تعرض لأحد من عترته وصحبه ودعاء الوسيلة له، والصبر على لأواء مهجره وشدته ونحو ذلك، وكذلك التوسل بالصالحين بمحبتهم وتوقيرهم وإجلالهم، وما يحذو حذوه. وهذا التوسل هو عين دين الإسلام لا يجحده أحد من المسلمين، لكن هذا التوسل في الحقيقة هو التوسل بالأعمال الصالحة، وإن سماه أحد توسلاً بالأنبياء والصالحين فلا يتغير حكمه بهذه التسمية، فإن العبرة للمسمى والمعنون لا للاسم والعنوان. (الرابع) التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم في حياته كفاحاً، وكذلك التوسل بدعاء الصالحين، ومنه قول عمر رضي الله عنه: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. ومنه قول أعرابي حين أصابت الناس سنة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله هلك المال وجاع العيال، فادع الله لنا، ومنها ما كانت الصحابة رضي الله عنهم من أن أحدهم متى صدر منه ما يقتضي التوبة جاء إليه، فقال: يا رسول الله فعلت كذا وكذا فاستغفر لي، وإليه الإشارة في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} . وهذا أيضاً مما لا نزاع فيه لأحد، وعليه يحمل حديث الضرير "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة" على تقدير ثبوته، أي بدعاء نبيك، ويدل عليه لفظ فقال "ادع الله" وقوله "اللهم شفعه فيّ". (الخامس) أن يدعو الرب سبحانه بإضافته إلى عباده الصالحين، كما في حديث عائشة رضي الله عنها "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل" المروي في صحيح مسلم. فلو قال أحد في دعائه: اللهم رب إبراهيم وموسى وعيسى وداود ومحمد -أو قال- اللهم رب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -أو قال- اللهم رب فاطمة والحسن والحسين -أو قال- اللهم رب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد -أو قال- اللهم رب البخاري

ومسلم والترمذي وأبي داود وابن ماجه -أو قال- اللهم رب معروف الكرخي وأبي يزيد البسطامي والشيخ عبد القادر الجيلاني وجنيد، فلا أرى به بأساً. (السادس) التوسل بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، كما روى عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له إلى الله حاجة أو إلى أحد من بني آدم فليتوضأ وليحسن الوضوء، وليصل ركعتين، ثم ليثن على الله وليصل على النبي ثم ليقل: لا إله إلا الله الحليم الكريم" الحديث رواه الترمذي وابن ماجه، وفي سنده فائد بن عبد الرحمن بن أبي الورقاء، وهو وإن كان عند الجمهور ضعيفاً لكن قال الحاكم إنه مستقيم الحديث1، ولهذا شاهد من حديث أنس فكان صالحاً لأن يحتج به. وقد ورد في حديث أبي بن كعب في فضل الصلاة قال: "إذاً تكفي همك، ويكفر لك ذنبك" رواه الترمذي. وعن فضالة بن عبيد قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد إذ دخل رجل فصلى فقال: اللهم اغفر لي وارحمني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عجلت أيها المصلي، إذا صليت فقعدت فاحمد الله بما هو أهله وصل عليّ ثم ادعه" قال ثم صلى رجل آخر بعد ذلك فحمد الله وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي "أيها المصلي ادع تجب". رواه الترمذي، وروى أبو داود والنسائي نحوه. وعن عبد الرحمن بن مسعود قال: كنت أصلي والنبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر معه، فلما جلست بدأت بالثناء على الله تعالى ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم دعوت لنفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سل تعطه" رواه الترمذي، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض، لا يصعد منها شيء حتى تصلي على نبيك، رواه الترمذي. وعن علي رضي الله عنه قال: كل دعاء محجوب حتى يصلى على محمد صلى الله عليه وسلم. رواه الطبراني في الأوسط موقوفاً ورواته ثقات.

_ 1 فائد بن أبي الورقاء هذا قال الحافظ في التقريب: متروك اتهموه، فالعجب من المصنف كيف يعتد بشهادة الحاكم له مع علمه بتضعيف الجمهور له، وطالما قرر وكرر القول بعدم الاعتماد على توثيق الحاكم لمثله ولمن هو أمثل منه. وكتبه محمد رشيد.

و (السابع) أن يقول: اللهم أسألك بحق فلان عبدك أو بجاهه أو حرمته أو نحو ذلك، فعن العز بن عبد السلام ومن تابعه عدم الجواز إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم. وعند الحنابلة في أصح القولين أنه مكروه كراهة تحريم. ونقل القدوري وغيره من الحنفية عن أبي يوسف أنه قال قال أبو حنيفة رحمه الله: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به. وذكر العلائي في شرح التنوير عن التتار خانية عن أبي حنيفة أنه قال: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله سبحانه إلا به. وفي جميع متونهم أن قول الداعي المتوسل بحق الأنبياء والأولياء وبحق البيت والمشعر الحرام مكروه كراهة تحريم، وهي كالحرام في العقوبة بالنار عند محمد، وعللوا ذلك كلهم بقولهم: لأنه لا حق للمخلوق على الخالق. قلت: قد ورد في حديث معاذ المتفق عليه قال: كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار ليس بني وبينه إلا مؤخرة الرحل فقال: "يا معاذ هل تدري ما حق الله على عباده وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال "فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً". فقد ثبت بهذا الحديث أن للمخلوق أيضاً حقاً على الله، فالتعليل المذكور فاسد، فإن أُوّلَ الحديث فليؤول بمثله قول الداعي المتوسل بحق الأنبياء والأولياء، ولكن مجرد ثبوت الحق للمخلوق على الخالق لا يقتضي جواز السؤال به، فالقول الفصل في ذلك الفصل أن السؤال بحق فلان إن ثبت بحديث صحيح أو حسن فلا وجه للمنع، وإن لم يثبت فهي بدعة، وقد عرفت فيما سلف أن كل حديث ورد في هذا الباب لا يخلو عن مقال ووهن، فالأحوط ترك هذه الألفاظ، وقد جعل الله في الأمر سعة، وعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم التوسل المشروع على هيئات متعددة كما تقدم، فلا ملجئ إلى الوقوع في مضيق الشبهات، فقد ورد في حديث نعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام: كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه". الحديث متفق عليه. وأما ما قال الإمام الشوكاني من أن التوسل إلى الله بأهل الفضل والعلم هو في

التحقيق توسل بأعمالهم الصالحة، ومزاياهم الفاضلة، إذ لا يكون الفاضل فاضلاً إلا بأعماله، فإذا قال القائل: اللهم إني أتوسل إليك بالعالم الفلاني فهو باعتبار ما قام به من العلم، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم حكى عن الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة أن كل واحد منهم توسل إلى الله بأعظم عمل عمله فارتفعت الصخرة. اه‍ـ. ففيه نظر من وجوه: (الأول) أن قوله في دليل الدعوى: إذ لا يكون الفاضل فاضلاً إلا بأعماله، دعوى مجرد لم يذكر عليه دليلاً فلا تقبل1. ألا ترى أن أمته صلى الله عليه وسلم خير أمة بدليل قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} . مع أن من خلا من الأمم أكثر عملاً منهم، فيجوز أن يكون الفاضل فاضلاً بفضل الله تعالى لا بمجرد العمل. (الثاني) أنا لا نسلم أن الفاضل إذا كان فضله بالأعمال كان التوسل به توسلاً بالأعمال الصالحة، لم لا يجوز أن يكون التوسل به توسلاً بذاته؟ بل هو الظاهر2، فإن حقيقة التوسل بالشيء التوسل بذاته، والتوسل بالأعمال أمر خارج زائد على الحقيقة، ولا يصرف عن الحقيقة إلى المجاز إلا لمانع.

_ 1 في هذا النظر من المؤلف نظر، فليته تركه، فكون الفاضل لا يكون فاضلاً إلا بعمله بديهي لا يحتاج إلى دليل، وهل الفضل إلا لزيادة على غيره بالعمل الذي يشمل عمل النفس والجوارح، وما كانت شهادة الله لهذه الأمة بالخيرية إلا مقرونة بذكر العمل الذي به الخيرية، وهو قوله تعالى بعدها: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} . وكتبه محمد رشيد رضا. 2 إن المعلوم من حال هؤلاء المتوسلين بالأشخاص أنهم يتوسلون بذواتهم الممتازة بصفاتهم وأعمالهم المعروفة عنهم لاعتقاد أن لهم تأثير في حصول المطلوب بالتوسل، إما بفعل الله تعالى لأجلهم وإما بفعلهم أنفسهم مما يعدونه كرامة لهم وقد سمعنا الأمرين منهم وممن يدافع عنهم، وكل من الأمرين باطل. وكتبه محمد رشيد رضا.

(الثالث) أن الثابت بحديث الصخرة إنما هو توسل شخص بأعمال نفسه، لا بأعمال غيره، فلا يتم التقريب، بل التوسل بأعمال الغير مما يستنكف عنه العقل السليم، ولا يدل عليه دليل من الكتاب والسنة. فإن قلت: قد ورد في حديث جابر في باب دعاء الأذان من طريق محمد بن عون "اللهم إني أسألك بحق هذه الدعوة التامة" فهذا القول من غير المؤذن توسل بعمل الغير، قلت: جوابه من وجهين: (الأول) ما تقدم من الكلام في محمد بن عون فلا يصلح لأن يستدل به على شيء من مسائل الدين. (والثاني) أن المراد بهذه الدعوة التامة نوع الأذان لا أذان مؤذن مخصوص، كما أن المراد مطلق الصلاة لا صلاة مصل معين، فغاية ما يثبت منه التوسل بمطلق الأعمال الصالحة، من غير إضافتها إلى أشخاص معينين، وهو بمعزل عن المطلوب. (الرابع) أنه لو سلم أن مراد القائل: اللهم إني أتوسل إليك بأبي بكر رضي الله عنه مثلاً هو التوسل بأعمال أبي بكر رضي الله عنه لا التوسل بذاته، فاللفظ محتمل للتوسل بالذات أيضاً، وهذا مما لا شك فيه، وقد نهانا الله تعالى عن استعمال لفظ موهم لأمر غير جائز فقال في سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . قال الإمام العلامة أبو الطيب صديق بن حسن القنوجي دام فيضه في تفسيره (فتح البيان) : وفي ذلك دليل على أنه ينبغي تجنب الألفاظ المحتملة للسب والنقص، وإن لم يقصد المتكلم بها هذا المعنى المفيد للشتم، سداً للذريعة، وقطعاً لمادة المفسدة والتطرق إليه. اهـ. وكذلك ما قال والد صاحب (جلاء العينين) مجوزاً قول القائل: اللهم إني أسألك بحق النبي صلى الله عليه وسلم وجاهه، من أن المراد من الحق والجاه معنى يرجع إلى صفة من صفات الله تعالى، مثل أن يراد المحبة التامة المستدعية عدم رده وقبول شفاعته محل نظر، فإن إرجاع لفظ الحق والجاه إلى صفة من صفاته تعالى لا يخلو من تعسف، ولو سلم فاللفظ محتمل للتوسل بالذات أيضاً، واستعمال الألفاظ المحتملة للأمر غير الجائز منهي عنه بدليل الآية المتقدمة، وكذلك ما قيل إنه إذا جاز التوسل

بالأعمال الصالحة فالتوسل به صلى الله عليه وسلم أحق وأولى لما فيه من النبوة والفضائل فاسد، فإن بينهما من الفرق ما لا يخفى، إذ التوسل بالأعمال الصالحة ثابت بالكتاب والسنة الصحيحة، بخلاف التوسل بالذوات الفاضلة فإن أمثل ما يستدل به على هذا المطلب هو حديث عثمان بن حنيف، وهو غير ثابت لأن في سنده أبا جعفر الرازي وهو سيئ الحفظ يهم كثيراً فلا يحتج بما ينفرد به، وعلى تقدير ثبوته فالمراد بقوله "بنبيك" بدعاء نبيك وشفاعته، بل هذا متعين بدليل قول الضرير ادع الله أن يعافيني، وقوله صلى الله عليه وسلم "إن شئت دعوت". وقوله في الدعاء "فشفعه في". وبدليل قول عمر رضي الله عنه: كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فإن المراد بالتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وبعم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا القول هو التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وبدعاء عمه صلى الله عليه وسلم لا غير، كما يدل عليه صفة ما استسقى به النبي صلى الله عليه وسلم وعمه العباس رضي الله عنه، فقد علم بذلك أن المراد بالتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في عرف الصحابة هو التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا القسم من التوسل لم يقل أحد من العلماء إنه شرك، فإن أشدهم في المنع شيخ الإسلام ابن تيميه وتلامذته وتبعهم في ذلك الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي رحمهم الله تعالى وهؤلاء العلماء يصرحون بأنه ليس بشرك. قال في (تبعيد الشيطان بتقريب إغاثة اللهفان) قال شيخنا قدس الله روحه: وهذه الأمور المبتدعة عند القبور مراتب، أبعدها عن الشرع أن يسأل الميت حاجته ويستغيث به فيما كما يفعله كثير من الناس. قال: وهؤلاء من جنس عباد الأصنام، ولهذا قل يتمثل لهم الشطان في صورة الميت الغائب كما يتمثل لعباد الأصنام، وهذا يحصل للكفار من المشركين وأهل الكتاب، يدعو أحدهم من يعظمه فيتمثل لهم الشيطان أحياناً، وقد يخاطبهم ببعض الأمور الغائبة، وكذلك السجود للقبر وتقبيله. (المرتبة الثانية) أن يسأل الله به، وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو بدعة باتفاق المسلمين. (الثالثة) أن يسأله نفسه. (الرابعة) أن يظن أن الدعاء عند قبره مستجاب وأنه أفضل من المسجد فيقصد زيارته والصلاة عنده لأجل طلب حوائجه، وهذا أيضاً من المنكرات المبتدعة باتفاق المسلمين، وهي محرمة، وما علمت في ذلك نزاعاً بين أئمة الدين وإن كان كثير من المتأخرين يفعل ذلك ويقول بعضهم: قبر

فلان ترياق مجرب! والحكاية المنقولة عن الشافعي أنه كان يقصد الدعاء عند قبر أبي حنيفة من الكذب الظاهر. اهـ. وأيضاً قال فيه: والشيطان له تلطف في الدعوة، فيدعوه أولاً إلى الدعاء عنده، فيدعو العبد عنده بحرقة وانكسار وذلة، فيجيب الله دعوته لما قام بقلب لا لأجل القبر، فيظن الجاهل أن للقبر، فيظن الجاهل أن للقبر تأثيراً -إلى أن قال- فإذا وقع ما يريده الشطان من الإنسان من استحسان الدعاء عند القبر وأنه أرجح من دعائه في بيته ومسجده نقله درجة أخرى من الدعاء عنده إلى الدعاء به والإقسام على الله به، وهذا أعظم من الذي قبله، فإن شأن الله تعالى أعظم من أن يقسم عليه أو يسأل بأحد من خلقه، وقد أنكر أئمة الإسلام ذلك. قال أبو الحسن القدوري في شرح كتاب الكرخي: قال بشر بن الوليد سمعت أبا يوسف يقول قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأجد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول أسألك بمعاقد العز من عرشك، وأن يقول بحق فلان وبحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام. وقال أبو الحسن: أما المسألة بغير الله فمنكرة لأنه لا حق لغير الله عليه، وإنما الحق له على خلقه، وأما قوله بمعقد العز من عرشك فكرهه أبو حنيفة ورخص فيه أبو يوسف، وروى أنه صلى الله عليه وسلم دعا بذلك، قال: ولأن معقد العز يراد به القدرة التي خلق الله بها العرش مع عظمته، وكأنه سأله بأوصافه، وقال ابن بلدجي في شرح المختار: ويكره أن يدعو الله إلا به، ولا يقول أسألك بملائكتك أو بأنبيائك أو نحو ذلك لأنه لا حق للمخلوق على خالقه، أو يقول في دعائه: أسألك بمعقد العز من عرشك، وعن أبي يوسف جوازه، وما يقوله فيه أبو حنيفة وأصحابه: أكره كذا، هو عند محمد حرام، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف إلى الحرام أقرب، وجانب التحريم عليه أغلب، وفي فتاوى ابن عبد السلام نحو ذلك، وتوقف في نبينا صلى الله عليه وسلم لاعتقاده أن ذلك جاء في حديث وأنه لم يعرف صحة الحديث. فإذا قرر الشيطان عنده أن الإقسام على الله به والدعاء أبلغ في تعظيمه واحترامه وأنجح في قضاء الحاجة نقله إلى درجة أعلى من تلك وهي دعاؤه نفسه من دون

الله، ثم إلى درجة فوق تلك هي اتخاذه وثناً يعكف عليه ويوقد عليه القناديل، ويعلق عليه الستور ويبني عليه المسجد ويعبده بالسجود له والطواف عليه وتقبيله واستلامه والحج إليه والذبح عنده، ثم ينقله إلى دعاء الناس وعبادته واتخاذه عيداً ومنسكاً، وأن ذلك أنفع لهم في دنياهم وآخرتهم. اه‍ـ. وقد نقلنا عبارة محمد بن عبد الوهاب في ذلك فيما تقدم، فتذكر. (الثامن) أن يسال الله ويدعوه عند قبور الصالحين معتقداً أن الدعاء عند القبر مستجاب. و (التاسع) أن يقول عند قبر نبي أو صالح: يا سيدي فلان ادع الله تعالى أو نحو ذلك، فهذان القسمان مما لا يتسريب عالم أنهما غير جائزين وأنهما من البدع التي لم يفعلها السلف، وإن كان السلام على القبور جائزاً. (العاشر) أن يقول عند قبر نبي أو صالح: يا سيدي فلان اشف مريضي واكشف عني كربتي وغير ذلك، وهذا شرك جلي، إذ نداء غير الله طالباً بذلك دفع شر أو جلب منفعة فيما لا يقدر عليه الغير دعاء، والدعاء عبادة، وعبادة غير الله شرك، وهذا أعم من أن يعتقد فيهم أنهم مؤثرون بالذات، أو أعطاهم الله تعالى التصرفات في تلك الأمور، أو أنهم أبواب الحاجة إلى الله تعالى وشفعاؤه ووسائله، وفي هذا الحكم التوسل بسائر العبادات من الذبح لهم والنذر لهم والتوكل عليهم والالتجاء إليهم والخوف والرجاء منم والسجود لهم والطواف لهم. (الحادي عشر) أن يدعو غائباً أو ميتاً عند غير القبور: يا سيدي فلان ادع الله تعالى في حاجتي فلانة، زاعماً أنه يعلم الغيب ويسمع كلامه في كل زمان ومكان ويشفع له في كل حين وأوان، فهذا شرك صريح، فإن علم الغيب من الصفات المختصة بالله تعالى. (الثاني عشر) أن يدعو غائباً أو ميتاً عند غير القبر: يا سيدي فلان اشف مريضي واقض عن الدين وهب لي ولداً وارزقني واغفر لي وأمثال ذلك، وهذا أيضاً شرك من وجهين: الأول أنه يعتقد علم الغيب لذلك المدعو وهو شرك، والثاني أنه ينادي ويدعو غير الله تعالى طالباً بذلك دفع شر أو جلب منفعة فيما لا يقدر ذلك

الغير عليه، وهذا الدعاء عبادة، وعبادة غير الله شرك، ومن قال من العلماء بكون التوسل شركاً فإنما أراد به أحد الأقسام الثلاثة الأخيرة. قوله: وإنما استسقى عمر رضي الله عنه بالعباس رضي الله عنه ولم يستسق بالنبي صلى الله عليه وسلم ليبين للناس جواز الاستسقاء بغير النبي صلى الله عليه وسلم وأن ذلك لا حرج فيه، وأما الاستسقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم فكان معلوماً عندهم فلربما أن بعض الناس يتوهم أنه لا يجوز الاستسقاء بغير النبي صلى الله عليه وسلم فبين لهم عمر باستسقائه بالعباس الجواز، ولو استسقى بالنبي صلى الله عليه وسلم لربما يفهم منه بعض الناس أنه لا يجوز الاستسقاء بغيره صلى الله عليه وسلم. أقول فيه كلام من وجهين: (الأول) أن المراد بالاستسقاء بالعباس والتوسل به الوارد في حديث أنس رضي الله عنه هو الاستسقاء بدعاء العباس على طريقة معهودة في الشرع، وهي أن يخرج من يستسقي به إلى المصلى فيستسقي ويستقبل القبلة داعياً ويحول رداءه ويصلي ركعتين أو نحوه من هيئات الاستسقاء التي وردت في الصحاح، والدليل عليه قول عمر رضي الله عنه: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإن نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، ففي هذا القول دلالة واضحة على أن التوسل بالعباس كان مثل توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، والتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا بأن يخرج صلى الله عليه وسلم ويستقبل القبلة ويحول رداءه ويصلي ركعتين أو نحوه من الهيئات الثابتة للاستسقاء، ولم يرد في حديث ضعيف فضلاً عن الحسن أو الصحيح أن الناس طلبوا السقيا من الله في حياته متوسلين به صلى الله عليه وسلم من غير أن يفعل صلى الله عليه وسلم ما يفعل في الاستسقاء المشروع من طلب السقيا والدعاء والصلاة وغيرهما مما ثبت بالأحاديث الصحيحة، ومن يدعي وروده فعليه الإثبات. إذا تمهد هذا فاعلم أن الاستسقاء والتوسل على الهيئة التي وردت في الصحاح للاستسقاء لا يمكن إلا بالحي لا بالميت، فالقول بإمكان هذا الاستسقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته من أبطل الأباطيل، وكان القول بأنه لو استسقى بالنبي صلى الله عليه وسلم لربما يفهم منه

بعض الناس أنه لا يجوز الاستسقاء بغيره صلى الله عليه وسلم بديهي البطلان، فإن ما ثبت بفعله صلى الله عليه وسلم هو مشروع لنا لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} . وقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} . ما لم يدل دليل على كونه مخصوصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا مجال لهذا التوهم حتى يحتاج إلى دفعه. و (الثاني) أن المقصود لو كان دفع التوهم المذكور لكان أولى أن يتوسل بحي غير النبي صلى الله عليه وسلم في حياته صلى الله عليه وسلم أو بميت غير النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم أو بميت غير النبي صلى الله عليه وسلم في حياته صلى الله عليه وسلم، فإن هاتيك الصور الثلاث أبعد من أن يبدأ فيها الاحتمال الآتي من أنه إنما استسقى بالعباس لأنه حي والنبي صلى الله عليه وسلم قد مات، وأن الاستسقاء بغير الحي لا يجوز، فلما ترك عمر رضي الله عنه تلك الصور واختار الصورة التي يتأتى فيها الاحتمال المذكور دل هذا الصنيع على أن مقصوده رضي الله عنه ليس دفع التوهم المذكور. و (الثالث) أن توهم عدم جواز الاستسقاء بغير النبي صلى الله عليه وسلم أخف من وهم عدم جواز الاستسقاء بالميت، سيما إذا كا ذلك الميت غير النبي صلى الله عليه وسلم، فكان هذا التوهم أولى بالدفع، فكان الأنسب حينئذ أن يستسقي بميت غير النبي صلى الله عليه وسلم. و (الرابع) أن هذا التعليل فاسد، لأن المعلل لم يقم عليه برهاناً ولا دليلاً فلا يصغى إليه. قوله: وليس لقائل أن يقول إنما استسقى بالعباس لأنه حي والنبي صلى الله عليه وسلم قد مات وأن الاستسقاء بغير الحي لا يجوز، لأنا نقول إن هذا الوهم باطل ومردود بأدلة كثرة. أقول: هذه الأدلة ليست صالحة لأن يستدل بها على المطلوب كما تقدم، فتذكر. قوله: ومع أنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره. أقول: بعد التسليم هذه الحياة حياة برزخية، وتساوي الحياة البرزخية والدنيوية في جميع الأحكام لا يقول به أحد من العقلاء، إذ هو يستلزم مفاسد غير محصورة كما لا يخفى على من له أدنى فهم.

قوله: قال بعض العارفين: وفي توسل عمر بالعباس رضي الله عنه دون النبي صلى الله عليه وسلم نكتة أخرى زيادة على ما تقدم، وهي شفقة عمر رضي الله عنه على ضعفاء المؤمنين، فإنه لو استسقى بالنبي صلى الله عليه وسلم لربما استأخرت الإجابة، لأنها معلقة بإرادة الله تعالى ومشيئته، فلو تأخرت الإجابة ربما تقع وسوسة فاضطراب لمن كان ضعيف الإيمان بسبب تأخر الإجابة. أقول: هذه النكتة أحق أن يقال إنها نكتة سوداء، أو وسوسة دهماء، أو فتنة صماء، أو شبهة عمياء، فإنها تقتضي ترك الاستسقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته صلى الله عليه وسلم أيضاً، فإنه لو استسقى بالنبي صلى الله عليه وسلم لربما استأخرت الإجابة لأنها معلقة بإرادة الله تعالى في حياته وبعد وفاته، فلو تأخرت الإجابة ربما تقع وسوسة فاضطراب، ولا يقول به أحد من المسلمين. وبالجملة فالذي ألجأ هؤلاء إلى إبداء أمثال هذه النكتة السخيفة الساقطة الردية، والتعليلات الباردة الفاسدة المرمية، هو أن عمر رضي الله عنه وسائر الصحابة مع أنهم السابقون الأولون عدلوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم عن التوسل بسيد الناس إلى التوسل بعمه العباس، وهذا العدول أوضح دليل وأبهر برهان على أن التوسل بالأموات غير جائز، فهؤلاء المجوّزون للتوسل بالأموات احتاجوا إلى توجيه هذا العدول وتأويله، فعموا وصموا وقالوا ما قالوا، فخبطوا خبط عشواء، وركبوا متن عمياء، وإلى الله المشتكى من أمثال هذه التوجيهات، فإنها تحريفات واضحات. قوله: والحاصل أن مذهب أهل السنة والجماعة صحة التوسل وجوازه بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد وفاته، وكذا بغيره من الأنبياء والمرسلين، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، وكذا بالأولياء والصالحين، لما دلت عليه الأحاديث السابقة. أقول: إن أراد أن مذهب أهل السنة والجماعة صحة جميع أقسام التوسل التي ذكرناها آنفاً ففاسد، فإن كثيراً من أهل السنة صرحوا بكون بعض الأقسام غير جائز أو مكروهاً، بل بكون بعضها كفراً وشركاً، وإن أراد أن مذهب أهل السنة والجماعة صحة بعض أقسام التوسل فنحن لا ننكره ولا أحد من العلماء الذين رُموا

بإنكار التوسل. قوله: لأنا معشر أهل السنة لا نعتقد تأثيراً ولا خلقاً ولا إيجاداً ولا إعداماً ولا نفعاً ولا ضراً إلا لله وحده لا شريك له، ولا نعتقد تأثيراً ولا نفعاً ولا ضراً للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لغيره من الأموات، فلا فرق في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وكذا بالأولياء والصالحين، لا فرق بين كونهم أحياء وأمواتاً، لأنهم لا يخلقون شيئاً، وليس لهم تأثير في شيء، وإنما يتبرك بهم لكونهم أحباء الله تعالى، وأما الخلق والإيجاد والإعدام والنفع والضر فإنه لله وحده لا شريك له. أقول: فيه كلام من وجوه: (الأول) أنه يعتقد كثير من العوام وبعض الخواص في أهل القبور وفي المعروفين بالصلاح من الأحياء أنهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلا الله جل جلاله، ويفعلون ما لا يفعله إلا الله عز وجل، حتى نطقت ألسنتهم بما انطوت عليه قلوبهم، فصاروا يدعونهم تارة مع الله وتارة استقلالاً، ويصرخون بأسمائهم، ويعظمونهم تعظيم من يملك الضر والنفع، ويخضعون لهم خضوعاً زائداً على خضوعهم عند وقوفهم بين يدي ربهم في الصلاة والدعاء، كما تقدم ذلك في كلام الشوكاني. و (الثاني) أن مجرد عدم اعتقاد التأثير والخلق، والإيجاد والإعدام، والنفع والضر إلا لله لا يبرئ من الشرك، فإن المشركين الذين بعث الله الرسل إليهم أيضاً كانوا مقرين بأن الله هو الخالق الرازق، بل لابد فيه من إخلاص توحيده وإفراده، وإخلاص التوحيد لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله لله، والنداء والاستغاثة والرجاء واستجلاب الخير واستدفاع الشر له ومنه لا بغيره ولا من غيره، وكذلك النذر والذبح والسجدة كلها تكون لله، وهذا قد ظهر من العبارات التي نقلناها سابقاً ظهوراً بيناً لا خفاء فيه. و (الثالث) أن مجرد كون الأحياء والأموات شركاء في أنهم لا يخلقون شيئاً وليس لهم تأثير في شيء لا يقتضي أن يكون الأحياء والأموات متساوين في جميع

الأحكام حتى يلزم من جواز التوسل بالأحياء جواز التوسل بالأموات، وكيف وليس معنى التوسل بالأحياء إلا التوسل بدعائهم وهو ثابت بالأحاديث الصحيحة، وأما التوسل بدعاء الأموات فلم يثبت بحديث صحيح ولا حسن. قوله: وأما الذين يفرقون بين الأحياء والأموات فإنهم بذلك الفرق يتوهم منهم أنهم يعتقدون التأثير للأحياء دون الأموات، ونحن نقول: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ، {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} . فهؤلاء المجوزون التوسل بالأحياء دون الأموات أو المعتقدون تأثير غير الله وهم الذين دخل الشرك في توحيدهم لكونهم اعتقدوا تأثير الأحياء دون الأموات. أقول: هذا كلام تقشعر منه الجلود، أما يعلم هذا القائل الصنديد، والمتفوه العنيد، أن الفارقين بين الأحياء والأموات هم الذين يمنعون مما هو دون اعتقاد تأثير الله بمراحل ويصرحون بكونه شركاً؟ فكيف يتوهم منهم أنهم يعتقدون تأثير غير الله؟ سبحانك هذا بهتان عظيم، على أن مناط الفرق بين الأحياء والأموات ليس اعتقاد التأثير للأحياء دون الأموات كما زعم هذا المتقول على الموحدين، إنما مناطه ثبوت التوسل بالأحياء بالأحاديث الصحيحة دون الأموات. قوله: فالتوسل والتشفع والاستغاثة كلها بمعنى واحد، وليس لها في قلوب المؤمنين معنى إلا التبرك بذكر أحباء الله تعالى، لما ثبت أن الله يرحم العباد بسببهم سواء كانوا أحياء أو أمواتاً. أقول: هذا الحصر غير مسلم فإن صاحب الرسالة1 قد عد من أفراد التوسل 1 أي صاحب هذه الرسالة المردود عليها، والرد هنا قاصر، ومما كان ينبغي أن يقوله المصنف في رده: إن الألفاظ الثلاثة ليست بمعنى واحد، وإن الذين ليس لها في قلوبهم معنى إلا التبرك لا يشدون الرحال إلى القبور لأجل ذكر موتاها –وإن ذكرها في الدعاء تبركاً من التعبد الذي لا يعلم إلا بالنص من الشارع وهو غير موجود– وإن كونها سبباً للرحمة مضاد لكونها لا تأثير لها. وهو قد جمع بين الضدين في الجملة الآتية ويسمى ذكرهم سبباً عادياً للتأثير الإلهي، والمعروف عن جماعة القبوريين أنهم يعدونه من خوارق العادات لا من الأسباب العادية. وكتبه محمد رشيد رضا.

ما رواه الدارمي عن أبي الجوزاء قال: قحط أهل المدينة قحطاً شديداً، فشكوا إلى عائشة رضي الله عنها، فقالت: انظروا إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجعلوا منه كوة إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، ففعلوا، فمطروا حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم، فسمي عام الفتق، وليس فيه التبرك بذكر أحباء الله، على أن التوسل إذا كان خالياً من اعتقاد التأثير ودعاء غير الله والنذر له والذبح له وسائر العبادات وجميع ما نهى الله ورسوله عنه، وكان محض التبرك بذكر أحباء الله لا يكون شركاً، لكن ينظر إليه فإن كان ذلك التبرك ثابتاً بكتاب أو سنة صحيحة فلا مرية في مشروعيته، وإن لم يكن ثابتاً فهو بدعة ضلالة، والكلام في حديث أبي الجوزاء سيأتي فارتقبه، ودعوى أنه ثبت أن الله يرحم العباد بسببهم سواء كانوا أحياءً أو أمواتاً تحتاج إلى إقامة البرهان عليها، ودونه لا تُسمع، ثم إلى تبيين أن المراد بلفظة "بسببهم" بسبب ذكرهم، وبدونه لا يتم التقريب. قوله: فالمؤثر والموجد حقيقة هو الله تعالى، وذكر هؤلاء الأخيار سبب عادي في ذلك التأثير، وذلك مثل الكسب العادي فإنه لا تأثير له. أقول: كون ذكر هؤلاء الأخيار سبباً عادياً في ذلك التأثير من أين علم؟ وأي دليل عليه؟ ولو سلم فالسببية لا تستلزم المشروعية، ألا ترى أن كثيراً من العقود الفاسدة سبب لتحصيل المنافع وليست بمشروعة. قوله: وحياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في قبورهم ثابتة عند أهل السنة بأدلة كثيرة. أقول: هب أن حياة الأنبياء عليهم السلام ثابتة، ولكنها حسب اعتراف صاحب الرسالة ليست مثل الحياة الدنيوية، فلا يتفرع عليها جواز التوسل كما يتفرع على الحياة الدنيوية. قوله: فإن قال قائل: إن شبهة هؤلاء المانعين للتوسل أنهم رأوا بعض العامة يأتون بألفاظ توهم أنهم يعتقدون التأثير لغير الله تعالى، ويطلبون من الصالحين أحياء وأمواتاً أشياء جرت العادة بأنها لا تطلب إلا من الله تعالى، ويقولون للولي

افعل لي كذا وكذا، وأنهم ربما يعتقدون الولاية في أشخاص لم يتصفوا بها بل اتصفوا بالتخليط وعدم الاستقامة، وينسبون لهم كرامات وخوارق عادات وأحوالاً ومقامات وليسوا بأهل لها ولم يوجد فيهم شيء منها، فأراد هؤلاء المانعون للتوسل أن يمنعوا العامة من تلك التوسعات دفعاً للإيهام وسداً للذريعة، وإن كانوا يعلمون أن العامة لا يعتقدون تأثيراً ولا نفعاً ولا ضراً لغير الله تعالى ولا يقصدون بالتوسل إلا التبرك، ولو أسندوا للأولياء شيئاً لا يعتقدون فهيم تأثيراً، فنقول لهم إذا كان لأمر كذلك وقصدتم سد الذريعة فما الحامل لكم على تكفير الأمة عالمهم وجاهلهم وخاصهم وعامهم، وما الحامل لكم على منع التوسل مطلقاً، بل كان ينبغي لكم أن تمنعوا العامة من الألفاظ الموهمة لتأثير غير الله تعالى، وتأمروهم بسلوك الأدب في التوسل. أقول: أولاً - إن تقرير دليل المانعين نوع تحريف مقصود، وأصل تقريرهم هكذا: إنا نرى كثيراً من العامة وبعض الخواص يأتون بألفاظ دالة دلالة مطابقة على أنهم يعتقدون التأثير لغير الله تعالى، ويطلبون من الصالحين أحياءً وأمواتاً أشياء لا يقدر عليها إلا الله، وينذرون لهم النذور وينحرون لهم النحائر ويقربون إليهم نفائس الأموال، ويجعلونهم وسائط يدعونهم ويسألونهم جلب المنافع، بمعنى أن الخلق يسألونهم وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك حوائج الناس لقربهم منهم والناس يسألونهم أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملوك أو لكونهم أقرب إلى الملك1، وبعد ملاحظة أصل تقريرهم وجه التكفير ظاهر، فإن اعتقاد تأثير غير الله كفر صريح، والدعاء والنذر والنحر عبادة، وعبادة غير الله شرك وكفر. وثانياً - أنا معاشر أهل التوحيد لا نكفر الأمة كلهم عالمهم وجاهلهم وعامهم وخاصهم، هذا افتراء علينا، بل نكفر من وجد فيه موجبات الكفر من اعتقاد

_ 1 بل قال بعض المؤلفين في الفقه وغيره منهم: إن الولي يخرج من قبره فيقضي بنفسه حاجة من دعاه من أو توسل به. وكتبه محمد رشيد رضا.

التأثير لغير الله واعتقاد أنه يضر وينفع، ودعاء غير الله والنذر له والنحر له وغيرها. ثالثاً: أن مجرد عدم اعتقاد التأثير لغير الله لا يكفي للبراءة من الشرك كما تقدم، بل لابد فيها من إخلاص العبادة لله تعالى، بأن يكون الدعاء والاستغاثة والنذر والنحر وسائر أقسام العبادة كلها لله تعالى. ورابعاً- أنا معاشر الموحدين لا نمنع التوسل مطلقاً كما تقدم، وإنما نمنع منه ما كان متضمناً لعبادة غير الله، أو لما نهى الله عنه ورسوله، أو محدثاً لم يدل عليه دليل من كتاب وسنة ثابتة. قوله: مع أن تلك الألفاظ الموهمة يمكن حملها على المجاز من غير احتياج إلى التكفير للمسلمين، وذلك المجاز مجاز عقلي شائع ومعروف. اه‍ـ. أقول: فيه نظر من وجوه: (الأول) أن لفظ "الموهمة" في هذا المقام وفيما تقدم لا يخلو عن تدليس وتلبيس، فإن تلك الألفاظ دالة دلالة مطابقة على تأثير غير الله تعالى، فما معنى الإيهام؟ (والثاني) أنه لو سلم هذا الحمل لاستحال الارتداد، ولغاب باب الردة الذي يعقده الفقهاء، فإن المسلم الموحد متى صدر منه قول أو فعل موجب للكفر يجب حمله على المجاز العقلي، والإسلام والتوحيد قرينة على ذلك المجاز. (والثالث) أنه يلزم على هذا أن لا يكون المشركون الذين نطق كتاب الله بشركهم مشركين، "فإنهم كانوا يعتقدون أن الله هو الخالق الرازق الضار النافع، وأن الخير والشر بيده، لكن كانوا يعبدون الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى، فالاعتقاد المذكور قرينة على أن المراد بالعبادة ليس معناها الحقيقي، بل المراد هو المعنى المجازي، أي التكريم مثلاً، فما هو جوابكم هو جوابنا. (الرابع) أنكم هؤلاء أوّلتم عنهم في تلك الألفاظ الدالة على تأثير غير الله

تعالى، فما تفعلون في أعمالهم الشركية من دعاء غير الله واستغاثة والنذر والنحر؟ فإن الشرك لا يتوقف على اعتقاد تأثير غير الله، بل إذا صدر من أحد عبادة من العبادات لغير الله صار مشركاً سواء اعتقد ذلك الغير مؤثراً أم لا. قوله: وأما منع التوسل مطلقاً فلا وجه له مع ثبوته في الأحاديث الصحيحة، وصدوره من النبي صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة وخلفها. أقول: لا نمنع التوسل مطلقاً كما بينا فيما تقدم، إنما نمنع منه ما هو متضمن لعبادة غير الله، أو لما نهى عنه الله ورسوله، أو كان محدثاً لم يدل عليه دليل من الكتاب والسنة الثابتة، وأما الأحاديث التي ذكرها صاحب الرسالة ويزعم أنها صحيحة فقد تقدم الكلام عليها، فتذكر. قوله: فهؤلاء المنكرون للتوسل المانعون منه منهم من يجعله محرماً، ومنهم من يجعله كفراً وشركاً، وكل ذلك باطل، لأنه يؤدي إلى اجتماع معظم الأمة على ضلالة. أقول: قد عرفت فيما تقدم أن التوسل له أقسام: بعضها مشروع، وبعضها شرك ومحرم، وبعضها مكروه وبدعة، فالذي نجعله محرماً أو كفراً وشركاً أو بدعة لا نسلم اجتماع معظم الأمة عليه، والذي عليه اجتماع معظم الأمة لا نقول بكونه شركاً أو محرماً أو بدعة. قوله: لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح "لا تجتمع أمتي على ضلالة". قال بعضهم: إن هذا حديث متواتر. أقول: الحديث رواه الترمذي في أبواب الفتن من حديث ابن عمر ولفظه هكذا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لا يجمع أمتي -أو قال أمة محمد- على ضلالة. ويد الله على الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار". هذا حديث غريب من هذا الوجه. وسليمان المديني هو عندي سليمان بن سفيان. اه‍ـ. قلت: هذا حديث ضعيف، ففي سنده سليمان بن سفيان قال الذهبي في الميزان:

سليمان بن سفيان أبو سفيان المدني عن عبد الله بن دينار وبلال بن يحيى، قال ابن معين ليس بشيء، وقال مرة ليس بثقة، وكذا قال النسائي، وقال أبو حاتم والدراقطني: ضعيف. اه‍ـ وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: سليمان بن سفيان التيمي مولاهم أبو سفيان المدني ضعيف من الثامنة، وقال الذهبي في الكاشف: ضعفه أبو حاتم وغيره، اهـ. وقال في الخلاصة: سليمان بن سفيان مولى آل طلحة التيمي أبو سفيان المدني عن عبد الله بن دينار وبلال بن يحيى، وعنه معتمر بن سليمان وأبو دود الطيالسي، ضعفه أبو حاتم وغيره. اهـ. قال الترمذي في جامعه: وفي الباب عن ابن عباس حدثنا يحيى بن موسى حدثنا عبد الرزاق أنبأنا إبراهيم بن ميمون عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يد الله مع الجماعة" هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث ابن عباس إلا من هذا الوجه. اهـ. قلت: في سنده عبد الرزاق وهو وإن كان ثقة حافظاً، لكن عمي في آخر عمره فتغير. قال الحافظ في التقريب: عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري مولاهم أبو بكر الصنعاني ثقة حافظ مصنف شهير، عمي في آخر عمره فتغير، وكان يتشيع، اهـ. وقال الذهبي في الميزان: قال أبو زرعة الدمشقي: قال لي أحمد أتينا عبد الرزاق قبل المائتين وهو صحيح البصر، ومن سمع منه بعد ما ذهب بصره فهو ضعيف السماع، وقال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن حديث "النار جبار" فقال: هذا باطل من يحدث به عن عبد الرزاق؟ قلت حدثني أحمد بن شبويه. قال: هؤلاء سمعوا منه بعد ما عمي، كان يلقن فيلقنه، وليس هو في كتبه. وقد أسندوا عنه أحاديث ليست في كتبه كان يلقنها بعدما عمي، وقال النسائي: فيه نظر لمن كتب عنه بأخرة. روى عنه أحاديث مناكير. وقال البخاري: ما حدث عنه عبد الرزاق من كتابه فهو أصح اهـ. ملخصاً. قال المؤلف: يجب على من يستدل بهذا الحديث أن يثبت أن يحيى بن موسى سمع هذا الحديث من عبد الرزاق قبل ذهاب بصره، على أن هذا الحديث ليس فيه لفظ يحتج به على حجية الإجماع، ورواه ابن ماجه في أبواب الفتن من حديث أنس بن مالك ولفظه هكذا: حدثنا العباس بن عثمان الدمشقي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا معان بن رفاعة

السلامي حدثني أبو خلف الأعمى قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أمتي لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم السواد الأعظم". في سنده معان بن رفاعة السلامي قال الحافظ في التقريب: لين الحديث، كثير الإرسال. اهـ. وقال الذهبي في الميزان: معان بن رفاعة الدمشقي وقيل الحمصي عن أبي الزبير وعبد الوهاب بن بخت، وعنه أبو المغيرة وعصام بن خالد وجماعة، وثقه ابن المديني وقال الجوزجاني ليس بحجة، ولينه يحيى بن معين، مات مع الأوزاعي تقريباً، وهو صاحب حديث ليس متقن اهـ. وقال في الكاشف: قال أبو حاتم وغيره لا يحتج به. اهـ. وفي سنده أيضاً أبو خلف الأعمى، قال الحافظ في التقريب: أبو خلف الأعمى نزيل الموصل خادم أنس، قيل اسمه حازم بن عطاء، متروك، ورماه ابن معين بالكذب، من الخامسة، ومن زعم أنه مروان الأصغر فقد وهم، ومروان أيضاً يكنى أبا خلف فيما قال مسلم والله أعلم. اهـ. قال الذهبي في الميزان: أبو خلف الأعمى عن أنس بن مالك قيل اسمه حازم، كذبه يحيى بن معين، وقال أبو حاتم: منكر الحديث اهـ، وقال الذهبي في الكاشف: لين. وبالجملة هذا الحديث بهذا السند ضعيف جداً، قال علي بن أحمد العزيزي في (السراج المنير) قال الشيخ أي محمد حجازي الشعراني أنى حديث صحيح اهـ. قلت: هذا خطأ من الشيخ بين لما عرفت من أن في سنده من رمي بالكذب ومن هو لين الحديث كثير الإرسال، فالحكم بصحته عجيب، ورواه الدرامي في باب فضل النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمرو بن قيس، ولفظه هكذا: أخبرنا عبد الله بن صالح حدثني معاوية عن عروة بن قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أدرك بي الأجل المرحوم، واختصر لي اختصاراً، فنحن الآخرون ونحن السابقون يوم القيامة، وإني قائل قولاً غير فخر: إبراهيم خليل الله، وموسى صفي الله، وأنا حبيب الله، ومعي لواء الحمد يوم القيامة،

وأن الله عز وجل وعدني في أمتي وأجارهم من ثلاث: لا يعمهم بسنة، ولا يستأصلهم عدو، ولا يجمعهم على ضلالة". اهـ. في سنده عبد الله بن صالح وهو كثير الغلط، وقد تقدم الكلام عليه فتذكر. وفيه معاوية بن صالح الحضرمي وهو صاحب أوهام، قال الحافظ في التقريب: معاوية بن صالح بن حدير بالمهملة مصغراً الحضرمي أبو عمرو -أو أبو عبد الرحمن- الحمصي قاضي الأندلس صدوق له أوهام اهـ. قال الذهبي في الميزان: وكان يحيى القطان يتعنت ولا يرضاه، وقال أبو حاتم: لا يحتج به، وكذا لم يخرج له البخاري ولينه ابن معين. اه‍ـ ملخصاً. وفيه عروة بن رويم وهو كثير الإرسال قال الحافظ في التقريب عروة بن رويم بالراء مصغراً اللخمي أبو القاسم صدوق يرسل كثيراً من الخامسة. اهـ. ورواه أبو داود من حديث أبي مالك الأشعري في كتاب الفتن، ولفظه هكذا: حدثنا محمد بن عوف الطائي أنبأنا محمد بن إسماعيل حدثني أبي، قال ابن عوف وقرأت في أصل إسماعيل قال: حدثني ضمضم عن شريح عن أبي مالك -يعني الأشعري- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أجاركم من ثلاث خلال: أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعاً، وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق، وأن لا تجتمعوا على ضلالة". اهـ. قال المؤلف: في سنده محمد بن إسماعيل بن عياش الحصمي، قال الذهبي في الميزان: محمد بن إسماعيل بن عياش الحمصي قال أبو داود: لم يكن بذاك، وقال أبو حاتم الرازي: لم يسمع من أبيه شيئاً اهـ. وقال الحافظ في التقريب: محمد بن إسماعيل بن عياش بالتحتانية والمعجمة الحمصي عابوا عليه أنه حدث عن أبيه بغير سماع. اهـ. وقال في الخلاصة: محمد بن إسماعيل بن عياش بتحتانية العنسي بنون الحمصي قال أبو حاتم: لم يسمع من أبيه إنما حملوه على ذلك فحدث. وعنه أبو زرعة قال أبو داود: ليس بذاك اهـ. وفي سنده ضمضم بن زرعة وهو صاحب أوهام، قال الحافظ في التقريب: ضمضم بن زرعة بن ثوب بضم المثلثة وفتح الواو ثم موحدة الحضرمي الحمصي صدوق يهم اهـ. وقال الذهبي في الميزان: ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد وثقه يحيى بن معين وضعفه أبو حاتم، روى عنه جماعة. اهـ.

وقال في الخلاصة: ضمضم بن زرعة الحضرمي عن شريح بن عبيد وعنه ابن عبيد وعنه إسماعيل بن عياش ويحيى بن حمزة وثقه ابن معين وابن حبان، وضعفه أبو حاتم اهـ. وفيه شريح بن عبيد وهو يرسل كثيراً، قال الحافظ في التقريب: شريح بن عبيد بن شريح الحضرمي الحمصي ثقة من الثالثة، وكان يرسل كثيراً، مات بعد المائة، وقال الذهبي في الكاشف: وثق وقد أرسل عن خلق. اهـ. ورواه الدراقطني من حديث كعب بن عاصم الأشعري ولفظه هكذا: أنبأنا محمد بن إسماعيل الفارسي أنبأنا الوليد بن مروان أنبأنا جنادة بن مروان أنبأنا أبي أنبأنا شعوذ ابن عبد الرحمن عن خالد بن معدان قال: قال كعب بن عاصم الأشعري إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله تعالى أجارني على أمتي من ثلاث: لا يجوعوا ولا يستجمعوا على ضلال، ولا تستباح بيضة المسلمين" اهـ. في سنده جنادة بن مروان وهم متهم بالكذب، قال الذهبي في الميزان: جنادة بن مروان حمصي عن جرير بن عثمان وغيره اتهمه أبو حاتم. اهـ. وفيه خالد بن معدان الكلاعي الحمصي أبو عبد الله قال الحافظ في التقريب: خالد بن معدان الكلاعي الحمصي أبو عبد الله ثقة عابد يرسل كثيراً، اهـ. وقال في الخلاصة: عن جماعة من الصحابة مرسلاً، وعن معاوية والمقدام بن معديكرب وأبي أمامة اهـ. وبقية رجاله ما وجدتهم لا في الميزان ولا في الكاشف ولا في التقريب والخلاصة، بيد أن الذهبي قال في الميزان: الوليد بين مروان عن غيلان بن جرير مجهول اهـ. فإن كان الوليد الواقع في سنده هذا فهو مجهول، وإن كان آخر فما عرفته. وبالجملة فهذا الحديث بهذا السند ضعيف جداً بل موضوع، ورواه أحمد من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اثنان خير من واحد، وثلاثة خير من اثنين، وأربعة خير من ثلاثة، فعليكم بالجماعة، فإن الله عز وجل لن يجمع أمتي إلا على هدى". وفيه البختري بن عبيد وهو ضعيف كذا في مجمع الزوائد، قال الذهبي في الميزان:

البختري بن عبيد عن أبيه عبيد بن سليمان وعنه هشام بن عمار وسليمان بن بنت شرحبيل ضعفه أبو حاتم، وغيره تركه، فأما أبو حاتم فأنصف فيه، وأما أبو نعيم الحافظ فقال: روى عن أبيه موضوعات، وقال ابن عدي: روى عن أبيه قدر عشرين حديثاً عامتها مناكير، اه‍ـ ملخصاً، وقال الحافظ في التقريب: ضعيف متروك، وقال الذهبي في الكاشف ضعفوه. اه‍ـ. قوله: ومن الشبه التي تمسك بها هؤلاء المنكرون للتوسل قوله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} . فإن الله نهى المؤمنين في هذه الآية أن يخاطبوا النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ما يخاطب بعضهم بعضاً كأن ينادوا باسمه، وقياساً على ذلك يقال: لا ينبغي أن يطلب من غير الله تعالى كالأنبياء والصالحين الأشياء التي جرت العادة بأنها لا تطلب إلا من الله تعالى، لئلا تحصل المساواة بين الله تعالى وخلقه بحسب الظاهر. أقول: لم يتمسك أحد من منكري التوسل بالآية المذكورة فيما أعلم، فإن كان أحد تمسك بها فالحق أنه أخطأ ولا ملجئ لنا إليه، فإن هناك أدلة قوية صحيحة دالة على المطلوب، مغنية عما سواها كما تقدم. قوله: فإنه يحمل على المجاز العقلي إذا صدر من موحد. أقول: قد عرفت فيما سلف ما فيه من لزوم كون المشركين الأولين غير مشركين وعدم إمكان الارتداد ولغوية1. أحكام الردة. قوله: فالمستغاث به في الحقيقة هو الله تعالى، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فهو واسطة بينه وبين المستغيث، فهو سبحانه وتعالى مستغاث به حقيقة، والغوث منه بالخلق والإيجاد، والنبي صلى الله عليه وسلم مستغاث به مجازاً، والغوث منه بالكسب والتسبب العادي. أقول: وهكذا كان المشركون السابقون الذين بعث الله الرسل إليهم، فإنهم كانوا يعلمون أن الله تعالى هو الخالق الموجد، وأما الأصنام فيقولون إنها أسباب

_ 1 أي إلغاء.

ووسائل عادية، فمن أجل ذلك كانوا يدعونهم ويستغيثون بهم ويعبدونهم، وهذا هو دأب عبدة الصالحين، والقبور في هذا الزمان، يدعونهم ويستغيثون بهم، وينحرون لهم وينذرون لهم، والدعاء والاستغاثة والنحر والنذر كلها من أقسام العبادة على معناها المجازي، فكذلك فليحمل لفظ العبادة الواقع في كلام المشركين الأولين الذي حكاه الله تعالى عنهم حيث قال سبحانه وتعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} . فما وجه الفرق1؟ قوله: وبالجملة فإطلاق لفظ الاستغاثة لمن يحصل منه غوث باعتبار الكسب أمر معلوم لا شك فيه لغة ولا شرعاً، فإذا قلت: أغثني يا الله، تريد الإسناد الحقيقي باعتبار الخلق والإيجاد، وإذا قلت: أغثني يا رسول الله، تريد الإسناد المجازي باعتبار التسبب والكسب والتوسط بالشفاعة. أقول: هكذا كان مشركو الجاهلية حذو النعل بالنعل، كانوا يدعون الصالحين والأنبياء والمرسلين طالبين منهم الشفاعة عند رب العالمين، كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} .

_ 1 الفرق بين عبدة القبور المتأخرين وأولئك المشركين الأولين، أن الأولين هم أصحاب اللغة بالسليقة، ومنها أن كل ما يتوجه به إلى الخالق سبحانه ويطلب منه بالذات أو بالوساطة عنده فهو عبادة، وكل ما يتوجه به مخلوق بطلب ما ليس من الأسباب العادية المشتركة بين الناس، فهو يدخل في مسمى العبادة، وكذا كل خوف ورجاء في شيء من الأشياء لا يدخل في الأسباب المعروفة للناس، فالذين عبدوا الثعبان ما كانت عبادتهم له إلا اعتقادهم أنه يقدر على قتل الإنسان أو الجمل بدون سبب من أسباب القتل المعروفة لهم. وجملة القول إن العبادة الفطرية عندهم وعند جميع الأمم تشمل كل اعتقاد وشعور وعمل ودعاء يتعلق بمن له سلطة غيبية غير عادية، وقد يكون لعدة أشياء بعضها فوق بعض: منها ما له السلطة والتأثير بالذات، ومنها ما يكون بالوساطة، وأما المتأخرون فلما لقنوا أن العبادة لا تكون إلا لله سموا عبادة التوسط عند الله توسلاً، وسموا من توجه إليه وسيلة وشفيعاً وولياً كما كان يسميه المشركون الأولون، وإنما خالفوهم في تسميته إلهاً وتسمية وساطته عبادة، وهي تسمية لغوية صحيحة في اللغة، فالخلاف بينهما لغوي محض. وكتبه محمد رشيد رضا.

وقال تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} . على أن القول بأن إسناد الغوث إلى الله تعالى إسناد حقيقي باعتبار الخلق والإيجاد، وإلى الأنبياء والصالحين إسناد مجازي باعتبار التسبب والكسب، بديهي البطلان، بيانه من وجوه: (الأول) أنه لو كان مناط الإسناد الحقيقي اعتبار الخلق والإيجاد كما توهم صاحب الرسالة لزم أن يكون إسناد أفعال العباد كلها إلى الله تعالى حقيقياً، فإن اعتقاد أهل السنة والجماعة أن الخالق لأفعال العباد هو الله تعالى، وهذا يقتضي أن يتصف الله تعالى بالإيمان والصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد وصلة الرحم، وغير ذلك من الأعمال الحسنة، وكذلك يتصف حقيقة بالأعمال السيئة من الكفر والشرك والفسق والفجور والزنا والكذب والسرقة والعقوق وقتل النفس وأكل الربا وغيرها، فإنه تعالى هو الخالق لجميع الأفعال حسنها وسيئها، والتزام هذا فعل من لا عقل له ولا دين له، فإنه يستلزم اتصاف الله تعالى بالنقائص وصفات الحدوث واجتماع الأوصاف المتضادة بل المتناقضة. و (الثاني) أنه لو كان مناط الإسناد المجازي اعتبار التسبب والكسب كما زعم هذا الزاعم لزم أن لا يكون إنسان حقيقة مؤمناً ولا كفاراً ولا براً ولا فاجراً، ولا مصلياً ولا مزكياً ولا صائماً ولا حاجاً ولا مجاهداً ولا زانياً ولا سارقاً، ولا قاتلاً، ولا كاذباً، فيبطل الجزاء والحساب، وتلغى الشرائع والجنة والنار، وهذا لا يقول به أحد من المسلمين. و (الثالث) أن دعوى كون الأنبياء والصالحين سبباً للغوث وكاسباً له محتاج إلى إقامة الدليل ودونه لا تسمع، وبالجملة فهذه شبهة داحضة ووسوسة زاهقة، تنادي بأعلى نداء على صاحبها بالجهل والسفه. قوله: ومنه ما في صحيح البخاري في مبحث الحشر ووقوف الناس للحساب يوم القيامة: "بينما هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم". فتأمل تعبيره صلى الله عليه وسلم بقوله: "استغاثوا بآدم" فإن الاستغاثة به مجازية، والمستغاث به حقيقة هو الله تعالى.

أقول: هذا ليس مما نحن فيه، فإن الاستغاثة بالمخلوق على نوعين: (أحدهما) أن يستغاث بالمخلوق الحي فيما يقدر على الغوث فيه، مثل أن يستغيث المخلوق بالمخلوق ليعينه على حمل حجر أو يحول بينه وبين عدوه الكافر، أو يدفع عنه سبعاً صائلاً أو لصاً أو نحو ذلك، ومن ذلك طلب الدعاء لله تعالى من بعض عباده لبعض، وهذا لا خلاف في جوازه، والاستغاثة الواردة في حديث المحشر من هذا القبيل، فإن الأنبياء الذين يستغيث العباد بهم يوم القيامة يكونون أحياء، وهذه الاستغاثة إنما تكون بأن يأتي أهل المحشر هؤلاء الأنبياء يطلبون منهم أن يشفعوا لهم إلى الله سبحانه، ويدعوا لهم بفصل الحساب والإراحة من ذلك الموقف، ولا ريب أن الأنبياء قادرون على الدعاء، فهذه الاستغاثة تكون بالمخلوق الحي فيما يقدر على الغوث فيه. و (الثاني) أن يستغاث بمخلوق ميت أو حي فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، وهذا هو الذي يقول فيه أهل التحقيق إنه غير جائز، فإن قلت: هؤلاء المستغيثون بالأموات أو الغائبين أيضاً يطلبون منهم أن يشفعوا لهم إلى الله تعالى ويدعوا لهم بقضاء حاجاتهم وهم قادرون على ذلك فتكون استغاثتهم هذه من قبيل النوع الأول، قلت في هذا التقرير خلل من وجوه: (الأول) أن فيه ذهولاً عن قيد الحي، والمراد بالحياة الدنيوية لا البرزخية. و (الثاني) أن ظاهر ألفاظهم مثل: يا رسول الله اشف مريضي واكشف عني وهب لي ولداً ورزقاً واسعاً ونحو ذلك، دال على أنهم لا يطلبون منهم الشفاعة بل يطلبون شفاء شفاء المريض وكشف الكربة وإعطاء الولد والرزق، وظاهر أنهم غير قادرين على تلك الأمور. و (الثالث) أن هؤلاء المستغيثين بالأموات والغائبين يدعونهم ويستغيثون من أماكن مختلفة ومواضع بعيدة معتقدين أن الأموات والغائبين يعلمون استغاثتهم ويسمعون دعاءهم من كل مكان وفي كل زمان، ولا ريب أن هذا إثبات لعلم الغيب لهم الذي هو من الصفات المختصة بالله تعالى فيكون شركاً.

قوله: وصح عنه صلى الله عليه وسلم ممن أراد عوناً أن يقول: "يا عباد الله أعينوني". وفي رواية "أغيثوني". أقول: فيه كلام من وجهين: (الأول) أن الحديث ضعيف كما سيأتي بيانه، فلا يصح الاحتجاج به. و (الثاني) على تقدير ثبوته يقال: إن هذه الاستغاثة من جنس النوع الأول، فإن هؤلاء العباد ليسوا أمواتاً بل أحياء من جنس الملائكة قادرون على الإعانة. قوله: وجاء في قصة قارون لما خسف به أنه استغاث بموسى عليه السلام فلم يغثه، بل صار يقول: يا أرض خذيه، فعاتب الله موسى حيث لم يغثه وقال له: استغاث بك فلم تغثه ولو استغاث بي لأغثته، فإسناد الإغاثة إلى الله تعالى حقيقي، وإسنادها إلى موسى مجازي. أقول: القصة أخرجها ابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان قارون ابن عم موسى، وكان يتتبع العلم حتى جمع علماً، فلم يزل في أمره ذلك حتى بغى على موسى وحسده، فقال له موسى: إن الله أمرني أن آخذ الزكاة، فأبى فقال: إن موسى يريد أن يأكل أموالكم، جاءكم بالصلاة وجاءكم بأشياء فاحتملتموها، فتحتملون أن تعطوه أموالكم؟ فقالوا: لا نحتمل، فما ترى؟ فقال لهم: أرى أن أرسل إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل فنرسلها إليه فترميه بأنه أراداها على نفسها، فأرسلوا إليها فقالوا لها نعطيك جعلك على أن تشهدي على موسى أنه فجر بك، قالت: نعم. فجاء قارون إلى موسى فقال: اجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربك، قال نعم. فجمعهم فقالوا: ما أمرك ربك؟ قال أمرني أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن تصلوا الرحم، وكذا وكذا، وأمرني إذا زنى الرجل وقد أحصن أن يرجم. قالوا: وإن كنت أنت؟ قال: نعم. قالوا فإنك قد زنيت! قال: أنا؟ فأرسلوا للمرأة فجاءت فقالوا: ما تشهدين على موسى؟ فقال لها موسى: أنشدك بالله إلا ما صدقت. قالت: أما إذ أنشدتني بالله فإنهم دعوني وجعلوا لي جعلاً على أن أقذفك بنفسي، وأنا أشهد أنك بريء وأنك

رسول الله، فخر موسى ساجداً يبكي ويقول: يا رب إن كنتُ رسولك فاغضب لي. فأوحى الله إليك: ما يبكيك؟ قد سلطناك على الأرض، فمرها فتطيعك، فرفع رأسه فقال: خذيهم، فأخذتهم إلى أعقابهم، فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى، فقال: خذيهم فأخذتهم إلى ركبهم، فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى، فقال: خذيهم، فأخذتهم إلى أعناقهم، فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى، فقال: خذيهم، فأخذتهم فغشيتهم، فأوحى الله إليه: يا موسى، سألك عبادي وتضرعوا إليك فلم تجبهم، وعزتي لو أنهم دعوني لأجبتهم، كذا في تفسير فتح البيان. فقد علمت من ههنا أن الوارد في حديث قصة قارون ليس لفظ الإغاثة، بل إنما هو لفظ الإجابة، ولكن المآل واحد فلا ننازع فيه، إنما ننازع في أن الحديث المذكور هل يدل على المطلوب أم لا؟ فنقول: ليس الحديث المذكور من المطلوب في شيء، فإن الثابت منه -بعد تسليم اتحاد معنى الإغاثة والإجابة- إنما هو أن الإغاثة مسندة إلى الله تعالى وإلى موسى، وأما أن إسنادها إلى الله تعالى حقيقي وإلى موسى مجازي، فكلا، لم لا يجوز أن يكون إسناد الإغاثة إلى موسى حقيقياً؟ بل هو المتعين فإن إغاثة موسى بني إسرائيل التي عاتب الله تعالى موسى على تركها ولو وقعت لكانت فيما يقدر موسى عليه السلام عليه، بدليل ما أوحى الله تعالى إليه من أنه ما يبكيك؟ قد سلطناك على الأرض فتطيعك. ولأن موسى لم يكن قادراً على الإغاثة لما عاتبه الله على تركها، قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} . وإسناد الإغاثة إلى المخلوق فيما يقدر عليه حقيقي، وتلك القدرة إنما تكون باعتبار العمل والكسب لا باعتبار الخلق والإيجاد، ألا ترى أن إسناد الصلاة والصوم والزكاة والحج ونحوها من الأعمال الحسنة، وإسناد الزنا والسرقة والكذب والخيانة ونحوها من الأعمال السيئة، وإسناد الأكل والشرب واللبس وجماع المنكوحة ونحوها من الأعمال المباحة- إلى العباد إسناد حقيقي؟ وليست القدرة عليها باعتبار الفعل والكسب دون الخلق والإيجاد، فإن الخالق لأفعال العباد كلها هو الله تعالى عند أهل السنة والجماعة.

وأما قوله: إن إسناد الإغاثة إلى الله تعالى حقيقي، فلا وجه لصحته حسب اعتقاد صاحب الرسالة، فإن المراد بالإغاثة أي إغاثة، فإن كان المراد بها الإغاثة التي هي كسب موسى عليه السلام فكون الله تعالى خالقاً لها مسلم. ولكن إسنادها إلى الله تعالى حقيقة يقتضي أن تكون جميع أفعال العباد مسندة إلى الله تعالى، وبطلانه أجلى من الشمس في نصف النهار كما تقدم، وإن كان المراد الإغاثة التي هي صفة من صفات الله تعالى فإسنادها إلى الله تعالى حقيقة مسلم، ولكن لا يتأتى على معتقد صاحب الرسالة، إذ مناط الإسناد الحقيقي عنده اعتبار الخلق والإيجاد، والله تعالى ليس خالقاً وموجداً لصفاته، وإلا يلزم أن تكون صفاته تعالى مخلوقة محدثة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فانعكس الأمر. قوله: وقد يكون معنى التوسل به صلى الله عليه وسلم طلب الدعاء منه إذ هو صلى الله عليه وسلم حي في قبره يعلم سؤال من يسأله. أقول: سلمنا أنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره، ولكن تلك الحياة حياة برزخية، وتساوي الحياة البرزخية للحياة الدنيوية في جميع الأحكام غير مسلم حتى يتفرع عليها علم سؤال من يسأله وجواز طلب الدعاء منه صلى الله عليه وسلم. قوله: وقد تقدم حديث بلال بن الحارث رضي الله عنه. أقول: قد تقدم الكلام عليه، فتذكر. قوله: فعلم منه أنه صلى الله عليه وسلم يطلب منه الدعاء بحصول الحاجات كما كان يطلب منه حياته. أقول: هذا بناء الفاسد على الفاسد، فلا يعبأ به. قوله: وأنه صلى الله عليه وسلم يتوسل به في كل خير قبل بروزه لهذا العالم وبعده في حياته وبعد وفاته وكذا في عرصات القيامة فيشفع إلى ربه. أقول: هذا التوسيع والتعميم مما لا يدل عليه دليل يعتمد عليه، وكل ما ذكره صاحب الرسالة قد عرفت وهنه فيما تقدم.

قوله: وكل هذا مما تواترت به الأخبار وقام به الإجماع قبل ظهور المانعين منه. أقول: دعوى التواتر والإجماع محتاجة إلى إقامة البرهان عليها ودونها لا تسمع. قوله: وأما تخيل المانعين المحرومين من بركاته أن منع التوسل والزيارة من المحافظة على التوحيد، وأن التوسل والزيارة مما يؤدي إلى الشرك، فهو تخيل فاسد باطل. أقول: قد عرفت فيما تقدم أن بعض أقسام التوسل شرك، وكذا بعض أقسام الزيارة، وهو الذي يتضمن دعاء غير الله والنحر له والنذر له والطواف بقبره ونحو ذلك من أقسام العبادة، فلا شك أن منع ذلك التوسل والزيارة من المحافظة على التوحيد. قوله: وكأن هؤلاء المانعين للتوسل والزيارة يعتقدون أنه لا يجوز تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، فحيثما صدر من أحد تعظيم له صلى الله عليه وسلم حكموا على فاعله بالكفر والإشراك. أقول: هذا الإيجاب الكلي والسلب الكلي اللذان يشتمل عليهما هذا الكلام الساقط الفاسد بهتانان صريحان، فإن المانعين للتوسل لا يمنعون مطلق التعظيم ولا يحكمون على فاعله بالكفر والإشراك، إنما يمنعون التعظيم الذي يتضمن عبادة غير الله أو ما نهي الله عنه ورسوله، أو التعظيم المحدث الذي لا يدل عليه دليل من الكتاب والسنة، وإنما يحكمون بالكفر والشرك على من عظم تعظيماً يتضمن شيئاً من موجبات الكفر والشرك، وأما التعظيم الذي هو ثابت بالكتاب والسنة فهو عين الإيمان. قوله: نعم يجب علينا أن لا نصفه بشيء من صفات الربوبية. أقول: وكذلك يجب علينا أن لا نعبد غير الله بقسم من أقسام العبادة كالدعاء والنذر والنحر والطواف، وأن لا نفعل ما نهى الله عنه ورسوله، وأن لا نحدث في أمر الدين شيئاً. قوله: ورحم الله الأبوصيري حيث قال:

دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم أقول: هذا القول من سيئ الأقوال وأقبحها، فإنه يقتضي جواز وصفه صلى الله عليه وسلم بغير الألوهية وإن كان ذلك الغير من موجبات الكفر والشرك أو محرماً أو كذباً أو بدعة، وهذا الحكم ما أظن أحداً من أهل العلم يستقر له قدم عليه لمخالفته نصوص الكتاب والسنة. قوله: فليس في تعظيمه بغير صفات الربوبية شيء من الكفر والإشراك، بل ذلك من أعظم الطاعات والقربات. أقول: هذا غلط فاحش وخطأ بين، فإن دعاء غير الله والنحر له والنذر له والطواف له والسجدة له والركوع له وغيرها من أنواع العبادة كفر وشرك، مع أنها تعظيم بغير صفات الربوبية، ودعوى كونه من أعظم الطاعات والقربات محتاجة إلى إقامة الدليل عليها. قوله: ومن تعظيمه صلى الله عليه وسلم الفرح بليلة ولادته وقراءة المولد والقيام عند ذكر ولادته صلى الله عليه وسلم وإطعام الطعام وغير ذلك مما يعتاد الناس فعله من أنواع البر، فإن ذلك كله من تعظيمه صلى الله عليه وسلم. أقول: هذا ادعاء بحت لا دليل عليه، بل الأمور المذكورة ليست من التعظيم في شيء، فإن التعظيم في الإطاعة، والأمور المذكورة معصية، فإنها محدثة، وكل محدثة بدعة، والبدعة مما نهى الله ورسوله عنه، فالأمور المذكورة ليست من تعظيمه صلى الله عليه وسلم، بل من تحقيره وتوهينه صلى الله عليه وسلم أعاذنا الله منه، فلولا احتمال التأويل والخطأ الاجتهادي لحكم على مرتكبها بالكفر، فإن تحقير النبي صلى الله عليه وسلم وتوهينه كفر بواح. قوله: وقد أفردت مسألة المولد وما يتعلق بها بالتأليف، واعتنى بذلك كثير من العلماء، فألفوا في ذلك مصنفات مشحونة بالأدلة والبراهين، فلا حاجة لنا إلى الإطالة بذلك. أقول: قد ألف غير واحد من المحققين في إثبات كون هذا العمل المحدث المبتدع

بدعة مؤلفات نفيسة طيبة مشتملة على رد تلك الشبهات الواهية الداحضة التي يحسبها صاحب الرسالة أدلة وبراهين، من شاء التحقيق فليرجع إليها1. قوله: ومما أمر الله بتعظيمه الكعبة المعظمة والحجر الأسود، ومقام إبراهيم عليه السلام، فإنها أحجار وأمرنا الله بتعظيمها بالطواف بالبيت، ومسّ الركن اليماني، وتقبيل الحجر الأسود، وبالصلاة خلف المقام. أقول: هذه التعظيمات ثابتة بعضها بالكتاب وبعضها بالسنة، بخلاف التعظيم الذي يتضمن الشرك أو الأمر المنهي عنه أو يكون محدثاً وهو الذي يمنعه المانعون، فقياس أحد التعظيمين على الآخر قياس مع الفارق، ولو لم يثبت تعظيم هذه الأحجار لم نفعله أبداً، دل عليه ما روي عن عابس بن ربيعة قال: رأيت عمر يقبل الحجر ويقول: إني لأعلم أنك حجر ما تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك، متفق عليه. ومن ثم يكتفى باللمس في الركن اليماني ولا يقبل، إذ الأول ثابت منه صلى الله عليه وسلم والآخر لم يثبت، فافترقا. وأما تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو ثابت فهو عين الإيمان لا يمنعه أحد من المسلمين، وهو المراد في قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} . على قول من قال برجوع الضمير إلى الرسول، وقد جاء في الكتاب العزيز والسنة المطهرة من تفصيل ذلك التوقير الكثير الطيب: فمن ذلك قوله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} . ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ

_ 1 من الفقهاء المؤلفين الذي يعتمد على أقوالهم الشيخ دحلان في مسألة الزيارة وكثير من البدع الشيخ أحمد بن حجر الهيثمي، وقد أفتى في فتاواه الحديثية بأن القيام عند ذكر ولادته صلى الله عليه وسلم بدعة تكره شرعاً، وإن لنا رسالة في (ذكرى المولد النبوي الشريف) كتبنا لها مقدمة تصدير بينا فيها ما قاله العلماء في بدعة الاحتفال بالمولد وتحقيق الحق فيها. وكتبه محمد رشيد.

عَلِيمٌ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ. إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} . ومنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} . ومنه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} . ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً} . ومنه قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} . ومنه قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} . ومنه قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} . ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} . ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُم} . ومنه قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} . ومنه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} . ومنه قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} . الآية. ومنه قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} . ومنه قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} .

ومنه قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} . ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى. فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى. مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى. أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى. عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى. مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى. لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} . ومنه قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} . ومنه قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} . ومنه قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} . وغير ذلك من الآيات. فمن تعظيمه صلى الله عليه وسلم عدم جعل دعاء الرسول كدعاء البعض بعضاً، وعدم التقديم بين يدي الله ورسوله، وعدم رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم الجهر له بالقول كجهر بعضكم لبعض، وغض الأصوات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم المناداة من وراء الحجرات، والتصلية والتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم بقاء الخيرة لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراً، وسؤال نساء النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجاب، وعدم نكاح أزواجه من بعده أبداً، وتحكيم النبي فيما شجر بينهم، وعدم وجدان الحرج في أنفسهم مما قضى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ ما آتاه الرسول، والانتهاء عما نهى عنه، والاقتداء بسنته صلى الله عليه وسلم، وإطاعة الرسول، والرد إليه إذا وقع التنازع في شيء، وإجابة دعوة الرسول وإن كان المدعو في الصلاة كما دل عليه حديث أبي سعيد ابن المعلى المروي في صحيح البخاري، واعتقاد أن الله تعالى يبعث رسولنا صلى الله عليه وسلم مقاماً محموداً الذي هو أعلى درجة في الجنة1. لا ينالها إلا عبد من عباد الله وهو نبينا صلى الله عليه وسلم، واعتقاد أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم يكونون شهداء على الناس ويكون الرسول عليهم شهيداً، واعتقاد أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الأمم، واعتقاد أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، واعتقاد أن الله تعالى أسرى بمحمد صلى الله عليه وسلم ليلاً، واعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الناس كافة، واعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الله تعالى ليلة الإسراء على قول، أو جبرائيل عليه السلام على صورته الأصلية على قول، واعتقاد أن الله تعالى قد غفر له صلى الله عليه وسلم ما تقدم من ذنبه وما تأخر

_ 1 الصحيح في "المقام المحمود" أنه الشفاعة العظمى يحمده عليها عموم الخلائق يوم القيامة.

وأما الأحاديث فمنها ما روي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين". متفق عليه. ومنها ما روي عن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر ابن الخطاب فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك". فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفس. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "الآن يا عمر". رواه البخاري في "باب كيف يمين النبي صلى الله عليه وسلم". ومنها ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى" قيل: ومن أبى؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى". رواه البخاري، ومنها ما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به". رواه في شرح السنة. ومنها ما روي عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتاه عمر فقال: إنا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا، أفترى أن نكتب بعضها؟ فقال: "أمتهوّكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي". رواه أحمد والبيهقي. ومنها ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في نفر من المهاجرين والأنصار، فجاء بعير فسجد له، فقال أصحابه: يا رسول الله تسجد لك البهائم والشجر، فنحن أحق أن نسجد لك، فقال: "اعبدوا ربكم وأكرموا أخاكم، ولو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" الحديث رواه أحمد. قال العلماء في تفسير قوله "أكرموا أخاكم": أي عظموه تعظيماً يليق له بالمحبة والإكرام المشتمل على الإطاعة الظاهرية والباطنية. ومنها ما روي عن قيس بن سعد قال: أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فقلت: لرسولُ الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يسجد له. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت:

إني أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فأنت أحق بأن يسجد لك، فقال لي: "لو مررت بقبري أكنت تسجد له؟ فقلت: لا. فقال: "لا تفعلوا لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن، لما جعل الله لهم عليهن من حق" رواه أبو داود. ومنها ما روي عن عبد الرحمن بن أبي قراد أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ يوماً، فجعل أصحابه يتمسحون بوضوئه، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يحملكم على هذا ". قالوا: حب الله ورسوله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يحب الله ورسوله، أو يحبه الله ورسوله، فليصدق حديثه إذا حدث، وليؤد أمانته إذا أتمن، وليحسن جوار من جاوره". رواه البيهقي. ومنها ما روي عن أنس رضي الله عنه قال: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك. رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. ومنها ما روي عن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار" رواه الترمذي وأبو دواد. ومنها ما روي عن أبي أمامة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً على عصاً، فقمنا له، فقال: "لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضاً". رواه أبو داود. ومنها ما روي عن سعيد بن أبي الحسن قال: جاءنا أبو بكرة رضي الله عنه في شهادة، فقام له رجل من مجلسه، فأبى أن يجلس فيه وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذا. ومنها ما روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس وجلسنا حوله فقام فأراد الرجوع نزع نعله أو بعض ما يكون عليه فيعرف ذلك أصحابه فيثبتون. روه أبو داود. ومنها ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً". رواه البخاري. ومنها ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع". رواه مسلم.

ومنها ما روي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة". رواه مسلم. ومنها ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون ". رواه مسلم. ومنها ما روي عن العباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله خلق الخلق فجعلني من خيرهم فرقة، ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً، فأنا خيرهم نفساً، وخيرهم بيتاً". رواه الترمذي. ومنها ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث طويل بعضه أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم فمن دونه ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين على الله ولا فخر". رواه الترمذي. ومنها ما روي عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا قائد المرسلين ولا فخر". رواه الدرامي. ومنها ما روي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكرامة والمفاتيح يومئذ بيدي". رواه الترمذي والدارمي. ومنها ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فأكسى حلة من حلل الجنة، ثم أقوم عن يمين العرش ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري". رواه الترمذي. ومنها ما روي عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر" رواه الترمذي.

ومنها ما روي عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله". متفق عليه. ومنها ما روي عن مطرف بن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا، فقال "السيد الله" فقلنا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً. فقال: "قولوا قولكم، أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان". رواه أحمد وأبو داود، ومنها ما روي عن أنس رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا خير البرية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ذاك إبراهيم". رواه مسلم. ومنها ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود، فقال المسلم: والذي اصطفى محمداً على العالمين، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم وجه اليهودي، فذهب اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلم فسأله عن ذلك فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأصعق معهم فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش فلا أدري كان فيمن صعق فأفاق قبلي أو كان فيمن استثنى الله تعالى". متفق عليه. فعلم من تلك الأحاديث بعض من طرق تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وإن رأس الأمر والعمدة في ذلك محبة النبي صلى الله عليه وسلم فوق محبة الوالد والولد والناس أجمعين، وهي لا تتم إلا بالاتباع والطاعة، قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} . فمن كان أكثر اتباعاً وطاعة كان أكثر محبة، ومن كان أكثر محبة كان أشد تعظيماً، وأيضاً علم أن بعض أفراد التعظيم قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، فمنه السجدة، وفي هذا الحكم جميع التعظيمات التي هي من جنس العبادة، كالدعاء والنذر والنحر والطواف والركوع وغير ذلك، ومنه التمثل قياماً والقيام تعظيماً كما تقوم الأعاجم، وأن المبالغة في الثناء والغلو والإطراء منهي عنه، بل الواجب في ذلك القصر على ما ثبت بالكتاب العزيز والسنة المطهرة، والدليل عليه أن في أول الأمر قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لفظ السيد وخير البرية والتخيير على موسى، فلما أوحي إليه أنه سيد ولد آدم، وأنه أكرم الأولين

والآخرين، وأنه قائد المرسلين، وإمام النبيين، وهو صاحب المقام المحمود، وأنه حبيب الله، وأنه حامل لواء الحمد، وأنه أول شافع وأول مشفع، وغير ذلك من الأوصاف، أخبر بها أمته وقال: "ولا فخر". ويؤيده قوله: "لا تطروني". وقوله: "ولا يستجرينكم الشيطان". فالواجب على المؤمن أن لا يتجاسر على التكلم بكل كلمة في ثناء النبي صلى الله عليه وسلم فالمقام مقام الاحتياط، إذ اعتقاد اتصاف النبي صلى الله عليه وسلم بصفاته الكمالية من جملة مسائل العقائد، فما لم يثبت بالكتاب العزيز أو السنة الثابتة المطهرة لم يجز وصف النبي به، فمن ههنا دريت خطأ الأبوصيري في قوله: "واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم" وخطأ صاحب الرسالة حيث استحسنه. وبالجملة فنحن معاشر أهل الحديث نعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل تعظيم جاء في الكتاب أو السنة الثابتة، سواء كان ذلك التعظيم فعلياً أو قولياً أو اعتقادياً، والوارد في الكتاب العزيز والسنة المطهرة من ذلك الباب في غاية الكثرة، وما ذكر هو بعض منه ولو رمت إحصاء ذلك على التمام لجاء في مؤلف بسيط، نعم نجتنب التعظيمات التي تشتمل على موجبات الكفر والشرك، وما نهى الله عنه ورسوله، والتعظيمات المحدثة المبتدعة. وأما أهل البدع فمعظم تعظيمهم تعظيم محدث، كشد الرحال إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم والفرح بليلة ولادته، وقراءة المولد، والقيام عند ذكر ولادته صلى الله عليه وسلم، وتقبيل الإبهام عند قول المؤذن "أشهد أن محمداً رسول الله". والتمثل بين يدي قبره قياماً، وطلب الحاجات منه صلى الله عليه وسلم، والنذر له وما ضاهاها، وأما التعظيمات الثابتة فهم عنها بمراحل1، فيا أهل البدع أنشدكم الله والإسلام والإنصاف أن تقولوا أي الفريقين

_ 1 من تتبع التاريخ يعلم أن أشد المؤمنين حباً واتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم أقلهم غلواً فيه، ولا سيما أصحابه رضي الله عنه ومن يليهم في خير القرون، وأن أضعفهم إيماناً، وأقلهم اتباعاً له هم أشدهم غلواً في القول وابتداعاً في العمل، وترى ذلك في شعر الفريقين. وكتبه محمد رشيد رضا.

أزيد تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم وأكثر اتباعاً له وأشد حباً له صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، وقد نقلنا عبارة الصارم المنكى في ذلك الباب، فتذكر. قوله: والحاصل كما تقدم أن هنا أمرين: (أحدهما) وجوب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ورفع رتبته عن سائر المخلوقات، (والثاني) إفراد الربوبية واعتقاد أن الرب تبارك وتعالى منفرد بذاته وأفعاله عن جميع خلقه. أقول: في هذا الحصر نظر ظاهر كما تقدم من أنه لابد هناك من أمر ثالث، وهو عدم إحداث ما ليس من أمر الدين مما لم يأذن به الله ورسوله، بل من أمر رابع وهو إفراد الله تعالى وحده بجميع أنواع العبادة سواء كانت اعتقادية أو لفظية أو بدنية، بل من أمر خامس وهو الاجتناب1 عما نهى الله ورسوله، ويمكن إدخال الرابع في الخامس، فمن أحدث في التعظيم ما ليس من أمر الدين فقد صار مبتدعاً ضالاً، ومن جعل فرداً من العبادة لغير الله كالدعاء والاستغاثة والنذر والنحر فقد أشرك كالمشركين السالفين، فإنهم لم يعتقدوا في مخلوق مشاركة البارئ سبحانه وتعالى في شيء من الذات والصفات والأفعال، بل عبدوهم لأنهم يقرّبونهم إلى الله زلفى، وأنهم شفعاء عند الله، ومن أتى ما نهى الله عنه ورسوله فقد صار فاسقاً عاصياً. قوله: وأما من بالغ في تعظيمه بأنواع التعظيم ولم يصفه بشيء من صفات الربوبية فقد أصاب الحق، وحافظ على جانب الربوبية والرسالة جميعاً. أقول: فيه خلل واضح، وفساد فاضح، فإن من أنواع التعظيم ما هو شرك كالسجود لقبره صلى الله عليه وسلم والطواف به والنحر له والنذر له، ومنها ما هو بدعة، ومنها ما هو منهي عنه، وليس في شيء منها الوصف بشيء من صفات الربوبية، فكيف يقال لمرتكبها إنه أصاب الحق؟ قوله: وإذا وجد في كلام المؤمنين إسناد شيء لغير الله تعالى يجب حمله على المجاز العقلي، ولا سبيل إلى تكفير أحد من المؤمنين، إذ المجاز العقلي مستعمل في الكتابة والسنة.

_ 1 كان ينبغي أن يقول "الانتهاء" أو "اجتناب ما نهى الله عنه" قال تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ} .

أقول: هذا الكلام بعمومه فاسد، فإن المؤمنين يقولون أكلنا وشربنا وباشرنا أزواجنا وصلينا وصمنا وحججنا، ففي كل من هذه الأقوال إسناد شيء لغير الله تعالى، ولا يصح حمله على المجاز العقلي فضلاً عن الوجوب. وتحقيق القول في ذلك الباب أنا لا ننكر المجاز العقلي، ولكن لابد هناك من التفصيل، وهو أنه إذا وجد في كلام المؤمنين إسناد شيء مما يقدر عليه العبد لغير الله تعالى يجب حمله على الحقيقة، ولا يصح حمله على المجاز العقلي كما في الأمثلة المذكورة، وإذا وجد في كلام المؤمنين إسناد شيء مما لا يقدر عليه إلا الله مثل فلان شفاني وفلان رزقني وفلان وهب لي ولداً يجب حمله على المجاز العقلي، ولكن لا مطلقاً بل متى لم يصدر من ذلك المتكلم شيء من الألفاظ والأعمال الكفرية مما هو كفر بواح، وشرك قراح، وأما إذا صدر منه شيء من تلك الألفاظ والأعمال فلا يحمل كلامه على المجاز العقلي، إذ المؤمن بهذا اللفظ والعمل قد انسلخ من الإيمان فلم يبق مؤمناً، فلا وجه لهذا الحمل، ولا ريب في أن عبدة الأنبياء والصالحين يصدر منهم من الألفاظ والأعمال ما هو كفر صريح كالسجدة والطواف والنذر والنحر ونحو ذلك. على أنا نقول: إذا قال أحد من عبدة الأنبياء والصالحين: يا فلان اشف مريضي فما مراده؟ إن كان المراد الإسناد الحقيقي فلا ارتياب في كونه كفراً وشركاً، وإن كان المراد الإسناد المجازي بمعنى يا فلان كن سبباً لشفاء مريضي1 أي ادع الله تعالى أن يشفي مريضي، فإن كان ذلك المدعو حياً حاضراً فليس هذا من الشرك في شيء، ولكنه لما كان موهماً للإسناد الحقيقي الذي هو شرك صريح كان حقيقاً بالترك، فإن الله تعالى قد نهانا عن استعمال اللفظ الموهم كما تقدم، وإن كان ذلك المدعو حياً غير حاضر، أو ميتاً وينادى من مكان بعيد من القبر، فهذا أيضاً شرك، فإن فيه إثبات علم الغيب لغير الله تعالى وهو من الصفات المختصة به تعالى، وإن كان ذلك المدعو ميتاً وينادى عند قبره، فهذا ليس بشرك ولكنه بدعة، فعلى كل حال ينبغي للمؤن أن يجتنب دعاء غير الله، وذلك هو القول الذي لا إفراد فيه ولا تفريط.

_ 1 إن مثل هذا الطلب لا يحتمل المجاز العقلي لا في اللغة ولا في عرف الناس، وطالب الدعاء يصرح به. وكتبه محمد رشيد رضا.

قوله: وأما الفرق بين الحي والميت كما يفهم من كلام المانعين للتوسل فإن كلامهم يفيد أنهم يعتقدون أن الحي يقدر على بعض الأشياء دون الميت، فكأنهم يعتقدون أن العبد يخلق أفعال نفسه، فهو مذهب باطل، والدليل على أن هذا من اعتقادهم أنهم يقولون إذا نودي الحي وطلب منه ما يقدر عليه فلا ضرر في ذلك، وأما الميت فإنه لا يقدر على شيء أصلاً، وأما أهل السنة فإنهم يقولون الحي لا يقدر على شيء كما أن الميت كذلك لا يقدر، والقادر حقيقة هو الله تعالى، والعبد ليس له إلا الكسب الظاهري باعتبار الحي، والكسب الباطني باعتبار التبرك بذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأخيار وتشفعهم في ذلك. أقول: هذا كلام متضمن لمفاسد كثيرة: (الأول) أن قدرة الحي على بعض الأشياء دون الميت ثابت بالكتاب والسنة. أما الكتاب، فمنه ما قال الله تعالى في سورة البقرة: {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} . ومنه ما قال فيها أيضاً: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} . ومنها ما قال فيها أيضاً: {وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} . ومنها ما قال في سورة المائدة: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} . ومنه ما قال في سورة الأنعام والأعراف والمؤمنون: {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} . ومنه ما قال في سورة الأنفال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} . ومنه ما قال في سورة هود: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} . ومنه ما قال في سورة النحل: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . ومنه ما قال في سورة حم السجدة: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . ومنه ما قال في سورة المجادلة: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} . ومنها ما قال في سورة التغابن: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ} . ومنه ما قال في سورة القلم: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ

وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ. خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} . ومنه ما قال في سورة المدثر: {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} . ومنه ما قال في سورة الدهر: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} . ومنه ما قال ي سورة النبأ: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً} . ومنه ما قال في سورة التكوير: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ. لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} . ومنه ما قال في سورة الفاطر: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} . على أن الآيات التي تتضمن أن نفع العمل وضرره عائد إلى عامله لا إلى غيره1 كقوله تعالى في سورة البقرة: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وقوله تعالى فيها أيضاً: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} . وقوله تعالى في آل عمران: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} . وقوله تعالى أيضاً فيها: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} . وقوله تعالى في سورة النساء: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} . وقوله تعالى في سورة الأنعام: {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} . وقوله تعالى أيضاً فيها: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . وقوله تعالى في الأعراف: {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وقوله تعالى في يونس: {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} . وقوله تعالى في حم السجدة: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} . وقوله تعالى في الشورى: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} . وقوله تعالى في النجم: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} . وقوله تعالى في سورة الليل: {إِنَّ سَعْيَكُمْ

_ 1 سيأتي خبر "أن الآيات" بعد سرد الشواهد، وكان ينبغي أن يذكر الخبر هنا فيقول "كثيرة" مثلاً.

