صور وخواطر

علي الطنطاوي

علي الطنطاوي صور وخواطر طبعة جديدة راجعها وصحّحها وعلّق عليها حفيد المؤلف مجاهد مأمون ديرانية دار المنار للنشر والتوزيع

حقوق الطبع محفوظة يُمنَع نقل أو تخزين أو إعادة إنتاج أي جزء من هذا الكتاب بأي شكل أو بأية وسيلة: تصويرية أو تسجيلية أو إلكترونية أو غير ذلك إلا بإذن خطي مسبق من الناشر الطبعة العاشرة 2011 دار المنار للنشر والتوزيع ص ب 1250 جدة 21431 المملكة العربية السعودية هاتف 6603652 فاكس 6603238 المستودع 6675864

مقدمة

مقدمة طبعة دار المنارة بخط المؤلف رحمه الله بسم الله وبحمده أصدّر هذه الطبعة الجديدة من كتابي «صور وخواطر»؛ وأسأل الله أن يستمر طبعُه وأن يدوم النفع به، وأن يكتب لي الثواب عليه وأن يجزي ناشره خيراً. علي الطنطاوي مكة المكرمة غرة شوال 