لَشَتَّى} . كلها نصوص1 على أن العبد الحي له قدرة على بعض الأشياء، وكذلك آيات الأوامر والنواهي والآيات التي فيها ذكر الثواب والعقاب. وأما الأحاديث، فمنها ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة، إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". رواه مسلم. ومنها ما روي عنه:"فمن استطاع منكم أن يطيل غرتة فليفعل" متفق عليه. ومنها ما روي عن جابر بن سمرة أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال "إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ". رواه مسلم. ومنها ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيامن ما استطاع في شأنه كله، في طهوره وترجله وتنعله. متفق عليه. ومنها ما روي عن حمنة بنت جحش في حديث الاستحاضة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وإن قويت عليهما فأنت أعلم". وفيه "وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر" وفيه: "فافعلي وصومي إن قدرت على ذلك". رواه الترمذي. ومنها ما روي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقطع الصلاة شيء" وادرأوا ما استطعتم فإنما هو شيطان". رواه أبو داود. ومنها ما روي عنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تثاءب أحدكم للصلاة فليكظم ما استطاع" رواه مسلم. ومنها ما روي عن عمرو بن عبسة في قيام الليل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن". رواه الترمذي.

_ 1 هذا خبر قوله "على أن الآيات التي تتضمن الخ ". وهو من ضعف التأليف، وكان حسنه يقتضي وضعه قبل الشواهد قريباً من اسمها، ثم يقول هنا: فهذه الآيات كلها نصوص الخ.

ومنها ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خذوا من الأعمال ما تطيقون" متفق عليه. ومنها ما روي عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب" رواه البخاري. ومنها ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث صلاة التسبيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تفعل ذلك في أربع ركعات، إن استطعت أن تصليها في كل يوم مرة فافعل". رواه أبو داود وابن ماجه. ومنها ما روي عن أبي موسى الأشعري في الصدقة فإن لم يستطع أو لم يفعل قال "فيعين ذات الحاجة الملهوف" متفق عليه. ومنها ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه في كفارة الصوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متابعين؟ قال لا. متفق عليه. ومنها ما روي عن أبي قتادة أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف تصوم؟ وفيه قال "ويطيق ذلك أحد؟ " رواه مسلم. ومنها ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل"، وفيه: قلت إني أطيق أكثر من ذلك، قال: "صم أفضل الصوم، صوم دواد، صيام يوم وإفطار يوم". متفق عليه. ومنها ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه، وفيه ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده. متفق عليه. ومنها ما روي عن جابر في الرقية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه". رواه مسلم. ومنها ما روي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف آية في كل يوم؟ قالوا: ومن يستطيع أن يقرأ ألف آية في كل يوم؟ قال: "أما يستطيع أحدكم أن يقرأ ألهاكم التكاثر؟ "رواه البيهقي.

ومنها ما روي عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن؟ قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال: "قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن" رواه مسلم. ومنها ما روي عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة" فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: "يسبح مائة تسبيحة فتكتب له ألف حسنة". رواه مسلم. ومنها ما روي عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيد الاستغفار أن تقول: اللم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك: وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت" رواه البخاري. ومنها ما روي عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من المسلمين وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "سبحان الله لا تطيقه ولا تستطيعه". ومنها ما روي عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا" فقال رجل أكل عام يا رسول الله -فسكت حتى قالها ثلاثاً- فقال: "لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم" وفيه "فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه". رواه مسلم. ومنها ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس عليكم من الأعمال ما تطيقون". رواه مسلم. ومنها ما روي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب ما استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء". متفق عليه. ومنها ما روي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". رواه مسلم.

ومنها ما روي عن ابن عمر قال: كنا إذا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة يقول لنا: "فيما استطعتم". متفق عليه. ومنا ما روي عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بايع إماماً فأعطاه صفته يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع" رواه مسلم. ومنها ما روي عن أميمة بنت رقيقة تقول: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة، فقال لنا "فيما استطعتن وأطقتن" قلت: الله ورسوله أرحم بنا بأنفسنا". الحديث رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. ومنها ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فيعدل ويقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" رواه الترمذي. ولفظ الوسع والطاقة والقدرة والاستطاعة والقوة والملك بمعنى واحد، وإثبات مشيئة، وعدم استواء الأحياء والأموات، وانقطاع العمل بعد الموت، وسلب العجز، مما يستلزم إثبات القدرة للحي وهو المطلوب. و (الثاني) : أن قدرة الحي على بعض الأشياء دون الميت لا تستلزم اعتقاد أن العبد يخلق أفعال نفسه، والدليل الذي ذكره صاحب الرسالة لا يثبت منه المطلوب، فإن مراد المانعين للتوسل بالقدرة الواقعة في قولهم الحي يقدر والميت لا يقدر قدرة الكسب لا قدر الخلق. و (الثالث) : المعارضة، وتقريرها أن التسوية بين الحي والميت كما يفهم من كلام هؤلاء المجوزين للتوسل1 فإن كلامهم يفيد أنهم يعتقدون أن الحي لا يقدر على شيء كما أن الميت كذلك لا يقدر، فكأنهم يعتقدون أن العبد مجبور محض ليس له اختيار الكسب فهو مذهب باطل. والدليل على أن هذا هو اعتقادهم أنهم يقولون إذا نودي الميت وطلب منه شيء فلا ضرر في ذلك، كما أن الحي إذا نودي منه شيء فلا ضير فيه، فإن كليهما سواء، سيان2، في عدم القدرة.

_ 1 ينظر أين الجواب: أن التسوية الخ. 2 كذا في الأصل، جمع بين الكلمتين.

و (الرابع) : أن إثبات الكسب ولو باطنيا للميت مخالف للنص الصريح وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله" فلا يعبأ به، على أن قدرة الحي على الكسب يعلم حدها بالمشاهدة، مثلاً نعلم أن الحي يقدر على حمل الحجر، وعلى أن يحول بينه وبين عدوه الكافر أو يدفع عنه سبعاً صائلاً أو لصاً أو يدعو له أو نحو ذلك، وأما قدرة الميت على الكسب فعلى تقدير تسليمها لا نعلم حدها بالمشاهدة، فما طريق العلم بها؟ وهل هي مساوية لقدرة الحي أو زائدة عليها أو ناقصة عنها؟ فلا بد من بيانه حتى يطلب منه على حسبه، ودونه لا معنى لهذه الدعوة العمياء. قوله: ذكر العلامة السيد السمهودي في خلاصة الوفاء: أن من الأدلة الدالة على صحة التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته ما رواه الدارمي في صحيحه عن أبي الجوزاء قال: قحط أهل المدينة قحطاً شديداً فشكوا إلى عائشة رضي الله عنها فقالت انظروا إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجعلوا منه كوة إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، ففعلوا فمطروا حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم فسمى عام الفتق. أقول في هذا الكلام كلام من وجوه: (الأول) : أن إطلاق الصحيح على مسند الدارمي -الذي اشتهر بالمسند، على خلاف اصطلاح المحدثين، وحقه أن يسمى بالسنن دون المسند- ليس بصحيح. قال المغلطاي إن جماعة أطلقوا على مسند الدارمي بكونه صحيحاً فتعقبه الحافظ ابن حجر بأني لم أر ذلك في كلام أحد ممن يعتمد عليه، كيف ولو أطلق ذلك من يعتد به لكان الواقع بخلافه. و (الثاني) : أنه قال العراقي: المرسل والمعضل والمنقطع والمقطوع فيه كثير، وهذا الحديث من هذا القبيل كما سيظهر إن شاء الله تعالى. (والثالث) : أن في سنده محمد بن الفضل السدوسي أبو النعمان البصري، قال الحافظ في التقريب: لقبه عارم ثقة ثبت تغير في آخر عمره. اهـ، وقال في الخلاصة: اختلط عارم قال أبو حاتم ثقة من سمع منه قبل عشرين ومائتين فسماعه جيد. اه‍ـ وقال الذهبي في الكاشف تغير قبل موته وترك الأخذ منه، وقال الذهبي في الميزان: قال أبو حاتم اختلط عارم في آخر عمره وزال عقله، فمن سمع منه قبل العشرين ومائتين فسماعه جيد، وقال البخاري: تغير عارم في آخر عمره.

وقال أبو داود: بلغني أن عارم أنكر سنة ثلاث عشرة ومائتين ثم راجعه عقله ثم استحكم به الاختلاط سنة ست عشرة ومائتين ولم يسمع منه أبو داود لتغيره. اه‍ـ ملخصاً. و (الرابع) : أن في سنده سعيد بن زيد قال الذهبي في الكاشف: ليس بالقوي قاله جماعة ووثقه ابن معين. اه‍ـ وقال الحافظ في التقريب: صدوق له أوهام. اهـ، وقال في الخلاصة: قال ابن معين ثقة، وقال أحمد: ليس به بأس، وقال النسائي: ليس بالقوي. اه‍ـ وقال الذهبي في الميزان: سعيد بن زيد أبو الحسن أخو حماد بن زيد، مات قبل حماد بن زيد، قال علي عن يحيى بن سعيد: ضعيف، وقال السعدي: ليس بحجة يضعفون حديثه، وقال النسائي وغيره: ليس بالقوي، وقال أحمد: ليس به بأس، كان يحيى بن سعيد لا يستريبه. اه‍ و (الخامس) : أن في سنده عمرو بن مالك النكري، قال الحافظ في التقريب: صدوق له أوهام. اه‍ و (السادس) : أن في سنده أبا الجوزاء أوس بن عبد الله، قال في التقريب: أوس بن عبد الله الربعي يرسل كثيراً، وقال الذهبي في الميزان: أوس بن عبد الله أبو الجوزاء الربعي البصري وثقوه، وقال البخاري: قال يحيى بن سعيد قتل في الجماجم، وفي إسناده نظر ويختلفون فيه. اه‍ـ وقال أيضاً في الكنى: أبو الجوزاء الربعي أوس تابعي مشهور، قال البخاري: في إسناده نظر. اه‍ـ فقد ثبت من هناك أن هذا الحديث ضعيف منقطع. و (السابع) : أن الحديث موقوف فلا يصلح حجة عند المحققين. و (الثامن) : بعد تسليم حجيته يعارضه أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ذكر محمد بن إسحاق في مغازيه عن خالد بن دينار عن أبي العالية قال: لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريراً عليه رجل ميت عند رأسه مصحف له فحملنا المصحف إلى عمر رضي الله عنه فدعا كعباً فنسخه بالعربية، فأنا أول رجل قرأته مثل ما أقرأ القرآن، فقلت لأبي العالية: ما كان فيه؟ قال: سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد، قلت فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقة، فلما

كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس لا ينبشونه، قلت: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم أبرزوا السرير فيمطرون. فقلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: دانيال، قلت منذ كم وجدتموه مات؟ قال منذ ثلاثمائة سنة1. قلت: ما كان قد تغير منه شيء؟ قال. لا إلا الشعيرات من قفاه، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض ولا تأكلها السباع. فانظر ما في هذه القصة من صنع أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وتعمية قبر هذا الرجل لئلا يفتتن به الناس، كذا في (تبعيد الشيطان بتقريب إغاثة اللهفان) . قوله: ومن أحسن ما يقال ما جاء عن العتبي، وهو مروى أيضاً عن سفيان بن عيينة، وكل منهما من مشايخ الإمام الشافعي، قال العتبي: كنت جالساً عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول –وفي رواية: يا خير الرسل إن الله أنزل عليك كتاباً صادقاً قال فيه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} . وقد جئتك مستغفراً من ذنبي. أقول: ليست هذه الحكاية مما تقوم به الحجة، قال في الصارم المنكي: وهذه الحاكية التي ذكرها بعضهم يرويها عن العتبي بلا إسناد، وبعضهم يرويها عن محمد بن حرب عن أبي الحسن الزعفراني عن الأعرابي، وقد ذكرها البيهقي في كتاب شعب الإيمان، بإسناد مظلم عن محمد بن روح بن يزيد البصري حدثني أبو حرب الهلالي قال: حج أعرابي، فلما جاء إلى باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أناخ راحلته فعقلها، ثم دخل المسجد حتى آتى القبر، ثم ذكر نحو ما تقدم وضع لها بعض الكذابين إسنادا إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما سيأتي ذكره. وفي الجملة ليست هذه الحكاية المذكورة عن الأعرابي مما تقوم به حجة، وإسنادها مظلم مختلف، ولفظها مختلف أيضاً، ولو كانت ثابتة لم يكن فيها حجة على مطلوب

_ 1 دانيال النبي عليه السلام كان في سبى نبوخذ نصر لبني إسرائيل قبل ميلاد المسيح بستمائة سنة وكتابه من أسفار اليهود المعروفة، وكتبه محمد رشيد رضا.

المعترض، ولا يصلح الاحتجاج بمثل هذه الحكاية ولا الاعتماد على مثلها عند أهل العلم. وبالله التوفيق. قوله: وليس محل الاستدلال الرؤيا فإنها لا تثبت بها الأحكام لاحتمال حصول الاشتباه على الرائي كما تقدم ذلك، وإنما محل الاستدلال كون العلماء استحسنوا الإتيان بما تقدم ذكره، وذكروا في مناسكهم استحباب الإتيان به للزائر. أقول: استحسان جميع علماء الأمة ممنوع، وأما استحسان بعض العلماء فلا تثبت به الأحكام، كما أنها لا تثبت بالرؤيا، على أنه لو ثبت استحسان جميع علماء الأمة فكونه مجمعاً عليه بالإجماع الاصطلاحي محل كلام، وبعد تسليم إمكان الإجماع الاصطلاحي فكونه حجة شرعية غير مسلم، والأحاديث الدالة على حجيته قد تقدم الكلام عليها، على أن كونها دالة على حجية الإجماع أيضاً منظور فيه. قوله: وقال العلامة ابن حجر في الجوهر المنظم: وروى بعض الحفاظ عن أبي سعيد السمعاني أنه روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه أنهم بعد دفنه صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام جاءهم أعرابي فرمى بنفسه على القبر الشريف على صاحبه أفضل الصلاة والسلام. أقول: هذا الخبر ضعيف جداً حتى قيل أنه موضوع، قال في الصارم المنكي: فإن قيل قد روى أبو الحسن على بن إبراهيم بن عبد الله بن عبد الرحمن الكرخي عن علي بن محمد بن على حدثنا أحمد بن محمد بن الهيثم الطائي قال حدثني أبي عن أبيه عن سلمة ابن كهيل عن أبي صادق عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قدم علينا أعرابي بعدما دفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر النبي صلى الله عليه وسلم وحثى على رأسه من ترابه وقال: يا رسول الله قلت فسمعنا قولك، ووعيت من الله عز وجل فما وعينا عنك، وكان فيما أنزل الله تبارك وتعالى عليك: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} وقد ظلمت نفسي وجئتك لتستغفر لي، فنودي من القبر أنه قد غفر لك. والجواب أن هذا الخبر منكر موضوع، وأثر مختلق مصنوع لا يصلح الاعتماد عليه،

ولا يحسن المصير إليه، وإسناده ظلمات بعضها فوق بعض، والهيثم جد أحمد بن محمد ابن الهيثم أظنه ابن عدي الطائي1 فإن يكنه فهو متروك كذاب، وإلا فهو مجهول، وقد ولد الهيثم بن عدي بالكوفة ونشأ بها وأدرك زمان سلمة بن كهيل فيما قيل، ثم انتقل إلى بغداد فسكنها، قال عباس الدوري: سمعت يحيى بن معين يقول: الهيثم ابن عدي كوفي ليس بثقة كان يكذب، وقال العجلي أبو داود: كذاب، وقال أبو حاتم الرازي والنسائي والدولابي والأزدي: متروك الحديث، وقال السعدي: ساقط قد كشف قناعه. وقال أبو زرعة: ليس بشيء. وقال البخاري: سكتوا عنه، أي تركوه. وقال ابن عدي: ما أقل ما له من المسند، وإنما هو صاحب أخبار وأسمار ونسب وأشعار. وقال ابن حبان: كان من علماء الناس بالسير وأيام الناس وأخبار العرب، إلا أنه روى عن الثقات أشياء كأنها موضوعات، يسبق إلى القلب أنه كان يدلسها. وقال الحاكم أبو أحمد: ذاهب الحديث. وقال الحاكم أبو عبد الله: الهيثم بن عدي الطائي في علمه ومحله حدث عن جماعة من الثقات أحاديث منكرة. وقال العباس بن محمد: سمعت بعض أصحابنا يقول قالت جارية الهيثم: كان مولاي يقوم الليل يصلي فإذا أصبح جلس يكذب. اه‍ قال الذهبي في ترجمة الهيثم بن عدي الطائي: أبو عبد الرحمن المنبجي ثم الكوفي قال البخاري: ليس بثقة، كان يكذب، قال يعقوب بن محمد حدثنا أبو عبد الرحمن من أهل منبج وأمه من سبى منبج، سكتوا عنه. وروى عباس عن يحيى: ليس بثقة كان يكذب. وقال داود: كذاب. وقال النسائي وغيره: متروك الحديث. قلت: كان اخبارياً علامة، روى عن هشام بن عروة وعبد الله بن عياش

_ 1 ومن ادعى أن الهيثم المذكور في سند الحكاية هو ابن مالك الطائي الشامي الأعمى أبو محمد الموثق فعليه الحجة، وفي الحكاية أبو صادق لم يسمع من علي رضي الله عنه، وفيها أحمد بن محمد بن الهيثم عن أبيه لا ذكر لها في التقريب ولا التهذيب، ولا اللسان، فمن احتج بهما فعليه أن ينقل توثيقهما عن إمام من أئمة التوثيق.

المشرف1 ومجالد. وقال ابن عدي: ما أقل ما له في المسند، إنما هو صاحب أخبار. وقال ابن المديني: هو أوثق من الواقدي، ولا أرضاه في شيء. قال عباس الأودي: حدثنا بعض أصحابنا قالت جارية الهيثم بن عدي: مولاي يقوم عامة الليل يصلي، فإذا أصبح جلس يكذب. انتهى ملخصاً. وفي الميزان: الهيثم الطائي الآخر هو أيضاً كذاب، ولفظه هكذا: الهيثم بن عبد الغفار الطائي بصري مقل تالف. قال أحمد: عرضت على ابن مهدي أحاديث الهيثم بن عبد الغفار عن همام بن يحيى وغيره فقال: هذا يضع الحديث. وسألت الأقرع وكان صاحب حديث عن الهيثم فذكر نحوه. قال أحمد: وسمعت هشيماً يقول: ادعوا الله لأخينا عباد بن العوام سمعته يقول: كان يقدم علينا من البصرة رجل يقال له الهيثم بن عبد الغفار فحدثنا عن همام عن قتادة وأبيه وعن رجل يقال له ابن حبيب وعن جماعة، وكنا معجبين به، فحدثنا بشيء أنكرته أو إرتبت به ثم لقيته بعد فقال لي: ذلك الحديث دعه، فقدمت على عبد الرحمن مهدي فعرضت عليه بعض حديثه فقال: هذا رجل كذاب، أو قال: غير ثقة. وقال أحمد: ولقيت الأقرع بمكة فذكرت له بعض هذا فقال: هذا حديث البرى عن قتادة، يعني أحاديث همام، قال: فحرقت حديثه وتركناه بعد. اه‍ـ. قوله: ويؤيد ذلك أيضاً ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: "حياتي خير لكم، تحدثون وأحدث لكم، ووفاتي خير لكم، تعرض علي أعمالكم، ما رأيت من خير حمدت الله تعالى، وما رأيت من شر استغفرت لكم". أقول: قال في الصارم المنكي: قلت هذا خبر مرسل، رواه القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتاب (فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم) عن سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن غالب القطان عن بكر بن عبد الله، وهذا إسناد صحيح إلى بكر المزني، وبكر من ثقات التابعين وأئمتهم. وقال القاضي إسماعيل: حدثنا حجاج بن منهال حدثنا حماد بن سلمة عن كثير بن الفضل عن بكر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حياتي

_ 1 في الميزان: المتشوف.

خير لكم ووفاتي خير لكم: تحدثون وأحدث لكم، فإذا أنا مت عرضت علي أعمالكم، فإن رأيت خيراً حمدت الله، وإن رأيت شراً استغفر لكم". اه‍ـ والمرسل من أقسام الحديث الضعيف، فالحكم عليه بالصحة غير صحيح. قوله: وفي (الجوهر المنظم) أيضاً أن أعرابياً وقف على القبر الشريف وقال: اللهم إن هذا حبيبك، وأنا عبدك، والشيطان عدوك، فإن غفرت لي سر حبيبك وفاز عبدك وغضب عدوك، وإن لم تغفر لي غضب حبيبك ورضي عدوك وهلك عبدك، وأنت يا ربي أكرم من أن تغضب حبيبك وترضي عدوك وتهلك عبدك، اللهم إن العرب إذا مات فيهم سيد اعتقوا على قبره، وإن هذا سيد العالمين فاعتقني على قبره يا أرحم الراحمين، فقال له بعض الحاضرين: يا أخا العرب، إن الله قد غفر لك بحسن هذا السؤال. أقول: هذا مما لا يصح الاحتجاج به على المطلوب من وجوه: (الأول) : أن هذه القصة مذكورة بلا سند لها، فلا بد على من يحتج بها من بيان سند، وتوثيق رجاله. و (الثاني) : أن فعل الأعرابي ليس من الحجة في شيء. و (الثالث) : أن هذه القصة ليس فيها دعاء غير الله ولا السؤال بحق المخلوق، والتوسل الذي يمنعه المانعون، هو الذي يتضمن دعاء غير الله أو السؤال بحق مخلوق أو ما ضاهاه من المنهيات والبدع والمنكرات. و (الرابع) : أن بعض الحاضرين القائل يا أخا العرب أن الله قد غفر لك، لا يدري من هو حتى يعتمد على قوله. وبالجملة ذكر أمثال هذه الحكايات في محل الاستدلال أدل دليل على جهل صاحبه. قوله: وذكر علماء المناسك أيضاً أن استقبال قبره الشريف صلى الله عليه وسلم وقت الزيارة والدعاء أفضل من استقبال القبلة. أقول: استقبال قبره الشريف في الزيارة وقت التسليم مما اختلف فيه الأئمة، وأما استقبال القبر وقت الدعاء فمنهي عنه بالاتفاق. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في منسك له صنفه في أواخر عمره:

ويسلم عليه مستقبلَ الحجرة مستدبر القبلة عند أكثر العلماء كمالك والشافعي وأحمد، وأما أبو حنيفة فإنه قال: يستقبل القبلة، فمن أصحابه من قال: يستدبر الحجرة ومنهم من قال: يجعلها عن يساره، واتفقوا على أنه لا يستلم الحجرة ولا يقبلها ولا يطوف بها ولا يصلي إليها ولا يدعو هناك مستقبلاً للحجرة، فإن هذا كله منهي عنه باتفاق الأئمة، ومالك أعظم كراهية لذلك، والحكاية عنه أنه أمر المنصور أن يستقبل القبلة وقت الدعاء كذب على مالك. بل ولا يقف عند القبر للدعاء لنفسه، فإن هذا بدعة، ولم يكن أحد من الصحابة يقف عنده يدعو لنفسه، ولكن كانوا يستقبلون القبلة ويدعون في مسجده. اهـ. وقال في الصارم المنكى: وكذلك الشرك بأهل القبور لم يطمع الشيطان أن يوقعهم –أي الصحابة– فيه، فلم يكن على عهدهم في الإسلام قبر نبي يسافر إليه، ولا يقصد الدعاء عنده أو تطلب بركته أو شفاعته أو غير ذلك، بل أفضل الخلق محمد خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه وقبره عندهم محجوب لا يقصده أحد منهم بشيء من ذلك. وكذلك كان التابعون لهم بإحسان ومن بعدهم من أئمة المسلمين، وإنما تكلم العلماء والسلف في الدعاء للرسول صلى الله عليه وسلم عند قبره، منهم من نهى عن الوقوف للدعاء له دون السلام عليه، ومنهم من رخص في هذا وهذا، ومنهم من نهى عن هذا وهذا. وأما دعاؤه هو وطلب استغفاره وشفاعته بعد موته فهذا لم ينقل عن أحد من أئمة المسلمين لا من الأئمة الأربعة ولا غيرهم، بل الأدعية التي ذكروها خالية من ذلك، أما مالك فقد قال القاضي عياض: وقال مالك في المبسوط: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ويسلم، ولكن يسلم ويمضي. وهذا الذي نقله القاضي عياض ذكره القاضي إسماعيل بن إسحاق في المبسوط قال: وقال مالك: لا أرى أن يقف الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم يمضي، وقال مالك ذلك لأن هذا هو المنقول عن ابن عمر أنه كان يقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت –أو يا أبتاه– ثم ينصرف، ولا يقف يدعو، فرأى ذلك من البدع.

قال القاضي عياض وقال مالك في رواية ابن وهب: إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة، ويدنو ويسلم ولا يمس القبر بيده، فقوله في هذه الرواية إذا سلم ودعا قد يريد بالدعاء السلام فإنه قال يدنو ويسلم ولا يمس القبر بيده، ويؤيد ذلك أنه قال في رواية ابن وهب: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته وقد يراد أنه يدعو له بلفظ الصلاة كما ذكر في الموطأ من رواية عبد الله بن دينار أنه كان يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وفي رواية يحيى بن يحيى وقد غلطه ابن عبد البر وغيره وقالوا إنما لفظ الرواية على ما ذكره ابن القاسم والقعنبي وغيرهما: يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويسلم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وقال أبو الوليد الباجي: وعندي أنه يدعو للنبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الصلاة، ولأبي بكر وعمر لما في حديث ابن عمر من الخلاف. قال القاضي عياض وقال في المبسوط: لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر، فإن أراد بالدعاء الصلاة والسلام فهو موافق لتلك الرواية، وإن كان أراد دعاء زائداً فهي رواية أخرى، وبكل حال فإنما أراد الدعاء اليسير. وأما ابن حبيب فقال: ثم يقف بالقبر متواضعاً موقراً فيصلي عليه ويثني عليه ويثني بما حضر ويسلم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلم يذكر إلا الثناء عليه مع الصلاة. وأما الإمام أحمد فذكر الثناء عليه بلفظ الشهادة له بذلك مع الدعاء له بغير الصلاة ومع دعاء الداعي لنفسه أيضاً، ولم يذكر أن يطلب منه شيئاً ولا يقرأ عند القبر قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} . كما لم يذكر مالك ذلك ولا المتقدمون من أصحابنا ولا جمهورهم، بل قال في منسك المروزي: ثم ائت الروضة وهي بين القبر والمنبر فصل فيها وادع بما شئت، ثم ائت قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقل: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا محمد بن عبد الله، أشهد أن لا إله إلا أنت وأشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهد أنك

قد بلغت رسالة ربك، ونصحت لأمتك، وجاهدت في سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وعبدت الله حتى أتاك اليقين، فجزاك الله أفضل ما جازى نبياً عن أمته، ورفع درجتك العليا، وتقبل شفاعتك الكبرى، وأعطاك سؤلك في الآخرة والأولى، كما تقبل من إبراهيم. اللهم احشرنا في زمرته، وتوفنا على سنته، وأوردنا حوضه، واسقنا بكأسه شرباً روياً لا نظمأ بعده أبداً. اه‍. وقال شيخ الإسلام ابن تيميه في كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) : ولم يكن أحد من السلف يأتي إلى قبر نبي لأجل الدعاء عنده، ولا كان الصحابة يقصدون الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا عند قبر غيره من الأنبياء، وإنما كانوا يصلون ويسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه. واتفق الأئمة على أنه إذا دعا بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم لا يستقبل قبره، وتنازعوا عند السلام عليه فقال مالك وأحمد وغيرهما: يستقبل قبره ويسلم عليه، وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي، وأظنه منصوصاً عنه، وقال أبو حنيفة: بل يستقبل القبلة، ويسلم عليه، هكذا في كتب أصحابه، وقال مالك فيما ذكره إسماعيل بن إسحاق في (المبسوط) والقاضي عياض وغيرهم: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم ويمضي. وقال أيضاً1 في (المبسوط) : لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج أن يقف على قبر النبي ويدعو له ولأبي بكر وعمر، فقيل له: فإن ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا في الجمعة أو في الأيام المرة والمرتين أو أكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة2، فقال: لم يبلغني

_ 1 يعني الإمام مالك. 2 أي قيل للإمام مالك: إن بعض أهل المدينة المقيمين فيها يقفون عند قبره صلى الله عليه وسلم فيسلمون ويدعون من غير أن يكونوا يريدون السفر أو يكونوا قادمين منه، فقال مالك: إنه لم يبلغه عن أحد من العلماء من التابعين وغيرهم أنه فعل ذلك أو رواه عن الصحابة، فعلم من هذه الرواية أن الوقوف عند قبره صلى الله عليه وسلم للسلام والدعاء قد حدث في عصر الإمام مالك من بعض العوام المقيمين في المدينة، وأنهم لقلتهم لم يرهم هو مع كثرة ملازمته لمسجده صلى الله عليه وسلم، ولعلهم لم يكونوا يفعلونه أمامه لعلمهم بأنه ينكره عليهم، بل هو قد أنكر على عبد الرحمن بن مهدي وهو من أقرانه عندما ووضع رداءه في المسجد وصلى عليه، واحتج عليه بقوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث فيه حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله، الخ الحديث. وهكذا تحدث البدع بفعل الجاهلين، وسكوت العالمين، حتى تحل محل السنن بل تنسخها. وكتبه محمد رشيد رضا.

هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا، وتركه واسع، لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده، وقد تقدم في ذلك من الآثار عن السلف والأئمة ما يوافق هذا ويؤيده من أنهم كانوا إنما يستحبون عند قبره ما هو من جنس الدعاء له والتحية كالصلاة والسلام، ويكرهون قصده للدعاء والوقوف عنده للدعاء، ومن يرخص منهم في شيء من ذلك فإنه إنما يرخص فيما إذا سلم عليه ثم أراد الدعاء أن يدعو مستقبل القبلة إما مستدبر القبر وإما منحرفاً عنه، وهو أن يستقبل القبلة ويدعو ولا يدعو مستقبل القبر. وهكذا المنقول عن سائر الأئمة، ليس في أئمة المسلمين من استحب للمرء أن يستقبل قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو عنده، وهذا الذي ذكرناه عن مالك والسلف يبين حقيقة الحكاية المأثورة عنه، وهي الحكاية التي ذكرها القاضي عياض عن محمد ابن حميد قال: ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله أدب قوما فقال: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الآية، وذكر باقي الحكاية ثم قال: فهذه الحكاية على هذا الوجه إما أن تكون ضعيفة أو مغيرة، وإما أن تفسر بما يوافق مذهبه، إذ قد يفهم منها ما هو خلاف مذهبه المعروف بنقل الثقات من أصحابه، فإنه لا يختلف مذهبه أنه لا يستقبل القبر عند الدعاء، وقد نص على أنه لا يقف عند الدعاء مطلقاً، وذكر طائفة من أصحابه أنه يدنو من القبر ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو مستقبل القبلة ويوليه ظهره، وقيل لا يوليه ظهره، فاتفقوا في استقبال القبلة وتنازعوا في توليه القبر ظهره وقت الدعاء.

ويشبه والله أعلم أن يكون مالك رحمه الله سئل عن استقبال القبر عند السلام عليه وهو يسمي ذلك دعاء، فإنه قد كان من فقهاء العراق من يرى أنه عند السلام عليه يستقبل القبلة أيضاً، ومالك يرى استقبال القبر في هذه الحال كما تقدم، وكما قال في رواية ابن وهب عنه: إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة، ويدنو ويسلم ويدعو ولا يمس القبر بيده، وقد تقدم قوله: إنه يصلي عليه ويدعو له، ومعلوم أن الصلاة عليه والدعاء له يوجب شفاعته للعبد يوم القيامة كما قال في الحديث الصحيح: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون ذلك العبد، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة". فقول مالك في هذه الحكاية إن كان ثباتاً عنه معناه أنك إذا استقبلته وصليت عليه وسلمت عليه وسألت الله له الوسيلة يشفع فيك يوم القيامة، فإن الأمم يوم القيامة يتوسلون إلى الله بشفاعته، واستشفاع العبد به في الدنيا هو فعل ما يشفع به له يوم القيامة كسؤال الله تعالى الوسيلة ونحو ذلك. وكذلك ما نقل عنه من رواية ابن وهب إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة ويدعو ويسلم –يعني دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه- فهذا هو الدعاء المشروع هناك كالدعاء عند زيارة قبور سائر المؤمنين وهو الدعاء لهم فإنهم أحق الناس أن يصلى عليه ويسلم عليه ويدعى له بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم. وبهذا تتفق أقوال مالك، ويفرق بين الدعاء الذي أحبه والدعاء الذي كرهه وذكر أنه بدعة. اه‍ فإن قلت: قد روى عن بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية" رواه مسلم والنسائي وابن ماجه، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: فقدته –تعني النبي صلى الله عليه وسلم- فإذا هو بالبقيع، فقال "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم لنا فرط وإنا بكم لاحقون، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم".

وعن ابن عباس قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه فقال: "السلام عليكم يا أهل القبور، ويغفر الله لنا ولكم، أنتم أسلفنا ونحن بالأثر، ففي تلك الأحاديث الدعاء لنفسه بالعافية، وعدم حرمان الأجر، وعدم الفتن، وبالمغفرة. قلت: المقصود من الدعاء الذي ينهى عنه عند القبر هو الدعاء الذي يقصد زيارة القبر لأجله ويظن أن الدعاء عند القبر مستجاب وأنه أفضل من الدعاء في المسجد فيقصد زيارته لأجل طلب حوائجه، وأما الدعاء لنفسه عند القبر بالعافية وعدم الحرمان الأجر، وعدم الفتنة، تبعاً للدعاء لأصحاب القبور، والترحم عليهم والاستغفار لهم فلا ينهى عنه أحد من المسلمين، ألا ترى أن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم من أشدهم منعاً للدعاء عند القبور، وهما يجوزان هذا الدعاء التبعي، بل يجعلان الزيارة المشتملة عليه زيارة سنية وزيارة أهل الإيمان. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض مناسكه: (باب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم) إذا أشرف على مدينة النبي صلى الله عليه وسلم قبل الحج أو بعده فليقل ما تقدم، فإذا دخل استحب له أن يغتسل، نص عليه الإمام أحمد، فإذا دخل المسجد بدأ برجله اليمنى وقال: بسم الله، والصلاة على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، ثم يأتي الروضة بين القبر والمنبر فيصلي بها ويدعو بما شاء ثم يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيستقبل جدار القبر، ولا يمسه ولا يقبله، ويجعل القنديل الذي في القبلة عند القبر على رأسه ليكون قائماً وجاه النبي صلى الله عليه وسلم ويقف متباعدا كما يقف لو ظهر في حياته بخشوع وسكون منكس الرأس غاض الطرف مستحضراً بقلبه جلالة موقفه، ثم يقول: السلام عليكم يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم يا نبي الله، وخيرته من خلقه، السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبين وقائد الغر المحجلين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، أشهد أنك قد بلغت رسالات ربك، ونصحت لأمتك، ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وعبدت الله حتى أتاك اليقين، فجزاك الله أفضل ما جزى نبياً ورسولاً عن أمته، اللهم آته الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محموداً الذي وعدته، ليغبطه به الأولون والآخرون، اللهم صل على

محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم احشرنا في زمرته، وتوفنا على سنته، وأوردنا حوضه، واسقنا بكأسه شراباً روياً لا نظمأ بعده أبداً. اهـ1. وقال في (الجواب الباهر، لمن سأل من ولاة الأمر عما أفتي به في زيارة المقابر2: بل قد ذكرت في غير موضع استحباب زيارة القبور كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور أهل البقيع وشهداء أحد، ويعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم: السلام عليكم أهل الديار من المسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، ونسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم، وإذا كانت زيارة قبور عموم المؤمنين مشروعة فزيارة قبور الأنبياء والصالحين أولى. اه‍ـ. وقال في منسك صنفه في أواخر عمره: وزيارة القبور على وجهين: زيارة شرعية، وزيارة بدعية، فالشريعة المقصود بها السلام على الميت كما يقصد بالصلاة على جنازته، فزيارته بعد موته من جنس الصلاة عليه، فالسنة فيها أن يسلم على الميت ويدعى له سواء كان نبياً أو غير نبي، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الصحابة إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم" وهكذا يقول إذا زار أهل البقيع ومن به من الصحابة وغيرهم، أو زار شهداء أحد وغيرهم، إلى أن قال: وأما الزيارة البدعية، فهو الزائر أن يطلب حوائجه من ذلك الميت، أو يقصد الدعاء عند قبره، أو يقصد الدعاء به، فهذا ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا

_ 1 هذا الفصل قد ذكره المصنف في أول الكتاب، وهو كثير التكرار. 2 وقد طبع هذا الكتاب النفيس لأول مرة في المطبعة السلفية هذا العام.

استحبه أحد من سلف الأمة، بل هو من البدع المنهي عنها باتفاق سلف الأمة وأئمتها. اهـ. وقال ابن القيم في (زاد المعاد) : كان إذا زار قبور أصحابه يزورها للدعاء لهم والترحم عليهم والاستغفار لهم، وهذه هي الزيارة التي سنها لأمته وشرعها لهم، وأمرهم أن يقولوا إذا زاروها "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية". اه‍ـ. وفي (تبعيد الشيطان بتقريب إغاثة اللهفان) : فاسمع الآن زيارة أهل الإيمان التي شرعها الله ووازن بينها وبين زيارة أهل الشرك التي شرعها لهم الشيطان، واختر لنفسك، قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان ليلتي منه يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: "السلام عليكم ديار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون، غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد". رواه مسلم. وعنها أيضاً أن جبريل أتاه فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي البقيع فتستغفر لهم. قالت: قلت كيف يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: "قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منكم والمستأجرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون". وفي حديث بريدة عن أبيه: كان رسول الله يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: "السلام على أهل الديار". وفي لفظ "السلام عليكم أهل الديار". الحديث اهـ. قلت: حديث بريدة قد تقدم بتمامه، وفيه "نسأل الله لنا ولكم العافية" وكيف يمنع أحد من الدعاء لنفسه تبعاً للدعاء لأصحاب القبور، وهو ثابت في الأحاديث الصحيحة، قال في الصارم: فإن الدعاء عند القبر لا يكره مطلقاً بل يؤمر به كما جاءت به السنة فيما تقدم ضمناً وتبعاً، وإنما المكروه أن يتحرى المجيء إلى القبر للدعاء عنده. اهـ. وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الداعي إذا قصد الدعاء لغيره يبدأ بنفسه، عن أبيّ بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر أحداً فدعا له بدأ بنفسه. رواه

الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح، ومن ثم ورد في التشهد "السلام علينا". قال الحافظ في الفتح: استدل به على استحباب البدأة بالنفس في الدعاء. اهـ. فالمقصود بالذات الدعاء للميت، وأما الدعاء لنفسه فإنما هو لأجل الداعي إذا قصد الدعاء يبدأ بنفسه فهو مقصود بالعرض. قوله: وأما ما نقل عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله أن استقبال القبلة أفضل فهذا النقل غير صحيح، فقد روى الإمام أبو حنيفة نفسه في مسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: من السنة استقبال القبر المكرم وجعل الظهر للقبلة. أقول: في هذا الباب عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله روايتان: قال ابن حجر المكي في (الجوهر المنظم) : ما ذكرنا من أن الأفضل استدبار القبلة واستقبال الوجه الشريف هو مذهبنا ومذهب جمهور العلماء، وقال آخرون الأفضل استقبال الكعبة ونقل عن أبي حنيفة، لكن نقل عنه موافقة الأول. اهـ. وأما ادعاء عدم صحة الرواية الأولى مستدلاً بما روى الإمام أبو حنيفة رحمه الله نفسه في مسنده، ففيه أن رواية المسند مما لا يعبأ به ولا يعتمد عليه، فإن في رواتها من هو مجهول ومجروح، ومن يتهم بالكذب، ألا ترى أن من أشهر مسانيد أبي حنيفة مسند أبي محمد عبد الله بن محمد بن يعقوب الحارثي الذي رواه حسن بن زياد اللؤلؤي، فعبد الله هذا جامعه متهم بوضع الحديث. قال الذهبي في الميزان: عبد الله بن محمد بن يعقوب الحارثي البخاري الفقيه عرف بالأستاذ أكثر عنه أبو عبد الله بن منده وله تصانيف، قال ابن الجوزي: قال أبو سعيد الروسي يتهم بوضع الحديث، وقال أحمد السليماني: كان يضع هذا الإسناد على هذا المتن وهذا المتن على هذا الإسناد، وهذا ضرب من الوضع، وقال حمزة السهمي: سألت أبا رزعة أحمد بن الحسن الرازي عنه فقال: ضعيف، وقال الحاكم: هو صاحب عجائب عن الثقات، وقال الخطيب: لا يحتج به، وقال الخليلي: يعرف بالأستاذ، له معرفة بهذا الشأن، وهو لين ضعفوه، حدثنا عنه الملاحمي وأحمد بن

محمد البصير بعجائب، قلت: يروي عن عبيد الله بن واصل بن الصائغ وعبد الصمد بن الفضل البخلي، وسماعاته في سنة ثمانين ومائتين قبلها وبعدها، مات سنة أربعين وثلاثمائة عن إحدى وثمانين سنة، وقد جمع مسنداً لأبي حنيفة. اه‍ـ. والحسن بن زياد اللؤلؤي راويه كذاب، قال الذهبي في الميزان: الحسن بن زياد اللؤلؤي الكوفي عن ابن جريج وغيره وتفقه على أبي حنيفة، روى أحمد بن أبي مريم وعباس الدوري عن يحيى بن معين: كذاب. وقال محمد بن عبد الله بن نمير: يكذب على ابن جريج، وكذا كذبه أبو داود فقال: كذاب غير ثقة. وقال ابن المديني: لا يكتب حديثه، وقال أبو حاتم: ليس بثقة ولا مأمون، وقال الدارقطني: ضعيف متروك، وقال محمد بن حميد الرازي: ما رأيت أسوأ صلاة منه. البويطي: سمعت الشافعي يقول: قال لي الفضل بن الربيع: أنا اشتهي مناظرتك واللؤلؤي، فقلت: ليس هناك. فقال: أنا اشتهي ذلك، قال فأحضرنا وأتانا بطعام فأمسكنا، فقال رجل معي له: ما تقول في رجل قذف محصنة في الصلاة؟ قال: بطلت صلاته قال: وطهارته؟ قال: بحالها. فقلت له: قذف المحصنات أشد من الضحك في الصلاة 1؟ قال فأخذ اللؤلؤي نعليه وقام، فقلت للفضل: قد قلت لك إنه ليس هناك، وقال محمد بن رافع النيسابوري: كان الحسن بن زياد يرفع رأسه قبل الإمام ويسجد قبله. مات سنة 203 وكان رأساً في الفقه. اهـ. سيما رواية هذا الأثر2 فقد أخرجه طلحة بن محمد في مسنده عن صالح ابن

_ 1 يعني الشافعي أن أبا حنيفة يقول بأن الضحك في الصلاة يبطل الوضوء، فكيف لا يبطله قذف المحصنات وهو أشد إثماً. وقوله للفضل أولاً وآخراً: إنه ليس هناك، معناه أنه ليس أهلاً للمناظرة. وكتبه محمد رشيد رضا. 2 قوله "سيما رواية هذا الإثر الخ" الظاهر أنه من كلام المصنف، وأنه تتمة لقوله في عبد الله الحارثي "متهم بوضع الحديث" وما بينهما اعتراض، أي ولا سيما هذا الأثر عن ابن عمر فهو أجدرها بالوضع، وهذا القدر من تقطيع الكلام والاعتراض بين المستثنى والمستثنى منه وما في معناه من ضعف التأليف. وكتبه محمد رشيد رضا.

أحمد كذا في (وفاء الوفاء) وطلحة مخرجه ضعيف، قال الذهبي في الميزان: قال ابن أبي الفوارس: كان يدعو إلى الاعتزال، وضعفه الأزهري اهـ. وصالح بن أحمد كذاب دجال، قال الذهبي: صالح بن أحمد بن أبي مقاتل عن يعقوب الدورقي ويوسف بن موسى القطان وغيرهما ويعرف بالقيروطي البزار، قال الدراقطني: متروك كذاب دجال، أدركناه ولم نكتب منه، يحدث بما لم يسمع، وقال ابن عدي: كان يسرق الحديث، واسم جده يونس، وقال البرقاني: ذاهب الحديث، قال عبد الله الأستاذ فيما جمع من مسند أبي حنيفة: كتب إلى صالح حدثنا الخصر بن أبان الهاشمي حدثنا مصعب بن المقدام حدثنا زفر حدثنا أبو حنيفة عن عطاء عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بئس البيت الحمام لا يستر وماء لا يطهر" فهذا من اختلاق صالح. اهـ. على أنه لو سلم صحة إسناد هذا الأثر إلى الإمام فلا يلزم منه أن يكون ما يثبت منه هو مذهب الإمام، فغير واحد من الأئمة يروون الأحاديث ويكون مذهبهم بخلافها لوجوه ذكرت في علم الأصول، وهذا بين لا يتأتى جحوده من أحد من أهل العلم، على أن الإمام أبا حنيفة لا يحتج بالآثار في غير واحد من المسائل فلتكن هذه المسألة أيضاً منها. وبالجملة فرواية الإمام هذا الأثر في مسنده لا يصلح دليلاً، على أن نقل استقبال القبلة عند الزيارة عن الإمام رحمه الله غير صحيح كما زعم صاحب الرسالة، ولننقل هناك بعض عبارات الحنفية ليعلم أن استقبال القبلة عند السلام هو المشهور بينهم، قال الطحاوي في حاشية الدر المختار: ثم ينهض فيتوجه إلى قبره عليه الصلاة والسلام فيقف عند رأسه مستقبل القبلة يدنو منه قدر ثلاثة أذرع أو أربعة ولا يدنو أكثر من ذلك اهـ. وفي الهندية نقلاً عن (الاختيار في شرح المختار) : ثم ينهض فيتوجه إلى قبره صلى الله عليه وسلم فيقف عند رأسه مستقبل القبلة ثم يدنو منه ثلاثة أذرع أو أربعة ولا يدنو منه أكثر من ذلك اهـ. وقال السيد محمود أفندي شهاب الدين مفتي الحنفية ببغداد المفسر الشهير بالألوسي

في تفسيره: واختلف الأئمة في استقباله عليه السلام، ففي مذهب أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يستقبل بل يستدبر ويستقبل القبلة، وقال بعضهم: يستقبل وقت السلام، ويستقبل القبلة ويستدبره وقت الدعاء، والصحيح المعول عليه أنه يستقبل وقت السلام وعند الدعاء يستقبل القبلة اهـ. وعن أبي الليث رحمه الله يقف مستقبل القبلة، وكذلك نقل عن الكرماني وغيره، وما قال السيد محمود من أن الصحيح المعول عليه أنه يستقبل وقت السلام وعند الدعاء يستقبل القبلة مردود بما قال ابن جماعة في منسكه من أن الذي صححه الحنفية أنه يستقبل القبلة عند السلام عليه والدعاء له اهـ. قوله: وسبق ابن الهمام في النص على ذلك العلامة ابن جماعة، فإنه نقل استحباب استقبال القبر عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله، ورد على الكرماني في أنه يستقبل القبلة فقال: إنه ليس شيء. أقول: راجعت منسك ابن جماعة فلم أجد فيه أثراً من هذا النقل والرد، وإنما فيه في ذلك الباب ما نقلته آنفاً، فلعل هذا من أكاذيب صاحب الرسالة والنسخة التي راجعتها صحيحة قديمة كتب في آخرها ما نصه: وكمل نسخ هذه النسخة في العاشر من شهر رمضان المعظم قدره سنة ست وأربعين وسبعمائة أحسن الله نقصها في خير وعافية وكاتبها محمد بن عيسى البزاوي. اهـ. قوله: ويستدل لاستقبال القبر أيضاً بأنا متفقون على أنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره يعلم بزائره، وهو صلى الله عليه وسلم لما كان في الدنيا لم يسع زائره إلا استقباله واستدبار القبلة فكذا يكون الأمر حين زيارته في قبره الشريف صلى الله عليه وسلم. أقول للإمام على الرواية الأولى أن يقول: إن حياته في القبر برزخية، ومساواة الحياة البرزخية للحياة الدنيوية في جميع الأحكام غير مسلمة، ومن يدعي فعليه الإثبات. قوله: وإذا اتفقنا في المدرس من العلماء بالمسجد الحرام المستقبل للقبلة أن الطلبة يستقبلونه ويستدبرون الكعبة فما بالك به صلى الله عليه وسلم فهذا أولى بذلك قطعاً. أقول: للإمام أن يقول: هذا قياس مع الفارق، فإن حياته صلى الله عليه وسلم برزخية وحياة

ذلك المدرس حياة دنيوية، وأين هذه من تلك؟ قوله: وقد تقدم قول الإمام مالك للخليفة المنصور: ولم تصرف وجهك عنه؟ أقول: قد تقدم الكلام عليه وتأويله فتذكر. قوله: قال العلامة الزرقاني في شرح المواهب: كتب المالكية طافحة باستحباب الدعاء عند القبر مستقبلاً له مستدبراً للقبلة. أقول: قد عرفت فيما تقدم أن الإمام مالكاً قال في رواية ابن وهب: إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة فقوله في هذه الرواية: إذا سلم ودعا قد يريد بالدعاء الدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم كالدعاء عند زيارة قبور سائر المؤمنين، وهو الدعاء لهم قصداً وبالذات ولنفسه تبعاً وبالعرض، وهذا لا ينكره أحد من المسلمين كما تقدم، فإن كان مراد المالكية هذا الدعاء فهو حق لا نزاع لأحد فيه، وإن كان مرادهم الدعاء الذي تقصد زيارة القبر لأجله، ويظن أن الدعاء عند القبر مستجاب، وأنه أفضل من الدعاء في المسجد فيقصد زيارته لطلب حوائجه، فهذا مخالف لما روي عن إمامهم بسند صحيح أنه قال: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم ويمضي، ذكره إسماعيل بن إسحاق في المبسوط والقاضي عياض وغيرهم، وقول مالك للخليفة المنصور عند المناظرة لا يصلح معارضاً لهذا المروي، فإن سنده واه جداً كما تقدم. قوله: ثم نقل عن مذهب الإمام أبي حنيفة والشافعي والجمهور مثل ذلك. أقول: يعارض هذا النقل ما نقله شيخ الإسلام ابن تيميه عن الأئمة الأربعة من أنهم اتفقوا على أنه إذا دعا لا يستقبل قبره صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وقال الشيخ ابن القيم في الإغاثة: ولقد جرد السلف الصالح التوحيد وحموا جانبه، كان أحدهم إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد الدعاء استقبل القبلة وجعل ظهره إلى جدار القبر ثم دعا، قال سلمة بن وردان: رأيت أنس بن مالك يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسند ظهره إلى جدار القبر ثم يدعو، ونص على ذلك الأئمة الأربعة أنه يستقبل القبلة وقت الدعاء حتى لا يدعو عند

القبر، فإن الدعاء عبادة اهـ. وهذان الشيخان إمامان في النقل كما صرح به علماء النقل. وقال ابن حجر المكي مستند صاحب الرسالة في (الجوهر المنظم) : ما ذكرناه من الاستقبال هنا في حالة الدعاء هو مذهبنا ومذهب جمهور العلماء، ومشى عليه بعض المالكية مع كون مالك رحمه الله خالف في ذلك فرأى أن الأولى أن يكون في حال الدعاء أيضاً مستقبلاً للوجه الشريف، وقد سأله الخليفة المنصور الخ. قلت قد عرفت فيما تقدم أن هذه الحكاية عن مالك ضعيفة جداً، وقد عارضها ما روي عن الإمام مالك بسند صحيح أنه قال: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم ويمضي، فقد ثبت أن الإمام مالكاً موافق للجمهور في القول باستقبال القبلة في حالة الدعاء. قوله: وأما ما ذكره الألوسي في تفسيره من أن بعضهم نقل عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه منع التوسل فهو نقل غير صحيح، إذ لم ينقله عن الإمام أحد من أهل مذهبه. أقول: قال أبو الحسن القدوري في شرح كتاب الكرخي: قال بشر بن الوليد سمعت أبا يوسف يقول قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: "أسألك بمعاقد العز من عرشك".؟ وأن يقول بحق فلان، وبحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام. قال أبو الحسن: أما المسألة بغير الله فمنكرة لأنه لا حق لغير الله عليه، وإنما الحق له على خلقه، وأما قوله "بمعقد العز من عرشك" فكرهه أبو حنيفة، ورخص فيه أبو يوسف، كذا في (تبعيد الشيطان) . وقال ابن بلدجي في شرح المختار: ويكره أن يدعو الله إلا به، ولا يقول: أسألك بملائكتك أو بأنبيائك أو نحو ذلك، لأنه لا حق للمخلوق على خالقه كذا في تبعيد الشيطان. وقال نعمان خير الدين الحنفي (في جلاء العينين) : ونقل القدوري وغيره من الحنفية عن أبي يوسف أنه قال: قال أبو حنيفة رحمه الله لا ينبغي لأحد أن يدعو الله

تعالى إلا به، وذكر العلائي في شرح التنوير عن التتار خانية عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله سبحانه وتعالى إلا به. وفي جميع متونهم أن قول الداعي المتوسل بحق الأنبياء والأولياء وبحق البيت والمشعر الحرام مكروه كراهة تحريم، وهي كالحرام في العقوبة بالنار عند محمد. اه‍ـ ملخصاً. وأيضاً قال فيه: فقد قال الشيخ أبو الحسين القدوري في الكتاب المسمى (بشرح الكرخي) المعروف به والمشهور عنه في (باب الكراهية) : (فصل) قال بشر بن الوليد سمعت أبا يوسف يقول قال أبو حنيفة رحمه الله: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله تعالى إلا به، وأكره أن يقول "بمعاقد العز من عرشك، أو بحق خلقك". وأبو يوسف لم يكره الأول وقال أكره بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت والمشعر الحرام؛ قال القدوري: المسألة بخلقه لا تجوز، لأنه لا حق للمخلوق على الخالق. وقال البلدجي في (شرح المختار) : ويكره أن يدعو الله تعالى إلا به، فلا يقول: أسألك بفلان أو بملائكتك أو بأنبيائك ونحو ذلك، لأنه لا حق للمخلوق على الخالق. اه‍ـ. وقال في (الدر المختار) وفي التتارخانية معزياً للمنتقى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، والدعاء المأذون فيه، المأمور به، ما استفيد من قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} . قال: وكذا لا يصلي أحد على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم وكره قوله: بحق رسلك وأنبيائك وأوليائك، أو بحق البيت، لأنه لا حق للخلق على الخالق تعالى. اه‍ـ. وقال العلامة ابن عابدين في (رد المحتار على الدر المختار) : قوله "وكره قوله بحق رسلك الخ" هذا لم يخالف فيه أبو يوسف، بخلاف مسألة المتن السابقة كما أفاده الاتقاني. اه‍ـ وقال تحت قوله: "لأنه لا حق للخلق على الخالق": ومجرد إيهام اللفظ ما لا يجوز كاف في المنع كما قدمناه، فلا يعارض خبر الآحاد، فلذا والله أعلم أطلق أئمتنا المنع. اه‍ـ. فهؤلاء كلهم أهل مذهب أبي حنيفة رحمه الله ينقلون عن الإمام منع التوسل، والمنكر لذلك النقل جاهل بمذهب أبي حنيفة رحمه الله.

قوله: وفي المواهب اللدنية للإمام القسطلاني: وقف أعرابي على قبره الشريف صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم إنك أمرت بعتق العبيد، وهذا حبيبك وأنا عبدك فأعتقني من النار على قبر حبيبك، فهتف به هاتف: يا هذا تسأل العتق لك وحدك، هلا سألت العتق لجميع المؤمنين؟ اذهب فقد أعتقتك. أقول: فيه كلام من وجوه: (الأول) : أن هذه الحكاية ذكرها القسطلاني بغير سند فلا يعتمد عليها. و (الثاني) : أن هتف الهاتف ليس من الحجة الشرعية في شيء لاحتمال أن يكون ذلك الصوت من الشيطان. و (الثالث) : أن فعل الأعرابي وقوله ليس دليلاً شرعياً حتى يحتج به على مسألة من مسائل الشرع. قوله: ثم قال في المواهب عن الحسن البصري قال: وقف حاتم الأصم على قبره صلى الله عليه وسلم فقال: يا رب إنا زرنا قبر نبيك فلا تردنا خائبين، فنودي: يا هذا ما أذنا لك في زيارة قبر حبيبنا إلى وقد قبلناك، فارجع أنت من معك من الزوار مغفور لكم. أقول: فيه أيضاً كلام من وجوه: (الأول) : أن هذه الحكاية لم يذكر لها سند فلا يعبأ بها. و (الثاني) : أن قول حاتم الأصم ليس بحجة شرعية. و (الثالث) : أنه ليس في قول حاتم إلا ذكر الزيارة والدعاء بتوسل الزيارة التي هي من الأعمال الصالحة، وهما مما لا يجحده أحد من المسلمين. و (الرابع) : أن النداء المذكور في هذه الحكاية مما لا اعتماد عليه، لجواز أن يكون هذا النداء من الشيطان، فلابد لنفي هذا الاحتمال من برهان. قوله: وقال ابن أبي فديك: سمعت بعض من أدركت من العلماء والصلحاء يقول: بلغنا أن من وقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فتلا هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ

عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} وقال: صلي الله عليك يا محمد حتى يقولها سبعين مرة، ناداه ملك: صلى الله عليك يا فلان، ولم تسقط له حاجة. أقول فيه خلل من وجوه: (الأول) : أن هذه الرواية ليس لها سند فلا يعتمد عليها. و (الثاني) : أن من روى عنه ابن أبي فديك مبهم مجهول. و (الثالث) : أن هذا من بلاغات ذلك الرجل المبهم المجهول، وبلاغات الأئمة الثقات العدول ليس بحجة، فما ظنك بهذا. و (الرابع) : أن قوله "بلغنا" لا يدرى أنه ممن بلغه، أمن تبع تابعي، أو من تابعي أو صحابي أو رسول الله صلى الله عليه وسلم. و (الخامس) : أن محمد بن إسماعيل بن أبي فديك وإن كان صدوقاً مشهوراً وهو من المروي عنه في الكتب الستة، لكن قال ابن سعد وحده: ليس بحجة، كذا في الميزان. قوله: وفي شرح المواهب للزرقاني أن الداعي إذا قال: اللهم إني استشفع إليك نبيك، يا نبي الرحمة اشفع لي عند ربك، استجيب له. أقول: الزرقاني تحت حكاية مناظرة أبي جعفر مالكاً عند قول مالك: "وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم القيامة": إشارة إلى حديث الشفاعة العظمى وإلى ما ورد أن الداعي إذا قال: اللهم أني استشفع إليك بنبيك، يا نبي الرحمة اشفع لي عند ربك استجيب له، فهذا المذكور لم يذكر الزرقاني له سنداً، فعلى من يحتج به ذكر سنده وتوثيق رجاله، ولعله أراد به حديث عثمان بن حنيف أن رجلاً ضريراً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله، الحديث، فإن كان هذا فالكلام فيه ما تقدم تحت حديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه، فتذكر. قوله: فقد اتضح لك من هذه النصوص المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة وخلفها أن التوسل به صلى الله عليه وسلم وزيارته وطلب الشفاعة منه ثابتة عنهم قطعاً بلا شك

ولا مرية، وأنها من أعظم القربات، وأن التوسل به واقع قبل خلقه، وبعد خلقه، في حياته وبعد وفاته، وسيكون التوسل به أيضاً بعد البعث في عرصات القيامة. أقول: ما ذكر صاحب الرسالة بعضه غير ثابت، وبعضه غير دال على المطلوب، وبعضه مما لا يجحد مدلوله ومقتضاه خصمه، وهذا كله ظاهر مما تقدم، فتذكر. قوله: قال في المواهب: ورحم الله ابن جابر حيث قال: به قد أجاب الله آدم إذ دعا ... ونجي من بطن السفينة نوح وما ضرت النار الخليل لنوره ... ومن أجله نال الفداء ذبيح أقول: لا يدرى ابن جابر من هو، فعلى من يستدل به تعيينه وبيان سند هذين البيتين إليه حتى ينظر فيه. قوله: وروى البيهقي عن أنس رضي الله عنه أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي به وأنشد أبياتاً أولها: أتيناك والعذراء يدمى لبانها ... وقد شغلت أم الصبي عن الطفل إلى أن قال: وليس لنا إلا إليك فرارنا ... وأنى فرار الخلق إلا إلى الرسل فلم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم هذا البيت، بل قال أنس: لما أنشد الأعرابي الأبيات قام صلى الله عليه وسلم يجرد رداءه حتى رقي المنبر فخطب ودعا لهم فلم يزل يدعو حتى أمطرت السماء. أقول: فيه كلام من وجهين: (الأول) : أن في سنده مسلماً الملائي وهو واه جداً، قال الذهبي في الميزان: مسلم ابن كيسان أبو عبد الله الضبي الكوفي الملائي الأعور عن أنس وعن إبراهيم النخعي وعنه الثوري وأبو وكيع الجراح بن بلبح1 قال الفلاس: متروك الحديث، وقال أحمد: لا يكتب حديثه. وقال يحيى ليس بثقة، وقال البخاري: يتكلمون فيه، وقال

_ 1 في الميزان: مليح.

يحيى أيضاً: زعموا أنه اختلط، وقال النسائي وغيره: متروك. أبو هشام الرفاعي حدثنا أن فضيل حدثنا مسلم الملائي عن أنس: أهدت أم أيمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم طيراً مشوياً فقال: "اللهم ائتني به بأحب خلقك إليك" فذكره. اه‍ـ مخلصاً. وقال الحافظ في التقريب: مسلم بن كيسان الضبي الملائي البراد الأعور أبو عبد الله الكوفي ضعيف من الخامسة اه‍ـ. وفي الخلاصة قال عمرو بن علي: منكر الحديث، وفي التهذيب: ضعفه البخاري والنسائي وابن معين وأبو حاتم. اه‍ـ. قلت: قد ثبت من عبارة الذهبي أن مسلماً الملائي هذا يروى حديث الطير، وهو موضوع عند غير واحد من المحدثين، قال العلامة عبد العزيز الدهلوي في (التحفة) ما معربه: إن هذا الحديث قال غير واحد من المحدثين: إنه موضوع، وممن صرح بوضعه الحافظ شمس الدين الجزري. وقال إمام أهل الحديث شمس الدين أبو عبد الله بن محمد بن أحمد الدمشقي الذهبي في تلخيصه: لقد كنت زمناً طويلاً أظن أن حديث الطير لم يحسن بالحاكم أن يودعه في مستدركه، فلما علقت هذا الكتاب رأيت القول به من الموضوعات التي فيه، وهكذا في (الصواقع الموبقة) للعلامة نصر الله الكابلي. وقال ابن الجوزي في (العلل المتناهية) : قال ابن طاهر: حديث الطائر موضوع إنما يجيء عن سقاط أهل الكوفة عن المشاهير والمجاهيل عن أنس وغيره، قال: ولا يخلو أمر الحاكم من أمرين: إما الجهل بالصحيح فلا يعتمد على قوله، وإما العلم به ويقول بخلافه، فيكون معانداً كذاباً وله وساوس، وقال الشيخ عبد الوهاب الشعراني في (اليواقيت والجواهر) : وهذا الحديث ذكره ابن الجوزي في الموضوعات، وأفرد له الحافظ الذهبي جزءاً وقال: إن طرقه كلها باطلة. اه‍ـ. قال العلامة الشوكاني في (الفوائد المجموعة) قال في المختصر: له طرق كلها ضعيفة. وقد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات، وأما الحاكم فأخرجه في المستدرك وصححه، واعترض عليه كثير من أهل العلم، ومن أراد استيفاء البحث فلينظر ترجمة الحاكم في النبلاء. اه‍ـ.

و (الثاني) : أن ما ثبت منها هو التوسل بدعاء الأحياء، وهذا مما لا ينكره أحد. قوله: وفي صحيح البخاري أنه لما جاء الأعرابي وشكا للنبي صلى الله عليه وسلم القحط فدعا الله فانجابت السماء بالمطر قال صلى الله عليه وسلم: "لو كان أبو طالب حياً لقرت عيناه، من ينشدنا قوله"؟ فقال علي رضي الله عنه: يا رسول الله كأنت أردت قوله: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر إنشاد البيت ولا قوله: "يستسقى الغمام بوجهه" ولو كان ذلك حراماً أو شركاً لأنكره ولم يطلب إنشاده. أقول ليس في صحيح البخاري هذه الرواية، إنما ورد فيه من حديث أنس أن قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت المواشي وتقطعت السبل فدعا، فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة، ثم جاء فقال: تهدمت البيوت وتقطعت السبل وهلكت المواشي فادع الله يمسكها، فقال: "اللهم على الآكام والظراب والأودية ومنابت الشجر"، فانجابت عن المدينة انجياب الثوب، وقد روى البخاري حديث أنس هذا من طرق وليس في واحدة منا قال صلى الله عليه وسلم: "لو كان أبو طالب حياً لقرت عيناه، من ينشدنا قوله"؟ فقال علي رضي الله عنه: يا رسول الله كأنك أردت قوله: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم اهـ. وكذلك قد روي فيه من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبيه قال: سمعت ابن عمر يتمثل بشعر أبي طالب: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل ومن حديث سالم عن أبيه ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقى، فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل وهو قول أبي طالب، نعم قد ورد ما عزاه إلى البخاري فيما أخرجه البيهقي في

الدلائل من رواية مسلم الملائي عن أنس قال: جاء رجل أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أتيناك وما لنا بعير يئط، ولا صبي بغط، ثم أنشده شعراً يقول فيه: وليس لنا إلا إليك فرارنا ... وأين فرار الناس إلا إلى الرسل؟ فقام يجر رداءه حتى صعد المنبر فقال: "اللهم اسقنا" الحديث. وفيه: ثم قال صلى الله عليه وسلم: "لو كان أبو طالب حياً لقرت عيناه، من ينشدنا قوله" فقام علي فقال: يا رسول الله كأنك أردت قوله: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه الأبيات قال الحافظ في الفتح، وكذا قال القسطلاني في المواهب، وقد عرفت فيما تقدم أن في سنده مسلماً الملائي وهو متروك يروي الموضوع، فالصواب حينئذ ذكر قوله قال صلى الله عليه وسلم: "لو كان أبو طالب" الخ في رواية البيهقي لا في رواية البخاري. فانظر إلى تحريف صاحب الرسالة ما أشنعه وما أقبحه، أعاذنا الله من أمثال هذا الصنيع. على أن في عبارة ما عزاه إلى البخاري من الركاكة ما يدل دلالة واضحة على أنه ليس من كلام أفصح العرب: (الأول) : أن كلمة "لما" لا يدخل في جوابها في أمثال هذه المواضيع لفظة الفاء. و (الثاني) : أن لفظ شكا متعد بإلى لا باللام، قال تعالى: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} وفي رواية إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك عند البخاري أن رجلاً شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم هلك المال وجهد العيال. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشتكت النار إلى ربها" متفق عليه. وعن خباب قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكونا إليه حر الرمضاء فلم يشكنا" رواه مسلم، وعن عائشة رضي الله عنها عند البخاري في كتاب التيمم: فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله آية التيمم. وقد جاء تعدية شكا بإلى في غير واحد من الأحاديث الصحيحة، وقال في القاموس: شكا أمره إلى الله.

و (الثالث) : أن قوله: "فانجابت السماء بالمطر" لا معنى له، فإن انجابت بمعنى انكشفت، في الصحاح: انجابت السحابة انكشفت، وفي المصباح: انجابت السحاب انكشف، وانكشاف السماء بالمطر لا محصل له. و (الرابع) : أن الانجياب يدل على انقطاع المطر كما في حديث، "فانجابت عن المدينة انجياب الثوب" وانقطاع السحاب بعد دعاء السقى يدل على عدم إجابة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وهذا باطل بالبداهة، بدليل أن الروايات كلها دالة على أن دعاء الرسول في هذه الواقعة قد أجيب بلا مرية. و (الخامس) أن انقطاع السحاب قبل ظهروه محال. و (السادس) أن صلة الانجياب بعن كما في حديث أنس لا بالباء. وبالجملة فصدر ما عزاه إلى البخاري أعني قوله لما جاء الأعرابي وشكا للنبي صلى الله عليه وسلم إلى قوله بالمطر ليس في البخاري ولا في البيهقي ولا في غيره من الكتب الحديثية فيما أعلم، فإذاً إنما هو من اختلاق مؤلف الرسالة. قوله: ولم ينكر إنشاد البيت ولا قوله يستسقى الغمام بوجهه. أقول فيه كلام من وجهين: (الأول) أن اللفظ الذي يستدل به على جواز التوسل ليس في صحيح البخاري، إنما هو من رواية البيهقي، وهي ضعيفة جداً كما تقدم. و (الثاني) أن الثابت به إنما هو التوسل بالأحياء ولا ينكره أحد، وإنما يمنع من يمنع التوسل بالأموات، فإن قلت: لفظ "يستسقى الغمام بوجهه" يدل على أن التوسل بالذوات الفاضلة جائز، قلت: المكروه من التوسل هو أن يقال أسألك بحق فلان أو بحرمة فلان، وأما إحضار الصالحين في مقام الاستسقاء أو طلب الدعاء منهم فهو ليس من المكروه في شيء، بل هو ثابت بالسنة الصحيحة، وليس في حديث البيهقي إلا التوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم، وكذا التوسل الذي يشير إليه أبو طالب إنما كان بإحضار النبي صلى الله عليه وسلم في مقام الاستسقاء أو بدعائه، ففيه احتمالان:

(الأول) أنه أشار إلى ما وقع في زمن عبد المطلب، روى الخطابي حديثاً فيه أن قريشاً تتابعت عليهم سنو جدب في حياة عبد المطلب، فارتقى هو ومن حضره من قريش أبا قبيس، فقام عبد المطلب واعتضد النبي صلى الله عليه وسلم فرفعه على عاتقه –وهو يومئذ غلام قد أيقع أو قرب– فدعا فسقوا في الحال، فقد شاهد أبو طالب ما دله على ما قال. و (الثاني) أنه أشار إلى ما وقع في زمنه، فقد أخرج ابن عساكر عن حليمة1، قدمت مكة وقريش في قحط، فقائل منهم يقول: اعمدوا اللات والعزى، وقائل منهم: اعمدوا مناة الثالثة الأخرى، فقال شيخ وسيم حسن الوجه جيد الرأي: أنى تؤفكون وفيكم باقية إبراهيم وسلالة إسماعيل، قالوا: كأنك عنيت أبا طالب، قال: إيها. فقاموا بأجمعهم فقمت فدققنا عليه الباب فخرج إلينا، فثاروا إليه فقالوا: يا أبا طالب أقحط الوادي وأجدب العيال وأنت فيهم، أما تستسقي؟ فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دجن تجلت عنه سحابة قثماء، وحوله أغيلمة، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة ولاذ الغلام بإصبعه وما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من ههنا ومن ههنا، وأغدق السحاب واغدودق وانفجر له الوادي وأخصب النادي والبادي، وفي ذلك يقول أبو طالب: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه وإذا كان حضور الصحابة والتابعين وتبع التابعين والضعفاء سبباً للنصر والفتح فما ظنك بحضور سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم. روي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقولون: هل فيكم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو

_ 1 كذا في الأصل، وفي الخصائص الكبرى "عن جلهمة بن عرفطة". وفي الرواية أغلاط أخرى صححناها، وكتبه محمد رشيد رضا.

فئام من الناس فيقال: هل فيكم من صاحب أصحاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم، متفق عليه. وعن مصعب بن سعد قال: رأى سعد أن له فضلاً على من دونه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم" رواه البخاري. وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ابغوني في ضعفائكم، فإنما ترزقزن أو تنصرون بضعفائكم". رواه أبو داود، وعن أمية بن خالد بن عبد الله بن أسيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يستفتح بصعاليك المهاجرين، رواه في شرح السنة، وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خرج نبي من الأنبياء بالناس، فإذا هو بنملة رافعة بعض قوائمها إلى السماء، فقال: ارجعوا فقد استجيب لكم من أجل هذه النملة". رواه الدارقطني. فالمراد بوجهه في قول أبي طالب "يستسقى الغمام بوجهه". ببركة حضور ذاته أو بدعائه، لا أن يقال أسألك بحق النبي صلى الله عليه وسلم أو بحرمته، وما أشبه هذا القول بقول أسقف النصارى المذكور في البيضاوي وغيره من التفاسير تحت آية المباهلة حيث ذكروا فقال أسقفهم: يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً لو تسأل الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله، فلا تباهلوا. قوله: وكان سبب إنشاد أبي طالب هذا البيت من جملة قصيدة مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم أن قريشاً في الجاهلية أصابهم قحط فاستسقى لهم أبو طالب وتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم. أقول: هذا غلط واضح وخطأ فاضح، فإن سبب إنشاده أن قريشاً تمالأت على النبي صلى الله عليه وسلم ونفروا عنه من يريد الإسلام. قال الحافظ في الفتح: وهذا البيت من أبيات في قصيدة لأبي طالب ذكرها ابن إسحاق في السيرة بطولها وهي أكثر من ثمانين بيتاً، قالها لما تمالأت قريش على النبي صلى الله عليه وسلم ونفروا عنه من يريد الإسلام، أولها: ولما رأيت القوم لا ود فيهم ... وقد قطعوا كل العرى والوسائل وقد جاهرونا بالعداوة والأذى ... وقد طاوعوا أمر العدو المزايل أعبد مناف أنتم خير قومكم ... فلا تشركوا في أمركم كل واغل

فقد خفت إن لم يصلح الله أمركم ... تكونوا كما كانت أحاديث وائل وأيضاً قال في الفتح: وذكر ابن التين أن في شعر أبي طالب هذا دلالة على أنه كان يعرف نبوة النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث لما أخبره به بحيرا أو غيره من شأنه، وفيه نظر، لما تقدم عن إنشاد أبي طالب لهذا الشعر كان بعد المبعث. اه‍ـ. وقال الزرقاني في (شرح المواهب) تحت قوله: "وفي ذلك يقول أبو طالب يذكر قريشاً حين تمالؤا عليه صلى الله عليه وسلم: بركته عليهم من صغره لا في هذا الوقت، فلا يخالف قول ابن إسحاق أنه قال القصيدة لما تمالأت قريش على النبي صلى الله عليه وسلم ونفروا عنه من يريد الإسلام. وتجويز أنه قال البيت عقيب الاستسقاء، والقصيدة كلها حين تمالؤا فيه نظر، إذ مجرد قوله "وفي ذلك يقول، لا يستلزم أنه قال عقيب الاستسقاء. اه‍ـ. قوله: وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام يا عيسى آمن بمحمد، ومر من أدركه من أمتك أن يؤمنوا به، ولولا محمد ما خلقت الجنة والنار، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتب عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله فسكن. أقول: فيه كلام من وجهين: (الأول) : أن هذا الأثر هكذا مذكور في (الجوهر المنظم) بلا سند، فعلى من يحتج به ذكر سنده وتوثيق رجاله، وقال الزرقاني في (شرح المواهب) : رواه البيهقي وغيره كشيخه الحاكم وصححه1 عن ابن عباس: أوحى الله تعالى إلى عيسى أن آمن بمحمد وأمر أمتك، الحديث. قلت: عرفت فيما تقدم ما في تصحيح الحاكم من التساهل فلا اعتداد به، قال الذهبي ما حاصله: إنه لا يحل لأحد أن يغتر بتصحيح الحاكم حتى يرى تعقباتي. ومن ثم تقرر عند العلماء أنه لا يعتمد على مستدرك الحاكم إلا

_ 1 تعقبه الذهبي في تلخيص المستدرك فقال: أظنه موضوعاً على سعيد عن قتادة، كذا في حاشية الأصل.

بعد رؤية التخليص للذهبي1. و (الثاني) : أنه ليس فيه دليل على التوسل الذي يمنعه المانعون. قوله: وذكر القسطلاني في شرحه على البخاري عن كعب الأحبار أن بني إسرائيل كانوا إذا قحطوا استسقوا بأهل بيت نبيهم. أقول: هذه الحكاية ذكرها القسطلاني في شرحه بلا سند، فلا يحتج بها، على أن المراد بالاستسقاء بأهل البيت هو الاستسقاء بدعائهم أو ببركة حضورهم في موضع الاستسقاء، وهذا لا يمنعه أحد، إنما المكروه أن يقال: اللهم إنا نسألك بحق أهل البيت، وهذا غير ثابت منها. قوله: وإذا جاز التوسل بالأعمال الصالحة كما في صحيح البخاري في حديث الثلاثة الذين أووا إلى غار فأطبق عليهم ذلك الغار فتوسل كل واحد منهم إلى الله تعالى بأرجى عمل له فانفجرت الصخرة التي سدت الغار عنهم، فالتوسل به صلى الله عليه وسلم أحق وأولى، لما فيه من النبوة والفضائل سواء كان ذلك في حياته أو بعد وفاته، فالمؤمن إذا توسل به إنما يريد بنبوته التي جمعت الكمالات. أقول: الثابت بحديث صحيح البخاري إنما هو توسل المرء بعمل نفسه لا التوسل بعمل الغير أو بكمال الآخر، وأما ادعاء أن هذا ثابت بفحوى الخطاب ودلالة النص، فهذا محتاج إلى تقريره وإثباته حتى ينظر فيه ويتكلم عليه ودونه لا يسمع. قوله: وهؤلاء المانعون للتوسل يقولون: يجوز التوسل بالأعمال الصالحة مع كونها أعراضاً فالذوات الفاضلة أولى. أقول: لا ملازمة بين جواز التوسل بالأعراض وبين جواز التوسل بالذوات

_ 1 أورده السيوطي في الخصائص الكبرى وتعقبه بقوله: قال الذهبي في سنده عمرو ابن أوس لا يدرى من هو. اهـ. وقال الحافظ في لسان الميزان: عمرو بن أوس يجهل حاله وأتى بخبر منكر أخرجه الحاكم في مستدركه وأظنه موضوعاً من طريق جندل بن واثق. اهـ. وذكر هذا الخبر. وكتبه محمد رشيد رضا.

الفاضلة، ومن يدعي فعليه البيان1. قوله: فإن عمر رضي الله عنه توسل بالعباس رضي الله عنه. أقول: التوسل بالعباس رضي الله عنه كان توسلاً بدعائه أو ببركة حضوره، وهذا جائز لا شك فيه2. إنما المكروه أن يقال: اللهم أسألك بحق العباس رضي الله عنه، وهذا ليس بثابت. قوله: وأيضاً لو سلمنا ذلك نقول لهم: إذا جاز التوسل بالأعمال الصالحة فما المانع من جوازها بالنبي صلى الله عليه وسلم باعتبار ما قام به من النبوة والرسالة والكمالات التي فاقت كل كمال، وعظمت على كل عمل صالح في الحال والمآل. أقول: المانع من جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم هو كونه بدعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "وإياكم ومحدثات الأمور"، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". ولا يخفى ما في ضمير جوازها، والصواب جوازه، بالتذكير، فإن المرجع هو التوسل وهو مذكر لا وجه لتأنيثه. قوله: ومن أدلة جواز التوسل قصة سواد بن قارب رضي الله عنه التي رواها الطبراني في الكبير، وفيها أن سواد بن قارب أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم قصيدته التي فيها التوسل ولم ينكر عليه، ومنها قوله: وأشهد أن الله لا رب غيره ... وأنك مأمون على كل غائب وأنك أدنى المرسلين وسيلة ... إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب

_ 1 إنما ينبغي أن يقال هنا: إن التوسل بالأعمال هو التقرب إلى الله تعالى بما شرعه لعباده بالإجماع والنصوص القطعية، وهو المعقول، إذ هي التي تزكي نفس العامل وتجعله أهلاً لرضوان الله واستجابته لدعائه، وأما ذات غيرك فلا تأثير لها في تزكيتك مهما تكن تلك الذات فاضلة بعملها المزكى لها {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} وكتبه محمد رشيد رضا. 2 المؤلف يكرر هذا المعنى: بركة الحضور، وفي كونه لا شك فيه نظر.

فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل ... وإن كان فيما فيه شيب الذوائب وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... بمغن فتيلا عن سواد بن قارب فلم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله أدنى المرسلين وسيلة، ولا قوله وكن لي شفيعاً. أقول: فيه كلام من وجوه: (الأول) : أن هذه القصة لا بد من بيان سندها حتى ينظر فيه، ودونه لا يعول عليها، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: وعن محمد بن كعب القرظي قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه قاعداً في المسجد إذ مر به رجل في مؤخر المسجد، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، أتعرف هذا الجائي؟ قال: لا، فمن هو؟ قال: هذا سواد بن قارب وهو من أهل اليمن، له فيهم شرف وموضع، وقد أتاه رئيه بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: علي به، فدعي به فقال: أنت سواد بن قارب؟ قال: نعم. قال: أنت الذي أتاك رئيك1 بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال فأنت على ما كنت عليه من كهانتك، فغضب غضباً شديداً وقال: يا أمير المؤمنين ما استقبلني بهذا أحد منذ أسلمت! فقال عمر: يا سبحان الله ما كنا عليه من الشرك أعظم مما كنت عليه من كهانتك، أخبرني بإتيان رئيك بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: نعم يا أمير المؤمنين، بينا أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان، إذ أتاني رئيى فضربني برجله وقال: قم يا سواد ابن قارب، فافهم واعقل إن كنت تعقل، إنه قد بعث رسول الله من لؤي بن غالب، يدعو إلى الله عزو جل وإلى عبادته، فذكر القصة بطولها، وفيها إنشاد سواد بن قارب قصيدته تجاه النبي صلى الله عليه وسلم التي فيها الأبيات المذكورة وفيها قال: ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بإسلامي فرحاً شديداً حتى رؤى ذلك في وجوههم، قال فوثب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إليه وإلتزمه وقال: قد كنت أحب أن أسمع هذا منك، رواه الطبراني، وفي رواية عنده عن سواد بن قارب الأزدي قال: كنت نائماً على جبل من جبل السراة، فأتاني آت فضربني برجله، وقال فيه: أتيت مكة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد

_ 1 رئيك أي شيطانك الذي تراه، كما في النهاية.

ظهر، فأخبرته الخبر، وكلا الإسنادين ضعيف، اهـ. ما في المجمع. قلت: قد ثبت منه أن كلاً الإسنادين ضعيف، وفي المتن اضطراب، فتنبه. و (الثاني) أن قوله: "وإنك أدنى المرسلين وسيلة إلى الله" ليس نصاً على أن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه وسيلة، بل يحتمل أن يكون المراد أن قربته صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى أكثر من قربة سائر المرسلين إليه، كما أن المراد في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} . هي القربة بلا خلاف، وكذلك المراد بها في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} . أو يكون المراد بها الدرجة والمنزلة، فإذاً حاصله أن درجته صلى الله عليه وسلم ومنزلته أقرب إلى الله تعالى من درجة سائر المرسلين، ولو سلم أن المراد أن نفسه صلى الله عليه وسلم وسيلة لنا فلا دليل فيه للتوسل المنهي عنه، فإن كونه صلى الله عليه وسلم وسيلة بمعنى أنه صلى الله عليه وسلم واسطة تبلغنا أمر الله حق لا ينكره أحد، فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه وما أمر به ونهى عنه، ولا يعرفون ما يستحقه من أسمائه الحسنى وصفاته العلى إلا بالرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده، وكذلك كونه صلى الله عليه وسلم وسيلة في حياته بأن الصحابة رضي الله عنهم متى صدر من أحدهم معصية وذنب جاء إليه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله فعلت كذا وكذا، فاستغفر لي، وإليه الإشارة في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} . وكذلك إذا وقع القحط في زمانه صلى الله عليه وسلم يأتي أحدهم فيقول: يا رسول الله هلكت المواشي وتقطعت السبل، فادع ... وهكذا يطلبون الدعاء مه صلى الله عليه وسلم في سائر حاجاتهم كشفاء المريض ورد البصر. وكذلك كونه صلى الله عليه وسلم وسيلة يوم القيامة حيث يحبس المؤمنون يوم القيامة حتى يهموا بذلك فيقولن: لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من مكاننا، فيأتون آدم فنوحاً فإبراهيم فموسى فعيسى فيقول: ائتوا محمداً عبداً غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم كما في حديث الشفاعة الطويل "فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه1 ". الحديث، ولكن

_ 1 قوله: "في داره فيؤذن لي عليه" ذكر الحافظ في شرح حديث أنس من كتاب الرقاق في البخاري: أن هذه العبارة من زيادة همام في روايته للحديث. أقول وفسروا داره هنا بحضرة قدسه، وبعضهم بالجنة من قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} . بناء على القول بأن السلام هنا اسم الله عز وجل، وذكر الحافظ ما قيل في الحكمة في انتقال النبي صلى الله عليه وسلم من مكانه إلى دار السلام، وهي أن أرض الموقف مكان مخافة وإشفاق ومقام الشافع يناسب أن يكون في مكان إكرام. وكتبه محمد رشيد رضا.

الكلام في التوسل بأن يقال: اللهم إني أسألك بحق محمد صلى الله عليه وسلم وهو لا يثبت من قوله "وإنك أدنى المرسلين وسيلة". و (الثالث) أن طلب الشفاعة منه يوم القيامة لا يجحده مسلم، نعم لا يكون إلا بإذن الله تعالى كما جاء مصرحاً في الكتاب العزيز والسنة المطهرة، فليس في قول "وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة" دليل على مطلوب الخصم. قوله: وكذا من أدلة التوسل مرثية صفية رضي الله عنها عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها رثته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم بأبيات فيها قولها: ألا يا رسول الله أنت رجاؤنا ... وكنت بنا براً ولم تك جافيا ففيها النداء بعد وفاته مع قولها، "وأنت رجاؤنا" وسمع تلك المرثية الصحابة رضي الله عنهم فلم ينكر عليها أحد قولها "يا رسول الله أنت رجاؤنا". أقول: قال في مجمع الزوئد: وعن عروة قال قالت صفية بنت عبد المطلب ترثي رسول الله صلى الله عليه وسلم: لهف نفسي وبت كالمسلوب ... أرقب الليل لعلة المحروب وذكر المرثية بطولها ثم قال: وقالت أيضاً: ألا يا رسول الله كنت رجاءنا ... وكنت بنا براً ولم تك جافيا وذكر هذه المرثية أيضاً بطولها ثم قال: رواه الطبراني وإسناده حسن1 هذا

_ 1 أنى له الحسن وعروة ولد بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بتسع عشرة سنة، فإنه ولد سنة 29هـ كما في التهذيب ونحوه، فإذا كانت روايته عن أبيه مرسلة فكيف روايته عن أم أبيه في قصة وفاة رسول الله التي ولد بعدها بتسع عشرة سنة؟ فهي رواية منقطعة مرسلة، اه‍ـ وكتبه مصححه.

لفظ مجمع الزوائد، قلت: هذه المرثية وإن كان إسنادها حسناً ولكن ليس فيها دليل على التوسل المنهي عنه، فإن لفظ الرجاء بمعنى التوقع والأمل، قال في مجمع البحار: وتكرر فيه الرجاء بمعنى التوقع والأمل، وقال في النهاية: وقد تكرر فيه ذكر الرجاء بمعنى التوقع والأمل، يقال رجوته أرجوه رجواً ورجاءً وجاوة، وقال في القاموس: الرجاء ضد اليأس كالرجو والرجاءة والرجاوة والترجي والارتجاء والترجية، وقال في الصحاح: والرجاء من الأمل ممدود يقال رجوت فلاناً رجواً ورجاء ورجاوة اهـ. وقال في المصباح المنير: رجوته أرجوه رجواً على فعول: أملته أو أردته، قال تعالى: {لا يَرْجُونَ نِكَاحاً} . أي لا يريدونه، والاسم الرجاء بالمد. اهـ. ولا يخفاك1 أن الرجاء بمعنى التوقع والأمل مصدر أو اسم مصدر لا يصح حمله على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموطأة، فإذاً هو إما مبني للفاعل أو للمفعول، لا سبيل إلى الاحتمال الأول وهذا ظاهر، فتعين الثاني، كما في قوله تعالى في سورة هود: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا} . قال البيضاوي تحت هذه الآية: لما نرى فيك من مخايل الرشد والسداد، أن تكون لنا سيداً ومستشاراً في الأمور، وفي فتح البيان: أي كنا نرجو أن تكون فينا سيداً مطاعاً ننتفع برأيك، ونسعد بسعادتك، لما نرى فيك من مخايل الرشد والسداد، لأنه كان من قبيلتهم، وكان يعين ضعيفهم، ويغني فقيرهم. اهـ. ولكن لا بد من أن يعلم هناك أن من الرجاء ما هو مختص بالله تعالى بمعنى أن المرجو فيه لا يصلح إلا لله تعالى كرجاء كشف الضر والسوء وتحويله وإجابة المضطر إذا دعاه، وإنزال الماء من السماء وشفاء المريض وبسط الرزق وإعطاء الأولاد ومغفرة الذنوب، وغيرهما مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، وهذا الرجاء هو الذي أثنى الله تعالى على فاعليه في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} . وهو الذي أمرنا الله أن ندعوه متلبساً به2 حيث قال: {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً} . فعبر عن الرجاء بالطمع.

_ 1 الصواب: لا يخفى عليك. 2 الصواب ملتبسين به.

وهو الذي نهى يعقوب عليه السلام بنيه عن ارتكاب ضده وقد حكاه الله تعالى في كتاب العزيز في قوله: {وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} وهو الذي أثنى الله تعالى على زكريا عليه السلام وزوجه فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} وهو الذي ذكر إبراهيم عليه السلام في ثناء الله تعالى: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} وهو الذي ذكره الله تعالى في وصف المؤمنين فقال: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} وهو الذي نهى الله تعالى عن ضده فقال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} والنهي عن ضد الشيء يقتضي الأمر بذلك الشيء كما تقرر في مقره، وهو الذي أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم به فقال: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} وهو الذي أمر رسول الله أمته بتعظيمه في الدعاء فقال: "إذا دعاء أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت، ولكن ليعزم وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه" رواه مسلم من حديث أبي هريرة. وعنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة" رواه الترمذي، قال العلماء: أي كونوا موقنين بأنه تعالى يجيب الدعاء، لأن فيه صدق الرجاء، والكريم لا يخيب راجيه، وهو المراد في الحديث القدسي: "أنا عند ظن عبدي بي". متفق عليه من حديث أبي هريرة، قال العلماء: الأصح أنه أراد الرجاء وتأميل العفو، فإن ظن العفو فله ذلك، وإن ظن العقوبة فكذلك، وفي حديث قدسي آخر: "يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي". رواه الترمذي من حديث أنس، وهو المراد في الدعاء المأثور: "اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين". رواه أبو داود من حديث أبي بكرة، وفي الدعاء الذي يقرأ إذا أوى إلى فراشه: "اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبت ورهبة إليك" الحديث. متفق عليه من حديث البراء بن عازب. وأخرج ابن أبي شيبة من طريق المسور بن مخرمة قال: كانت تلبية عمر، فذكر

مثل المرفوع وزاد: لبيك مرغوباً ومرهوباً ذا النعماء والفضل الحسن، كذا في الفتح. وهو الذي ينبغي للمكلف أن يكون بينه وبين الخوف حتى لا يكون مفرطاً في الرجاء بحيث يصير من المرجئة القائلين لا يضر مع الإيمان شيء، ولا في الخوف بحيث لا يكون من الخوارج والمعتزلة القائلين بتخليد صاحب الكبيرة -إذا مات من غير توبة- في النار، بل يكون وسطاً بينهما. أخرج الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال له: "كيف تجدك"؟ فقال: أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمعان في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه ما يرجو وأمنه مما يخاف" ورجاله كلهم ثقات غير جعفر بن سليمان الضبعي وسيار بن حاتم، والأول قال فيه ابن معين: ثقة وقال أحمد: لا بأس به، وقال ابن سعد: ثقة فيه ضعف، وقال الذهبي في الميزان: وهو صدوق في نفسه، وقال في الكاشف: ثقة، وقال الحافظ في التقريب: صدوق زاهد. وأما الثاني: فقال الذهبي في الميزان: صالح الحديث، وثقه وابن حبان: قيل للقورايري أتتهمه؟ قال: لا. وقال الحاكم: كان سيار عابد عصره، وقد أكثر عنه أحمد بن حنبل، وقال في الكاشف: صدوق، وقال الحافظ في التقريب: صدوق، له أوهام. اهـ. فالحديث صالح لأن يحتج به. واحتج البخاري على الرجاء مع الخوف بحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعاً وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحد، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار". وهو المراد في قول صلى الله عليه وسلم الذي قاله قبل موته بثلاثة أيام: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله". رواه مسلم من حديث جابر. وهو المراد في حديث أنس المروي بسند ضعيف قال: لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم سفراً قط إلا قال

حين ينهض من جلوسه: "اللهم بك انتشرت1، وإليك توجهت، وبك اعتصمت، اللهم أنت ثقتي وأنت رجائي، اللهم اكفني ما أهمني وما لا أهتم به وما أنت أعلم به مني، وزودني التقوى، واغفر لي ذنبي، ووجهني للخير حيث ما توجهت". رواه أبو يعلي، وفيه عمرو بن مساور وهو ضعيف، كذا في مجمع الزوائد، قال البخاري: منكر الحديث، وقال أبو حاتم: ضعيف، كذا في الميزان. هذا كله هو الرجاء المختص بالله تعالى، ومنه ما هو جائز في حق رسولنا صلى الله عليه وسلم في حياته بمعنى أن المرجو منه فيه يصلح للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما يقدر عليه الأنبياء عليهم السلام سيما نبينا صلى الله عليه وسلم من صلة الرحم، وحمل الكل، وكسب المعدوم، وقرى الضيف، والإعانة على نوائب الحق، والرحمة بالمؤمنين، والجود والشجاعة والبركة، وقضاء حوائج الأرملة والمساكين واليتامى، وعدم انتقامه لنفسه في شيء قط، وعدم اللوم على شيء قط أتى فيه على يدي أحد، وعيادة المريض، واتباع الجنازة، وإجابة دعوة المملوك، والخلق العظيم، وتعليم الأمة الكتاب والحكمة وتزكيتهم، ودعوتهم إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وتبليغ رسالات الرب تعالى، ونصح الأمة، والاستغفار لهم عند صدور الذنوب عنهم، والدعاء لهم في حاجاتهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وإعلاء كلمة الله، والجهاد مع أعداء الله، وتعظيم شعائر الله، وإعزاز المؤمنين، وإذلال الكافرين، وغير ذلك. وأما كونه صلى الله عليه وسلم رجاء بمعنى المرجو بعد الموت فما ثبت منه بالكتاب والسنة المطهرة فهو على الرأس والعين كالشفاعة يوم القيامة، وأما ما لم يثبت بواحد منهما فهو مردود. إذا تقرر هذا فاعلم أن معنى ما في المرثية: إنا كنا نرجو برك ورحمتك وشفقتك، يدل عليه قولها: "وكنت بنا براً ولم تكن جافياً، وقولها: "وكان بنا براً رحيما نبينا".

_ 1 في الأصل المطبوع في الهند: "أنتشر" وهو غلط، والانتشار الانبساط والتمدد والتفرق، وهو معنى قوله تعالى: {فَانْتَشِرُوا} في سورتي الأحزاب والجمعة، وفسر ابن الأثير "انتشرت" هنا: بابتدأت سفري الخ. وكتبه محمد رشيد رضا.

والبر والرحمة والشفقة مما يقدر عليه النبي صلى الله عليه وسلم في حياته فيجوز رجاء البر والرحمة والشفقة منه صلى الله عليه وسلم، فيكون صلى الله عليه وسلم على هذا مرجوا منه، والبر والرحمة والشفقة مرجوا فيكون الرجاء في الشعر بمعنى المرجو الذي أريد منه المرجو منه وإرادة المرجو منه من المرجو ثابتة كما في قوله تعالى: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً} ويمكن أن يقال: إن المراد بالرجاء في البيت المرجو، ويقدر التمييز، أي كنت مرجونا براً ورحمة وأمناً من الهرج الآتي بعدك، وبقاء فينا كما في طاب زيد علماً ودارا وغلاماً وفرساً، فالمرجو منه في الأولين هو النبي صلى الله عليه وسلم وفي الأخيرين هو الله تعالى، ويدل على الأخيرين قولها: لعمرك ما أبكي النبي لموته ... ولكن لهرج كان بعدك آتيا وقولها: فلو أن رب العرش أبقاك بيننا ... سعدنا ولكن أمره كان ماضياً ويؤيد الأخير قول عمر رضي الله عنه حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة: وقال عمر والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك، وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، رواه البخاري، من حديث عائشة رضي الله عنها، وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت حتى يفني الله المنافقين، رواه أحمد من طريق يزيد بن بابنوس عن عائشة رضي الله عنها. وفي حديث ابن عمر عند ابن أبي شيبة أن أبا بكر مر بعمر وهو يقول: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يموت حتى يقتل الله المنافقين، وكانوا أظهروا الاستبشار ورفعوا رؤوسهم، كذا في فتح الباري، وفي رواية: والله إني لأرجو أن يقطع أيدي رجال وأرجلهم، ذكره الطبري في الرياض، وفي رواية: ولكني كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا، ذكره الوائلي أبو نصر عبد الله في كتاب (الإبانة) ، كذا في المواهب. قلت: والرواية الأخيرة موجودة في صحيح البخاري من حديث أنس رضي الله

عنه نصه في كتاب الأحكام (باب الاستخلاف) هكذا قال: كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا، يريد بذلك أن يكون آخرهم. فقد علم مما ذكرنا أن عمر أيضاً كان يرجو بقاء النبي صلى الله عليه وسلم في أمته مثل صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها، بل وأكثر الصحابة كأنهم كانوا يرجون ما يرجو عمر رضي الله عنه. قال الحافظ في الفتح: وفي الحديث قوة جأش أبي بكر وكثرة علمه، وقد وافقه على ذلك العباس كما ذكرنا، والمغيرة كما رواه ابن سعيد، وابن أم مكتوم كما في المغازي لأبي الأسود عن عروة قال: أنه كان يتلو قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} والناس لا يلتفتون إليه، وكان أكثر الصحابة على خلاف ذلك اهـ. وفي حديث ابن عباس عند البخاري: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها الناس منه كلهم، فما أسمع بشراً من الناس إلا يتولها. اهـ. وجملة القول أن المراد في مرثية صفية رضي الله عنها ليس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء في كل أمر في الحياة، بل في الأمر الذي يقدر عليه، وبعد الوفاة في الأمر الذي ثبت بالكتاب العزيز والسنة المطهرة كونه رجاء فيه، ففي هذه المرثية لا دلالة على التوسل الذي يمنعه المانعون أصلاً ومن ادعى إثبات التوسل المذكور منها فعليه البيان.

تحريف دحلان لكلمة صفية

تحريف دحلان لكلمة صفية ... وليعلم أن الوارد في المرثية "كنت رجاءنا" كذا في مجمع الزوائد، ولقد حرفه صاحب الرسالة حيث كتب "أنت" بدل "كنت" ليدل هذا اللفظ على أن كونه صلى الله عليه وسلم رجاء غير مقيد بالحياة، بل هو رجاء مطلقاً في الحياة وبعد الممات فصار مصداقاً لقول الله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} ، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} .

وأما استدلال صاحب الرسالة بتلك المرثية على جواز النداء بعد وفاته فجوابه من وجوه: (الأول) : أن "يا" هنا للندبة لا للنداء كما في قول فاطمة رضي الله عنها: يا أبتاه، أجاب ربا دعاه، يا أبتاه، من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبرائيل ننعاه، رواه البخاري من حديث ثابت بن أنس، وكما في قول الصديق رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا نبي الله، لا يجمع الله عليك موتتين، رواه البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها. وفي رواية يزيد بن بابنوس عن عائشة عند أحمد أنه أتاه من قبل رأسه فحدر فاه فقبل جبهته ثم قال: وانبياه، ثم رفع رأسه فحدر فاه وقبل جبهته ثم قال: واصفياه، ثم رفع رأسه فحدر فاه وقبل جبهته وقال: واخليلاه. كذا في المواهب. ومنه قول علي رضي الله عنه حين توفي عمر رضي الله عنه وقد وضع على سريره: يرحمك الله، إن كنت لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك، لأني كثيراً ما كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كنت وأبو بكر وعمر، وفعلت وأبو بكر وعمر، وانطلقت وأبو بكر وعمر، فأني كنت لأرجو أن يجعلك الله معهما. رواه البخاري من حديث ابن عباس، وبعين ما ذكرناه كونها واقعة في الرثاء. و (الثاني) : أنه لو سلم أنه نداء، فالنداء قد يراد به غير المنادى، قال الحافظ في الفتح تحت حديث: "إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون": وفيه وقوع الخطاب للغير وإرادة غيره بذلك، وكل منهما مأخوذ من مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم ولده، مع أنه في تلك الحالة لم يكن ممن يفهم الخطاب بوجهين: أحدهما صغره، والثاني نزعه، وإنما أراد بالخطاب غيره من الحاضرين إشارة إلى أن ذلك لم يدخل في نهيه السابق. اه‍ـ. ومن هذا القبيل ما روي عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل الليل قال: "يا أرض، ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك وشر ما خلق فيك وشر ما يدب عليك". رواه أبو داود.

ومنه ما روي عن قتادة بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال: "هلال خير ورشد، هلال خير ورشد، هلال خير ورشد. آمنت بالذي خلقك" ثلاث مرات. رواه أبو داود. ومنه ما روي عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من رجل رأى مبتلى فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به" رواه الترمذي والبزار والطبراني في الصغير والأوسط بنحوه وإسناده حسن. كذا في مجمع الزوائد. ومنه ما روي عن طلحة بن عبيد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال: "اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، ربي وربك الله". رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب. وعن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال قال: "اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام والتوفيق لما تحب وترضى، ربنا وربك الله". رواه الطبراني، وفيه عثمان بن إبراهيم الحاطبي وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات. وعن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه إذا كان إذا رأى الهلال قال: "هلال خير ورشد، آمنت بالذي خلقك فعدلك" رواه الطبراني في الأوسط، وفيه أحمد بن عبسى اللخمي ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. كذا في مجمع الزوائد. ومنه ما روي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة: "ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك". رواه الترمذي. ومنه قول عمر رضي الله عنه: إني لأعلم أنك حجر ما تنفع ولا تضر ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك، متفق عليه من حديث عابس بن ربيعة. و (الثالث) : أنه لو سلم أن المراد به المنادى فالنداء مجازي كنداء السماء والجبال

والأرض والأطلال والمنازل والمطايا والقبور، والمانعون إنما يمنعون النداء الحقيقي. و (الرابع) : أنه لو سلم ثبوت النداء منها فلا يثبت منه مطلوب الخصم، فإن النزاع إنما هو في نداء يتضمن الدعاء والطلب، بأن يقول: يا رسول الله اكشف عني السوء واشف مريضي، أو يقول: يا رسول الله ادع الله أن يشفي مريضي ويكشف عني السوء، فالمانعون يقولون: الأول شرك، والثاني بدعة، والمجوزون يجوزونهما، وليس في المرثية دعاء شيء ولا طلبه. قوله: قال العلامة ابن حجر في كتاب المسمى (بالخيرات الحسان في مناقب الإمام أبي حنيفة النعمان) : في الفصل الخامس والعشرين: إن الإمام الشافعي أيام هو ببغداد كان يتوسل بالإمام أبي حنيفة –إلى قوله- فليتوسل إلى الله تعالى بالإمام الغزالي. أقول: فيه كلام من وجهين: (الأول) : أنه لابد من رفع هذه الأمور إلى أصحابها بسند يعتمد عليه، ودونه لا يسمع، قال في (تبعيد الشيطان) : والحكاية المنقولة عن الشافعي أنه كان يقصد الدعاء عند قبر أبي حنيفة من الكذب الظاهر. اهـ. و (الثاني) : أن أقوال هؤلاء المذكورين وأفعالهم وتقريراتهم ليست من الحجة في شيء. قوله: وذكر العلامة ابن حجر في كتابه المسمى (بالصواعق المحرقة لإخوان الضلال والزندقة) : إن الإمام الشافعي رحمه الله توسل بأهل البيت النبوي حيث قال: آل النبي ذريعتي ... وهم إليه وسيلتي أرجو بهم أعطى غداً ... بيدي اليمين صحيفتي أقول: فيه كلام من وجوه: (الأولان منها) : هما اللذان ذكرا في القول الذي قبله.

و (الثالث) : أن المضاف هنا مقدر، تقدير الكلام إن حب آل النبي وتعظيمهم واتباعهم وشفاعتهم والصلاة عليهم ذريعتي ووسيلتي، وكذلك في قوله أرجو بهم أي أرجو بحبهم وتعظيمهم واتباعهم وشفاعتهم، كما في قول عمر رضي الله عنه: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون، فإن المراد إنا كان نتوسل إليك بدعاء نبينا. قوله: وذكر العلامة السيد طاهر بن محمد بن هاشم باعلوي في كتابه المسمى (مجمع الأحباب في ترجمة الإمام أبي عيسى الترمذي صاحب السنن) أنه رأى في المنام –إلى قوله- فكان الإمام الترمذي يقول ذلك دائماً بعد صلاة سنة الصبح، ويأمر أصحابه به ويحثهم على فعله وعلى المواظبة عليه. أقول: فيه كلام من وجوه: (الأولان) هما اللذان ذكرا فيما تقدم. و (الثالث) : أن الرؤيا ليست من الأدلة الشرعية في شيء. قوله: بل هذا الأمر –أعني التوسل- لم ينكره أحد من السلف والخلف، حتى جاء هؤلاء المنكرون. أقول: هذا كذب جلي، فهذا الإمام الأعظم يقول: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به وقال: أكره أن يقول بحق فلان وبحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام وهو قول صاحبيه، وعن الحنابلة في أصح القولين أنه مكروه. قوله: وفي (الأذكار) : للإمام النووي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يقول العبد بعد ركعتي الفجر ثلاثاً "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ومحمد صلى الله عليه وسلم أجرني من النار". أقول: فيه خلل من وجوه: (الأول) : أن هذا القسم من التوسل لا ننكره، فإنه داخل في القسم الخامس من التوسل المشروع كما تقدم ذكره، وهذا ثابت من حديث عائشة قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته: "اللهم رب جبرائل وميكائيل وإسرافيل" الحديث، رواه مسلم في صلاة الليل، والنسائي في كتاب قيام الليل.

والترمذي في أبواب الدعوات، وأبو داود في باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء، وابن ماجه في باب ما جاء في الدعاء إذا قام الرجل من الليل، وهذا حديث صحيح فلا وجه للعدول عنه إلا الذي ذكر فإن فيه كلام سيذكر. و (الثاني) : أن في ذكر هذه الراوية تحريفاً بيناً يظهر بنقل لفظ الأذكار فأقول: نص الأذكار هكذا: روينا في كتاب ابن السني عن أبي المليح واسمه عامر بن أسامة عن أبيه رضي الله عنه أنه صلى ركعتي الفجر، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى قريباً منه ركعتين خفيفتين، ثم سمعته يقول وهو جالس: "اللهم رب جبرائيل واسرافيل وميكائيل ومحمد النبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بك من النار" ثلاث مرات. اهـ. بلفظه فليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يقول العبد بعد ركعتي الفجر ثلاثاً، إنما فيه رواية فعله صلى الله عليه وسلم وليس فيه أجرني من النار، إنما هو أعوذ بك من النار، وفيه تقديم إسرافيل على ميكائيل. و (الثالث) : أن صاحب الحصن الحصين وصاحب مجمع الزوائد وغيرهم ذكروا هذا الحديث ولم يذكر واحد منهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا لفظ: أجرني من النار، فها أنا أنقل عباراتهم ليظهر أن هذا من اختلاق مؤلف الرسالة: قال محمد بن محمد الجزري الشافعي في الحصن الحصين: ويقول وهو جالس: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ومحمد النبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بك من النار" ثلاث مرات. مس ي. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: وعن أسامة بن عمير أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتي الفجر فصلى ركعتين خفيفتين، فسمعته يقول: "رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ومحمد أعوذ بك من النار –ثلاث مرات- رواه الطبراني في الكبير، وفيه عباد بن سعيد قال الذهبي: عباد بن سعيد عن مبشر لا شيء، قلت: قد ذكره ابن حبان في الثقات. اهـ. وقال في (نزل الأبرار) عن أسامة بن عمير أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتي الفجر وأن رسول الله صلى قريباً منه ركعتين خفيفتين ثم سمعته يقول وهو جالس: "اللهم

رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ومحمد، أعوذ بك من النار" أخرجه ابن السني والحاكم في المستدرك بدون قوله: وهو جالس. وصححه. وأخرجه الطبراني في الكبير أيضاً. اهـ. و (الرابع) : أن هذا الحديث وإن صححه الحاكم يعلم من كلام الحافظ ابن حجر أنه حسن، قال الحافظ بعد تخريجه: حديث حسن أخرجه الدراقطني في الأفراد وقال: تفرد به مبشر وهو بضم الميم وفتح الموحدة وكسر المعجمة، ذكره ابن حبان في الثقات، واسم أبي المليح عامر وهو من رجال الصحيح، وأما عباد بن سعيد -أي الراوي عن مبشر- فلم أر فيه جرحاً ولا تعديلاً، إلا أن ابن حبان ذكر في الثقات عباد ابن سعيد ولم يذكر ما يتميز به، أخرج هذا الحديث الحكام في (المستدرك) من طريق آخر. قال الحافظ: ووجدت للحديث شاهداً من حديث عائشة بسند ضعيف في سنده من هو متروك ومن فيه مقال: قال: وأبو المليح إن كان هو ابن أسامة المذكور أولا فقد اختلف عليه في إسناده، وإن كان غيره فهو مجهول. اهـ. كذا نقله ابن علان في شرح الأذكار، لكنه لا يخلو عن كلام، وله وجوه: (الأول) : أن أبا المليح إن كان هو ابن أسامة فقد اختلف عليه في إسناده كما قال الحافظ، فيكون الحديث مضطرباً، وإن كان غيره فهو مجهول، وعلى كلا التقديرين يكون الحديث ضعيفاً. و (الثاني) : أن في سنده مبشراً فإن كان هو ابن عبيد الحمصي فهو واه جداً، قال الذهبي في الميزان قال أحمد: كان يضع الحديث، وقال البخاري: روي عنه بقية، منكر الحديث اهـ. وقال الحافظ في التقريب: مبشر بن عبيد الحمصي أبو حفص كوفي الأصل متروك، رماه أحمد بالوضع اهـ. وفي التهذيب قال أحمد: يضع الحديث، وقال الدارقطني متروك اهـ. كذا نقله بعض الثقات وقال في الكاشف: مبشر بن عبيد الحمص عن قتادة وزيد بن أسلم والزهري وعنه أبو المغيرة وأبو اليمان تركوه اهـ. وإن كان غيره فلا بد من تعيينه وتوثيقه.

و (الثالث) : أن فيه عباد بن سعيد، قال الذهبي في الميزان: عباد بن سعيد بصري مقل روى عن مبشر، لا شي. اهـ. قلت: ذكره ابن حبان في الثقات قاله الحافظ ابن حجر والهيثمي، ولكن هذا التوثيق لا يعارض قول الذهبي: لا شيء، فإن ابن حبان معروف بالاحتجاج بمن لا يعرف كما تقدم. قال ابن عبد الهادي في (الصارم المنكي) : وقد علم أن ابن حبان ذكر في هذا الكتاب الذي جمعه في الثقات عدداً وخلقاً عظيماً من المجهولين الذين لا يعرف هو ولا غيره أحوالهم، وقد صرح ابن حبان بذلك في غير موضع من هذا الكتاب فقال في الطبقة الثالثة: سهل يروى عن شداد بن الهادى، روى عنه أبو يعقوب، ولست أعرفه ولا أدري من أبوه، هكذا ذكر هذا الرجل في كتاب الثقات، ونص على أنه لا يعرفه. وقال أيضاً: حنظلة شيخ يروى المراسيل لا أدري من هو؟ روى ابن المبارك عن إبراهيم بن حنظلة عن أبيه، هكذا ذكره لم نرو1. وقال أيضاً. الحسن أبو عبد الله شيخ يروى المراسيل، روى عنه أيوب النجار لا أدري من هو ولا ابن من هو؟ وقال أيضاً: جميل شيخ يروى عن أبي المليح بن أسامة يروي عنه عبد الله ابن عون لا أدري من هو ولا ابن من هو؟ وقد ذكر ابن حبان في هذا الكتاب خلقاً كثيراً من هذا النمط، وطريقه فيه أن يذكر من لم يعرفه بجرح وإن كان مجهولاً لم يعرف حاله. وينبغي أن يتنبه لهذا ويعرف أن توثيق ابن حبان للرجل بمجرد ذكره في هذا الكتاب من أدنى درجات التوثيق. اهـ. وليعلم أن الحديث روي من طريق أخر عن عائشة أشار إليها الحافظ، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الركعتين قبل الفجر ثم يقول: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل ورب إسرافيل ورب محمد، أعوذ بك من النار". ثم يخرج إلى الصلاة، رواه أبو يعلي، وفيه عبيد الله بن أبي حميد وهو متروك كذا في مجمع الزوائد، قال

_ 1 كذا في الأصل.

الذهبي في الميزان: عبيد الله بن أبي حميد أبو الخطاب عن أبي المليح الهذلي ضعفه محمد ابن المثني، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك، وقال أحمد: ترك الناس حديثه، وقال دحيم: ضعيف، وقال البخاري: يروى عن أبي المليح عجائب. انتهى. وأيضاً عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الركعتين قبل صلاة الفجر ثم يقول: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل ورب إسرافيل ورب محمد، أعوذ بك من النار". ثم يخرج إلى الصلاة" قلت رواه النسائي بنحوه من غير تقيد بركعتي الفجر، ورواه أبو يعلي عن شيخه سفيان بن وكيع وهو ضعيف، كذا في مجمع الزوائد. قال الذهبي في الميزان: سفيان بن وكيع بن الجراح أو بمحمد الرؤاسي قال البخاري: يتكلمون فيه لأشياء لقنوه إياه، وقال أبو زرعة: يتهم بالكذب، وقال ابن أبي حاتم: أشار أبي عليه أن يغير وراقه فإنه أفسد حديثه، وقال له: لا تحدث إلا من أصولك، فقال سأفعل، ثم تمادى وحدث بأحاديث أدخلت عليه، وقد ساق له أبو أحمد خمسة أحاديث منكرة السند لا المتن ثم قال: وله حديث كثير، وإنما بلاؤه أنه كان يتلقن، يقال: كان له وراق يلقنه من حديث موقوف فيرفعه، أو مرسل يوصله، أو يبدل رجلاً برجل. وقال ابن حبان: كان شيخاً فاضلاً صدوقاً، إلا أنه ابتلي بوراق سوء كان يدخل عليه، فكلم في ذلك فلم يرجع، وكان ابن خزيمة يروى عنه، سمعته يقول حدثنا بعض من أمسكنا عن ذكره، وهو من الضرب الذي ذكرته مراراً أن لو خر من السماء فتخطفه الطير أحب إليه من أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أفسدوه، وما كان ابن خزيمة يحدث عنه إلا بالحرف بعد الحرف. قلت: روى عن أبيه وجرير وعبد السلام ابن حرب، وعنه أبو عروبة وابن صاعد وخلق، وقد حسن له الترمذي. اهـ. ملخصاً. قلت: رواه النسائي بنحوه من غير تقيد بركعتي الفجر كما قال الهيثمي، ولفظ

النسائي في كتاب الاستعاذة هكذا: أخبرنا أحمد بن حفص قال: حدثني أبي قال: حدثني إبراهيم عن سفيان بن سعيد عن أبي حسان عن جسرة عن عائشة رضي الله عنها أنا قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل ورب إسرافيل، أعوذ بك من حر النار وعذاب القبر".اه‍. فليس فيه التقيد بركعتي الفجر ولا لفظ محمد، وفيه زيادة لفظ حر وعذاب القبر، وهذه الرواية رجال سندها كلهم ثقات غير جسرة بنت دجاجة، قال البيهقي: فيها نظر، وقال ابن حبان فيما نقله أبو العباس البناني: عندها عجائب، وقال البخاري في تاريخه: عندها عجائب، وأما أحمد فقال في صاحبها فليت العامري: لا أرى به بأساً، وقال أحمد العجلي: جسرة تابعية ثقة، فقوله عندها عجائب ليس بصريح في الجرح، كذا في الميزان، وقال الحافظ في التقريب: مقبولة من الثالثة، وقال في الخلاصة: وثقها العجلي، وقال الذهبي في الكاشف: ثقة، فالراجح أنها ثقة، لكن فيها سفيان الثوري وهو مدلس وقد عنعن هذا الحديث فلا يقبل. وجملة الكلام أن هذا الحديث لا يخلو طريق من طرقه من مقال، فالأولى الاستدلال في ذلك الباب بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته فقال: "اللهم رب جبرائيل" الحديث فإنه في صحيح مسلم وصحيح ابن حبان وسنن النسائي الصغرى التي يقال لها (المجتبى) وهي التي قال النسائي في حقها: صحيح كلها، وأطلق اسم الصحة عليها أبو علي النيسابوري وأبو أحمد بن عدي وأبو الحسن الدارقطني وأبو عبد الله الحاكم وابن منده وعبد الغني بن سعيد وأبو يعلي الخليلي وأبو علي بن السكن وأبو بكر الخطيب وغيرهم. وقال سعد بن علي الريحاني: إن لأبي عبد الرحمن شرطاً في الرجال أشد من شرط البخاري ومسلم. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وسكت عليه أبو داود، ورجال سنده كلهم ثقات من رجال الصحيحين، غير عكرمة بن عمار فإنه من رجال مسلم

فقط، وهو ممن اختلف فيه، قال الحافظ في التقريب: عكرمة بن عمار العجلي اليمامي أصله من البصرة، صدوق يغلط، وفي روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطراب، ولم يكن له كتاب. انتهى. وقال الذهبي في الميزان: عكرمة بن عمار الحنفي اليمامي عن هرماس وطاوس وطائفة، وعنه شعبة ويحيى القطان وعبد الرازق وخلق، وهو ثقة إلا في يحيى بن أبي كثير فمضطرب، وكان مجاب الدعوة. اهـ. وقال في الخلاصة: عكرمة بن عمار الحنفي العجلي أبو عمار اليمامي أحد الأئمة، عن الهرماس بن زياد ثم عن عطاء وطاوس وعن شعبة والسفيانين ويحيى القطان وابن المبارك وابن مهدي وخلق، وثقة ابن معين والعجلي، وتكلم البخاري وأحمد والنسائي في روايته عن يحيى بن أبي كثير، وأحمد في إياس بن سلمة. اهـ. وقال الذهبي في الميزان: عكرمة بن عمار أبو عمار العجلي اليمامي عن الهرماس بن زياد، وله رواية عن طاوس وسالم وعطاء ويحيى بن أبي كثير، وعنه يحيى القطان وابن مهدي وأبو الوليد وخلق، روى أبو حاتم عن ابن معين: كان أمياً حافظاً، وقال أبو حاتم: صدوق ربما يهم، وقال يعقوب بن أبي شيبة: حدثنا غير واحد سمعوا يحيى بن معين يقول: ثقة، وقال عاصم بن علي: كان مستجاب الدعوة، وقال يحيى القطان: أحاديثه عن يحيى بن أبي كثير ضعيفة، وقال أحمد بن حنبل: ضعيف الحديث، وكان حديثه عن إياس بن سلمة صالحاً، قال الحاكم: أكثر مسلم الاستشهاد به، قال البخاري: لم يكن له كتاب فاضطرب حديثه عن يحيى، وقال أحمد: أحاديثه عن يحيى ضعاف ليست بصحاح، وقال محمد بن عثمان سمعت علياً يقول: عكرمة بن عمار كان عند أصحابنا ثقة ثبتاً اهـ، وقال الترمذي في جامعه: وعكرمة ربنا يهم في حديث يحيى. اه‍ـ. فقد علم من العبارات المذكورة أن الناس في عكرمة بن عمار مفترقون على فرقتين: منهم من يوثقه على الإطلاق كمسلم وابن حبان والترمذي وأبي داود وابن معين والعجلي وأبي حاتم وعلي بن عبد الله بن المديني، ومنهم من يوثقه في غير روايته

عن يحيى بن أبي كثير كالحافظ ابن حجر والذهبي والبخاري ويحيى القطان وأحمد، وإيراد النسائي في المجتبى حديثه يدل على أنه عنده ثقة على الإطلاق، وعبارة الخلاصة تدل على خلافه، فليفهم. وفي الباب عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال: بلى، قولي: اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي، واذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتنا" قلت: عند الترمذي بعضه، رواه أحمد وإسناده حسن، كذا في مجمع الزوائد. قوله: قال العلامة ابن علان في شرح الأذكار: خص هؤلاء بالذكر للتوسل بهم في قبول الدعاء، وإلا فهو سبحانه وتعالى رب جميع المخلوقات. أقول: هذه العبارة ليس لها أثر في شرح الأذكار، فهي من اختلاق صاحب الرسالة، فلننقل هنا لفظ ابن علان في شرح الأذكار بعينه: قال ابن علان في شرح الأذكار: إنما خصهم بالذكر –وإن كان تعالى رب كل شيء- بما تكرر في القرآن والسنة من نظائره من الإضافة إلى كل عظيم المرتبة وكبير الشأن دون ما يستحقر ويستصغر، فيقال له سبحانه: رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم، ورب الملائكة ورب المشرقين ورب المغربين، ونحوه مما هو وصف له بدلائل العظمة، وعظمة القدرة والملك، ولم يستعمل فيما يستحقر ويستصغر، فلا يقال: رب الحشرات وخالق القردة والخنازير وشبهها على سبيل الإفراد، وإنما يقال خالق المخلوقات، وحينئذ تدخل هذه في العموم. "وقال القرطبي: خص هؤلاء الملائكة بالذكر تشريفاً لهم إذ بهم ينتظم هذا الوجود إذ أقامهم الله تعالى في ذلك، قال في الحرز: والظاهر أن مراتب فضلهم على ترتيب ذكرهم. اهـ. وقال ابن الجزري في مفتاح الحصن: خصهم بالذكر وكذا رب العرش العظيم ونحوه من دلائل العظمة لعظمة شأنه فإنه رب كل شيء. اهـ. "وقد يقال أن حياة القلب بالهداية، وهؤلاء الثلاثة موكلون بالحياة: فجبريل بالوحي وهو سبب حياة القلب، وميكائيل بالقطر الذي هو سبب حياة الأبدان،

وإسرافيل بالنفخ في الصور الذي هو سبب حياة العالم وعود الروح إلى الأجساد، فالتوسل إلى الله سبحانه بربوبية هذه الأرواح العظيمة الموكلة بالحياة له تأثير عظيم في حصول الحاجات ووصول المهمات. هذا آخر ما في شرح الأذكار، فليس فيها ذكر التوسل بهم، إنما في الجملة الأخيرة ذكر التوسل بربوبية هذه الأرواح العظيمة، والربوبية صفة من صفات الله تعالى، والتوسل بصفة من صفات الله تعالى جائز بلا خلاف. على أن التخصيص بالذكر لا يدل على التوسل، ألا ترى إلى الآيات الكريمة التي فيها التخصيص بالذكر وأين هي من التوسل، منها ما قال الله تعالى في سورة التوبة: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} . ومنها ما قال تعالى في سورة المؤمنون: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} . ومنها ما قال في سورة النمل: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} . ومنها ما قال تعالى في سورة الزخرف: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} . ومنها ما قال تعالى في سورة بني إسرائيل: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} . ومنها ما قال تعالى في سورة الكهف: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . ومنها ما قال في سورة مريم: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} . ومنها ما قال تعالى في سورة طه: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} . ومنها ما قال تعالى في سورة ص: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} . ومنها ما قال تعالى في سورة الزمر: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . ومنها ما قال تعالى في سورة النجم: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} . ومنها ما قال تعالى في سورة الرحمن: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} ، ومنها ما قال تعالى في سورة المعارج: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} . ومنها ما قال تعالى في سورة المزمل: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} . ومنها ما قال تعالى في سورة الذاريات: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} .

ومنها ما قال تعالى في سورة النبأ: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} . ومنها ما قال تعالى في سورة قريش: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} . ومنها ما قال تعالى في سورة الفلق: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} . ومنها ما قال تعالى في سورة الناس: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} . وكذلك قد تكرر هذا التخصيص في السنة المطهرة: منها ما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله ب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم" رواه البخاري ومسلم. ومنها ما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل: "اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد أنت قيام السموات والأرض، ولك الحمد وأنت رب السموات والأرض ومن فيهن". الحديث رواه مسلم. ومنها ما روي عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا أخذنا مضجعنا أن نقول: "اللهم رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان" الحديث رواه مسلم والترمذي وقال حديث صحيح، ومنها ما روي عن أبي هريرة قال: قال أبو بكر قلت: يا رسول الله مرني بشيء أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت، قال: "قل اللهم عالم الغيب والشهادة فاطر السموات والأرض، رب كل شيء ومليكه" الحديث رواه الترمذي وأبو دواد والدارمي وقال الترمذي هذ حديث حسن صحيح، ومنها ما روي عن بريدة قال: شكا خالد بن الوليد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما أنام الليل من الأرق، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أويت إلى فراشك فقل: اللهم رب السموات السبع وما أظلت، ورب الأرضين وما أقلت، ورب الشياطين وما أضلت" الحديث رواه الترمذي وقال هذا حديث ليس إسناده بالقوي، ومنها ما روي عن أبي لبابة بن عبد المنذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد دخول قرية لم يدخلها حتى يقول: "اللهم رب السموات السبع وما أظلت، ورب الأرضين السبع وما أقلت، ورب الرياح وما أذرت، ورب

الشياطين وما أضلت، أني أسألك خيرها وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها وشر من فيها" رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن. وعن أبي مغيث بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أشرف على خيبر قال لأصحابه وأنا فيهم: "قفوا" ثم قال "اللهم رب السموات وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما ذرين، أسألك خير هذه القرية وخير أهلها، وأعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها، أقدموا بسم الله" وكان يقولها لكل قرية يريد يدخلها، رواه الطبراني وفيه راو لم يسم وبقية رجاله ثقات، كذا في مجمع الزوائد. وعن قتادة قال: كان ابن مسعود إذا أراد أن يدخل قرية قال: اللهم رب السموات وما أظلت، ورب الشياطين وما أضلت، ورب الرياح وما أذرت، أسألك خيرها، وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها، رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، إلا أن قتادة لم يدرك ابن مسعود، كذا في مجمع الزوائد. فبعض ما ذكرنا من الآيات والأحاديث ليس فيه الدعاء حتى يتوسل في إجابته، والبعض الآخر وإن كان فيه دعاء لكن ما أضيف إليه الرب لا يصلح لأن يتوسل به عند أحد من عقلاء المسلمين –كالفلق والشياطين والرياح- فالتخصيص بالذكر فيما هنالك ليس للتوسل، بل بوصفه تعالى بدلائل العظمة، وعظيم القدرة والملك. قال النووي: قال العلماء خصهم بالذكر وإن كان تعالى رب كل المخلوقات كما تقرر في القرآن والسنة من نظائره من الإضافة إلى كل عظيم المرتبة وكبير الشأن، دون ما يستحقر ويستصغر، فيقال له سبحانه وتعالى: رب السموات ورب العرش الكريم ورب الملائكة والروح، رب المشرقين ورب المغربين، رب الناس ملك الناس إله الناس، رب العالمين رب كل شيء رب النبيين، خالق السموات والأرض، فاطر السموات والأرض، جاعل الملائكة رسلاً –فكل ذلك وشبهه وصف له سبحانه بدلائل العظمة وعظيم القدرة والملك، ولم يستعمل ذلك فيما يحتقر ويستصغر فلا يقال رب الحشرات وخالق القردة والخنازير وشبه ذلك على الإفراد وإنما يقال

خالق المخلوقات، وخالق كل شيء، وحينئذ تدخل هذه في العموم. اهـ. وقد ذكر هذا الوجه ابن علان أيضاً في شرح الأذكار، فما بال صاحب الرسالة يعزو إلى ابن علان ما لم يذكره ولا ينقل ما ذكره في توجيه التخصيص؟ وهل هذه إلا خيانة في الدين؟ وليعلم أن قول النووي: لم يستعمل ذلك فيما يحتقر ويستصغر، ليس على عمومه، فإنه قد ورد في الحديث: "رب الشياطين وما أضلت" فافهم1. قوله: وفي شرح حزب البحر للإمام زروق قال بعد ذكر كثير من الأخيار: اللهم إنا نتوسل إليك بهم فإنهم أحبوك. أقول: قول أحد من الناس غير النبي صلى الله عليه وسلم ليس بحجة. قوله: ولبعض العارفين دعاء مشتمل على قوله: اللهم رب الكعبة وما بناها، وفاطمه وأبيها، وبعلها وبنيها، نور بصري. أقول: فيه ما ذكر من أن قول غير النبي صلى الله عليه وسلم ليس دليلاً شرعياً، من أن أمثال هذا الدعاء لا يمنعها أحد، وأن كان كون هذا التركيب دالا على التوسل محل بحث كما قد بيناه آنفاً من أن الإضافة إلى كل عظيم المرتبة وكبير الشأن إنما هي لإظهار عظمة شأنه تعالى لا للتوسل بما أضيف إليه الرب. قوله: فكما أن الله تعالى جعل الطعام والشراب سببين للشبع والري لا تأثير لهما، والمؤثر هو الله تعالى وحده، وجعل الطاعة سبباً للسعادة ونيل الدرجات، وجعل أيضاً التوسل بالأخيار الذين عظمهم الله تعالى وأمر بتعظيمهم سبباً لقضاء الحاجات. أقول: فيه كلام من وجهين: (الأول) : أن هذا قياس مع الفارق، فإن كون الطعام الشراب سببين للشبع

_ 1 إن خبث الشياطين واحتقار إضلالها لا يقتضي استصغار خلقها واحتقار أفعالها بمعنى أنه لا يؤبه لشرها، بل هي أكبر شرور العالم بحيث لا يقدر الإنسان على اتقائها إلا بالاستعاذة منها بخالقها، فإضافة اسم الرب إليها من دلائل عظمته وقدرته عز وجل. وكتبه محمد رشيد رضا.

والري معلوم بالعقل والنقل، وكذلك كون الطاعة سبباً للسعادة ونيل الدرجات، وأما كون التوسل بالأخيار سبباً لقضاء الحاجات فلا يدل عليه دليل عقلي أو نقلي. و (الثاني) : أن الكلام في مشروعية التوسل لا في كونه سبباً لقضاء الحاجات، ولا ملازمة بين الأمرين، فرب سبب في الدنيا وبال ونكال في الآخرة. قوله: فعليك باتباع الجمهور والسواد الأعظم. أقول: فيه نظر من وجوه1:

_ 1 إن في كل وجه من الوجوه الثلاثة التي رد بها المصنف على هذه الجملة نظراً ظاهراً، والجملة في نفسها بمعنى الأحاديث الصحيحة الواردة في الأمر باتباع الجماعة وهي معروفة مشهورة، ولكن المراد بالجماعة فيها جماعة الصحابة والسواد الأعظم منهم فيما كانوا عليه من أمر الدين الذي تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم دون من شذ من أفرادهم باجتهاده الخاص، وأما الجمهور والسواد الأعظم الآن وهم الذين يعنيهم دحلان، فقد فشت فيهم البدع والمنكرات، فلا عبرة بكثرتهم ولا بجمهورهم، بل بمتبعي جماعة السلف منهم. أما الوجه الأول: مما أورد المصنف فلا يرد على الأحاديث الصحيحة في اتباع الجماعة، ولا ينافي ما تدل عليه من كون جمهور الصحابة على حق في أمر الدين، فإن ما عرض لهم من الذهول والاضطراب عند موت الرسول صلى الله عليه وسلم من العوارض البشرية لا من العقائد ولا السنن العملية المتبعة، وقد انتهى هذا العارض البشري باتباع الصديق فيما ذكرهم به من قول الله عز وجل، وإنما العبرة في الأعمال، والأحوال بخواتيمها لا بمباديها، وبهذا ثبت أنهم رضي الله عنهم كانوا على هدى فيما جروا عليه من العمل في هذه المصيبة الكبرى. وأما الوجه الثاني: فقد أخطأ المنصف في استدلاله بالآيات التي ذكرها على قلة رشد المؤمنين، فالآيات ليست فيهم، وأما الوجه الثالث فموضوعه مخالفة بعض المجتهدين للجمهور في بعض المسائل الاجتهادية، فمن كان من أهل النظر والاجتهاد في أمثال هذه المسائل فعليه أن يعمل بما أداه إليه اجتهاده فيها، ومن لم يكن عنده من العلم إلا أن جمهور علماء المسلمين رأوا في هذه المسألة كذا وأن فردا منهم خالفهم فرأى فيها غير رأيهم، ولم يكن عنده قدرة على الترجيح، فالأولى له أن يتبع الجمهور فيها، وكبته محمد رشيد رضا (ثم رأيت له فيما سيأتي ما يقرب منه) .

(الأول) : أن الأكثر قد يخطئ، قال الحافظ في الفتح تحت حديث ابن عباس إن أبا بكر خرج وعمر بن الخطاب يكلم الناس فقال اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد من كان منكم يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} إلى قوله {الشَّاكِرِينَ} وقال: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها الناس منه كلهم، فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها، الحديث: وكان أكثر الصحابة على خلاف ذلك، فيؤخذ منه أن الأقل عدداً في الاجتهاد قد يصيب ويخطئ الأكثر فلا يتعين الترجيح بالكثرة، ولا سيما إن ظهر أن بعضهم قلد بعضاً اهـ. فلا وجه للقول بوجوب اتباع الجمهور عموماً. و (الثاني) : أن الخير والرشد في الناس قليل والشر والضلالة كثير، يدل عليه الآيات التي نتولها عليك: منها قوله تعالى في سورة الأعراف: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ. ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} وقوله تعالى في سورة بني إسرائيل: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً} . ففي هاتين الآيتين قد نقل الله تعالى قول الشيطان، وهذا قاله إبليس على الظن فأصاب كما قال تعالى في سورة سبأ: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقًا مِّنَ المُؤْمِنِينَ} . ومنها قوله في سورة الأنعام: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} . وقوله تعالى في سورة (ص) : {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} . وقوله تعالى في سورة سبأ: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} . وقوله تعالى في سورة المائدة: {قُل لاَّ يَسْتَوِي الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ

كَثْرَةُ الخَبِيثِ} . ففيه إشارة إلى قلة الخير وكثرة الشر، وقوله تعالى في سورة يونس: {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} . وقوله في سورة يوسف: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} . وقوله تعالى أيضاً فيها: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} . وقوله تعالى أيضاً فيها: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} وقوله تعالى في سورة المائدة: {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} . وقوله تعالى في سورة الأعراف: {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} . وقوله تعالى أيضاً فيها: {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} . وقوله تعالى في سورة الرعد: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} . وقوله تعالى في سورة الفرقان: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} . وقوله تعالى في سورة الشعراء بعد ذكر بناء إبراهيم عليه السلام: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} . وقد تكرر هذا القول في هذه السورة في قصة نوح عليه السلام وقصة هود وقصة صالح وقصة لوط وقصة شعيب عليهم الصلاة والسلام، فقد دل قوله تعالى هذا على أن الراشد في الأمم الماضية أيضاً كان قليلاً والضلالة كثيراً، وقوله تعالى في سورة الزخرف: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} . وقوله تعالى في سورة الحديد: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} . إذا وعيت تيك الآيات فقد علمت أن الرشد في بني آدم عموماً وفي المؤمنين خصوصاً قليل، أما قلة رشد بين آدم عموماً فظاهر من الآيات المذكورة، وأما قلة رشد المؤمنين خصوصاً فيدل عليه قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، وقوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} . فكيف يصح القول باتباع الجمهور عموماً؟ و (الثالث) : أن كثيراً من الأئمة قد خالفوا الجمهور في مسائل كثيرة: كابن

أبي ليلى والأصم، فإنهما جوزا الطهارة بسائر أنواع المياه حتى المعتصرة من الأشجار ونحوها، وخالفا الجمهور في أنه لا تصح الطهارة إلا بالماء المطلق، وكأبي حنيفة فإنه خالف الجمهور في أن النجاسة لا تزال إلا بالماء وقال: تزال بكل مائع غير الأدهان، وكالشافعي فإنه خالف الجمهور وقال بكراهة استعمال الماء المشمس في الطهارة، وكأحمد فإنه قال بكراهية الماء المسخن بالنجاسة، وخالف الجمهور، وكمالك فإنه قال: الماء المستعمل مطهر وخالف في ذلك الجمهور، وغير ذلك من الأمثلة التي لا تكاد تحصر، فيلزم أن تكون تلك الأئمة تاركين لهذا الواجب. وقوله: وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} . أقول: قد استدل القائلون بحجية الإجماع بهذه الآية، فإن تم الثابت منه وجوب اتباع ما أجمع عليه الأمة لا وجوب اتباع الجمهور، فلا يتم التقريب، مع أن في تمامه كلاماً صعباً. قوله: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالسواد الأعظم فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية". أقول: هذا الحديث بهذا اللفظ لم أقف عليه، نعم في سنن ابن ماجه من حديث أنس بن مالك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أمتي لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم" وفي سنده معان بن رفاعة وهو لين الحديث كثير الإرسال، وأيضاً في سنده أبو خلف الأعمى وهو متروك كذبه يحيى بن معين كما تقدم. فهذا الحديث ضعيف جداً ليس مما يحتج به على شيء من الأحكام الشرعية، وعلى تقدير ثبوت الحديث فالسواد الأعظم فيه قولان: (أحدهما) : جملة الناس ومعظمهم الذين يجتمعون على طاعة السلطان وسلوك

النهج المستقيم، كذا في النهاية ومجمع البحار، وعبر عنه بالجماعة في حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه، فإن من فارق الجماعة شبراً فمات مات ميتة الجاهلية". رواه البخاري ومسلم، وفي حديث حذيفة بن اليمان وهو حديث طويل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها". رواه البخاري ومسلم، وفي الباب أحاديث كثيرة ثابتة في الصحاح غيرها، فاتباع السواد الأعظم هو اتباع الإمام والجماعة الذين يجتمعون على طاعة السلطان. ويؤيده ما روى عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الأعواد وعلى هذا المنبر: "من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله عز وجل، والتحدث بنعمة الله شكر وتركها كفر، والجماعة رحمة والفرقة عذاب". فقال أبو أمامة الباهلي: عليكم بالسواد الأعظم، فقال رجل: ما السواد الأعظم؟ فقرأ أبو أمامة هذه الآية التي في سور النور: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} . رواه عبد الله بن أحمد والبزار والطبراني ورجاله ثقات، كذا في مجمع الزوائد" وعن سعيد بن جمهان قال: لقيت عبد الله بن أبي أوفى وهو محجوب البصر فسلمت عليه فقال: من أنت؟ قلت: أنا سعيد بن جمهان. قال: ما فعل والدك؟ قلت قتلته الأزارقة، وحدهم أم الخوارج كلها؟ قال بل الخوارج كلها1، قال قلت: فإن السلطان يظلم الناس ويفعل بهم ويفعل بكم ذاك، فتناول يدي فغمزها غمزة شديدة بيده ثم قال: يا بن جمهان عليك بالسواد الأعظم (مرتين) إن كان السلطان يسمع منك فإنه في بيته فانصره بما تعلم، فإن قبل منك وإلا فدعه فإنك لست أعلم منه. قلت: روى ابن ماجة منه طرفاً رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات، كذا في مجمع الزوائد، وهو واجب على المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، وليس السواد الأعظم بهذا المعنى مما تثبت به مسألة شرعية.

_ 1 كذا في الأصل وهو كما ترى فيراجع في مظانة ويحرر.

و (ثانيهما) : السواد الأعظم هم جماعة الصحابة، يدل عليه حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل" وفيه قالوا من هي يا رسو ل الله؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي". رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب مفسر، وفي رواية عوف بن مالك قيل: يا رسول الله من هم؟ قال "الجماعة"، وفي رواية أنس بن مالك: "كلها في النار، إلا واحدة وهي الجماعة"، رواهما ابن ماجه، والأحاديث بعضها يفسر بعضاً. فعلم أن السواد الأعظم هو الجماعة، وهي جماعة الصحابة، ولعله بهذا المعنى قال إسحاق بن راهوية حين سئل عن معنى حديث: "عليكم بالسواد الأعظم": هو محمد بن أسلم وأتباعه، فأطلق على محمد بن أسلم وأتباعه لفظ السواد الأعظم تشبيهاً لهم بالصحابة في شدة ملازمة السنة والتمسك بها، ومن ثم قال الإمام الشافعي: إذا رأيت رجلاً من أصحاب الحديث فكأني رأيت رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كذا في (تلبيس إبليس) ، ولذا كان سفيان الثوري يقول: المراد بالسواد الأعظم هم من كان من أهل السنة والجماعة ولو واحداً، كذا في الميزان للشعراني. قال ملا سعد الرومي في (مجالس الأبرار) : فلا بد لك أن تكون شديد التوقي من محدثات الأمور، وإن اتفق عليه الجمهور فلا يغرنك اتفاقهم على ما أحدث بعد الصحابة، بل ينبغي أن تكون حريصاً على التفتيش عن أحوالهم وأعمالهم، فإن أعلم الناس وأقربهم إلى الله تعالى أشبههم بهم، وأعرفهم بطريقهم، إذ منهم أخذ الدين، وهم أصول في نقل الشريعة عن صاحب الشرع، وقد جاء في الحديث: "إذا اختلف الناس فعليكم بالسواد الأعظم" والمراد به لزوم الحق واتباعه وإن كان المتمسك به قليلاً، والمخالف كثيراً، لأن الحق ما كان عليه الجماعة الأولى وهم الصحابة ولا عبرة بكثرة الباطل بعدهم. وقد قال فضيل بن عياض ما معناه: الزم طلق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين، وقال بعض السلف: إذا وافقت الشريعة ولاحظت الحقيقة، فلا تبال وإن خالف رأيك جميع الخليقة. وقال ابن

مسعود: أنتم في زمان خيركم المسارع في الأمور، وسيأتي زمان بعدكم خيرهم فيه المتثبت المتوقف لكثرة الشبهات. قال الإمام الغزالي: ولقد صدق، لأن من لم يتثبت في هذا الزمان ووافق الجماهير فيما هم فيه وخاض فيما خاضوا فيه، يهلك كما هلكوا، فإن أصل الدين وعمدته وقوامه ليس بكثرة العبادة والتلاوة والمجاهدة بالجوع وغيره، وإنما هو بإحرازه من الآفات، والعاهات التي تأتي عليه من البدع والمحدثات، فإنها لكثرتها وشيوعها صارت كأنها من شعار الدين أو من المفروضة علينا. اهـ‍ وقال الحافظ ابن القيم: فالبصير الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق ولا من فقده إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل الأول الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، فتفرد العبد في طريق طلبه دليل على صدق طلبه، ولقد سئل إسحاق بن راهويه عن مسألة فأجاب عنها، فقيل له: إن أخاك أحمد بن حنبل يقول فيها بمثل قولك، فقال: ما ظننت أن أحداً يوافقني عليها، ولم يستوحش بعد ظهور الصواب له من عدم الموافق، فإن الحق إذا لاح وتبين لم يحتج إلى شاهد يشهد به، والقلب يبصر الحق كما تبصر العين الشمس، فكيف يحتاج إلى شاهد يشهد بطلوعها ويوافقه عليه؟ وما أحسن ما قال أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل في كتاب (الحوادث والبدع) : حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك به قليلاً والمخالف له كثيراً، لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا نظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم. قال عمرو بن ميمون الأودي: صحبت معاذاً باليمن، فما فارقته حتى واريته في التراب بالشام، ثم صحبت بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود، فسمعته يقول: عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة، ثم سمعته يقول: سيلي عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فصلوا الصلاة لميقاتها فهي الفريضة، وصلوا معهم فإنها لكم نافلة. قال: قلت: يا أصحاب محمد ما أدري ما تحدثونا. قال: وما ذاك؟ قلت: تأمري بالجماعة

وتحضني عليها، ثم تقول: صلِ الصلاة وحدك وهي الفريضة، وصل مع الجماعة وهي النافلة. قال: يا عمرو بن ميمون، قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية، تدري ما الجماعة؟ قلت: لا، قال: إن جمهور الناس الذين فارقوا الجماعة، الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك. قال نعيم بن حماد: يعني إذا فسدت الجماعة فعليك ما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد وإن كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة حينئذ، وعن الحسن قال: السنة – والذي لا إله إلا هو –بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقى، الذين لم يذهبوا مع أهل الأتراف في أرتافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله تعالى فكونوا. وكان محمد بن أسلم الطوسي –الإمام المتفق على إمامته– من أتبع الناس للسنة في زمانه، حتى قال: ما بلغتني سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عملت بها، ولقد حرصت على أن أطوف بالبيت راكباً فما مكنت من ذلك. وسئل بعض أهل العلم في زمانه عن السواد الأعظم الذين جاء فيهم الحديث: "إذا اختلف الناس فعليكم بالسواد الأعظم": من السواد الأعظم؟ قال: محمد بن أسلم الطوسي هو السواد الأعظم. اهـ وقال ابن حجر المكي مستند الخصم في الفتاوى: فإن قلت هذا القول الثالث ينسب إلى الأكثر، وقد قالوا إن الخطأ إلى القليل أقرب منه إلى الكثير، قلت: وإنه يتعين الإفتاء بما عليه الأكثر، محل ذلك ما لم يتضح أن الأكثر استروحوا كما هنا، فإنهم تمسكوا بالظواهر مع عدم الالتفات للدلائل الواضحة التي تدل على القول الأول والثاني، فوجب المصير إلى ما عليه الأقل، لأنهم أئمة محققون اتضحت أدلتهم وظهرت محجتهم، على أنه ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه رفعه: "ليس الجماعة بكثرة الناس، من كان معه الحق فهو الجماعة وإن واحداً". اهـ ويؤيد هذا المعنى ما روي عن أبي الدرداء وواثلة بن الأسقع وأنس بن مالك قالوا: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً ونحن نتمارى في شيء من أمر الدين،

فغضب غضباً شديداً لم يغضب مثله، ثم انتهرنا فقال: "مهلاً يا أمة محمد، إنما هلك من كان قبلكم بهذا المراء، لقلة خيره، ذروا المراء، فإن المؤمن لا يماري. ذروا المراء فإن المماري قد تمت خسارته. ذروا المراء فكفى إثماً ألا تزال ممارياً، ذروا المراء، فإن المماري لا أشفع له يوم القيامة، ذروا المراء، فأنا زعيم بثلاثة أبيات في الجنة في رياضها ووسطها وأعلاها لمن ترك المراء وهو صادق. ذروا المراء، فإن أول ما نهاني عنه ربي بعد عبادة الأوثان المراء. فإن بني اسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين فرقة والنصارى على ثنتين وسبعين فرقة، كلهم على الضلالة إلا السواد الأعظم، قالوا يا رسول الله ما السواد الأعظم؟ قال:"من كان على ما أنا عليه وأصحابي، من لم يمار في دين الله، ولم يكفر أحداً من أهل التوحيد بذنب غفر له". ثم قال: "إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً". قالوا: يا رسول الله ومن الغرباء؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس، ولا يمارون في دين الله ولا يكفرون أحداً من أهل التوحيد بذنب". رواه الطبراني في الكبير. وفيه كثير بن مروان وهو ضعيف جداً، كذا في مجمع الزوائد في باب المراء، وفيه في (باب لا يكفر أحد من أهل القبلة) أخرجه الطبراني في الكبير، وفيه كثير بن مروان، كذبه يحيى والدارقطني اهـ. وفي الميزان: ضعفوه يروى عن إبراهيم بن أبي عبلة وغيره، قال يحيى والدارقطني: ضعيف، وقال يحيى مرة: كذاب، وقال الفسوي: ليس حديثه بشيء. اهـ. فإن قيل: هذا الحديث ضعيف جداً فلا يصح أن يحتج به، قلت: ليس بأضعف من حديث: "عليكم بالسواد الأعظم"، فإذا جوز صاحب الرسالة الاحتجاج بهذا على لزوم اتباع الجمهور فليجوز الاحتجاج بذاك أيضاً على تعيين المراد بالسواد الأعظم، وليعلم هناك أن محل وجوب اتباع السواد الأعظم الذي أريد منه جماعة الصحابة هو ما اختلف فيه الصحابة فذهب عامتهم وأكثرهم إلى أمر والبعض الآخر إلى خلافه، بدليل لفظ الاختلاف والسواد الأعظم الواردين في الحديث، فإن السواد من الناس عامتهم كما في القاموس وغيره، وأما ما أجمع عليه الصحابة فوجوب اتباعه يعلم بفحوى الخطاب، وأما ما اختلفوا فيه، ولا يعلم كثرتهم في جانب فالحديث لا يدل على وجوب اتباعهم فيه، وهذا كله فيما إذا لم تعارضه آية أو حديث مرفوع صحيح أو حسن ولم

يثبت نسخهما، وأما إذا عارضته آية أو حديث فلا يلتفت إلا ما أجمع عليه الصحابة أو ذهب إليه أكثرهم إن قدر وقوع ذلك. وجملة الكلام أن المقصود اتباع الحق ولزومه كما قال ملا سعد الرومي في (المجالس) لا اتباع الكثير أو القليل، وإنما أمرنا باتباع الكثير من الصحابة فيما اختلفوا فيه لأن ذهاب أكثرهم إلى أمر جعل أمارة وعلامة على كونه حقاً، إذ هم خير الأمة وأمنة لها، قال صلى الله عليه وسلم: "فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون". أي من البدع والحوادث وذهاب الخير ومجيء الشر، وهم كانوا لا يبتدعون من عند أنفسهم شيئاً، ويأخذون في كل أمر بسنته صلى الله عليه وسلم، ويتقدون بأمره، والعمل بمقتضى الأمارة إنما هو إذا لم يوجد نص صريح، وأما وقت وجدان النص الصريح الصحيح المعارض لمقتضى الأمارة فلا يعمل بمقتضى الأمارة، بل العمل بالنص حينئذ متعين متحتم، فإنه حق صريح، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، وماذا بعد الحق إلا الضلال. ولعلك تفطنت من هنا أن الإحداث في أمر الدين، كما أنه لا يجوز لنا كذلك هو غير جائز للصحابة رضي الله عنهم أيضاً، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". ولا تحسبن أن محدثات الصحابة إن قدر وقوعها داخلة في السنة خارجة عن حد البدعة، كيف وقد ورد في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا فرطكم عن الحوض، وليرفعن رجال منكم، ثم ليختلجن دوني فأقول: يارب أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك". وفي رواية أبي سعيد الخدري عند البخاري "فأقول: سحقاً سحقاً لمن غير بعدي". فلا غرو إن صدر أحياناً من بعض أفراد الصحابة شيء من الحدث أو غيره من المعاصي، فإنا معاشر أهل السنة والجماعة لا نقول بعصمة أحد غير الأنبياء عليهم السلام كائناً من كان، ولكنا نعلم قطعاً أن معظم الصحابة وعامتهم وأكثرهم كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويأخذون بسنته صلى الله عليه وسلم ويتقدون بأمره، وينكرون شديد الإنكار على من أحدث في الدين، أو فعل فعلاً لم يفعله سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ في الفتح: وحاصل ما حمل عليه حال المذكورين أنهم كانوا ممن ارتد

عن الإسلام فلا إشكال في تبري النبي صلى الله عليه وسلم منهم وإبعادهم، وإن كانوا ممن لم يرتد لكن أحدث معصية كبيرة من أعمال البدن أو بدعة من اعتقاد القلب، فقد أجاب بعضهم بأنه يحتمل أن يكون أعرض عنهم ولم يشفع لهم اتباعاً لأمر الله فيهم حتى يعاقبهم على جنايتهم، ولا مانع من دخولهم في عموم شفاعته لأهل الكبائر من أمته فيخرجون عند إخراج الموحدين من النار. والله أعلم. اهـ. قوله: وقال صلى الله عليه وسلم: "من خالف الإسلام قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه". أقول: هذا الحديث بهذا اللفظ رواه الترمذي في أبواب الأمثال من حديث الحارث الأشعري في أثناء حديث طويل وقال: هذا حديث صحيح غريب، قال محمد بن إسماعيل: والحارث الأشعري له صحبة، وله غير هذا الحديث. قال الحافظ في الفتح: "من فارق الجماعة شبراً فكأنما خلع ربقة الإسلام من عنقه". أخرجه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان وصححاه من حديث الحارث بن الحارث الأشعري في أثناء حديث طويل، وأخرجه البزار والطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس، وفي سنده خليد بن دعلج وفيه مقال، وقال: "من رأسه" بدل "عنقه" انتهى. وفي مجمع الزوائد: وعن أبي سلام ممطور عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم –قال أراه أبا مالك الأشعري– قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأنا آمركم بخمس: بالسمع والطاعة والجماعة والهجرة والجهاد في سبيل الله، فمن خرج عن الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من رأسه". الحديث، وقال أحمد: ورجاله ثقات رجال الصحيح، خلا علي بن إسحاق السلمي وهو ثقة، ورواه الطبراني باختصار إلا أنه قال: فمن فارق الجماعة قيد قوس لم يقبل منه صلاة ولا صيام، وأولئك هم وقود النار اهـ. قلت: في تصحيح الترمذي وابن خزيمة وابن حبان حديث الحارث نظر، فإن في سنده يحيى بن أبي كثير وهو مدلس وقد عنعنه، ورواه عن زيد بن سلام، وروايته عنه منقطعة لأنها عن كتاب له، وقال يحيى القطان: مرسلات يحيى بن كثير شبه الريح، كذا في الميزان. ورواه أيضاً أبو داود في باب قتل الخوارج من حديث أبي ذر

وفي سنده خالد بن وهبان، قال الذهبي في الميزان: خالد بن وهبان عن أبي ذر مجهول. اهـ. وفي الباب أحاديث أخر جلها ضعيفة، منها ما روي عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا فقال: "إنه كائن بعدي سلطان فلا تذلوه، فمن أراد أن يذله فقد خلع ربقة الإسلام". رواه أحمد، وفيه راو لم يسم، وبقية رجاله ثقات. ومنها ما روى عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومن خرج عن الجماعة قيد شبر متعمداً فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه" رواه الطبراني، وفيه عمرو بن واقد وهو متروك. ومنها ما روي عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومن خرج من الطاعة شبراً فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه" رواه الطبراني، وفيه عمرو بن رويبة وهو متروك. ومنها ما روي عن ابن عمر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشبر شبراً: "من فارق جماعة المسلمين شبراً خرج من عنقه ربقة الإسلام". رواه الطبراني، وفيه حسين بن قيس وهو ضعيف. ومنها ما روي عن سعد بن جنادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فارق الجماعة فهو في النار على وجهه". رواه الطبراني، وفيه جماعة لم أعرفهم. ومنها ما روي عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فارق الجماعة واستذل الإمارة لقى الله لا وجه له عنده". رواه أحمد ورجاله ثقات. ومنها ما روي عن صلة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فارق الجماعة شبراً فقد فارق الإسلام". رواه البزار، وفيه محمد بن عبيد الله العزرمي وهو ضعيف. ومنها ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فارق الجماعة قياس –أو قيد– شبر خلع ربقة الإسلام من عنقه" رواه الطبراني في الأوسط، وفيه خليد بن دعلج وهو ضعيف.

ذكر تلك الأحاديث كلها الهيثمي في مجمع الزوائد: نعم في الوعيد على من فارق الجماعة أحاديث صحيحة لعل صاحب الرسالة لم يظفر بها، وإلا فلا وجه لترك ما هو في أعلى درجة الصحة وذكر ما دونه، وهذا أدل دليل على قصور نظره في صنعة الحديث: منها حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية". وفي رواية: "من فارق الجماعة شبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية". وفي رواية: "ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية". رواه البخاري ومسلم والدارمي. ومنها حديث أبي هريرة: "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية". وفي لفظ: "من خرج من الطاعة ثم مات مات ميتة جاهلية". رواه مسلم والنسائي. ومنها حديث ابن عمر: "من خلع يداً من طاعة لقى الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية". ولكن ليس فيها ولا في غيرها مما فيه وعيد على مفارق الجماعة دلالة على مطلوب الخصم من لزوم اتباع الجمهور، كيف والمراد بالجماعة في تلك الأحاديث هو معظم الناس الذين يجتمعون على طاعة السلطان. يدلك على هذا ما ورد في بعض الروايات من لفظ السلطان ومثله، وليعم أنه لا يبعد أن يكون الحامل على ترك ما هو في أعلى درجة الصحة وذكر ما هو دونه هو زعم أن إرادة الجمهور من لفظ الجماعة في القسم الأول غير متعسرة، بخلاف القسم الثاني، فإن كان هذا فهو أبعد من الديانة على ما لا يخفى. قوله: وقد ذكر العلامة ابن الجوزي في كتابه المسمى (تلبيس إبليس) أحاديث كثيرة في التحذير من مفارقة السواد الأعظم. أقول: يعلم من هذا ديانة المؤلف من وجوه: (الأول) أن صاحب هذه الرسالة نقل ما ذكر ابن الجوزي في التحذير من

مفارقة الجماعة زعماً منه أنه يفيده في ذلك المقام مع أنه بعد تعيين المراد منه ليس فيها أثر من ذلك، ولم ينقل ما ذكر1 في قلة أهل السنة والجماعة الدال على نقيض مدعاه، حيث قال في الباب الأول من ذلك الكتاب: عن يوسف بن أسباط قال: قال سفيان أخبرنا يوسف: إذا بلغك عن رجل بالمشرق أنه صاحب سنة فابعث إليه بالسلام، وإذا بلغك عن رجل آخر بالمغرب أنه صاحب سنة فابعث إليه بالسلام، فقد قل أهل السنة والجماعة. وأيضاً قال: وعن سفيان الثوري قال: استوصوا بأهل السنة خيراً فإنهم غرباء، وعن أبي بكر بن عياش: السنة في الإسلام أعز من الإسلام في سائر الأديان، وقال في الباب الثاني: وعن عبد الله بن محيريز يذهب الدين سنة سنة، كما يذهب الحبل قوة قوة2، وإذ قد ثبت قلة أهل السنة والجماعة فكيف يصح القول بلزوم اتباع جمهور كل زمان وقرن؟ و (الثاني) أن صاحب الرسالة لم ينقل من كتاب ابن الجوزي ما يدل على تعيين الجماعة والسواد الأعظم، فإن فيه حديث ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على اثنين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي". قال الترمذي: هذا حديث غريب مفسر اهـ. فهذا الحديث فيه دلالة على أن المراد بالجماعة جماعة الصحابة، كما قال الترمذي ونقله ابن الجوزي. وأيضاً فيه عن ابن العالية قال: عليكم بالأمر الأول الذي كانوا عليه قبل أن يفترقوا، قال عاصم: فحدثت به الحسن فقال: قد نصحك والله وصدقك، وعن الأوزاعي قال: اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا،

_ 1 أي: ولم ينقل عنه ما ذكره ألخ. 2 القوة من الحبل الطاقة من طاقات فتله.

وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح فإنه يسعك ما وسعهم اهـ، وإذ قد تعين المراد، فالقول باتباع جمهور كل عصر بين الفساد. و (الثالث) أنه ترك من كلام ابن الجوزي في الباب الثاني ما فيه التصريح بالمراد حيث قال: فإن قال قائل: قد مدحت السنة وذممت البدعة، فما السنة وما البدعة؟ وكل مبتدع في زمننا يزعم أنه من أهل السنة؟ فالجواب أن السنة في اللغة الطريق ولا ريب في أن أهل النقل والأثر المتتبعين آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار أصحابه هم أهل السنة لأنهم على تلك الطريق التي لم يحدث فيها حادث، وإنما وقعت الحوادث والبدع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. اهـ. وأيضاً فيه: فقد بان بما ذكرنا أن أهل السنة هم المتبعون، وأن أهل البدعة هم المظهرون شيئاً لم يكن قبل ولا مستند له. وأيضاً فيه: وعن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون" أخرجاه في الصحيحين1. وعن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله". قال المصنف: انفرد بإخراجه مسلم، وقد روى هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم معاوية وجابر بن عبد الله وقرة، وعن الترمذي: قال محمد بن إسماعيل قال علي بن المديني: هم أصحاب الحديث. اهـ. و (الرابع) أن ابن الجوزي ذكر في الكتاب المذكور أحاديث كثيرة في ذم البدع والمبتدعين: (منها) حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". (ومنها) حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من رغب عن سنتي فليس مني". (ومنها) حديث العرباض بن سارية قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ذات يوم ثم أقبل علينا يعظنا

_ 1 كان هذا الحديث وما بعده محرفين، وسقط من الأول لفظ "أمر" فكان: حتى يأتي الله فصححناهما.

موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً، فإنه من يعش بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة". (ومنها) حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا فرطكم على الحوض، وليرفعن رجال منكم ثم ليختلجن دوني فأقول: يارب أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك". وصاحب الرسالة قد ترك تيك الأحاديث كلها لأنها تبطل دعواه الباطلة من التوسل المكروه المحدث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قول القائل: اللهم إني أسألك بحق محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه محدث، والأحاديث المذكورة ترد على كل ما أحدث في الدين. وليعلم هناك أن قرن الصحابة كأن البدعة لم تكن فيه، والسنة كانت خالصة فيه، يدل عليه حديث أبي موسى رضي الله عنه مرفوعاً: "وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون". رواه مسلم، وحديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي بعثه الله في أمته قبلي إلا كان له في أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل". رواه مسلم. وحديث العرباض بن سارية مرفوعاً: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ". رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه، وحديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنا عليه وأصحابي". وحديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أكل طيباً وعمل في سنة وأمن الناس بوائقه دخل الجنة". فقال رجل: يا رسول الله إن هذا اليوم لكثير في الناس، قال: "وسيكون في قرون بعدي". رواه الترمذي.

ولذا أثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم الخيرية المطلقة في قوله: "خير أمتي قرني". ومن ثم قال ابن مسعود رضي الله عنه: من كان مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة: أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على أثرهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. رواه رزين، كذا في المشكاة. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: وعن عبد الله بن مسعود قال: لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً، فإن آمن آمن وإن كفر كفر، وإن كنتم لابد مقتدين فاقتدوا بالميت، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح. اهـ. وأيضاً قال ابن مسعود: إن الله تعالى نظر في قلوب العباد فاختار محمداً فبعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد فاختار له أصحاباً فجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيه، فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح. قال شمس الدين السخاوي في المقاصد الحسنة: أخرجه أحمد من حديث ابن مسعود من قوله، وكذا أخرجه البزار والطيالسي والطبراني وأبو نعيم في حلية الأولياء في ترجمة ابن مسعود، بل عند البيهقي في الاعتقاد من وجه آخر عن ابن مسعود اه‍ـ كلامه. قال ابن نجيم في (الأشباه والنظائر) قال العلائي: لم أجده مرفوعاً في شيء من كتب الحديث أصلاً ولا بسند ضعيف، بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال، وإنما هو من قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفاً عليه، أخرجه أحمد في مسنده، وقال الحموي في حواشيه قال السخاوي في (المقاصد الحسنة) : حديث: "ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن". رواه أحمد في كتاب السنة، ووهم من عزاه للمسند من حديث أبي وائل عن ابن مسعود، وهو موقوف حسن. اه‍ـ ملخصاً، فكأن العلائي تبع من وهم في نسبته إلى المسند. اهـ. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير، ورجاله موثقون، وروى الدارمي عن عمر بن يحيى قال سمعت أبي يحدث عن أبيه قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد،

فجاءنا أبو موسى الأشعري فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا لا، فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعاً، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن إني رأيت في المسجد آنفاً أمراً أنكرته، ولم أرَ والحمد لله إلا خيراً، قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه، قال رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً ينتظرون الصلاة كل حلقة رجل وفي أيديهم حصى فيقول كبروا مائة فيكبرون مائة، فيقول هللوا مائة فيهللون مائة، ويقول سبحوا مائة فيسحبون مائة. قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئاً انتظار رأيك أو انتظار أمرك. قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء؟ ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن، حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح، قال: فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء. ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو مفتحي باب ضلالة، قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن قوماً يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وأيم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم، ثم تولى عنهم، فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الحلق1 يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج. اهـ. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: وعن عمرو بن سلمة قال: كنا قعوداً على باب ابن مسعود بين المغرب والعشاء فأتى أبو موسى فقال: اخرج إلينا أبا عبد الرحمن، فخرج ابن مسعود فقال: أبا موسى ما جاء بك هذه الساعة؟ قال: لا والله إلا أني رأيت أمراً

_ 1 الحلق في الأصل بالمهملة وصحح في جدول بيان الخطأ وصوابه في الطبعة الهندية فجعل بالمعجمة وهو تصحيف لا يقبل إلا إذا كان هو الرواية، وإلا فالحلق بالمهملة هو الذي ذكر في أول الأثر، فالمعرفة هنا عين المنكرة هناك، فهو الذي تقتضيه الرواية، وواضع جدول التصويب يذكر مثل هذا التصحيف وما يقرب منه من التحريف ويدع الأغلاط الكثيرة لأنه لا يعرفها، وقد صححنا أكثرها كما نظن، وكتبه محمد رشيد رضا.

ذعرني وإنه لخير، ولقد ذعرني وإنه لخير، قوم جلوس في المسجد ورجل يقول سبحوا كذا وكذا، احمدوا كذا وكذا، قال فانطلق عبد الله وانطلقنا معه حتى أتاهم فقال: ما أسرع ما ضللتم وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحياء، وأزواجه شوابّ، وثيابه وأبنيته لم تغير، احصوا سيئاتكم، فأنا أضمن على الله أن يحصي حسناتكم، رواه الطبراني في الكبير، وفيه مجالد بن سعيد وثقه النسائي، وضعفه البخاري وأحمد بن حنبل ويحيى. وعن أبي البختري قال: بلغ عبد الله بن مسعود أن قوماً يقعدون بين المغرب والعشاء يقولون قولوا كذا قولوا كذا، قال عبد الله: إن فعلوا فآذنوني، فلما جلسوا أتوه فانطلق معهم، فجلس وعليه برنس فأخذوا في تسبيحهم، فحسر عبد الله عن رأسه البرنس وقال: أنا عبد الله بن مسعود -فسكت القوم- فقال: لقد جئتم بدعة ظلماً، وإلا فضللنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. فقال عمرو بن عتبة بن فرقد: استغفر الله يا ابن مسعود وأتوب إليه، فأمرهم أن يتفرقوا، قال: ورأى ابن مسعود حلقتين في مسجد الكوفة فقام بينهما فقال: أيتكما كانت قبل صاحبتها؟ قالت إحداهما: نحن، فقال للأخرى: قوموا إليها، فجعلهم واحدة، رواه الطبراني في الكبير وفيه عطاء بن السائب وهو ثقة ولكنه اختلط، وفي بعض طرق الطبراني الصحيحة المختصرة: فجاء عبد الله بن مسعود متقنعاً فقال: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا عبد الله بن مسعود، إنكم لأهدى من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أو أنكم لتعلقون بذنب ضلالة، وفي رواية لعطاء بن السائب فقال ابن مسعود: لئن اتبعتم القوم لقد سبقوكم سبقاً بعيداً بيناً، ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالا بعيداً. اهـ. وعن حذيفة رضي الله عنه قال: يا معشر القراء استقيموا، فقد سبقتم سبقاً بعيداً، وإن أخذتم يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً. رواه البخاري. وأيضاً عن حذيفة قال: كل عبادة لا يتعبدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تعبدوها، فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً، فاتقوا الله يا معشر القراء وخذوا طريق من قبلكم. رواه أبو داود. إذا دريت ما ذكرنا من الأحاديث والآثار فقد علمت أن قرن الصحابة كانت السنة

خالصة فيه، وكأن البدعة لم تكن فيه، وإنما لم أقل إن البدعة لم تكن فيه لما ورد في الصحيح: "أنا فرطكم على الحوض، فليرفعن إلى رجال منكم، حتى إذا أهويت لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول: إي رب أصحابي، فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك". فهذا الحديث يدل أوضح دلالة على أن من الصحابة من يحدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم. ثم بعد انقراض قرن الصحابة أتى أمته ما يوعدون من الحوادث والبدع، وكلما أحدثت بدعة رفع مثلها من السنة، ولكن في قرن التابعين وأتباع التابعين لم تظهر البدع ظهوراً فاشياً، وأما بعد قرن أتباع التابعين فقد تغيرت الأحوال تغيراً فاحشاً، وغلبت البدع، وصارت السنة غريبة، واتخذ الناس البدعة سنة والسنة بدعة، ولا تزال السنة في المستقبل غريبة إلا ما استثنى من زمان المهدي رضي الله عنه وعيسى عليه السلام، إلى أن تقوم الساعة على شرار الناس. يدل على ذلك الأحاديث والآثار التي نذكرها الآن بحوله وقوته، منها: حديث عمران بن حصين رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة: "ثم إن بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون، ولا يؤتمنون وينذرون ولا يفون ويظهر فيهم السمن" رواه البخاري ومسلم. ومنها حديث الأسلمي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يذهب الصالحون الأول فالأول، ويبقى حفالة كحفالة الشعير أو التمر لا يباليهم الله بألة". رواه البخاري. قال الحافظ في الفتح: ووجدت لهذا الحديث شاهداً من رواية الفزارية امرأة عمر بلفظ "تذهبون الخير فالخير، حتى لا يبقى منكم إلا حثالة كحثالة التمر، ينزو بعضهم على بعض نزو المعز". أخرجه أبو سعيد بن يونس في تاريخ مصر وقال بُعيْدَه: ووقع في آخر حديث الفزارية المذكور آنفاً: "على أولئك تقوم الساعة". وقال في الفتح أيضاً قال ابن بطال: وفيه أنه يجوز انقراض أهل الخير في آخر الزمان حتى لا يبقى إلا أهل الشر، واستدل به على جواز خلو الأرض من عالم حتى لا يبقى إلا أهل الجهل صرفاً". اهـ.

ومنها حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل وتشرب الخمر ويظهر الزنا". رواه البخاري. ومنها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا". رواه البخاري، قال الحافظ في الفتح: واستدل به الجمهور على القول بخلو الزمان عن مجتهد، ولله الأمر يفعل ما يشاء. اهـ. ومنها حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يتقارب الزمان وينقص العلم ويلقى الشح وتظهر الفتن ويكثر الهرج". قالوا: يا رسول الله أيما هو؟ قال: "القتل القتل" رواه البخاري. ومنها حديث أنس بن مالك قال: سمعت من نبيكم صلى الله عليه وسلم: "لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده أشر منه حتى تلقوا ربكم". رواه البخاري. قال الحافظ في الفتح: وبهذا اللفظ أخرج الطبراني بسند جيد عن ابن مسعود نحو هذا الحديث موقوفاً عليه، قال: "ليس عام إلا والذي بعده شر منه". وله عنه بسند صحيح قال: "أمس خير من اليوم، واليوم خير من الغد، وكذلك حتى تقوم الساعة". اهـ. قال الحافظ في الفتح: وقد استشكل هذا الإطلاق، مع أن بعض الأزمنة تكون في الشر دون التي قبلها، ولو لم يكن في ذلك إلا زمن عمر بن عبد العزيز وهو بعد زمان الحجاج بيسير، وقد اشتهر الخير الذي كان في زمن عمر بن عبد العزيز، بل لو قيل إن الشر اضمحل في زمانه لما كان بعيداً، فضلاً عن أن يكون شراً من الزمن الذي قبله، وقد حمله الحسن البصري على الأكثر الأغلب، فسئل عن وجود عمر بن عبد العزيز بعد الحجاج فقال: لابد للناس من تنفيس، وأجاب بعضهم أن المراد بالتفضيل تفضيل مجموع العصر على مجموع العصر، فإن عصر الحجاج كان فيه كثير من الصحابة في الأحياء، وفي عصر عمر بن عبد العزيز انقرضوا، والزمان الذي فيه الصحابة خير من الذي بعده لقوله صلى الله عليه وسلم: "خير القرون قرني". وهو في الصحيحين،

وقوله "أصحابي أمَنَة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون" أخرجه مسلم. ثم وجدت عن عبد الله بن مسعود التصريح بالمراد وهو أولى بالاتباع، فأخرج يعقوب بن شيبة من طريق الحارث بن حصيرة عن زيد بن وهب قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: لا يأتي عليكم يوم إلا وهو شر من الذي كان قبله حتى تقوم الساعة، لست أعني رخاء من العيش يصيبه ولا مالاً يفيده، ولكن لا يأتي عليكم يوم إلا وهو أقل علماً من اليوم الذي مضى قبله، فإذا ذهب العلماء استوى الناس فلا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فعند ذلك يهلكون. اهـ. وقال في الفتح أيضاً: واستشكلوا أيضاً زمان عيسى بن مريم بعد زمان الدجال، وأجاب الكرماني بأن المراد الزمان الذي يكون بعد عيسى، أو المراد جنس الزمان الذي فيه الأمراء، وإلا فمعلوم من الدين بالضرورة أن زمان النبي المعصوم لا شر فيه. قلت: ويحتمل أن يكون المراد بالأزمنة ما قبل وجود العلامات العظام كالدجال وما بعده، ويكون المراد بالأزمنة المتفاضلة في الشر من زمن الحجاج فما بعده إلى زمن الدجال، وأما زمن عيسى عليه السلام فله حكم مستأنف. والله أعلم. اهـ. وقال في الفتح أيضاً: واستدل ابن حبان في صحيحه بأن حديث أنس ليس على عمومه بالأحاديث الواردة في المهدي وأنه يملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً، ثم وجدت عن ابن مسعود ما يصلح أن يفسر به الحديث، وهو ما أخرجه الدارمي بسند حسن عن عبد الله قال: لا يأتي عليكم عام إلا وهو شر من الذي قبله، أما أني لست أعنى عاماً. اه‍ قلت وتمام الحديث: أخصب من عام، ولا أميراً خيراً من أمير، ولكن علماءكم وخياركم وفقهاءكم يذهبون، ثم لا تجدون منهم خلفاً، ويجيء قوم يقيسون الأمر برأيهم. ومنها حديث حذيفة قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين: رأيت أحدهما، وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة. وحدثنا عن رفعها قال: "ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من

قلبه، فيظل أثرها مثل أثر الوكت. ثم ينام النومة فتقبض، فيبقى أثرها مثل المجل، كجمر دحرجته على رجلك فتنفط فتراه منتبراً وليس فيه شيء، ويصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة، فيقال إن في بني فلان رجلاً أميناً، ويقال للرجل ما أعقله وما أظرفه وما أجلده، وما في قلبه حبة من خردل من إيمان". متفق عليه. ومنها حديث حذيفة قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني قال: قلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: "نعم". قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: "نعم، وفيه دخن". قلت: وما دخنه؟ قال "قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر". قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال "نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها". قلت: يا رسول الله صفهم لنا. قال: "هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا". قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم" قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟. قال "فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك" متفق عليه. ومنها حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا". رواه مسلم. ومنها حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا في حجر ضب لاتبعتموهم" قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال "فمن"؟ متفق عليه. ومنها حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء". رواه مسلم. وقد ورد تفسير الغرباء في حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف بن زيد ابن ملحة عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الذين ليأرز إلى الحجاز كما

تأرز الحية إلى حجرها، وليعقلن الدين في الحجاز معقل الأروية من رأس الجبل، إن الدين بدأ غريباً ويرجع غريباً، فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي". رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن. قلت: وفي تحسينه نظر، فإنه من رواية كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده، وكثير هذا اتهمه الشافعي وأبو داود بالكذب، وقال ابن حبان: له عن أبيه عن جده نسخة موضوعة، وأما الترمذي فروى من حديثه "الصلح جائز بين المسلمين" وصححه، فلذا لم يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي، كذا في الميزان. وقد وقع تفسير الغرباء في حديث روى عن أبي الدرداء وأبي أمامة وواثلة بن الأسقع وأنس بن مالك، وهو حديث طويل رواه الطبراني في الكبير، وقد تقدم في بيان السواد الأعظم، وفيه كثير بن مروان وهو أيضاً متهم بالكذب. وورد في تفسير الغرباء أيضاً في حديث عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء" قال: قيل ومن الغرباء؟ قال "النزاع من القبائل" رواه ابن ماجه والدارمي، وجميع رواته ثقات سوى سفيان بن وكيع وهو وإن تكلموا فيه لكنه صدوق، قال ابن خزيمة: لو خر من السماء فتخطفه الطير أحب إليه من أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حسن له الترمذي كذا في الميزان، فهذا الحديث أحسن شيء في الباب، قال في النهاية: وفيه "طوبى للغرباء" قيل: من هم يا رسول الله؟ قال "النزاع من القبائل" هي جمع نازع ونزيع، وهو الغريب الذي نزع من أهله وعشيرته أي بعد وغاب. انتهى. ومنها حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تمسك بسنتي عند فساد أمتي فله أجر مائة شهيد" كذا في المشكاة من غير ذكر المخرج، وفي مجمع الزوائد: وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" "المتمسك بسنتي عند فساد أمتي له أجر شهيد" رواه الطبراني في الأوسط، وفيه محمد بن صالح العدوي، ولم أر من ترجمه وبقية رجاله ثقات.

ومنها حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنكم في زمان من ترك منكم عشر ما أمر به هلك، ثم يأتي زمان من عمل منهم بعشر ما أمر به نجا" رواه الترمذي. ومنها حديث أبي ثعلبة في قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} . وفيه "فإن وراءكم أيام الصبر، فمن صبر فيهن قبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله1، قالوا: يا رسول الله، أجر خمسين منهم؟ قال "أجر خمسين منكم". رواه الترمذي وابن ماجه. ومنها حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر" رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب إسناداً. ومنها حديث عبد الرحمن بن العلاء الحضرمي قال: حدثني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول "إنه سيكون في آخر هذه الأمة قوم لهم مثل أجر أولهم، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقاتلون أهل الفتن" رواه البيهقي في دلائل النبوة. ومنها ما روي عن عبد الله بن الديلمي قال: بلغني أن أول ذهاب الدين ترك السنّة، يذهب الدين سنة فسنة كما يذهب الحبل قوة قوة". رواه الدرامي. ومنها ما روي عن شقيق قال: قال عبد الله: كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير ويربو فيها الصغير، ويتخذها الناس سنة، فإذا غيرت قالوا غيرت السنة، قالوا: ومتى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: إذا كثرت قراؤكم، وقلت فقهاؤكم، وكثرت أمراؤكم وقلت أمناؤكم، والتمست الدنيا بعمل الآخرة. رواه الدارمي. ومنها ما روي عن عبد الله قال: لا يأتي عليكم عام إلا وهو شر من الذي كان قبله، أما إني لست أعني أن عاماً أخصب من عام، ولا أميراً خيراً من أمير، ولكن علماءكم وخياركم وفقهاءكم يذهبون، ثم لا تجدون منهم خلفاً، ويجيء قوم يقيسون الأمر برأيهم. رواه الدارمي، وقد نقل هذا فيما قبل من الفتح.

_ 1 هكذا أورد الحديث، ونصه المروي "فإن من ورائكم أياماً الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم".

ومنها ما روي عن الحسن قال: سنتكم والله الذي لا إله إلا هو بينهما: بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقى، الذين لم يذهبوا مع أهل الأتراف في أترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا. رواه الدرامي. ومنها ما روي عن ابن مسعود: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "تعلموا العلم وعلموه الناس، تعلموا الفرائض وعلموه الناس، تعلموا القرآن وعلموه الناس، فإني امرؤ مقبوض والعلم سيقبض، وتظهر الفتن حتى يختلف اثنان في فريضة لا يجدان أحداً يفصل بينهما". رواه الدارمي. ومنها ما روي عن زياد بن لبيد قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فقال "ذاك عند أوان ذهاب العلم". قلت: يا رسول الله وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ويقرئه أبناؤها أبناءهم إلى يوم القيامة؟ فقال "ثكلتك أمك زياد، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل لا يعملون بشيء مما فيهما "؟ رواه أحمد وابن ماجه. وروى الترمذي عنه نحوه وكذا الدارمي عن أبي أمامة. كذا في المشكاة. قلت: وقد روى الدارمي هذا الحديث أيضاً عن أبي الدرداء قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء ثم قال "هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء". فقال زياد بن لبيد الأنصاري: يا رسول الله كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا، فقال "ثكلتك أمك يا زياد" الحديث. ورواه أحمد والطبراني في الكبير عن أبي أمامة وإسناد الطبراني أصح. وفي الباب عن ابن عمر رواه البزار وفيه سعيد بن سنان، وعن عوف بن مالك رواه البزار، وفيه عبد الله بن صالح، وعن وحشي بن حرب رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن، وعن صفوان بن عسال رواه الطبراني في الكبير، وفيه مسلمة بن علي الخشني وهو ضعيف، كذا في مجمع الزوائد.

ومنها حديث حزام بن حكيم بن حزام عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إنكم قد أصبحتم في زمان كثير فقهاؤه، قليل خطباؤه، كثير معطوه قليل سؤاله، العمل فيه خير من العلم، وسيأتي زمان قليل فقهاؤه وكثير خطباؤه، وكثير سؤاله قليل معطوه، العلم فيه خير من العمل" رواه الطبراني في الكبير، وفيه عثمان بن عبد الرحمن الطرائقي وهو ثقة إلا أنه قيل فيه يروي عن الضعفاء، وهذا من روايته عن صدقة بن خالد وهو من رجال الصحيح. وعن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إنكم في زمان علماؤه كثير وخطباؤه قليل، من ترك فيه عشر ما يعلم هوى، وسيأتي على الناس زمان يقل علماؤه ويكثر خطباؤه، من تمسك فيه بعشر ما يعلم نجا" رواه أحمد، وفيه رجل لم يسم. وعن حزام بن حكيم عن عمه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أصبحتم في زمان كثير فقهاؤه قليل خطباؤه، كثير معطوه قليل سؤاله، العمل فيه خير من العلم، وسيأتي زمان قليل فقهاؤه كثير خطباؤه كثير سؤاله قليل معطوه العلم فيه خير من العمل" رواه الطبراني في الكبير، وفيه صدقة بن عبد الله السمين وهو ضعيف منكر الحديث، كذا في مجمع الزوائد. ومنها حديث حذيفة بن اليمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "سيأتي عليكم زمان لا يكون فيه شيء أعز من ثلاث: درهم حلال، أو أخ يستأنس به، أو سنة يعمل بها" رواه الطبراني في الأوسط، وفيه روح بن صلاح ضعفه ابن عدي وقال الحاكم ثقة مأمون وذكره ابن حبان في الثقات، وبقية رجاله موثقون، كذا في مجمع الزوائد. ومنها حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما أتى على الناس عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه سنة، حتى تحيا البدع وتموت السنن. رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثقون، كذا في مجمع الزوائد. ومنها حديث علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يوشك أن يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا يبقى من القرآن إلا رسمه، مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى، علماؤهم شر من تحت أديم السماء، من عندهم تخرج الفتنة وفيهم تعود" رواه البيهقي في شعب الإيمان، كذا في المشكاة.

ومنها حديث حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدري ما صيام ولا صلاة ولا صدقة، وليسري على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، ويبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة -لا إله إلا الله- فنحن نقولها، فقال له صلة: ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها عليه –ثلاثاً- كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: يا صلة، تنجيهم من النار (ثلاثاً) . رواه ابن ماجه ورواته كلهم ثقات. ومنها حديث ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها1 فقال قائل ومن قلة نحن يومئذ؟ قال بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن" قال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال "حب الدنيا وكراهية الموت" رواه أبو داود والبيهقي في دلائل النبوة، كذا في المشكاة. ومنها حديث ابن مسعود: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء" رواه البخاري. ومنها حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله " رواه مسلم. ومنها حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق" رواه مسلم. ومنها حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة، وذو الخلصة طاغية دوس الذي كانوا يعبدون في الجاهلية. متفق عليه.

_ 1 تداعى عليكم الأمم بفتح التاء، أصله تتداعى، أي يدعو بعضها بعضاً إلى سلب ملككم واستذلالكم كا يتداعون إلى قصعة الطعام لأنكم تكونون مأكلة لها.

ومنها حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يذهب الليل والنهار حتى يعبد اللات والعزى" فقلت: يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} . أن ذلك تام، قال "إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحاً طيبة فتوفي كل من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم" رواه مسلم. ومنها حديث النواس بن سمعان في قصة الدجال وعيسى أو يأجوج ومأجوج وفيه "إذ بعث الله ريحاً طيبة فتقبض روح كل مؤمن ومسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة". فإن قلت: ما وجه الجمع بين تيك الأحاديث وبين حديث: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى تقوم الساعة"، قلت: وجه الجمع حمل الغاية في حديث: "لا تزال طائفة"، على وقت هبوب الريح الطيبة التي تقبض روح كل مؤمن ومسلم، فلا يبقى إلا الشرار، فتهجم الساعة عليهم بغتة، كذا في فتح الباري. وجملة القول في الباب أن السنة كانت غالبة في قرن الصحابة خاصة، ولذا وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية المطلقة، وأما بعده فقد زالت غلبة السنة، ولكن قرن التابعين وقرن تبع التابعين لم تغلب فيهما البدعة أيضاً، ولذا وصفا في الحديث بالخيرية الإضافية، وأما بعد انقراض القرن الثالث فقد صارت السنة غريبة وأهلها غرباء ولا تزال غربتها في زيادة إلى أن تقوم الساعة، اللهم إلا في زمان المهدي رضي الله عنه وعيسى عليه السلام، فلا يجوز التمسك بجمهور إلا بجمهور الصحابة. وقد علم بما نقل من الأحاديث والآثار أن غربة الإسلام ليس معناها أنه يقل أهل الإسلام، دل عليه ما في حدي ثوبان المتقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "بل أنتم يومئذ كثير" (بل) معناها أن الصالحين من أهل الإسلام يذهبون الأول فالأول وتبقى حفالة كحفالة الشعير وغثاء كغثاء السيل، وأن سنن الإسلام وشعبها وشرائعها من الصلاة والصيام والنسك والصدقة وغيرها تذهب وقتا فوقتاً حتى لا يبقى إلا قول لا إله إلا الله،

فإذا بعث الله ريحاً طيبة توفى كل من كان في قبلة مثقال حبة من خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فعليهم تقوم الساعة. ولفظ السنة فيما هنالك يشمل الفرض والسنة والمندوب، كما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السنة سنتان: سنة في فريضة، وسنة في غير فريضة، فالسنة التي في الفريضة أصلها في كتاب الله، أخذها هدى وتركها ضلالة، والسنة التي ليس أصلها في كتاب الله الأخذ بها فضيلة، وتركها ليس بخطيئة" رواه الطبراني في الأوسط وقال: لم يروه عن أبي سلمة إلا عيسى بن واقد، تفرد به عبد الله ابن الرومي ولم أر من ترجمه، كذا في مجمع الزوائد. وإطلاق السنة على ما يشمل الفرض وغيره شائع كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن رغب عن سنتي فليس مني" أي أعرض عن طريقتي فرضاً أو سنة، عملاً أو عقيدة، فليس قريباً مني، أو أعرض عنها غير معتقد لها، كذا في مجمع البحار. وقال الحافظ في الفتح: المراد بالسنة الطريقة لا التي تقابل الفرض، وفي حديث حذيفة الطويل: ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة، قال الحافظ في الفتح: والمراد بالسنن ما يتلقونه عن النبي صلى الله عليه وسلم واجباً كان أو مندوباً. قوله: منها حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطب في الجابية فقال: "من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد". أقول: فيه بحث من وجوه: (الأول) : أن لفظ حديث ابن عمر في (تلبيس إبليس) هكذا: وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سره أن يسكن بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد" اهـ. فليس فيه أنه خطب في الجابية، وليس فيه من أراد بحبوحة الجنة، بل لفظة "من سره أن يسكن بحبوحة الجنة".

و (الثاني) : أن رواية ابن عمر قد ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد ونصه هكذا وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احفظوني في أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يظهر الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد، وحتى يحلف الرجل قبل أن يستحلف، ويبذل نفسه بحلف الزور، فمن سره بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن يد الله على الجماعة، وإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، ولا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان، ومن ساءته سيئته، وسرته حسنته فهو مؤمن" رواه الطبراني في الأوسط، وفيه إبراهيم بن عبد الله بن خالد المصيصي وهو متروك. اهـ. قال الذهبي في الميزان: إبراهيم بن عبد الله بن خالد عن عبد الله بن قيس وإبراهيم المصيصي عن وكيع أحد المتروكين، قال ابن حبان: إبراهيم بن عبد الله بن خالد يسرق الحديث ويروي عن الثقات ما ليس من حديثهم، قلت: هذا رجل كذاب، قال الحاكم: أحاديثه موضوعه. اهـ. ملخصاً. و (الثالث) : أن الحديث من مسانيد عمر لا ابن عمر، دل على ذلك رواية الترمذي لفظه هكذا: حدثنا أحمد بن منيع حدثنا النضر بن إسماعيل أبو المغيرة عن محمد بن سوقة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: خطبنا عمر بالجابية فقال: "يا أيها الناس إني قمت فيكم كمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا فقال: "أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يستحلف، ويشهد الشاهد ولا يستشهد، ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان، عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، من سرته حسنته وساءته سيئته فذلكم المؤمن" هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وقد رواه ابن المبارك عن محمد بن سوقة، وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم اهـ. وهذه الرواية قد ذكرها ابن الجوزي أيضاً في (تلبيس إبليس) ، بل هو أول حديث ذكره في الباب الأول، وما أغفل صاحب الرسالة حيث لم ينقل ما صححه الترمذي ونقل ما فيه متروك كذاب، وهذا أبهر برهان على أنه لا يميز بين الصحيح والسقيم.

و (الرابع) : أن رواية الترمذي في سندها النضر بن إسماعيل أبو المغيرة وهو ضعيف، قال الذهبي في الميزان: قال يحيى: ليس بشيء، وقال النسائي وأبو زرعة: ليس بالقوي، وقال ابن حبان: فحش خطؤه حتى استحق الترك، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به، وقال العجلي: ثقة اهـ. وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: ليس بالقوي اهـ. إلا أن يقال إن المبارك قد تابعه كما ذكره الترمذي فارتقى الحديث إلى درجة الصحة والحسن. وروى هذا الحديث عن عامر بن ربيعة بلفظ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات وليس له طاعة مات ميتة جاهلية، وإن خلعها من بعد عقدها في عنقه لقي الله تبارك وتعالى ليست له حجة، ألا لا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان إلا محرم، فإن الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد، من ساءته سيئاته وسرته حسناته فهو مؤمن" رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني، وفي رواية عنده "بعد عقده إياها في عنقه" وفيه عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف، كذا في مجمع الزوائد. و (الخامس) : أن حديث ابن عمر المذكور ليس دالاً على دعواه وهي لزوم اتباع الجمهور، إذ لفظ "الجماعة" يحتمل معاني: أحدها الجماعة في الصلاة كما في حديث أبي الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من ثلاثة في قرية ولا بلد ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية" قال السائب: يعني بالجماعة الجماعة في الصلاة، رواه النسائي وأبو داود، والبواقي تظهر بملاحظة العبارات التي ننقلها. قال الحافظ في الفتح في (كتاب الفتن) : قال الطبراني: اختلف في هذا الأمر وفي الجماعة، فقال قوم: هو للوجوب والجماعة السود الأعظم، ثم ساق عن محمد بن سرين عن أبي مسعود أنه وصى من سأله –لما قتل عثمان-: عليك بالجماعة، فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة، وقال قوم: المراد بالجماعة الصحابة دون من بعدهم، وقال قوم: المراد بهم أهل العلم، لأن الله جعلهم حجة على الخلق، والناس تبع لهم في أمر الدين.

قال الطبري: والصواب أن المراد من الخبر لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره، فمن نكث بيعته خرج عن الجماعة. اهـ. وقال في (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة) : والمراد بالجماعة أهل الحل والعقد من كل عصر، وقال الكرماني: مقتضى الأمر بلزوم الجماعة أنه يلزم المكلف متابعة ما أجمع عليه المجتهدون، وهم المراد بقوله: وهم أهل العلم، والآية التي ترجم بها احتج بها أهل الأصول لكون الإجماع حجة. اهـ. وقال القسطلاني في (كتاب الفتن) : والجماعة التي أمر الشارع بلزومها جماعة أئمة العلماء، لأن الله تعالى جعلهم حجة على خلقه، وإليهم تفزع العامة في أمر دينها، وهم المعنيون بقوله "إن الله تعالى لن يجمع أمتي على ضلالة"، وقال آخرون: "هم جماعة الصحابة الذين قاموا بالدين وقوموا عماده، وثبتوا أوتاده، وقال آخرون: هم جماعة أهل الإسلام ما كانوا مجتمعين على أمر واجب على أهل الملة اتباعه، فإذا كان فيهم مخالف منهم فليسوا مجتمعين. اهـ. وعلى كل تقدير لا يثبت منه دعوى الخصم وهو لزوم اتباع الجمهور، إنما الثابت منه على المعنى الأول لزوم اتباع الجماعة في الصلاة، وعلى الثاني لزوم ابتاع ما أجمع عليه أهل الإسلام، وعلى الثالث لزوم ابتاع جماعة الصحابة، وعلى الرابع لزوم اتباع أهل العلم أي المجتهدين، وعلى الخامس لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره وهم أهل الحل والعقد من كل عصر، ويؤيد المعنى الخامس حديث عامر بن ربيعة المتقدم، وكفى به مؤيداً، وإن كان الحديث المذكور ضعيفاً فإن التأييد يحصل بالضعيف أيضاً. قوله: وحديث عرفجة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يد الله على الجماعة، والشيطان مع من يخالف الجماعة ". أقول: أخرج هذا الحديث النسائي ولفظه هكذا: عن عرفجة بن شريح الأشجعي قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر يخبط الناس فقال: "إنه سيكون بعد هنات وهنات، فمن رأيتموه فارق الجماعة، أو يريد تفريق أمة محمد كائناً من كان فقتلوه، فإن يد الله

على الجماعة، فإن الشيطان مع من فارق الجماعة يركض، قلت: ورواته كلهم ثقات، وفي مجمع الزوائد وعن عرفجة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يد الله على الجماعة، والشيطان مع من يخالف يركض". رواه الطبراني ورجاله ثقات. اهـ. ولكن المراد بالجماعة –في هذا الحديث- هم الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره لا غير، دل عليه ما رواه مسلم عن عرفجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فاقتلوه". قوله: وحديث أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يد الله على الجماعة، فإذا شذ الشاذ منهم اختطفته الشياطين كما يختطف الذئب الشاة من الغنم". أقول: راجعت كتاب (تلبيس إبليس) : فوجدت فيه الشاذ بدل (الشاة) . وفي مجمع الزوائد: وعن أسامة بن شريك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يد الله عز وجل على الجماعة، وإذا شذ الشاذ منكم اختطفه الشيطان كما يختطف الذئب الشاة من الغنم". رواه الطبراني، وفيه عبد الأعلى بن أبي المساوري وهو ضعيف. اهـ. قال الذهبي في الميزان: عبد الأعلى بن أبي المساور الكوفي الجرار الفاخوري عن الشعبي لحقه جبارة بن المفلس ضعفوه، قال يحيى وأبو داود: ليس بشيء، وقال ابن نمير والنسائي: متروك، وقال الدارقطني: ضعيف. اهـ. فهذا الحديث غير صالح لأن يحتج به، على أن دلالته على المطلوب غير مسلمة، فإن لفظ الجماعة يحتمل الجماعة في الصلاة كما في حديث أبي الدرداء، وجماعة الصحابة وجماعة أهل الحل والعقد الذين هم في طاعة من اجتمعوا على تأميره. وروى النسائي عن أسامة بن شريك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما رجل خرج يفرق بين أمتي فاضربوا عنقه" فهذا الحديث يعين أن المراد بالجماعة في الحديث المذكور هم الذين اجتمعوا على تأمير الأمير، فأين الاستدلال على لزوم اتباع الجمهور؟ قوله: وحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الشيطان

ذئب الإنسان، كذئب الغنم يأخذ الشاة الشاذة القاصية والنائية، فإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة العامة والمسجد". أقول: لم يذكر المصنف هناك حديث عبد الله قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده ثم قال: "هذا سبيل الله مستقيماً، ثم خط عن يمينه وشماله ثم قال: "هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه" ثم قرأ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} . وهو موجود في (تلبيس إبليس) مع أنه هو حديث جيد رواه أحمد والنسائي والدارمي والحاكم وصححه، وابن حميد والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردوية وأبو جعفر الرازي وورقاء وعمرو بن أبي قبيس ويزيد بن هارون ومسدد وابن جرير، كذا في تفسير ابن كثير وفتح البيان وغيرهما. قلت: ورجال بعضهم رجال الصحيحين كالدارمي وأحمد والنسائي، فلعل الباعث على حذفه أن هذا الحديث كان يقطع دابر المبتدعين، ويقوي أمر المتبعين. وحديث معاذ بن جبل الذي ذكره صاحب الرسالة رواه أحمد والطبراني: قال الهيثمي في مجمع الزوائد: وعن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشيطان ذئب الإنسان، كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والنائية، وإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد" رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات، إلا أن العلاء ابن زياد قيل أنه لم يسمع من معاذ بن جبل. اهـ. قلت: قال في الخلاصة: العلاء بن زياد بن مطر البصري أرسل عن معاذ اهـ. قال الذهبي في الكاشف: العلاء بن زياد وأبو نصر العدوي، له مراسيل اهـ. فيكون الحديث ضعيفاً فلا يصلح لأن يحتج به، على أن لفظ "الجماعة" يحتمل جماعة الصلاة، وجماعة أهل الحل والعقد، وجماعة الصحابة، فلا دلالة لهذا الحديث على لزوم اتباع كل جمهور، فلا يتم التقريب. قوله: وحديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اثنان خير من واحد، وثلاثة خير من اثنين، وأربعة خير من ثلاثة، فعليكم بالجماعة فإن الله تعالى لن يجمع أمتي إلا على هدى".

أقول: رواه أحمد، وفي سنده البختري بن عبيد وهو ضعيف متروك، وقد تقدم الكلام عليه، فتذكر.

الأحاديث في لزوم الجماعة والأقوال فيها

الأحاديث في لزوم الجماعة والأقوال فيها ... أحاديث أخرى في لزوم الجماعة للمصنف قلت: قد بقي في الباب أحاديث أخر، فلا بأس هنا أن نذكرها ونتكلم عليها بالإنصاف. منها: حديث أبي بصرة الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سألت ربي عز وجل أربعاً فأعطاني ثلاثة ومنعني واحدة، سألت الله أن لا يجمع أمتي على ضلالة فأعطانيها، وسألت الله أن لا يظهر عليهم عدواً من غيرهم فأعطانيها، وسألت الله أن لا يهلكهم بالسنين كما أهلك الأمم قبلهم فأعطانيها، وسألت الله عز وجل أن لا يلبسهم شيعاً ويذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها". رواه أحمد، كذا في تفسير ابن كثير، وفي سنده رجل لم يسم، كذا في مجمع الزوائد. ومنها: حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سألت ربي لأمتي أربع خصال، فأعطاني ثلاثاً ومنعني واحدة: سألته أن لا تكفر أمتي واحدة فأعطانيها، وسألته أن لا يعذبهم بما عذب به الأمم قبلهم فأعطانيها، وسألته أن لا يظهر عليهم عدواً من غيرهم فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها" رواه ابن مردوية، وروى ابن أبي حاتم نحوه، كذا في تفسير ابن كثير، وهذا حديث مفسر لما جاء في الأحاديث الأخر من لفظ الضلالة، فغاية ما يثبت من أحاديث الإجماع أن ما أجمع عليه الأمة لا يكون كفراً. ومنها: حديث زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرءاً سمع مقالتي فبلغها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" زاد فيه علي بن محمد "ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصح للأئمة المسلمين ولزوم جماعتهم" رواه ابن ماجة وفي سنده ليث بن أبي سليم وهو ضعيف، ورواه الدارمي ولفظه: أخبرنا عصمة بن الفضل حدثنا حرمي بن عمارة عن شعبة عن عمرو بن سليمان عن عبد الرحمن بن أبان بن عثمان عن أبيه قال: خرج زيد بن ثابت

من عند مروان بن الحكم بنصف النهار، قال فقلت: ما خرج هذه الساعة من عند مروان إلا وقد سأله عن شيء فأتيته فسألته، قال: نعم، سألني عن حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً فحفظه فأداه إلى من هو أفقه منه، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ولا يعتقد قلب مسلم على ثلاث خصال إلا دخل الجنة" قال قلت ما هي؟ قال: "إخلاص العمل والنصيحة لولاة الأمر، ولزوم الجماعة فإن دعوتهم تحيط من ورائهم، ومن كانت الآخرة نيته جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا نيته فرق الله عليه شمله وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له" قال: وسألته عن صلاة الوسطى: قال: هي الظهر. قلت: ورواته كلهم ثقات. ومنها: حديث جبير بن مطعم رواه الدارمي بسندين ولفظه هكذا: أخبرنا سليمان بن داود الزهراني أخبرنا إسماعيل بن أبي جعفر حدثنا عمرو بن أبي عمرو عن عبد الرحمن ابن الحويرث عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه أنه شهد خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عرفة في حجة الوداع: "أيها الناس إني والله لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد يوم هذا بمكاني هذا، فرحم الله من سمع مقالتي اليوم فوعاها، فرب حامل فقه ولا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، واعلموا أن أموالكم ودماءكم حرام عليكم كحرمة هذا اليوم في هذا الشهر في هذا البلد، واعلموا أن القلوب لا تغل على ثلاث: إخلاص العمل لله، ومناصحة أولي الأمر، وعلى لزوم الجماعة فإن دعوتهم تحيط من ورائهم". أخبرنا أحمد بن خالد حدثنا محمد هو ابن إسحاق عن الزهري عن محمد بن جبير ابن مطعم عن أبيه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيف من مني فقال: "نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها ثم أداها إلى من لم يسمعها، فرب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب المؤمن: إخلاص العمل لله، وطاعة ذوي الأمر، ولزوم الجماعة، فإن دعوتهم تكون من ورائهم. اهـ. ورجال السند الأول كلهم رجال الصحيحين، غير عبد الرحمن بن الحويرث فإني لم أجده في التقريب والخلاصة والميزان والكاشف، ورجال السند الثاني أيضاً كلهم ثقات، إلا أن محمد

ابن إسحاق مدلس وقد عنعنه: قال الهيثمي في مجمع الزوائد: وله طريق عن صالح بن كيسان عن الزهري ورجالها موثقون. ومنها: حديث أبي الدرداء رواه الدارمي ولفظه هكذا: أخبرنا يحيى بن موسى حدثنا عمرو بن محمد القرشي أخبرنا إسرائيل عن عبد الرحمن بن زبيد اليامي عن أبي العجلان عن أبي الدرداء قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع، ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لكل مسلم، ولزوم جماعة المسلمين فإن دعائهم محيط من روائهم، انتهى. قلت: رجال سنده كلهم ثقات غير عبد الرحمن بن زبيد بن الحارث اليامي الكوفي قال البخاري: منكر الحديث، وقيل: النكارة هي من يحيى بن عقبة الراوي عنه نقل عن البخاري أيضاً كذا في الميزان. قلت: الراوي عنه فيما نحن فيه هو إسرائيل فلا بأس بحديثه والله أعلم. وقال في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الكبير ومداره على عبد الرحمن بن زبيد وهو منكر الحديث قاله البخاري اهـ. قلت: وقد عرفت جواب هذا الجرح، فافهم. ومنها: حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع: "نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها، فرب حامل فقه ليس بفقيه. ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مؤمن: إخلاص العمل لله، والمناصحة لأئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم فإن دعاءهم يحيط من ورائهم، رواه البزار ورجاله موثقون، إلا أن يكون شيخ سليمان بن سيف سعيد بن بزيع فإني لم أر أحداً ذكره، وإن كان سعيد بن الربيع فهو من رجال الصحيح فإنه روى عنهما والله أعلم، كذا في مجمع الزوائد. ومنها: حديث معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله عبدا سمع كلامي ثم لم يزد فيه، فرب حامل فقه إلى أوعى منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن: إخلاص العمل لله، والمناصحة لأولي الأمر، والاعتصام بجماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من روائهم" رواه الطبراني في الكبير والأوسط، إلا أنه قال في الأوسط: "رب

حامل كلمة بدل "فقه" وفيه عمرو بن واقد رمي بالكذب وهو منكر الحديث، كذا في مجمع الزوائد. قال الذهبي في الميزان: عمرو بن واقد الدمشقي عن يونس بن ميسرة وغيره، وعنه يحيى الوحاظي وهشام بن عمار، قال أبو مسهر: ليس بشيء، قال البخاري منكر الحديث، وقال ابن عدي: يكتب حديثه مع ضعفه، وقال الدارقطني: متروك، وروى الفسوي عن دحيم قال: لم يكن شيوخنا يحدثون عنه، وقال: وكان لم يشك أنه كان يكذب، وكذبه مروان بن محمد قال: وهو هالك. اهـ. ملخصاً. ومنها: حديث النعمان بن بشير أنه قال في خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الخيف فقال: "نضر الله وجه عبد سمع مقالتي فحملها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من ورائهم" رواه الطبراني في الكبير، وفيه عيسى الخياط وهو متروك، كذا في مجمع الزوائد. قال الذهبي في الميزان: عيسى بن أبي عيسى ميسرة المدني الحناط وهو الخياط والخباط عمل المعايش الثلاث، وروى عن أنس والشعبي، وعنه وكيع وعبيد الله بن موسى وابن أبي فديك وجماعة، ضعفه أحمد وغيره، قال الفلاس والنسائي متروك، وقال ابن سعد كان يقول: أنا حناط وخياط وخباط كلا قد عالجت، وقال أحمد: لا يساوي شيئاً. اهـ. ملخصاً. ومنها حديث النعمان بن بشير عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رحم الله عبداً سمع مقالتي فحفظها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة المسلمين، ولزوم جماعة المسلمين" رواه الطبراني في الكبير، وفيه محمد بن كبير الكوفي ضعفه البخاري وغيره، ومشاه ابن معين، كذا في مجمع الزوائد. قال الذهبي في الميزان: قال أحمد: خرقنا حديثه، قال البخاري: كوفي منكر الحديث، وقال ابن المديني: كتبنا عنه عجائب وخططت على حديثه، ومشاه ابن معين،

لروى عباس عن يحيى قال: شيعي ولم يكن به بأس، قال ابن عدي: الضعف على حديثه بين اهـ. ملخصاً. ومنها: حديث أبي قرصافة جندرة بن خيشنة1 قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها وحفظها، فرب حامل علم إلى من هو أعلم منه، ثلاث لا يغل عليهن القلب: إخلاص العمل، ومناصحة الولاة، ولزوم الجماعة". قال: وبلغني أن ابناً لأبي قرصافة أسرته الروم فكان أبو قرصافة يناديه من سور عسقلان في وقت كل صلاة: يا فلان الصلاة، فيسمعه فيجيبه وبينهما عرض البحر. رواه الطبراني في الأوسط والصغير، وإسناده لم أر من ذكر أحداً منهم. ومنها: حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها ثم بلغها، فرب مبلغ أوعى من سامع، ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة المسلمين، ولزوم جماعتهم فإن دعوتهم تحيط من وائهم" رواه الطبراني في الأوسط، وفيه محمد بن موسى البريري2 قال الدارقطني: ليس بالقوي، كذا في مجمع الزوائد. ومنها: حديث أنس بن مالك قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسجد الخيف من منى فقال: "نضر الله امرءاً سمع مقالتي فحفظها ثم ذهب بها إلى من لم يسمعها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مؤمن: إخلاص العمل لله، والنصح لمن ولاه الله عليكم الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من روائهم، رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم وهو ضعيف، كذا في مجمع الزوائد.

_ 1 في الأصل حيدرة –بمهملة وياء- ابن خثيمة، والصواب جندرة بجيم مفتوحة ابن خيشنة بمعجمة فياء مثناة تحتية فشين معجمة فنون. وقرصافة بكسر القاف. وكتبه محمد رشيد رضا. 2 في حاشية نسخة الهند: وفي نسخة البربري.

الأخبار والآثار في الحكم والقضاء بالشورى

الأخبار والآثار في الحكم والقضاء بالشورى1 ومنها حديث ابن عباس قال: قلت يا رسول الله، أرأيت إن عرض لنا أمر لم ينزل فيه قرآن ولم تمض فيه سنة منك؟ قال، تجعلونه شورى بين العابدين من المؤمنين، ولا تقضونه برأي خاصة" فذكر الحديث بتمامه، رواه الطبراني في الكبير، وفيه عبد الله ابن كيسان قال البخاري: منكر الحديث، كذا في مجمع الزوائد، قال الذهبي في الميزان: قال البخاري: منكر الحديث، وقال أبو حاتم: ضعيف، وقال النسائي: ليس بالقوي. اهـ. ومنها حديث علي قال: قلت يا رسول الله، إن نزل بنا أمر ليس فيه أمر ولا نهي فما تأمرني؟ قال تشاوروا الفقهاء والعابدين، ولا تمضوا فيه رأي خاصة" رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله موثقون من أهل الصحيح، كذا في مجمع الزوائد. ومنها حديث أبي سلمة الحمصي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمر يحدث ليس في كتاب ولا سنة فقال: "ينظر فيه العابدون من المؤمنين" رواه الدرامي، وهذا حديث رجال سندهم كلهم رجال الصحيحين، إلا أن فيه انقطاعاً. وفي الباب آثار: منها أثر عبد الله بن مسعود: ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيئ، رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير ورجاله موثقون، كذا في مجمع الزوائد، وقد تقدم ذكره. ومنها ما روي عن المسيب بن رافع قال: كانوا إذا نزلت بهم قضية التي ليس فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر اجتمعوا لها وأجمعوا، فالحق فيما رأوا. رواه الدارمي ورجال سنده كلهم رجال الصحيحين، إلا أن هشيماً كثير التدليس، وقد تابعه يزيد، قال الدارمي أخبرنا عبد الله أخبرنا يزيد عن العوام بهذا. ومنها ما روي عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر سنة قضى به، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال:

_ 1 العنوان للمصحح.

أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قضاء فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ على نبينا، فإن أعياه أن يجد فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به، رواه الدارمي ورجال سنده كلهم موثقون. ومنها أثر عبد الله بن مسعود قال: أتى علنيا زمان لسنا نقضي ولسنا هنالك، وإن الله قد قدر من الأمر أن قد بلغنا ما ترون، فمن عرض له قضاء بعد اليوم فليقض فيه بما في كتاب الله عز وجل، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله ولم يقض به رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقض بما قضى به الصالحون، ولا يقل إني أخاف وإني أرى، فإن الحرام بين والحلال بين، وبين ذلك أمور مشتبهة، فدع ما يريبك إلى ما يريبك، رواه الدارمي، وفي سنده حريث بن ظهير قال الذهبي في الميزان: لا يعرف، وفيه سفيان وهو مدلس وقد عنعنه، وقد تابع حريثاً عبد الرحمن بن يزيد، وتابع سفيان شعبة وأبو عوانة وجرير. قال الدارمي في مسنده: أخبرنا يحيى بن حماد حدثنا شعبة عن سليمان عن عمارة بن عمير عن حريث بن ظهير قال: أحسبه أن عبد الله قال: قد أتى علينا زمان وما نسأل وما نحن هناك، وإن الله قدر أن بلغت ما ترون، فإذا سئلتم عن شيء فانظروا في كتاب الله، فإن لم تجدوه في كتاب الله ففي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم تجدوه في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أجمع عليه المسلمون، فإن لم يكن فيما اجتمع عليه المسلمون فاجتهد رأيك ولا تقل إني أخاف وأخشى، فإن الحلال بين والحرم بين، وبين ذلك أمور مشتبهة، فدع ما يريبك إلا ما لا يريبك، حدثنا يحيى بن حماد عن أبي عوانة عن سليمان عن عمارة ابن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله نحوه، أخبرنا عبد الله بن محمد حدثنا جرير عن الأعمش عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله بنحوه. اهـ. وقال النسائي في المجتبى: أخبرنا محمد بن العلاء قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمارة هو ابن عمير وعن عبد الرحمن بن يزيد قال: أكثروا على عبد الله ذات يوم

فقال عبد الله: إنه قد أتى علينا زمان ولسنا نقضي ولسنا هنالك، ثم إن الله عز وجل قدر علينا أن بلغنا ما ترون، فمن عرض له منكم قضاء بعد اليوم فليقض بما في كتاب الله، فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله ولا قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم فليقض بما قضى به الصالحون، فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله ولا قضى به نبيه صلى الله عيه وسلم ولا قضى به الصالحون، فليجتهد رأيه، ولا يقول إني أخاف وإني أخاف، فإن الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور متشبهات، فدع ما يريبك إلى ما يريبك، قال أبو عبد الرحمن1: هذا الحديث حديث جيد اهـ. ورواه النسائي من حديث حريث بن ظهير أيضاً. ومنها ما روى عن شريح عن عمر بن الخطاب كتب إليه: إن جاءك شيء في كتاب الله فاقض به ولا يلتفتك عنه2 الرجال، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فانظر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بها، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم فيه أحد قبلك فاختر أي الأمرين شئت، إن شئت أن تجتهد برأيك ثم تقدم فتقدم، وإن شئت أن تتأخر فتأخر، ولا أرى التأخر إلا خيراً لك، رواه الدارمي ورواته كلهم موثقون. ورواه النسائي ولفظه هكذا: أخبرنا محمد بن بشار قال حدثنا أبو عامر قال حدثنا أبو عامر قال حدثنا سفيان عن الشيباني عن الشعبي عن شريح أنه كتب إلى عمر يسأله، فكتب إليه: أن أقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة رسول الله، فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بما قضى به الصالحون، فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم

_ 1 كتب في حاشية طبعة الهند هنا: أي الدارمي، وهو غلط، بل هو الحافظ أحمد بن شعيب النسائي صاحب السنن. 2 كذا في النسخة، ولعل صوابه يلفتك من الثلاثي فهو من المتعدي بنفسه، قال تعالى: {لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} .

يقض به الصالحون فإن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر، ولا أرى التأخر إلا خيراً لك، والسلام عليكم. اهـ. ولكن ليس في شيء من تيك الأحاديث الدالة على مقصود الخصم من لزوم اتباع كل جمهور، لاحتمال أن يكون المراد ما أجمع عليه الأمة لا يكون كفراً، كما في حدث أبي هريرة الذي رواه ابن مردوية، أو يكون المراد لزوم جماعة أهل الحل والعقد أو يكون المراد ما أجمع عليه الفقهاء الصالحون وهم فقهاء أهل السنة والجماعة. قوله: ومما يعتقده هؤلاء المنكرون للزيارة والتوسل منع طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم. أقول: لابد هناك أولاً من تحقيق لفظ الشفاعة، فاعلم أنه قال ابن الأثير في النهاية: قد تكرر ذكر الشفاعة في الحديث فيما يتعلق بأمور الدنيا والآخرة، وهي السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم، يقال: شفع يشفع شفاعة فهو شافع وشفيع، والمشفع الذي يقبل الشفاعة1 والمشفع الذي يقبل شفاعته. اهـ. وفي مجمع البحار: والشفاعة تكررت في الحديث، وتتعلق بأمور الدنيا والآخرة، وهي السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم، شفع فهو شافع وشفيع والمشفع من يقبلها والمشفع من يقبل شفاعته. اهـ. وقال البيضاوي: والشفاعة من الشفع كأن المشفوع له كان فرداً فجعله الشفيع شفعاً بضم نفسه إليه. اهـ. وقال في فتح البيان: والشفاعة مأخوذة من الشفع وهو الاثنان، تقول استشفعته أي سألته أن يشفع لي، أي يضم جاهه إلى جاهك عند المشفوع إليه ليصل النفع إلى المشفوع. اهـ. وقال الحافظ في فتح الباري: الاستشفاع طلب الشفاعة، وهي انضمام الأدنى إلى الأعلى ليستعين به على ما يرومه. اهـ.

_ 1 المشفع هذا بكسر الفاء المشددة، والذي بعده بفتحها.

إذا دريت هذا فاعلم أن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين ثابتة في الدنيا والآخرة، أما الشفاعة في الدنيا فقد قال الله تعالى في سورة النساء: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} . قال الحافظ ابن كثير في تفسيره تحت هذه الآية: يرشد تعالى العصاة والمذنبين –إذا وقع منهم الخطأ والعصيان- أن يأتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيستغفروا الله عنده، ويسألوه أن يستغفر لهم، فإنهم إذا فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم وغفر لهم. انتهى. قال ابن عبد الهادي في الصارم المنكي: وهذه كانت عادة الصحابة معه صلى الله عليه وسلم أن أحدهم متى صدر منه ما يقتضي التوبة جاء إليه فقال: يا رسول الله فعلت كذا وكذا فاستغفر لي. اهـ. ويدل عليه ما روي عن كعب بن مالك في حديث طويل فيه: فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى. اهـ. وقال تعالى في سورة آل عمران: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} وقال تعالى في سورة محمد: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وقال تعالى في سورة الممتحنة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ –إلى قوله تعالى- فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقال تعالى في سورة التوبة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} قال الحافظ ابن كثير: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} أي ادع لهم واستغفر لهم كما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى بصدقة قوم صلى عليهم، فأتاه أبي بصدقته فقال: "اللهم صل على آل أبي أوفى ". اهـ. وفي فتح البيان قال ابن عباس رضي الله عنهما: استغفر لهم من ذنوبهم التي كانوا

أصابوها، إن صلاتك رحمة لهم اهـ. وكذا نقل السيوطي في الإكليل. وقال تعالى فيها أيضاً: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} . قال السيوطي في الإكليل: فيه تحريم الصلاة على الكافر والوقوف على قبره، وأن دفنه جائز، ومفهومه وجوب الصلاة على المسلم ودفنه ومشروعية الوقوف على قبره والدعاء له والاستغفار. وقال تعالى فيها: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} . فإن مفهومه مشروعية الاستغفار للمؤمنين. ومن هذا القبيل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سلمة حين مات بقوله: "اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره، ونور له فيه" رواه مسلم. ومنه صلاته صلى الله عليه وسلم على الجنازة كما دعا على جنازة بقوله: اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه، واكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله في الجنة، وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار" رواه مسلم. ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم" متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم: "ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه". رواه مسلم. وأيضاً قال صلى الله عليه وسلم: "ما من ميت تصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه" رواه مسلم. ومن هذا القبيل قوله صلى الله عليه وسلم إذا صلى على الجنازة: "اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام،

ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في صلاة الجنازة: "اللهم إن فلان ابن فلان في ذمتك، وحبل جوارك، فقه من فتنة القبر، وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق، اللهم اغفر له وارحمه إنك أنت الغفور الرحيم". رواه أبو داود وابن ماجه. ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة على الجنازة: "اللهم أنت ربها، وأنت خلقتها، وأنت هديتها إلى الإسلام، وأنت قبضت روحها، وأنت أعلم بسرها وعلانيتها، جئنا شفعاء فاغفر له". رواه أبو داود. ومنه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: "استغفروا لأخيكم ثم سلوا له التثبيت فإنه الآن يسئل" رواه أبو داود. ومنه الأدعية المروية عنه صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور فإنها كلها من باب الشفاعة. ومنه دعاؤه صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه كما دعا لأنس رضي الله عنه فقال: "اللهم أكثر ماله وولده وأطل حياته واغفر له" أخرجه البخاري في الأدب المفرد قاله الحافظ في الفتح. ومنه دعاؤه صلى الله عليه وسلم لعبيد أبي عامر بقوله: "اللهم اغفر لعبيد أبي عامر" ورأيت بياض إبطيه فقال: "اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من الناس". رواه البخاري. ومنه دعاؤه صلى الله عليه وسلم للعباس وولده بقوله: "اللهم اغفر للعباس وولده مغفرة ظاهرة وباطنة لا تغادر ذنباً" رواه الترمذي. ومنه ما روي عن جابر قال: استغفر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين مرة، رواه الترمذي. ومنه قال لغفار: "غفر الله لها" رواه البخاري. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للمهاجرين والأنصار" رواه البخاري.

ويدل على هذا القسم من الشفاعة قوله صلى الله عليه وسلم لأبي جرى جابر بن سليم: "أنا رسول الله الذي إن أصابك ضر فدعوته كشفه عنك، وإن أصابك عام سنة فدعوته أنبتها لك، وإذا كنت بأرض قفر أو فلاة فضلت راحلتك فدعوته ردها عليك". وهذا القول في حديث طويل رواه أبو داود. ومنه دعاؤه صلى الله عليه وسلم لبسر حين أخذ بلجام دابته وقال: ادع الله لنا، فقال: "اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم وارحمهم" رواه مسلم. ومنه استسقاؤه صلى الله عليه وسلم لهم كما روى عن أنس بن مالك أنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هلكت المواشي، وانقطعت السبل، فادع الله، فدعا الله فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة، فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله تهدمت البيوت وانقطعت السبل وهلكت المواشي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم على ظهور الجبال والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر" فانجبات عن المدينة انجياب الثوب. رواه البخاري. وعن ابن مسعود قال: إن قريشاً أبطأوا عن الإسلام، فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها، وأكلوا الميتة والعظام، فجاءه أبو سفيان فقال: يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم، وإن قومك هلكوا فادع الله تعالى، فقرأ: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} الآية رواه البخاري في أبواب الاستسقاء. قال الحافظ في الفتح: ولم يقع في هذا السياق التصريح بأنه دعا لهم، وسيأتي هذا الحديث في تفسير سورة (ص) بلفظ "فكشف عنهم ثم عادوا" وفي سورة الدخان من وجه آخر بلفظ "فاستسقى لهم فسقوا" ونحوه في رواية أسباط المعلقة. اهـ. وهذا الضرب من الشفاعة حاصل للأنبياء الآخرين أيضاً، يدل عليه الآيات التي نتلوها عليك. قال الله تعالى في سورة يوسف: {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ. قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} . وقال تعالى في سورة إبراهيم:

{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} وللملائكة1 أيضاً قال الله تعالى في سورة المؤمنون: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ. رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ، وقوله تعالى في سورة الشورى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ، بل عامة المؤمنين مأذونون في هذه الشفاعة قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} . وعن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة" رواه الطبراني وإسناده جيد، كذا في مجمع الزوائد، وفي الباب عن أبي هريرة وأم سلمة وأبي الدرداء، ولكن في رواياتهم ضعف. وهي تكفي للتأييد. وهذا النوع من الشفاعة يجوز طلبه منه صلى الله عليه وسلم بلا مرية، بأن يأتي أحد منهم النبي صلى الله عليه وسلم في حياته ويستشفع به، لا أن يدعوه غائباً عنه، دل عليه قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} الآية، وقوله تعالى: {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} ، وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ} ، وقول الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ادع الله لنا، وقوله صلى الله عليه وسلم لعمر: "إن خير التابعين رجل يقال له أويس، وله والدة وكان به بياض، فمره فليستغفر لكم" رواه مسلم.

_ 1 معطوف على قوله: حاصل للأنبياء.

فإذا جاز طلب هذا الضرب من الشفاعة من غير النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الخير والصلاح فالنبي صلى الله عليه وسلم أولى به.

القسم الثاني من أقسام الشفاعة

القسم الثاني من أقسام الشفاعة ... القسم الثاني شفاعته صلى الله عليه وسلم في عالم البرزخ وفي الباب حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام" قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حياتي خير لكم، تحدثون ويحدث لكم، ووفاتي خير لكم، تعرض علي أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم" رواه البزار ورجاله رجال الصحيح، كذا في مجمع الزوائد. وقال القسطلاني في شرحه على صحيح البخاري: وفي حديث ابن مسعود عند البزار بإسناد جيد رفعه: "حياتي خير لكم، ووفاتي خير لكم، تعرض علي أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم" اهـ. ولا يخفى عليك أن كون رجال الحديث رجال الصحيح أو كون سنده جيداً لا يقتضي صحة الحديث وجودته لجواز أن يكون فيه انقطاع أو شذوذ أو علة أخرى. قال التقي السبكي في (شفاء الأسقام) : وقال بكر بن عبد الله المزني قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم، فإذا أنا مت كانت وفاتي خيرا لكم تعرض علي أعمالكم، فإن رأيت خيراً حمدت الله، وإن رأيت غير ذلك استغفرت الله لكم"، قال ابن عبد الهادي في (الصارم) : هذا خبر مرسل رواه القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتاب (فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم) وقد نقلنا عبارته فيما تقدم، ولو سلم ثبوت ذلك الحديث فليس فيه دلالة على جواز طلب الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم. وبالجملة فطلب هذه الشفاعة عند القبر أو بعيداً منه بدعة، لا يدل عليها دليل شرعي من الكتاب العزيز، والسنة المطهرة. وأما ما روي أن الناس أصابهم قحط في خلافة عمر رضي الله عنه فجاء بلال بن الحارث رضي الله عنه الحديث، وكذا ما روي أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه في زمن خلافته في حاجة فكان لا يلتفت إليه ولا ينظر إليه في حاجته،

فشكا ذلك لعثمان بن حنيف راوي الحديث، وكذا ما روي عن العتبي أنه قال: كنت جالساً عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابي فقال: السلام عليكم يا رسول الله، سمعت الله يقول. الحديث، فقد عرفت جوابه فيما تقدم فتذكر.

القسم الثالث من أقسام الشفاعة

القسم الثالث من أقسام الشفاعة ... لقسم الثالث شفاعته صلى الله عليه وسلم يوم القيامة وهي ثابتة بالكتاب والسنة، وطلبها من النبي صلى الله عليه وسلم في حياته صلى الله عليه وسلم ثابت بما روي عن أنس قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة فقال: "أنا فاعل" قلت: يا رسول الله فأين أطلبك؟ قال: "اطلبني أول ما تطلبني على الصراط" قلت: فإن لم ألقك على الصراط؟ قال: "فاطلبني عند الميزان" قلت: فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: "فاطلبني على الحوض فإني لا أخطئ هذه الثلاث المواطن" رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. قلت: ورجاله رجال الصحيح، وكلهم ثقات، غير حرب بن ميمون أبي الخطاب فقد اختلف فيه، قال الذهبي في الميزان: بصري صدوق يخطئ1، قال أبو زرعة: لين. وقال يحيى بن معين: صالح، وقد وثقه علي بن المديني وغيره، وأما البخاري فذكره في الضعفاء، وما ذكر الذي بعده صاحب الأغمية2، وقد خلط البخاري وابن عدي صاحب الأغمية بأبي الخطاب وجعلهما واحداً، والصواب أنهما اثنان، قال عبد الغني ابن سعيد: هذا مما وهم فيه البخاري، نبهني عليه الدارقطني. اهـ. ملخصاً، قال المؤلف وهو من رواة مسلم. وعن معاذ بن جبل وأبي موسى قالا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلاً كان الذي يليه المهاجرون، قال فنزلنا فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن، قال فتعاررت بالليل أنا ومعاذ فنظرنا فلم نره، قال فخرجنا نطلبه فسمعنا هريراً كهرير الأرحاء إذا أقبل، فلما أقبل

_ 1 وقال الحافظ في التقريب: صدوق رمي بالقدر. اهـ. فهو في المرتبة الخامسة بين الثقات والضعفاء. 2 صاحب الأغمية هو حرب الأصفر، وكنيته أبو عبد الرحمن، وهو متروك على عبادته، والأغيمة بالفتح السقوف كما في التقريب. وكتبه محمد رشيد رضا.

نظر فقال: "ما شأنكم؟ " فقالوا: تنبهنا فلم نرك حيث كنت، خشينا أن يكون أصابك شيء فجئنا نطلبك، قال: "أتاني آت في منامي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة أو شفاعة، فاخترت لهم الشفاعة" فقلنا: إنا نسألك بحق الإسلام وبحق الصحبة لما أدخلتنا في شفاعتك، فدعا لهم، قال فاجتمع عليه الناس وقالوا مثل مقالتنا وكثر الناس فقال: "إني جاعل شفاعتي لمن مات لا يشرك بالله شيئاً" رواه أحمد والطبراني بنحوه، وفي رواية عند أحمد: فقالا ادع الله يا رسول الله أن يجعلنا في شفاعتك، فقال: "أنتم ومن مات لا يشرك بالله شيئاً في شفاعتي" ورجالهما رجال الصحيح، غير عاصم بن أبي النجود وقد وثق وفيه ضعف، ورواه البزار باختصار، ولكن أبا المليح وأبا بردة لم يدركا معاذ بن جبل، كذا في مجمع الزوائد. وفي الباب عن أبي موسى رواه أحمد والطبراني وأحد أسانيد الطبراني رجاله ثقات. وعن مصعب الأسلمي قال: انطلق غلام منا فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أني سائلك سؤالاً، قال: "ما هو؟ " قال أسألك أن تجعلني ممن تشفع له يوم القيامة، قال: "من أمرك بهذا، ومن علمك هذا، ومن دلك على هذا؟ " قال ما أمرني به أحد إلا نفسي. قال: "فإنك ممن أشفع له يوم القيامة". رواه الطبراني ورجاله رحال الصحيح"، وعن عوف بن مالك الأشجعي رواه الطبراني بأسانيد ورجال بعضها ثقات، وعن أبي بن كعب صاحب الحرير رواه الطبراني في الأوسط، وفيه علي بن قرة بن حبيب ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات، وهذا كله في مجمع الزوائد. وكذا طلب هذه الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة أيضاً ثابت بأحاديث صحيحة مروية في الصحاح وغيرها: منها حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يحبس المؤمنون يوم القيامة حتى يهموا بذلك فيقولون: لو استشفعنا ربنا فيريحنا من مكاننا. فيأتون آدم فيقولون: أنت آدم أبو الناس، خلقك الله بيده، وأسكنك جنته، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا" وهذا حديث طويل فيه: فيأتوني فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجداً، فيدعني

ما شاء الله أن يدعني، فيقول: ارفع محمد، وقل تسمع، واشفع تشفع، وسل تعطه" الحديث متفق عليه. وأما طلبها من النبي صلى الله عليه وسلم بعد الوفاة قبل يوم القيامة عند القبر أو بعيداً من القبر فبدعة، وأي ملجئ لنا إلى إحداث هذه البدعة؟ وقد ورد في الأحاديث الصحيحة من الأذكار والأعمال ما يكون سببا لاستحقاق الشفاعة ووجوبها ونزولها، كما في حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قال حين يسمع النداء" اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة" أخرجه البخاري وأهل السنن. وقد ورد في حديث أبي الدرداء في الباب طلب الشفاعة من الله تعالى لا من الرسول صلى الله عليه وسلم ولفظه هكذا قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع النداء قال: "اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، صل على عبدك ورسولك، واجعلنا في شفاعته يوم القيامة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال هذا عند النداء جعله الله في شفاعتي يوم القيام " رواه الطبراني في الأوسط، وفيه صدقة بن عبد الله السمين ضعفه أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم، ووثقه دحيم وأبو حاتم وأحمد بن صالح المصري، كذا في مجمع الزوائد. وكذا ورد في حديث ابن عباس أيضاً طلب الشفاعة من الله تعالى ولفظه هكذا: وعن ابن عباس أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سمع النداء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وبلغه درجة الوسيلة عندك، واجعلنا في شفاعته يوم القيامة، وجبت له الشفاعة". رواه الطبراني في الكبير، وفيه إسحاق بن عبد الله بن كيسان لينه الحاكم وضعفه ابن حبان، وبقية رجاله ثقات، كذا في مجمع الزوائد، وهاتان السنتان وأن كانتا ضعيفتين فالتمسك بهما خير من إحداث بدعة. وجملة القول أن طلب الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم في حياته صلى الله عليه وسلم ثابت بلا شك، وكذلك

طلب الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وهذا لا ينكره أحد، وأما ما يمنعه المانعون فهو طلب الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم بعد الوفاة قبل يوم القيامة، وهو غير ثابت، فعزو منع مطلق طلب الشفاعة إلى المانعين كما فعله صاحب الرسالة لا يخلو عن تلبيس وتدليس. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) : فحينئذ فيقال أما التوسل والتوجه إلى الله وسؤاله بالأعمال الصالحة التي أمر بها كدعاء الثلاثة الذين أووا إلى الغار بأعمالهم الصالحة وبدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم، فهذا مما لا نزاع فيه، بل هو من الوسيلة التي أمر الله بها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} . وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} . فإن ابتغاء الوسيلة إليه هو طلب ما يتوسل به، أي يتوسل ويتقرب به إليه سبحانه وتعالى، كان على وجه العبادة والطاعة وامتثال الأمر، أو كان على وجه السؤال له والاستعاذة به رغبة إليه في جلب المنافع ودفع المضار. اهـ. وقال فيه: والمقصود هنا أن دعاء الله تعالى قد يكون دعاء عبادة لله يثاب العبد عليه في الآخرة مع ما يحصل له في الدنيا، وقد يكون دعاء مسألة يقضي به حاجته، ثم قد يثاب عليه إذا كان مما يحبه الله، وقد لا يحصل له إلا تلك الحاجة، وقد يكون سبباً لضرر دينه فيعاقب على ما ضيعه من حقوق الله وتعداه من حدوده، فالوسيلة التي أمر الله بابتغائها تعم الوسيلة في عبادته وفي مسألته، فالتوسل إليه بالأعمال الصالحة التي أمر بها وبدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم ليس هو من باب الإقسام عليه بمخلوقاته. ومن هذا الباب استشفاع الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة فإنهم يطلبون منه أن يشفع لهم إلى الله، كما كانوا في الدنيا يطلبون منه أن يدعو لهم في الاستسقاء وغيره، وقول عمر رضي الله عنه: إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، معناه نتوسل إليك بدعائه وشفاعته وسؤاله، ونحن نتوسل إليك بدعاء عمه وسؤاله وشفاعته، ليس المراد به أنا نقسم عليك به أو ما يجري هذا المجرى مما يفعل بعد موته وفي مغيبة كما يقول بعض الناس: أسألك بجاه فلان عندك، ويقولون:

إنا نتوسل إلى الله بأنبيائه وأوليائه، ويروون حديثاً موضوعاً: إذا سألتم الله فاسئلوه بجاهي فإن جاهي عند الله عريض. فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه كما ذكر عمر رضي الله عنه لفعلوا ذلك بعد موته ولم يعدلوا عنه إلى العباس مع علمهم بأن السؤال به والإقسام به أعظم من العباس، فعلم أن ذلك التوسل الذي ذكروه هو مما يفعل بالأحياء دون الأموات وهو التوسل بدعائهم وشفاعتهم، فإن الحي يطلب منه ذلك والميت لا يطلب منه شيء لا دعاؤه ولا غيره، وكذلك حديث الأعمى فإنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له ليرد الله عليه بصره فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء أمره فيه أن يسأل الله قبول شفاعة نبيه فيه، فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع فيه، وأمره أن يسأل الله قبول شفاعته، وأن قوله: أسألك التوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة أي بدعائه وشفاعته كما قال عمر: كنا نتوسل إليك بنبينا، فلفظ التوجه والتوسل في الحديثين بمعنى واحد، ثم قال: يا محمد يا رسول الله، إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها، اللهم فشفعه في، فطلب من الله أن يشفع فيه نبيه. اهـ. وقال فيه: وأما قول الناس: أسألك بالله وبالرحم وقراءة من قرأ: {تَسَأَلونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} فهو من باب التسبب بها، فإن الرحم توجب الصلة وتقتضي أن يصل الإنسان قرابته، فسؤال السائل بالرحم لغيره يتوصل إليه بما يوجب صلة من القرابة التي بينهما ليس هو من باب الإقسام، ولا من باب التوسل بما لا يقتضي المطلوب، بل هو توسل بما يقتضي المطلوب كالمتوسل بدعاء الأنبياء وبطاعتهم والصلاة عليهم. اهـ. وقال فيه: فالتوسل بالأنبياء والصالحين يكون بأمرين: إما طاعتهم واتباعهم، وإما دعاؤهم وشفاعتهم، فمجرد دعائهم من غير طاعة منه لهم ولا شفاعة منهم له فلا ينفعه وإن عظم جاه أحدهم عند الله تعالى، وقد بسطت هذه المسائل في غير هذا الموضع، والمقصود هنا إذا كان السلف والأئمة قالوا في سؤاله بالمخلوق ما قد ذكر فكيف بسؤال المخلوق الميت، سواء سئل أن يسأل قضاء الحاجة ونحو ذلك مما يفعله بعض الناس إما عند قبر الميت وإما مع غيبته. اهـ. وقال فيه: وهذا الموضع افترق الناس فيه ثلاث فرق طرفان ووسط: فالمشركون

ومن وافقهم من مبتدعة أهل الكتاب كالنصارى ومبتدعة هذه الأمة أثبتوا الشفاعة التي نفاها القرآن، والخوارج والمعتزلة أنكروا شفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر من أمته، بل أنكر طائفة من أهل البدع انتفاع الإنسان بشفاعة غيره ودعائه، كما أنكروا انتفاعه بصدقة غيره وصيامه عنه، وأنكروا الشافعة بقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} وقوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} . وغير ذلك، وأما سلف الأمة وأئمتها ومن اتبعهم من أهل السنة والجماعة فاثبتوا ما جاءت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم من شفاعته لأهل الكبائر من أمته وغير ذلك من أنواع شفاعته وشفاعة غيره من الأنبياء والملائكة، وقالوا إنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد، وأقروا بما جاءت به السنة من انتفاع الإنسان بدعاء غيره وشفاعته والصدقة عنه بل والصوم عنه في أصح قولي العلماء كما ثبتت به السنة الصحيحة الصريحة1 وما كان في معنى الصوم. وقالوا إن الشفيع يطلب من الله ويسأله، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا بإذنه، قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} – {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} - {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} . وقد ثبت في الصحيح أن سيد الشفعاء صلى الله عليه وسلم إذا طلبت منه الشفاعة بعد أن تطلب الشفاعة من آدم وأولي العزم –نوح وإبراهيم وموسى وعيسى- فيردونها إلى محمد صلى الله عليه وسلم العبد الذي غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال: "فأذهب إلى ربي، فإذا

_ 1 هذا ليس بعام، فإن الثابت في السنة من صوم الولد أو حجه عن أمه أو أبيه لا يتعارض مع قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} فإن ولد الإنسان من كسبه وملحق به بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية، وحديث: " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث " وذكر منها الولد الصالح يدعو له، وهو في صحيح مسلم. وقد حققنا المسألة بالتفصيل في أواخر تفسير سورة الأنعام، وكتبه محمد رشيد رضا.

خررت ساجداً فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن، فيقول: أي محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: رب أمتي أمتي فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة" وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً. أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} . قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون العزير، والمسيح، والملائكة، فأنزل الله هذه الآية، وقد أخبر فيها أن هؤلاء المسؤلين يتقربون إلى الله، ويرجون رحمته ويخافون عذابه. وقد ثبت في الصحيح أن أبا هريرة قال: يا رسول الله أي الناس أسعد بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: "يا أبا هريرة، لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث: أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله" فكلما كان الرجل أتم إخلاصاً لله، كان أحق بالشفاعة، وأما من علق قلبه بأحد من المخلوقين يرجوه ويخافه فهذا من أبعد الناس عن الشفاعة، فشفاعة المخلوق عند المخلوق بإعانة الشافع للمشفوع له بغير إذن المشفوع عنده، بل يشفع إما لحاجة المشفوع عنده إليه وإما لخوفه منه فيحتاج أن يقبل شفاعته، والله تعالى غني عن العالمين، وهو وحده يدبر العالمين كلهم فما من شفيع إلا من بعد إذنه، فهو الذي يأذن للشفيع في الشفاعة، وهو يقبل شفاعته، كما يلهم الداعي الدعاء ثم يجيب دعاءه، فالأمر كله له، فإذا كان العبد يرجو شفعاء من المخلوقين فقد لا يختار ذلك الشفيع، أن يشفع له، وإن اختار فقد لا يأذن الله له في الشفاعة ولا يقبل شفاعته. اهـ. قال ابن عبد الهادي في (الصارم) : وكذلك الشرك بأهل القبور لم يطمع الشيطان أن يوقعهم فيه، فلم يكن على عهدهم في الإسلام قبر نبي يسافر إليه ولا يقصد الدعاء عنده أو تطلب بركته أو شفاعته أو غير ذلك، بل أفضل الخلق محمد خاتم الرسل

صلوات الله وسلامه عليه وقبره عندهم محجوب لا يقصده أحد منهم بشيء من ذلك، وكذلك كان التابعون بإحسان ومن بعدهم من أئمة المسلمين، وإنما تكلم العلماء والسلف في الدعاء للرسول صلى الله عليه وسلم عند قبره: منهم من نهى عن الوقوف للدعاء له دون السلام عليه، ومنهم من رخص في هذا وهذا، ومنهم من نهى عن هذا وهذا، وأما دعاؤه وهو طلب استغفاره وشفاعته بعد موته فهذا لم ينقل عن أحد من أئمة المسلمين لا من الأئمة الأربعة ولا غيرهم. اهـ. وقال فيه أيضاً: ولم يذكر أحد منهم –أي المالكية– أنه استحب أن يسأل بعد الموت لا استغفاراً ولا غيره، وكلامه المنصوص عنه وعن أمثاله ينافي هذا. اهـ. وقال فيه أيضاً: وقد أجدب الناس على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاستقى بالعباس، ففي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه أن عمر استسقى بالعباس رضي الله عنه وقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون، فاستسقوا به كما كانوا يستسقون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وهم إنما كانوا يتوسلون بدعائه وشفاعته لهم فيدعو لهم ويدعون معه كالإمام والمأمومين من غير أن يكونوا يقسمون على الله بمخلوق، كما ليس لهم أن يقسم بعضهم على بعض بمخلوق، ولما مات صلى الله عليه وسلم توسلوا بدعاء العباس واستسقوا به، ولهذا قال الفقهاء: يستحب الاستسقاء بأهل الخير والدين، والأفضل أن يكونوا من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم. وقد استسقى معاوية بيزيد بن الأسود الجُرشي، وقال: اللهم نستسق بيزيد بن الأسود، يا يزيد ارفع يديك، فرع يديه ودعا الناس حتى أمطروا اهـ. ولم يذهب أحد من الصحابة إلى قبر نبي ولا غيره يستسقي عنده ولا به اهـ. وقال فيه أيضاً: واعلم أن قول الشارمساحي: إن قصد الانتفاع بالميت بدعة، صحيح، وهو سر الفرق بين الزيارة المشروعة وغيرها، فإن الزيارة التي شرعها الله ورسوله مقصودها نفع الميت والإحسان إليه، وأن يفعل عند قبره من جنس ما يفعل على نعشه من الدعاء والاستغفار والترحم عليه، فإن عمله قد انقطع وصار محتاجاً إلى

ما يصل إليه من نفع الأحياء له، ولهذا يقال عند زيارته ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته أن يقولوا إذا زاروا القبور ولو كان أهلها سادات أولياء الله وخيار عباده "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية" اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم، فهذا من جنس الدعاء له عند الصلاة عليه، وهذا غير الدعاء به والدعاء عنده، فالمراتب ثلاثة. فالذي شرعه عز وجل ورسوله للأمة الدعاء للميت عند الصلاة عليه، وعند زيارة قبره دون الدعاء به والدعاء عنده، وهذه سنته بحمد الله، إليها التحاكم والتخاصم، ولا التفات إلى تحكيم غيرها البتة كائناً ما كان. وأما انتفاع الزائر فليس بالميت بل بعمله، وهو زيارته ودعاؤه له والترحم عليه والإحسان إليه كما ينتفع المحسن بإحسانه، يوضحه أن الميت قد انقطع عمله الذي ينفع به نفسه، ولم يبق عليه منه إلا ما تسبب في حياته في شيء يبقى نفعه كالصدقة وتعليم العلم ودعاء الولد الصالح، فكيف يبقى عمله للحي وهو عمل لم يعمله له؟ وهل هذا إلا باطل شرعاً؟ ومن جعل زيارة الميت من جنس زيارة الفقير الغني لينال من بره وإحسانه فقد أتى بما هو من أعظم الباطل المتضمن لقلب الحقيقة والشريعة، ولو كان ذلك مقصوداً لزيارة لشرع من دعاء الميت والتضرع إليه، وسؤاله ما يناسب هذا المطلوب، ولكن هذا يناقض ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من التوحيد وتجريده مناقضة ظاهرة، ولا ينبغي الاقتصار على ذلك بأنه بدعة، بل فتح لباب الشرك وتوسل إليه بأقرب وسيلة، وهل أصل عبادة الأصنام إلا ذلك، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} . قال: هؤلاء كانوا قوماً صالحين في قومهم، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، فلما طال عليم الأمد عبدوهم، فهؤلاء لما قصدوا الانتفاع بالموتى قادهم ذلك إلى عبادة الأصنام. اه‍ـ. وقال أيضاً فيه: وكذلك لم يكن أحد من الصحابة يأتيه فيسأله عند القبر عن

بعض ما تنازعوا فيه وأشكل عليهم من العلم، لا خلفاؤه الأربعة ولا غيرهم، مع أنهم أخص الناس به، حتى ابنته فاطمة رضي الله عنها، لم يطمع الشيطان فيهم فيقول لهم اطلبوا منه أن يدعو لكم بالمطر لما أجدبوا، ولا قال اطلبوا منه أن يستنصر لكم ولا أن يستغفر كما كانوا في حياته يطلبون منه أن يستسقي لهم، وأن يستغفر لهم، فلم يطمع الشيطان منهم بعد موته أن يطلبوا منه، ولا طمع بذلك في القرون الثلاثة، وإنما ظهرت هذه الضلالات ممن قل علمه بالتوحيد والسنة، فأضله الشيطان كما أضل النصارى في أمور لقلة علمهم بما جاء به المسيح ومن قبله من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه. اهـ. وقال فيه أيضاً: وهو لم يأمرهم صلى الله عليه وسلم إذا كان لأحد حاجة أن يذهب إلى قبر نبي أو صالح فيصلي عنده ويدعوه أو يدعو بلا صلاة أو يسأله حوائجه أو يسأله أن يسأل ربه، فقد علم الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بشيء من ذلك، ولا أمرهم أن يخصوا قبره أو حجرته لا بصلاة ولا دعاء لا له ولا لأنفسهم، بل قد نهاهم أن يتخذوا بيته عيداً. فلم يقل كما يقول بعض الشيوخ الجهال لأصحابه: إذا كان لكم حاجة فتعالوا إلى قبري، بل نهاهم عما هو أبلغ من ذلك أن يتخذوا قبره أو قبر غيره مسجداً يصلون فيه لله، ليسد ذريعة الشرك. اهـ. وأيضاً قال فيه: وهذه كانت عادة الصحابة معه صلى الله عليه وسلم أن أحدهم متى صدر منه ما يقتضي التوبة جاء إليه فقال: يا رسول الله فعلت كذا وكذا فاستغفر لي، وكان هذا فرقاً بينهم وبين المنافقين، فلما استأثر الله عز وجل بنبيه صلى الله عليه وسلم ونقله من بين أظهرهم إلى دار كرامته لم يكن أحد منهم قط يأتي إلى قبره ويقول يا رسول الله فعلت كذا وكذا فاستغفر لي، ومن ينقل هذا عن أحد منهم فقد جاهر بالكذب والبهتان. اهـ. وأيضاً قال فيه قال: ولم ينقل عن أحد منهم قط –وهم القدوة- بنوع من أنواع الأسانيد أنه جاء إلى قبره ليستغفر له ولا شكا إليه ولا سأله. اهـ. وقال الحافظ ابن القيم في (الإغاثة) : ومنها أن الذي شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور إنما هو تذكر الآخرة والإحسان إلى المزور بالدعاء والترحم عليه

والاستغفار له وسؤال العافية له، فيكون الزائر محسناً إلى نفسه وإلى الميت، فقلب هؤلاء المشركون الأمر وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت وسؤال حوائجهم منه، فأساءوا إلى نفوسهم وإلى الميت. اهـ. وأيضاً قال فيه: فبدل أهل البدع والشرك قول غير الذي قيل لهم، فبدلوا1 الدعاء له بدعائه نفسه، والشفاعة له بالاستشفاع به، وجعلوا الزيارة التي لتذكر الآخرة والإحسان إلى الميت بسؤال الميت والإقسام به على الله، وكيف يكون دعاء الموتى والدعاء عند قبورهم والاستشفاع بهم مشروعاً وعملاً صالحاً وتصرف عنه القرون الثلاثة المفضلة بنص الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يفوز به الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. اهـ. وأيضاً قال فيه: ولو كان للدعاء عند القبور والتبرك بها فضيلة لنصب المهاجرون والأنصار هذا القبر علماً ودعوا عنده، فقد كانوا السابقين إلى كل خير، وكذلك التابعون كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمصار عدد كثير، فما استغاثوا بقبر أحد منهم ولا دعوه، ولا دعوا به ولا دعوا عنده، ولا استشفعوا به، ولو كان ذلك منهم لنقل، أفيكون ذلك فضلاً حرمه خير القرون وجهلوه، وظفر به الخلوف وعلموه؟ أم كانوا عالمين به ولكنهم زهدوا فيه وقد كانوا أحرص الناس على الخير، لو لم يكن منافياً للشرع مع احتياج كل أحد إلى الدعاء سيما عند نزول الحوادث العظيمة به. اهـ. وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الرد على أهل مكة: فإذا كنا على جنازة ندعو له لا ندعوه، ونشفع له لا نستشفع به، فبعد الدفن أولى وأحرى، فبدل أهل الشرك قولاً غير الذي قيل لهم: بدلوا الدعاء له بدعائه، والشفاعة له بالتشفع به. انتهى. وقال أيضاً فيه: وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمصار عدد

_ 1 قوله فبدلوا الخ بدل أو عطف بيان لما قبله.

كثير وهم متوافرون، فما منهم من استغاث عند القبر ولا دعاه ولا استسقى به ولا استنصر به، ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته ولا بغيره من الأنبياء، ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء ولا الصلاة عندها. اهـ. وفي المختصر من الرسائل المؤلفة للشيخ محمد بن عبد الوهاب: ولا ننكر كرامات الأولياء، ونعترف لهم أنهم على هدى من ربهم مهما ساروا على الطريقة الشرعية والقوانين المرعية، إلا أنهم لا يستحقون شيئاً من أنواع العبادة لا حال الحياة ولا حال الممات، ونطلب من أحدهم الدعاء في حال حياته بل ومن كل مسلم، فقد جاء في الحديث: "دعاء المسلم مستجاب لأخيه" الحديث1 وأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر وعلياً سؤال الاستغفار لهما من أويس ففعلا، ونثبت الشفاعة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة كما ورد أيضاً، ونسألها من الله المالك لها والآذن فيها لمن شاء من الموحدين الذين هم أسعد الناس بها، كما ورد بأن يقول أحدنا متضرعاً إلى الله تعالى: اللهم شفع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فينا يوم القيامة، واللهم شفع فينا عبادك الصالحين أو ملائكتك ونحو ذلك مما يطلب من الله لأمتهم، فلا يقال يا رسول الله أو يا ولي الله أسألك الشفاعة وغيرها، وأدركني وأغثني وانصرني على عدوي أو نحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله، فإذا طلب ذلك ممن ذكر في أيام البرزخ كان من أقسام الشرك، إذ لم يرد بذلك نص من الكتاب ولا من السنة ولا حث من السلف الصالح على ذلك، بل ورد الكتاب والسنة وإجماع السلف أن ما ذكر شرك أكبر قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ. قوله: ويقولون أن الله تعالى قد قال في كتابه العزيز: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} فالطالب للشفاعة لا يعلم حصول الإذن للنبي صلى الله عليه وسلم في أنه يشفع له فكيف يطلب منه الشفاعة، ولا يعلم أنه ممن ارتضى، فكيف يطلب الشفاعة؟

_ 1 وتتمته "بظهر الغيب، عند رأسه ملك موكل به كلما دعاء لأخيه بخير قال الملك: آمين ولك بمثل ذلك" رواه أحمد ومسلم وابن ماجة: وكتبه محمد رشيد رضا.

أقول: دليل مانعي طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم بعد الوفاة هو ما ذكر، ولم أر أحداً من المانعين أنهم ذكروا ما نقله صاحب الرسالة في هذا القول، وإنما هو من اختلاقات المؤلف. قوله: واحتجاجهم هذا مردود وباطل بالأحاديث الصحيحة الصريحة في حصول الإذن للنبي صلى الله عليه وسلم بالشفاعة للمؤمنين. أقول: إن أراد أن الأحاديث الصحيحة الصريحة في أن يحصل الإذن للنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة بالشفاعة للمؤمنين فهذا لا ينكره أحد من أهل السنة والجماعة، وإن أراد أن الأحاديث الصحيحة صريحة في أن الإذن بالشفاعة يوم القيامة للمؤمنين حصل الآن فهذا غير مسلم، كيف وليس هناك حديث واحد يدل على هذه الدعوى فضلاً عن الأحاديث الصحيحة. قوله: وقد صحت الأحاديث بأنه صلى الله عليه وسلم يشفع لم قال بعد الأذان، إلى قوله: وجاءت أحاديث صريحة في شفاعته لعصاة أمته. أقول: الثابت مما ذكر إنما هو نفس الشفاعة، وليس فيه تعرض لحصول الإذن الآن أو لعدمه. قوله: فثبت بهذا كله أن الشفاعة ثابتة ومأذون للنبي صلى الله عليه وسلم فيها لكل من مات مؤمناً. أقول: ثبوت الشفاعة وحصول الإذن يوم القيامة مسلم ولكن لا ينكره أحد من أهل السنة الجماعة، وأما حصول الإذن الآن بالشفاعة التي تكون يوم القيامة فثبوته غير مسلم. قوله: فالطالب للشفاعة كأنه يتوسل إلى الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يحفظ عليه الإيمان إلى أن يتوفاه الله عليه فيدخل في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ويكون من أهلها. أقول: صورة طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته التي وقع النزاع في جوازه هي أن يقول أحدهم عن القبر أو بعيداً منه: يا رسول الله اشفع لي، أو يقول يا رسول الله أسألك الشفاعة، ولا يخفاك أن هذه العبارة لا تدل بواحدة من الدلالات الثلاث

المطابقة والتضمن والالتزام على التوسل المذكور، ولو كان مقصود هذا القائل التوسل المحض إلى الله كما زعم صاحب الرسالة لكان حقاً عليه أن يقول: اللهم صلي على محمد واجعلنا في شفاعته يوم القيامة، أو نحوه، وبالجملة فالتأويل الذي ذكره صاحب الرسالة باطل لا يغني عن شيء. قوله: ومما يعتقده هؤلاء المنكرون للزيارة والتوسل منع النداء للميت والجماد، ويقولون إن ذلك كفر وإشراك وعبادة لغير الله تعالى. أقول: المانعون لنداء الميت والجماد وكذا الغائب إنما يمنعونه بشرطين: (الأول) : أن يكون النداء حقيقياً لا مجازياً. و (الثاني) : أن يقصد ويطلب به من المنادى ما لا يقدر عليه إلا الله من جلب النفع وكشف الضر. مثلاً يقال: يا سيدي فلان اشف مريضي وارزقني ولداً، ولا مرية أن هذا النداء هو الدعاء، والدعاء هو العبادة، فكيف يشك مسلم في كونه كفراً وإشراكاً وعبادة لغير الله؟ وأما إذا قصد بهذا النداء أن يدعو الميت والجماد والغائب في حضرة الرب تعالى للمنادين (بالكسر) فنداء الميت بعيداً عن القبر وكذا نداء الغائب يقتضي اعتقاد علم الغيب بذلك الميت والغائب، واعتقاد علم الغيب لغير الله تعالى شرك وكفر مع أنه من محدثات الأمور، وأما نداء الجماد والأموات بهذا القصد فإن لم يكن كفراً وشركاً فلا أقل من أن يكون بدعة وحمقاً، وأما إذا لم يقصد بالنداء لا جلب النفع وكشف الضر ولا الدعاء من المنادين (بالفتح) للمنادين (بالكسر) في حضرة الرب سبحانه وتعالى فيكون النداء الحقيقي جنوناً وسفهاً، وأما النداء المجازي فلا يمنعه أحد. قوله: وحاصل الرد عليهم أن النداء قد يسمي دعاء كما في قوله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} لكنه لا يسمى عبادة، فليس لك دعاء عبادة، ولو كان كل نداء وكل دعاء عبادة لشمل ذلك نداء الأحياء والأموات فيكون كل نداء ممنوعاً مطلقاً سواء كان للأحياء والأموات أم للحيوانات والجمادات وليس الأمر كذلك.

أقول: قد عرفت أن مراد المانعين للنداء ليس مطلق النداء بل النداء الحقيقي الذي يقصد به من المنادى ما لا يقدر عليه إلا الله من جلب النفع وكشف الضر، ولا مرية في أنه عبادة، وكونه عبادة وممنوعاً لا يقتضي كون كل نداء ممنوعاً، حتى يلزم منه عدم جواز نداء الأحياء فيما يقدرون عليه. قوله: وإنما النداء الذي يكون عبادة هو نداء من يعتقد ألوهيته واستحقاقه للعبادة فيرغبون إليه ويخضعون بين يديه. أقول: لا ريب في أن من ينادي أحداً نداء حقيقياً ويقصد به من المنادى ما لا يقدر عليه إلا الله من جلب النفع وكشف الضر فهو يعتقد استحقاقه العبادة1 وإلا لم يصدر منه هذا النداء الذي هو الدعاء وهو من أفراد العبادة، على أن مطلق ارتكاب فعل أو قول أو عمل مما يعد من العبادة هو العبادة ولا يتوقف كونه عبادة على اعتقاد ألوهيته، ومن يدعى ذلك فعليه البيان. قوله: فالذي يوقع في الإشراك هو اعتقاد ألوهية غير الله أو اعتقاد التأثير لغير الله تعالى.

_ 1 تحرير الموضوع أن الدعاء قسمان: دعاء العبادة، ودعاء العادة، فالثاني ما يطلبه الناس بعضهم من بعض مما يقدرون عليه بالأسباب التي سخرها الله لهم، ودعاء العبادة هو طلب ما رواء الأسباب مما لا يقدر عليه إلا رب العباد. والإله في اللغة هو المعبود بالدعاء الذي هو مخ العبادة والفرد الكامل منها أو بغيره مما يتقرب به إلى المعبود من نذر وتعظيم قولي أو عملي باعثه اعتقاد القدرة الغيبية على النفع ومنعه والضر وكشفه من غير طريق الأسباب بالذات أو بالتأثير عند الله، وكانت عبادة قريش لآلهتهم من النوع الثاني وهي دعاؤهم ليشفعوا لهم عند الله ويقربوهم إليه زلفى كما هو صريح نصوص القرآن. ودحلان وأمثاله من متأولة الشرك يجهلون معنى العبادة والألوهية ولا يفرقون بين اتخاذ المخلوق إلهاً بدعائه والنذر له ونحو ذلك وبين تسميته إلها، فيظنون أن الشرك هو تسمية المخلوق إلهاً، فإذا عبده بالدعاء وغيره ولم يسمه إلهاً لا يكون مشركاً، وإذا سمى العبادة توسلاً لا تكون عبادة، والعرب كانوا يسمون هذه المعاني بأسمائها لأن اللغة سليقة لهم، وقد فصلنا هذا مراراً في المنار وتفسيره، وكبته محمد رشيد رضا.

أقول فيه كلام من وجهين: (الأول) : أن اعتقاد ألوهية غير الله واستحقاقه للعبادة متحقق فيما نحن فيه. و (الثاني) : أن هذا الحصر غير مسلم، كيف ومجرد ارتكاب فعل أو قول أو اعتقاد لغير الله مما يعد من العبادة من الدعاء والذبح والنذر والخوف والرجاء والخشية والإنابة والتوكل أيضاً موقع في الإشراك سواء وجد معه اعتقاد ألوهية غير الله أم لا1. قوله: وقد ورد في أحاديث كثيرة نداء الأموات والجمادات. أقول: كون هذا النداء نداء حقيقياً يطلب به من المنادى (بالفتح) ما لا يقدر عليه إلا الله غير مسلم، ومن يدعي فعليه البرهان. قوله: فقولهم كل نداء دعاء وكل دعاء عبادة غير صحيح على إطلاقه وعمومه. أقول: نسبة هذه الكلية والإطلاق والعموم إلى المانعين إفك قديم وبهتان عظيم. قوله: ولو كان الأمر كذلك لامتنع نداء الحي والميت، فإنهما مستويان في أن كلاً منهما لا تأثير له في شيء. أقول: فيه خلل من وجهين: (الأول) : أن لزوم امتناع نداء الحي والميت كان على تقدير الكلية والإطلاق والعموم، وقد عرفت أنه افتراء بحت. و (الثاني) : أن تجشم المؤلف لإثبات الملازمة بين المقدم والتالي بقوله: "فإنهما مستويان" مستغنى عنه ولا مدخل لهذا القول في إثبات الملازمة، وأن الملازمة على تقدير تسليم الكلية مما لا خفاء له. قوله: فإن قالوا إن نداء الحي والطلب منه لشيء من الأشياء إنما هو لكونه قادراً

_ 1 التحقيق أن هذه الأنواع من العبادة لغير الله تتضمن اتخذاه إلهاً بالاعتقاد والفعل وإن لم يسمه إلهاً.

على فعل ذلك الشيء الذي طلب منه، وأما الميت والجماد فإنه عاجز ولا قدرة له على فعل شيء من الأشياء، فنقول لهم: اعتقادكم أن الحي قادر على بعض الأشياء يستلزم اعتقادكم أن العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية، وهو اعتقاد فاسد –إلى قوله– فيستوي الحي والميت والجماد في أن كلاً منهم لا خلق له ولا تأثير1 والمؤثر هو الله تعالى وحده. أقول: (أولاً) معارضة أن اعتقادكم أن الحي لا يقدر على شيء يستلزم اعتقادكم أن العبد مجبور محض لا اختيار له، وهو اعتقاد فاسد ومذهب باطل. (وثانياً) خلا أنا لا نسلم أن اعتقاد أن الحي قادر على بعض الأشياء يستلزم اعتقاد أن العبد يخلق أفعال نفسه، كيف والفرق بين القدرة والخلق جلي واضح لا يخفى على من له أدنى بصيرة؟ وقد مر تحقيق هذه المقالة فيما سلف بما لا مزيد عليه، فتذكر. قوله: والأحاديث التي رد فيها النداء للأموات والجمادات من غير اعتقاد الألوهية والتأثير كثيرة: منها حديث الأعمى الذي تقدمت روايته عن عثمان بن حنيف رضي الله عنه فإن فيه: يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك. وتقدم أن الصحابة رضي الله عنهم استعملوا ذلك الدعاء بعد وفاته صلى الله عليه وسلم. أقول: الجواب على حديث الأعمى على وجوه: (الأول) أن الحديث ضعيف، لأن في سنده عيسى بن أبي عيسى ماهان أبا جعفر الرازي التميمي وقد ضعفه أحمد والنسائي وأبو حاتم والفلاس وابن حبان وأبو زرعة كما ظهر فيما تقدم من عبارة الذهبي.

_ 1 إن الميت لا تأثير له، وأما الحي فله تأثير قطعاً، وهو ما يسميه الأشاعرة كسباً، وبه أسند الشرع إليه الأعمال ورتب عليها الجزاء في الدنيا والآخرة، وعلى كل حال يقال: إذا لم يكن للميت المعتقد تأثير بنفسه، ولا في إرادة الله تعالى كما هو الحق ولا هو من الأسباب العادية، فلماذا يدعونه ويطلبون منه ما لا يطلب في هداية الشرع إلا من الله تعالى بدون أمر من الله، ولا أسوة حسنة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا اتباع لأحد من أصحابه ولا أئمة شرعه؟ وكتبه محمد رشيد رضا.

و (الثاني) أن هذا نداء مجازي يطلب به استحضار المنادَى في القلب فيخاطب المشهود بالقلب كما يقول المصلي "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" قاله الشيخ ابن تيميه رحمه الله في (اقتضاء الصراط المستقيم) . و (الثالث) أن الأعمى إنما طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له في حياته وحضرته، والدعاء في الحياة مما يقدر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولما كان طلب الدعاء من كل مسلم في الحياة مشروعاً فما ظنك بسيد المرسلين والشافعين؟ وأما ما روى الطبراني من أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان في زمن خلافته في حاجته فكان لا يلتفت إليه ولا ينظر إليه في حاجته، فشكا ذلك لعثمان بن حنيف، الحديث، فهذا وإن كان دالاً على أن هذا الدعاء استعمل بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ولكن في سنده روح بن صلاح وقد ضعفه ابن عدي كما تقدم. قوله: وحديث بلال بن الحارث المتقدم أيضاً فإن فيه أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله استسق لأمتك، ففيه النداء بعد وفاته صلى الله عليه وسلم والخطاب بالطلب أن يستسقي لأمته. أقول: قد تقدم أن الحديث رواه سيف بن عمرو الضبي في الفتوح، وهو ضعيف جداً حتى أن ابن حبان قال: اتهم بالزندقة. قوله: ومن ذلك الأحاديث الواردة في زيارة القبور، فإن في كثير منها النداء والخطاب كقوله: السلام عليكم يا أهل القبور، السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ففيها نداء وخطاب، وهي أحاديث كثيرة لا حاجة إلى الإطالة بذكرها. أقول: أحاديث زيارة القبور وإن كان فيها النداء ولكن ليس فيه طلب شيء من الأموات، والكلام في النداء الذي يطلب فيه ما لا يقدر عليه إلا الله. قوله: وتقدم أن السلف والخلف من أهل المذاهب الأربعة استحبوا للزائر أن يقول تجاه القبر الشريف: يا رسول الله إني جئتك مستغفراً من ذنبي، مستشفعاً بك إلى ربي.

أقول: العمدة في الباب ما جاء عن العتبي وهو مما لا تقوم به الحجة كما تقدم، واستحباب أهل المذاهب الأربعة سلفهم وخلفهم ذلك بعد التسليم ليس من الحجة في شيء1. قوله: وقد جاءت صورة النداء أيضا في التشهد الذي يقرؤه الإنسان في كل صلاة حيث يقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. أقول: كون النداء حقيقياً هناك ممنوع، وليس فيه طلب شيء فلم يكن مما نحن فيه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (اقتضاء الصراط المستقيم) : وقوله يا محمد يا نبي الله، هذا وأمثاله نداء يطلب به استحضار المنادى في القلب فيخاطب المشهود بالقلب كما يقول المصلي السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، والإنسان يفعل مثل هذا كثيراً، يخاطب من يتصوره في نفسه وإن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب. اهـ. قال الحافظ في الفتح: فإن قيل ما الحكمة في العدول عن الغيبة إلى الخطاب في قول "عليك أيها النبي" مع أن لفظ الغيبة هو الذي يقتضيه السياق كأن يقول: "السلام على النبي" فينتقل من تحية الله إلى تحية النبي ثم إلى تحية النفس ثم إلى الصالحين؟ أجاب الطيبي بما محصله نحن نتبع لفظ الرسول بعينه الذي كان علمه الصحابة، ويحتمل أن يقال على طريق أهل العرفان: إن المصلين لما استفتحوا باب الملكوت بالتحيات أذن لهم بالدخول في حريم الحي الذي لا يموت، فقرت أعينهم بالمناجاة، فنبهوا على أن ذلك بواسطة نبي الرحمة، وبركة متابعته، فالتفتوا فإذا الحبيب في حرم الحبيب حاضر، فأقبلوا عليه قائلين: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته". اهـ.

_ 1 يعني أن صح النقل عنهم فليس بحجة لأنهم مقلدون ومذاهبهم متفقة على أن الحجة إجماع المجتهدين وأن المقلدين لا حجة ولا عبرة بأقوالهم ولا بأفعالهم، على أن مثل هذا القول لا يصح ثبوته إلا بنص من الكتاب أو السنة لأنه ليس من المسائل الاجتهادية، وكتبه محمد رشيد رضا.

وقد ورد في بعض طرق حديث ابن مسعود هذا ما يقتضي المغايرة بين زمانه صلى الله عليه وسلم فيقال بلفظ الخطاب، وما بعده فيقال بلفظ الغيبة، وهو مما يخدش في وجه الاحتمال المذكور، ففي الاستئذان من صحيح البخاري من طريق أبي معمر عن ابن مسعود بعد أن ساق حديث التشهد قال: وهو بين ظهرانينا فلما قبض قلنا السلام يعني على النبي، كذا وقع في البخاري، وأخرجه أبو عوانة في صحيحه والسراج والجوزقي وأبو نعيم الأصبهاني والبيهقي من طرق متعددة إلى أبي نعيم شيخ البخاري فيه بلفظ: فلما قبض قلنا السلام على النبي بحذف لفظ يعني، وكذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي نعيم. قال السبكي في شرح المنهاج بعد أن ذكر هذه الرواية من عند أبي عوانه وحده: إن صح هذا عن الصحابة دل على أن الخطاب في السلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم غير واجب فيقال: "السلام على النبي". قلت: قد صح بلا ريب، وقد وجدت له متابعاً قوياً، قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن بجريج أخبرني عطاء أن الصحابة كانوا يقولون والنبي صلى الله عليه وسلم حي: السلام عليك أيها النبي، فلما مات قالوا: السلام على النبي، وهذا إسناد صحيح. اهـ. وقال محمد الزرقاني في شرح الموطأ: لكن المقرر في الفروع إنما يقال: "السلام عليك أيها النبي". ولو بعد وفاته اتباعاً لأمره وتعليمه فتمت النكتة. اهـ. قلت: ليس المراد بضمير قلنا جميع الصحابة، فهذا عمر رضي الله عنه كان يعلم الناس على المنبر التشهد وفيه السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، رواه مالك في الموطأ والطحاوي في شرح معاني الآثار ومحمد بن الحسن في موطئه، وهذه عائشة رضي الله عنها كانت تقول في التشهد: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، رواه مالك في الموطأ بسندين ومحمد بن الحسن في موطئة والطحاوي في معاني الآثار، وهذا عبد الله بن الزبير يعلم الناس التشهد على المنبر وفيه السلام عليك أيها النبي، رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار، وهذا أبو بكر رضي الله عنه يعلم التشهد على المنبر

كما تعلمون الصبيان الكتاب، وفيه السلام عليك أيها النبي، رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار. وقد اختلفت الرواية عن ابن عمر رضي الله عنهما، ففي موطأ مالك السلام على النبي، وفي موطأ محمد بن الحسن السلام عليك أيها النبي بكاف الخطاب ولفظ أيها، وهكذا في شرح معاني الآثار للطحاوي. وكذلك اختلفت الرواية عن عبد الله بن مسعود، ففي الاستئذان من صحيح البخاري قال: فلما قبض قلنا السلام يعني على النبي، وقال محمد بن الحسن في موطئه بعد ما روى تشهد ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: وفيه السلام عليك أيها النبي، وكان عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه يكره أن يزاد فيه حرف أو ينقص فيه حرف. انتهى. وروى الطحاوي عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كان عبد الله يأخذ علينا الواو في التشهد، وروى عن المسيب بن رافع قال: سمع عبد الله رجلاً يقول في التشهد بسم الله التحيات لله فقال له عبد الله أتأكل؟ وروى عن إبراهيم أن الربيع بن خثيم لقى علقمة فقال: إنه بدا لي أن أزيد في التشهد ومغفرته، فقال له علقمة: تنتهي إلى ما علمناه. وروى عن إسحاق قال: أتيت الأسود بن يزيد فقلت إن أبا الأحوص قد زاد في خطبة الصلاة: والمباركات، قال: فأته فقل له إن الأسود ينهاك ويقول لك إن علقمة ابن قيس تعلمهن من عبد الله كما يتعلم السورة من القرآن، عدهم عبد الله في يده ثم ذكر تشهد عبد الله، اه‍ـ ما في الطحاوي بحذف الأسانيد. وروى سعيد بن منصور من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم التشهد فذكره فقال ابن عباس: إنما كنا نقول السلام عليك أيها النبي إذ كان حياً، فقال ابن مسعود هكذا علمنا وكذا نعلم، كذا في الفتح، ثم قال الحافظ: لكن رواية أبي معمر أصح، لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه، والإسناد إليه مع ذلك ضعيف. اهـ. قلت: وإن كانت رواية أبي عبيدة ضعيفة لكن تكفي للتأييد، وقال في مجمع الزوائد: وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتشهد، قال فكنا نحفظ عن

رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نحفظ حروف القرآن: الواوات والألفات إذا جلس على وركه اليسرى، رواه الطبراني في الكبير هكذا، وله عند البزار عن الأسود قال: كان عبد الله يعلمنا التشهد في الصلاة فيأخذ علينا الألف والواو، وفي إسناد الطبراني زهير بن مروان الرقاشي ولم أجد من ذكره، وإسناد البزار رجاله رجال الصحيح. اهـ. وكذلك اختلفت الرواية عن ابن عباس، فقد روى الطحاوي أن عطاء قال: سمعت عبد الله بن عباس يقول مثل ما سمعت ابن الزبير يقول، وقد تقدم رواية ما قال ابن الزبير على المنبر وقت تعليم التشهد وفيها: السلام عليك أيها النبي، وروى سعيد ابن منصور ما تقدم آنفاً نقله من الفتح من أن ابن عباس قال: إنما كنا نقول السلام عليك أيها النبي إذ كان حياً. فقد علم مما ذكرنا أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا متفقين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ترك الخطاب، والأحادايث المرفوعة كلها فيها لفظ الخطاب، وقد ورد به الأمر وما يدل على تأكد أمره، ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا صلى أحدكم فليقل التحيات ". ورواه أيضاً مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي والطحاوي ومحمد بن الحسن في موطئه، وفي رواية البخاري وغيره: "لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام ولكن قولوا التحيات لله" وفي رواية: "علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفي بين كفيه التشهد كما يعلمني السورة من القرآن"، وفي صحيح مسلم عن ابن عباس أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن، ورواه أيضاً أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه، وفي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان عند القعدة فليكن من أول قول أحدكم التحيات". ورواه أيضاً أبو داود وابن ماجه، وفي صحيح البخاري عن عبد الرحمن بن أبي ليلي قال: لقيني كعب بن عجرة فقال ألا أهدي لك هدية؟ إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج علينا فقلنا: يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ الحديث، ورواه أيضاً مسلم وأبو داود.

وعن أبي مسعود الأنصاري قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله فكيف نصلي عليك؟ الحديث، وفي آخره "والسلام كما علمتم" رواه مسلم والدارمي، وروى الطحاوي عن عبد الله أنه قال: أخذت التشهد من فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقننيها كلمة كلمة. اهـ. وروى النسائي عن عبد الله قال: كنا لا ندري ما نقوله في كل ركعتين غير أن نسبح ونكبر ونحمد ربنا، وإن محمداً صلى الله عليه وسلم علم فواتح الخير وخواتمه فقال: "إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا: التحيات" الحديث، وفي رواية له قال: كنا لا ندري ما نقول إذا صلينا فعلمنا نبي الله صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم فقال لنا: "قولوا التحيات لله" الحديث، وفي آخره: قال عبيد الله قال زيد عن حماد عن إبراهيم عن علقمة قال: لقد رأيت ابن مسعود يعلمنا هؤلاء الكلمات كما يعلمنا القرآن. اهـ. ورواه الطحاوي وأبو داود ولفظه: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم –وفي رواية له وكان يعلمنا– كلمات ولم يكن يعلمناهن كما يعلمنا التشهد، وفي صحيح مسلم عن حطان بن عبد الله الرقاشي قال: صليت مع أبي موسى الأشعري صلاة، فلما كان عند القعدة قال رجل من القوم: أقرّت (أي قرنت) الصلاة بالبر والزكاة، قال: فلما قضى أبو موسى الصلاة وسلم انصرف فقال: أيكم القائل كلمة كذا وكذا؟ فأرمَّ القوم، ثم قال أيكم القال كلمة كذا وكذا؟ فأرم القوم، فقال لعلك يا حطان قلتها، قال ما قلتها، ولقد رهبت أن تبكعني بها1، فقال رجل من القوم: أنا قلتها ولم أرد بها إلا الخير، فقال أبو موسى: أما تعلمون كيف تقولون في صلاتكم؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا فيبن لنا سنتنا وعلمنا صلاتنا. الحديث، وفي آخره: "وإذا كان عند القعدة فليكن من أول قول أحدكم التحيات". وقد تقدم نقله. فهذه الأحاديث كلها دالة على أن كلمات التشهد توقيفية لا يتصرف فيها بالزيادة

_ 1 بكعه بكته واستقبله بما يكره، وضربه على مواضع متفرقة من جسده، والمناسب من معانيه هنا الأول والثاني وفعله من باب جمع ويشدد للتكثير.

والنقصان، وترك بعض الصحابة الخطاب بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لا يصلح معارضاً لتلك الأحاديث المرفوعة الصحيحة، فالقول ما قال الزرقاني: فعلى هذا لا بد ههنا من بيان توجيه الخطاب، فنقول فيه احتمالات: (الأول) ما قال في المرقاة قال ابن الملك: روى أنه صلى الله عليه وسلم لما عرج به أثنى على الله تعالى بهذه الكلمات فقال الله تعالى "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته". فقال صلى الله عليه وسلم "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقال جبرائيل: أشهد أن لا إله إلا الله الخ. اهـ. وبه يظهر وجه الخطاب وأنه على حكاية معراجه صلى الله عليه وسلم في آخر الصلاة التي هي معراج المؤمنين. اهـ. ويشير إلى هذا المروي القسطلاني حيث قال في شرح التشهد: السلام أي السلامة من المكاره، أو السلام الذي وجه إلى الرسل والأنبياء، أو الذي سلمه الله عليك ليلة المعراج. اهـ. وقال في (مسك الختام، شرح بلوغ المرام) بالفارسية ما معربه: ووجه الخطاب إبقاء هذا الكلام على ما كان في الأصل، فإن ليلة المعراج قد خاطب الله تعالى رسوله بالسلام فأبقاه النبي صلى الله عليه وسلم وقت تعليم الأمة على ذلك الأصل ليكون ذلك مذكراً لتلك الحال اهـ. وتمام بيان القصة مع شرح ألفاظ التشهد في (الإمداد) كذا في رد المحتار، وهذا المروي لم أقف على سنده فإن كان ثابتاً فنعم التوجيه هذا، ونظيره ما ورد في حديث أم سلمة في (الإمداد) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما هي أربعة أشهر وعشراً". رواه البخاري، قال الحافظ في الفتح: كذا في الأصل بالنصب على حكاية لفظ القرآن. اهـ. قلت: كذلك الخطاب في التشهد على حكاية سلام الله ليلة المعراج، ومن هذا القبيل ما وقع في حديث سبيعة في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها من قولها: فولدت قبل أن يمضي بها أربعة أشهر وعشراً من وفاة زوجها، بنصب عشراً1، ومن قول

_ 1 الوجه أن يقال بالنصب كما قال الحافظ في الفتح، فإن عشراً ما نصبت إلى بعطفها على أربعة عشر. وكتبه محمد رشيد رضا.

أبي السنابل لعلك تريدين النكاح قبل أن يمر عليك أربعة أشهر وعشراً بالنصب، رواه النسائي وهذه الحكاية لا يقتضي أن يكون معناها مراداً لقائله على أنه هو قائله، وأن يكون مقصوده مجرد حكاية كلام الآخر فلا يرد عليه ما في المجتبى وغيره من الكتب الفقيهة، ويقصد بألفاظ التشهد معانيها مرادة له على وجه الإنشاء كأنه يحيي الله تعالى ويسلم على نبيه وعلى نفسه وأوليائه، لا الإخبار عن ذلك، ذكره في المجتبى اهـ. ولعلك قد تفطنت من ههنا أن المراد بالإنشاء والإخبار في هذا القول ليس ما هو مصطلح علماء البيان، بل المراد بالإنشاء قول القائل على أنه هو قائله أعم من أن يكون ذلك القول إنشاء أو إخباراً في الاصطلاح، والمراد بالإخبار مجرد نقل قول الغير وحكايته، على أن كلام الفقهاء هذا مما لا دليل عليه، فلو قصد الإخبار عن السلام وحكايته ولم يقصد الإنشاء فأي محذور فيه؟ فإن الإخبار عن السلام سلام كما أن الإخبار عن الحمد حمد، بل هذا أتم وأكمل، فإن فيه إشارة إلى أن المصلي كأنه يعترف بأنه لا يقدر على سلام النبي صلى الله عليه وسلم كما ينبغي ويليق بشأن الرسول صلى الله عليه وسلم وحقه فيقتصر على حكاية سلام الله تعالى على حبيبه1، وقد علم أن الاعتراف بالعجز على آلاء الله تعالى من أكمل أفراد الشكر، فكذلك الاعتراف بالعجز عن سلام النبي صلى الله عليه وسلم ن أكل أفراد السلام فيحصل الامتثال بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ

_ 1 الحق أن هذا وما بعده تنطع، والقول ما قاله الفقهاء، فإننا أمرنا أن نسلم وأن نصلي بهذه الألفاظ، أي ننشئ السلام والصلاة بها، فقولهم لا يحتاج إلى دليل لأنه هو مفهوم الأمر، والإخبار بالسلام بقصد الحكاية دون الإنشاء ليس سلاماً، كما أن حكاية لفظ الحمد أو الإيمان أو الكفر ليس حمداً ولا إيماناً ولا كفراً بالبداهة، وقوله بل هذا أتم وأكمل، وما علله به، كلاهما تنطع ولا يصح، فهو لا يتضمن الاعتراف بعدم القدرة لغة، وهو يشبه تنطع بعض الصوفية إذ قال: اللهم احمد نفسك عمن أمرته أن يتخذك وكيلاً، ولو قال: إن قصد الجمع بأن الإنشاء والحكاية أكمل لصح قوله وتم مراده، وكتبه محمد رشيد رضا.

وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} . على تقدير الحكاية والإخبار أيضاً، وكيف لا يحصل الامتثال بالأمر بهذه الحكاية وقد علمها الله نبيه صلى الله عليه وسلم وعلم نبيه أمته؟ و (الثاني) أن هذا الخطاب علمه النبي صلى الله عليه وسلم الحاضرين من الصحابة أولاً ثم أبقى على حاله، وأمثال هذا كثير في الشرع، منها الرمل فإنه كان أولاً للصحابة الذين قال المشركون فيهم "إنه يقدم عليكم وفد وهنهم حمى يثرب" ومن ثم قال عمر رضي الله عنه ما لنا وللرمل إنما كنا رأينا المشركين وقد أهلكم الله ثم أبقى على غيرهم، ولذا قال عمر رضي الله عنه بعده: شيء صنعه النبي صلى الله عليه وسلم فلا نحب أن نتركه، ومنها رمي الجمار إذ أصله رمي الخليل عليه السلام الشيطان عند الجمار لما عرض له عندها بالإغواء للمخالفة في ذبح الولد. قال الإمام أحمد: حدثنا شريح ويونس قالا حدثنا حماد بن سلمة عن أبي عاصم الغنوي عن أبي الطفيل عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: لما أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالمناسك عرض له الشيطان عند السعي فسابقه فسبقه إبراهيم عليه السلام ثم ذهب به جبرائيل إلى جمرة العقبة فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات، ثم تله للجبين وعلى إسماعيل عليه السلام قميص أبيض، فقال له: يا أبت إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره فأخلعه حتى تكفنني فيه، فعالجه ليخلصه، فنودي من خلفه: {أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} . فالتفت إبراهيم فإذا بكبش أبيض أقرن أعين، كذا في تفسير ابن كثير وفي معالم التنزيل. وروى أبو الطفيل عن ابن عباس رضي الله عنهما عن إبراهيم لما أمر بذبح ابنه عرض له الشيطان بهذا المشعر فسابقه فسبقه إبراهيم ثم ذهب إلى جمرة العقبة فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أدركه عند الجمرة الكبرى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم مضى إبراهيم لأمر الله عز وجل: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} . اه‍ـ. ومنها قصر الصلاة في السفر فإنه شرع للخوف، قال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ

فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} . وروى مسلم في صحيحه عن يعلى قال: قلت لعمر بن الخطاب: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} . فقد أمن الناس، فقال: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته". اهـ.‍ وقال الحافظ في الفتح: قيل هو من الأشياء التي شرع الحكم فيها بسبب ثم زال السبب وبقي الحكم كالرمل، وفي جواب عمر إشارة إليه، وروى السراج من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن أبي حنظلة وهو الحذاء لا يعرف اسمه قال: سألت ابن عمر عن الصلاة في السفر فقال: فقلت إن الله عز وجل قال: {إِنْ خِفْتُمْ} . ونحن آمنون؟ فقال: سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يرجح ما قيل اه‍ـ ملخصاً، ولعل هذا الاحتمال أراد الطيبي حيث قال: نحن نتبع لفظ الرسول بعينه الذي كان علمه الصحابة الحاضرين. و (الثالث) ما ذكره الطيبي من أنه يحتمل أن يقال على طريق أهل العرفان: إن المصلين الخ. وقد سبق نقل عبارته فيما تقدم من الفتح، وحاصله أن الخطاب والنداء مجازي، ولعل شيخ الإسلام ابن تيميه أراد هذا المعنى أو نحوه حيث قال: هذا وأمثاله نداء يطلب به استحضار المنادى في القلب فيخاطب المشهود بالقلب اهـ. وقد نقل عبارته فيما تقدم. و (الرابع) أنه صلى الله عليه وسلم نصبُ العين للمؤمنين، وقرة العين للعابدين، دائماً في جميع الأحوال والأوقات سيما حالة العبادة، فإن النورانية والانكشاف في هذه الحال أكثر وأقوى، كذا في مسك الختام. ويؤيد هذا المعنى ما ورد في الحديث الصحيح في عذاب القبر من أن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان ما كنت تقول في هذا الرجل؟ لمحمد صلى الله عليه وسلم، رواه البخاري من حديث أنس بن مالك.

قال القسطلاني: وعبر بذلك امتحاناً لئلا يتلقن تعظيمه من عبارة القائل، والإشارة في قوله "هذا" لحاضر فقيل: يكشف للميت حتى يرى النبي صلى الله عليه وسلم، وهي بشرى عظيمة للمؤمن إن صح ذلك، ولا نعلم حديثاً صحيحاً مروياً في ذلك، والقائل به إنما استند لمجرد أن الإشارة لا تكون إلا لحاضر، لكن يحتمل أن تكون الإشارة لما في الذهن فيكون مجازاً اهـ. وهذا الاحتمال أيضاً يؤول إلى أن هذا الخطاب والنداء مجازي. و (الخامس) ما قاله بعض العرفاء أن هذا الخطاب وجهه سريان الحقيقة المحمدية عليها الصلاة والسلام في ذرائر الموجودات، وأفراد الممكنات، فهو صلى الله عليه وسلم موجود في ذوات المصلين، فلابد للمصلي أن يتنبه إلى هذا المعنى، ولا يغفل عن هذا الشهود، ليتنور بأنوار القرب وأسرار المعرفة، ذكره صاحب مسك الختام. قلت: هذا مما لا دليل عليه من الكتاب والسنة، بل عسى أن يكون باطلاً فلا يصغي إليه1. وتحقيق المقام يقتضي تمهيداً، وهو أن تشهده صلى الله عليه وسلم كان مثل ما علم الأمة فيقول صلى الله عليه وسلم في التشهد "السلام عليك أيها النبي" ما أمر الأمة. قال الطحاوي في (شرح معاني الآثار) : حدثنا محمد بن حميد أبو قرة قال حدثنا سعيد بن أبي مرج قال أخبرنا ابن لهيعة قال حدثني الحارث بن يزيد أن أبا أسلم المؤذن حدثه أنه سمع عبد الله بن الزبير يقول: إن تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يتشهد به "بسم الله وبالله خير الأسماء، التحيات الطيبات الصلوات لله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، اللهم اغفر لي واهدني". اهـ.

_ 1 أحسن المصنف وأصاب في رد هذا الباطل المشتق من كلام أصحاب الوحدة وأهل الغلو، ولو لم يكن فيه سوى أنه قول على الله وعلى رسوله بغير علم لكفى في رده والإعراض عنه اهـ. من حاشية خطية على نسخة الأصل.

وفي مجمع الزوائد عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتشهد في الصلاة، قال فكنا نحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نحفظ حروف القرآن الواوات والألفات إذا جلس على وركه اليسرى. رواه الطبراني في الكبير هكذا. وأيضاً في مجمع الزوائد عن أبي الورد أنه سمع عبد الله بن الزبير يقول: إن تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتشهد "ببسم الله وبالله خير الأسماء، التحيات الطيبات الصلوات لله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، السلام عليك أيها النبي الكريم ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، اللهم اغفر لي واهدني". رواه البزار والطبراني في الكبير والأوسط وزاد فيه: وحده لا شريك له، وقال في آخره: هذا في الركعتين الأوليين، ومداره على ابن لهيعة وفيه كلام. اه‍ـ وأيضاً في مجمع الزوائد: وعن عبد الله بن مسعود قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد في وسط الصلاة وفي آخرها قال فكان يقول إذا جلس في وسط الصلاة، وفي آخرها على وركه اليسرى: "التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا اله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله". قال ثم إن كان في وسط الصلاة نهض حين يفرغ من تشهده، وإن كان في آخرها دعا بعد تشهده ما شاء الله أن يدعو ثم يسلم. قلت: هو في الصحيح باختصار عن هذا، رواه أحمد ورجاله موثقون، ورواه بسند آخر وقال بعد قوله "وأشهد أن محمداً عبده ورسوله" قال: "فإذا قضيت هذا –أو فعلت هذا– فقد قضيت صلاتك، فإن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد". رواه الطبراني في الأوسط، وبين أن ذلك من قول ابن مسعود من قوله: فإذا فرغت عن هذا فقد قضيت صلاتك، كذلك لفظه عند الطبراني، ورجال أحمد موثقون اهـ. وبعض هذه الروايات وإن كانت ضعيفة لكن تكفي للتأييد. وفي (المواهب) وشرحها للسيد محمد الزرقاني نقلاً عن النووي بعد ذلك ألفاظ التشهد ما نصه: وفي هذا فائدة حسنة وهي أن تشهده عليه السلام بلفظ تشهدنا. اهـ.

ويقوي هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بجميع ما أمر به أمته، إلا ما ورد فيه دليل دال على أنه صلى الله عليه وسلم خارج عنه، والأمة مأمورة بالسلام لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} . والسلام كان مجملاً فوقع قوله صلى الله عليه وسلم "فإذا صلى أحدكم فليقل التحيات لله" اهـ. وقوله "ولكن قولوا التحيات لله" اهـ. رواهما البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود بياناً له، وليس هناك دليل يدل على أنه صلى الله عليه وسلم خارج عن هذا الحكم، فعلم منه أن تشهد النبي صلى الله عليه وسلم كان مثل تشهدنا، وأيضاً هذا التشهد عام للحاضرين من الصحابة والغائبين والموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولمن جاءوا بعده، إذ الخطاب في قوله "إذا صلى أحدكم" وقوله "ولكن قولوا" يشمل الحاضرين والغائبين والموجودين والمعدومين إلى يوم القيامة، مثل سائر الخطابات الوادرة في الوضوء والصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها، وليس هنك حديث يدل على أن للغائبين والمعدومين تشهداً آخر غير هذا التشهد. إذا عرفت هذا فقد علمت بطلان الاحتمالات الأربعة الأخيرة، والملازمة ظاهرة فلا نطول الكلام ببيانها، فوجه الخطاب حينئذ إما الاحتمال الأول إن ثبت ما روي فيه وإلا فهو مما لم نؤت علمه، فينبغي لنا أن لا نبحث فيه ونكل أمره إلى الله تعالى، قال الله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} . وإذاً يكون هذا الخطاب معدولاً عن العقل والقياس، فيكون مقصوراً على مورده، فلا يقتضي هذا الخطاب جواز خطابه صلى الله عليه وسلم وندائه في غير تشهد الصلاة. قوله: وصح عن بلال بن الحارث رضي الله عنه أنه ذبح شاة عام القحط المسمى الرمادة فوجدها هزيلة، فصار يقول: وامحمداه، وامحمداه. أقول: فيه كلام من وجهين: (الأول) أن دعوى صحة هذا الأثر مفتقرة إلى إقامة الحجة عليها، ودونها لا يلتفت إليها.

و (الثاني) أن هذا ليس نداء بل ندبة، كما تقرر في مقره من أن "وا" إنما تدخل على المندوب لا على المنادى، فإن قلت: المندوب عند البعض داخل في المنادى، فالجواب أن من يدخله في المنادى فالجواب أن من يدخله في المنادى فإنما يدخله في المنادى الحكمي لا الحقيقي، فلم يكن مما نحن فيه في شيء. قوله: وصح أيضاً أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما قاتلوا مسليمة الكذاب كان شعارهم: وامحمداه وامحمداه. أقول: الكلام عليه بوجهين: (الأول) أن القول بصحة هذا الأثر كلام بلا دليل فلا يقبل. و (الثاني) أن هذا مندوب أو منادى حكمي فلم يكن مما نحن فيه في شيء. قوله: وفي (الشفاء) للقاضي عياض أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه خدلت رجله مرة فقيل له اذكر أحب الناس إليك، فقال: وامحمداه فانطلقت رجله. أقول فيه كلام من وجوه: (الأول) أن نص الشفاء هكذا: وروي أن عبد الله بن عمر خدرت رجله فقيل له: اذكر أحب الناس إليك يزل عنك، فصاح: يا محمداه، فانتشرت. اه‍ـ. فالمؤلف قد أخطأ في نقل هذه العبارة القصيرة في مواضع، فكتب خدلت وإنما هي خدرت، وزاد لفظ مرة قبل فقيل، وحذف لفظ يزل عنك، وبدل لفظ فقال مكان فصاح، ولفظ وا موضع يا، ولفظ فانطلقت رجله محل فانتشرت، ولعل الخطأ الأول من الناسخ، ولفظ الحديث في الأذكار هكذا: عن الهيثم بن حبش قال: كنا عند عبد الله بن عمر فخدرت رجله، فقال له رجل: اذكر أحب الناس إليك، فقال: يا محمد صلى الله عليه وسلم فكأنما نشط من عقال اهـ. قال في النهاية: ومنه حديث ابن عمر أنها خدرت رجله فقيل له ما لرجلك؟ فقال اجتمع عصبها، قيل اذكر أحب الناس إليك فقال يا محمد فبسطها اهـ. أخرجه ابن السني في (عمل اليوم والليلة) وكذا في (الحصن الحصين) و (منهال الصفا في تخريج أحاديث الشفا) .

و (الثاني) المطالبة بإثبات صحة هذا الأثر أو حسنه ودونه لا يصغى إليه. و (الثالث) أن هذا ليس نداء حقيقياً، إنما هو ندبة أو نداء مجازي. قوله: وجاء الخطاب والنداء للجمادات في أحاديث كثيرة، منها أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل أرضاً قال "يا أرض، ربي وربك الله" فهذا نداء وخطاب لجماد، ولا كفر ولا إشراك فيه، إذ ليس فيه اعتقاد ألوهية واستحقاق عبادة ولا اعتقاد تأثير لغير الله تعالى. أقول: هذا الخطاب والنداء مجازي، وقد تقدم شيء من بيانه، وسيأتي مزيد تحقيق لذلك الحديث. قوله: وقد ذكر الفقهاء في آداب السفر أن المسافر إذا انفلتت دابته بأرض ليس بها أنيس فليقل: يا عباد الله احبسوا، وإذا أضل شيئاً أو أراد عوناً فليقل: يا عباد الله أعينوني أو أغيثوني فإن لله عباداً لا نراهم، واستدل الفقهاء على ذلك بما رواه ابن السني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد: يا عباد الله احبسوا، فإن لله عباداً يجيبونه" ففيه نداء وطلب نفع. أقول: هذا الحديث ضعيف، قال في مجمع الزوائد: وعن عبد الله بن مسعود أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد: يا عباد الله احبسوا، يا عباد الله احبسوا، فإن لله حاضراً في الأرض ليحسبه". رواه أبو يعلى والطبراني، وفيه معروف بن حسان وهو ضعيف اهـ. قال الذهبي في الميزان: معروف بن حسان أبو معاذ السمرقندي عن عمر بن ذر، قال ابن عدي: منكر الحديث، قد روى عن عمر بن ذر نسخة طويلة كلها غير محفوظة، وقال قاسم بن حنبل السرخسي حدثنا إسحاق بن إسماعيل السمرقندي حدثنا معروف بن حسان عن ابن أبي ذئب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ربى شجرة كان له كأجر قائم الليل صائم النهار، كأجر غاز في سبيل الله دهره". اهـ. وعلى تقدير ثبوته ففيه نداء للأحياء وطلب منهم ما يقدرون عليه، وهذا مما

لا نزاع في جوازه، والعجب من المؤلف أنه ذكر هذا الحديث في باب الخطاب والنداء للجمادات، وعباد الله الذين وقع ذكرهم في الحديث ليسوا بجمادات. قوله: وفي حديث آخر رواه الطبراني أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ضل أحدكم شيئاً أو أراد عوناً وهو بأرض ليس فيها أنيس فليقل: يا عباد الله أعينوني" وفي رواية "أغيثوني، فإن لله عباداً لا ترونهم" قال العلامة ابن حجر في حاشيته على (إيضاح المناسك) : وهو مجرب كما قاله الراوي للحديث المذكور. أقول: قال في (مجمع الزوائد) وعن عتبة بن غزوان عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ضل أحدكم شيئاً –أو أراد أحدكم عونا- وهو بأرض ليس بها أنيس فليقل: يا عباد الله أعينوني، يا عباد الله أعينوني، يا عباد الله أعينوني، فإن لله عباداً لا نراهم" وقد جرب ذلك، رواه الطبراني ورجاله وثقوا على ضعف في بعضهم، إلا أن زيد بن علي لم يدرك عتبة. اهـ. فالحديث ضعيف بسبب الانقطاع، فادعاء المؤلف فيما تقدم صحته ليس بشيء، وعلى تقدير ثبوته فليس فيه إلا نداء الأحياء، والطلب منهم مما يقدر هؤلاء الأحياء عليه، وذلك مما لا يجحده أحد، وذكر هذا الحديث أيضاً في نداء الجمادات دال على أن ذاكره ليس له حظ من العقل. قلت: وفي الباب عن ابن عباس رضي الله عنهما قال في مجمع الزوائد: وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله ملائكة في الأرض -سوى الحفظة- يكتبون ما سقط من ورق الشجر، فإذا أصاب أحدكم شيء بأرض فلاة فليناد: أعينوني عباد الله" رواه البزار ورجاله ثقات. اهـ. قلت: كون الرجال ثقات لا يقتضي صحة الحديث أو حسنه، لاحتمال أن يكون فيه انقطاع أو شذوذ، وعلى تقدير ثبوت الحديث فالثابت منه جواز نداء الأحياء أو طلب ما يقدرون عليه منهم، وذلك لا ينكره أحد. قوله: وروى أبو داود وغيره عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان

رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل الليل قال: "يا أرض، ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرك ومن شر ما فيك وشر ما خلق فيك، وشر ما يدب عليك، أعوذ بالله من أسد وأسود، ومن الحية والعقرب، ومن شر ساكن البلد، ووالد وما ولد". أقول: هكذا قال النووي في الأذكار، رواه أبو داود وغيره، وعزاه صاحب المشكاة إلى أبي داود فقط ورمز له في الحصن الحصين (د، س، مس) وهو دال على أنه أخرجه أبو داود في سننه والنسائي والحاكم في المستدرك. وقال في نزل الأبرار: قلت: أخرجه أيضاً أبو داود والترمذي والحاكم في المستدرك من حديث ابن مسعود وقال صحيح الإسناد. اهـ. قلت: وإني راجعت سنن أبي داود والمجتبى والترمذي فما وجدته إلا في سنن أبي داود ونصه هكذا: حدثنا عمرو بن عثمان أخبرنا بقية حدثني صفوان حدثني شريح بن عبيد عن الزبير بن الوليد عن عبد الله بن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل الليل قال: "يا أرض ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك وشر ما خلق فيك وشر ما يدب عليك، وأعوذ بالله من أسد وأسود ومن الحية والعقرب ومن ساكني البلد ومن والد وما ولد". اهـ. وفي هذا السند الزبير بن الوليد وهو مجهول، لأنه تفرد عنه شريح بن عبيد، كذا في الميزان، قال في الخلاصة: وثقه ابن حبان، وقال الحافظ في التقريب: مقبول. قلت: قد عرفت فيما تقدم أن توثيق ابن حبان لا اعتداد به، وأن التعديل بلفظ مقبول من أدنى مراتب التعديل، وحكمه أنه يكتب حديثه للاعتبار لا للاحتجاج به. قوله: وروى الترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما والدارمي عن طلحة ابن عبيد الله رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال: "ربي وربك الله" ففيه خطاب للجماد. أقول: رمز لهذا الحديث في الحصن الحصين (ت. حب. مي) وهو يدل على أنه أخرجه الترمذي وابن حبان في صحيحه والدارمي، وعزاه صاحب المشكاة إلى الترمذي من حديث طلحة، وقد راجعت الترمذي والدارمي، فنص الترمذي هكذا:

حدثنا محمد بن بشار أخبرنا أبو عامر العقدي أخبرنا سليمان بن سفيان المديني قال حدثني بلال بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله عن أبيه عن جده طلحة بن عبيد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال: "اللهم أهله علينا باليمن والإيمان والسلامة والإسلام، ربي وربك الله"، هذا حديث حسن غريب، هذا آخر كلام الترمذي. ولفظ الدارمي هكذا: أخبرنا سعيد بن سليمان عن عبد الرحمن بن عثمان بن إبراهيم حدثني أبي عن أبيه وعمه عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال قال: "الله أكبر، اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والتوفيق لما يحب ربنا ويرضى، ربنا وربك الله" أخبرنا محمد بن يزيد الرفاعي وإسحاق بن إبراهيم العقدي حدثنا سليمان بن سفيان المديني عن بلال بن يحيى بن طلحة عن أبيه عن طلحة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال قال: "اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، ربي وربك الله" هذا آخر كلام الدارمي. فعلم من هنا أن الترمذي إنما أخرجه من حديث طلحة بن عبيد الله لا من حديث ابن عمر، والدارمي أخرجه من حديث ابن عمر أولاً ثم من حديث طلحة، فعزو رواية حديث ابن عمر إلى الترمذي وعدم عزو رواية حديث طلحة إليه والقصر على عزو رواية حديث طلحة إلى الدارمي كما فعله المؤلف خطأ بين دال على غاية قصور باعه في علم الحديث، وحديث طلحة حسنه الترمذي وفي تحسينه نظر، فإن في سنده سليمان بن سفيان المديني قال الذهبي: سلميان بن سفيان أبو سفيان المدني عن عبد الله ابن دينار، وبلال بن يحيى قال ابن عين: ليس بشيء وقال مرة: ليس بثقة، وكذا قال النسائي، وقال أبو حاتم والدارقطني: ضعيف، العقدي حدثنا سليمان بن سفيان حدثنا بلال بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله عن بأبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال: "اللهم أهله علينا بالأمن والأمان والإسلام ربي وربك الله". اهـ. وأيضاً: في سنده بلال بن يحيى، قال الحافظ في التقريب بلال بن يحيى بن طلحة ابن عبيد الله التميمي المدني لين. وحديث ابن عمر أيضاً ضعيف، لأن سنده عثمان بن إبراهيم الحاطبي، قال الذهبي في الميزان: عثمان ابن إبراهيم الحاطبي مدني رأى ابن عمر، له ما ينكر.

وقال أبو حاتم: روى عن أبيه أحاديث منكرة اهـ. وأيضاً سنده عبد الرحمن ابن عثمان الحاطبي، قال الذهبي في الميزان: ضعفه أبو حاتم الرازي. قلت: وحديث ابن عمر رواه الطبراني أيضاً، قال في مجمع الزوائد: وعن ابن عمر قال: كان رسو ل الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال قال: "اللهم أهله علينا بالأمن والأمان والسلامة والإسلام والتوفيق لما تحب وترضى، ربنا وربك الله" رواه الطبراني، وفيه عثمان بن إبراهيم الحاطبي وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات. اهـ. وفي الباب حديث أنس بن مالك فيه أيضاً خطاب وهو ضعيف أيضاً، قال في مجمع الزوائد: وعن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا رأى الهلال قال: "هلال خير ورشد، آمنت بالذي خلقك فعدلك"، رواه الطبراني في الأوسط، وفيه أحمد بن عيسى اللخمي، وبقية رجاله ثقات. اهـ. وفي سنن أبي داود حدثنا موسى بن إسماعيل أخبرنا أبان أخبرنا قتادة أنه بلغه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال: "هلال خير ورشد، هلال خير ورشد، آمنت بالذي خلقتك" ثلاث مرات ثم يقول: "الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا وجاء بشهر كذا" ... اهـ. قلت: وهذا أيضاً ضعيف لأنه مرسل، وفي بعض نسخ أبي داود قال أبو داود: ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب حديث مسند صحيح اهـ. وعلى تقدير ثبوت الحديث الذي ذكره المؤلف فالخطاب فيه مجازي والمقصود بالخطاب فيه غير المخاطب كما تقدم. قوله: وصح أنه لما توفي صلى الله عليه وسلم أقبل أبو بكر رضي الله عنه حين بلغه الخبر فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله ثم بكى وقال: بأبي وأمي طبت حياً وميتاً، اذكرنا يا محمد عند ربك، ولنكن من بالك. وفي رواية للإمام أحمد فقبل جبهته ثم قال: وانبياه. ثم قبلها ثانياً وقال واصفياه، ثم قبلها ثالثاً وقال: واخليلاه، ففي ذلك نداء وخطاب له صلى الله عليه وسلم بعد وفاته.

أقول: لا يخفى عليك أن لفظ "بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً والله الذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبداً" رواه البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها في حديث طويل في مناقب الصديق رضي الله عنه، وفيه خطاب لكن هذا الخطاب مجازي من جنس ما يخاطبون المندوب ويعدون محاسنه الواقعية، كما روي عن ابن عباس، يقول: وضع عمر على سريره فتكففه الناس يدعون ويصلون قبل أن يرفع وأنا فيهم، فلم يرعني إلا رجل أخذ منكبي فإذا علي بن أبي طالب، فترحم على عمر، وقال: ما خلفت أحداً أحب إليّ أن ألقى الله بمثل عمله منك، وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك، وحسبت أني كنت كثيراً أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر". وكما روي عن أنس رضي الله عنه أنه لما مات صلى الله عليه وسلم قالت فاطمة: يا أبتاه أجاب رباً دعاه، يا أبتاه من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه. رواه البخاري، قال الحافظ في الفتح فيؤخذ منه أن تلك الألفاظ إذا كان الميت متصفاً بها لا يمنع ذكره لها بعد موته، بخلاف ما إذا كانت فيه ظاهراً وهو في الباطن بخلافه أو لا يتحقق اتصافه بها فيدخل في المنع. اهـ.‍ ويؤيد هذا المعنى قوله رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي، فإن حقيقة التفدية لا تتصور بعد الموت، فكما أن المراد بالتفدية معناها المجازي كذلك الخطاب، وأيضاً يؤيده قوله رضي الله عنه: وانبياه، واصفياه، واخليلاه، فإن لفظ "وا" لا تستعمل في النداء، إنما تستعمل في الندبة، ويحتمل أن يكون ذلك الخطاب والنداء مثل الخطاب والنداء الواقعين في الأحاديث الواردة في زيارة القبور، والتوجيه فيه مثل ما ذكر في الأحاديث المذكورة. بقي قوله رضي الله عنه اذكرنا يا محمد عند ربك، ولنكن من بالك، وظاهره مشكل، فإن فيه نداء مع الطلب من الميت هو غير جائز عندنا، والجواب هو الكلام في ثبوت هذا اللفظ، فإني لا أعلم أحداً رواه بسند صحيح أو حسن خال عن العلة، إنما ذكره صاحب المواهب بغير سند، وعبارته هكذا: وقال ابن المنير: لما مات صلى الله عليه وسلم

طاشت العقول، فمنهم من خبل، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من أخرس فلم يطق الكلام، ومنهم من أضنى. وكان عمر ممن خبل، وكان عثمان ممن أخرس يذهب ويجيء ولا يستطيع كلاماً، وكان علي ممن أقعد فلم يستطع حراكاً، وأضنى عبد الله بن أنيس فمات كمداً، وكان أثبتهم أبو بكر جاء وعيناه تهملان، وزفراته تتردد، وغصصه تتصاعد وترتفع، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأكب عليه، وكشف الثوب عن وجهه وقال: طبت حياً وميتاً، وانقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء قبلك، فعظمت عن الصفة، وجللت عن البكاء، ولو أن موتك كان اختيارياً لجدنا لموتك بالنفوس، اذكرنا يا محمد عند ربك، ولنكن من بالك، هكذا ذكره صاحب المواهب بلا سند، ولم يتعرض شارحه العلامة محمد بن عبد الباقي الزرقاني أيضاً لسنده بل هناك قرينة تدل على أنه ليس من كلام الصديق رضي الله عنه وهي أن الله تعالى حرم على الأمة نداءه باسمه، قال تعالى: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضاً} أي لا تجعلوا دعاءه وتسميته كنداء بعضكم بعضاً باسمه ورفع الصوت به والنداء وراء الحجرات، ولكن قولوا: يا رسول الله يا نبي الله، مع التوقير والتواضع وخفض الصوت، فكيف يقول أفضل الأمة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم "يا محمد"؟ ومن ثم وقع لفظ "يا نبي الله" في قول الصديق رضي الله عنه في حديث عائشة الذي رواه البخاري في الجنائز ولفظه هكذا: "ثم بكى فقال: بأبي أنت وأمي يا نبي الله، لا يجمع الله عليك موتتين إلا الموتة التي كتبت عليك فقد متها. قال بعض المحققين1 في الرد على كتاب (جلاء الغمة) : وفي نفس هذا الأثر الذي أورده ما يرد عليه من وجوه: (منها) : قوله اللهم أبلغه عنا، فإذا سأل الله أن يبلغ نبيه عنهم فكيف يقول بعدها اذكرنا يا محمد عند ربك؟ وهل هذا إلا عكس ما قبله؟ ومن دون أبي بكر يتحاشى العاقل من نسبته إليه، فكيف بصديق الأمة؟

_ 1 هو الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، وكتابه (مصباح الظلام) اهـ. من حاشية خطية على الأصل.

وقد ثبت في الصحيح وغيره أن الشهداء قالوا: ألا بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا، ولم يأتي أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى شهيد من الشهداء وطلب منه أن يبلغ عنه ربه، وهم أجل وأفقه من ذلك، فكيف بالصديق رضي الله عنه فإذا جاءت السنة بأن الله هو الذي يبلغ عمن عنده من الشهداء فكيف يعكس القضية ويجعل النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يبلغ ربه؟ هذا لو صح سنده، فكيف وهو عمن لا يحتج به؟ قال بن السكن: سيف بن عمر ضعيف، وقال أبو حاتم: قعقاع بن عمرو قال: شهدت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا فيما رواه سيف بن عمر بن عمرو بن تمام عن أبيه عنه، وسيف متروك فبطل الحديث. اهـ. وعلى تقدير ثبوت اللفظ المذكور فلا يبعد كل البعد أن يكون هذا النداء والطلب كلاهما مجازيين كما يتصور الحبيب كثيراً حبيبه في نفسه فيخاطبه بأمور ويطلب منه أشياء، ولا يقصد هناك إلى مجرد التذاذ نفسه بتلك التصورات والألفاظ لا معانيها الحقيقية، أو يكون المقصود بالخطاب غير المخاطب كما تقدم فكأنه خاطب الله وطلب منه أن يجعل نبيه ذاكرنا عنده تعالى وشفيعنا لديه، وهذان الاحتمالان وإن كانا لا يخلوان عن بعد، لكنهما ليسا بأبعد من الاحتمالات التي وضعها المؤلف لتصحيح كلام المشركين. قوله: ولما تحقق عمر رضي الله عنه وفاته صلى الله عليه وسلم بقول أبي بكر رضي الله عنه قال هو يبكي: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد كان لك جذع تخطب الناس عليه، فلما كثروا واتخذت منبرا لتسمعهم حن الجذع لفراقك حتى جعلت يدك عليه فسكن، فأمتك أولى بالحنين عليك حين فارقتهم –إلى قوله- فانظر إلى هذه الألفاظ التي نطق بها عمر رضي الله عنه فقد تعدد فيها النداء له صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، وقد رواها كثير من أئمة الحديث وذكرها القاضي عياض في الشفاء والقسطلاني في المواهب والغزالي في الإحياء وابن الحاج في المدخل. أقول: في المواهب بعد ذكر هذا الخبر ما نصه: الخبر ذكره أبو العباس القصار في شرحه لبردة الأبوصيري ونقله عن الرشاطي في كتابه "اقتباس الأنوار والتماس

الأزهار" وذكره ابن الحاج في المدخل وساقه بتمامه، والقاضي عياض في الشفاء لكنه ذكر بعضه اهـ. فعلى من يحتج به ذكر سنده وتوثيق رجاله، وبيان أنه خال من جميع العلل القادحة في التصحيح والتحسين ودونه خرط القتاد، على أن هذا من الرثاء المشروع والتحزن والتوجع المباح كما في قول فاطمة والصديق رضي الله عنهما، فليس هذا النداء في شيء، بل هو ندبة. قوله: فيبطل بها وبغيرها من الأدلة قول المانعين للنداء مطلقاً. أقول: المانعون للنداء لا يمنعون النداء مطلقاً، بل يمنعون النداء الحقيقي الذي فيه يطلب من المنادى ما لا يقدر عليه إلا الله. قوله: وروى البخاري عن أنس رضي الله عنه أن فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبتاه –إلى قوله- ففي هذا الحديث أيضاً نداؤه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته. أقول: هذا ليس من النداء في شيء، بل هو ندبة، يرشدك إلى هذا كون هذا الكلام صادر وقت الوفاة، ووقوع لفظ النعي فيه وزيادة الألف في آخره لمد الصوت المطلوب في الندبة، فالقول بكونه نداء أدل دليل على جهل قائله. قوله: ورثته عمته صفية بمرات كثيرة –إلى قوله-: ففي هذا البيت أيضاً نداؤه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته. أقول: القول بكونه نداء أوضح برهان على سوء فهم قائله، فإن وقوعه في الرثاء دليل واضح على كونه ندبة. قوله: ومما جاء من النداء للميت التلقين له بعد الدفن، وقد ذكره كثير من الفقهاء، واستندوا في ذلك إلى حديث الطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه واعتضد بشواهد كثيرة –إلى قوله- ففي التلقين الخطاب والنداء للميت، فكيف يمنعون النداء مطلقاً؟ أقول: في مجمع الزوائد عن سعيد بن عبد الله الأودي قال: شهدت أبا أمامة وهو

في النزع فقال: إذا أنا مت فاصنعوا بي كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب على قبره فليقم أحدكم على رأس قبره ثم ليقل: يا فلان ابن فلانة، فإنه يسمعه ولا يجيب، ثم يقول: يا فلان ابن فلانة فإنه يستوي قاعداً، ثم يقول: يا فلان ابن فلانة، فإنه يقول: أرشدنا رحمك الله، ولكن لا تشعرون، فليقل: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً وبالقرآن إماماً، فإن منكراً ونكيراً يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه ويقول: انطلق بنا، ما نقعد عند من لقن حجته؟ فيكون الله حجيجه دونهما، قال رجل: يا رسول الله فإن لم يعرف أمه؟ قال: "فينسبه إلى حواء يا فلان ابن حواء" رواه الطبراني في الكبير، وفي إسناده جماعة لم أعرفهم. وقال الحافظ ابن القيم في (زاد المعاد) : ولم يكن يجلس يقرأ عند القبر، ولا يلقن الميت كما يفعله الناس اليوم، وأما الحديث الذي رواه الطبراني في معجمه من حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب على قبره فليقم أحدكم على رأس قبره ثم ليقل: يا فلان، فإنه يسمعه ولا يجيب، ثم يقول: يا فلان ابن فلانة فإنه يستوي قاعداً، ثم يقول: يا فلان ابن فلانة، فإنه يقول: أرشدنا يرحمك الله، ولكن لا تشعرون، ثم يقول: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً وبالقرآن إماماً، فإن منكراً ونكيراً يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه ويقول: انطلق بنا، ما نقعد عند من لقن حجته؟ فيكون الله حجيجه دونهما"، فقال رجل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يعرف أمه؟ قال: "فينسبه إلى حواء يا فلان ابن حواء" فهذا حديث لا يصح رفعه، ولكن قال الأثرم قلت لأبي عبد الله: فهذا الذي يصنعونه إذا دفن الميت يقف الرجل ويقول يا فلان ابن فلان اذكر ما فارقت عليه: شهادة أن لا إله إلا الله، فقال: ما رأيت أحد فعل هذا إلا أهل الشام حين مات أبو المغيرة جاء إنسان فقال ذلك؛ وكان أبو المغيرة يروي فيه عن أبي بكر بن أبي مريم أنهم كانوا

يفعلونه، وكان ابن عياش يروي فيه، قلت: يريد حديث إسماعيل بن عياش هذا الذي رواه الطبراني عن أبي أمامة. وقد ذكر سعيد بن منصور في سننه عن راشد بن سعد وضمرة بن حبيب وحكيم ابن عمير قال: إذا استوى على الميت قبره وانصرف الناس عنه فكانوا يستحبون أن يقال للميت عند قبره: يا فلان، قل لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله –ثلاث مرات- قل ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد، ثم ينصرف. انتهى. قال الحافظ في التلخيص وإسناده صالح وقد قواه الضياء في أحكامه، وفي إسناده سعيد الأزدي بيض له أبو حاتم، وقال الهيثمي بعد أن ساقه: في إسناده جماعة لم أعرفهم. اهـ. وفي إسناده أيضاً عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف. قال الأثرم: قلت لأحمد هذا الذي يصنعونه إذا دفن الميت يقف الرجل ويقول يا فلان ابن فلانة؟ قال: ما رأيت أحداً يفعله إلا أهل الشام حين مات أبو المغيرة يروي فيه عن أبي بكر بن أبي مريم عن أشياخهم أنهم كانوا يفعلونه، وكان إسماعيل ابن عياش يرويه، يشير إلى حديث أبي أمامة. اهـ. هكذا نقله في النيل وفي فتح العلام شرح بلوغ المرام، وقال في المنار: إن حديث التلقين هذا حديث لا يشك أهل المعرفة بالحديث في وضعه. وقال ابن القيم في كتاب الروح: إنه حديث ضعيف، ويتحصل من كلام أئمة التحقيق أنه حديث ضعيف والعمل به بدعة، ولا يغتر بكثرة من يفعله، انتهى ملتقطاً. وفي نزل الأبرار: وقد أنكر هذا التلقين جماعة من أهل العلم وبدعوه، انظر ذلك في الهدى النبوي وغيره كثمار التنكيت لهذا العبد الضعيف. اهـ. قلت: لا شك في ضعف هذا الحديث لأن في سنده مجاهيل كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد، ولأن في سنده عاصم بن عبيد الله كما قال الحافظ في التلخيص على ما نقله الشوكاني رحمه الله وهو ضعيف. قال الذهبي في الميزان: عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب العدوي

عن أبيه وعبد الله بن عامر بن ربيعة وجماعة، وعنه شعيب ومالك، ثم ضعفه مالك، وقال يحيى: ضعيف لا يحتج به، وقال ابن حبان: كثير الوهم فاحش الخطأ فترك، وقال أحمد قال ابن عيينة: كان الأشياخ يتقون حديث عاصم بن عبيد الله، وقال النسائي: ضعيف. اهـ. وقد صرح بضعفه النووي في الأذكار وغيره في غيره، وإنما قواه من قوى لاتصال عمل أهل الشام به، فلننظر فيه فنقول: منه ما روى أبو المغيرة الحمصي عن أبي بكر بن أبي مريم أنهم كانوا يفعلونه، وهذا لا يثبت، فإن في سنده أبا بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني الحمصي، قال الذهبي: ضعيف عندهم، قلت: وكان من العباد، عن راشد بن سعد وخالد بن معدان، وعنه بقية وأبو اليمان وطائفة، ضعفه أحمد وغيره لكثرة ما يغلط، وكان أحد أوعية العلم، وقال ابن حبان: رديء الحفظ لا يحتج به إذا انفرد. وقال أبو داود: سرق لأبي بكر بن أبي مريم حلي فأنكر عقله، وسمعت أحمد يقول: ليس بشيء اهـ. ملخصاً. وفي الخلاصة وهامشها: قال الحافظ أبو عبد الله: ضعيف، وكذا قال ابن معين وأبو حاتم وأبو زرعة الخ تهذيب. اهـ. قال الحافظ ابن حجر في التقريب: ضعيف، وكان قد سرق بيته فاختلط. اهـ. ومنه ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه عن راشد بن سعد وحمزة بن حبيب وحكيم بن عمير قال: إذا استوى على الميت قبره وانصرف الناس عنه فكانوا يستحبون الخ. وراشد هذا وإن كان ثقة لكنه كثير الإرسال، وحكيم بن عمير الحمصي صدوق يهم قاله الحافظ في التقريب، على أنه لا يعلم سنده إلى هؤلاء التابعين، فعلى من يحتج به بيان السند حتى ينظر فيه. وبالجملة فثبوت عمل أهل الشام أولا ممنوع، وعلى تقدير ثبوته لا نسلم كونه مقتضياً لكون الحديث الضعيف قابلاً لأن يحتج به، ومن يدعي فعليه الإثبات، وأما مجرد عمل بعض أهل الشام فليس من الدليل الشرعي في شيء، وعلى تقدير ثبوت حديث التلقين فليس فيه طلب شيء من الميت مما لا يقدر عليه إلا الله، إنما فيه نداء

وإرشاد للميت، وهو قد ثبت مخالفاً للقياس فيكون مقصوراً على المورد فلا يقاس عليه غيره. قوله: ومن النداء للميت ما جاء في الحديث المشهور حديث نادي النبي صلى الله عليه وسلم كفار قريش المقتولين يوم بدر بعد إلقائهم في القليب، رواه البخاري وأصحاب السنن. أقول: الجواب عنه من وجوه: (الأول) : أن الله تعالى أحياهم حتى أسمعهم قول النبي صلى الله عليه وسلم على طريق خرق العادة، والدليل عليه ما روى البخاري في المغازي عن ابن عمر قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر فقال: "هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً" ثم قال "إنهم الآن يسمعون ما أقول" الحديث، فإن لفظة "الآن" دليل واضح عليه، والتخصيص بما أقول يمكن الاستئناس به على أن ذلك كان من قبيل خرق العادة، وقال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخاً وتصغيراً ونقمة وحسرة وندماً رواه البخاري في صحيحه، ورواه أحمد بلفظ: قال قتادة: أحياهم الله له حتى سمعوا قوله توبيخاً وتصغيراً، ورجاله رجال الصحيح، كذا في مجمع الزوائد. قال السهيلي ما محصله: إن في نفس الخبر ما يدل على خرق العادة بذلك للنبي صلى الله عليه وسلم لقول الصحابة له: أتخاطب أقواماً جيفوا؟ فأجابهم. كذا في الفتح، وإذا كان الذي وقع حينئذ من خوارق العادة للنبي صلى الله عليه وسلم حينئذ لم يصح التمسك به على جواز نداء الميت. و (الثاني) : أن هذا النداء لم يكن لطلب ما لا يقدر عليه إلا الله، بل إنما كان توبيخاً وتصغيراً، فعلى تقدير عدم كونه من خوارق العادة إنما يثبت به جواز نداء من علم موته على الكفر قطعاً على قبره وقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتلى بدر من المشركين توبيخاً وتصغيراً، وهذا لا نزاع فيه، إنما النزاع في ندائهم الأموات من الأنبياء والصالحين تعظيماً وإكراماً لهم متضرعين خاشعين طالبين لما لا يقدر عليه إلا الله، وهذا لا يدل عليه الحديث أصلاً. و (الثالث) : أن هذا النداء معدول عن القياس مخالف له، فيكون مقصوراً على المورد فلا يقاس عليه غيره، وقد صدر مثل هذا التقريع والتوبيخ من الأنبياء

السابقين أيضاً كصالح عليه السلام، قال الله تعالى في سورة الأعراف: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} . قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: هذا تقريع من صالح عليه السلام لقومه لما أهلكهم الله بمخالفتهم إياه وتمردهم على الله وإبائهم عن قبول الحق وإعراضهم عن الهدى إلى العمى، قال لهم صالح ذلك بعد هلاكهم تقريعاً وتوبيخاً وهم يسمعون ذلك. اهـ. وكشعيب عليه السلام، قال تعالى في سورة الأعراف: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} . قال الحافظ بن كثير: أي فتولى عنهم شعيب عليه السلام بعدما أصابهم ما أصابهم من العذاب والنقمة والنكال، وقال مقرعاً لهم وموبخاً: {يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} . اهـ. ولا يخفاك أن المؤلف عزا روايته إلى البخاري وأصحاب السنن، وهذا دال على أن مسلماً لم يخرجه، وهو غفلة فاحشة، فإن مسلماً أخرجه في (باب عرض مقعد الميت من الجنة والنار عليه وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه) ولفظه هكذا: عن أنس بن مالك قال: كنا مع عمر بين مكة والمدينة فترائينا الهلال، وكنت رجلاً حديد البصر فرأيته، وليس أحد يزعم أنه رآه غيري، قلت فجعلت أقول لعمر: أما تراه؟ فجعل لا يراه، قال يقول عمر: سأراه وأنا مستلق على فراشي، ثم أنشأ يحدثنا عن أهل بدر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس يقول: "هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله، قال فقال عمر: فوالذي بعثه بالحق ما أخطؤا الحدود التي حد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فجعلوا في بئر بعضهم على بعض، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إليهم فقال: "يا فلان ابن فلان ويا فلان ابن فلان، هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقاً فإني قد وجدت ما وعدني الله حقا قال عمر: يا رسول الله كيف تكلم أجساداً لا أرواح فيها، قال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علي شيئاً" وفي رواية أخرى له عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلاثا ثم أتاهم فقام عليهم فناداهم فقال: "يا أبا جهل بن هشام، يا أمية

ابن خلف، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، أليس قد وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا"، فسمع عمر قول النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف يسمعون، أو أنى يجيبون وقد جيفوا؟ قال: "والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منه، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا" ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا في قليب بدر. اهـ. وفي جنائز مسلم عن هشام عن أبيه قال: ذكر عند عائشة رضي الله عنها أن ابن عمر يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الميت يعذب في قبره ببكاء أهله" فقالت: وهل، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه ليعذب بخطيئته أو بذنبه وأن أهله ليبكون عليه الآن، وذلك مثل قوله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على القليب يوم بدر وفيه قتلى بدر من المشركين فقال لهم ما قال إنهم ليسمعون ما أقول وقد وهل، إنما قال إنهم ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق، ثم قرأت: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} يقول حين تبوؤا مقاعدهم من النار. اهـ. وأيضاً القول المذكور يدل على أن أصحاب السنن كلهم أخرجوا هذا الحديث، مع أني راجعت السنن الأربعة، وتتبعت مظانه ولم آل جهداً فيه فلم أجده إلا في سنن النسائي، قال القسطلاني تحت حديث ابن عمر: وأخرجه أيضاً في المغازي مطولاً، ومسلم في الجنائز، وكذا النسائي، ولم يذكر أحد فيما أعلم أن الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه، فهذا أوضح دليل على قصور نظر المؤلف وقلة علمه وكثرة غلطه وخطئه. قوله: وأما ما جاء من الآثار، عن الأئمة الأحبار، والعلماء الأخيار، والأولياء الكبار، مما يدل على جواز ذلك النداء والخطاب فشيء كثير تنقضي دون نقله الأعمار، ومضى على ذلك القرون والأعصار، ولا وقع منهم إنكار. أقول: دلالة ما جاء من الآثار على جواز نداء الأموات والجمادات نداء حقيقياً بحيث يطلب فيه منهم ما لا يقدر عليه إلا الله ممنوعة، ومن يدعي فعليه البيان، وأما مطلق النداء فلا يمنعه أحد.

قوله: فكيف يجوز الإقدام على تكفير المسلمين، بشيء قام ثبوته بالبراهين؟ أقول: إنما نكفر بالنداء الحقيقي الذي يطلب فيه من الأموات والجمادات ما لا يقدر عليه إلا الله وهذا شيء لم يثبت بعد بالبراهين بل قام الدليل على كونه كفراً. قوله: وفي الحديث الصحيح: من قال لأخيه المسلم يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه. أقول: من نادى الأموات والجمادات نداء حقيقياً وطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله فقد انسلخ من الإسلام فلا يكون مكفره مصداقاً لهذا الحديث. قوله: فلا يحكم على أحد من أهل القبلة بالكفر إلا بأمر واضح قاطع للإسلام. أقول: لا شك أن عبادة غير الله أمر واضح قاطع للإسلام، والنداء المذكور عبادة غير الله بلا مرية، فكيف لا يحكم على من يرتكبه بالكفر؟ قوله: ورأيت رسالة للشيخ محمد بن سليمان الكردي المدني صاحب الحواشي على مختصر "بافضل" في الفقه على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله، قال في تلك الرسالة يخاطب محمد بن عبد الوهاب حين قام بالدعوة، وكان محمد بن عبد الوهاب من تلامذة الشيخ محمد بن سلميان المذكور وقرأ عليه بالمدينة المنورة، قال في تلك الرسالة: يا ابن عبد الوهاب، سلام على من ابتع الهدى، فإني أنصحك لله تعالى أن تكف لسانك عن المؤمنين، فإن سمعت من شخص أنه يعتقد تأثير ذلك المستغاث به من دون الله فعرفه الصواب، وأذكر له الأدلة على أنه لا تأثير لغير الله تعالى، فإن أبي فكفره حينئذ بخصوصه ولا سبيل لك إلى تكفير السواد الأعظم من المسلمين، وأنت شاذ عن السواد الأعظم، فنسبة الكفر إلى من شذ عن السواد الأعظم أقرب لأنه اتبع غير سبيل المؤمنين، قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} . وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية. أقول: لم يكفر الشيخ محمد بن عبد الوهاب أحداً من المؤمنين ابتداء، إنما دعا عباد القبور إلى إخلاص العبادة لله، ونهاهم عن دعاء الأنبياء والأولياء والصالحين، بحيث

يطلب فيه منهم ما لا يقدر عليه إلا الله من قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وبين أنه من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين، وإذا دعا أحدهم لديه الأنبياء والصالحين الذين كانوا يعبدونهم مع رب العالمين نهاه عن ذلك وزجره وعرفه الصواب وحذره، فقالوا إن كان الذي نحن عليه من الدعوات والاعتقادات بأهل القبور كفراً وشركاً فنحن كفار ومشركون، فهم هم الذين شهدوا على أنفسهم بالكفر. فها أنا أذكر من ترجمته (رحمه الله) ما يتضح به عندك صحة ما ادعيناه، فأقول:

خلاصة ترجمة الشيخ

خلاصة ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ودعوته إلى التوحيد قال الشيخ حسين بن غنام الاحسائي في (روضة الأفكار والإفهام، لمرتاد حال الإمام، وتعداد غزوات ذوي الإسلام) : أما نسبه رحمه الله تعالى، وأفاض عليه سحائب غفرانه ووالى، فهو: محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن محمد بن بريد بن مشرف، ولد رحمه الله تعالى سنة خمس عشرة بعد المائة والألف من الهجرة النبوية في بلد العيينة من البلدان النجدية، فأنبته الله نباتاً حسناً، وجلا به عن طرف الدهر وسنا، وبقي بعد سن الطفولة زمناً يتعلم في تلاوة القرآن، معتزلاً في غالب الأوقات لعب الصبيان، ولهو الجهال والغلمان، حتى حفظ القرآن عن ظهر قلبه قبل بلوغ العشر، وكان حاد الفهم سريا وقاد الذهن ذكياً، سريع الحفظ، فصيح اللفظ، ألمعي الفطنة. اشتغل في العلم على أبيه وجد في الطلب، وأدرك بعض الأرب، وهو في بلد العيينة في تلك الحال، قبل رحلته لطلب العلم والارتحال، وتطوافه له في كثير من البلاد، حتى نال منه المراد، وفاز بالسعد والإسعاد، وحاز الرشد والإرشاد.

وكان والده قد توسم ذلك، ويحدث بذلك ويبديه: ويؤمل ذلك منه ويرجوه، كما حدث به سليمان أخوه، قال: كان عبد الوهاب أبوه يتعجب من فهمه وإدراكه، قبل بلوغه وإدراكه، ومناهزته الاحتلام وأفراكه، ويقول أيضاً: لقد استفدت من ولدي محمد فوائد من الأحكام، أو قريباً من هذا الكلام. وقد كتب والده إلى بعض إخوانه رسالة نوه فيها بشأنه يثني فيه عليه وأن له فهماً جيداً أو لديه، ولو يلازم الدرس سنة على الولاية، لظهر في الحفظ والإتقان آية، وقد تحققت أنه بلغ الاحتلام، قبل إكمال اثنتي عشرة سنة على الإتمام، ورأيته أهلاً للصلاة بالجماعة والإئتمام، فقدمته لمعرفته بالأحكام، وزوجته بعد البلوغ في ذلك العام، ثم طلب مني الحج إلى بيت الله الحرام، فأجبته بالإسعاف لذلك المرام، فحج وقضى ركن الإسلام، وأدى المناسك على التمام، ثم قصد مدينته عليه الصلاة والسلام، وأقام فهيا شهرين ثم رجع بعد ذلك، فائزاً بأجر الزيارة والمناسك، وأخذ في القراءة على والده في الفقه على مذهب الإمام أحمد، فسلك فيه الطريق الأحمد، ورزق مع الحفظ سرعة الكتابة، فكان يحير أصحابه، بحيث أنه يخط بالخط الفصيح في المجلس الواحد كراس1، من غير سآمة ولانصب ولا التباس. ثم بعد ذلك رحل في العلم وسار، وجد في الطلب إلى ما يليه من الأمصار، وما يحاذيه من الأقطار، فزحم فيه العلماء الكبار، وأشرق طالعه واستنار، وصار لهلاله إقمار، فوطئ الحجاز والبصرة لذلك مرر، وإلى الإحساء لتكل الأوطار وأخذ العلم عن جماعة منهم الشيخ عبد الله بن إبراهيم النجدي ثم المديني وأجازه من طريقين، وأول حديث سمعه منه الحديث المشهور المسلسل بالأولية، نقلت من خطه ما نصه. اهـ. الخ وأيضاً قال فيه: وقد سمع رحمه الله الحديث والفقه من جماعة بالبصرة كثيرة، وقرأ بها النحو وأتقن تحريره، وكتب الكثير من اللغة والحديث في تلك الإقامة،

_ 1 لم ينصب كلمة كراس أجل النطق بها ساكنة لمناسبة السجع، وهي لغة ربيعة، وسيأتي مثل هذا في أسجاعه، وكتبه محمد رشيد رضا.

ويحث على طريق الهدى والاستقامة، وكان أكثر لبثه لأخذ العلم بالبصرة ومقامه، وقد نشر للتوحيد فيها لدى بعض الناس أعلامه، وحقق لهم في ذلك الشأن إتقانه وإعلامه، وأوضح لهم سبيله وأحكامه، فقال إن الدعوة كلها لله، يكفر من صرف شيئاً منها إلى سواه، وإذا ذكر أحد بمجلسه بشارات الطواغيت والصالحين، الذين كانوا يعبدونهم مع رب العالمين، نهاه عن ذلك وزجره، وبين له الصواب وحذره، وقال له: محبة الأولياء والصالحين إنما هي اتباع هديهم وآثارهم، والاستنارة بضياء أنوارهم، لا صرف الحقوق الربانية، إلى الأجسام الوثنية، وقد وقع ذلك بمجلسه مرة فأبدى للقائل نهيه وزجره، وأظهر عليه أغلاطه ونكره، فتغير وجه القائل وحال، واستغرب ذلك المقال، وقال: إن كان ما يقوله حقاً هذا الإنسان، فالناس ليسوا على شيء من زمان. قال رحمه الله: وكان ناس من مشركي البصرة يأتون إلي، بشبهات يلقونها علي، فأقول وهم قعود لدي: لا تصلح العبادة كلها إلا لله، فيبهت كل منهم فلا ينطق فاه. ثم رجع بعد ذلك السفر، فإذا والده عبد الوهاب قد رفض سكنى العيينة وهجر، واختار سكنى حريملا فأقام بها واستقر، فأقام فيها مع أبيه، يعلن بالتوحيد ويبديه، وينادي بإبطال دعوة غير الله ويفشيه، وينصح من عدل عن الحق والرشاد، ويسلك في ذلك سبيل السداد، ويزجر الناس عن الشرك والباطل والفساد، حتى رفع الله شأنه فساد، وجد رحمة الله في تعليم الواجب وبذل المناصحة للخاص والعام، ونشر شرائع الإسلام، ومهد سنة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وأزال ما غطى القلوب من رين الشرك الذي هو أعظم الذنوب، وكشف الذنوب المظلمة للناس، وأماط أذى اللبس والالتباس، ويحذرهم إن داموا على ما هم فيه من وقوع النقمة والبأس، ورفض منهج الغلول والخيانة، وأدى من العلم الأمانة، وترك ما كان علماء السوء قبله له سالكون وفي قعره العميق راكسون، وفي أرجائه المغبرة ماكثون، وخشي الوقوع في تغليظ الوعيد، كما نطق به القرآن المجيد: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ

اللاعِنُونَ} . فأي وعيد فوق هذا الوعيد، وأي تهدي وراء هذا التهديد؟ كلا ما على لعنة من مزيد، فلله دره من جهبذ عالم وداع إلى التوحيد قائم، وناصح لله ملازم، ومجدد لتلك المشاهد السنية والمعالم، ومحي لآثار سلفية لم يبق منها سوى الأطلال والمراسم، ومميت لبدع رفضية، شابهت المجوسية، وأمور شركية، اعتقدها أكثر البرية، أمرواً حسنة دينية، فأقاموا بها أعياداً ومواسم، وعكفوا عليها والأغلب لها سائم، ولتشييدها والذب عنها رائم، فانتدب هذا الإمام الذي أضحى الحق بهديه مشرقاً باسم، والباطل بحججه مظلماً سادم، منادياً على رءوس العوالم، بإخلاص العبادة وتنكير الإشراك والمظالم، وإبطال دعوة غيره من نبي وولي وظالم وحاكم، فلم يخف في الله لومة لائم، حتى نال من ولاه المنح العظائم، والعطايا الكرام الجسائم. اهـ. وأيضاً قال فيه:

مهمات

مهمات (الأولى) : أنه -رحمه الله- لما تظاهر بذلك الأمر والشأن في تلك الأوقات والأزمان، والناس قد أشربت منهم القلوب، بمحبة المعاصي والذنوب، وتولعوا بما كانوا عليه من العصيان، وقبائح الأهواء الغالبة على كل إنسان، لم يسرع لها لسان، ولم يصم منه لب وجنان، على تكفير أولئك العربان، بل توقف تورعاً عن الإقدام في ذلك الميدان، حتى نهض عليه جميع العدوان، وماجوا وصاحوا بتكفيره وجماعته في جميع البلدان، ولم يتثبتوا فيما جاءوا من الإفك والبهتان، ولم يكترثوا بما حكوا عليه من الزور، وما اقترفوه من الفجور، بل كان لهم على شنيع ذلك المقال، إقدام وإسراع وإقبال، ولم يأمر بسفك دم ولا قتال، على أكثر أهل الأهواء والضلال، حتى بدءوه بالحكم عليه وأصحابه بالقتل والتكفير وكان ذلك سبب حسن العاقبة للإمام من العليم الخبير، ومساعدة القضاء له والتدبير، وشؤم ذلك على الأعداء الذين تمالؤا على ذلك الأمر المبير، الذي كانت عقباه عليهم الهلاك والتدمير: {جَزَاءً

بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ، {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} . نعم ثبت لدينا، ونقل نقلاً صحيحاً إلينا أنهم هم الذين شهدوا على أنفسهم وألقوها في مظالم قعر المهالك، ونظموا أرواحهم مع الكفار في تلك المسالك، وألحقوا من عند أنفسهم بأولئك، فقالوا إن كان كفراً الذي نفعل من الدعوات والاعتقادات بأهل القبور، في تلك الأزمنة الماضية والدهور، فنحن كفار ضلال، من غير ريب ولا إشكال، ولقد لهج بتلك الأحوال ذوو الأحلام منا والجهال، فهم الذين ألزموا أنفسهم بتلك المقالة، ووسموا أنفسهم بميسم الكفر والضلالة. اهـ.

اتهام خصوم الشيخ

اتهام خصوم الشيخ إياه اثنتي عشرة تهمة وجوابه عنها قال الشيخ في الرسالة التي كتبها إلى عبد الله بن سحيم ما نصه: إذا تبين هذا فالمسائل التي شنع بها منها ما هو البهتان الظاهر وهي قوله أني مبطل كتب المذاهب، (وقوله) : أني أقول إن الناس من ستمائة ليسوا على شيء، (وقوله) : أني أدعي الاجتهاد، (وقوله) : إني خارج عن التقليد، (وقوله) : أني أقول أن اختلاف العلماء نقمة، (وقوله) : أني أكفر من توسل بالصالحين، (وقوله) : أني أكفر البوصيري لقوله يا أكرم الخلق، (وقوله) : أني أقول لو أقدر على هدم حجرة الرسول صلى الله عليه وسلم لهدمتها، ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزاباً من خشب، (وقوله) : أني أنكر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهم وأني أكفر من يحلف بغير الله، فهذه اثنتا عشرة مسألة جوابي فيها أن أقول: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} . ولكن قبله من بهت محمداً صلى الله عليه وسلم أنه يسب عيسى ابن مريم ويسب الصالحين: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} ، وبهتوه بأنه يزعم أن الملائكة وعيسى وعزيرا في النار، فأنزل الله تعالى في ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} . الآية. اهـ.

تكذيب الشيخ اتهامه بتكفير كل من يخالفه: وأيضاً قال في تلك الرسالة: وأضيف إليها مسألة سادسة وهي إفتائي بكفر شمسان وأولاده ومن شابهه وسميتهم طواغيت، وذلك أنهم يدعون الناس إلى عبادتهم من دون الله عبادة أعظم من عبادة اللات والعزى بأضعاف، وليس في كلامي مجازفة، بل هو الحق لأن عبادة اللات والعزى يعبدونهما في الرخاء ويخلصون لله في الشدة، وعبادة هؤلاء أعظم من عبادتهم إياهم في شدائد البر والبحر. اهـ. قال الشيخ حسين بن غنام في روضة الأفكار: وأما قوله ومن أعظمها أن من لم يوافقه في كل ما قال ويشهد أن ذلك1 يقطع بكفره، ومن وافقه وصدقه في كل ما قال، قال أنت موحد ولو كان فاسقاً محضاً أو مكاساً، وبهذا يظهر أنه يدعو إلى توحيد نفسه لا إلى توحيد الله، فمراده بذلك أن من وافق الشيخ على توحيد الله وتبرأ من عبادة الأوثان تاج وشمسان وإدريس وقريوه والمغربي وتبرأ من الشرك وأهله سماه موحداً، ومن لم يوافقه على توحيد الله وإخلاص العبادة له بجميع أنواعها واستمر على عبادة المخلوقين مع الله وسب دين الله الذي يدعو إليه هذا الشيخ يقطع بكفره، وهذا الخبيث وأشباهه لا يعرفون الشرك في العبادة ويظنون أن المشرك2 إذا جعل الإنسان مخلوقاً مع الله في التدبير والملك والإحياء والإماتة والنفع والضر. وأما كونه يجعل المخلوقين وسائط بينه وبين الله يدعوهم ويتوكل عليهم، ويسألهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات، وقصده بذلك التقرب إلى الله وطلب شفاعتهم، فهذا عند هؤلاء المشركين من أعظم القربات، وأفضل الطاعات، ومن أنكر هذا كفروه وبدعوه وخرجوه ونسبوه إلى السفه والضلال. اهـ. وأيضاً قال فيها: وأما قوله ومن وافقه في كل ما قال، قال أنت موحد ولو كان

_ 1 كذا في الأصل فيراجع في روضة الأفكار. 2 لعله أصله الشرك بدون ميم.

فاسقاً أو مكاساً، فمراده بذلك أن من وافقه على إخلاص العبادة والدعوة لله وتاب وأناب إلى الله مما كان يفعله من الشرك بالله ودعوة الصالحين وغيرهم من الأحياء والأموات وعرف قول لا إله إلا الله وأنها نفي وإثبات، فشطرها الأول نفي الإلهية مطلقاً، والثاني إثباتها لله دون ما سواه من أهل السموات والأرض ومن الأحياء والأموات سماه موحداً، ولو كان فاسقاً أو مكاساً وهو صادق في ذلك، وذلك أن الإنسان إذا عرف التوحيد وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقا من قلبه والتزم مضمون هاتين الشهادتين، فهو عند الشيخ رحمه الله مؤمن موحد ولو كان فاسقاً أو مكاساً، وكذلك عند سائر العلماء من أهل السنة والجماعة، وذلك أن الإنسان إذا دخل في الإسلام وحكم بإسلامه لا يخرجه من الإسلام ما يفعله من الكبائر كالسرقة والزنا وشرب المسكر، وأخذ الأموال ظلماً وعدواناً، وإنما يخرجه من الإسلام إلى الكفر هو الشرك بالله وإنكار ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الدين بعد معرفته بذلك وإقامة الحجة عليه. اهـ. اتخاذ الوسائط بين الله وعبادة كفر بشرطه: وقال الشيخ في الرسالة التي كتبها إلى سليمان بن سحيم: وأما الثانية وهي أن الذي يجعل الوسائط هو الكافر، وأما المجعول فلا يكفر، فهذا كلام تلبيس وجهالة، ومن قال أن عيسى وعزيرا وعلي بن أبي طالب وزيد بن الخطاب وغيرهم من الصالحين يلحقهم نقص بجعل المشركين إياهم وسائط؟ حاشا وكلا: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . وأنا كفرنا هؤلاء الطواغيت أهل الخرج وغيرهم بالأمور التي يفعلونها هم: (منها) : أنهم يجعلون آبائهم وأجدادهم وسائط، (ومنها) : أنهم يدعون الناس إلى الكفر، (ومنها) : أنهم يبغضون عند الناس دين محمد صلى الله عليه وسلم ويزعمون أهل العارض كفروا لما قالوا لا يعبد إلا الله، وغير ذلك من أنواع الكفر، وهذا أمر أوضح من الشمس لا يحتاج إلى تقرير، ولكن أنت رجل جاهل مشرك مبغض لدين الله

وتلبس على الجهال، الذين يكرهون دين الإسلام ويحبون الشرك ودين آبائهم، وإلا فهؤلاء الجهال لو مرادهم اتباع الحق عرفوا أن كلامك من أفسد ما يكون. مسألة عدم تكفير المسلم بالذنب: وأما المسألة الثالثة: وهي من أكبر تلبيسك الذي تلبس به على العوام أن أهل العلم قالوا لا يجوز تكفير المسلم بالذنب، وهذا حق، وليس هذا مما نحن فيه، وذلك أن الخوارج يكفرون من زنى وسرق أو سفك الدم، بل كل كبيرة إذا فعلها المسلم كفر. وأما أهل السنة فمذهبهم أن المسلم لا يكفر إلا بالشرك، ونحن ما كفرنا الطواغيت وأتباعهم إلا بالشرك، لكنك رجل من أجهل الناس تظن أن من صلى وادعى أنه مسلم لا يكفر، فإذا كانت تعتقد ذلك فما تقول في المنافقين الذين يصلون ويصومون ويجاهدون؟ قال الله تعالى فيهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا} . وما تقول في الخوارج الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد، أينما لقيتموهم فاقتلوهم" أتظنهم ليسوا من أهل القبلة؟ ما تقول في الذين اعتقدوا في علي بن أبي طالب رضي الله عنه مثل اعتقاد كثير من الناس في عبد القادر وغيره فأضرم لهم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ناراً فأحرقهم بها، وأجمعت الصحابة على قتلهم، لكن ابن عباس رضي الله عنهما أنكر تحرقيهم بالنار وقال: يقتلون بالسيف، أتظن أن هؤلاء ليسوا من أهل القبلة؟ أم أنت تفهم الشرع وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفهمونه؟ أرأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قاتلوا من منع الزكاة، فلما أرادوا التوبة قال أبو بكر: لا نقبل توبتكم حتى تشهدوا أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. وقال الشيخ في الرسالة التي كبتها إلى عبد الرحمن بن عبد الله: منها ما ذكرتم أني أكفر جميع الناس إلا من اتبعني وأزعم أن انكحتهم غير صحيحة، ويا عجباً كيف يدخل هذا في عقل عاقل؟ هل يقول هذا مسلم أو كافر أو عارف أو مجنون؟ اهـ.

وأيضاً قال الشيخ في جواب مسألة: وأما الكذب والبهتان فمثل قولهم إنا نكفر بالعموم، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وإنا نكفر من لم يكفر ولم يقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه، فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به عن دين الله ورسوله. وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على قبر عبد القادر والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهم لأجل جهلهم وعدم من ينبههم فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا أو لم يكفر ويقاتل؟ سبحانك هذا بهتان عظيم. اهـ. وقال الشيخ في الرسالة التي كتبها لأهل مكة بعد مناظرتهم: إذا عرف هذا فالذي نعتقده وندين الله به أن من دعا نبيناً أو لوياً أو غيرهما وسأل منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات أن هذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين حيث اتخذوا أولياء وشفعاء، ويستجلبون بهم المنافع ويستدفعون بهم الضار بزعمهن، قال الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} . فمن جعل الأنبياء أو غيرهم كابن عباس أو المحجوب أو أبي طالب وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع بمعنى أن المخلوق يسألهم وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك حوائج الناس لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملك، أو لكونهم أقرب إلى الملك، فمن جعلهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك حلال الدم والمال. اهـ. قال الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في ديباجة رسالة اختصرت من الرسائل المؤلفة للشيخ1. أما بعد فأنا معاشر غزو الموحدين لما من الله علينا وله الحمد بدخول مكة المشرفة نصف النهار يوم السبت ثامن شهر المحرم الحرام سنة 1218 بعد أن طلب أشراف مكة

_ 1 قوبل المنقول من تلك الرسالة هنا إلى قوله اعلم على (الهدية السنية) .

وعلماؤها وكافة العامة من أمير الغزو سعود حماه الله الأمان، وقد كانوا تواطؤا مع أمراء الحجيج وأمير مكة على قتاله أو الإقامة في الحرم الشريف ليصدوه عن البيت، فلما زحفت أجناد الموحدين ألقى الله الرعب في قلوبهم فتفرقوا شذر مذر، كل واحد يعد الإياب غنيمة، وبذل الأمير حينئذ الأمان لمن بالحرم الشريف، ودخلنا شعارنا التلبية آمنين محلقين رؤوسنا ومقصرين، غير خائفين، من أحد المخلوقين، بل من مالك يوم الدين، ومن حين دخل الجند الحرم وهم على كثرتهم مضبوطون متأدبون، لم يعضدوا به شجرة، ولم ينفروا به صيداً، ولم يريقوا به دماً إلا دم الهدي أو ما أحل الله من بهيمة الأنعام على الوجه المشروع. ولما تمت عمرتنا جمعنا الناس ضحوة الأحد وعرض الأمير عافاه الله تعالى على العلماء ما نطلب الناس ونقاتلهم عليه وهو إخلاص التوحيد لله تعالى وحده، وعرفهم أنه لم يكن بيننا وبينهم خلاف له وقع إلا في أمرين: (أحدهما) : إخلاص التوحيد ومعرفة أنواع العبادة وأن الدعاء من جملتها، وتحقيق معنى الشرك الذي قاتل الناس عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم واستمر دعاؤه برهة من الزمان بعد النبوة إلى ذلك التوحيد وترك الإشراك قبل أن تفرض عليه أركان الإسلام الأربعة. و (الثاني) : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي لم يبق عندهم إلا اسمه، وانمحى أثره ورسمه، فوافقونا على استحسان ما نحن عليه جملة وتفصيلاً، وبايعوا ذلك الأمير على الكتاب والسنة، وقبل منهم وعفا عنهم كافة، فلم يحصل على أحد منهم أدنى مشقة، ولم يزل يرفق بهم غاية الرفق ولا سيما العلماء ويقرر لهم حال اجتماعهم وحال انفرادهم لدينا أدلة ما نحن عليه. ويطلب منهم المناصحة والمذاكرة، وبينا لهم الحق، وعرفناهم بأن صرح لهم الأمير حال اجتماعهم بأنا قابلون ما وضحوا برهانه من كتاب أو سنة أو أثر عن السلف الصالح كالخلفاء الراشدين المأمورين باتباعهم بقوله صلى الله عليه وسلم: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" وعن الأئمة الأربعة المجتهدين ومن تلقى العلم عنهم إلى آخر القرن الثالث، لقوله صلى الله عليه وسلم: "خيركم قرني، ثم الذين يلونهم

ثم الذين يلونهم"، وعرفناهم أنا دائرون مع الحق أينما دار، وتابعون للدليل الجلي الواضح، ولا نبالي حينئذ بمخالفة ما سلف عليه من قبلنا، فلم ينقموا علينا أمراً فألححنا عليهم في مسألة طلب الحاجات من الأموات إن بقي لديهم شبة، فذكر بعضهم شبهة أو شبهتين فرددناها بالدلائل القاطعة من الكتاب والسنة حتى أذعنوا ولم يبق عند أحد منهم شك ولا ارتياب فيما قاتلنا الناس عليه أنه الحق الجلي الذي لا غبار عليه، وحلفوا لنا الأيمان المعقدة من دون استحلاف لهم على انشراح صدورهم وجزم ضمائرهم أنه لم يبق لديهم شك فيمن قال يا رسول الله أو يا ابن عباس أو يا عبد القادر أو غيرهم من المخلوقين طالباً بذلك دفع شر أو جلب خير من كل ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى من شفاء المريض والنصر على العدو والحفظ من المكروه ونحو ذلك أنه مشرك الشرك الأكبر يهدر دمه ويبيح ماله وإن كان يعتقد أن الفاعل المؤثر في تصريف الكون هو الله تعالى، لكنه يقصد المخلوقين بالدعاء متشفعاً بهم ومتقرباً لهم لقضاء حاجته من الله بسرهم وبشفاعتهم له فيها أيام البرزخ، وأن ما وضع من البناء على قبور الصالحين صارت في هذه الأزمان أصناماً تقصد لطلب الحاجات ويتضرع عندها ويهتف بأهلها في الشدائد كما كانت تفعله الجاهلية الأولى. وكان من جملتهم مفتي الحنفية الشيخ عبد الملك القليعي وحسين المغربي مفتي المالكية وعقيل بن يحيى العلوي، فبعد ذلك أزلنا جميع البناء على القبور وغيرها حتى لم يبق في البقعة الطاهرة طاغوت يعبد، فالحمد لله على ذلك، ثم رفعت المكوس والرسوم وكسرت آلات التنباك ونودي بتحريمه، وأحرقت أماكن الحشاشين والمشهورين بالفجور، ونودي بالمواظبة على الصلاة في الجماعات، وعدم التفرق في ذلك بأن يجتمعوا في كل صلاة على إمام واحد يكون ذلك الإمام من أحد المقلدين للأربعة رضوان الله عليهم. واجتمعت الكلمة حينئذ وعبد الله وحده وحصلت الألفة، وسقطت الكلفة، وأمر عليهم واستتب الأمر من دون سفك دم ولا هتك عرض، ولا مشقة على أحد. والحمد لله رب العالمين. ثم دفعت لهم الرسائل المؤلفة للشيخ محمد رحمه الله في التوحيد المتضمنة للبراهين

وتقرير الأدلة على ذلك بالآيات المحكمة والأحاديث المتواترة مما يثلج الصدر. واختصر من ذلك رسالة مختصرة للعوام تنتشر في مجالسهم وتدرس في محافلهم ويبين لهم العلماء معانيها ليعرفوا التوحيد فيتمسكوا بعروته الوثيقة، ويتضح لهم الشرك فينفروا عنه وهم على بصيرة آمنين. اهـ. ثم نقل تلك الرسالة وفيها: فإذا عرفت هذه فاعرف أن المشركين الذين كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخف شركاً من عباد1 مشركي زمننا، لأن أولئك كانوا يخلصون2 لله في الشدائد وهؤلاء يدعون مشايخهم في الشدة والرخاء، والله المستعان. وكان فيمن حضر مع علماء مكة وشاهد غالب ما صار حسين بن محمد بن الحسين الأبريقي الحضرمي ثم الحياني، ولم يزل يتردد علينا ويجتمع بسعود وخاصته من أهل المعرفة ويسأل عن مسألة الشفاعة التي جرد السيف بسببها دون حياء ولا خجل لعدم سابقة جرم له، فأخبرناه بأن مذهبنا في أصول الدين مذهب أهل السنة والجماعة، وطريقتنا طريقة السلف التي هي الطريق الأسلم والأعلم والأحكم خلافاً لمن قال طريقة الخلف أعلم. اهـ. وأيضاً فيها: وأما ما يكذب علينا ستراً للحق، وتلبيساً على الخلق، بأنا نفسر القرآن برأينا، ونأخذ من الحديث ما وافق فهمنا، من دون مراجعة شرح، ولا نعول على شيخ، وأنا نضع من رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقولنا النبي رمة في قبره، وعصا أحدنا أنفع له منه، وليس له شفاعة، وأن زيارته غير مندوبة، وأنه كان لا يعرف معنى لا إله إلا الله حتى أنزل عليه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} مع كون الآية مدنية، وأنا لا نعتمد أقوال العلماء، ونتلف مؤلفات أهل المذاهب لأن فيها الحق والباطل، وأنا مجسمة، وأنا نكفر الناس على الإطلاق ومن بعد الستمائة إلا من هو على ما نحن

_ 1 في الأصل عقلاء. 2 في نسخة يخضعون.

عليه، ومن فروع ذلك أنا لا نقبل بيعة أحد حتى نقرر عليه بأنه كان مشركاً، وأن أبويه ماتا على الإشراك بالله، وأنا ننهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ونحرم زيارة القبور المشروعة مطلقاً، وأن من دان بما نحن عليه سقط عنه جميع التبعات حتى الديون وأنا لا نرى حقاً لأهل البيت رضوان الله عليهم، وأنا نجبر على تزويج غير الكفء لهم، وأنا نجبر بعض الشيوخ على فراق زوجته الشابة لتنكح على مرافعة لدينا ولا وجه لذلك، فجميع هذه الخرافات وأشباهها لما استفهمنا عنها من ذكر أولاً كان جوابنا عليه في كل مسألة من ذلك: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} فمن روى عنا شيئاً من ذلك أو نسبه إلينا فقد كذب علينا وافترى: ومن شاهد حالنا ورأى مجلسنا، وتحقق ما عندنا علم قطعاً أن جميع ذلك وضعه علينا جماهير أعداء الدين وإخوان الشياطين، تنفيراً للناس عن الإذعان لإخلاص التوحيد لله بالعبادة، فإنا نعتقد أن من فعل أنواعاً من الكبائر كالقتل للمسلم بغير حق والزنا وشرب الخمر وتكرر ذلك منه لا يخرج بفعل ذلك عن دائرة الإسلام، ولا يخلد به في دار الانتقام، إذا كان موحداً لله في جميع أنواع العبادة. اهـ. وأيضاً فيها: إن قال قائل منفر عن قبول الحق والإذعان له: يلزم من تقريركم وقطعكم في أن من قال يا رسول الله أسألك الشفاعة أنه مشرك مهدر الدم أن يقال غالب الأمة لا سيما المتأخرين1 لتصريح علمائهم المعتبرين من أن ذلك مندوب، وشنوا الغارة على من خالف ذلك. قلت: لا يلزم ذلك لأن لازم المذهب ليس بمذهب كما هو مقرر، ومثل ذلك لا يلزم أن نكون مجسمة وإن قلنا بالجهة كما ورد الحديث بذلك، ونحن نقول فيمن مات: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} ولا نكفر إلا من بلغته دعوتنا ووضحت له المحجة، ومات وعليه الحجة2 وأصر مستكبرا معانداً، كغالب من نقاتلهم: يصرون على ذلك الإشراك ويمتنعون من فعل الواجبات.

_ 1 يظهر أنه سقط من هنا كلمة خبر المتبدأ، وأن الأصل: غالب الأمة ولا سيما المتأخرين من المشركين. 2 كذا في النسخة ولعل أصله: وقامت عليه الحجة.

ويتظاهرون بأفعال الكبائر المحرمات، وغير الغالب إنما نقاتلهم لمناصرته لمن هذا حاله ورضاه به وبتكثير سواد من ذكر والتغلب معه حينئذ حكمة في حد قتاله1، ونعتذر عمن مضى بأنهم مخطئون معذورون لعدم عصمتهم من الخطأ والإجماع في ذلك قطعاً، ومن شن الغارة فقد غلط، ولا بدع أن يغلط فقد غلط من هو خير منه مثل عمر بن الخطاب، فلما نبأته2 امرأة رجع في مسألة المهر وفي غير ذلك يعرف ذلك من سيرته، بل غلط الصحابة وهم جمع ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم سار فهم نوره فقالوا: اجعل نا ذات أنواط، فردهم. فإن قلت: هذا فيمن ذهل ولما نبه انتبه، فما القول فيمن حرر الأدلة، واطلع على كلام الأئمة القدوة، فاستمر مصراً على ذلك إلى أن مات؟ قلت: ولا مانع أن يعتذر لمن ذكر ولا نقول أنه كافر، أولا لما تقدم أنه مخطئ، وإن استمر على خطئه، لعدم من يناضل عن هذه المسألة في وقته بلسانه وسيفه وسنانه، فلم تتم عليه حجة، ولا وضحت له المحجة، بل الغالب على من ألف زمن المؤلفين المذكورين التواطؤ على وهي3 كلام أئمة السنة في ذلك رأسا، ومن اطلع عليه أعرض عنه قبل أن يتمكن في قلبه، ولم تزل أكابرهم تنهى أصاغرهم عن مطلق النظر في ذلك، وصولة الملوك ظاهرة4 لمن وقر في قلبه شيء من ذلك إلا من شاء الله منهم. هذا وقد روي عن معاوية وأصحابه منابذة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في وقته ومشاجرته في الحرب وهم في ذلك مخطئون إجماعاً، واستمروا على ذلك الخطأ حتى ماتوا ولم يشتهر عن أحد من السلف تكفير أحد منهم إجماعاً ولا تفسقه، بل

_ 1 هكذا في النسخة، وهو كما ترى، ففيه تحريف في النقل يعسر تصحيحه بالرأي، وكتبه وما قبله محمد رشيد رضا. 2 في نسخة: نهته. 3 في نسخة: هجر. 4 في نسخة: قاهرة.

أثبتوا لهم أجر الاجتهاد وإن كانوا مخطئين كما ذلك مشهور عند أهل السنة، ونحن كذلك لا نقول بكفر من صحت ديانته وشهر صلاحه وورعه وزهده، وحسنت سيرته، وبالغ في نصح الأمة، يبذل نفسه في تدريس العلوم النافعة والتأليف فيها وإن كان مخطئاً في هذه المسألة أو غيرها، كابن حجر الهيثمي، فإنا نعلم كلامه في (الدر المنظم) ولا ننكر سعة علمه، ولهذا نعتني بكتبه كشرح الأربعين والزواجر وغيرهما ونعتمد على نقله إذا نقل لأنه من جملة علماء المسلمين. هذا ما نحن عليه مخاطبين به من له عقل أو علم وهو متصف بالإنصاف، خال من الميل إلى التعصب والاعتساف، ينظر إلى ما يقال لا إلى من قال، وأما من شأنه لزوم مألوفه وعادته سواء كان حقاً أو غير حق، مقلداً لمن قال تعالى فيهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} . وعادته وجبلته أن يعرف الحق بالرجال لا الرجال بالحق فلا نخاطبه وأمثاله إلا بالسيف حتى يستقيم أوده ويصلح معوجه، فجنود التوحيد منصورة، ورايتهم بالسعد منشورة: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} وأن حزب الله هم الغالبون: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} – {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} اهـ. قال بعض أهل التحقيق1 في الرد على بعض معاصريه: وقد رأيت لبعض المعاصرين كتاباً يعارض به ما قرره شيخنا من أصول الدين، ويجادل بمنع تضليل عباد الأولياء والصالحين، ويناضل عن غلاة الرافضة والمشركين، الذين أنزلوا العباد بمنزلة الله رب العالمي، وأكثر التشبيه بأنهم من الأمة، وأنهم يقولون لا إله إلا الله، وأنهم يصلون ويصومون، ونسي في ذلك عهود الحمى وما قرره كافة الراسخين من العلما، وأجمع عليه الموافق والمخالف من الجمهور والدهما، ونص عليه الأكابر والخواص، من اشتراط العلم والعمل في الإتيان بكلمة الإخلاص، والحكم، بموجب

_ 1 هو الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن في كتابه (مصباح الظلام) في الرد على صاحب (كشف الغمة) عثمان بن منصور. اهـ. من حاشية خطية على الأصل.

الردة على فاعل ذلك من سائر العبيد والأشخاص، وسمى كتابه (جلاء الغمة عن تكفير هذه الأمة) ومراده بالأمة هنا من عبد آل البيت، وغلا فيهم وعبد الصالحين ودعا واستغاث بهم، وجعلهم وسائط بينه وبين الله يدعوهم ويتوكل عليهم، هذا مراده، ولكنه أوقع عليهم لفظ الأمة ترويجاً على الأغمار والجهال، ولبساً للحق بالباطل، وهو يعلم ذلك، وسيجزيه الله ما وعد به أمثاله من المفترين، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَبذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} فلكل مفتر نصيب حسب جرمه، وعلى قدر ذنبه، وقد رأيت على هذا الرجل من الذلة والمهانة مدة حياته ما هو ظاهر بين يعرفه من عرفه.

فصل في حالة أهل نجد وجيرانهم قبل دعوة الشيخ

فصل في حالة أهل نجد وجيرانهم قبل دعوة الشيخ ... قال المعترض: قد ابتلى الله أهل نجد بل جزيرة العرب بمن خرج عليهم ولم يتخرج على العلماء الأمناء، كما صح عندنا وثبت عن مشايخنا الأمجاد النقاد، وسعى بالتكفير للأمة خاصها وعامها، وقاتلها على ذلك جملة إلا من وافقه على قوله، لما وجد من يعينه على ذلك بجهله. و (الجواب) أن يقال: إنه من المعلوم عند كل عاقل خبر الناس وعرف أحوالهم وسمع شيئاً من أخبارهم وتواريخهم أن أهل نجد وغيرهم ممن تبع دعوة الشيخ واستجاب لدعوته من سكان جزيرة العرب كانوا على غاية من الجهالة والضلالة، والفقر والعالة، لا يستريب في ذلك عاقل، ولا يجادل فيه عارف، كانوا من أمر دينهم في جاهلية، ويدعون الصالحين، ويعتقدون في الأشجار والأحجار والغيران1 يطوفون بقبور الأولياء ويرجون الخير والنصر من جهتها، وفيهم من كفر الاتحادية والحلولية وجهالة الصوفية ما يرون أنه من شعب الإيمان والطريقة المحمدية، وفيهم من إضاعة الصلوات ومنع الزكاة وشرب المسكرات ما هو معروف مشهور، فمحا الله بدعوته شعار الشرك ومشاهدة، وهدم به بيوت الكفر الشرك ومعابده، وكبت الطواغيت والملحدين، وألزم من ظهر عليه من البوادي وسكان القرى بما جاء به

_ 1 الغيران جمع غار: اهـ. من الأصل.

محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد والهدى، وكفر من أنكر البعث واستراب فيه من أهل الجهالة والجفا، وأمر بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وترك المنكرات والمسكرات ونهى عن الابتداع في الدين، وأمر بمتابعة السلف الماضين، في الأصول والفروع من مسائل الدين، حتى ظهر دين الله واستعلن، واستبان بدعوته منهاج الشريعة والسنن، وقام الأمر قائم بالمعروف والنهي عن المنكر، وحدت الحدود الشرعية، وعزرت التعازير الدينية، وانتصب علم الجهاد، وقاتل لإعلاء كلمة الله أهل الشرك والفساد، حتى سارت دعوته وثبت نصحه لله ولكتابه ولرسوله ولعامة المسلمين ولأئمتهم، وجمع الله به القلوب بعد شتاتها، وتألفت بعد عداوتها، وصاروا بنعمة الله إخواناً فأعطاهم الله بذلك من النصر والعز والظهور، ما لا يعرف مثله لسكان تلك الفيافي والصخور، وفتح عليهم الاحساء والقطيف، وقهروا سائر العرب من عمان إلى عقبة مصر، ومن اليمن إلى العراق والشام، دانت لهم عربها، وأعطوا الزكاة فأصبحت نجد تضرب إليها أكباد الإبل في طلب الدين والدنيا، وتفتخر بما نالها من العز والنصر والإقبال والسنا، كما قال عالم صنعاء وشيخها: قفي واسألي عن عالم حل سوحها ... به يهتدي من ضل عن منهج الرشد محمد الهادي لسنة أحمد ... فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي لقد سرني ما جاءني من طريقه ... وكنت أرى هذي الطريقة لي وحدي وقال عالم الأحساء وشيخها: لقد رفع المولى به ربتة الهدى ... بوقت به يعلو الضلال ويرفع وجرت به نجد ذيول افتخارها ... وحق لها بالألمعي ترفع وهذا في أبيات لهما لا نطيل بذكرها، وقد شهد غيرهما مثل ذلك واعترفوا بعلمه وفضله وهدايته، وقد قال الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .

وما أحسن ما قاله قتادة عن حال أول هذه الأمة أن المسلمين لما قالوا لا إله إلا الله أنكر ذلك المشركون وكبر عليهم، فأبى الله إلا أن يمضيها وينصرها، ويظهرها على من ناوأها، إنها كلمة من خاصم بها فلج ومن قاتل بها نصر، إنما يعرفها أهل هذه الجزيرة من المسلمين التي يقطعها الراكب في ليال قلائل، ويسير الراكب في فئام من الناس لا يعرفونها ولا يقرون بها.. وهذا المعترض1 عاش في ظل ذلك وتولى القضاء وصارت له الرياسة عند أهل محلته بانتسابه إلى هذا الدين، ودعواه محبة الشيخ، وأنه شرح بعض كتبه، ومع ذلك تجرد لمسبته ومعاداته، وجحد ما جاء به وقرره من الهدى ودين الحق قال الله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} . وقال بعضهم: وما ضر نور الشمس إن كان ناظراً ... إليها عيون لم تزل دهرها عمياً ولا ينكر ما قررناه إلا مكابر في الحسيات ومباهت في الضرويات، يرى أن عبادة الصالحين ودعاءهم والتوكل عليهم وجعلهم، وسائط بينهم وبين الله مما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب، وأنه هو الإسلام، وأهله هم الأمة المحمدية، ومن أنكر عليهم وضللهم فهو خارج مارج، كما قال هذا الرجل وصاحبه ابن سند في منظومته التي انشدها لما استولت العساكر المصرية على بلاد الدرعية: لقد فتحت للدين أعينه الرمد ثم أخذ في سب المسلمين وتضليلهم والشماتة بهم، ومدح من عبد الصالحين ودعاهم مع الله وجعلهم أنداداً تعبد. وقد أجابه الزكي الأديب الشيخ أحمد بن مشرف بمنظومة ذكر فيها حال العساكر المصرية وما اشتهر عنهم من اللواطة والشركيات والزنا وشرب المسكرات وإضاعة

_ 1 هو عثمان بن منصور الذي تقدم ذكره في صفحة 414، وكتبه محمد رشيد رضا.

الصلاة، ثم أنشد في أثناء رده: فإن كان هذا عندك الرشد والهدى ... لقد فتحت للدين أعينه الرمد وبالجملة فلا يقول مثل هذا في الشيخ رحمه الله إلا رجل مكابر، لا يتحاشا من البهت والافتراء، وغلى الله ترجع الأمور وعنده تنكشف السرائر.

زعمه أن الشيخ لم يتخرج على العلماء

زعمه أن الشيخ لم يتخرج على العلماء الأمناء وأما قوله: "ولم يتخرج على العلماء الأمناء" فهذه الدعوى الضالة نشأت من سوء المعتقد وخبث الطوية، وهذا الرجل لا زمام ولا خطام لأكاذيبه وأباطيله، يرسلها حيث يشاء، ويكابر أهل العلم ولا يتحاشى، وقد عرف طلب الشيخ للعلم ورحلته في تحصيله كما ذكره صاحب التاريخ الشيخ حسين بن غنام الاحسائي. وقد اجتمع بأشياخ الحرمين في وقته ومحدثيهما وأجازه بعضهم، ورحل إلى البصرة وسمع وناظر وإلى الاحساء، وهي إذ ذاك آهلة بالعلماء، فسمع من أشياخها وباحث في أصول الدين ومقالات الناس في الإيمان وغيره، وسمع من والده ومن فقهاء نجد في وقته، واشتهر عندهم بالعلم والذكاء وعرف به على صغر سنه، وأيضاً فقد كان أهل العلم –سلفاً وخلفاً- يسمعون الأحاديث ويروونها ويحفظون السنن ويستنبطون منها الأحكام، وهذا عندهم هو الغاية التي يرحل إليها المحدثون، وينتهي إليها الطالبون، وليس من عادتهم القراءة في كتب الرأي والفروع كما هو المعروف عند الناس، رحل الشافعي إلى المدينة وسمع الموطأ وتصدى للفتيا، وأنكر على من لم يطمئن في صلاته لما دخل مسجد محمد بن الحسن بالكوفة، ولم يسمع من مالك ولا غيره كتاباً في الرأي والمذهب، وهكذا غيره من أهل العلم والفتوى. وأما قوله: "كما صح وثبت عن مشايخنا الأمجاد النقاد". فجوابه أن هذه الدعوى في مشايخه كل يدعيها، فالقدرية والرافضة والجهمية والمعتزلة وغلاة عباد القبور يرون أن مشايخهم أمجاد نقاد يؤخذ عنهم ويحفظ عنهم، ويسمون أهل السنة والجماعة وأهل الحديث حشوية مجسمة وناصبة ومجبرة، وعباد القبور يسمون الموحدين

متنقصة للأنبياء والصالحين، ويقرر ذلك أشياخ كل طائفة وأتباعهم يرون أنهم بذلك أمجاد نقاد، ولو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . إذا عرفت هذا فمشايخ هذا الرجل الذين أثنى عليهم من أكابر المعاندين، ورءوس المخالفين، وقد عرف ذلك عن ابن سند وابن سلوم وأمثالهم من أشياخه الذين كثر في هذا الباب سبابهم، وغلظ عن معرفة الله ومعرفة حقه حجابهم.

افتراؤه على تكفير الأمة

افتراؤه على تكفير الأمة إلا من وافقه وأما قوله: "فسعى بالتكفير للأمة خاصها وعامها، وقاتلها على ذلك جملة إلى من وافقه على قوله". فهذه العبارة تدل على تهور في الكذب ووقاحة تامة، وفي الحديث: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت". وصريح هذه العبارة أن الشيخ كفر جميع الأمة1 من المبعث النبوي إلى قيام الساعة إلا من وافقه على قوله الذي اختص به، وهل يتصور هذا عاقل عرف حال الشيخ وما جاء به ودعا إليه، بل أهل البدع كالقدرية والجهمية والرافضة والخوارج لا يكفرون جميع من خالفهم، بل لهم أقوال وتفاصيل يعرفها أهل العلم، والشيخ رحمه الله لا يعرف له قول انفرد به عن سائر الأمة ولا عن أهل السنة والجماعة منهم، وجميع أقواله في هذا الباب، -أعنى ما دعا إليه من توحيد الأسماء والصفات وتوحيد العمل والعبادات- مجمع عليه عند المسلمين، لا يخالف فيه إلا من خرج عن سبيلهم:

_ 1 وزعم غير هذا المعترض أنه كفر الأمة منذ مئات السنين لا من أولها كما اقتضاه إطلاقه، بل منذ فشا فيها تشييد القبور، وبناء المساجد عليها والطواف بها ودعاء الموتى، فإن هذا لم يكن في القرون الأولى، ولكن الحق الواقع أن الشيخ لم يكفر الأمة كلها في زمنه فضلاً عما قبله، وإنما كفر من أشرك بالله بغير عذر الجهل، وكتبه محمد رشيد رضا.

وعدل عن مناهجهم، كالجهمية والمعتزلة وغلاة عباد القبور، بل قوله مما اجتمعت عليه الرسل واتفقت عليه الكتب كما يعلم ذلك بالضرورة من عرف ما جاءوا به وتصوره، ولا يكفر إلا على هذا الأصل بعد قيام الحجة المعتبرة، فهو في ذلك على صراط مستقيم متبع لا مبتدع، وهذا كتاب الله وسنة رسوله وكلام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من أهل العلم والفتوى معروف مشهور مقرر في محله في حكم من عدل بالله وأشرك به وتقسيمهم الشرك إلى أكبر وأصغر، والحكم على المشرك الشرك الأكبر بالكفر مشهور عند الأمة لا يكابر فيه إلا جاهل لا يدري ما الناس فيه من أمر دينهم وما جاءت به الرسل. وقد أفرد هذه المسألة بالتصنيف غير واحد من أهل العلم، وحكى الإجماع عليها وأنها من ضروريات الإسلام كما ذكره تقي الدين بن تيمية وابن القيم الجوزية وابن عقيل وصاحب الفتاوى البزازية وصنع الله الحلبي والمقريزي الشافعي ومحمد بن حسين النعمي الزبيدي ومحمد بن إسماعيل الصنعاني ومحمد بن علي الشوكاني وغيرهم من أهل العلم1.

_ 1 يعني أن هؤلاء وأمثالهم صرحوا بأن ما عليه كثير من المسلمين الجاهلين من عبادة القبور ودعاء الموتى شرك جلي، وأما أصل المسألة فقد أجمع عليها الفقهاء قبلهم.

افتراؤه عليه جعل بلاد المسلمين دار كفر

افتراؤه عليه جعل بلاد المسلمين دار كفر وأما قوله وجعل بلاد المسلمين كفاراً أصليين، فهذا كذب وبهت ما صدر ولا قيل ولا أعرفه عن أحد من المسلمين، فضلاً عن أهل العلم والدين، بل كلهم مجمعون على أن بلاد المسلمين لها حكم الإسلام في كل مكان وزمان، وإنما تكلم الناس في بلاد المشركين الذين يعبدون الأنبياء والملائكة والصالحين، ويجعلونهم أنداداً لله رب العالمين، ويسندون إليهم التصرف والتدبير كغلاة القبوريين، فهؤلاء تكلم الناس في كفرهم وشركهم وضلالهم، والمعروف المتفق عليه عند أهل العلم أن من فعل ذلك ممن يأتي بالشهادتين يحكم عليه بعد بلوغ الحجة بالكفر والردة، ولم يجعلوه كافراً أصلياً، وما رأيت ذلك لأحد سوى محمد بن إسماعيل في رسالته تجريد التوحيد

المسمى بتطهير الاعتقاد، وعلل هذا القول بأنهم لم يعرفوا ما دلت عليه كلمة الإخلاص فلم يدخلوا بها في الإسلام مع عدم العلم بمدلولها وشيخنا لا يوافقه على ذلك، ولكن هذا المعترض لا يتحاشى من الكذب ولو كان من الميتة والموقوذة والمتردية، وما رأيت شيخ الإسلام أطلق على بلد من بلاد المنتسبين إلى الإسلام أنها بلد كفر، ولكنه قرر أن دعاء الصالحين وعبادتهم بالاستعانة بالاستغاثة والذبح والنذر والتوكل على أنهم وسائط بين العباد وبين الله في الحاجات والمهمات هو دين المشركين، وفعل الجاهلية الضالين، من الأميين والكتابيين، فظن هذا أن لازم قوله أنه يحكم على هذه البلاد أنها بلاد كفر وهذا ليس بلازم، ولو لزم فلازم المذهب ليس بمذهب، ونحن نطالب الناقل بتصحيح نقله. انتهى. وأيضا قال: وأما قول المعترض: "لما رأى في هذه الأمة من الأحداث التي لا تزال موجودة فيها تقل وتكثر، ولا تزال علماؤها تحدد لها دينها من الباب الواسع هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتتحاشى عن الدخول عليها من الباب الضيق وهو تكفيرها الذي حذر عنه نبيها" إلى آخر عبارته. فالجواب: أن يقال: قضية هذا الكلام أن الشيخ إنما كفر وقاتل وأخذ الأموال بأحداث لا تزال موجودة في الأمة تقل وتكثر، وأنها لا يكفر بها أحدا، وأن تكفير الصحابة1 لمن كفروه من أهل الردة على اختلافهم وتكفير علي للغلاة، وتكفيرهم للسحرة، وقتلهم، وتكفير من بعدهم للقدرية ونحوهم، وتكفير من بعد أولئك للجهمية وقتلهم لجعد بن درهم وجهم بن صفوان ومن على رأيهم وقتلهم للزنادقة -وهكذا في كل قرن وعصر من أهل العلم والفقه والحديث طائفة قائمة تكفر

_ 1 قوله وأن تكفير الصحابة وما عطف عليه لم يأت فيما بعده خبر له تتم به الفائدة، فلعله سقط من الكلام أو وقع فيه تحريف، والمعنى أن مقتضى تخطئة هذا المعترض للشيخ في تكفير الناس بما ذكر وزعمه أن المسلم لا يكفر بشيء صدر عنه مهما يكن يقتضي أن الصحابة كانوا مخطئين في تكفير أهل الردة وكذا علي في تكفير من عبدوه من الغلاة، وكذا سائر الأئمة والخلفاء فيمن كفروهم، وكتبه محمد رشيد رضا.

من كفره الله ورسوله وقام الدليل على كفره، لا يتحاشون عن ذلك بل يرونه من واجبات الدين وقواعد الإسلام، وفي الحديث: "من بدل دينه فاقتلوه"1 وبعض العلماء يرى أن هذا والجهاد عليه ركن لا يتم الإسلام بدونه، وقد سلك سبيلهم الأئمة الأربعة المقلدون وأتباعهم في كل عصر ومصر، وكفروا طوائف من أهل الأحداث كالقرامطة والباطنية، وكفروا العبيديين ملوك مصر وقاتلوهم وهم يبنون المساجد ويصلون ويؤذنون ويدعون نصرة أهل البيت، وصنف ابن الجوزي كتاباً سماه "النصر على مصر" ذكر فيه وجوب قتالهم وردتهم، وقد عقد الفقهاء في كل كتاب من كتب الفقه المصنفة على مذاهبهم باباً مستقلاً في حكم أهل الأحداث التي توجب الردة وسماه باب الردة أكثرهم، وعرفوا المرتد بأنه الذي يكفر بعد إسلامه، وذكروا أشياء دون ما نحن فيه من المكفرات حكموا بكفر فاعلها وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم. انتهى. وأيضاً قال فيه وأما قوله: "إن تكفيرها حذر منه نبيها محمد صلى الله عليه وسلم غاية التحذير". فيقال: إن زعمت أن النبي صلى الله عليه وسلم حذر عن تكفير من أتى ما يوجب الكفر ويقتضيه ممن بدل دينه، فهذا مكابرة وجحد للضروريات والحسيات، وقائله إلى أن يعالج أحوج منه إلى تلاوة الآيات والأحاديث وحكاية الإجماع وفعل الأمة طبقة طبقة وقرناً قرناً، وإن أراد النهي عن تكفير عموم الأمة وجميعها، فهذا لم يقله أحد ولم نسمع عنه من مارق ولا مبتدع، وهل يقول هذا من له عقل يدرك به ويعرف ما في الأمة من العلم والإيمان والدين؟ وأما بعض الأمة فلا مانع من تكفير من قام الدليل على كفره كبني حنيفة وسائر أهل الردة في زمن أبي بكر وغلاة القدرية والمارقين الذين مرقوا في زمن علي رضي الله عنه وغلوا فيه، وهكذا الحال في كل وقت وزمان، ولولا ذلك لبطل الجهاد وترك الكلام في أهل الردة وأحاكمهم. اهـ. وأيضاً قال فيه: قال الشيخ رحمه الله في رسالة إلى السويدي البغدادي: وما ذكرت

_ 1 رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن الأربعة عن ابن عباس رضي الله عنهما.

أني أكفر جميع الناس إلا من ابتعني وأزعم أن أنكحتهم غير صحيحة، فيا عجباً كيف يدخل هذا في عقل عاقل؟ هل يقول هذا مسلم أو كافر أو عارف أو مجنون؟ إلى أن قال: وأما التكفير، فأنا أكفر من عرف دين الرسل، ثم بعد ما عرفه سبه ونهى الناس عنه وعادى من فعله، فهذا هو الذي أكفره، وأكثر الأمة ولله الحمد ليس كذلك. وقال رحمه الله في رسالته للشريف: وأما الكذب والبهتان مثل قولهم إنا نكفر بالعموم ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وإنا نكفر من لم يكفر ومن لم يقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه، فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله، وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على قبر عبد القادر والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهم لأجل جهلهم وعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا ولم يكفر ويقاتل؟ سبحانك هذا بهتان عظيم. فإذا كان هذا كلام الشيخ رحمه الله فيمن عبد الصنم الذي على القبور إذا لم يتيسر له من يعلمه ويبلغه الحجة، فكيف يطلق على الحرمين أنها بلاد كفر؟ اهـ. وإذا ما عرفت ما ذكرنا لك من العبارات، فاعلم أن الكلام على ما نقل المؤلف عن الشيخ محمد بن سليمان الكردي المدني بوجوه: (الأول) : أنه يطالب بتصحيح النقل فالاعتماد مرتفع عن نقله. و (الثاني) : أن دعوى كون محمد بن عبد الوهاب من تلامذة الشيخ المذكور مفتقرة إلى التبيين. و (الثالث) : أنه لا يعلم من حال الشيخ المذكور ما يدل على أنه من أهل العلم والديانة حتى يعول على قوله. و (الرابع) : أنه بعد ثبوت صحة ما نقل وكون الشيخ محمد بن عبد الوهاب من تلامذة المذكور، وكون الشيخ المذكور من العلماء الراسخين المتدينين، يحتمل أن يكون نصحه المذكور مبينا على ما اشتهر على ألسنة أعداء الشيخ محمد بن عبد الوهاب

من تكفيره السواد الأعظم من المسلمين لا على التحقيق. و (الخامس) : لو سلمنا هذا النقل فأي حجة فيه على أن الحق مع أستاذه في ذلك؟ ومتابعة الأساتذة لا تحمد مطلقاً. و (السادس) : أنك قد عرفت فيما تقدم أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يكفر السواد الأعظم من المسلمين، ومن كفره فلم يكفره بارتكاب ذنب من الكبائر كما هو مذهب الخوارج، إنما كفره بدعوة غير الله بحيث يطلب فيها منه ما لا يقدر عليه إلا الله، وهذا لا يستريب أحد من أهل العلم والديانة أنها عبادة لغير الله، وعبادة غير الله لا شك في كونها كفراً، مع أنه لم يكفره أيضاً حتى عرفه الصواب ونبهه. وأيضاً قد عرفت فيما مر أن الشيخ ليس بمنفرد في هذا التكفير، بل جميع أهل العلم من أهل السنة والجماعة يشاركونه فيه لا أعلم أحداً مخالفاً له، منهم تقي الدين بن تيمية، وابن قيم الجوزية، وابن عقيل، وصاحب الفتاوى البزازية، وصنع الله الحلبي، والمقريزي الشافعي، ومحمد بن حسين النعمي الزبيدي، ومحمد بن إسماعيل الصنعاني، ومحمد علي الشوكاني، وصاحب الإقناع، وابن حجر المكي، وصاحب النهر الفائق، والإمام البكري الشافعي، والحافظ عماد الدين بن كثير، وصاحب الصارم المنكي، والشيخ حمد ناصر، والعلامة الإمام الحسن بن خالد، والشيخ العلامة محمد بن الحفظي وغيرهم. (السابع) : قول الشيخ محمد بن سليمان المذكور، فإن سمعت من شخص أنه يعتقد تأثير ذلك المستغاث به من دون الله تعالى فعرفه الصواب. اهـ. فيه أن الكفر لا يتوقف على اعتقاد تأثير المستغاث به من دون الله تعالى، بل مجرد دعاء غير الله بحيث يشتمل على طلب ما لا يقدر عليه إلا الله كفر، كما تقدم غير مرة. (الثامن) : قول ذلك الشيخ: ولا سبيل لك إلى تكفير السواد الأعظم من المسلمين وأنت شاذ عن السواد الأعظم، فنسبة الكفر إلى من شذ عن السواد الأعظم أقرب. اهـ. فيه أنه لم يعرف معنى السواد الأعظم، فإنه ليس معناه جمهور من يدعي الإسلام، بل هو أهل الحق وإن قلوا، كما مر تحقيقه بما لا مزيد

عليه فتذكر. وقال العلامة الإمام الحسن بن خالد في كتاب (منفعة قوت القلوب، وفي إخلاص توحيد علام الغيوب) : وليس السواد الأعظم إلا أهل الحق وإن قلوا. اهـ. وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في الكلام على قوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا} . الآية: الغرباء في هذا العالم هم أهل الصفة المذكورة في هذه الآية، وهم الذين أشار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء". قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: "الذين يصلحون إذا أفسد الناس" وفي حديث عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن عنده: "طوبى للغرباء" قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: "ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم" فأهل الإسلام بين أكثر الناس غرباء، وأهل الإيمان بين أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة الذين تميزوا بها عن الأهواء والبدع فيهم غرباء، والداعون إليها الصابرون على الأذى فهيا أشد غربة، ولكن هؤلاء المخالفين لهم هم أهل الله حقا، فلا غربة عليهم، وإنما غربتهم بين الأكثرين، قال الله تعالى فيهم: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} فأولئك هم الغرباء إلى الله ورسوله، وغربتهم هي الرغبة الموحشة الوحشة، وإن كانوا هم المعروفين المشار إليهم، فالغربة على ثلاثة أنواع: غربة أهل الله وأهل سنة رسوله بين هذا الخلق وبين الغربة التي مدح رسوله صلى الله عليه وسلم وأخبر عن الدين الذي جاء به أنه بدأ غريباً وأنه سيعود غريباً وأن أهله يصيرون غرباء، وقال الحسن: المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها ولا يناقش في عزها، للناس حال وله حال، ومن صفات هؤلاء الغرباء الذين غبطهم النبي صلى الله عليه وسلم التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس، وترك ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم وتجريد التوحيد وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا طريق

ولا مذهب ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء ينتسبون إلى الله تعالى بالعبودية له وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده، وهؤلاء القابضون على الجمر حقاً، فلغربتهم بين هذا الخلق يعدونهم أهل الشذوذ وبدعة ومفارقة للسواد الأعظم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنهم النزاع من القبائل" اهـ. هكذا نقله بعض المحققين في الرد على جلاء الغمة. قوله: والحاصل أن المانعين للزيارة والتوسل قد تجاوزوا الحد فكفروا أكثر الأمة واستحلوا دماءهم وأموالهم وجعلوهم مثل المشركين الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن الناس مشركون في توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وبغيره من الأنبياء والأولياء والصالحين، وفي زيارتهم قبره صلى الله عليه وسلم، وندائهم له بقولهم: يا رسول الله نسألك الشفاعة. أقول: المانعون للزيارة والتوسل لم يتجاوزوا الحد قط، وإنما كفروا من كفروا لأجل عبادتهم لغير الله كدعائهم الأموات بحيث يطلب فيه منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، وكالذبح لهم والنذر لهم والتوكل عليهم بعد تعريف الصواب والتنبيه عليه، ولم يقولوا إن الناس هم مشركون في مجرد توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وبغيره من الأنبياء والأولياء والصالحين، وفي مجرد زيارتهم قبره صلى الله عليه وسلم، هذا افتراء بحت وبهت محض، إنما أشركوا بالتوسل والزيارة اللذين يشتملان على عبادة غير الله من الدعاء والذبح والنظر. وأما التوسل كأن يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بتصديقه على الرسالة والإيمان بما جاء به وطاعته في أمره ونهيه، وكأن يتوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم في حياته، وكأن يدعو الرب سبحانه بإضافته إلى عباده الصالحين، وكأن يتوسل بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، كذلك الزيارة الشرعية فلا يمنعها أحد، نعم التوسل بأن يقول: اللهم أني أسألك بحق فلان عبدك، وشد الرحال لمجرد الزيارة، فيه اختلاف لأهل العلم، والمحققون يمنعونهما ويقولون إنهما ليسا بثابتين، وإنهما من البدع، ولكن لا يكفرون من ارتكبه، وأما النداء وطلب الشفاعة فلا يكفرون بهما مطلقاً، بل إذا كانا متضمنين لعبادة

غير الله، وقد مر تفصيله فتذكر. قوله: وحملوا الآيات القرآنية التي نزلت في المشركين على خواص المؤمنين وعوامهم كقوله تعالى: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} وقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ. وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} . إلى قوله: كلها، حملوا الدعاء فيها على النداء ثم حملوها على المؤمنين الموحدين. أقول: الكلام عليه بوجوه: (الأول) : أن نزول جميع الآيات المتلوة هنا في المشركين غير مسلم، ألا ترى أن الآية الأولى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} . المخاطب فيها النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، قال الحافظ ابن كثير: يقول الله تعالى آمراً عباده أن يوحدوه في محال عبادته ولا يدعى معه أحد ولا يشرك به كما قال قتادة في قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} . قال: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يوحدوه وحده. اهـ. وفي فتح البيان: قال مجاهد كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله، فأمر الله نبيه والمؤمنين أن يخلصوا لله الدعوة إذا دخلوا المساجد كلها، يقول: فلا تشركوا فيها صنماً أو غيره مما يعبد. اهـ. وأما كون اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله فنزول الآية فيه لا يقتضي أن لا يكون الدعاء المذكور منهياً عنه في حق المؤمنين. وكذلك المأمور والمخاطب في قوله تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} هو النبي صلى الله عليه وسلم. قال في فتح البيان: ثم لما قرر الله سبحانه حقية القرآن وأنه منزل من عنده، أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بدعاء الله وحده فقال: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} إن فعلت ذلك الذي دعوك إليه، وخطاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا -مع كونه منزها عنه، معصوماً منه- لحث العباد على التوحيد، ونهيهم عن شوائب الشرك، وكأنه قال أنت أكرم الخلق وأعزهم عندي، ولو اتخذت معي إلهاً

لعذبتك، فكيف بغيرك من العباد؟ وقد أخطأ المؤلف في نقل هذه الآية فكتب الواو بدل الفاء، وكذلك ورد الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم في غير هذه الآية مما لم يذكره المؤلف، منه قوله تعالى في سورة يونس: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} . ومنه قوله تعالى في سورة القصص: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} . ومنه قوله تعالى في سورة النساء: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} . وبالجملة كفى بتلك الآيات حجة على منع دعاء غير الله، سواء قيل أنها أنزلت في المشركين أو غيرهم، إذا المأمور فيها هو النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون. و (الثاني) : أنا ما حملنا الآيات على خواص المؤمنين وعوامهم، إنما حملناها على من يدعون غير الله رغبة ورهبة، ويطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله، وينحر له، وينذر له، وهم مشركون قطعاً كما مر تقريره. و (الثالث) : أنه لو سلم أن بعض الآيات نزلت في المشركين فألفاظها عامة كلفظ من يدعو من دون الله، والذين يدعون من دونه، وقد تقرر في محله أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، ولو خصصت الآيات بما نزلت فيه لبطل معظم أحكام الإسلام. قوله: وكلامهم كلمة باطل لأن الدعاء الذي في الآيات بمعنى العبادة، وهم لبسوا على الخلق، وجعلوه بمعنى النداء، وقد علمت بطلانه من النصوص السابقة. أقول: الدعاء كونه في الأصل بمعنى النداء والطلب مما لا مرية فيه، وأما كونه بمعنى العبادة فلم يثبت بعد حقيقة لا لغة ولا شرعاً، فإن ثبت إطلاقه عليها فإنما يكون مجازاً، ويرشدك إلى هذا أنه ليس في كتاب من كتب اللغة فيما أظن أن الدعاء معناه

العبادة ولا في كلام أحد من فصحاء الجاهلية لا في نظم ولا نثر ما يقتضي ذلك فضلاً عن كونه نصاً عليه، ولنذكر هنا عبارات كتب اللغة لتتضح لديك معانيه الحقيقية فنقول: قال الجوهري: في الصحاح: ودعوت فلاناً أي صحت به واستدعيته، ودعوت الله له وعليه دعاء، والدعوة المرة الواحدة، والدعاء واحد الأدعية. اهـ. وقال في القاموس: الدعاء الرغبة إلى الله تعالى، دعاه دعاء ودعوى، والدعاءة السبابة، وهو منى دعوة الرجل أي قدر ما بيني وبينه ذاك، ولهم الدعوة على غيرهم أي يبدأ بهم في الدعاء، وتداعوا عليهم تجمعوا. ودعاه ساقه. والنبي صلى الله عليه وسلم داعي الله، ويطلق على المؤذن، والداعية صريخ الخيل في الحروب، وداعية اللبن بقيته التي تدعو سائره، ودعاها في الرضع أبقاها فيه، ودعاه الله بمكروه أنزله به، ودعوته زيداً وبزيد سمتيه به. اهـ. وقال الفيومي في المصباح المنير: دعوت الله أدعوه دعاء ابتهلت إليه بالسؤال ورغبت فيما عنده من الخير، ودعوت زيداً ناديته وطلبت إقباله، ودعا المؤذن الناس إلى الصلاة فهو داعي الله والجمع دعاة وداعون مثل قاضي وقضاة وقاضون، والنبي داعي الخلق إلى التوحيد، ودعوت الولد زيداً وبزيد إذا سميته بهذا الاسم. اهـ. وبالجملة ليس في شيء من كتب اللغة الدعاء بمعنى العبادة، نعم قال الحافظ ابن حجر: ويطلق الدعاء أيضاً على العبادة، ونصه في دعوات الفتح هكذا: بفتح المهملتين جمع دعوة بفتح أوله وهي المسألة الواحدة، والدعاء الطلب إلى الشيء الحث على فعله، دعوت فلاناً سألته، ودعوته استغثته، ويطلق أيضاً على رفعة القدر كقوله تعالى: {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الْآخِرَةِ} كذا قال الراغب، ويمكن رده إلى الذي قبله، ويطلق الدعاء أيضاً على العبادة، والدعوى بالقصر الدعاء كقوله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ} والإدعا كقوله تعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا} وقال الراغب: الدعاء والنداء واحد، قد يتجرد النداء عن الاسم والدعاء لا يكاد يتجرد. وقال الشيخ أبو القاسم القشيري في شرح الأسماء الحسنى ما ملخصه: جاء الدعاء في

القرآن على وجوه: (منها) العبادة: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} ، ومنها الاستغاثة: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} ، ومنها السؤال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ، ومنه القول: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} ، والنداء: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} ، والثناء: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} . اهـ1. وقال2 تحت قوله: وقول الله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الآية: وهذه الآية ظاهرة في ترجيح الدعاء على التفويض، وقالت طائفة: الأفضل ترك الدعاء والاستسلام للقضاء، وأجابوا عن الآية بأن آخرها دل على أن المراد بالدعاء العبادة لقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} واستدلوا بحديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدعاء هو العبادة" ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} . الآية، أخرجه الأربعة وصححه الترمذي والحاكم، وشذت طائفة فقالوا المراد بالدعاء في الآية ترك الذنوب، وأجاب الجمهور أن الدعاء من أعظم العبادة فهو كالحديث الآخر "الحج عرفة" أي معظم الحج وركنه الأكبر، ويؤيده ما أخرجه الترمذي من حديث أنس رفعه: "الدعاء مخ العبادة" اهـ. وقال القسطلاني في (إرشاد الساري) : كتاب الدعوات بفتح الدال والعين المهملتين جمع دعوة بفتح أوله مصدر يراد به الدعاء، يقال: دعوت الله أي سألته. اهـ. وقال تحت قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} : لما كان من أشرف أنواع الطاعات الدعاء والتضرع أمر الله تعالى به فضلاً وكرماً، وتكفل لهم بالإجابة، وقيل: المراد بقوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الأمر بالعبادة بدليل قوله بعد: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} صاغرين ذليلين. والدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن كقوله: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً} وأجاب الأولون بأن هذا ترك الظاهر، فلا يصار إليه إلا بدليل. وقال العلامة تقي الدين السبكي: الأولى حمل الدعاء في الآية على ظاهرة، وأما قوله بعد ذلك: {عَنْ عِبَادَتِي} فوجه الربط أن الدعاء أخص من العبادة، فمن

_ 1 أي كلام العسقلاني في الفتح. 2 قال أي العسقلاني أيضاً فيه.

استكبر عن العبادة استكبر عن الدعاء، وعلى هذا فالوعيد إنما هو حق، من ترك الدعاء استكباراً ومنفعل ذلك كفر. اهـ. وقال في مجمع البحار: والدعاء الغوث، ومنه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} أي استغيثوا إذا نزل بكم ضر، {دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} أي جعلوا، {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ} لن نعبد، يقال دعوته إذا ناديته وإذا سميته، وفيه: أن نساء يدعون أي يطلبن بالمصابيح من جوف الليل، وفيه: "أن ندعو لله ندا" الدعاء النداء ويستعمل استعمال التسمية والسؤال والاستغاثة، وهو هنا متضمن معنى الجعل، وفيه الدعاء وهو العبادة، أي يستأهل أن يسمى عبادة لدلالته على الإقبال عليه والإعراض عما سواه، ويمكن إرادة لغته أي الدعاء ليس إلا إظهار التذلل: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} اعبدوني أثبكم لقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} . اهـ. ملتقطاً. إذا دريت تلك العبارات فقد عرفت أن الدعاء قد يطلق أيضاً على العبادة، ولكن هناك مباحث: (الأول) : أن هذا ادعاء بلا دليل، وأما ما يذكر له من الشواهد والأمثلة من القرآن المجيد كقوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} وقوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وقوله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً} وقوله تعالى: {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ} وغيرها من الآيات فلا يصلح شاهداً له، إذ يحتمل أن يراد بالدعاء في هذه الآيات كلها السؤال بجلب النفع ودفع الضرر الذي هو معناه الحقيقي، بل هو المتعين، لأنه ليس هناك صارف يصرف عن إرادة المعنى الحقيقي، وقد صرح غير واحد من أهل العلم بأن المراد بالدعاء في قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} هو السؤال بجلب النفع ودفع الضرر لا العبادة وإن اختلف الناس فيه. وذكر الإمام الرازي تحت قوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} . ما يقتضي أن المراد بالدعاء في هذه الآية طلب المنفعة والمضرة، ونصه هكذا: يعني لو اشتغلت بطلب المنفعة والمضرة من غير الله فأنت من الظالمين، لأن الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه، فإذا كان

ما سوى الحق معزولاً عن التصرف كانت إضافة التصرف إلى ما سوى الحق وضعاً للشيء في غير موضعه فيكون ظلماً. اهـ. فإن قلت: الصارف هناك ما قد ذكر صاحب الرسالة فيما تقدم من أنه لو كان كل نداء دعاء وكل دعاء عبادة شمل ذلك نداء الأحياء والأموات، فيكون كل نداء ممنوعاً مطلقاً سواء كان للأحياء والأموات أم للحيوانات والجمادات، وليس الأمر كذلك. قلنا: هذا لا يصلح صارفاً، فإن المراد بالدعاء عندنا ليس مطلق النداء بل النداء الذي فيه طلب ما لا يقدر عليه إلا الله كما تقدم، لا يقال فعلى هذا ليس هذا المعنى حقيقياً، فإنه فرد من أفراد مطلق النداء، وإذا أطلق المطلق وأريد به الخاص فهو مجاز، لأنا نقول: كما أن لفظ الدعاء وضع في الأصل لمطلق النداء كذلك وضع النداء الذي ذكرناه، يرشدك، إلى هذا عبارات الجوهري وصاحب القاموس والفيومي التي ذكرت فيما تقدم فتذكر، فيكون النداء المذكور حقيقة شرعية. وعلى تقدير تسليم أن لفظ الدعاء ليس بحسب اللغة موضوعاً للنداء المذكور يقال: لا شك في أن لفظ الدعاء بحسب الشرع موضوع للنداء المذكور، فإن الله تعالى ورسوله جعل الدعاء من أفراد العبادة، قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} وقال رسول صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة"، وأيضاً: "الدعاء مخ العبادة". وقد أمر الله تعالى ورسوله بالدعاء في غير ما موضع، وهذا دال على أن الدعاء الشرعي عبادة، ولا مرية في أن مطلق النداء ليس بعبادة، فإذا المراد به هو النداء المذكور، فيكون النداء المذكور حقيقة شرعية للفظ الدعاء، ويمكن أن يراد بالدعاء في الآيات المذكورة مطلق النداء ويخصص بمخصصات أخر، فيكون من قبيل العام الذي خص منه البعض فيكون فيما بقى من الأفراد حجة ظنية، وليس هناك مخصص يخرج دعاء الأموات من الأنبياء والصالحين الذي يتضمن طلب ما لا يقدر عليه إلا الله من هذا العموم. و (الثاني) : أنه لو سلم إطلاق الدعاء على العبادة، فهذا مجاز، ومن ثم قال القسطلاني

وأجاب الأولون بأن هذا ترك الظاهر فلا يصار إليه إلا بدليل، وهكذا قال الإمام الرازي. وقال في فتح البيان: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} قال أكثر المفسرين: المعنى وحدوني واعبدوني أتقبل عبادتكم وأغفر لكم وأجبكم وأثبكم، وقيل: هذا الوعد بالإجابة مقيد بالمشيئة، أي أستجب لكم إن شئت كقوله: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} ، وقيل: المراد بالدعاء السؤال بجلب النفع ودفع الضرر، قيل: الأول أولى، لأن الدعاء في أكثر استعمالات الكتاب العزيز هو العبادة، قلت: بل الثاني أولى، لأن معنى الدعاء حقيقة وشرعاً هو الطلب، فإن استعمل في غير ذلك فهو مجاز، على أن الدعاء في نفسه باعتبار معناه الحقيقي هو عبادة، بل مخ العبادة كما ورد بذلك الحديث الصحيح، فالله سبحانه قد أمر عباده بدعائه، ووعدهم بالإجابة، ووعده الحق، وما يبدل القول لديه، ولا يخلف الميعاد. اهـ. وقال في (نزل الأبرار) : وقد حقق العلامة الشوكاني في مؤلفاته أنها بمعنى الدعاء في القرآن وفي الحديث، وعليه الفحول من العلماء في القديم والحديث، وحيث تقرر أن الدعاء عبادة أفتى الراسخون في العلم بأن دعاء من سوى الله كائناً من كان شرك وعبادة لذلك الغير، والبحث في هذا يطول جداً، انظره في كتاب (الدين الخالص) فإن مؤلفه قضى الوطر بذلك. اهـ. وقال الإمام الرازي: وحقيقة الدعاء استدعاء العبد ربه جل جلاله العناية، واستمداده إياه المعونة، وقال أيضاً: الدعاء مغاير للعبادة في المعنى. اهـ. وإذا ثبت أن العبادة معنى مجازي للدعاء فلا يصار إليه إلا عند تعذر الحقيقة وفيما نحن فيه تعذر الحقيقة ممنوع. و (الثالث) : أن الدعاء إذا كانت العبادة معنى مجازياً له فما العلاقة بينهما؟ فنقول: العلاقة بينهما إما العموم والخصوص فإن العبادة عام والدعاء خاص، قال العلامة تقي الدين السبكي: الأولى حمل الدعاء في الآية على ظاهره، وأما قوله بعد ذلك: {عَنْ

عِبَادَتِي} فوجه الربط أن الدعاء أخص من العبادة، فمن استكبر عن العبادة استكبر عن الدعاء، كذا ذكره القسطلاني في (إرشاد الساري) . وأيضاَ: قال القسطلاني: لما كان من أشرف أنواع الطاعات الدعاء والتضرع أمر الله تعالى به فضلاً وكرماً وتكفل لهم بالإجابة. وقال الإمام الرازي: وقال الجمهور الأعظم من العقلاء إن الدعاء أهم مقامات العبودية، ويدل عليه وجوه من النقل والعقل. وأيضاً قال: ولما كان أشرف أنواع الطاعات الدعاء والتضرع، لا جرم أمر الله تعالى به في هذه الآية فقال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} . اهـ. وأيضاً قال: واعلم أن الدعاء نوع من أنواع العبادة، وقال: بل نقول الدعاء يفيد معرفة ذلة العبودية، ويفيد عزة الربوبية، وهذا هو المقصود الأشرف الأعلى من جميع العبادات، وبيانه أن الداعي لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه كونه محتاجاً إلى ذلك المطلوب وكونه عاجزاً عن تحصيله، وعرف من ربه وإلهه أنه يسمع دعاءه ويعلم حاجته وهو قادر على دفع تلك الحاجة، وهو رحيم تقتضي رحمته إزالة تلك الحاجة، وإذا كان كذلك فهو لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف كونه موصوفاً بالحاجة، وبالعجز، وعرف كون الإله سبحانه موصوفا بكمال العلم والقدرة والرحمة، فلا مقصود من جميع التكاليف إلا معرفة ذل العبودية وعز الربوبية، فإذا كان الدعاء مستجمعاً لهذين المقامين لا جرم كان الدعاء أعظم أنواع العبادات. اهـ. أو العلاقة بينهما السببية والمسببية، فإن العبادة سبب للدعاء، قال الإمام الرازي تحت قوله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً} : ويدعون بمعنى يعبدون، لأن من عبد شيئاً فإنه يدعوه عند احتياجه إليه. وقال أيضاً: إن الغالب من حال من يعبد غيره أن يلتجئ إليه في المسألة ليعرف مراده إذا سمع دعاءه ثم يستجيب له في بذل منفعة أو دفع مضرة. اهـ. و (الرابع) : أن الله تعالى قال بعد الأمر بالدعاء: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ

عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} فلولا أن الدعاء بمعنى العبادة لما بقى لقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} معنى. فنقول: الربط لا يتوقف على ذلك، بل هناك ثلاثة احتمالات: (الأول) : ما ذكر، أي يراد بالدعاء العبادة. و (الثاني) : أن يراد بالعبادة الدعاء، فكما أن العبادة معنى مجازي للدعاء، كذلك الدعاء معنى مجازي للعبادة. و (الثالث) : أن يراد بكليهما معناهما الحقيقي، وإنما يشكل الربط على هذا التقدير فقط، فوجه الربط على هذا ما ذكره السبكي، وقد ذكرت عبارته فيما تقدم، وقريب منه أن يقال: إن العبادة أعم من الدعاء، فمن استكبر عن الدعاء استكبر عن العبادة فتفطن. وجملة القول في الباب أن الدعاء معناه الحقيقي طلب جلب النفع ودفع الضر، وأما كونه بمعنى العبادة فممنوع، ولو سلم فهو معنى مجازي ولا يصار إلى المجاز مع إمكان الحقيقة1.

_ 1 أكثر ما أورده من النقول مباحث اصطلاحية لا حاجة إليها، والتحقيق أن الدعاء في أصل اللغة النداء الطلب، وهو قسمان: عادي، وعبادي. فما وجهه الداعي إلى مثله من طلب يقدر المدعو على إجابته بمقتضى الأسباب العادية فهو دعاء عادي، وما وجهه إلى من يعتقد أن له قدرة أو سلطاناً غيبياً فوق الأسباب العادية فهو العبادة، سواء أكان المدعو يستجيب له بقدرته الذاتية أم بتأثيره وشفاعته، ووساطته عند ذي القدرة الذاتية. والأول دعاء الموحدين لا يتوجهون فيه إلا إلى ربهم وحده، والثاني دعاء المشركين الذين يتوجهون إلى اثنين فأكثر واحد قادر بذاته وغيره قادر بشفاعته ووساطته عند القادر بذاته وبهذا كان يصرح مشركو العرب كما حكى الله عنهم ومن العجيب أن يخفى هذا الشرك في أعلى أنواع العبادة والفرد الكامل منها على أدعياء العلم وهو الدعاء الديني منذ قرون مع دلالة الآيات الكثيرة عليه دلالة قطعية ومثل الدعاء غيره من الأقوال والأفعال التي يختلف حكمها وتسميتها باختلاف من توجه إليه كالاستعانة والاستغاثة والسجود والطواف، فإن توجهت إلى صاحب القدرة والسلطان الغيبي بالذات أو الوساطة كانت عبادة، وإلا كانت عادة، وكبته رشيد رضا.

قوله: وأما جعلهم التوحيد نوعين: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، فباطل أيضاً. فإن توحيد الربوبية هو توحيد الألوهية، ألا ترى قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} . ولم يقل ألست بإلهكم، فاكتفى منهم بتوحيد الربوبية ومن المعلوم أن من أقر بالربوبية فقد أقر له بالألوهية، إذ ليس الرب غير الإله بل هو الإله بعينه. أقول: لا مرية في أننا مأمورون باعتقاد أن الله وحده هو ربنا ليس لنا رب غيره، وباعتقاد أن الله وحده هو معبودنا ليس لنا معبود غيره وأن لا نعبد إلا إياه، والأمر الأول هو الذي يقال له توحيد الربوبية، والأمر الثاني هو الذي يقال له توحيد الألوهية، والإشراك في الأول يسمى الإشراك في الربوبية والإشراك في الثاني يسمى الإشراك في الألوهية، والآيات الدالة على الأمر الأول كثيرة: منها قوله تعالى في سورة البقرة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ المُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} . ومنها قوله تعالى في آل عمران: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} . ومنها قوله تعالى فيه: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} ، ومنها قوله تعالى فيه: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} ، ومنها قوله تعالى في سورة النساء: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} الآية، ومنها قوله تعالى في المائدة: {وَقَالَ المَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} ، ومنها قوله تعالى في الأنعام: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} ، ومنها قوله تعالى فيها: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ –إلى قوله تعالى- إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا

مِنَ المُشْرِكِينَ} ، ومنها قوله تعالى فيها: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} ، ومنها قوله تعالى فيها: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَباًّ وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} ، ومنها قوله تعالى في الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ -إلى قوله تعالى- تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ} ، ومنها قوله تعالى فيها: {ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ} ، ومنها قوله تعالى في التوبة: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} ، ومنها قوله تعالى في سورة يونس: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ -إلى قوله- ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} ، ومنها قوله تعالى فيها: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ، فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} ، ومنها قوله تعالى في سورة يوسف: {أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ} ، ومنها قوله تعالى في سورة الرعد: (قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} ، ومنها قوله تعالى فيها: {قُلْ هُوَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} ، ومنها قوله تعالى في الكهف: {لَكِنَّاْ هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} ومنها قوله تعالى فيها: {وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} ومنها قوله تعالى في مريم: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً. رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} ومنها قوله تعالى في سورة طه: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} ومنها قوله في سورة الأنبياء: {قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} ومنها قوله تعالى في الحج: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} ومنها قوله تعالى في الصافات: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ، رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ المَشَارِقِ} ومنها قوله تعالى في ص: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ، رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ

وَمَا بَيْنَهُمَا العَزِيزُ الغَفَّارُ} ومنها قوله تعالى في الزمر غب بيان شيء من صفات الله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} ومنها قوله تعالى في المؤمن: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ} ومنها قوله تعالى في المؤمن بعد ذكر بعض صفات الله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} ومنا قوله تعالى فيها: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ. هُوَ الحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ البَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ العَالَمِينَ} ومنها قول تعالى في حم السجدة: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العَالَمِينَ} ومنها قوله تعالى في الشورى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} . وأما الآيات الدالة على الأمر الثاني فأكثر من أن تحصى، منها بعض ما ذكر لإثبات الأمر الأول من الآيات، ومنها ما أتلو عليك الآن، فنقول: منها قوله تعالى: في الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وقوله تعالى في البقرة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} وقوله تعالى فيها: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ} وقوله تعالى فيها: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} وقوله تعالى فيها: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} . وقوله تعالى فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} . وقوله تعالى فيها: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} . وقوله تعالى في آل عمران: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} . وقوله تعالى في النساء: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} . وقوله تعالى في المائدة: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ

مِنْ أَنْصَارٍ} . وقوله تعالى فيها: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} . وقوله تعالى فيها: {أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} . وقوله تعالى في الأنعام: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} . وقوله تعالى في الأعراف: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ –إلى قوله– فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} . وقوله تعالى فيه: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} . وقوله تعالى فيه: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} . وقوله تعالى فيه: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} . وقوله تعالى فيه: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} . وقوله تعالى في التوبة: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . ولا أظنك شاكاً في أن مفهوم الرب ومفهوم الإله متغايران، وإن كان مصداقهما في نفس الأمر وفي اعتقاد المسلمين المخلصين واحداً، وذلك يقتضي تغاير مفهومي التوحيدين، فيمكن أن يعتقد أحد من الضالين توحيد الرب ولا يعتقد توحيد الإله، وأن يشرك واحداً من المبطلين في الألوهية ولا يشرك في الربوبية، وإن كان هذا باطلاً في نفس الأمر، ألا ترى أن مصداق الرازق ومالك السمع والأبصار، والمحيي والمميت، ومدبر الأمر، ورب السموات السبع ورب العرش الكريم، ومن بيده ملكوت كل شيء، والخالق ومسخر الشمس والقمر ومنزل الماء من السماء – ومصداق الإله واحد؟ ومع ذلك كان مشركو العرب يقرون بتوحيد الرازق ومالك السمع والأبصار وغيرهما، ويشركون في الألوهية والعبادة، والدليل عليه ما قال تعالى في سورة يونس: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ. فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} وقوله تعالى في سورة المؤمنين: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ. قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ

تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} . وقوله تعالى في سورة العنكبوت: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} . وقوله تعالى فيها أيضاً: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} . وقوله تعالى في سورة لقمان: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} . وقوله تعالى في سورة الزمر: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} . وقوله تعالى في سورة الزخرف: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} . وقوله تعالى فيها أيضاً: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} . فكذلك عباد القبور الذين لم يبق فيهم من الإسلام إلا اسمه يقرون بتوحيد الرازق والمحيي والمميت والخالق والمؤثر والمدبر والرب1، ومع ذلك يدعون غير الله من الأموات خوفاً وطمعاً، ويذبحون لهم وينذرون لم ويطوفون بهم ويحلقون لهم، ويخرجون من أموالهم جزءاً لهم، وكون مصداق الرب عين مصداق الإله في نفس الأمر وعند المسلمين المخلصين لا يقتضي اتحاد مفهوم توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، ولا اتحاد مصداق الرب والإله عند المشركين من الأمم الماضية وهذه الأمة. أما نعقل أن لفظ توحيد الربوبية، ولفظ توحيد الألوهية كلاهما مركبان إضافيان والمضاف في كليهما كلي؟ وهذا غني عن البيان، وكذلك المضاف إليه كليهما، فإن الربوبية والألوهية معنيان مصدريان منتزعان من الرب والإله وهما كليان.

_ 1 الأمر الواقع أنهم يقرون بهذه الألفاظ كلفظ الإله، ولكنهم يعتقدون أن للأولياء تأثيراً غيبياً في معانيها، إما بالذات وإما بالشفاعة أو الكرامة عند الله، ولذلك يدعونهم وحدهم أو مع الله في طلب الرزق وتدبير الأمور، فدعاؤهم شرك في الألوهية، وعقيدتهم شرك بالربوبية، بل منهم من يسند إليهم التصرف في الكون كله، ففي بعض كتب الرفاعية: إن أحمد الرفاعي كان يفقر ويغني، ويسعد ويشقي، ويميت ويحيى. وفيها: إن السموات السبع في رجله كالخلخال. وكتبه محمد رشيد رضا.

أما الرب فلأن معناه المالك والسيد والمتصرف للإصلاح والمصلح والمدبر والمربي والجابر والقائم والمعبود، وكل واحد مما ذكر معنى كلي. وأما الإله فلأن معناه المعبود بحق أو باطل، وهو معىي كلي فالمنتزع منهما أيضاً يكون معناً كلياً، فتوحيد الربوبية اعتقاد أن الرب واحد سواء كان ذلك الرب عين الإله أو غيره، وتوحيد الألوهية اعتقاد أن الإله واحد سواء كان ذلك الإله عين الرب أو غيره. وإذا تقرر هذا فنقول: يمكن أن يوجد في مادة توحيد الربوبية ولا يوجد في توحيد الألوهية، كمن يعتقد أن الرب واحد ولا يعتقد أن الإله واحد بل يعبد آلهة كثيرة، ويمكن أن يوجد في مادة توحيد الألوهية ولا يوجد توحيد الربوبية، كمن يعتقد أن المستحق للعبادة واحد، ولا يعتقد وحدانية الرب، بل يقول إن الأرباب كثيرة متفرقة، ويمكن أن يجتمعا في مادة واحدة كمن يعتقد أن الرب والإله واحد، فثبت أن مفهوم توحيد الربوبية مغاير لمفهوم توحيد الألوهية. نعم توحيد الربوبية من حيث أن الرب مصداقه إنما هو الله تعالى لا غير يستلزم توحيد الألوهية من حيث أن الإله مصداقه إنما هو الله تعالى لا غير، لكن هاتين الحيثيتين زائدتان على نفس مفهومي التوحيدين ثابتتان بالبرهان العقلي والنقلي. على أنا لو قطعنا النظر عن بحث تغاير مفهومي التوحيدين فمطلوبنا حاصل أيضاً، فإن توحيد الألوهية لا يتأتى إنكاره من أحد من المسلمين، وهو كاف لإثبات إشراك عباد القبور، فإنهم إذا دعوا غير الله رغبة ورهبة وخوفاً وطمعاً، وطلبوا منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، ونحروا لهم ونذروا لهم وطافوا لهم وحلقوا لهم، وأخرجوا من أموالهم جزءاً لهم، وصنعوا غير ذلك من العبادات، فقد عبدوا غير الله واتخذوهم آلهة من دون الله. فإن قلت: إن عباد القبور لا يعتقدون أن الأموات من الأنبياء والصالحين أرباب وآلهة أصلاً، ولا يطلقون لفظ الأرباب والآلهة أبداً، فكيف يكونون مشركين؟ قلت: في هذا ذهول عن معنى الإشراك في الألوهية والعبادة، فإن الإشراك في العبادة

–عبادة غير الله– من الدعاء والذبح والنذر والطواف وغيرها سواء يعتقده رباً أو إلهاً أم لا؟ وسواء يطلق لفظ الرب والإله عليه أم لا؟ تدل عليه الآيات الكثيرة منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ –إلى قوله– فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} . وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} . وقوله تعالى: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} وقوله تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . وقوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وقوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} . وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ. بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} . وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} . وأما استدلال المؤلف1 على اتحاد توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية بقوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} . ولم يقل ألست بإلهكم بأنه تعالى اكتفى منهم بتوحيد الربوبية فليس بشيء، فإن غاية ما يثبت من الآية أن الله تعالى لم يذكر في هذه الآية توحيد الألوهية، وهذا لا دلالة له بشيء من الدلالات على اتحادهما، فرب حكم يذكر في آية دون أخرى، وتوحيد الألوهية وإن لم يذكر في هذه الآية فهو مذكور في الآيات التي تلونا آنفاً، وتوجيه الاكتفاء بتوحيد الربوبية ليس منحصراً في أنهما لما كانا متحدين اكتفى بذكر أحدهما، بل هناك احتمالات أخر:

_ 1 أي دحلان.

(الأول) أن الإقرار بتوحيد الربوبية مع لحاظ قضية بديهية وهي أن غير الرب لا يستحق للعبادة يقتضي الإقرار بتوحيد الألوهية عند من له عقل سليم وفهم مستقيم، فيكون الإقرار المذكور حجة عليهم كما احتج الله تعالى على المشركين بتوحيد الرازق، ومالك السمع والأبصار، والمحي والمميت، ومدبر الأمر، ومن له الأرض ومن فيها، ورب السموات السبع ورب العرش العظيم، ومن بيده ملكوت كل شيء، ومن خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر، ومن نزل من السماء ماء، ومن خلقهم –في الآيات التي تليت فيما تقدم- على وحدانية الألوهية. قال الحافظ ابن كثير تحت قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} الآية: يحتج تعالى على المشركين باعترافهم بوحدانية ربوبيته على وحدانية ألوهيته، وقال: {فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} أي أفلا تخافون منه أن تعبدوا معه غيره بآرائكم وجهلكم؟ وقوله: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ} الآية، أي فهذا الذي اعترفتم بأنه فاعل ذلك كله هو ربكم وإلهكم الحق الذي يستحق أن يفرد بالعبادة، فماذا بعد الحق إلا الضلال، أي فكل معبود سواه باطل لا إله إلا هو واحد لا شريك له: {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} ؟ أي فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة ما سواه وأنتم تعلمون أنه الرب الذي خلق كل شيء والمتصرف في كل شيء؟ اهـ. وقال تحت قوله تعالى: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} . الآية، يقرر تعالى وحدانيته واستقلاله بالخلق والتصرف والملك ليرشد إلى أنه الله الذي لا إله إلا هو، ولا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له، ولهذا قال لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين العابدين معه غيره المعترفين له بالربوبية: أنه لا شريك له فيها، ومع هذا فقد أشركوا معه في الألوهية فعبدوا غيره معه، مع اعترافهم أن الذين عبدوهم لا يخلقون شيئاً ولا يملكون شيئاً ولا يستبدون بشيء، بل اعتقدوا أنهم يقربونهم إليه زلفى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} فقال: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا} أي من مالكها الذي خلقها ومن فيها من الحيوانات والنباتات والثمرات وسائر صنوف المخلوقات: {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} أي فيعترفون لك بأن ذلك لله وحده لا شريك له، فإذا كان ذلك: {قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أنه لا تنبغي

العبادة إلا للخالق الرازق لا لغيره: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ} ؟ أي من هو خالق العالم العلوي بما فيه من الكواكب النيرات، والملائكة الخاضعين له في سائر الأقطار والجهات، ومن هو رب العرش العظيم؟ يعني الذي هو سقف المخلوقات. قال وقوله: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} أي إذا كنتم تعترفون بأنه رب السموات ورب العرش العظيم أفلا تخافون عقابه وتحذرون عذابه في عبادتكم معه غيره وإشراككم به؟ قال: وقوله: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} أي سيعترفون أن السيد العظيم الذي يجير ولا يجار عليه هو الله تعالى وحده لا شريك له قل: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أي فكيف تذهب عقولكم في عبادتكم معه غيره مع اعترافكم وعلمكم بذلك. اهـ. وقال تحت قوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ. أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} استفهام إنكار على المشركين في عبادتهم مع الله آلهة أخرى، ثم شرع يبين أنه المتفرد بالخلق والرزق والتدبير دون غيره، أي لم تكونوا تقدرون على إنبات أشجارها، وإنما يقدر على ذلك الخالق والرازق المستقل بذلك، المنفرد به دون ما سواه من الأصنام والأنداد كما يعترف به هؤلاء المشركين، كما قال الله تعالى في الآية الأخرى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} أي هم معترفون بأنه الفاعل لجميع ذلك وحده لا شريك له، ثم هم يعبدون معه غيره مما يعترفون أنه لا يخلق ولا يرزق، وإنما يستحق أن يفرد بالعبادة من هو المنفرد بالخلق والرزق، ولهذا قال تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} يعبد؟ وقد تبين لكم ولك ذي لب مما يعترفون به أيضاً أنه الخالق الرازق. اهـ. وقال تحت قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} ؟ الآية: يقول تعالى مقرراً أنه لا إله إلا هو، لأن المشركين الذين يعبدون معه غيره معترفون بأنه المستقل بخلق السموات

والأرض والشمس والقمر وتسخير الليل والنهار، وأنه الخالق الرازق لعباده، ومقدر آجالهم واختلاف أرزاقهم، ففاوت بينهم فمنهم الغني والفقير، وهو العليم بما يصلح كلا منهم، ومن يستحق الغنى ممن يستحق الفقر، فذكر أنه المستقل بخلق الأشياء، المتفرد بتدبيرها، فإذا كان الأمر كذلك فلم يعبد غيره؟ ولم يتوكل على غيره؟ فكما أنه الواحد في ملكه فليكن الواحد في عبادته. وكثيراً ما يقرر تعالى مقام الإلهية بالاعتراف بتوحيد الربوبية، وقد كان المشركون يعترفون بذلك كما كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك. اهـ. وقال تحت قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} الآية: يقول تعالى مخبراً عن هؤلاء المشركين به أنهم يعرفون أن الله خالق السموات والأرض وحده لا شريك له، ومع هذا يعبدون معه شركاء يعترفون أنها خلق له وملك له، ولهذا قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} أي إذ قامت عليكم الحجة باعترافكم: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} اهـ. وقال تحت قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} : ينبه تعالى عباده ويرشدهم إلى الاستدلال على توحيده في إفراد العبادة له، كما أنه المستقل بالخلق والرزق فكذلك فليفرد بالعبادة، ولا يشرك به غيره من الأصنام والأنداد والأوثان، ولهذا قال تعالى: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أي فكيف تؤفكون بعد هذا البيان، ووضوح هذا البرهان؟ وأنتم بعد هذا تعبدون الأنداد والأوثان. اهـ. وقال تحت قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} : أي هذا الذي خلق السموات والأرض وما بينهما، وخلقكم وخلق آباءكم، وهو الرب له الملك والتصرف في جميع ذلك: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أي الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له: {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} ؟ أي فكيف تعبدون معه غيره؟ أين يذهب بعقولكم؟ اهـ.

وقال تحت قوله تعالى في الزمر: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} : يعني المشركين، كانوا يعترفون بأن الله عز وجل هو الخالق للأشياء كلها ومع هذا يعبدون معه غيره ممن لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً. اهـ. وقال تحت قوله تعالى في الزخرف: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} يقول تعالى: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره: من خلق السموات والأرض؟ {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} أي ليعترفن بأن الخالق لذلك هو الله وحده لا شريك له، وهم مع هذا يعبدون معه غيره من الأصنام والأنداد. اهـ. وقال تحت قوله تعالى فيه أيضاً: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} : أي ولئن سألت هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره: من خلقهم؟ {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ، أي هم يعترفون أنه الخالق للأشياء جميعها وحده لا شريك له في ذلك، ومع هذا يعبدون معه غيره ممن لا يملك شيئاً ولا يقدر على شيء، فهم في ذلك في غاية الجهل والسفاهة وسخافة العقل، ولهذا قال تعالى: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} ؟ اهـ. و (الاحتمال الثاني) : أن في الآية اختصاراً، والمقصود: ألست بربكم وإلهكم؟ يدل عليه أثر ابن عباس: إن الله مسح صلب آدم فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وتكفل لهم بالأرزاق الحديث، وأثر أبي بن كعب في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية، قال: فجمعهم له يومئذ جميعاً ما هو كائن منه إلى يوم القيامة فجعلهم في صورهم ثم استنطقهم فتكلموا، وأخذ عليهم العهد والميثاق، وأشهدهم على أنفسهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} الآية، قال: فإني أشهد عليكم السموات السبع والأرضين السبع وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم بهذا، اعلموا أنه لا إله غيري ولا رب غيري ولا تشركوا بي شيئاً، وإني لأرسل إليكم رسلي لينذروكم عهدي وميثاقي وأنزل عليكم كتبي، قالوا نشهد أنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك ولا إله لنا غيرك، فأقروا يومئذ بالطاعة، ذكر هذين الأثرين الحافظ بن كثير في تفسيره.

وقال أيضاً فيه: يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه. اهـ. و (الاحتمال الثالث) : أن المراد بالرب المعبود، قال القرطبي: والرب المعبود، وعن عكرمة في تفسير قوله تعالى: {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} قال: يسجد بعضنا لبعض، كذا قال الحافظ ابن كثير في تفسيره وغيره، وقال الله تعالى في سورة التوبة: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} فالمراد بالأرباب في تلك الآية هم المعبودون، بدليل قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} وكذلك فهم عدي بن حاتم رضي الله عنه وقرره النبي صلى الله عليه وسلم عليه، روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير من طرق عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فر إلى الشام وكان قد تنصر في الجاهلية، فأسرت أخته وجماعة من قومه، ثم من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم عدي المدينة وكان رئيساً في قومه طيء: وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم، فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عدي صليب من فضة وهو يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال فقلت: إنهم لم يعبدوهم، فقال: بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم" الحديث. وقوله1: ومن المعلوم أن من أقر لله بالربوبية فقد أقر له بالألوهية إذ ليس الرب غير الإله، بل هو الإله بعينه. فيه أنه إن أراد أن مفهوم الرب عين مفهوم الإله فقد تبين بطلانه آنفاً فيما سلف، وإن أراد أن مصداقه عين مصداق الإله فهذا حق بحسب نفس الأمر واعتقاد

_ 1 أي دحلان.

المسلمين المخلصين، ولكن المشركين من الأمم الماضية وهذه الأمة لا يسلمون عينية مصداقهما، وإذا كان الأمر كذلك فأمكن منهم أن يقروا لله بتوحيد الربوبية ولا يقروا له بتوحيد الألوهية1 وقد وقع كذلك، دل عليه قوله تعالى في المؤمنون: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} ففي هذه الآية أن المشركين كانوا معترفين بأن الله هو رب السموات السبع ورب العرش العظيم ومع ذلك كانوا يعبدون الأصنام والأوثان. وهاهنا بحثان: (الأول) : أن الآية لا يثبت منها إلا ثبوت الربوبية لله تعالى، لا أن غيره تعالى ليس رباً، إذ ليس هناك أداة حصر. و (الثاني) : أن الثابت منها إنما هو ربوبيته تعالى للسموات السبع والعرش العظيم فحسب لا ربوبيته لجميع المخلوقات، فيحتمل أن يكون رب غير السموات السبع والعرش العظيم عندهم غير الله تعالى. والجواب عن الأول: أن عدم ذكر المشركين غير الله تعالى في جواب السؤال برهان واضح على انحصار الربوبية، فإن السكوت في معرض البيان بيان، سيما فيما يتم به عليهم الحجة، فلو كان غير الله عندهم رباً لذكروه في الجواب البتة. 2 والجواب عن الثاني: أن المقصود أن رب جميع المخلوقات هو الله تعالى، وإنما خصوا السموات السبع والعرش العظيم بالذكر لأنها من أكبر الأجرام وأعظمها وأشدها خلقاً، يدل عليه أن معنى الرب هو المالك المتصرف، وكون الله تعالى وحده مالكاً متصرفاً لجميع المخلوقات ثابت بإقرار المشركين، قال الله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم

_ 1 الصواب الواقع أنهم يقرون له تعالى وحده باسم الرب واسم الإله، ويشركون أولياءه معه في معناهما جهلاً منهم بمدلول اللغة لأنها ليست لغتهم بالسليقة، بخلاف عرب الجاهلية، فالرب هو المدبر لكل أمر والمتصرف فيه بكل شيء غير مقيد بالأسباب، وهؤلاء يشركون معه غيره في هذا التصرف الخاص بالربوبية ولكنهم يسمون أولياءهم متصرفين ومدبرين ولا يسمونهم أرباباً كما تقدم قريباً. وكتبه محمد رشيد رضا. 2 أي حتماً، والبتة أظنها تستعمل في النفي فقط.

مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ، فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ} وقال الله تعالى: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} وقال تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} وقال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} وقال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} . فإن قلت: هناك آيات دالة على أن المشركين لم يكونوا مقرين بتوحيد الربوبية منها قوله تعالى: {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} فهذا دال على أن المشركين من أهل الكتاب كانوا هم يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، ومنها قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ} إلى قوله تعالى: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} فإن الخليل عليه السلام قال هذا في الثلاث الآيات مستفهماً لهم مبكتاً متكلماً على خطئهم حيث يسمون الكواكب أرباباً، ومنها قوله تعالى: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَباًّ وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} ؟ وهذا نص على أن المشركين كانوا يبغون غير الله من الأصنام والأوثان رباً، ومنها قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} ومنها قوله تعالى: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ} فإن يوسف عليه السلام سماهم أرباباً لأنهم كانوا يسمونهم كذلك، ومنها قوله تعالى: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} فهذا يدل على أن فرعون كان يثبت الربوبية لنفسه ولغيره من الأوثان. قلت جوابه بوجوه: (الأول) : أنه ليس في شيء من الآيات المذكورة أن مشركاً قال في حق غير الله تعالى أنه رب1 غير أن فرعون قال أنا ربكم الأعلى، وهو لم يكن مشركاً بالله

_ 1 هذا النفي العام غير مسلم، فإن بعض البشر اتخذوا أرباباً من دون الله ومن اتخذ رباً سماه رباً إن كانت هذه التسمية لغة قومه، وقريش ما كانت تتخذ آلهتها أرباباً، والنصارى يسمون المسيح ربهم ولا يطلقون اسم الرب على من عبدوهم من دونه وإن اتخذوهم أرباباً وآلهة، وكذلك من اتبع سننهم من مبتدعة المسلمين كما تقدم، وراجع تفسير: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً} الآية في الجزء العاشر من تفسير المنار، وقوم إبراهيم اتخذوا الكواكب أرباباً والأصنام آلهة، فراجع قصته في سورة الأنعام وتفسيرها في الجزء السابع من تفسير المنار، والمصنف ومن نقل عنهم ما كانوا يعرفون تاريخ الكلدانين وأمثالهم من القدماء. وكتبه محمد رشيد رضا.

بل دهرياً منكراً لله تعالى حيث قال: وما رب العالمين؟ إنما هو في بعضها اتخاذ الأرباب، وهذا ليس نصاً على أنهم مقرون بربوبيتهم، بل يحتمل أن يكون اتخذهم الأرباب بمعنى صرف شيء من العبادة إليهم، أو بمعنى اتباع ما شرعوا لهم من تحريم الحلال وتحليل الحرام، لا أنهم كانوا يطلقون لفظ الرب عليهم. قال العلامة الإمام حسن بن خالد (رحمه الله) في (منفعة قوت القلوب في إخلاص توحيد علام الغيوب) : ومن هنا تعلم أن من صرف شيئاً من العبادة إلى غير الله فقد اتخذه إلهاً رباً، أما كونه اتخذه إلهاً فقد صار له مألوهاً والمألوه المعبود، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه وقد سأله بعض حديثي الإسلام منهم أن يجعل لهم ذات أنواط فقال: "الله أكبر، هذا كما قال بنو إسرائيل اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة لتركبن سنن من كان قبلكم" أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وصححه النسائي عن أبي واقد الليثي، مع أنهم لا يعبدون الشجرة ولا يسألونها، بل ينوطون بها أسلحتهم ومتاعهم، فجعل اتخاذهم لها لذلك اتخاذ آلهة، فما الظن بقصد مخلوق معظم لدعائه والهتف به عند الشدائد، فأي نسبة للفتنة بشجرة إلى الفتنة بمن توحي إليهم الشياطين؟ وأما كونه قد اتخذه رباً فلتشبيهه لله في الربوبية، وقد قال الله تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً} . وسبب نزول هذه الآية ما ذكروا أن اليهود والنصارى قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أتريد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "معاذ الله أن يعبد غير الله، أو نأمر بعبادة غير الله، ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني" فأنزل الله تعالى في

ذلك: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ، وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} فالرسول نفى أن يعبد غير الله أو يأمر بعبادة غير الله في جوابه عليهم، والقرآن نزل بنفي أمره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً، لأن الربوبية من لوازم الإلهية، فنفي أحدهما نفي للآخر، وإثبات أحدهما إثبات للآخر، لأن المعبود لا بد أن يكون مالكاً للنفع والضر، ومن يملك النفع والضر فهو المعبود، فمن أثبت العبادة لأحد فقد أثبت له الربوبية، ومن أثبت الربوبية لأحد فقد أوجب له العبادة. اهـ. وقال أيضاً فيه: إذا علمت أن معنى الرب المتصرف المالك، وأن معنى الإله المعبود، وأن معنى الآلاهة والألوهية العبادة والمعبودية، وأن العبادة هي أقصى مراتب الخضوع حباً وذلاً، علمت أن من قصد غير الله بشيء من العبادة أو أثبت له بعض خواص الرب سبحانه وتعالى فقد اتخذه رباً وإلهاً، سواء أطلق عليه اسم الإله أم لم يطلقه، فإن الإله المعبود، وغلب على المعبود بحق وهو الله تعالى. اهـ. وفي بعضا قول الخليل عليه السلام هذا ربي، وهذا ليس نصاً على أن قومه عليه السلام يسمون الكواكب أرباباً، إذ في الآية أقوال: منها: أنه كان هذا منه عليه السلام عند قصور النظر، لأنه في زمن الطفولية، وقيل كان بعد بلوغ إبراهيم عليه السلام، ثم اختلف في تأويل هذه الآية: فقيل أراد قيام الحجة على قومه كالحاكي لما هو عندهم وما يعتقدونه لأجل إلزامهم، وقيل معناه أهذا ربي؟ أنكر أن يكون مثل هذا رباً، وقيل المعنى وأنتم تقولون هذا ربي فأضمر القول، وقيل المعنى على حذف مضاف أي هذا دليل ربي. قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: وقد اختلف المفسرون في هذا المقام هل هو مقام نظر أو مناظرة؟ فروى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ما يقتضي أنه مقام نظر، واختاره ابن جرير مستدلاً عليه بقوله: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي} الآية، وقال محمد بن إسحاق: قال ذلك حين خرج من السرب الذي ولدته فيه أمه حين

تخوفت عليه من نمرود بن كنعان لما كان قد أخبر بوجود مولود يكون ذهاب ملكه على يديه فأمر بقتل الغلمان عامئذ، فلما حملت أم إبراهيم به وحان وضعها ذهبت به إلى سرب ظاهر البلد فولدت فيه إبراهيم وتركته هناك، وذكر أشياء من خوارق العادات كما ذكره غيره من المفسرين من السلف والخلف، والحق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان في هذا المقام مناظراً لقومه مبيناً لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام، فبين في المقام الأول مع أبيه خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية التي هي على صورة الملائكة السماوية ليشفعوا لهم إلى الخالق العظيم الذي هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه، وإنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته ليشفعوا لهم إلى الخالق عنده في الرزق وغير ذلك مما يحتاجون إليه، وبين في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل وهي الكواكب السيارة السبعة المتحيرة. اهـ. قلت: لا يخفى عليك أن عبارة الحافظ دالة على أن مقصود إبراهيم عليه السلام بهذا القول بيان بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل، وهذا لا يتوقف على كون قومه قائلين بربوبية الهياكل، بل يستقيم هذا البيان على تقدير كون قومه جاحدين لربوبيتها أيضاً بأن يقال: إن هذه الهياكل إذ لا تصلح للربوبية فكيف تصلح للإلهية؟ وفي بعضها أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} ففيه بغى غير الله رباً وهو مثل اتخاذ الرب. وقد عرفت فيما تقدم أن اتخاذ شيء رباً ليس نصاً على إقرار ربوبيته لاحتمال أن يكون اتخاذ الرب بمعنى صرف شيء من العبادة إليه، أو بمعنى اتباع ما شرعوا لهم، يدل عليه ما في التفاسير من أنه جواب على المشركين لما دعوه إلى عبادة غيره سبحانه، قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: يقول تعالى قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله في إخلاص العبادة والتوكل عليه: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً} أي أطلب رباً سواه وهو رب كل شيء يربيني ويحفظني ويكلؤني ويدبر أمري، أي لا أتوكل إلا عليه، ولا أنيب إلا إليه لأنه رب كل شيء ومليكه، وله الخلق والأمر، ففي هذه الآية الأمر بإخلاص العبادة والتوكل، كما تضمنت الآية التي قبلها إخلاص العبادة له لا شريك له. اهـ.

وفي بعضها أن يوسف عليه السلام قال لصاحبي السجن: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} ؟ وهذا ليس فيه تصريح أنهما كانا يطلقان لفظ الأرباب على الأصنام حتى يلزم إنكار توحيد الربوبية، بل يحتمل أن يكون المقصود بيان بطلان ما كانوا عليه من عبادة الأصنام بأن القول بالأرباب المتفرقة باطل قطعاً لا يتأتى إنكاره من أحد من أهل العقل، وما لا يصلح للربوبية لا يصلح للعبادة، دل عليه قوله تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} . قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: ثم إن يوسف عليه السلام أقبل على الفتيين بالمخاطبة والدعاء لهما إلى عبادة الله وحده لا شريك له وخلع ما سواه من الأوثان التي يعبدها قومهما فقال: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} ؟ الذي ذل كل شيء لعز جلاله وعظمة سلطانه. اهـ. وجملة القول أنه ليس في آية من الآيات أن واحداً من المشركين قال إن غير الله رب حتى يلزم إنكار توحيد الربوبية. و (الوجه الثاني) : أنه يحتمل أن يكون المراد بالرب في الآيات المذكورة المعبود، وقد عرفت فيما تقدم أن الرب ربما يجيء بمعنى المعبود. و (الثالث) : أن الكلام في مشركي العرب، والآيات المذكورة أكثرها في حق غيرهم من مشركي أهل الكتاب وقوم إبراهيم وقوم يوسف عليهما السلام1 فلا يصح بتلك الآيات الاستدلال على أن مشركي العرب لم يكونوا مقرين بتوحيد الربوبية، ولعلك قد تفطنت من هاهنا فساد قول العلامة محمد بن إسماعيل الأمير حيث قال: "فإن قلت: أهل الجاهلية تقول في أصنامهما أنهم يقربونهم إلى الله زلفى كما تقوله القبورويون: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} كما تقوله القبوريون قلت: لا سواء. فإن القبوريين مثبتون التوحيد لله قائلون إنه لا إله إلا هو، ولو ضربت

_ 1 هذا أوجه الوجوه الثلاثة وأصحها في المسألة. وكبته محمد رشيد رضا.

عنقه على أن يقول إن الولي إله مع الله لما قالها، بل عنده اعتقاد جهل أن الولي لما أطاع الله كان له بطاعته عنده تعالى جاه به تقبل شفاعته ويرجى نفعه، لا أنه إله مع الله، بخلاف الوثني فإنه امتنع عن قول لا إله إلا الله حتى ضربت عنقه زاعماً أن وثنه إله مع الله ويسميه رباً وإلهاً، قال يوسف عليه السلام: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} سماهم أرباباً لأنهم كانوا يسمونهم بذلك كما قال الخليل: {هَذَا رَبِّي} في الثلاث الآيات، مستفهماً لهم مبكتاً متكلماً على خطئهم حيث يسمون الملائكة أرباباً وقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} وقال قوم إبراهيم: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا} ، {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبرَاهِيمْ} ؟ وقال إبراهيم: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} ؟ ومن هنا يعلم أن الكفار غير مقرين بتوحيد الألوهية والربوبية كما توهمه من توهم من قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} ، {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ -إلى قوله- فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} فهذا إقرار بتوحيد الخالقية والرازقية ونحوهما، لا إنه إقرار بتوحيد الربوبية، لأنهم يجعلون أوثانهم أرباباً كما عرفت. اهـ. وجه الفساد أن الإقرار بتوحيد الخالقية والرازقية ونحوهما إقرار بتوحيد الربوبية، لما عرفت فيما تقدم من أن معنى الرب هو المالك المتصرف، وكون الله تعالى وحده خالقاً ورازقاً ونحوهما يستلزم كونه تعالى وحده مالكاً متصرفاً في جميع المخلوقات، على أن قوله تعالى في المؤمنون: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} نص على الإقرار بتوحيد الربوبية واضح، وقد علمت الجواب عما فيه من البحثين فتذكر، وأما قوله: "يجعلون أوثانهم أرباباً" فقد عرفت الجواب عنه فيما سلف بما لا يزيد عليه1.

_ 1 وقد علمت مما سلف أيضاً أن الفرق بين المسلم والجاهلي في إطلاق اسم العبادة والإله أن التسمية عند الأول اصطلاحية وعند الثاني لغوية، فكل تعظيم ودعاء فيما هو فوق الأسباب يسمى عنده عبادة، ويسمى المعظم المطلوب منه ذلك معبوداً وإلهاً، لأن هذا مقتضى لغته، والمسلم ليس كذلك، فهو لا يعرف لهذه الأسماء إلا المعنى الشرعي وإن جهل أصله اللغوي، وكتبه محمد رشيد رضا.

قوله: ومما يعتقده هؤلاء الملحدة المكفرة للمسلمين أن قصد الصالحين والاعتقاد فيهم والتبرك بهم شرك أكبر. أقول: جوابه قراءة قوله تعالى: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} ، لم يقل أحد من الموحدين المتبعين للكتاب والسنة قط إن قصد الصالحين والاعتقاد فيهم والتبرك بهم شرك، سينال إن شاء الله تعالى هذا المفتري غضب من ربه وذلة في الحياة الدنيا، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا العِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُفْتَرِينَ} إنما منعوا الناس أن يشدوا الرحال لزيارة قبور الصالحين وأين هذا من ذاك؟ ولم يقولوا فيه أيضاً إنه شرك أكبر، إنما قالوا إنه بدعة محرمة. قوله: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر صاحبيه عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما أن يقصدا أويس القرني ويسألاه الدعاء والاستغفار كما في صحيح مسلم. أقول: ليس في صحيح مسلم في فضل أويس رضي الله عنه إلا حديث عمر رضي الله عنه وألفاظه مختلفة، وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: "إن رجلاً يأتيكم من اليمن يقال له أويس، لا يدع باليمين غير أم له، قد كان به بياض، فدعا الله فأذهبه عنه إلا موضع الدينار أو الدرهم، فمن لقيه منكم فليستغفر لكم"، وفي لفظ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن خير التابعين رجل يقال له أويس وله والدة، وكان به بياض فمروه فليستغفر لكم"، وفي لفظ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل" فاستغفر لي، فاستغفر له. اهـ. وليس فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر صاحبيه عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب أن يقصداً أويساً، ولو كان هذا اللفظ واقعاً في حديث لما كان فيه حجة للخصم أيضاً، فإن هذا اللفظ لا يقتضي جواز شد الرحال لزيارة الأحياء فضلاً عن جوازه لزيارة الأموات الذي كلامنا فيه، وما ورد في صحيح مسلم ليس فيه إلا أنه إن جاءنا

أحد من أهل الخير والصلاح فمن لقيه منا فطلب الدعاء له منه جائز، وهذا لا ينكره أحد. قوله: وأما التبرك بآثار الصالحين –إلى قوله- ليس فيه شيء من الإشراك ولا الحرمة، وإنما هؤلاء القوم يلبسون على المسلمين توصلاً إلى أغراضهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. أقول: هذه إطالة لا طائل تحتها، فإنه ليس أحد منا معاشر أهل التوحيد والسنة منكراً للتبرك بآثار الصالحين، إنما نمنع شد الرحال لزيارة قبور الصالحين ودعاء الأموات وطلب الدعاء منهم، والروايات المذكورة ليس فيها أثر من جواز هذه الأمور. قوله: كان محمد بن عبد الوهاب الذي ابتدع هذه البدعة يخطب للجمعة في مسجد الدرعية ويقول في كل خطبة: ومن توسل بالنبي فقد كفر. أقول: هذه المسألة من المسائل التي أجاب الشيخ نفسه عنها في الرسالة التي كتباه إلى عبد الله بن سحيم بما نصه: فهذه اثنا عشر1 مسألة جوابي فيها أن أقول: سبحانك هذا بهتان عظيم، ولكن قبله من بهت محمداً صلى الله عليه وسلم أنه يسب عيسى بن مريم ويسب الصالحين: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} وبهتوه بأنه يزعم أن الملائكة وعيسى وعزيز في النار فأنزل الله في ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} الآية. قال الشيخ حسن بن غنام الاحسائي في روضة الأفكار والأفهام: (العاشرة) قولهم في الاستسقاء لا بأس بالتوسل بالصالحين، وقول أحمد يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة مع قولهم إنه لا يستغاث بمخلوق، فالفرق ظاهر جداً، وليس الكلام مما نحن فيه، فكون بعض يرخص بالتوسل بالصالحين، وبعضهم يخصه بالنبي صلى الله عليه وسلم وأكثر العلماء ينهى عن ذلك ويكرهه، هذه المسألة من مسائل الفقه، ولو كان الصواب

_ 1 الصواب اثنتا عشرة

عندنا قول الجمهور أنه مكروه فلا ننكر على من فعله ولا إنكار في مسائل الاجتهاد، لكن إنكارنا على من دعا المخلوق أعظم مما يدعو الله تعالى ويقصد القبر يتضرع عند الشيخ عبد القادر أو غيره يطلب منه تفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وإعطاء الرغبات، فأين هذا ممن يدعو الله مخلصاً له الدين؟ لا يدعو مع الله أحداً، ولكن يقول في دعائه أسألك بنبيك أو بالمرسلين أو بعبادك الصالحين أو يقصد قبر معروف أو غيره يدعو عنده لكن لا يدعو إلا الله يخلص له الدين، فأين هذا مما نحن فيه؟ اهـ. وقال بعض المحققين في الرد على كتاب (جلاء الغمة) : إذا ظهر هذا وعرفت أن كلام الشيخ متجه لا غبار عليه فاعلم أن قول هذا الملحد "فجعل بكلامه هذا كما ترى التوسل بذوات الصالحين والرسل عليهم الصلاة والسلام وطلبه جل وعلا بأوليائه من دين المشركين الشرك الأكبر المخرج عن الملة وكفر به كما ترى صريحاً من قوله" تمويه وتلبيس أدخل فيه قوله وطلبه جل وعلا بأوليائه ليوهم الجهال ومن لا علم عندهم بحقيقة الحال. وموضوع الكلام أن مراد الشيخ مسألة التوسل في دعاء الله بجاه الصالحين وهذه المسألة، ودعاء الصالح وقصده فيما لا يقدر عليه إلا الله مسألة أخرى، فخلطهما ليروج باطله فقبحا قبحاً، وسحقا سحقاً، لمن ورث اليهود وحرف الكلم عن مواضعه، وكلام الشيخ صريح فيمن دعا مع الله إلهاً آخر في حاجاته وملماته، وقصده بعباداته فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، كحال من عبد عبد القادر، أو أحمد البدوي، أو العيدروس، أو علياً، أو الحسين، ومع هذا الصنيع الفظيع والشرك الجلي يقول أنا لا أشرك بالله شيئاً، وأشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله، ظناً منهم أن ذلك هو الإسلام فقط، وأنه ينجو به من الشرك وما رتب عليه، فكشف الشيخ شبهته، وأدحض حجته، بما تقدم من الآيات: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وأما مسألة الله بحق أنبيائه وأوليائه أو بجاههم بأن يقول السائل: اللهم إني أسألك بحق أنبيائك وأوليائك أو نحو هذا فليس الكلام فيه، ولم يقل الشيخ أنه شرك ولا

له ذكر في كلامه، وحكمه عند أهل العلم معروف، وقد نص على المنع منه جمهور أهل العلم بل ذكر الشيخ1 في رده على ابن البكري أنه لا يعلم قائلاً بجوازه إلا ابن عبد السلام في حق النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجزم بذلك بل علق القول به على ثبوت حديث الأعمى وصحته، وفيه من لا يحتج به عند أهل الحديث، وعلى تسليم صحته فليس الكلام فيه، وفي المثل: أريها السهى وتريني القمر2. اهـ. وأيضاً قال فيها: والتوسل صار مشتركاً في عرف كثير، فبعض الناس يطلقه على قصد الصالحين ودعائهم وعبادتهم مع الله، وهذا هو المراد بالتوسل في عرف عباد القبور وأنصارهم وهو –عند الله ورسوله وعند أولي العلم من خلقه- الشرك الأكبر والكفر البواح، والأسماء لا تغير الحقائق، ويطلق أيضاً –في عرف السنة والقرآن وأهل العلم بالله ودينه- على التوسل والتقرب إلى الله تعالى بما شرعه من الإيمان به وتوحيده وتصديق رسله وفعل ما شرعه من الأعمال الصالحة التي يحبها الرب ويرضاها كما توسل أهل (الغار) الثلاثة بالبر والعفة والأمانة، فإذا أطلق التوسل في كتاب الله تعالى وسنة رسوله وكلام أهل العلم من خلقه فهذا هو المراد، لا ما اصطلح عليه المشركون الجاهلون بحدود ما أنزل الله على رسوله، فلبس هذا المعترض بكلمة مشتركة ترويجاً لباطله. اهـ. قلت: وقد علمت تحقيق التوسل وحكمه، وما يجوز من أفراده وما لا يجوز، وما كان منها شركاً وما ليس بشرك فيما تقدم بما لا مزيد عليه فتذكر. قوله: وكان أخوه الشيخ سليمان بن عبد الوهاب من أهل العلم، فكان ينكر عليه إنكاراً شديداً في كل ما يفعله أو يأمر به، ولم يتبعه في شيء مما ابتدعه، وقال له أخوه سليمان يوما: كم أركان الإسلام يا محمد بن عبد الوهاب؟ فقال: خمسة. فقال: أنت جعلتا ستة، السادس من لم يتبعكم فليس بمسلم، هذا عندك ركن سادس للإسلام.

_ 1 يعني شيخ الإسلام تفي الدين بن تيمية. 2 السهى نجم صغير بقرب صورة الدب الأكبر يمتحن به حدة البصر لشدة صغرة.

أقول: لعل هذا وأمثاله مأخوذ من كتاب (جلاء الغمة عن تكفير هذه الأمة) ، فلأنقل أولاً لفظ هذا الكتاب، ثم نذكر ما قال بعض المحققين في الرد عليه، قال المعترض في كتاب جلاء الغمة: ولكن هذا الرجل جعل طاعته ركناً سادساً للأركان الخمسة كما قال ذلك أخوه لأمه وأبيه الشيخ سليمان بن عبد الوهاب حين خطأه فلم يقبل، ونهاه عن سفك الدماء ونهب الأموال فلم يفعل. وقال بعض المحققين في الرد عليه ما نصه: والجواب أن يقال: قد علم أهل العلم والإيمان براءة الشيخ من هذا، وأن دعوته إلى طاعة الله ورسوله، يأمر بتوحيده وينهى عن الشرك به وعن معصيته ومعصية رسوله، ويصرح بأن من عرف الإسلام ودان به فهو مسلم في أي زمان وأي مكان، ويشهد الله كثيراً في رسائله ويشهد أولي العلم من خلقه أن أعداءه إن جاءوه عن الله أو عن رسوله بدليل يرد شيئاً من قوله ويحكم بخطئه ليقبلنه على الرأس والعين، ويترك ما خالفه أو عارضه، وهذا معروف بحمد الله، وإنما يرميه بمثل هذا البهت وينسبه إليه من جعل زوره وقدحه في أهل العلم والإيمان جسراً يتوصل منه ويعبر إلى ما انطوى عليه وزينه له الشيطان من عبادة الصالحين والتوسل بهم، وعدم الدخول تحت أمر أولي العلم وترك القبول منهم، والاستغناء بما نشأ عليه أهل الضلال واعتادوه من العقائد الضالة والمذاهب الجائرة، قال تعالى حاكياً عن فرعون وقومه فيما رموا به كليمه موسى ونبيه هارون عليهما السلام من قصد العلو والدعوة إلى أنفسهما: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} وقال: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ. إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ. فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ. فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} . فانظر إلى ما أفادته اللام، إن كنت من ذوي الألباب والأفهام، وقال تعالى عن قوم نوح إنهم قالوا لنبيهم: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} . فانظر يا من نور الله عليه قلبه ما زعم هذا المعترض ونزله على هذه الآيات

الكريمات تعرف أن آل فرعون وقوم نوح لهم ورثة وأتباع، وعصابة وأشياع، يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً، ويستكبرون على الرسل وأعلام الهدى تعاظماً وحرجاً، ولا بد من الحساب يوم يقوم الناس لرب العالمين. وقد رأيت رسالة لشيخنا رحمة الله تعالى تشهد لما قررناه ونصها: من محمد بن عبد الوهاب إلى الأخ حمد التويجري، ألهمه الله رشده. وبعد: وصل الخط1 أوصلك الله إلى ما يرضيه، وأشرفنا على الرسالة المذكورة، وصاحبها ينتسب إلى مذهب الإمام أحمد رحمه الله وما تضمنته الرسالة من الكلام في الصفات مخالف لعقيدة الإمام أحمد رحمه الله، وما تضمنته من الشبه الباطلة في تهوين أمر الشرك بل في إباحته فمن أبين الأمور بطلاناً لمن سلم من الهوى والتعصب، وكذلك تمويهه على الطغام بأن ابن عبد الوهاب يقول: الذي ما يدخل تحت طاعتي كافر، ونقول: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} بل نشهد الله على ما يعلمه من قلوبنا بأن من عمل بالتوحيد وتبرأ من الشرك وأهله، فهو المسلم في أي زمان وأي مكان، وإنما نكفر من أشرك بالله في الإلهية بعد ما تبين له الحجة على بطلان الشرك، وكذلك نكفر من حسنه للناس أو أقام الشبه الباطلة على إباحته، وكذلك من قام بسيفه دون هذه المشاهد التي يشرك بالله عندها، وقاتل من أنكرها وسعى في إزالتها، والله المستعان. اهـ. المقصود منه. وأما نسبة ذلك إلى أخيه سليمان فلا مانع من ذلك لولا وجوب رد خبر هذا الفاسق وعدم قبوله إلا بعد التبين، ثم لو فرضت صحته فمن سليمان، وما سليمان؟ هذه دلائل السنة والقرآن تدفع في صدره، وتدرأ في نحره، وقد اشتهر ضلاله ومخالفته لأخيه مع جهله وعدم إدراكه لشيء من فنون العلم. وقد رأيت له رسالة يعترض فيها على الشيخ وتأملتها فإذا هي رسالة جاهل بالعلم

_ 1 أي الكتاب والخطاب والرسالة.

والصناعة، مزجى التحصيل والبضاعة، لا يدري ما طحاها، ولا يحسن الاستدلال بذلك على من فطرها وسواها. هذا وقد من الله -وقت تسويد هذا- بالوقوف على رسالة سليمان فيها البشارة برجوعه عن مذهبه الأول، وأنه قد استبان له التوحيد والإيمان، وندم على ما فرط من الضلال والطغيان، وهذا نصها. بسم الله الرحمن الرحيم من سليمان بن عبد الوهاب، إلى الأخوان أحمد بن محمد التويجري وأحمد ومحمد ابني عثمان بن شبانة. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأحمد إليكم الله تعالى الذي لا إله إلا هو، وأذكركم ما من الله به علينا وعليكم من معرفة دينه، ومعرفة ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم من عنده، وبصرنا من العمى، وأنقذنا من الضلالة، وأذكركم بعد أن جئتمونا في الدرعية من معرفتكم الحق على وجهه، وابتهاجكم به، وثنائكم على الله الذي أنقدكم، وهذه آدابكم في سائر مجالسكم عندنا، وكل ما جاءنا من حمد الله1 يثني عليكم والحمد لله على ذلك، وكتبت لكم بعد ذلك كتابين غير هذا أذكركم وأحضكم، ولكن يا إخواني معلومكم ما جرى منا من مخالفة الحق واتباعنا سبل الشيطان ومجاهدتنا في الصد عن اتباع سبل الهدى، والآن معلومكم لم يبق من أعمارنا إلا اليسير، والأيام معدودة، والأنفاس محسوبة، والمأمول منا أن نقوم لله، ونفعل الهدى أكثر ما فعلنا مع الضلال، وأن يكون ذلك لله وحده لا شريك له، لا لما سواه، لعل الله سبحانه يمحو عنا سيئات ما مضى وسيئات ما بقي، ومعلومكم عظم الجهاد في سبيل الله وما يكفر من

_ 1 في نسخة تصحيح خطي: جاءنا من المجمعة.

الذنوب، وأن الجهاد باليد والقلب واللسان والمال، وتفهمون أجر من هدى الله به رجلاً واحداً والمطلوب منكم أكثر مما تفعلون الآن، وأن تقوموا لله قيام صدق، وأن تبينوا للناس الحق على وجهه، وأن تصرحوا لهم تصريحاً بيناً بما أنتم عليه من الغي والضلال، فيا إخواني الله الله، فالأمر أعظم من ذلك، فلو خرجنا نجأر إلى الله في الفلوات وعدّنا الناس من السفهاء والمجانين في ذلك لما كان بكثير منا، وأنتم رؤساء الدين، ومكانكم أعز من الشيوخ، والعوام كلهم تبع لكم، فاحمدوا الله على ذلك، ولا تعلثوا1 بشيء من الموانع، وتفهمون أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا بد أن يرى ما يكره، ولكن أرشدكم في ذلك إلى الصبر كما حكى عن العبد الصالح في وصيته لابنه، فلا أحق من أن تحبوا لله، وتبغضوا لله، وتوالوا لله، وتعادوا لله، وترى يعرض في هذا أمور شيطانية وهي أن من الناس من ينتسب لهذا الدين، وربما يلقي الشيطان لكم أن هذا ما هو بصادق وأن له ملحظاً دنيوياً، وهذا أمر ما يطلع عليه إلا الله، فإذا أظهر أحد الخير فاقبلوا منه ووالوه، فإذا ظهر من أحد شر وإدبار عن الدين فعادوه واكرهوه، ولو أحب حبيب، وجامع الأمر في هذا أن الله خلقنا لعبادته وحده لا شريك له، ومن رحمته بعث لنا رسولاً يأمرنا بما خلقنا له ويبين لنا طريقه، وأعظم ما نهانا عنه الشرك بالله وعداوة أهله2، وبغضهم - وتبيين الحق وتبيين الباطل، فمن التزم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو أخوك، ولو أبغض بغيض، ومن نكب عن الصراط المستقيم فهو عدوك، ولو ولدك أو أخوك، وهذا شيء أذكركموه، مع أنى بحمد الله أعلم أنكم تعلمون ما ذكرت لكم، ومع هذا فلا عذر لكم عن التبيين الكامل الذي لم يبق معه لبس، وأن تذاكروا دائماً في مجالسكم

_ 1 هكذا في الأصل بالثاء المثلثة يقال علث البر بالشعير إذا خلطه به، ويجوز أن تكون الكلمة محرفة أو مصحفة. وكتبه وما قبله محمد رشيد رضا. 2 هكذا في الأم ولا يستقيم معناه، فلعله سقط منه شيء. اهـ. من حاشية الطبع وزاد فيه بعضهم بالخط. وأمرنا بعداوة أهله.

ما جرى منا ومنكم أولاً، وأن تقوموا مع الحق أكثر من قيامكم مع الباطل، فلا أحق من ذلك ولا لكم عذر، لأن اليوم الدين والدنيا ولله الحمد مجتمعة في ذلك، فتذكروا ما أنتم فيه أولاً في أمور الدنيا من الخوف والأذى والاعتداء، واعتلاء الظلمة والفسقة عليكم، ثم رفع الله ذلك كله بالدين، وجعلكم السادة والقادة، ثم أيضاً ما من الله به عليكم من الدين. انظروا إلى مسألة واحدة، فمما نحن فيه من الجهالة كون البدو نجري عليهم أحكام الإسلام مع معرفتنا أن الصحابة قاتلوا أهل الردة وأكثرهم متكلمون بالإسلام، ومنهم من أتى بأركانه، ومع معرفتنا أن من كذب بحرف من القرآن كفر ولو كان عابداً، وأن من استهزأ بالدين أو بشيء منه فهو كافر، وأن من جحد حكماً مجمعاً عليه فهو كافر – إلى غير ذلك من الأحكام المكفرات – وهذا كله مجتمع في البدوي وأزيد، وتجري عليهم أحكام الإسلام اتباعاً لتقليد من قبلنا بلا برهان. فيا إخواني تأملوا وتذاكروا في هذا الأصل يدلكم على ما هو أكثر من ذلك، وأنا أكثرت عليكم الكلام لوثوقي بكم أنكم ما تشكون في شيء فيما تحاذرون، ونصيحتي لكم ولنفسي، والعمدة في هذا أن يصير دأبكم في الليل والنهار أن تجأروا إلى الله أن يعيذكم من أنفسكم وسيئات أعمالكم، وأن يهديكم إلى الصراط المستقيم، الذي عليه رسله وأنبياؤه وعباده الصالحون، وأن يعيذكم من مضلات الفتن، فالحق واضح وأبلولج {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} . فالله الله تروا الناس اللي1 في جهاتكم تبع لكم في الخير والشر، فإن فعلتوا ما ذكرت لكم ما قدر أحد من الناس يرميكم بشر، وصرتوا كالأعلام هداة للحيران، فإن الله سبحانه وتعالى هو المسئول أن يهدينا وإياكم سبل السلام، والشيخ وعياله وعيالنا طيبين ولله الحمد ويسلمون عليكم، وسلموا لنا على من يعز عليكم، والسلام، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، اللهم اغفر لكاتبه ولوالديه ولذريته، ولمن نظر فيه فدعا له بالمغفرة والمسلمين والمسلمات أجمعين. فأجابوه برسالة ينبغي أن تذكر ونصها:

_ 1 اللي كلمة عامية بمعنى: الذي.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا سيد المرسلين، من كاتبه الفقير أحمد التويجري وأحمد بن عثمان وأخيه محمد، إلى منْ منّ الله علينا وعليه باتباع دينه، واقتفاء هدى محمد صلى الله عليه وسلم نبيه وأمينه، الأخ سليمان بن عبد الوهاب، زادنا الله وإياه من التقوى والإيمان، وأعاذنا وإياه ممن نزغات الشيطان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعد إبلاغ الشيخ وعياله وعبد الله وإخوانه السلام. وبعد فوصل إلينا نصيحتكم جعلكم الله من الأئمة الذين يهدون بأمره الداعين إليه وإلى دين نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فنحمد الله الذي فتح علينا وهدانا لدينه، وعدلنا عن الشرك والضلال، وأنقذنا من الباطل والبدع المضلة، وبصرنا بالإسلام الصرف الخالي عن شوائب الشرك، فلقد من الله علينا وعليكم، فله الفضل والمنة بما نور لنا من اتباع كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعدلنا عن سبيل من ضل وأضل بلا برهان، ونسأله أن يتوب علينا وعليكم ويزيدنا من الإيمان، فلقد خصنا فيما مضى بالعدول عن الحق ودحضناه، وارتكبنا الباطل ونصرناه، جهلاً منا وتقليداً لمن قبلنا، فحق علينا أن نقوم مع الحق قيام صدق أكثر مما قمنا مع الباطل على جهلنا وضلالنا. فالمأمول والمبغي منا ومنكم وجميع إخواننا التبيين الكامل الواضح، لئلا يغتر بأفعالنا الماضية من يقتدي بجهلنا، وأن نتمسك بما اتضح وابلولج من نور الإسلام وما بين الشيخ محمد رحمه الله تعالى من شريعة النبي صلى الله عليه وسلم. فلقد حاربنا الله ورسوله واتبعنا سبيل الغي والضلال، ودعونا إلى سبيل الشيطان، ونكبنا كتاب الله وراء ظهورنا جهلاً منا وعداوة، وجاهدنا في الصد عن دين الله ورسوله، واتبعنا كل شيطان تقليداً وجهلاً بالله، فلا حول ولا قوة إلا بالله {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} . فالواجب منا لما رزقنا الله معرفة الحق أن نقوم معه أكثر وأكثر من قيامنا

مع الباطل، ونصرح بالتبيين للناس بأنا على باطل فيما فات، ونقوم له مثنى وفرادى، ونتوكل على الله عسى أن يتوب علينا، ويعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن يهدينا سبل السلام، ويجعلنا من الداعين إلى الهدى، لا من الدعاة إلى النار، فنحمد الله الذي لا إله إلا هو حيث من علينا بهذا الشيخ في آخر هذا الزمان، وجعله بإذنه وفضله هادياً للتائه الحيران، نسأل الله العظيم أن يمتع المسلمين به ويعيذه من شر كل حاسد وباغ، ويبارك في أيامه، وأن يجعل جنة الفردوس مأواه وإيانا، وأن ينفعنا بما بينه، فلقد بين دين نبيه صلى الله عليه وسلم على رغم أنف كل جاحد، وصار علماً للحق حين طمس، ومصباحاً للهدى حيث درست أعلامه ونكس، وأطفأ الله به الشرك بعد ظهوره حين عبدت الأوثان صرفاً بلا رمس، ولم يزل –من الله عليه برضاه– ينادي: أيها الناس هلموا إلى دين نبيكم الذي بعث به إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ثم لم ينقم منه وعليه ألا أن يقول: أيها الناس اعبدوا ربكم وأعطوه حقه الذي خلقكم لأجله، وخلق لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه، إن الله تعالى يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} . وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . وقال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} . وقال: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} . وفسر إسلام الوجه بالقصد في العبادة، فإذا دعا غير الله أو نذر لغير الله أو استغاث بغير الله أو توكل على غير الله أو التجأ إلى غير الله، فهذه عبادة لمن قصد بذلك، هذا والله الشرك الأكبر، وإنا نشهد بذلك، وقمنا مع أهله ثلاثين سنة، وعادينا من أمر بتجريد التوحيد العداوة البينة، التي ما بعدها عداوة. فالواجب علينا اليوم نصر الله ودينه وكتابه ورسوله، والتبري من الشرك وأهله، وعداوتهم وجهادهم اليد واللسان، لعل الله أن يتوب علينا ويرحمنا، ويستر مخازينا، وأكبر من هذا البدو الذين لا يدينون دين الحق، لا يصلون ولا يزكون ولا يورثون، ولا لهم نكاح صحيح، ولا حكم عن الله ورسوله يدينون به صريح، ونقول هم إخواننا في الإسلام {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} . ومكابرة لما جاء به رسول رب العالمين،

فنقول: لا خلاف أن التوحيد لابد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختل من هذا شيء لم يكن الرجل مسلماً، فإذا عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس، وإن عمل بالتوحيد ظاهراً وهو لا يفهمه ولا يعتقده بقلبه فهو منافق شر من الكافر، أعاذنا الله وإياكم من الخزي يوم تبلى السرائر. فالواجب علينا وعلى من نصح نفسه أن يعمل العمل الذي يحصل به فكاك نفسه، وأن يعبد الله ولا يعبد غيره، فالعبادة حق الله على العبيد، ليس لأحد فيها شرك، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، فضلاً عن السفلة والشياطين، وحق الله علينا أن نجأر إليه بالليل والنهار والسر والعلانية في الخلوات والفلوات، عسى أن يتوب علينا ويعفو عنا ما فات، ويعيذنا من مضلات الفتن، فالحق بحمد الله وضح وابلولج {فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ} . ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. انتهى ما قاله بعض المحققين في الرد على (جلاء الغمة) . قوله: وقال رجل آخر يوماً لمحمد بن عبد الوهاب: كم يعتق الله كل ليلة في رمضان؟ فقال له يعتق كل ليلة مائة ألف، وفي آخر ليلة يعتق مثل ما أعتق في الشهر كله، فقال له: لم يبلغ من اتبعك عشر عشر ما ذكرت، فمن هؤلاء المسلمون الذين يعتقهم الله تعالى وقد حصرت المسلمين فيك وفيمن اتبعك؟ فبهت الذي كفر. اهـ. أقول: جوابه على وجوه: (الأول) عدم الاعتماد على خبر الفاسق الكاذب المفتري إلا بعد التبين. و (الثاني) أن نفس هذا الخبر والحكاية ما يقتضي كذبه من أن محمد بن عبد الوهاب قال له: "يعتق في كل ليلة مائة ألف، وفي آخر ليلة يعتق مثل ما أعتق في الشهر كله". فإن هذا العدد لم يقع في حديث صحيح ولا حسن، إنما وقع في رواية

ضعيفة شديدة الضعف أو موضوعة1، ومحمد بن عبد الوهاب بحمد الله تعالى كان من نقاد أهل الحديث، فكيف يتصور أن يجيب بهذا الجواب السخيف الساقط؟ نعم جاء في حديث "ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة". وفي حديث "إنه يغفر لأمته في آخر ليلة من رمضان". وعلى هذا فليس فيه إشكال، على أن هذين الحديثين أيضاً فيهما مقال، أما الأول فلأن الترمذي قال في جامعه بعد ذكر هذا الحديث: وحديث أبي هريرة الذي رواه أبو بكر بن عياش حديث غريب لا نعرفه من رواية أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة إلا من حديث أبي بكر، وسألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال أخبرنا الحسن بن الربيع أخبرنا أبو الأحوص عن الأعمش عن مجاهد قوله قال: "إذا كان أول ليلة من شهر رمضان" فذكر الحديث. قال محمد: وهذا أصح عندي من حديث أبي بكر بن عياش، وأما الثاني فلأن في سنده هشام بن زياد أبا المقدام ضعفه أحمد وغيره، قال النسائي: متروك، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات، وقال أبو داود: كان غير ثقة، وقال البخاري: يتكلمون فيه. كذا في الميزان. و (الثالث) أن عدد المعتقين الواقع في الرواية المذكورة في هذه الحكاية إن كان في كل زمان، فهذا في غاية السقوط فإنه لا يصدق في زمان بداية الإسلام حين كان المسلمون قليلين لم يبلغوا هذا العدد، وإن كان في بعض الزمان فقد بلغ أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بعض الزمان أضعاف أضعاف العدد المذكور، على أنه لو فرض عدم بلوغ أتباع الشيخ هذا العدد فأي محذور على هذا التقدير؟ إذ وجود المسلمين قبل زمان الشيخ أو بعده موافقاً لهذا العدد كاف في صدق هذه الرواية. و (الرابع) أن صدقه في كل زمان من أوضح الأباطيل، إذ يجيء في قرب الساعة زمان يقبض فيه روح كل مؤمن، فكيف يصدق هذا الحديث؟ فهو إما باطل

_ 1 الرواية موضوعة قطعاً، ولو عقل هذا المفتري لعلم أن ما أورده على الشيخ يرد على أتباع النبي صلى الله عليه وسلم في عصره، إذ لم يكونوا يبلغون عشر هذا العدد في الحديث الموضوع. وكتبه محمد رشيد رضا.

أو مؤول بأن يحمل على زمان يبلغ فيه عدد المسلمون هذا المبلغ أو يزيد، وهذا التأويل كما يمكن من جانب من ليس من أتباع الشيخ كذلك يمكن من جانب أتباعه غير فرق. و (الخامس) أن بناء هذا التشنيع على أن يكون الشيخ قائلاً بحصر المسلمين في نفسه وأتباعه، وقد علم فيما تقدم أن هذا افتراء على الشيخ صريح. وأما قول المؤلف في حق الشيخ "فبهت الذي كفر" فجرأة عظيمة على النار والكفر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما" والشيخ رحمه الله بحمد الله تعالى بريء من الكفر فقد باء بها هذا المؤلف. قوله: ولما طال النزاع بينه وبين أخيه خاف أخوه أن يأمر بقتله فارتحل إلى المدينة المنورة وألف رسالة في الرد عليه وأرسلها له فلم ينته. أقول: هذا كان حين تبين غيه وضلاله، ومخالفته للشيخ، وأما بعده فقد رجع أخوه عن مذهبه الأول، وقد استبان له التوحيد والإيمان، وندم على ما فرط من الضلال والطغيان، وقد علمته فيما تقدم. قوله: وألف كثير من علماء الحنابلة وغيرهم رسائل في الرد عليه، وأرسلوها له فلم ينته. أقول: جوابه من وجوه: (الأول) أن كثيراً من العلماء المحققين أجابوا عن تلك الرسائل وانتصروا للشيخ. و (الثاني) أن رد كثير من العلماء على الشيخ لا يقتضي بطلان ما عليه الشيخ وحقية ما عليه خصومه، إنما معيار الحقيقة شهادة الكتاب العزيز والسنة المطهرة، وإذا كان قوله وعمله موافقاً للثقلين1، فلا مبالاة بمخالفة أحد كائناً من كان. و (الثالث) أن غير واحد من علماء الصحابة والتابعين وتبع التابعين قد خالفه

_ 1 أي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

كثير من العلماء فهذا مما يشارك الشيخ فيه غيره فلا وجه للطعن. قوله: وقال له رجل آخر مرة وكان رئيساً على قبيلة بحيث أنه لا يقدر أن يسطو عليه: ما تقول إذا أخبرك رجل صادق ذو دين وأمانة وأنت تعرف صدقه بأن قوماً كثيرين قصدوك وهم وراء الجبل الفلاني فأرسلت ألف خيال ينظرون القوم الذين وراء الجبل فلم يجدوا أثراً ولا أحد منهم، بل ما جاء تلك الأرض أحد، أتصدق الألف أم الواحد الصادق عندك؟ فقال: أصدق الألف، فقال له: إن جميع المسلمين من العلماء الأحياء والأموات في كتبهم يكذبونك فيما أتيت به، ويزيفونه فنصدقهم ونكذبك؟ فلم يعرف جواباً لذلك. أقول: الجواب عليه من وجوه: (الأول) عدم الاعتماد على هذا النقل. (الثاني) أن ما حكاه عن الشيخ في جواب الصورة المفروضة من أنه قال "أصدق الألف" لا يتصور أن يكون جواباً صحيحاً عموماً، بل إذا كان الألف ذوي صدق ودين وأمانة ممن لا يخافون في الحق لومة لائم، وأما من ليس بذي صدق أو دين أو أمانة أو يخاف الناس كخشية الله فليكن الجواب على عكس ما حكى الشيخ وحين حكى الجواب عموماً، فهذا أدل دليل على كذب هذه الحكاية. (الثالث) أن هذا المثل ليس في محله، فإن ما عليه الشيخ ليس خبر رجل صادق ذي دين وأمانة، بل هو قول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين، فلا اعتداد بقول من خالفه وإن كانوا ألوفاً، إذ الشيخ لم يدع إلى رأيه أو إلى رأي أحد من الصحابة أو التابعين، أو تبع التابعين، أو رأي غيرهم من العلماء، إنما دعا إلى إخلاص التوحيد الذي هو منطوق صريح لغير واحدة من الآيات1. (الرابع) أن قول السائل "إن جميع المسلمين من العلماء الأحياء والأموات في كتبهم يكذبونك فيما أتيت به ويزيفونه" كذب صريح، هذا شيخ الإسلام ابن تيميه وابن القيم وابن كثير وابن عبد الهادي وغيرهم من أهل التوحيد ممن قبل الشيخ يصدقون الشيخ فيما أتى به، بل لو ادعى أن جميع المسلمين من العلماء الأحياء والأموات

_ 1 بل آيات التوحيد بأنواعها تعد بالمئات.

موافقون للشيخ لكان له وجه1 فإن كلهم يقولون: إن الدعاء عبادة، وعبادة غير الله شرك. قوله: وقال له رجل آخر مرة: هذا الدين الذي جئت به متصل أم منفصل؟ فقال له مشايخي ومشايخهم إلى ستمائة سنة كلهم مشركون، فقال له الرجل: إذاً دينك منفصل لا متصل، فعمن أخذته؟ فقال: وحي إلهام كالخضر، فقال له: إذاً ليس ذلك محصوراً فيك، كل أحد يمكنه أن يدعي وحي الإلهام الذي تدعيه. أقول: هذا افتراء على الشيخ واضح، لم يقل الشيخ قط إن مشايخي ومشايخهم إلى ستمائة سنة كلهم مشركون، وإن ديني وحي إلهام، وراويه أحد الكاذبين، ومن يدعي صحته فعليه البيان. قوله: ثم قال له: إن التوسل مجمع عليه –إلى قوله– فلا وجه لك في التفكير أصلاً. أقول: لعل هذه الحكاية مجعولة، فإن الشيخ قد قال في الرسالة التي كتبها إلى عبد الله بن سحيم في جواب هذا الطعن {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} . قوله: هذا حجة عليك، فإن استسقاء عمر بالعباس إنما كان لإعلام الناس بصحة الاستسقاء والتوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم. أقول: هذا ادعاء بلا دليل، بل يرده لفظ الحديث، فإن فيه أن عمر رضي الله

_ 1 الحق الواقع أن ما دعا إليه الشيخ من التوحيد هو ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه وأصحابه وجميع المسلمين في خير القرون، ثم نجمت قرون الشرك وسمي بغير اسمه، فلما فشا في العوام كان شيخ الإسلام ابن تيميه أول من قاومه وأطال الحجج في دحض شبهاته وتفنيد خرافاته، ولم يخالفه في هذا أحد من علماء عصره، بل قال بعضهم: إنه نبهنا لأمر كنا غافلين عنه، اللهم إلا ابن البكري ألف رسالة في الرد عليه وعرضها على علماء الأزهر وغيرهم ليجيزوها فلم يوافقه عليها أحد، وكان من فروعها بدع الزيارة وشد الرحال خالفه فيها تقي الدين السبكي، ولكنه لم يبح دعاء غير الله تعالى لا النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره، وإنما كثر المضلون في هذه المسألة بعد ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب لأن الجهل بالتوحيد صار أعم، ولأن الله تعالى سخر له آل سعود، فأسسوا للإسلام دولة عربية أفزعت الدولة التركية فقاتلت الدولة العربية وجعلت دعوى الدين حجة لها. وكتبه محمد رشيد رضا.

عنه قال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. هذا لفظ البخاري، وهو عند الإسماعيلي من رواية محمد بن المثنى عن الأنصاري بإسناد البخاري إلى أنس قال: كانوا إذا قحطوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم استقوا به فيستسقي لهم فيسقون، فلما كان في إمارة عمر.. فذكر الحديث، هكذا في الفتح. قوله: وكيف نحتج باستسقاء عمر بالعباس وعمر هو الذي روى حديث توسل آدم بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يخلق؟ أقول: قد عرفت فيما تقدم أن هذا الحديث واه جداً لا يصلح لأن يحتج به. قوله: فبهت وتحير وبقي على عماوته ومقابحه الشنيعة. أقول: هذا كذب فيما أظنه بيّن، كيف وقد يعلم ضعف حديث التوسل من له أدنى إلمام بفن الجرح والتعديل، فلا وجه للبهت والتحير. قوله: ومن مقابحه أنه لما منع الناس من زيارة النبي صلى الله عليه وسلم خرج ناس من الأحساء وزاروا النبي صلى الله عليه وسلم. أقول: هذا كذب وافتراء، فإن الشيخ قال في جواب اثنتي عشر مسألة، منها إنكار زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ما نصه: فهذه اثنتا عشرة مسألة جوابي فيها أن أقول: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} . هكذا قال الشيخ في الرسالة التي كتبها إلى عبد الله ابن سحيم. قوله: وبلغه مرة أن جماعة من الذين لم يتابعوه من الآفاق البعيدة قصدوا الزيارة والحج. أقول: هذا افتراء بحت، ألم تر أن الشيخ نفسه قد قصد مدينته عليه الصلاة والسلام وأقام فيها شهرين ثم رجع بعد ذلك فائزاً بأجر الزيارة والمناسك، كذا في (روضة الأفكار) وقد نقلت فيما تقدم عبارتها الطويلة. قوله: وكان ينهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم –إلى قوله– وأحرق دلائل الخيرات وغيرها من كتب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

أقول: قد أجاب الشيخ في بعض رسائله عن هذا بقوله: وأما دلائل الخيرات فلذلك سبب، وذلك أني أشرت على من قبل نصيحتي من إخواني أن لا يصير في قلبه أجلّ من كتاب الله، ويظن أن القراءة فيه أنفع من قراءة القرآن1. وأما إحراقه والنهي عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بأي لفظ كان فهذا من البهتان، كذا في (روضة الأفكار) . وأيضاً فيها: وأما قوله وأحرق أيضاً "روض الرياحين" وسماه روض الشياطين فهذا من الكذب والزور المبين. اهـ. وأما قوله وأبطل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة وليلتها، فهذا الكلام مع بشاعة لفظه فيه إيهام وإبهام، وتشنيع بظاهره عند العوام، وتنفير لهم من توحيد الملك العلام، فإن الشيخ رحمه الله لم ينه عن ذلك ولم يبطله، إلا الفعل الذي يفعل في كثير من البلدان، وقد أبطله جماعة قبله من الأعيان، وأنكره جماعة من نقاد هذا الشأن، وقالوا لا يتقرب إلى الله تعالى [به] ولا يدان، لأنه بدعة محضة أظهرها في مقام العبادة الشيطان. اهـ. وقال أيضاً فيه وليعلم القارئ لهذا الكتاب، والواقف على هذا الخطاب، أن البيان عن ذلك في الجواب، أن الذي أنكره من غير شك ولا ارتياب، هو ما يفعل في غالب الأمصار، ويعمل في كثير من الأقطار، لا سيما الحرمين كما صح بالمشاهدة والأخبار، وذلك أنه يصعد ثلاثة أو أكثر على رؤوس المنار، ويقرءون آيات من القرآن، ويصلون على النبي بأرفع صوت وإعلان، ويأتون بقبيح الألحان وأصوات تحاكي غناء القيان، ويمططون آيات الله الكريمة، ويغيرون حرمة أسمائه

_ 1 إن أصحاب الطرائق وضعوا للناس أوراداً وأحزاباً مدونة من أذكار وأدعية وصلوات يتعبدون بها في أوقات معينة كالصلوات الخمس، فهذا العمل منتقد شرعاً من عدة وجوه: (1) أن فيها أوصافاً لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم مخالفة للثابت في الكتاب والسنة. (2) أن فيها ما لا يقبل مثله إلا بنص منهما، لأنه توقيفي على الراجح المختار عند أئمة الأمة كما قاله صاحب الجوهرة: واختير أن اسماه توقيفية ... كذا الصفات فاحفظ السمعيه (3) أن التزامها وتقييدها في الأوقات المعينة، والاجتماع لبعضها ورفع الصوت بها، وجعلها من قبيل الشعائر، يدخلها في عموم البدعة الإضافية ويخرجها من عموم العبادات المطلقة على فرض ورودها فيها كما حققه الإمام الشاطبي في الاعتصام. (4) أنهم آثروها على التعبد بتلاوة القرآن التي هي أعلى العبادات المطلقة وأذكار السنة، كما حققناه في تفسير المنار. (راجع صفحة 374 جزء 10) .

العظيمة، وينقلونها من معناها إلى معنى1 وكفى به إثماً ووهنا، وتغييراً لما أراده الله بأسمائه وصفاته2، لقد خسر والله من ضل سعيه وهو يحسب أنه يحسن صنعا. اهـ. وقال الشيخ في الرسالة التي كتبها إلى عبد الرحمن بن عبد الله: والحاصل أن ما ذكر عنا من الأسباب غير دعوة الناس إلى التوحيد والنهي عن الشرك فكله من البهتان اهـ. وللسيد العلامة إمام العصر محمد بن إسماعيل الأمير اليمني نظم في مدح الحديث مشتمل على فصول حكم في فصل منها على دلائل الخيرات بالتحريق فقال: وحرق عمداً للدلائل دفترا ... أصاب ففيها ما يجل عن العد غلوٌ نهى عنه الرسول وفرية ... بلا مرية فاتركه إن كنت تستهدي أحاديث لا تعزى إلى عالم ولا ... تساوى فلساً إن رجعت إلى النقد وصيرها الجهال للدرس ضرة ... يرى درسها أزكى لديه من الحمد ولما اطلع الشيخ الفاضل العلامة ناصر بن حسين المحبش الصنعاني على هذه الأبيات أرسل إليه نظماً سأل فيه عن وجه هذا الحكم، فأجاب السيد العلامة أولاً [على] النظم بالنظم، ثم حرر أدلة على دعواه في النثر على وجه الإتقان، وهذا السؤال والجواب كلاهما يتيسران في بلاد اليمن ونواحيه، ذكره السيد العلامة مولانا السيد صديق حسن سلمه الله تعالى في كتابه (إتحاف النبلاء) .

_ 1 كذا في نقل الأصل ولعله: إلى ما ليس له معنى، أو إلى ما لا يصح له معنى. 2 لعله في أصله زيادة "الحسنى". وكتبه محمد رشيد رضا.

ما كان عليه الوهابية من الاتباع

ما كان عليه الوهابية من الاتباع والاجتهاد في الأصول والفروع قوله: وكان يمنع أتباعه من مطالعة كتب الفقه والتفسير والحديث، وأحرق

كثيراً منها، وأذن لكل من اتبعه أن يفسر القرآن بحسب فهمه حتى همج الهمج من أتباعه. أقول: قد فرغ الشيخ من جوابه بما قال في الرسالة التي كتبها إلى عبد الله بن سحيم في المسائل التي شنع بها، منها ما هو البهتان الظاهر وهي قوله إني مبطل كتب المذاهب، وقوله إني أدعي الاجتهاد، وقوله إني خارج عن التقليد. اه‍ـ ملخصاً. وقال في الرسالة التي كتبها إلى عبد الرحمن بن عبد الله: وأخبرك أني ولله الحمد متبع ولست بمبتدع، عقيدتي وديني الذي أدين الله به مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم القيامة، لكني بينت للناس إخلاص الدين، ونهيتهم عن دعوة الأحياء والأموات من الصالحين وغيرهم. اهـ. قال عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في رسالة اختصرت من الرسائل المؤلفة للشيخ محمد بن عبد الوهاب: إن مذهبنا في أصول الدين مذهب أهل السنة والجماعة، وطريقتنا طريقة السلف، ونحن أيضاً في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، ولا ننكر على من قلد أحد الأربعة دون غيرهم لعدم ضبط مذاهب الغير كالرافضة والزيدية والإمامية ونحوهم، فلا نقرهم على شيء من مذاهبهم الفاسدة، بل نجبرهم على تقليد أحد الأئمة، ولا نستحق مرتبة الاجتهاد المطلق ولا أحد لدينا يدعيها، إلا أننا في بعض المسائل إذا صح لنا نص جلي من كتاب أو سنة غير منسوخ ولا مخصص ولا معارض بأقوى منه وقال به أحد الأئمة الأربعة أخذنا به وتركنا المذهب، كإرث الجد والأخوة، فإنا نقدم الجد بالإرث وإن خالف مذهب الحنابلة، ولا نفتش على أحد في مذهبه ولا نعترض عليه، إلا إذا اطلعنا على نص جلي كذلك مخالف لمذهب بعض الأئمة وكانت المسألة مما يحصل بها شعار ظاهر كإمام الصلاة، فنأمر الحنفي والمالكي مثلاً بالمحافظة على نحو الطمأنينة في الاعتدال والجلوس بين السجدتين لوضوح دليل ذلك1، بخلاف جهر الإمام الشافعي بالبسملة وشتان بين المسألتين، فإذا قوي الدليل أشرناهم للنص2، وإن خالف المذهب، وذلك إنما يكون نادراً جداً،

_ 1 يزاد عليه أن من لم يقل بفرضية الطمأنينة يقول بأنها هي السنة العملية، بل صرح الحنفية بوجوبها. 2 لعله: أرشدناهم للنص.

ولا مانع من الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض فلا مناقضة لعدم دعوى الاجتهاد المطلق، وقد سبق جمع من المذاهب الأربعة إلى اختيارات لهم في بعض المسائل مخالفين للمذهب الملتزمين تقليد صاحبه، ثم إنا نستعين على فهم كتاب الله بالتفاسير المتداولة المعتبرة ومن أجلها لدنيا تفسير ابن جرير ومختصره لابن كثير الشافعي، وكذلك البيضاوي والبغوي والخازن والهداد1 والجلالين وغيرهم، وعلى فهم الحديث بشروحه كالقسطلاني والعسقلاني على البخاري، والنووي على مسلم والمناوي على الجامع الصغير، ونحوهم على كتب الحديث خصوصاً الأمهات الست وشروحها، ونعتني بسائر الكتب في سائر الفنون أصولاً وفروعاً، وقواعد وسيراً وصرفاً ونحواً، وجميع علم الأمة، ولا نأمر بإتلاف شيء من المؤلفات أصلاً، إلا ما توقع الناس في الكفر2، كروض الرياحين، أو يحصل بسببه خلل في العقائد كعلوم المنطق فإنه قد حرمه كثير من العلماء على أنا لا نفحص على مثل ذلك، وكالدلائل إلا أن تظاهر به صاحبه معانداً أتلف عليه، وما اتفق لبعض البدوان في إتلاف كتب أهل الطائف إنما صدر لجهلة وقد زجر هو وغيره عن مثل ذلك. ولا نرى قتل النساء والأطفال، وأما ما يكذب علينا ستراً للحق، وتلبيساً على الخلق، بأنا نقرأ القرآن لرأينا3، ونأخذ من الحديث ما وافق فهمنا، من دون مراجعة شروح ولا نعول على شيخ، وأنا نضع من رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقولنا النبي رمة في قبره وعصا أحدنا أنفع منه، وليس له شفاعة، وإن زيارته غير مندوبة، وأنه كان لا يعرف معنى لا إله إلا الله حتى أنزل عليه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إلا اللَّهُ} مع كون الآية مدنية، وأنا لا نعتمد أقوال العلماء، ونتلف مؤلفات أهل المذاهب لكون فيها الحق والباطل، وأنا مجسمة وأنا نكفر الناس على الإطلاق، ومن بعد الست المائة إلا من هو على ما نحن عليه، ومن فروع ذلك أن لا نقبل بيعة أحد حتى نقرر عليه بأنه كان مشركاً، وأن أبويه ماتا على الإشراك بالله، وأنا ننهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

_ 1 في نسخة: الحداد. 2 في نسخة: الشرك. 3 لعل أصله: تفسير القرآن برأينا.

ونحرم زيارة القبور المشروعة مطلقاً، وأن من دان بما نحن عليه سقط عنه جميع التبعات حتى الديون، وأنا لا نرى حقاً لأهل البيت رضوان الله عليهم، وأنا نجبر على تزويج غير الكفء لهم، وأنا نجبر بعض الشيوخ على فراق زوجته الشابة لتنكح شاباً على مرافعة لدينا ولا وجه لذلك –فجميع هذه الخرافات وأشباهها لما استفهمنا عنها من ذكر أولاً ما كان جوابنا عليه في كل مسألة من ذلك إلا {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} . فمن روى عنا شيئاً من ذلك أو نسبه إلينا فقد كذب علينا وافترى، ومن شاهد حالنا ورأى مجلسنا وتحقق ما عندنا، علم قطعاً أن جميع ذلك وضعه علينا وافتراه جماهير أعداء الدين، وإخوان الشياطين، تنفيراً للناس عن الإذعان لإخلاص التوحيد لله بالعبادة، فإنا نعتقد أن من فعل أنواعاً من الكبائر كالقتل للمسلم بغير حق والزنا والربا وشرب الخمر، وتكرر ذلك منه، لا يخرج بفعل ذلك عن دائرة الإسلام ولا يخلد به في دار الانتقام، إذا مات موحداً لله في جميع أنواع العبادة. والذي نعتقده في مرتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنها أعلى مراتب المخلوقات على الإطلاق، وأنه حي في قبره حياة مستقرة أبلغ من حياة الشهداء المنصوص عليها في التنزيل، إذ هو أفضل منهم بلا ريب، وأنه يسمع سلام من يسلم عليه، وتسن زيارته إلا أنه لا يشد الرحل إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه، وإذا قصد مع ذلك الزيارة فلا بأس، ومن أنفق نفيس أوقاته في الاشتغال بالصلاة عليه الواردة عنه فقد فاز بسعادة الدارين وكفى همه كما جاء في الحديث. قوله: وتارة يقول إن الشريعة واحدة، فما لهؤلاء جعلوها مذاهب أربعة؟ أقول: قال عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في ديباجة الرسالة المذكورة ما نصه: ونودي بالمواظبة على الصلوات في الجماعات وعدم التفرق في ذلك بأن يجتمعوا في كل صلاة مع إمام واحد يكون ذلك الإمام من أحد المقلدين للأربعة رضوان الله عليهم، اهـ. وقد تقدم أيضاً قوله: بل نجبرهم على تقليد أحد الأئمة الأربعة، فعلم بذلك أن هذا افتراء بحت. قوله: وكان الشيخان المذكوران يعني الشيخ محمد بن سليمان الكردي، والشيخ

محمد حياة السندي الحنفي وغيرهما من أشياخه يتفرسون فيه الإلحاد والضلال، ويقولون سيضل هذا ويضل الله به من أبعده وأشقاه، فكان الأمر كذلك، وما أخطأت فراستهم فيه. أقول: هذا النقل مما لا اعتماد عليه. قوله: وكان والده عبد الوهاب من العلماء الصالحين، فكان أيضاً يتفرس في ولده المذكور الإلحاد ويذمه كثيراً ويحذر الناس منه. أقول: هذا كذب صريح، فإن والده قد أثنى عليه ثناء بليغاً كما يظهر من عبارة (روضة الأفكار) وقد نقلت فيما تقدم. قوله: وكذا أخوه سليمان بن عبد الوهاب فكان ينكر ما أحدثه من البدع والضلال والعقائد الزائغة، وتقدم أنه ألف كتاباً في الرد عليه. أقول: نعم قد كان أخوه سليمان في أول الأمر كما قال هذا القائل، ثم رجع عن مذهبه الأول وندم على ما فرط من الضلال والطغيان، كما يلوح من كتابه الذي كتب إلى أحمد بن محمد التويجري وأحمد ومحمد ابني عثمان بن شبانة، وقد نقل فيما سبق فتذكر. قوله: وكانت ولادة محمد بن عبد الوهاب سنة ألف ومائة وأحد عشر. أقول: هذا غلط، والصحيح ما في (الروضة) من أنه رحمه الله ولد سنة خمس عشرة بعد المائة والألف كما تقدم. قوله: ولما أراد إظهار ما زينه له الشيطان من البدعة والضلالة. أقول: هذا بهتان عظيم، فإن الشيخ رحمه الله سعى سعياً عظيماً في إزالة البدعة والضلالة، وإنما دعا الناس إلى التوحيد الخالص واتباع السنة وترك الشرك والبدعة. قوله: ويفهمهم أن ما عليه الناس كله شرك وضلال. أقول: هذا بعمومه افتراء بحت. قوله: وكان يقول لهم: إني أدعوكم إلى الدين، وجميع ما هو تحت السبع الطباق مشرك على الإطلاق، ومن قتل مشركاً فله الجنة.

أقول: هذا كله افتراء بلا ريب على الشيخ يعرفه من له رائحة من الإيمان والعلم والعقل. قوله: وكانوا ملكوا الطائف في ذي القعدة سنة 1217 قتلوا الكبير والصغير والمأمور والآمر، ولم ينج إلا من طال عمره، وكانوا يذبحون الصغير على صدر أمه، ونهبوا الأموال وسبوا النساء –إلى قوله– فإنهم كانوا يحكمون على الناس بالكفر من منذ ستمائة، وغفلوا أيضاً عن استباحتهم أموال الناس ودمائهم وانتهاكهم حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بارتكابهم أنواع التحقير له ولمن أحبه وغير ذلك من مقابحهم التي ابتدعوها وكفروا الأمة بها، وكانوا إذا أراد أحد أن يتبعهم على دينهم طوعاً أو كرهاً يأمرونه بالإتيان بالشهادتين أولاً ثم يقولون له اشهد على نفسك أنك كنت كافراً، أو اشهد على والديك أنهما ماتا كافرين، واشهد على فلان وفلان أنه كان كافراً، ويسمون له جماعة من أكابر العلماء الماضين، فإن شهدوا بذلك قبلوهم وإلا أمروا بقتلهم، وكانوا يصرحون بتكفير الأمة من منذ ستمائة سنة، وأول من صرح بذلك محمد بن عبد الوهاب فتبعوه على ذلك، وإذا دخل إنسان في دينهم وكان قد حج حجة الإسلام قبل ذلك يقولون له حج ثانياً فإن حجتك الأولى فعلتها وأنت مشرك، فلا يسقط عنك الحج، ويسمون من اتبعهم من الخارج المهاجرين، ومن كان من أهل بلدتهم يسمونهم الأنصار، والظاهر من حال محمد بن عبد الوهاب أنه يدعي النبوة إلا أنه ما قدر على إظهار التصريح بذلك، وكان في أول أمره مولعاً بمطالعة أخبار من ادعى النبوة كاذباً كمسيلمة الكذاب، وسجاح، والأسود العنسي، وطليحة الأسدي، وأضرابهم، فكأنه يضمر في نفسه دعوى النبوة، ولو أمكنه إظهار هذه الدعوة لأظهرها، وكان يقول لأتباعه: إني أتيتكم بدين جديد، ويظهر ذلك من أقواله وأفعاله، ولهذا كان يطعن في مذاهب الأئمة وأقوال العلماء، ولم يقبل من دين نبينا صلى الله عليه وسلم إلا القرآن ويؤوله على حسب مراده، مع أنه إنما قبله ظاهراً فقط لئلا يعلم الناس حقيقة أمره، فيكشفوا عنه، بدليل أنه هو وأتباعه إنما يؤولونه على حسب ما يوافق أهواءهم لا بحسب ما فسره به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح وأئمة التفسير، فإنه كان لا يقول بذلك ولا يقول بما عدا القرآن من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وأقاويل الصحابة والتابعين، والأئمة المجتهدين ولا بما استنبطه الأئمة من القرآن والحديث، ولا يأخذ بالإجماع، ولا

بالقياس الصحيح، وكان يدعي الانتساب إلى مذهب الإمام أحمد رحمه الله كذباً، وتستراً وزوراً، والإمام أحمد بريء منه. أقول: الجواب على هذه الأقوال كلها أنها على طولها وكثرتها كاذبة خبيثة، فلا تعجبك كثرة الخبيث. قوله: حتى أخوه سليمان بن عبد الوهاب ألف رسالة في الرد عليه كما تقدم. أقول: قد عرفت فيما تقدم أن الشيخ سليمان قد رجع عن قوله الأول، فالاستناد بالقول المرجوع عنه عجيب. قوله: وتمسك في تكفير المسلمين بآيات نزلت في المشركين فحملها على الموحدين. أقول: إنما تمسك الشيخ في تكفير الذين يسمون أنفسهم مسلمين وهم يرتكبون أمور مكفرة بعموم آيات نزلت في المشركين، وقد ثبت في علم الأصول أن العبرة لعموم اللفظ، لا لخصوص السبب، وهذا مما لا مجال لاختلاف فيه لأحد. قوله: وقد روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في وصف الخوارج أنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها في المؤمنين. أقول: قد وصله الطبري في مسند علي من تهذيب الآثار من طريق بكير بن عبد الله بن الأشج أنه سأل نافعاً: كيف كان رأي ابن عمر في الحرورية؟ قال: كان يراهم شرار الخلق انطلقوا إلى آيات الكفار فجعلوها في المؤمنين، قلت: وسنده صحيح قاله الحافظ في الفتح، والشيخ رحمه الله تعالى بريء من هذا الصنيع بحمد الله، والدليل عليه أنه ذكر في كتاب التوحيد باب إثم من فجر بالقرآن حديث أبي سعيد الخدري المروي في الخوارج وذكر هذا الأثر، فكيف يرتكب ما يشنع به على الخوارج؟ نعم قد استدل الشيخ رحمه الله على كفر عباد القبور بعموم آيات نزلت في الكفار، وهذا مما لا محذور فيه، إذ عباد القبور ليسوا بمؤمنين عند أحد من المسلمين1.

_ 1 إن المؤلف يختصر في دحض هذه المفتريات لما سبق له من التفصيل فيما يفندها من بطلان النقل وأدلة الشرع، ومن عجائب جهل دحلان وأمثاله أنهم يظنون أن ما بينه القرآن من بطلان شرك المشركين خاص بهم لذواتهم وليس حجة على من يفعل مثل فعلهم كأن من ولد مسلماً يباح له الشرك لجنسيته الإسلامية وإن أشرك بالله في كل ما عده كتاب الله شركاً، وعلى هذا لا يتصور وقوع الردة في الإسلام لأن من سمى مسلماً يجب أن يسمى كفره وشركه إسلاماً، أو يعد مباحاً له أو حراماً على الأقل، وقد يعدونه مشروعاً بالتأويل! وكتبه محمد رشيد رضا.

قوله: وفي رواية أخرى عن ابن عمر عند غير البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: أخوف ما أخاف على أمتي رجل متؤول للقرآن يضعه في غير موضعه". أقول: في هذا الكلام خطأ من وجوه: (الأول) أن هذا الحديث من رواية عمر بن الخطاب، لا من رواية ابن عمر كما ستعرفه عن قريب. و (الثاني) أن المتبادر من قوله عند غير البخاري أن غير البخاري من الأئمة الستة قد أخرجوه، مع أنه ليس له أثر في شيء من الكتب الستة، فهذا تدليس واضح، وإن كان المراد بغير البخاري الطبراني فقط فكان التصريح بالطبراني أولى بالديانة من هذا الإبهام والتلبيس. و (الثالث) لفظ الحديث هكذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثر ما أتخوف على أمتي من بعدي رجل يتأول القرآن يضعه على غير مواضعه، ورجل يرى أنه أحق بهذا الأمر من غيره" رواه الطبراني في الأوسط، كذا في مجمع الزوائد، والمؤلف قد أخطأ في نقل هذه الرواية في غير ما موضع كما لا يخفى. و (الرابع) في سنده إسماعيل بن قيس الأنصاري، وهو متروك الحديث كذا في مجمع الزوائد، قال الذهبي في الميزان: إسماعيل بن قيس بن سعد بن زيد بن ثابت الأنصاري أبو مصعب عن أبي حازم ويحيى بن سعد الأنصاري، قال البخاري والدراقطني: منكر الحديث، وقال النسائي وغيره: ضعيف، وقال ابن عدي: وعامة ما يرويه منكر. اه‍ـ ملخصاً.

و (الخامس) أن صدقه على الشيخ محمد بن عبد الوهاب غير مسلم، ومن يدعي فعليه البيان. وقد ورد في هذا المعنى أحاديث أخر: منها حديث حذيفة، قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو موسى حدثنا أبو عمرو بن عاصم حدثنا المعتمر عن أبيه عن قتادة عن الحسن بن جندب بن عبد الله أنه بلغه عن حذيفة –أو سمعه منه– يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر "إن في أمتي قوماً يقرءون القرآن ينثرونه نثر الدقل، يتأولونه على غير تأويله"، لم يخرجوه، كذا في تفسير الحافظ ابن كثير. ومنها حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أتخوف على أمتي مؤمناً ولا مشركاً، فأما المؤمن فيحجزه إيمانه، وأما المشرك فيقمعه كفره، ولكن أتخوف عليكم منافقاً عليم اللسان يقول ما تعرفون ويعمل ما تنكرون". رواه الطبراني في الصغير والأوسط من رواية الحارث وهو الأعور، وقد وثقه ابن حبان وغيره. ومنها حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي كل منافق عليم اللسان". رواه الطبراني في الكبير والبزار ورواته محتج بهم في الصحيح، ورواه أحمد من حديث عمر بن الخطاب، كذا في الترغيب والترهيب للمنذري، وقال في مجمع الزوائد: رواه البزار وأحمد وأبو يعلى ورجاله موثقون. ومنها حديث معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني أخاف عليكم ثلاثاً، وهن كائنات: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تفتح عليكم". رواه الطبراني في الثلاثة، وفيه عبد الحكيم بن منصور وهو متروك الحديث. ومنها حديث معاذ بن جبل أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "إياكم وثلاثة: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم، فأما زلة عالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم، وإن يزل فلا تقطعوا عنه أعمالكم، وأما جدال منافق بالقرآن فإن للقرآن

مناراً كمنار الطريق، فما عرفتم فخذوه، وما أنكرتم فردوه إلى عالمه، وأما دنيا تقطع أعناقكم فمن جعل الله في قلبه غني فهو غني". رواه الطبراني في الأوسط، وعمرو بن مرة لم يسمع من معاذ، وعبد الله بن صالح كاتب الليث وثقه عبد الملك بن شعيب بن الليث، ويحيى في رواية منه، وضعفه أحمد وجماعة. ومنها حديث عمرو بن عوف قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إني أخاف على أمتي من ثلاث: من زلة عالم، ومن هوى متبع، ومن حكم جائر". رواه البزار وفيه كثير بن عبد الله بن عوف وهو متروك، وقد حسن له الترمذي. ومنها حديث عمر بن الخطاب قال: حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلّ منافق عليم اللسان. رواه البزار وأحمد وأبو يعلى ورجاله موثقون. ومنها حديث عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني أخاف على أمتي اثنتين: القرآن واللبن، أما اللبن فيتبعون الريف ويتبعون الشهوات ويتركون الصلاة، وأما القرآن فيتعلمه المنافقون فيجادلون به الذين آمنوا". رواه أحمد والطبراني في الكبير وفيه دراج أبو السمح، وهو ثقة مختلف في الاحتجاج به، كذا في مجمع الزوائد. وعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال قلت لا، قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين. رواه الدارمي. وعن عمرو بن الأشجع أن عمر بن الخطاب قال: إنه سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله. رواه الدارمي. و (السادس) أن المراد في الحديث –على تقدير ثبوته– رجل يبتغي تأويل ما تشابه من القرآن، يدل عليه ما أخرجه أبو القاسم في المعجم الكبير عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خصال: أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا، وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} . الآية. وأن يروا ذا علمهم فيضيعوه ولا يبالون عليه". كذا في تفسير ابن كثير. وقبحُ تأويل ما تشابه من القرآن ثابت بالكتاب، أي قوله تعالى: {فَأَمَّا

الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} . الآية. وبالسنة الصحيحة وهو ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} . وقرأ إلى {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فإذا رأيت –وعند مسلم رأيتم– الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم" متفق عليه. والخوارج داخلون فيهم دخولاً أولياً، بل إن قيل إنهم هم المراد في الحديث الذي ذكره صاحب الرسالة في الآية لم يكن بعيداً، فإن أول بدعة وقعت في الإسلام هي فتنة الخوارج ثم تشعبت منهم شعوب وقبائل وآراء وأهواء ومقالات ونحل كثيرة منتشرة، ثم انبعثت القدرية، ثم المعتزلة، ثم الجهمية، وغير ذلك من أهل البدع، فهم أصل كل أهل البدعة ورأسهم1، ويهديك إليه ما أخرجه الحافظ أبو يعلى عن الحسن بن جندب بن عبد الله أنه بلغه عن حذيفة أو سمعه منه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر: "إن في أمتي قوماً" الحديث وقد ذكر آنفاً. وما أخرجه أحمد عن أبي غالب قال: سمعت أبا أمامة يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} . قال: هم الخوارج. وفي قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} . وقد رواه ابن مردويه من غير وجه عن أبي غالب عن أبي أمامة فذكره، كذا في تفسير ابن كثير، فالفرد الكامل للحديث والآية هو الخوارج، ولكل أهل بدعة كفل منها على قدر بدعته، حتى الخلف من الذين يسمون أنفسهم أهل السنة، ومنهم صاحب الرسالة، فإنهم يؤولون آيات الصفات وأحاديثها. وإذا عرفت هذا فاعلم أن الشيخ ليس مصداق هذا الحديث بيقين، فإنه يشنع تشنيعاً بليغاً على من يتبغي تأويل المتشابهات، فكيف يكون مصداقه؟ وقد عقد في كتاب التوحيد باباً لما جاء في اتباع المتشابه، وقد ذكر فيه حديث عائشة المذكور، وأثر عمر رضي الله عنه: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ الحديث، وقال: ولما سمع

_ 1 نسى المؤلف هنا غلاة الشيعة كالسبأيين، فهم قبل الخوارج وشر منهم.

صبيغ يسأل عن الذاريات وأشباهها فعل به عمر ما فعل، والقصة مشهورة، وقال في الرسالة التي اختصرت لأهل مكة: فأخبرناه بأن مذهبنا في أصول الدين مذهب أهل السنة والجماعة وطريقتنا طريقة السلف التي هي الطريق الأسلم والأعلم والأحكم، خلافاً لمن قال طريقة الخلف أعلم، وهي أنا نقر آيات الصفات والأحاديث على ظاهرها ونكل معناها إلى الله تعالى، فإن مالكاً وهو من أجل علماء السلف لما سئل عن الاستواء قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. قوله: وأعجب من ذلك كله أنه كان يكتب إلى عماله الذين هم من أجهل الجاهلين: اجتهدوا بحسب فهمكم، وانظروا حكماً بما ترونه مناسباً لهذا الدين. أقول: هذا كذب بحت، فإن الشيخ قال في الرسالة التي اختصرت لأهل مكة: ونحن أيضاً في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، ولا ننكر على من قلد أحد الأربعة، دون غيرهم لعدم ضبط مذاهب الغير كالرافضة والزيدية والإمامية ونحوهم، فلا نقرهم على شيء من مذاهبهم الفاسدة بل نجبرهم على تقليد أحد الأئمة الأربعة1، ولا نستخف بمرتبة الاجتهاد المطلق ولا أحد لدينا يدعيها، إلا أننا في بعض المسائل إذا صح لنا نص جلي من كتاب أو سنة غير منسوخ ولا مخصص ولا معارض بأقوى منه وقال به أحد الأئمة الأربعة أخذنا به وتركنا الحديث كإرث الجد والأخوة، فإنا نقدم الجد وإن خالف مذهب الحنابلة، ولا نفتش على أحد في مذهبه ولا نعترض إلا إذا اطلعنا على نص جلي كذلك مخالف لمذهب بعض الأئمة، وكانت المسألة مما يحصل به شعار ظاهر كإمام الصلاة فنأمر الحنفي والمالكي مثلاً بالمحافظة على نحو الطمأنينة في الاعتدال والجلوس بين السجدتين لوضوح دليل ذلك، بخلاف جهر الإمام الشافعي بالبسملة وشتان بين المسألتين، فإذا قوي الدليل أرشدناهم بالنص وإن خالف المذهب، وذلك إنما يكون نادراً جداً، ولا مانع من الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض فلا مناقضة لعدم دعوى الاجتهاد المطلق، وقد سبق جمع من أئمة المذاهب

_ 1 تقدم أن مذاهبهم مدونة، وقوله ولا نستخف كانت ولا نستحق ولعله تصحيف.

الأربعة إلى اختيارات لهم في بعض المسائل مخالفة للمذهب الملتزمين تقليد صاحبه. اهـ. قوله: وقد اعتنى كثير من العلماء من أهل المذاهب الأربعة للرد عليه. أقول: قد اعتنى كثير من العلماء من أهل التحقيق بالجواب على ذلك الرد. قوله: وسألوه عن مسائل يعرفه أقل طلبة العلم فلم يقدر على الجواب عنها، لأنه لم يكن له تمكن في العلوم. أقول: تمكنه في العلوم الدينية مما لا مجال للكلام فيه، فإن الشيخ إمام الموحدين ورأس العلماء العاملين، وغرة الأئمة المحققين، كان حفظ القرآن عن ظهر قلبه قبل بلوغه العشر، وكان حاد الفهم، سريع الحفظ، اشتغل في العلم عن أبيه، وأخذ في القراءة على والده في الفقه، ورحل في العلم وسار، وجد في الطلب فزاحم فيه العلماء الكبار، وأخذ العلم عن جماعة منهم الشيخ عبد الله بن إبراهيم النجدي ثم المدني، وقد سمع رحمه الله الحديث والفقه من جماعة بالبصرة كثيرة وقرأ بها النحو وأتقن تحريره، وكتب الكثير من اللغة والحديث، فلله دره من جهبذ عالم، وداع إلى توحيد الله قائم، وناصح لله ملازم، ومجدد لتلك المشاهد السنية والمعالم، كذا في الروضة للشيخ حسين بن غنام الأحسائي، وقال عالم صنعاء وشيخها: قفي واسألي عن عالم حل سوحها ... به يهتدي من ضل عن منهج الرشد محمد الهادي لسنة أحمد ... فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي لقد سرني ما جاءني من طريقه ... وكنت أرى هذى الطريقة لي وحدي وقال عالم الأحساء وشيخها: لقد رفع المولى به رتبة الهدى ... بوقت به يعلو الضلال ويرفع وجرت به نجد ذيول افتخارها ... وحق لها بالألمعي ترفع وقد عرف طلب الشيخ ورحلته في تحصيله كما ذكره صاحب التاريخ الشيخ حسين بن غنام الأحسائي، وقد اجتمع بأشياخ الحرمين في وقته ومحدثيها وأجازه بعضهم ورحل إلى البصرة، وسمع وناظر، وإلى الأحساء وهي إذ ذاك آهلة بالعلماء فسمع من أشياخها، وباحث في أصول الدين ومقالات الناس في الإيمان وغيره، وسمع من

والده ومن فقهاء نجد في وقته، واشتهر عندهم بالعلم والذكاء، كذا قاله بعض المحققين في تأليف رد فيه على (جلاء الغمة في تكفير هذه الأمة) . وللشيخ رسائل وتأليفات تدل على سعة علمه، منها (كتاب التوحيد) وكتاب (أصول الإيمان واستنباط الأحكام من بعض السور وغيرها) . وحكاية السؤال عن المسائل وعدم القدرة على الجواب عنها حكاية رجل خائن لا يعتمد على حكايته. قوله: فمن جملة ما سأله عنه قوله أسألك عن قوله تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً} . إلى آخر السورة التي هي من قصار المفصل كم فيها من حقيقة شرعية وحقيقة لغوية وحقيقة عرفية –إلى قوله– وما فيها من احتراس وتتميم، وبين لنا موضع كل ما ذكر، فلم يقدر محمد بن عبد الوهاب على الجواب عن شيء مما سأله عنه. أقول: الكلام فيه من وجوه: (الأول) عدم الاعتماد على هذه الحكاية، و (الثاني) عدم القدرة على جواب مثل هذا السؤال لا يدل على عدم تمكنه في العلوم الدينية من الحديث والتفسير والفقه. و (الثالث) أن هذا السؤال من جنس محارات العلماء وهي غير جائزة، بل من جنس الأغلوطات وهو منهي عنه، لما روى أبو داود عن معاوية قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات. وعن تميم الداري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل مشكل حرام، وليس في الدين إشكال". رواه الطبراني في الكبير، وفيه الحسين بن عبد الله بن ضميرة وهو مجمع على ضعفه. وعن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سيكون أقوام من أمتي يتعاطون فقهاءهم عضل المسائل، أولئك شرار أمتي". رواه الطبراني، وفيه يزيد بن ربيعة وهو متروك، كذا في مجمع الزوائد. قال الذهبي في ترجمة الحسين بن عبد الله بن ضميرة كذبه مالك، وقال أبو حاتم متروك الحديث، وقال أحمد لا يساوي شيئاً، وقال ابن معين ليس بثقة ولا مأمون، وقال البخاري: منكر الحديث ضعيف، وقال أبو زرعة ليس بشيء أضرب على حديثه اهـ. وقال في ترجمة يزيد بن ربيعة الرحبي الدمشقي: قال البخاري أحاديثه مناكير، وقال أبو داود وغيره ضعيف، وقال النسائي متروك، قال أبو مسهر: كان يزيد بن

ربيعة فقيهاً غير متهم ما ننكر عليه أنه أدرك أبا الأشعث، ولكن أخشى عليه سوء الحفظ والوهم، وقال الجوزجاني أخاف أن تكون أحاديثه موضوعة، وأما ابن عدي فقال أرجو أنه لا بأس به. اهـ. وحديث تميم الداري وثوبان وإن كانا ضعيفين ولكن يكفيان للاستئناس والتقوية، لا يقال إن حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم فحدثوني ما هي"؟ الحديث رواه البخاري يدل على خلاف ما رواه أبو داود عن معاوية، قلت: دلالته على الخلاف غير مسلمة، فإن حديث ابن عمر يدل على أن امتحان العالم أذهان الطلبة بما يخفى مع بيانه لهم إن لم يفهموه جائز، وأما حديث معاوية فمحمول على صعاب المسائل مما لا نفع فيه أو ما خرج على سبيل تعنيت المسئول أو تعجيزه، كذا قال الحافظ في الفتح، ولا ريب أن السؤال الذي ذكره المؤلف خرج على سبيل تعنيت المسئول وتعجيزه. و (الرابع) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وأهل بيته رضوان الله عليهم أجمعين، وأهل العلم من التابعين وتبع التابعين، ولا سيما الأئمة الأربعة من الفقهاء والأئمة الستة من أهل الحديث لو سئلوا عن أمثال تلك المسائل فهل يقدرون على الجواب عن شيء منها أم لا؟ على الثاني فللشيخ رحمه الله تعالى أسوة حسنة في هؤلاء السادة الكبار، والأول مستبعد جداً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يعرف شيئاً من حقيقة شرعية وحقيقة لغوية وحقيقة عرفية ومجاز مرسل وغيرها من الأمور المذكورة في هذا السؤال، وكذا أصحابه وأهل بيته رضي الله عنهم، وكذلك أهل العلم من التابعين وتبع التابعين، وكذلك الفقهاء الأربعة والأئمة الستة. قوله: وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء الخوارج في أحاديث كثيرة فكانت تلك الأحاديث من أعلام نوبة النبي صلى الله عليه وسلم لأنها من الإخبار بالغيب، وتلك الأحاديث كلها صحيحة بعضها في صحيحي البخاري ومسلم وبعضها في غيرهما. أقول: كون الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه مصداق تلك الأحاديث

وكذلك كون تلك الأحاديث كلها صحيحة محل نظر، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى. قوله: فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: "الفتنة من ههنا، الفتنة من ههنا". وأشار إلى المشرق. أقول: رواه البخاري في كتاب الفتن من حديث ابن عمر ولفظه هكذا: عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام إلى جنب المنبر فقال: "الفتنة ههنا، الفتنة ههنا، من حيث يطلع قرن الشيطان" أو قال: "قرن الشمس". وفي رواية عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مستقبل المشرق يقول: "ألا إن الفتنة ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان". وفي رواية عنه قال ذكر النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا". قالوا: وفي نجدنا؟ قال: "اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا". قالوا: يا رسول الله وفي نجدنا؟ فأظنه قال في الثالثة "هناك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان" 1. انتهى. قال الحافظ في الفتح قوله: "الفتنة ههنا، الفتنة ههنا" كذا فيه مرتين، وفي رواية يونس "ها إن الفتنة ههنا". أعادها ثلاث مرات، قوله: "من حيث يطلع قرن الشيطان". أو قال "قرن الشمس". كذا هنا بالشك، وفي رواية عبد الرزاق "ههنا أرض الفتن". وأشار إلى المشرق يعني حيث يطلع قرن الشيطان، وفي رواية شعيب "ألا إن الفتنة ههنا" يشير إلى المشرق حيث يطلع قرن الشيطان، وفي رواية يونس مثل معمر لكن لم يقل: أو قال "قرن الشيطان" بل قال: يعني المشرق. ولمسلم من رواية عكرمة بن عمار عن سالم سمعت ابن عمر يقول سمعت رسول الله

_ 1 قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: وقال الخطابي "نجد من جهة المشرق، ومن كان بالمدينة كان نجده بادية العراق ونواحيها، وهي مشرق أهل المدينة، وأصل (النجد) ما ارتفع من الأرض، وهي خلاف (الغور) فإنه ما انخفض من منها، وتهامة كلها من الغور، ومكة من تهامة، انتهى. ثم قال ابن حجر: وعرف بهذا وهاء ما قاله الداودي إن نجداً من ناحية العراق، كأنه توهم أن نجداً موضع مخصوص، وليس كذلك، بل كل شيء ارتفع بالنسبة إلى ما يليه يسمى نجداً، والمنخفض غوراً. وانظر كتاب (مع الرعيل الأول) فصل "هل أخطأ الأحنف". ص192-195.

صلى الله عليه وسلم يشير بيده نحو المشرق ويقول: ها إن الفتنة ههنا" ثلاثاً "حيث يطلع قرن الشيطان ". وله من طريق حنظلة عن سالم مثله، لكن قال "إن الفتنة ههنا" ثلاثاً، وله من طريق فضيل بن غزوان سمعت سالم بن عبد الله بن عمر يقول: يا أهل العراق، ما أسألكم عن الصغيرة وأركبكم للكبيرة، سمعت أبي يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الفتنة تجيء من ههنا" وأومأ بيده نحو المشرق "من حيث يطلع قرنا الشيطان" كذا فيه بالتثنية، وله في صفة إبليس من طريق مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر مثل سياق حنظلة سواء، وله نحوه من رواية سفيان الثوري عن عبد الله ابن دينار أخرجه في الطلاق ثم ساق هنا من رواية الليث عن نافع عن ابن عمر مثل رواية يونس إلا أنه قال: "ألا أن الفتنة ههنا" ولم يكرر، وكذا لمسلم، وأورده الإسماعيلي من رواية أحمد بن يونس عن الليث فكررها مرتين. اهـ. قلت: قد عرفت من هنا أن زيادة لفظ "من" لا تعرف في شيء من طرق الحديث ولعلها من أغلاط المؤلف، ولا يستبعد ذلك منه، فإنه كثيراً ما يغلط في نقل الروايات لأنه ليس من أهل هذا الشأن، وهذا الحديث لا شك في صحته، وقد وردت في هذا المعنى أحاديث صحيحة أخر: منها ما روى البخاري في المناقب عن أبي مسعود يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ههنا جاءت الفتن –نحو المشرق– والجفاء وغلظ القلوب في الفدادين أهل الوبر عند أصول أذناب الإبل والبقر، في ربيعة ومضر". ولفظ مسلم هكذا عن أبي مسعود قال: أشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده نحو اليمين فقال: "ألا إن الإيمان ههنا وإن القسوة، وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل حيث يطلع قرنا الشيطان في ربيعة ومضر". ولمسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأس الكفر نحو المشرق" والفخر والخيلاء في أهل الخيل والإبل الفدادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم". وله في رواية عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان يمان، والكفر قبل المشرق

والسكينة في أهل الغنم والفخر والرياء في الفدادين أهل الخير والوبر ". وله في رواية عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "جاء أهل اليمن، هم أرق أفئدة وأضعف قلوباً، الإيمان يمان والحكمة يمانية، والسكينة في أهل الغنم، والفخر والخيلاء في الفدادين أهل الوبر قبل مطلع الشمس". وله في رواية عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتاكم أهل اليمن هم ألين قلوباً وأرق أفئدة، الإيمان يمان والحكمة يمانية، رأس الكفر قبل المشرق". وله عن جابر بن عبد الله يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "غلظ القلوب والجفاء في المشرق، والإيمان في أهل الحجاز". قال الحافظ في الفتح: وقال غيره –أي غير الخطابي– كان أهل المشرق يومئذ أهل كفر، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الفتنة تكون من تلك الناحية فكان كما أخبر، وأول الفتن كان من قبل المشرق فكان ذلك سبباً للفرقة بين المسلمين، وذلك ما يحبه الشيطان ويفرح به، وكذلك البدع نشأت من تلك الجهة. اه‍ وقال القسطلاني: إنما أشار عليه الصلاة والسلام إلى المشرق لأن أهله يومئذ أهل كفر فأخبر أن الفتنة تكون من تلك الناحية، وكذا وقع فكان وقعة الجمل ووقعة صفين ثم ظهور الخوارج في أرض نجد والعراق وما وراءها من المشرق، وكان أصل ذلك كله وسببه قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهذا علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم. اهـ. وقال أيضاً: يبدأ من المشرق ومن ناحيتها يخرج يأجوج ومأجوج والدجال، وبها الداء العضال، وهي الهلاك في الدين" اهـ. وقال النووي: والمراد بذلك اختصاص المشرق بمزيد من تسلط الشيطان ومن الكفر كما قال في حديث آخر "رأس الكفر نحو المشرق". وكان ذلك في عهده صلى الله عليه وسلم حين قال ذلك، ويكون حين يخرج الدجال من المشرق وهو فيما بين ذلك منشأ الفتن

العظيمة، ومثار لكفرة الترك الفاسقة العاتية الشديدة البأس. اهـ. وقال صاحب مجمع البحار: ومنه حديث "قرنا الشيطان قبل المشرق" أي جمعاه المعنويان أو شيعتاه من الكفار، يريد مزيد تسلطه في المشرق وكان ذلك في عهده صلى الله عليه وسلم ويكون حين يخرج الدجال من المشرق، وهو فيما بين ذلك منشأ الفتن العظيمة ومثار الترك العاتية. اهـ. ولا يخفى عليك أن لفظاً من ألفاظ هذا الحديث لا يقتضي أن كل من يولد في المشرق أو يسكن فيه يكون مصداقاً لهذا الحديث حتى يثبت ما ادعاه المؤلف من كون الشيخ مصداقاً له، والمؤلف لم يبين وجه الاستدلال به حتى يتكلم فيه ويجاب عليه، ومجرد وقوع الفتنة في موضع لا يستلزم ذم كل من يسكنه. ألا ترى إلى ما روى الشيخان عن أسامة بن زيد قال: أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على أطم من آطام المدينة فقال: "هل ترون ما أرى"؟ قالوا: لا. قال: "فإني لأرى الفتن تقع في خلال بيوتكم كوقع المطر". وإلى ما روى أبو داود عن أبي ذر قال: كنت رديفاً خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً على حمار، فلما جاوزنا بيوت المدينة، قال: "كيف بك يا أبا ذر إذا كان بالمدينة جوع تقوم عن فراشك ولا تبلغ مسجدك حتى يجهدك الجوع؟ قال قلت: الله ورسوله أعلم. قال: تعفف يا أبا ذر. قال: كيف بك يا أبا ذر إذا كان بالمدينة موت يبلغ البيت العبد حتى أنه يباع القبر بالعبد"؟ قال قلت: الله ورسوله أعلم. قال "تصبر يا أبا ذر" قال: "كيف بك يا أبا ذر إذا كان بالمدينة قتل تغمر الدماء أحجار الزيت"؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "تأتي من أنت منه" قال قلت وألبس السلاح؟ قال: "شاركت القوم إذاً". قلت فكيف أصنع يا رسول الله؟ قال: "إن يبهرك شعاع السيف فالق ناحية ثوبك على وجهك ليبوء بإثمك وإثمه" 1.

_ 1 هذا الحديث أخرجه البغوي في المصابيح وعزاه مخرجوه وصاحب المشكاة إلى أبي داود، وهو غير موجود في نسخ أبي داود التي في الأيدي بهذا اللفظ، ولكنه جاء فيه بلفظ آخر يشير إلى أنه سبقه غيره، وأحجار الزيت مكان في المدينة معروف، قال بعضهم: هو الموضع الذي وقعت فيه الوقعة في زمن يزيد بن معاوية حين استباح المدينة وهو من جهتها الغربية، وقوله: "تأتي من أنت منه". وعند أبي داود "عليك بمن أنت منه". معناه: الزم أهلك وعشيرتك ولا تنغمس في الفتنة، وقيل الزم إمامك الذي بايعته. وكتبه محمد رشيد رضا.

وإلى ما روى البخاري عن ابن المسيب قال: وقعت الفتنة الأولى –يعني مقتل عثمان– فلم يبق من أصحاب بدر أحد، ثم وقعت الفتنة الثانية –يعني الحرة– فلم يبق من أصحاب الحديبية أحد، ثم وقعت الفتنة الثالثة فلم ترفع وبالناس طباخ. وهذه الأحاديث وغيرها مما ورد في هذا الباب دلالة على وقوع الفتن في المدينة النبوية، فلو كان وقوع الفتنة في موضع مستلزماً لذم ساكنيه لزم ذم سكان المدينة كلهم أجمعين، وهذا لا يقول به أحد، على أن مكة والمدينة كانتا في زمان موضع الشرك والكفر، وأي فتنة أكبر منهما؟ بل وما من بلدة أو قرية إلا وقد كانت في زمن أو ستصير في زمان موضع الفتنة، فيكف يجترئ مؤمن على ذم جميع مسلمي الدنيا؟ وإنما مناط ذم شخص معين كونه مصدراً للفتن من الكفر والشرك والبدع والظلم، وأما مجرد تولده في موضع الفتنة أو سكناه فيه مع كونه ماحياً للفتن، ومحيياً للسنن، فليس سبباً للذم والعيب، بل موجب للثناء والوصف الجميل، كيف لا وهو كالمقاتل خلف الفارين، وكغصن أخضر في شجر يابس، ومثل مصباح في بيت مظلم؟ كما ورد في الحديث. وملاك الأمر في كون الرجل أولى الناس بالرسول هو تقواه من كان وحيث كان يدل عليه ما روى الإمام أحمد بن محمد بن حنبل عن معاذ بن جبل قال: لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن خرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيه ومعاذ راكب ورسول الله

صلى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته، فلما فرغ قال: "يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري". فبكى معاذ جشعاً1 لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم التفت فأقبل بوجهه نحو المدينة فقال: "إن أولى الناس بي المتقون، من كانوا وحيث كانوا". قوله: وقوله صلى الله عليه وسلم: "يخرج ناس من قبل المشرق ويقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه، سيماهم التحليق" والفوق بضم الفاء موضع الوتر. أقول: الحديث أخرجه البخاري في كتاب التوحيد عن معبد بن سيرين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج ناس من قبل المشرق ويقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه". قيل ما سيماهم؟ قال: "سيماهم التحليق، أو قال: التسديد". اهـ. وليس فيما نقله المؤلف لفظ "ثم" ولا لفظة "قيل ما سيماهم". وأخرج مسلم عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قوماً يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس سيماهم التحالق، قال: "هم شر الخلق أو من أشر الخلق، يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق". قال: فضرب النبي صلى الله عليه وسلم لهم مثلاً أو قال قولاً "الرجل يرمي الرمية –أو قال: الغرض– فينظر في النصل فلا يرى بصيرة، وينظر في النضّي فلا يرى بصيرة2، وينظر في الفوق فلا يرى بصيرة، قال: قال أبو سعيد: وأنتم قتلتموهم يا أهل العراق". اهـ. وفي رواية له عن سهل بن حنيف قال: "يتيه قوم قبل المشرق محلقة رءوسهم".

_ 1 الجشع بالتحريك: الجزع لفراق الإلف، وهو المراد هنا كما في اللسان وغيره. قال: والجشع أسوأ الحرص وقيل أشده على الطعام وغيره. وكتبه محمد رشيد رضا. 2 النضي كغني: قدح السهم، أو ما جاوز الريش منه إلى النصل، والبصيرة: أثر الدم.

وأخرج أبو داود عن أبي سعيد الخدري وأنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سيكون في أمتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون القيل، ويسيئون الفعل، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، لا يرجعون حتى يرتد على فوقه، هم شر الخلق والخليقة، طوبى لمن قتلهم وقتلوه، يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء، من قاتلهم كان أولى بالله تعالى منهم، قالوا: يا رسول الله ما سيماهم؟ قال: "التحليق". وله عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم ... نحوه، قال: "سيماهم التحليق والتسبيد1 فإذا رأيتموهم فأنيموهم". وأخرج النسائي عن شريك بن شهاب قال: كنت أتمنى أن ألقى رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أسأله عن الخوارج، فلقيت أبا برزة في يوم عيد في نفر من أصحابه، فقلت له: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الخوارج؟ فقال: نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني ورأيته بعيني: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال فقسمه، فأعطى من عن يمينه ومن عن شماله ولم يعط من وراءه شيئاً، فقام رجل من ورائه فقال: يا محمد ما عدلت في القسمة، رجل أسود مطموم الشعر2 عليه ثوبان أبيضان، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً، وقال: "والله لا تجدون بعدي رجلاً هو أعدل مني" ثم قال: "يخرج في آخر الزمان قوم كأن هذا منهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، سيماهم التحليق، لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم مع المسيح الدجال، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، هم شر الخلق والخليقة". قال أبو عبد الرحمن: شريك بن شهاب ليس بذلك المشهور". اهـ. وأخرج ابن ماجه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخرج في آخر الزمان –أو في هذه الأمة– قوم يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم أو حلوقهم، إذا رأيتموهم –أو إذا لقيتموهم– فاقتلوهم". اهـ.

_ 1 التحليق المبالغة في حلق الشعر، والتسبيد بالباء استئصاله، فهو بمعناه، وقيل: هو التشعيث بترك الغسل والدهن، وفي نسخة والتمسيد بالميم وهو بمعناه. وكتبه محمد رشيد رضا. 2 أي محلوقة.

قال الحافظ في الفتح: وقد ذكر صلى الله عليه وسلم للخوارج علامة أخرى، ففي رواية معبد ابن سيرين عن أبي سعيد قال: ما سيماهم؟ قال: "سيماهم التحليق" وفي رواية عاصم بن سمح عن أبي سعيد: فقام رجل فقال: يا نبي الله هل في هؤلاء القوم علامة؟ قال: "يحلقون رءوسهم، فيهم ذو ثدية" وفي حديث أنس عن أبي سعيد "هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتا". قيل: يا رسول الله ما سيماهم؟ قال: "التحليق ". هكذا أخرجه الطبري، وعند أبي داود بعضه. اهـ. هذا ما اطلعت عليه من الأحاديث التي فيها ذكر الحلق، وليس فيها اللفظ الذي نقله المؤلف، ولعل هذا من أوهامه وأغلاطه. قوله: وقوله صلى الله عليه وسلم "سيكون من أمتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل ". الحديث. أقول: قد عرفت فيما سبق أن الحديث أخرجه أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري وأنس بن مالك، ولكن أخطأ المؤلف في نقله في مواضع: (الأول) أنه زاد لفظة "إيمانهم". حيث قال لا يجاوز إيمانهم تراقيهم. و (الثاني) أنه قال لفظة "يعود" موضع يرتد. و (الثالث) أنه زاد لفظة "السهم". و (الرابع) أنه قال لفظة "إلى" موضع على. و (السادس) أنه قال: "لمن قتلهم أو قتلوه" بأو والموجود في سنن أبي داود "لمن قتلهم وقتلوه". بالواو. قوله: وقوله صلى الله عليه وسلم: "سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام يقولون قول خير البرية، الحديث. أقول: هذا حديث علي قد أخرجه البخاري عن سويد بن غفلة قال علي رضي الله عنه: إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فوالله لأن أخر من السماء أحب إليّ من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة. وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيخرج قوم في آخر الزمان حداث الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق

السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرأ لمن قتلهم يوم القيامة، وفي لفظ له "يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن قلتهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة". أخرجه مسلم ولفظه هكذا: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة". اهـ. وأخرجه أبو داود ولفظه هكذا: "يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة". وأخرجه النسائي ولفظه: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة". وأخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الله بن مسعود. أما لفظ الترمذي فهكذا: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يقولون من قول خير البرية، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية". وأما لفظ ابن ماجه فهكذا: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول الناس، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، فمن لقيهم فليقتلهم فإن قتلهم أجر عند الله لمن قتلهم". اهـ. واللفظ الذي نقله المؤلف لا يوافق شيئاً مما ذكر من الروايات، أما الرواية الأولى للبخاري فلأن لفظ البخاري "سيخرج قوم في آمر الزمان" ونقل المؤلف "سيخرج

في آخر الزمان قوم". ولفظ البخاري "حداث الأسنان" والمؤلف قال: "أحداث الأسنان" ولفظ البخاري "يقولون من خير قول البرية". والمؤلف قال: "يقولون قول خير البرية". وزاد لفظة "يقرءون القرآن" وهذه اللفظة ليست في تلك الرواية وحذف لفظة "إيمانهم" وإنما لفظ هذه الرواية هكذا "لا يجاوز إيمانهم حناجرهم" ولفظة الرواية "فأينما لقيتموهم" وقال المؤلف "فإذا لقيتموهم" والمؤلف زاد لفظة "عند الله" من عند نفسه، ولفظة الرواية هكذا "لمن قتلهم يوم القيامة". وأما الرواية الثانية له فأيضاً تخالف ما ذكره المؤلف من وجوه، وهي أن لفظة هذه الرواية "يأتي في آخر الزمان قوم" وقال المؤلف "سيخرج في آخر الزمان قوم" وفي الرواية "حدثاء الأسنان" وقال المؤلف "أحداث الأسنان" ولفظ الرواية "يقولون من خير قول البرية" وقال المؤلف "يقولون قول خير البرية" وزاد المؤلف لفظ "يقرءون القرآن" وليس هذا اللفظ في تلك الرواية أصلاً، ولفظ الرواية "لا يجاوز إيمانهم حناجرهم" وليس لفظ إيمانهم فيما نقله المؤلف، وجملة "يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية" قبل قوله صلى الله عليه وسلم "لا يجاوز إيمانهم حناجرهم" في الرواية، وفيما ذكره المؤلف عكس القضية، ولفظ الرواية "يمرقون من الإسلام" وفيما نقله المؤلف "يمرقون من الدين" ولفظ الراوية "فأينما لقيتموهم" وفيما نقله المؤلف" فإذا لقيتموه" ولفظ الرواية "فإن قتلهم أجر" وفيما نقله المؤلف "فإن في قتلهم أجراً" وزاد المؤلف لفظ "عند الله" من عند نفسه وهذا اللفظ ليس في الرواية. وأما رواية مسلم فهي وإن كانت أقرب الروايات إلى ما ذكره المؤلف ولكنها ليست عينه، فإن لفظ الرواية "يقولون من خير قول البرية" وقال المؤلف "يقولون قول خير البرية". وأما رواية أبي داود فعين الرواية الثانية للبخاري فحالها حالها.

وأما رواية النسائي فأيضاً مخالفة لما ذكره المؤلف، فإن لفظ الراوية "يخرج قوم في آخر الزمان" والمؤلف قال "سيخرج في آخر الزمان" والرواية "يقولون من خير قول البرية" ونقل المؤلف "يقولون قول خير البرية" وزاد لفظ "يقرءون القرآن" وحذف لفظ "إيمانهم" والراوية "فإن قتلهم أجر" وقال المؤلف "فإن في قتلهم أجراً" وزاد "عند الله" من عند نفسه. وأما رواية الترمذي فأيضاً مخالفة لما ذكره المؤلف، فإن الرواية "يخرج في آخر الزمان" وقال المؤلف "سيخرج" وفي الرواية جملة "يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم" قبل قوله صلى الله عليه وسلم "يقولون من قول خير البرية" وفيما ذكره المؤلف عكس القضية ولفظ الراوية "تراقيهم" وفيما ذكره المؤلف "حناجرهم" وفي الرواية "يقولون من قول خير البرية" والمؤلف نقل "يقولون قول خير البرية" وقوله "فإذا لقيتموهم" الحديث ليس في رواية الترمذي. وأما رواية ابن ماجه فأيضاً تخالف ما ذكره المؤلف، فإن الرواية "يخرج" والمؤلف زاد لفظ السين والرواية "يقولون من خير قول الناس" والمؤلف ذكر "يقولون قول خير البرية" والراوية "تراقيهم" وذكر المؤلف "حناجرهم" والراوية "يمرقون من الإسلام" والمؤلف قال "يمرقون من الدين" والراوية "فمن لقيهم فليقتلهم" والمؤلف قال "فإذا لقيتموهم فاقتلوهم" والراوية "فإن قتلهم أجر عند الله لمن قتلهم" والمؤلف قال "فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة". قوله: وقوله صلى الله عليه وسلم: "أناس من أمتي سيماهم التحليق يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية، هم شر الخلق والخليقة". أقول: قد راجعت الأمهات الست وسنن الدارمي والموطأ وزوائد مسند البزار فما وجدت الحديث بهذا اللفظ، فعلى مدعي صحته بيان تخريجه وإثبات دعواه. قوله: وقوله صلى الله عليه وسلم: "يخرح ناس من المشرق يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه، سيماهم التحليق".

أقول لفظه قريب مما رواه البخاري في آخر كتاب التوحيد من طريق معبد ابن سيرين عن أبي سعيد الخدري، وقد تقدم، ولكن ليس عينه، فإن الرواية "من قبل المشرق" والمصنف هنا أسقط لفظ "قبل" والراوية "يقرءون القرآن" بإثبات الواو والمؤلف قد حذفها هنا، والراوية "ثم لا يعودون فيه" والمؤلف لم يذكر لفظ "ثم" والراوية قيل ما سيماهم؟ قال" والمؤلف لم يذكر هذا، وهذا الحديث قريب من ثاني الأحاديث التي ذكرها المؤلف بيد أنه ليس في هذا اللفظ "قيل" والواو على رأس يقرءون. وبالجملة واجب على المؤلف تخريج هذين الحديثين –أي الثاني والسادس- وإثبات الفرق بينهما وتبيين صحتهما، ودونه خرط القتاد. قوله: وقوله صلى الله عليه وسلم "رأس الكفر نحو المشرق، والفخر والخيلاء في أهل الخيل والإبل". أقول: الحديث أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، وتمام الحديث هكذا" الفدّادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم" قوله: وقوله صلى الله عليه وسلم "من ههنا جاءت الفتن" وأشار نحو المشرق". أقول: أخرجه البخاري في المناقب من حديث أبي مسعود، لكن فيه "وأشار نحو المشرق" وقد تقدم. قوله: وقوله صلى الله عليه وسلم "غلظ القلوب والجفاء بالمشرق، والإيمان في أهل الحجاز". أقول: أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله كما تقدم، ولكن المؤلف قال "بالمشرق" وفي صحيح مسلم "في المشرق" وفي زوائد مسند البزار للهيثمي: حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا إسماعيل بن أبي إدريس حدثنا ابن أبي الزناد عن موسى بن عقبة عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"غلظ القلوب والجفاء في أهل المشرق، والإيمان يمان، والسكينة في أهل الحجاز".

قلت: رواه مسلم، خلا قوله: "والسكينة في أهل الحجاز" قال البزار: قد روى عن جابر من غير وجه اهـ. وقال في مجمع الزوائد: رواه البزار، وفيه ابن أبي الزناد وفيه خلاف، وبقية رجاله رجال الصحيح. اهـ. قوله: وقوله صلى الله عليه وسلم "اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا" قالوا يا رسول الله وفي نجدنا" 1 الحديث. أقول: أخرجه البخاري في أبواب الاستسقاء (باب ما قيل في الزلازل والآيات) ولفظه هكذا: حدثني محمد بن المثني قال حدثنا حسين بن الحسن قال حدثنا ابن عون عن نافع عن ابن عمر قال: قال:"اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا" قال قالوا: وفي نجدنا؟ قال فقال:"اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا" قال قالوا وفي نجدنا؟ قال قال "هنالك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان. اهـ. قال الحافظ في الفتح: حديث ابن عمر: "اللهم بارك لنا في شامنا" الحديث وفيه قالوا: وفي نجدنا؟ قال "هناك الزلازل والفتن" هكذا وقع في هذه الروايات التي اتصلت لنا بصورة الموقوف عن ابن عمر "قال اللهم بارك" لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم وقال القابس: سقط ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من النسخ ولابد منه، لأن مثله لا يقال بالرأي. اهـ. وهو من رواية الحسين بن الحسن النصري من آل مالك بن يسار عن عبد الله بن عون عن نافع، ورواه أزهر السمان عن ابن عون مصرحاً فيه بذكر النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في كتاب الفتن، ويأتي الكلام عليه أيضاً هناك، ونذكر فيه من وافق أزهر على التصريح برفعه إن شاء الله تعالى. وأخرج في كتاب الفتن ولفظه هكذا: حدثنا علي بن عبد الله حدثنا أزهر بن سعد عن ابن عون عن نافع عن ابن عمر قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم:"اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا" قالوا: يا رسول الله وفي نجدنا؟ قال "اللهم بارك لنا في شامنا اللهم بارك لنا في يمننا" قالوا: يا رسول الله وفي نجدنا؟ فأظنه قال في الثالثة

_ 1 انظر الهامش في ص 488، وسيأتي قريباً في ص503.

"هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان". اهـ. قال الحافظ في الفتح: كذا أورده عن علي بن عبد الله عن أزهر السمان، وأخرجه الترمذي عن بشر بن آدم ابن بنت أزهر حدثني جدي أزهر بهذا السند أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال. ومثله للإسماعلي من رواية أحمد بن إبراهيم الدورقي عن أزهر. وأخرجه من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عون عن أبيه كذلك، وقد تقدم من وجه آخر عن ابن عون في الاستسقاء. موقوفاً، وذكرت هناك الاختلاف فيه. اهـ. وقال في مجمع الزوائد: وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا" فقال رجل: وفي شرقنا يا رسول الله؟ فقال: "اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا" فقال رجل: وفي شرقنا يا رسول الله؟ قال: "اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا"1 إن من هناك يطلع قرن الشيطان وبه تسعة أعشار الكفر وبه الداء العضال" رواه الطبراني في الأوسط واللفظ له، وأحمد ولفظه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا" مرتين فقال رجل في مشرقنا يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من هناك يطلع قرن الشيطان وبه تسعة أعشار الشرك" ورجال أحمد رجال الصحيح، غير عبد الرحمن بن عطاء وهو ثقة وفيه خلاف لا يضر. اهـ. وفي موطأ مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب أراد الخروج إلى العراق فقال له كعب الأحبار: لا تخرج إليها يا أمير المؤمنين فإن بها تسعة أعشار السحر، وبها فسقة الجن، وبها الداء العضال. اهـ. قوله: وقوله صلى الله عليه وسلم: يخرج ناس من المشرق يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، كلما قطع قرن نشأ قرن آخر حتى يكون أخرهم مع المسيح الدجال. أقول: لم أقف على اللفظ، ولكن أخرج معناه النسائي من حديث أبي برزة وقد

_ 1 كذا في طبعة المنار، ولعله سقط منها أو من الطبعة الهندية قبلها: فقال رجل وفي شرقنا يا رسول الله؟ فقال.

ذكرناه فيما سلف، وأخرج ابن ماجة أيضاً معناه من حديث ابن عمر ولفظه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينشأ نشء يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، كلما خرج قرن قطع"، قال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلما خرج قرن قطع أكثر من عشرين مرة حتى يخرج في عراضهم الدجال". اهـ. وفي مجمع الزوائد عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج ناس من قبل المشرق يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، كلما قطع قرن نشأ قرن حتى يكون مع بقيتهم الدجال" رواه الطبراني وإسناده حسن. اهـ. وكل من تيك الأحاديث لم تصل إلى درجة الصحة، أما حديث أبي برزة فلأن راويه شريك بن شهاب مجهول، قال النسائي: شريك بن شهاب ليس بذلك المشهور، قال الذهبي في الميزان: شريك بن شهاب عن أبي برزة لا يعرف إلا براوية الأزرق بن قيس عنه. اهـ. وأما قول الحافظ ابن حجر في التقريب: مقبول. فلا يقتضي الصحة. وأما حديث ابن عمران فلأن راويه هشام بن عمار بن نصير قد كبر فصار يتلقن، قال الذهبي في الميزان: صدوق مكثر له ما ينكر، قال أبو حاتم: صدوق قد تغير فكان كل ما لقنه تلقن. وقال أبو داود: حدث بأربعمائة حديث لا أصل لها. اه‍ـ ملخصاً وهو وإن وثقه جماعة، لكن لا نسلم وصول ما تفرد به إلى درجة الصحة. وأما حديث عبد الله بن عمرو فإسناده وإن سلم كونه حسناً كما قال الهيثمي، ولكن حسن الإسناد لا يقتضي حسن الحديث فضلاً عن صحته. هذا الكلام منا كله كان متعلقاً بتخريج الأحاديث وصحتها، والآن ننظر في ما ادعاه المؤلف من كون الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه ممن يصدق عليهم تلك الأحاديث فنقول بحول الله وقوته: إن جهة المشرق منشأ الفتن ومبدؤها، قال الحافظ في الفتح تحت قوله صلى الله عليه وسلم

"رأس الكفر نحو المشرق" الواقع في كتاب بدء الخلق: وفي ذلك إشارة إلى شدة كفر المجوس، لأنه مملكة الفرس ومن أطاعهم من العرب كانت من جهة المشرق بالنسبة إلى المدينة، وكانوا في غاية القوة والتكبر والتجبر حتى مزق ملكهم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في موضعه، واستمرت الفتن من قبل المشرق كما سيأتي واضحاً في الفتن. وقال الحافظ في الفتح تحت قوله صلى الله عليه وسلم:" هل ترون ما أرى"؟ قالوا لا. قال: "فإني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع القطر" الواقع في كتاب الفتن: وإنما اختصت المدينة بذلك لأن قتل عثمان رضي الله عنه كان بها، ثم انتشرت الفتن في البلاد بعد ذلك، فالقتال بالجمل وصفين كان بسبب قتل عثمان، والقتال بالنهروان كان بسبب التحكيم بصفين، وكل قتال وقع في ذلك العصر إنما تولد عن شيء من ذلك أو عن شيء تولد عنه. ثم إن قتل عثمان كان أشد أسبابه الطعن على أمرائه ثم عليه بتوليته لهم، وأول ما نشأ ذلك في العراق وهي من جهة المشرق، فلا منافاة بين حديث الباب وبين الحديث الآتي: "إن الفتنة من قبل المشرق". اهـ. قال الحافظ في الفتح تحت قوله صلى الله عليه وسلم" اللهم بارك لنا في شامنا" الحديث" وقال الخطابي: نجد من جهة المشرق، ومن كان بالمدينة كان نجده بادية العراق ونواحيها وهي مشرق أهل المدينة، وأصل النجد ما ارتفع من الأرض وهو خلاف الغور فإنه ما انخفض منها، وتهامة كلها من الغور ومكة من تهامة. اهـ. وعرف بهذا وهاء ما قاله الداودي: إن نجداً موضع مخصوص، وليس كذلك بل كل شيء ارتفع بالنسبة إلى ما يليه يسمى المرتفع نجداً والمنخفض غوراً. اهـ. قال الحافظ في الفتح: (باب قتل الخوارج) وأصل ذلك أن بعض أهل العراق أنكروا سيرة بعض أقارب عثمان، فطعنوا على عثمان بذلك، وكان يقال لهم القراء لشدة اجتهادهم في التلاوة والعبادة، إلا أنهم كانوا يتأولون القرآن على غير المراد منه،

ويستبدون برأيهم ويتنطعون في الزهد والخشوع وغير ذلك، فلما قتل عثمان قاتلوا مع علي واعتقدوا كفر عثمان ومن تابعه واعتقدوا إمامة علي وكفر من قاتله من أهل الجمل الذين كان رئيسهم طلحة والزبير فإنهما خرجا إلى مكة بعد أن بايعا علياً فلقيا عائشة وكانت حجت تلك السنة فاتفقوا على طلب قتلة عثمان وخرجوا إلى البصرة يدعون الناس إلى ذلك، فبلغ علياً فخرج إليهم فوقعت بينهم وقعة الجمل المشهورة1، وانتصر علي وقتل طلحة في المعركة، وقتل الزبير بعد أن انصرف من الوقعة، فهذه الطائفة هي التي كانت تطلب بدم عثمان بالاتفاق، ثم قام معاوية بالشام في مثل ذلك، وكان أمير الشام إذا ذاك2، وكان علي أرسل إليه لأن يبايع له أهل الشام، فاعتل بأن عثمان قتل مظلوماً، وتجب المبادرة إلى الاقتصاص من قتلته، وأنه أقوى الناس على الطب بذلك ويلتمس من علي أن يمكنه منهم، ثم يبايع له بعد ذلك، وعلي يقول ادخل فيما دخل فيه الناس وحاكمهم إلى أحكم فيهم بالحق، فلما طال الأمر خرج في أهل العراق طالباً قتال أهل الشام، فخرج معاوية في أهل الشام قاصداً إلى قتاله3، فالتقيا بصفين فدامت الحرب بينهما شهراً، وكاد أهل الشام أن ينكسروا، فرفعوا المصاحف على الرماح ونادوا: ندعوكم إلى كتاب الله، وكان ذلك بإشارة عمرو بن

_ 1 وفي الليلة التي تقدمت الوقعة حصل التفاهم بين الفريقين على يد القعقاع رضي الله عنه، وبات أبناء هؤلاء عند هؤلاء وأبناء هؤلاء عند أولئك، فلما أيقن قتلة عثمان أن الصلح سيكون على رقابهم ودمائهم بيتوا الفتنة والشر، وفي الفجر فاجأوا الفريقين بإنشاب القتال، فهب كل فريق يدافع عن نفسه ويحسب أن الغدر وقع عليه من الفريق الآخر، ولم يعلموا أن قتلة عثمان هم الذين أنشبوا الحرب في الجانبين. محب الدين. 2 وهو كبير بني أمية والولي عنهم بطلب إقامة الحد على قتلة أمير المؤمنين عثمان بن عفان. 3 أي أن خروج جند الشام إلى صفين كان بعد خروج جند علي إلى النخيلة متجهين نحو الشام، وهذه حقيقة تاريخية لا يختلف عليها أحد.

العاص وهو مع معاوية، فترك جمع كثير ممن كان مع علي –وخصوصاً القراء- القتال بسبب ذلك تديناً، واحتجوا بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} الآية، فراسلوا أهل الشام في ذلك، فقالوا ابعثوا حكماً منهم وحكماً منا، ويحضر معهما من لم يباشر القتال، فمن رأوا الحق معه أطاعوه، فأجاب علي ومن معه إلى ذلك، وأنكرت ذلك تلك الطائفة التي صاروا خوارج. وكتب علي بينه وبين معاوية كتاب الحكومة بين أهل العراق والشام: هذا ما قضى عليه أمير المؤمنين علي ومعاوية فامتنع أهل الشام من ذلك وقالوا اكتبوا اسمه واسم أبيه، فأجاب علي إلى ذلك، فأنكره عليه الخوارج أيضاً، ثم انفصل الفريقان على أن يحضر الحكمان ومن معهما بعد مدة عينوها في مكان وسط بين الشام والعراق ويرجع العسكران إلى بلادهم إلى أن يقع الحكم، فرجع معاوية إلى الشام ورجع علي إلى الكوفة، ففارقه الخوارج وهم ثمانية آلاف، وقيل كانوا أكثر من عشرة آلاف، وقيل ستة آلاف، ونزلوا مكاناً يقال له (حروراء) بفتح المهملة وراءين الأولى مضمومة ومن ثم قيل لهم الحرورية، وكان كبيرهم عبد الله بن الكواء بفتح الكاف وتشديد الواو مع المد اليشكري وشبث بفتح المعجمة والموحدة بعدها مثلثة التميمي فأرسل عليهم علي ابن عباس فناظرهم فرجع كثير منهم معه ثم خرج إليهم علي فأطاعوه ودخلوا معه الكوفة معهم رئيساهم المذكوران، ثم أشاعوا أن علياً تاب من الحكومة ولذلك رجعوا معه، فبلغ ذلك علياً فخطب وأنكر ذلك، فتنادوا من جوانب المسجد: لا حكم إلا لله، فقال: كلمة حق يراد بها باطل، فقال لهم: لكم علينا ثلاثة أن لا نمنعكم من المساجد، ولا من رزقكم من الفيء، ولا نبدأكم بقتال ما لم تحدثوا فساداً، وخرجوا شيئاً بعد شيء إلى أن اجتمعوا بالمدائن فراسلهم في الرجوع فأصروا على الامتناع حتى يشهد على نفسه بالكفر لرضاه بالتحكيم ويتوب، ثم راسلهم أيضاً فأرادوا قتل رسوله، ثم اجتمعوا على أن من يعتقد معتقدهم يكفر ويباح دمه وماله وأهله، وانتقلوا إلى الفعل فاستعرضوا الناس، فقتلوا من اجتاز بهم من المسلمين، ومر بهم عبد الله بن خباب بن الأرت وكان والياً لعلي على بعض تلك البلاد ومعه

سرية وهي حامل فقتلوه وبقروا بطن سريته عن ولد، فبلغ علياً فخرج إليهم في الجيش الذي كان هيأه للخروج إلى الشام فأوقع بهم بالنهروان، ولم ينج منه إلا دون العشرة، ولا قتل ممن معه إلا نحو العشرة، فهذا ملخص أول أمرهم. اهـ. وقال الحافظ في الفتح آخر كتاب التوحيد تحت قوله صلى الله عليه وسلم: "يخرج ناس من قبل المشرق": تقدم في كتاب الفتن أنهم الخوارج وبيان مبدأ أمرهم وما ورد فيهم، وكان ابتداء خروجهم في العراق وهي من جهة الشرق بالنسبة إلى مكة المشرفة. اهـ. وأخرج البخاري عن بشير بن عمر، وقال: قلت لسهل بن حنيف: هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الخوارج شيئاً؟ قال سمعته يقول وأهوى بيده قبل العراق "يخرج منه قوم يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية". وفي رواية لمسلم وأشار بيده نحو الشرق، وفي رواية قال: "يتيه قوم قبل المشرق محلقة رءوسهم". قال الحافظ في الفتح: أخرج الطبراني في الأوسط بسند جيد من طريق الفرزدق الشاعر أنه سمع أبا هريرة وأبا سعيد وسألهما فقال: إني رجل من أهل الشرق وأن قوماً يخرجون علينا يقتلون من قال لا إله إلا الله ويؤمنون من سواهم، فقالا: سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من قتلهم فله أجر شهيد، ومن قتلوه فله أجر شهيد" اهـ. وفي رواية لمسلم عن أبي سعيد قال: قال أبو سعيد وأنتم قتلتموهم يا أهل العراق. فعلم من تلك الرويات أن الخوارج يخرجون من المشرق والعراق، وأن أهل العراق والشرق هم الذين يقتلونهم، وهذا يدل دلالة واضحة على أن جميع أهل العراق والمشرق ليس ممن تصدق عليهم هذه الأحاديث التي فيها ذكر الخوارج بل منهم من يقتلونهم، وكذلك المراد بنجد في حديث ابن عمر " هناك الزلازل والفتن" نجد العراق، قال بعض المحققين: وأما قوله صلى الله عليه وسلم لما قيل له وفي نجدنا "تلك موضع الزلازل والفتن وهنا يطلع قرن الشيطان" فالمقصود بها نجد العراق وشرق المدينة، وقد ورد ذلك صريحاً في حديث ابن عمر ونص عليه الخطابي وغيره، وقد ترك الدعاء للعراق جملة بل وذمها.

وقد روى الطبراني من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "دخل إبليس العراق فقضى فيها حاجته، ثم دخل الشام فطردوه، ثم دخل مصر فباض فيها وفرخ وبسط عليها عبقريه" ولا يقول مسلم بذم علماء العراق لما ورد فيها وأكابر أهل الحديث وفقهاء الأمة وأهل الجرح والتعديل أكثرهم أهل العراق، وإمام السنة أحمد بن حنبل وشيخ الطريقة الجنيد بن محمد وعلم الزهاد الحسن وابن سيرين وأبو حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري وأصحابه وإسحاق ابن إبراهيم بن راهويه ومحمد بن إسماعيل1 ومسلم بن الحجاج وأبو داود وأصحاب السنن وأصحاب الدواوين الإسلامية كلهم عراقي الدار مولداً أو سكنى، والليث بن سعد ومحمد بن إدريس وأشهب ومن قبل هؤلاء كلهم سكن العراق ومصر، وجملة من أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن التابعين بعدهم، ومن عاب الساكن بالسكنى والإقامة في مثل تلك البلاد فقد عاب جمهور الأمة وسبهم وآذاهم بغير ما اكتسبوا، وقد داول الله تعالى الأيام بين البقاع والبلاد، كما داولها بين الناس والعباد، قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} . وكم من بلد قد فتحت وصارت من خير بلاد المسلمين بعد أن كانت في أيدي الفراعنة والمشركين والفلاسفة والصابئين والكفرة من المجوس وأهل الكتابين، بل الخربة التي كانت بها قبور المشركين صارت مسجداً هو أفضل مساجد المسلمين بعد المسجد الحرم، ودفن بها أفضل المرسلين وسادات المؤمنين. ولا يعيب شيخنا بدار مسيلمة إلا من عاب أئمة الهدى ومصابيح الدجى بما سبق في بلادهم من الشرك والكفر المبين، وطرد هذا القول جرأة على النبيين وأكابر المؤمنين، وهذا المعترض كعنز السوء يبحث عن حتفه بظلفه ولا يدري، وقد قال بعض الأزهريين: مسيلمة الكذاب من خير نجدكم، فقلت: وفرعون اللعين رأس مصركم فبهت. وأين كفر فرعون من كفر مسيلمة لو كانوا يعلمون. اهـ. وأيضاً قال وقد تقدم أن طرد هذا الكلام يوجب ذم كل من سكن بلدة من بلاد

_ 1 أي البخاري.

المسلمين التي سكنها قبله أعيان المشركين ورؤوس الكافرين، فأي أحد يبقى لو طرد هذا؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كان الإيمان معلقاً بالثريا لناله رجال من فارس" مع أن بلادهم من شر البلاد، فيها الأوثان والنيران، وكفر فيها بالله الذي لا إله إلا هو الرحمن. اهـ. وأيضاً قال: وسكنى الدار لا تؤثر، فإن الصحابة سكنوا مصر وبلاد الفرس، وفضلهم لا يزال في مزيد، وإيمانهم قهر أهل الكفر والشرك والتنديد، وعادت تلك البقاع والأماكن أفضل مساكن أهل التوحيد. اهـ. وجملة القول أن الأحاديث التي ذكرها المؤلف في هذا المقام منها ما هو خاص بإجماع المسلمين بالحرورية الخارجين على علي رضي الله تعالى عنه وهو ماعدا حديث ابن عمر "الفتنة ههنا الفتنة ههنا" وحديث أبي هريرة "رأس الكفر نحو المشرق" وحديث أبي مسعود "من ههنا جاءت الفتن" وحديث جابر "غلظ القلوب والجفاء في المشرق" وحديث ابن عمر "اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا" الحديث. قال بعض المحققين: والجواب أن يقال هذا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يصف أهل نجد وأهل اليمامة بهذا، ولا دخل في وصفه من يؤمن بالله ورسوله منهم ولا من غيرهم، بل الموصوف بإجماع المسلمين هم الحرورية الخارجون على علي الذين قاتلهم علي من أهل الكوفة والبصرة وما يليها، وفيهم من بني يشكر ومن طي وتميم وغيرهم من قبائل العرب ودارهم ومسكنهم بالعراق ولا يختلف في هذا، ودولتهم وشوكتهم كانت هناك دون النهر، ولذلك نسبوا إليه وقيل أهل النهروان، وحروراء بلدة هناك نسبوا إليها فقيل الحرورية، اهـ ملخصاً. وبعض ألفاظ الحديث في بعض الطرق دال على تلك الخصوصية كما وقع في رواية البخاري عن أبي سعيد: "يخرجون على حين فرقة من الناس" قال أبو سعيد: أشهد سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم وأشهد أن علياً قتلهم وأنا معه، جئ بالرجل على النعت الذي نعته النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية لمسلم عن أبي سعيد "تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق". اهـ. ولا شك أن هذا لا يمكن صدقه على الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه، لا يقال

وقع في رواية النسائي عن أبي برزة: "لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم مع المسيح الدجال" وفي رواية ابن عمر وابن ماجه "كلما خرج قرن قطع أكثر من عشرين مرة حتى يخرج في عراضهم الدجال" اهـ، لأن كل من يأتي بعد قوم خرجوا على علي رضي الله عنه ممن يصلي يتخشع ويقرأ كتاب الله إلى يوم القيامة ويجتهد في التلاوة والعبادة لا يكون من الخوارج بالضرورة وإلا لزم أن يكون معظم الأمة من أهل الفقه والحديث من الخوارج، بل إنما يكون من الخوارج من يستن بسنة هؤلاء الذين خرجوا على علي رضي الله عنه ويسلك مسلكهم، ومن قتل أهل الإسلام، وودع أهل الأوثان، وتكفير من لا يعتقد معتقدهم، وإباحة دمه وماله وأهله، وأن عثمان وعلياً وأصحاب الجمل وصفين، وكل من رضى بالتحكيم كفار، وأن كل من أتى كبيرة فهو كافر مخلد في النار أبداً، وأن من لم يخرج ويحارب المسلمين فهو كافر ولو اعتقد معتقدهم، وإبطال رجم المحصن وقطع يد السارق من الإبط، وإيجاب الصلاة على الحائض في حال حيضها، وكفر من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن كان قادراً، وإن لم يكن قادراً فقد ارتكب كبيرة، وحكم مرتكب الكبيرة عندهم حكم الكافر، وسائر معتقداتهم الفاسدة، وأعمالهم الزائغة ولا يتحقق شيء من عقائدهم وأعمالهم في الشيخ وأتباعه، بل مذهبهم في أصول الدين مذهب أهل السنة والجماعة، وطريقتهم طريقة السلف التي هي الطريق الأسلم، بل والأعلم والأحكم، وهم في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ومن روى عنهم شيئاً من تلك أو نسبه إليهم فقد كذب عليهم وافترى، وهذا ظاهر لمن طالع كتابه (كتاب التوحيد) وسائر الرسائل المؤلفة للشيخ. ومن ثم عرفت فساد ما قال السيد محمد أمين المعروف بابن عابدين الحنفي في (رد المحتار على الدر المختار) في باب البغاة تحت قول الماتن (ويكفرون أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم) : علمت أن هذا غير شرط في مسمى الخوارج، بل هو بيان لمن خرجوا على سيدنا علي رضي الله عنه، وإلا فيكفي فيهم اعتقادهم كفر من خرجوا عليهم كما وقع في زمننا في أتباع عبد الوهاب الذين خرجوا من نجد وتغلبوا على الحرمين، وكانوا ينتحلون مذهب الحنابلة لكنهم اعتقدوا أنهم هم المسلمون، وأن من خالف اعتقادهم

مشركون، واستباحوا بذلك قتل أهل الشر وقتل علمائهم حتى كسر الله تعالى شوكتهم وخرب بلادهم، وظفر بهم عساكر المسلمين عام ثلاث وثلاثين ومائتين وألف. اهـ. وكذا فساد ما على هامش سنن النسائي المطبوع في الهند في المطبع النظامي سنة ستة وتسعين بعد الألف ومائتين في ص412: ثم ليعلم أن الذين يدينون دين عبد الوهاب النجدي ويسلكون مسالكه في الأصول والفروع ويدعون في بلادنا باسم الوهابيين وغير المقلدين، ويزعمون أن تقليد أحد الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم شرك، وأن من خالفهم هم المشركون، ويستبيحون قتلنا أهل السنة، وسبي نسائنا وغير ذلك من العقائد الشنيعة التي وصلت إلينا منهم بواسطة الثقات وسمعنا بعضاً منهم أيضاً، هم فرقة من الخوارج، وقد صرح به العلامة الشامي في كتابه (رد المختار) . اهـ. وكذا فساد ما في هامش سنن النسائي المذكور في 634 حيث قال: وقد وقع خروجهم مراراً أفاده العيني. وقال الشامي: كما وقع في زمننا خروج أتباع عبد الوهاب. اهـ. وجه الفساد أن الشيخ وأتباعه لم يكفروا أحداً من المسلمين ولم يعتقدوا أنهم هم المسلمون وأن من خالفهم هم مشركون، ولم يستبيحوا قتل أهل السنة وسبي نسائهم، ولم يقولوا إن تقليد أحد الأئمة الأربعة شرك، ولقد لقيت غير واحد من أهل العلم من أتباع الشيخ، وطالعت كثيراً من كتبهم فما وجدت لهذه الأمور أصلاً وأثراً بل كان هذا بهتان وافتراء1، وليعلم أن ابن عابدين وصاحب الهامش قد أخطآ في قولهما (عبد الوهاب) والصواب محمد بن عبد الوهاب.

_ 1 بل في هذه الكتب خلاف ما ذكر وضده: ففيها أنهم لا يكفرون إلا من أتى بما هو كفر بإجماع المسلمين، وأنهم في الأصول على مذهب جمهور السلف الصالح وفي الفروع على مذهب الإمام أحمد، وأنهم يحترمون مذاهب الأئمة الأربعة ولا يفرقون بين أحد من مقلديهم، وإنما قال ابن عابدين ومن تبعه ما قاله تصديقاً لأكاذيب الشيخ أحمد دحلان ومفترياته مع عدم وجود شيء من كتب الشيخ وكتب أولاده وأحفاده في الأيدي، ونحن كنا نصدق هذه الإشاعات التي أشاعتها السياسة التركية عنهم تصديقاً لابن عابدين وأمثاله، وقد طبعت كتبهم وكتب أنصارهم في عصرنا فلا عذر لأحد في تصديق الحشوية والمبتدعة وأهل الأهواء فيهم. وقد ذكرت هذه الإشاعات مرة بمجلس الأستاذ الأكبر الشيخ أبي الفضل الجيزاوي شيخ الأزهر في إدارة المعاهد الدينية فاستحضرت لهم نسخاً من كتبا الهدية السنية فراجعها الشيخ الأكبر وعنده طائفة من أشهر علماء الأزهر فاعترفوا بأن ما فيها هو عين مذهب جمهور أهل السنة والجماعة. وكتبه محمد رشيد رضا.

وأما بقية الأحاديث التي ذكرها المؤلف في هذا المقام فأولاها بأن يشنع به على الشيخ وأتباعه حديث ابن عمر: "اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا" الحديث فإنه ذكر فيه نجداً وقال صلى الله عليه وسلم في شأنه "هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان" والشيخ من أهل نجد. (والجواب) : أن المراد بنجد نجد العراق كما عرفت فيما تقدم، ومما يؤيد هذا حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: دعا نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا، وبارك لنا في شامنا ويمننا، فقال رجل من القوم يا نبي الله وعراقنا؟ قال "إن بها قرن الشيطان وتهيج الفتن، وإن الجفاء بالمشرق" رواه الطبراني في الكبير ورواته ثقات كذا في (الترغيب والترهيب) للمنذري، وأن عمر ابن الخطاب أراد الخروج إلى العراق فقال له كعب الأحبار: لا تخرج إليها يا أمير المؤمنين، فإن بها تسعة أعشار السحر، وبها فسقة الجن، وبها الداء العضال، وقد تقدم تخريجه، وحديث سفيان بن أبي زهير رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تفتح اليمن، فيأتي قوم يبسون، فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح الشام، فيأتي قوم يبسون، فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح العراق، فيأتي قوم يبسون، فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون". أخرجه البخاري ومسلم، فإنه ذكر في هذا الحديث في مقابلة اليمن والشام العراق لا نجد العرب، وكذلك في أحاديث

أخر مثل حديث ابن حوالة وهو عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيصير الأمر أن تكونوا أجناداً مجندة: جند بالشام وجند باليمن وجند بالعراق" قال ابن حوالة: خر لي1 يا رسول الله، إن أدركت ذلك؟ فقال:" عليك بالشام فإنها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده، فأما أن أبيتم فعليكم بيمنكم واسقوا من غدركم فإن الله توكل -وفي رواية تكفل- لي بالشام وأهله" رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه والحاكم، وقال صحيح الإسناد كذا في (الترغيب والترهيب) للمنذري، وحديث العرباض بن سارية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام يوماً في الناس فقال: "يا أيها الناس توشكون أن تكونوا أجناداً مجندة، جند بالشام، وجند بالعراق، وجند باليمن" الحديث كذا في (الترغيب والترهيب) للمنذري: وحديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم ستجندون أجناداً جنداً بالشام ومصر والعراق واليمن" الحديث كذا في زوائد مسند البزار، ويكفي لذم العراق حديث سهل بن حنيف الذي أخرجه البخاري وفيه قال: سمعته يقول وأهوى بيده قبل العراق "يخرج منه قوم" الحديث وقد تقدم. وقد ورد الأمر باللحوق بنجد في حديث رأيته في زوائد مسند البزار، ولفظه: حدثنا محمد بن عبد الله بن المفضل الحراني حدثنا عثمان بن عبد الرحمن الحراني حدثنا عبد الرحمن بن ثابت عن أبي العوام عن عبد الملك بن مساحق عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم ستجندون أجناداً" فقال رجل: يا رسول الله خر لي فقال: "عليك بالشام فإنها صفوة الله في بلاده فيها خيرة الله من عباده فمن رغب عن ذلك فليلحق بنجده فإن الله تكفل لي بالشام وأهله" قال البزار: لا نعلمه يروى عن ابن عمر إلا بهذا الإسناد. اهـ. ولا يغرنك أن نجداً موضع مخصوص من العرب فكيف يراد به العراق؟ لأن أصل النجد ما ارتفع من الأرض، وهو خلاف الغور فإنه ما انخفض منها كما ظهر من

_ 1 خر بكسر الخاء أمر من خار له يخير (ككال يكيل) إذا اختار له ما هو خير هذه الأماكن. وكتبه محمد رشيد رضا.

كلام الحافظ في الفتح. وهذا يصدق على العراق، ومع أنه قد ورد ذم العراق في غير واحد من الأحاديث لا يقول مسلم بذم علماء العراق لأن أكابر أهل الحديث وفقهاء الأمة وأهل الجرح والتعديل أكثرهم من أهل العراق وجملة من أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن التابعين بعدهم قد سكنوا العراق، ألا ترى إلى ما أخرج البخاري عن إبراهيم قال: ذهب علقمة إلى الشام فأتى المسجد فصلى ركعتين فقال: اللهم ارزقني جليساً فقعد إلى أبي الدراداء فقال: ممن أنت؟ قال: من أهل الكوفة، قال: أليس فيكم صاحب السر الذي كان لا يعلمه غيره؟ يعني حذيفة. أليس فيكم -أو كان فيكم- الذي أجاره الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الشيطان؟ يعني عماراً، أو ليس فيكم صاحب السواك والوسادة؟ يعني ابن مسعود، كيف كان عبد الله يقرأ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} قال (والذكر والأنثى) فقال مازال هؤلاء حتى كادوا يشككوني، وقد سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ. وهذا ظاهر لمن تتبع أحوال الصحابة والتابعين، وقد ذكرت فيما تقدم رواية مسلم عن أبي سعيد وفيها: "وأنتم قتلتموهم يا أهل العراق" فعلم أن أهل العراق هم الذين قتلوا الخوارج، فكيف يجوز ذم جميع أهل العراق؟ وأن سلم أن المراد بنجد نجد العرب، فالجواب أنه كما لا يجوز ذم جميع أهل العراق لورود أحاديث في ذمه، كذلك لا يجوز ذم جميع أهل نجد بعد تسليم ورود ذمه في حديث. وقد ورد في الأحاديث الصحيحة1 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا قبل نجد وبعث سرية قبل نجد، وبعث خيلاً قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم2، وإن تنعم، تنعم على شاكر، إن كنت تريد المال، فسل منه ما شئت، فترك حتى كان الغد، ثم قال له "ما عندك يا ثمامة"؟ فقال:

_ 1 أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة ولم يتذكر المؤلف منها إلا البخاري. 2 يعني بذي الدم المستحق للقتل. وكتبه وما قبله محمد رشيد رضا.

ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد فقال: "ماعندك يا ثمامة"؟ قال عندي ما قلت لك فقال: "أطلقوا ثمامة" فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت؟ قال: لا والله ولكن أسلمت مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم، أخرج البخاري تلك الأحاديث في صحيحه. قوله "فبشره" قال الحافظ في الفتح: أي بخيري الدنيا والآخرة، أو بشره بالجنة أو بمحو ذنوبه وتبعاته السابقة. اهـ. فلو لم يكن في أهل نجد خير ما غزا قبل نجد، فإن العزو المقصود منه بالذات إسلام أهله، وما قبل الإسلام ثمامة بن أثال ولم يبشره بخيري الدنيا والآخرة أو بالجنة أو بمحو ذنبوه وتبعاته السابقة. وأخرج البخاري ومسلم عن طلحة بن عبيد الله يقول: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول، حتى دنا، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس صلوات في اليوم والليلة" فقال هل علي غيرها؟ قال: "لا إلا أن تطوع" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وصيام رمضان" قال هل علي غيره؟ قال: "لا إلا أن تطوع" قال وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، قال: هل علي غيرها؟ قال: "لا إلا أن تطوع" قال فأدبر الرجل وهو يقول والله لا أزيد على هذا ولا أنقص. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفلح إن صدق". اهـ. فهذا الرجل من أهل نجد بشره صلى الله عليه وسلم بالفلاح -وقد وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل نجد قرن المنازل كما وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة ولأهل اليمن

يلملم، فلو لم يكن في نجد خير فأي حاجة إلى تعيين الميقات لأهلها؟ فقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل نجد يأتون للحج كما أن أهل المدينة وأهل الشام وأهل اليمن يأتون له، وقد ورد فضل بني تميم في الحديث، والشيخ عبد الوهاب منهم وهم من أهل نجد. أخرج البخاري عن أبي هريرة قال: مازلت أحب بني تميم منذ ثلاث سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيهم، سمعته يقول: "هم أشد أمتي على الدجال: قال وجاءت صدقاتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هذه صدقات قومنا"، وكانت سبية منهم عند عائشة فقال: "اعتقيها فإنها من ولد إسماعيل" اهـ. وفي زوائد مسند البزار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر بني تميم فقال: "هم ضخام الهام، ثبت الإقدام، نصار الحق في آخر الزمان، أشد قوماً على الدجال"، قال البزار سلام هذا أحسبه سلام المدائني وهو لين الحديث. وأيضاً فيه عن أبي هريرة قال: ربما ضرب النبي صلى الله عليه وسلم على كتفي وقال: "أحبوا بني تميم" قال البزار لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه. فإن قلت: قد جاء في حديث عمران بن حصين رضي الله عنه ما يشينهم" قال جاء نفر من بني تميم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا نبي تميم "أبشروا" قال: بشرتنا فأعطنا، فتغير وجهه، فجاءه أهل اليمن فقال: "يا أهل اليمن اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم" قالوا: قبلنا، الحديث أخرجه البخاري. قلت هذا مقولة الجفاة منهم، منهم الأقرع بن حابس، ذكره ابن الجوزي كذا في الفتح. قال الحافظ ابن كثير في تفسيره قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقد ذكر أنها نزلت في الأقرع بن حابس التميمي رضي الله عنه فيما أورده غير واحد، قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا وهيب حدثنا موسى بن عقبة عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن عن الأقرع بن حابس أنه نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، يا محمد، وفي رواية يا رسول لله، فلم يجبه، فقال: يا رسول إن حمدي لزين وإن

ذمي لشين، فقال: ذاك الله عز وجل: وقال ابن جرير حدثنا أبو عامر الحسين بن حريث المروزي حدثنا الفضل بن موسى عن الحسين بن واقد عن أبي إسحاق عن البراء في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إن حمدي زين وذمي شين، فقال صلى الله عليه وسلم: "ذاك الله عز وجل" وهكذا ذكره الحسن البصري وقتادة مرسلاً، قال الحافظ في تفسير سورة الحجرات تحت حديث ابن أبي مليكة قال: "كاد الخيران أن يهلكا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم ركب بني تميم فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع وأشار الآخر برجل آخر قال نافع لا أحفظ اسمه، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي، قال ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} " الآية. قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} الآية. زاد وكيع كما سيأتي في الاعتصام إلى قوله: {عَظِيمٌ} ، وفي رواية ابن جريج فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} إلى قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا} وقد استشكل ذلك، قال ابن عطية: الصحيح أن سبب نزول هذه الآية كلام جفاة العرب. قلت: لا يعارض ذلك هذا الحديث فإن الذي يتعلق بقصة الشيخين في تخالفهما في التأمير هو أول السورة: {لا تُقَدِّمُوا} ولكن لما اتصل بها قوله: {لا تَرْفَعُوا} تمسك عمر منها بخفض صوته، وجفاة الأعراب الذين نزلت فيهم هم من بني تميم والذي يختص بهم قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة إن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات فقال: يا محمد، إن مدحي زين، وإن شتمي شين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ذاك الله عز وجل" ونزلت. قلت: ولا مانع أن تنزل الآية لأسباب تتقدمها فلا يعدل للترجيح مع ظهور الجمع وصحة الطرق. اهـ. وقال الحافظ تحت قوله: باب {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} : وروى الطبراني من طريق مجاهد قال: هم أعراب بني تميم، ومن طريق

أبي إسحاق عن البراء قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إن حمدي زين، وإن ذمي شين، فقال: "ذاك الله تبارك وتعالى" وروي من طريق معمر عن قتادة مثله مرسلاً، وزاد فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} الآية. ومن طريق الحسن نحوه. اهـ. وقال الحافظ تحت قوله: (باب قوله: ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم) . هكذا في جميع الروايات الترجمة بغير حديث، وقد أخرج الطبري والبغوي وابن أبي عاصم في كتبهم في الصحابة من طريق موسى بن عقبة عن أبي سلمة قال: حدثني الأقرع بن حابس التميمي أنه أتى الني صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أخرج إلينا فنزلت {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} الحديث، وسياقه لابن جرير، قال ابن منده الصحيح عن أبي سلمة أن الأقرع– مرسل، وكذا أخرجه أحمد على الوجهين. وقد ساق محمد بن إسحاق قصة وفد بني تميم في ذلك مطولة بانقطاع، وأخرجها ابن منده في ترجمة ثابت بن قيس في المعرفة من طريق أخرى موصلة. اهـ. وقال الترمذي في جامعه: حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث أخبرنا الفضل بن موسى عن الحسين بن واقعد عن ابن إسحاق عن البراء بن عازب في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} قال: قام رجل فقال: يا رسول الله إن حمدي زين، وإن ذمي شين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ذاك الله عز وجل" هذا حديث حسن غريب. وقد جاء في الأحاديث "فضل العرب عموماً" أخرج البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرنا حتى كنت من القرن الذي كنت فيه". اهـ. وأخرج الترمذي عن العباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله خلق الخلق فجعلني في خيرهم، ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً وخيرهم نفساً" وقال: هذا حديث حسن. وأخرج الترمذي عن سلمان قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا سلمان لا تبغضني

فتفارق دينك" قلت: يا رسول الله كيف أبغضك وبك هداني الله؟ قال: "تبغض العرب فتبغضني" وقال: هذا حديث حسن غريب. وأخرج عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غش العرب لم يدخل في شفاعتي ولم تنله مودتي" وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حصين ابن عمر الأحمسي عن مخارق، وليس حصين عند أهل الحديث بذاك القوي. وأخرج الترمذي عن محمد بن أبي رزين عن أمه قالت: كانت أم الحرير إذا مات أحد من العرب اشتد عليها، فقيل لها: إنا نراك إذا مات رجل من العرب اشتد عليك، قالت: سمعت مولاي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اقتراب الساعة هلاك العرب" قال محمد بن أبي رزين: ومولاها طلحة بن مالك، هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث سليمان بن حرب1. وأخرج مسلم عن أم شريك أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ليفرن الناس من الدجال في الجبال" قالت أم شريك يا رسول الله فأين العرب يومئذ؟ قال "هم قليل" وأخرجه الترمذي أيضاً وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وأخرج مسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الشيطان قد يئس من أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم، كذا في (مشكاة المصابيح) وأخرجه الترمذي بغير لفظ (في جزيرة العرب) وقال: وفي الباب عن أنس وسليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه: هذا حديث حسن. اهـ. وفي زوائد مسند البزار للهيثمي عن علي رضي الله عنه يقول: أسندت النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدري فقال: "يا علي أوصيك بالعرب خيراً". قال البزار لا نعلمه يروى عن علي إذا بهذا الإسناد، وأبو المقدام هو ثابت الحداد روى عنه منصور بن المعتمر وسفيان الثوري وهو أبو عمرو بن ثابت.

_ 1 سليمان بن حرب الأزدي الواشجي البصري القاضي بمكة إمام حافظ، روى عنه الجماعة كلهم كما في التقريب. وكتبه محمد رشيد رضا.

وأيضاً فيه عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني دعوت العرب فقلت: اللهم من لقيك منهم مصدقاً بك موقناً فاغفر له". قال البزار لا نعلم رواه عن ثابت إلا مروان، ولا عنه إلا الحسن بن بشر. اهـ. وفي زوائد مسند البزار في فضل جزيرة العرب حدثنا محمد بن العلاء حدثنا الحسن بن عطية حدثنا قيس عن يونس يعني ابن عبيد عن الحسن عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقد برأ الله هذه الجزيرة من الشرك ما لم يضلهم النجوم" حدثنا أحمد بن محمد بن الوليد حدثنا موسى بن داود حدثنا قيس عن يونس عن الحسن عن الأحنف عن العباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال بنحوه، قال البزار لا نعلم رواه إلا العباس، ولا له عنه إلا هذا الإسناد، حدثنا إبراهيم بن زياد حدثنا إبراهيم بن أبي العباس حدثنا عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب ولكن قد رضي بمحقرات". قال البزار قد روي من غير طريق عن أبي الدرداء حدثنا الفضل بن سهل حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا أبو إسحاق الفزاري عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه، ولكن قد رضي منكم بالمحقرات" قال البزار قد رواه أبو إسحاق هكذا ورواه غيره عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أو أبي سعيد. اهـ. وأخرج الترمذي عن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع "أي يوم هذا"؟ الحديث وفيه "وإن الشيطان قد يئس أن يعبد في بلادكم هذه أبداً، ولكن ستكون له طاعة فيما تحقرون من أعمالكم فسيرضى به". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. اهـ. فقد علم من هذه الأحاديث فضل العرب على غير العرب، وقد ورد في الصحيح

عن أبي هريرة "لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء" 1 وقد وقع هكذا، فإن كثيراً من أهل الحديث من أبناء فارس، وإذا أمكن نيل جماعة من أهل فارس -الذين هم في الخيرية أدون من أهل نجد التي هي من العرب وشرهم أزيد من شر أهل نجد- الإيمانَ، فما ظنك بأهل نجد؟ وجملة القول أن ورود مدح قبيلة أو موضع في الحديث لا يقتضي خيرية أفراده وجميع سكانه، وكذلك ورود ذم قبيلة أو موضع في الحديث لا يقتضي شرية جميع أفراده وجميع سكانه، ألا ترى أن خيرية قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار والأسد والأشعرين والأزد وحمير وذم عصية وبني تميم وبني أسد وبني عبد الله بن غطفان وبني عامر بن صعصعة وربيعة ومضر وثقيف وبني حنيفة وبني أمية، قد ورد في الأحاديث مع أن الأول قد جاءت منها أشرار أيضاً، والأخر قد جاءت منها أخيار أيضاً. وكذلك قد ورد مدح اليمن وأهله وذم المشرق والعراق وأهلها مع أن الأسود العنسي قد نشأ في اليمن وكثير من أهل الحديث من المشرق والعراق، وهذا لا يخفى على من له أدنى إلمام بفن التاريخ والرجال، وحسبك من خيرية مضر كون النبي صلى الله عليه وسلم من مضر. أخرج البخاري عن ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم زينب ابنة أبي سلمة قال قلت لها: أرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أكان من مضر؟ قالت فممن كان إلا من مضر من بني النضر بن كنانة اهـ. وحسبك من خيرية ربيعة قول النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس لما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم "من القوم -أو من الوفد؟ - قالوا ربيعة، قال "مرحباً بالقوم –أو بالوفد– غير خزايا ولا ندامى" فقالوا يا رسول الله إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر فمرنا بأمر نخبر به من وراءنا وندخل به الجنة، الحديث أخرجه البخاري من حديث ابن عباس.

_ 1 الإشارة إلى الفرس لأنه صلى الله عليه وسلم قال هذا ويده على سلمان الفارسي رضي الله عنه كما في الصحيحين.

وفي زوائد مسند البزار عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خير أهل المشرق عبد القيس". قال البزار لا نعلم أحداً رواه بهذا اللفظ إلا ابن عباس ولا عنه إلا أبو حمزة ولا عنه إلا شبيل، وشبيل بصري مشهور، ولا رواه عن إلا ابن سواء. اهـ. والمقصود أن ربيعة ومضر مع أن ذمهما قد ورد في الحديث ومن الأخيرة سيد المرسلين ومن الأولى وفد عبد القيس وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، وأما ما عدا ذلك من الأحاديث التي ذكرها المؤلف مما ذكر فيه "أن الفتنة من المشرق ورأس الكفر نحو المشرق وغلظ القلوب والجفاء بالمشرق" فالتشنيع بها على الشيخ وأتباعه تشنيع على معظم هذه الأمة من الفقهاء والمحدثين، فإن كثيراً منهم قد جاءوا من المشرق، وهذا مما لا مجال لإنكاره لأحد من أهل العلم، بل هذا التشنيع من جنس تشنيع الرافضة على عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها بأن البخاري أخرج عن عبد الله رضي الله عنه قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً فأشار نحن مسكن عائشة فقال: "هنا الفتنة -ثلاثاً- من حيث يطلع قرن الشيطان" بل هذا أخف منه على ما لا يخفى، وإذ لم يكن التشنيع الذي هو أشد سبباً للذم عند أهل السنة فما ظنك بالأخف؟ قوله: لأنهم كانوا يأمرون من اتبعهم أن يحلق راسه ولا يتركونه يفارق مجلسهم إذا تبعهم حتى يحلقوا رأسه. أقول: هذا كذب صريح وبهتان قبيح1. قوله: ولم يقع مثل ذلك قط من أحد الفرق الضالة التي مضت قبلهم، إلى قوله فإنه لم يفعله أحد من المبتدعة غيرهم. أقول: هذا غلط صريح وخطأ شنيع، قال الحافظ في كتاب المغازي من الفتح

_ 1 إن غرض دحلان من مبالغته في هذا الكذب هو الاحتراز من اعتراض أحد عليه بأن جميع علماء المسلمين في الحجاز ومصر والشام يحلقون رءوسهم ليقول إن ضلال الوهابية هو المبالغة في الحلق بما افتراه عليهم هنا.

تحت قوله "محلوق" سيأتي في أواخر التوحيد من وجه آخر أن الخوارج سيماهم التحليق، وكان السلف يوفرون شعورهم ولا يحلقونها، وكانت طريقة الخوارج حلق جميع رؤوسهم. انتهى. وقال في أواخر (كتاب التوحيد) تحت قوله "التحليق" ثم أجاب بأن السلف كانوا لا يحلقون رءوسهم إلا للنسك وفي الحاجة، والخوارج اتخذوه ديناً فصار شعاراً لهم وعرفوا به. اهـ. فالسلب الكلي غلط قطعاً. وقوله: وكان ابن عبد الوهاب يأمر أيضاً بحلق رءوس النساء اللاتي يتبعنه. اهـ. أقول: هذا البهتان صريح. قوله: جاء في رواية "قرنا الشيطان" بصيغة التثنية، قال بعض العلماء: المراد من قرني الشيطان مسيلمة الكذاب وابن عبد الوهاب. أقول: هذه رواية مسلم من حديث سالم بن عبد الله بن عمر يقول: يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغيرة، وأركبكم للكبيرة، سمعت أبي عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الفتنة تجيء من ههنا -وأومأ بيده نحو المشرق- من حيث يطلع قرنا الشيطان". الحديث. قال النووي: وأما قرنا الشيطان فجانبا رأسه، وقيل هما جمعاه اللذان يغريهما بإضلال الناس، وقيل شيعتاه من الكفار، والمراد بذلك اختصاص المشرق بمزيد من تسلط الشيطان ومن الكفر. اهـ. قلت: لعل المراد بقرني الشيطان ربيعة ومضر، والدليل عليه حديث أبي مسعود قال أشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده نحو اليمن فقال "ألا إن الإيمان ههنا، وإن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين، عند أصول أذناب الإبل، حيث يطلع قرن الشيطان في ربيعة ومضر". أخرجه مسلم.

قوله: وجاء في بعض الروايات وبها -يعني نجد- الداء العضال. أقول: هذه اللفظة قد وقت في روايتين على ما أعلم: (الأولى) رواية الطبراني عن ابن عمر كما نقلتها عن مجمع الزوائد، و (الثانية) رواية مالك في الموطأ وقد ذكرت فيما تقدم، وليس في واحد منهما لفظ "نجد" بل في الأولى "وفي شرقنا" وفي الثانية لفظ "العراق" فإرجاع الضمير إلى نجد جهل1. قوله: وفي بعض التواريخ بعد ذكر قتال بني حنيفة قال: ويخرج في آخر الزمان في بلد مسيلمة رجل يغير دين الإسلام. أقول: هذه رواية بلا سند فلا اعتداد بها، على أن كون الشيخ مصداقاً لها محل نظر2. قوله: وجاء في بعض الأحاديث التي فيها ذكر الفتن قوله صلى الله عليه وسلم منها فتنة عظيمة تكون في أمتي لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، تصل إلى جميع العرب، قتلاها في النار". واللسان فيها أشد من وقع السيف. أقول: ما وجدته بهذا اللفظ، وقد أخرج أبو داود عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنها ستكون فتنة تستنظف العرب، قتلاها في النار، اللسان فيها أشد من وقوع السيف". ورواه الترمذي وابن ماجه. قوله: وفي رواية ستكون فتنة صماء بكماء عمياء.

_ 1 بل هو من تعمد الكذب الذي ليس له عند دحلان حد. 2 يالله العجب من التزام المصنف لهذه الاصطلاحات العلمية ووضعها في غير موضعها، فمن المعلوم بالتواتر أن الشيخ رحمه الله تعالى جدد الإسلام في نجد وغير نجد، فهل يصح أن يكتفي بقوله إن دعوى تغييره للإسلام محل نظر؟ وصاحب الدعوى كذاب مشهور ينقل عن تاريخ مجهول. وكتبه محمد رشيد رضا.

أقول: الحديث أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ستكون فتنة صماء بكماء عمياء، من أشرف لها استشرفت له، وإشراف اللسان فيها كوقوع السيف". أقول: هذان الحديثان ليس فيهما لفظ يدل على تعيين الشيخ وأتباعه، وجمهور العلماء حملوهما على الفتنة التي وقعت بين علي ومعاوية، يدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "اللسان فيها أشد من وقوع السيف"، يعني أن الطعن في إحدى الطائفتين ومدح الأخرى مما يثير الفتنة فالكف واجب. قوله: وفي رواية سيظهر من نجد شيطان تتزلزل جزيرة العرب من فتنته. أقول: هذه الرواية لم أقف عليها، ولم يذكر المؤلف سندها فلا يعتد بها. قوله: منها حديث مروي عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم أسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه:"سيخرج في ثاني عشر قرنا في وادي بني حنيفة رجل كهيئة الثور لا يزال يلعق براطمه، يكثر في زمانه الهرج والمرج، يستحلون أموال المسلمين ويتخذونها بينهم متجراً، ويستحلون دماء المسلمين ويتخذونها بينهم مفخراً، وهي فتنة يغتر فيها الأرذول والسفل، تتجارى بينهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه"، قال ولهذا الحديث شواهد تقوي معناه، وإن لم يعرف من خرجه. أقول: إذا لم يعرف من خرجه فكيف يصح الاستدلال به؟ قوله: وأصرح من ذلك أن هذا المغرور محمد بن عبد الوهاب من تميم، فيحتمل أنه من عقب ذي الخويصرة التميمي الذي جاء فيه حديث البخاري عن أبي سعيد الخدري. أقول: لا شك أن الشيخ من رأس تميم وأعيانهم كما صرح به بعض المحققين في الرد على (جلاء الغمة) ولكن ليس في حديث البخاري ولا في غيره ما يدل على أن

كل من هو من تميم أو من ضئضئ ذي الخويصرة مصداق لهذا الحديث بل في الحديث لفظة "من" دالة على التبعيض المنافي لهذه الكلية، واحتمال أنه من عقب ذي الخويصرة لا يقتضي كونه من عقب ذي الخويصرة جزماً فضلاً عن كونه مصداقاً لهذا الحديث. وتقرير دليل المؤلف على طريقة الميزانيين هكذا: محمد بن عبد الوهاب من تميم وبعض من هو من تميم من عقب ذي الخويصرة فينتج أن محمد بن عبد الوهاب من عقب ذي الخويصرة، ثم يجعل هذه النتيجة صغرى لقياس آخر فيقال: إن محمد بن عبد الوهاب من عقب ذي الخويصرة، وبعض من هو من عقب ذي الخويصرة مصداق لحديث البخاري الوارد في شأن الخوارج، فمحمد بن عبد الوهاب مصداق لحديث البخاري الوارد في شأن الخوارج. ولا يخفى جهل هذا المستدل على من له أدنى إلمام بعلم الميزان، إذ كلية الكبرى التي هي شرط لإنتاج الشكل الأول مفقودة في القياسين، وإن ادعى كلية كبرى القياس فيقال إن كلية كبرى القياس الأول بديهية البطلان، إذ ليس كل من هو من تميم من عقب ذي الخويصرة، وكلية كبرى القياس الثاني أيضاً باطلة، لأن الثابت بالحديث إنما هو الجزئية التي يدل عليه لفظ "من" التبعيضية الواقعة في صدر الحديث. قوله: ولما قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه الخوارج قال رجل: الحمد لله الذي أبادهم وأرحنا منهم، فقال رضي الله عنه: كلا والذي نفسي بيده إن منهم لمن هو في أصلاب الرجال لم تحمله النساء، وليكونن آخرهم مع المسيح الدجال. أقول: فيه كلام من وجهين: (الأول) أن المؤلف لم يذكر سنده فلا يصلح هذا لأن يحتج به. و (الثاني) على تقدير ثبوته ليس في الحديث لفظ يقتضي أن المراد به الشيخ وأتباعه. قوله: وجاء في حديث عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ذكر فيه بني حنيفة

قوم مسيلمة الكذاب، وقال فيه إن واديهم لا يزال وادي فتن إلى آخر الدهر، ولا يزال في فتنه من كذابهم إلى يوم القيامة، وفي رواية ويل لليمامة ويل لا فراق له. أقول: جوابه من وجهين: (الأول) أنه لا بد على من يحتج به ذكر سنده وتوثيق رواته وإثبات اتصاله. و (الثاني) أنه ليس فيه لفظ يقتضي أن الشيخ وأتباعه مصداق هذا الحديث، فإن الشيخ ليس من بني حنيفة بل هو من تميم، قال بعض المحققين في الرد على (جلاء الغمة) : والجواب أن يقال لهذا المعنى إن شيخنا رحمه الله تعالى من رءوس تميم وأعيانهم وليس من بني حنيفة، وتميم قبل الإسلام وبعده هم رءوس نجد وساداتهم، وهم ممن قاتل بني حنيفة مع خالد وأبلوا بلاء حسناً، اهـ ملخصاً. ثم قال بعد ذلك قال تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . ومع هذا فقد أثنى تعالى على من آمن بالله واليوم الآخر {وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} الآية، فمن آمن بالله ورسوله وكذب مسيلمة ولم يؤمن به فهو من المؤمنين، وقد {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . وأما قول الصديق فالمراد به من آمن بمسيلمة وأدركه منهم كما وقع من ابن النواحة، وأما من بعدهم من نسلهم وذراريهم المؤمنين فلا يتوجه إليهم ذم ولا عيب، والصديق أجل من أن يعيب من لم يؤمن بمسيلمة ولم يشهد عصره، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلافهم كانوا على جاهلية وشرك وعبادة للأصنام والأحجار وغيرها، ولا يتوجه عيب على أحد منهم بأسلافهم: وقد يخرج الله من أصلاب المشركين والكفار من هو من خواص أوليائه وأصفيائه، ولما استأذن ملك الجبال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطبق عليهم الأخشبين لما رجمه أهل الطائف ودعا بدعائه المشهور وهو قوله: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، غير أن عافيتك هي

أوسع لي، لك العتبى حتى ترضى، أعوذ بنور وجهك أن ينزل بي سخطك أو يحل بي غضبك، فاستأذنه الملك عند ذلك فقال: بل أتاني بهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده ولا يشرك به شيئاً. إذا عرفت هذا فشيخنا ليس من بني حنيفة أصلاً، والقصد بيان كلام الصديق وما أريد به. اهـ. ثم قال: ثم لو فرض أن من بني حنيفة عالماً يدعو إلى الله تعالى، فما وجه عيبه وذمه بقومه، وقد خالفهم في الإيمان والدين؟ وسلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال ابن أبي رباح من أفضل الناس، وأسلافهم من شر الناس، بل والرسل أفضل الخلق وأكرمهم على الله تعالى والمكذبون لهم من قومهم أكثر من المستجيبين، وابن نوح على أبيه السلام لم ينتفع بإيمان أبيه ورسالته، ولم ينل بذلك ما يوجب سعادته وفلاحه، وهذا المعترض جاهلي الدين والمعرفة والمذهب اهـ. وقال في موضع آخر: وهل عاب الله ورسوله أحداً من المسلمين أو غيرهم ببلده ووطنه وكونه فارسياً أو زنجياً أو مصرياً من بلاد فرعون ومحل كفره وسلطته، وعكرمة بن أبي جهل من أفاضل الصحابة وأبوه فرعون هذه الأمة، ومن العجب أن يقول في المؤمنين {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} . وهو كما ترى من أكثف الناس حجاباً وأغلظهم ذهناً يعيب من زكاهم الله ورسوله بالإيمان به، ومتابعة رسوله ببلاد قد كفر فيها بالله وعبد معه غيره، وهو يعلم أن بلاد الخليل إبراهيم حران دار الصائبة المشركين عباد النجوم، ودار يوسف دار فرعون الكافر اللعين، وسكنها موسى بعده وأكابر بني إسرائيل، وكذلك مكة المشرفة سكنها المشركون وعلقوا الأصنام على الكعبة المشرفة، وأخرجوا نبيهم وقاتلوه المرة بعد المرة، أفيستحل مؤمن أو عاقل أو جاهل أن يلمز أحداً من المهاجرين أو من مسلمة الفتح أو من بعدهم من المؤمنين بما سلف في مكة من الشرك بالله رب العالمين. اهـ. قوله: وفي حديث ذكره في (مشكاة المصابيح) سيكون في آخر الزمان قوم يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم.

أقول: لفظ المشكاة هكذا: وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم" رواه مسلم. ولفظ المصابيح هكذا وقال "يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم، لا يضلونكم ولا يفتنونكم" رواه أبو هريرة. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هانئ عن أبي عثمان مسلم بن يسار عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم". ومن حديث شراحيل بن يزيد يقول: أخبرني مسلم بن يسار أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم، لا يضلونكم ولا يفتنونكم" اهـ. والمقصود من نقل هذه العبارات أن ما نقله المؤلف من المشكاة لا يوافق المشكاة ولا المصابيح ولا ما أخرجه مسلم، على أن الشيخ وأتباعه لا يتصور كونهم مصاديق هذه الأحاديث، فإن المراد في الحديث قوم يتحدثون بالأحاديث الكاذبة ويبتدعون أحكاماً باطلة واعتقادات فاسدة، والشيخ وأتباعه برآء من التحديث بالأحاديث الكاذبة وابتداع الأحكام الباطلة والاعتقادات الفاسدة، بل هم على طريقة السلف الصالح كما تشهد له رسائل الشيخ وأتباعه1. قوله: وأنزل الله في بني تميم {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ} . أقول: نزل هذا في جفاة بني تميم، وهذا لا يقتضي ذم بني تميم كلهم، وقد ورد في ثنائهم ما ورد وقد ذكر فيما تقدم. قوله: وأنزل الله فيهم {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} .

_ 1 ولكن كتاب الشيخ دحلان هذا يشهد عليه بأنه من هؤلاء الدجالين الذين يحدثون الناس بما لم يسمعوا هم ولا آباؤهم الذين دونوا لهم كتب السنة، وهو نفسه يعترف ببعضه أنه لم يعرف له راو. وكتبه محمد رشيد رضا.

أقول: هذه الآية لم تنزل في بني تميم بل في أفضل الأمة أبي بكر وعمر، أخرج البخاري عن ابن أبي مليكة قال: كاد الخيران أن يهلكا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم فأشار أحدهما بالأقرع ابن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل آخر قال نافع لا أحفظ اسمه، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي، قال ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} . الآية، قال ابن الزبير: فما كان عمر يُسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه، ولم يذكر ذلك عن أبيه، يعني أبا بكر. اهـ. فإن كان نزول هذه الآية موجباً لذم من نزلت فيه كما زعم المؤلف لزم ذم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، أعاذنا الله منه1. قوله: قال السيد العلوي الحداد المذكور آنفاً: إن الذي ورد في بني حنيفة وفي ذم تميم ووائل شيء كثير. أقول: قد تقدم ما ورد في ذم بني تميم والجواب عليه وما ورد في مدحهم، وأما بنو حنيفة فقد ورد فيهم حديث عمران بن حصين قال: مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو يكره ثلاثة أحياء: ثقيفاً، وبني حنيفة، وبني أمية، رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وهذا لا يقتضي ذم جميع بني حنيفة، ألا ترى إلى ثمامة بن أثال الذي مر حديثه فيما تقدم بشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيري الدنيا والآخرة أو الجنة أو بمحو ذنوبه وهو رجل من بني حنيفة، وأما وائل فلم يذكر المؤلف في ذمهم شيئاً ولم أقف عليه. قوله: وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كنت في مبدأ الرسالة أعرض نفسي على القبائل في كل موسم ولم يجبني أحد جواباً أقبح وأخبث من رد بني حنيفة".

_ 1 بل الآية تدل على فضل من نزلت فيهم، إذ شرفتهم بخطاب الله لهم وشهادته لهم بالإيمان، وتأديب الله لهم شرف عظيم. وكتبه محمد رشد رضا.

أقول: فيه كلام من وجوه: (الأول) المطالبة بسند هذا الخبر. و (الثاني) أن الشيخ ليس من بني حنيفة بل من رءوس تميم. و (الثالث) على تقدير ثبوته لا يقتضي هذا الخبر ذم جميع بني حنيفة. قوله: وأما ما نقل عن بعض العلماء أنه استصوب من فعل النجدي جمع البدو على الصلاة، وترك الفواحش الظاهرة وقطع الطريق، والدعوة إلى التوحيد فهو غلط، حيث حسن للناس فعله، ولم يطلع على ما ذكرناه من منكراته وتكفيره الأمة من ستمائة سنة، وحرق الكتب الكثيرة، وقتله كثيراً من العلماء وخواص الناس وعوامهم، واستباحة دمائهم وأموالهم، وإظهار التجسيم للباري تبارك وتعالى، وعقده الدروس لذلك وتنقيصه النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والمرسلين والأولياء ونبش قبورهم، وأمر في الأحساء أن تجعل بعض قبور الأولياء محلاً لقضاء الحاجة، ومنع الناس من قراءة دلائل الخيرات، ومن الرواتب والأذكار، ومن قراءة مولد النبي صلى الله عليه وسلم ومن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في المنائر بعد الأذان، وقتل من فعل ذلك، وكان يعرض لبعض الغوغاء الطغام بدعواه النبوة ويفهمهم ذلك من فحوى كلامه ومنع الدعاء بعد الصلاة، وكان يقسم الزكاة على هواه، وكان يعتقد أن الإسلام منحصر فيه وفيمن تبعه، وأن الخلق كلهم مشركون، وكان يصرح في مجالسه وخطبه بتكفير المتوسل بالأنبياء والملائكة والأولياء ويزعم أن من قال لأحد يا مولانا أو سيدنا فهو كافر، ولا يلتفت إلى قول الله تعالى في سيدنا يحيى عليه السلام {وَسَيِّداً} ولا إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار "قوموا لسيدكم". يعني سعد بن معاذ رضي الله عنه ويمنع من زيارة النبي صلى الله عليه وسلم ويجعله كغيره من الأموات وينكر علم النحو واللغة والفقه والتدريس، بهذه العلوم ويقول إن ذلك بدعة. أقول: قوله "غلط" عجيب فإن جمع البدو على الصلاة وترك الفواحش الظاهرة وترك قطع الطريق، والدعوة إلى التوحيد مما لا يرتاب أحد من المسلمين في كونها صواباً، وأما ما ذكره من مطاعن الشيخ فالجواب عنها أن منها ما هو البهتان الظاهر،

وهي تكفير الأمة من ستمائة سنة، وحرق الكتب الكثيرة، وقلته كثيراً من العلماء وخواص الناس وعوامهم، واستباحة دمائهم وأموالهم، وإظهار التجسيم للباري تعالى وعقده الدروس لذلك، وتنقيصه النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والمرسلين والأولياء ونبش قبورهم، وأمره أن يجعل قبول الأولياء محلاً لقضاء الحاجة، ومنع الناس من الرواتب والأذكار، وقتل من قرأ دلائل الخيرات، ومن قرأ مولد النبي صلى الله عليه وسلم، ومن صلى الله عليه وسلم على النبي صلى الله عليه وسلم على المنائر بعد الأذان، وادعاء النبوة وقسمه الزكاة على هواه، واعتقاد أن الإسلام منحصر فيه وفيمن تبعه، وأن الخلق كلهم مشركون، وتكفير المتوسل بالأنبياء والملائكة والأولياء، وتكفير من قال لأحدنا: مولانا وسيدنا، والمنع من زيارة النبي صلى الله عليه وسلم وجعله كغيره من الأموات وإنكار علم النحو واللغة والفقه والتدريس بهذه العلوم، فالجواب في هذه المطاعن كلها: سبحانك هذا بهتان عظيم. أما مسألة منع الناس من قراءة (دلائل الخيرات) فأجاب عنها الشيخ في الرسالة التي كتبها إلى عبد الرحمن بن عبد الله حيث قال: وأما دلائل الخيرات فله سبب، وذلك أني أشرت على من قبل نصيحتي من إخواني أن لا يصير في قلبه أجلّ من كتاب الله ويظن أن القراءة فيه أجل من قراءة القرآن، وأما إحراقه والنهي عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بأي لفظ كان، فهذا من البهتان. اهـ. وأما قراءة مولد النبي صلى الله عليه وسلم فلا شك في كونها بدعة محدثة، فأي محذور في المنع منها، وكذلك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على المنائر بعد الأذان بدعة، وإزالة المنكر والبدعة وتغييرهما واجب بدلائل الأحاديث الصحيحة. وأما الدعاء بعد الصلاة فإن كان بالألفاظ الواردة في الأحاديث الصحيحة من غير رفع اليدين كما ورد في الصحيحين عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لم أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد". وكما ورد عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يعلم بنيه بهؤلاء الكلمات كما يعلم المعلم الغلمان الكتابة، ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بهن دبر الصلاة "اللهم إني أعوذ بك

من البخل وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر". رواه البخاري. وكما ورد عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا صلى الصبح حين يسلم "اللهم إني أسألك علماً نافعاً ورزقاً طيباً، وعملاً متقبلاً". رواه أحمد وابن ماجه، وكما ورد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له "أوصيك يا معاذ لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك". رواه أحمد وأبو داود والنسائي بسند قوي. وكل هذه الأحاديث نقلتها عن (المنتقى) و (بلوغ المرام) فالشيخ لا يمنع منه ولا أحد من أتباعه بل ولا أحد من أهل الحديث، وإن كان الدعاء بالألفاظ غير المأثورة وبرفع اليدين، فللعلماء فيه قولان: (أحدهما) الجواز والاستحباب (والثاني) الكراهة، فإن اختار الشيخ أحد القولين فما وجه الطعن عليه1. وأما مسألة قولنا لأحدنا مولانا وسيدنا فنذكر ما ورد في الباب: (منها) ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقولن أحدكم عبدي فكلكم عبيد الله، ولكن ليقل فتاي، ولا يقول العبد ربي ولكن ليقل سيدي –وفي رواية له– ولا يقل العبد لسيده مولاي " وزاد في حديث أبي معاوية "فإن مولاكم الله عز وجل". وفي رواية له "ولا يقل أحدكم ربي وليقل سيدي ومولاي، ولا يقل أحدكم عبدي أمتي وليقل فتاي فتاتي غلامي". وأخرج هذا الحديث أبو داود عن مطرف قال: قال أبي: انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا أنت سيدنا فقال: "السيد الله" قلنا

_ 1 الصحيح من القولين في الأذكار والأدعية المأثورة بعد الصلاة أنها مستحبة من غير تقييد لها بالاجتماع أو رفع الصوت الذي يجعلها من الشعائر وهي ليست منها إذ لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا التقييد ولا فعله أصحابه ولا غيرهم من السلف، وهذا التقييد لما أطلقه الشارع يطلق عليه العلامة الشاطبي اسم "البدع الإضافية" كما حققه في كتابه "الاعتصام". وكتبه محمد رشيد رضا.

وأفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً فقال: "قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان" وأخرج أبو داود عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تقولوا للمنافق سيد فإنه إن يك سيداً فقد اسخطتم ربكم عز وجل".اهـ فقد علم من تيك الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إطلاق لفظ السيد والمولى على أحدنا، ورخص فيهما أيضاً، ووجه التوفيق أن للسيد والمولى معاني، فالنهي باعتبار بعض المعاني، والرخصة باعتبار البعض الآخر. قال في النهاية في مادة (السود) السيد يطلق على الرب والمالك والشريف والفاضل والكريم والحليم، ومتحمل أذى قومه والزوج والرئيس والمقدم. وقال في مادة (الولي) وهو اسم على جماعة كثيرة فهو الرب والمالك والسيد والمنعم والمعتق والناصر والمحب والتابع والجار وابن العم والحليف والعقيد والصهر والعبد والمعتق والمنعم عليه اهـ. فالنهي عن إطلاق لفظ السيد والمولى على غير الله محمول على السيد والمولى بمعنى الرب، والرخصة محمولة عليهما بمعنى آخر من سائر المعاني، فإن ثبت أن الشيخ قد منع من إطلاق لفظ السيد والمولى على غير الله فمراده السيد والمولى بمعنى الرب، وأما بالمعنى الآخر فكيف يتصور أن يمنع الشيخ منه؟ فإنه عقد باباً في كتاب الوحيد بهذا العنوان (باب لا يقول عبدي وأمتي) وأورد فيه حديث أبي هريرة المروي في مسلم الذي تقدم ذكره آنفاً وفيه هذا اللفظ "وليقل سيدي ومولاي" فهذا اللفظ صريح في جواز إطلاق لفظ السيد والمولى على غير الله بالمعنى الآخر1. وأما قول المؤلف: ولا يلتفت إلى قول الله تعالى في سيدنا يحيى عليه السلام {وَسَيِّداً} ولا إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار "قوموا لسيدكم" يعني سعد بن معاذ رضي الله عنه ففيه كلام من وجهين:

_ 1 وفيه وجه ثالث وهو أن يكون فيه مبالغة في الذل من قائله ومبالغة في الكبرياء من المقول له.

(الأول) أن لفظ الحديث "قوموا إلى سيدكم" لا "لسيدكم" فالمؤلف أخطأ في نقل الحديث، وهذا ليس بأول خطأ من المؤلف بل مثله كثير، ووجهه أن المؤلف ليس من أهل هذا الشأن. و (الثاني) أن لفظ السيد في قول الله تعالى في يحيى عليه السلام {وَسَيِّداً} وقوله صلى الله عليه وسلم "قوموا إلى سيدكم" ليس بمعنى الرب، فالشيخ إن ثبت منعه من إطلاق لفظ السيد على غير الله فإنما هو من السيد بمعنى الرب – فالآية والحديث لا ينافيان قول الشيخ ولا يصلحان رداً عليه. وليعلم أن لفظ السيد قد جاء في سورة يوسف في قوله تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} . وفي غير واحد من الأحاديث: (منها) حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلكم راع ومسئول عن رعتيه". وفيه "والخادم راع في مال سيده راع ومسئول عن رعيته". أخرجه البخاري. (ومنها) حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة". رواه مسلم. وحديث أبي هريرة في الحساب وفيه "أيُ فلُ ألم أكرمك وأسودك وأزوجك" رواه مسلم، وحديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر". رواه الترمذي، وحديث عمر قال: أبو بكر سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه الترمذي. وحديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين، إلا النبيين والمرسلين" رواه الترمذي، وحديث أبي بكر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول: "إن ابني هذا سيد". رواه البخاري، وحديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة". رواه الترمذي وحديث عائشة قالت: كنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده فأقبلت فاطمة، وفيه قال "يا فاطمة أترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة". متفق عليه.

وحديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد إذا نصح لسيده وأحسن عبادة الله فله أجره مرتين". متفق عليه، وحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نعما للمملوك أن يتوفاه الله يحسن عبادة ربه وطاعة سيده، نعما له". متفق عليه. وكذلك لفظ المولى جاء في غير واحد من الأحاديث: (منها) حديث البراء ابن عازب قال: صالح النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية على ثلاثة أشياء، وفيه وقال لزيد "أنت أخونا ومولانا" متفق عليه. وحديث زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كنت مولاه فعلى مولاه" رواه أحمد والترمذي، وحديث البراء بن عازب وزيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بغدير خم الحديث وفيه "اللهم من كنت مولاه فعلى مولاه، الهم وال من والاه وعاد من عاداه" فلقيه عمر بعد ذلك فقال: هنيئاً يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة، رواه أحمد. فعلم من ههنا أن إطلاق السيد والمولى بمعنى غير الرب على الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين جائز لا وجه للمنع منه، نعم زيادة لفظ سيدنا وكذا لفظ مولانا في تشهد الصلاة كما يفعله أهل الحرمين في زماننا، وكذلك زيادتهما في تشهد الأذان كما يفعله أهل القدس، وكذلك زيادتهما في التصلية على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة بدعة لا بد من تغييرها، فإن ألفاظ التشهد والأذان والتصلية في الصلاة توقيفية منقولة من الشارع لا يجوز الزيادة عليها ولا النقصان منها، ويؤيده حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل: اللهم أسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رهبة ورغبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلى إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت، فإن مت مت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تقول" فقتل استذكرهن: وبرسولك الذي أرسلت؟ قال: لا، ونبيك الذي أرسلت" اهـ أخرجه البخاري. قوله: ثم قال السيد العلوي الحداد في كتابه المتقدم ذكره: والحاصل أن المحقق عندنا من أقواله وأفعاله ما يوجب خروجه عن القواعد الإسلامية لاستحلاله أموالاً

مجمعاً على تحريمها معلومة من الدين بالضرورة بلا تأويل سائغ مع تنقيصه الأنبياء والمرسلين، والأولياء والصالحين، وتنقيصهم تعمداً كفر بإجماع الأئمة الأربعة. أقول: الجواب عنه أن هذا كله بهتان صريح. قوله: كان رجل صالح من علماء البلدة التي تسمى بالزبير اسمه الشيخ عبد الجبار يصلي إماماً في مسجد تلك البلدة، فاتفق أن اثنين تجادلا في شأن هذه الطائفة بعد أن جاء إبراهيم باشا إلى الدرعية ودمرها ودمر من فيها، فقال أحد الرجلين المتجادلين: لابد أن يرجع أمر هذا الدين كما كان وترجع هذه الدولة كما كانت، وقال الآخر: لا يرجع أمرهم أبداً كما كان ولا ما كانوا عليه من البدعة، ثم اتفقا على أنهما يذهبان في غد ويصليان صلاة الصبح خلف الشيخ عبد الجبار وينظران ماذا يقرأ بعد الفاتحة في الركعة الأولى ويجعلان ذلك فألا يحكمان به فيما اختلفا فيه، فذهبا وصليا خلفه فقرأ بعد الفاتحة في الركعة الأولى {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} . فتعجبا من ذلك ورضيا بذلك الفأل حكماً1. أقول من شرط الفأل أن لا يقصد إليه، يدل عليه حديث أبي هريرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا طيرة، وخيرها الفأل. قالوا: وما الفأل؟ قال الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم، متفق عليه، وحديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه إذا خرج لحاجة أن يسمع: "يا راشد يا نجيح" روه الترمذي. قال الحافظ في الفتح: وأما الشرع فخص الطيرة بما يسوء، والفأل بما يسر، ومن شرطه أن لا يقصد إليه فيصير من الطيرة" اهـ، وهذا الفأل كان بالقصد فلا يكون فألا بل طيرة فلا يجوز، ومن ثم يعلم مسألة الفأل من القرآن ومن كتب الصالحين، فإنه ليس بفأل بل طيرة فيكون جبتاً وشركاً وحراماً. وهذا آخر ما أردناه من الرد على كتاب (الدرر السنية) لأحمد بن زيني دحلان.

_ 1 لقد كذب الله فألهم، ودعوة الشيخ عادت على أبرك ما يكون وأقواه، والحمد لله رب العالمين، الذي بنعمته تتم الصالحات. اه‍ـ محمد بن عبد الرزاق حمزة.

مصادر ومراجع

مصادر ومراجع ... مصادر الكتاب صفحة 538-539 فهرس عام صفحة 540-551 مصادر الكتاب كتب التفسير فتح القدير للشوكاني مفاتيح الغيب للفخر الرازي تفسير أبي السعود مدارك التنزيل للنسفي تفسير البيضاوي فتح البيان لصديق حسن خان تفسير ابن كثير الإكليل للسيوطي معالم التنزيل للبغوي الفتوحات الربانية كتب الحديث وشروحها صحيح البخاري تلخيص سنن أبي داود للحافظ المنذري صحيح مسلم تخريج أحاديث الهداية للزيلعي جامع الترمذي تخريج أحاديث الشفا للسيوطي سنن أبي داود الحصن الحصين لابن الجزري سنن النسائي سنن ابن ماجه نزل الأبرار للنواب صديق حسن خان سنن الدارمي شرح الموطأ للزرقاني سنن الدارقطني شرح معاني الآثار للطحاوي الترغيب والترهيب للمنذري بلوغ المرام للحافظ ابن حجر مجمع الزوائد للحافظ الهيثمي مسك الختام شرح بلوغ المراد لصديق تلخيص الحبير للحافظ ابن حجر حسن خان الأذكار للنووي منتقى الأخبار للمجد ابن تيمية شرح صحيح مسلم له مشكاة المصابيح تخريج الأذكار للحافظ ابن حجر المقاصد الحسنة للسخاوي شرح الأذكار لابن علان تنزيه الشريعة المرفوعة، عن الأخبار الشنيعة فتح الباري للحافظ ابن حجر الموضوعة لأبي الحسن علي بن محمد بن عراق شرح البخاري للقسطلاني الكناني

كتاب الرجال والمصطلح والسيرة والتاريخ تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر توضيح الأفكار لمحمد بن إسماعيل تقريب التهذيب للحافظ ابن حجر الأمير الصنعاني لسان الميزان للحافظ ابن حجر فتح المغيث للحافظ السخاوي ميزان الاعتدال للحافظ الذهبي تنقيح الأفكار على توضيح الأفكار الكاشف للحافظ الذهبي تاريخ نجد لابن غنام خلاصة أسماء الرجال للحافظ الخزرجي الرياض النضرة للمحب الطبري تدريب الراوي للحافظ السيوطي المواهب اللدنية للقسطلاني علوم الحديث للحافظ ابن الصلاح شرح المواهب للزرقاني الأنساب للسمعاني الخصائص الكبرى للسيوطي كتب الفقه وأصوله والجدل ونحوها زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم البرهان شرح مواهب الرحمن فقه حنفي إغاثة اللهفان الكبرى لابن القيم المحلى على جمع الجوامع تبعيد الشيطان مختصر إغاثة اللهفان حاشية السعد على العضدي رد المحتار لابن عابدين التلويح على التوضيح للسعد الميزان الكبرى للشعراني تطهير الاعتقاد للصنعاني الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد الأشباه والنظائر لابن نجيم للشوكاني الصارم المنكي للحافظ ابن عبد الهادي جلاء العينين للسيد نعمان الآلوسي الجوهر المنظم لابن حجر الهيتمي منهاج التأسيس للشيخ عبد اللطيف بن تلبيس إبليس لابن الجوزي عبد الرحمن بن حسن مجالس الأبرار لملا سعد الرومي مصباح الظلام. له كتب اللغة الصحاح للجوهري مجمع البحار للفتني المصباح المنير للفيومي تهذيب الأسماء واللغات للنووي النهاية لابن الأثير القاموس المحيط للفيروز آبادي

§1/1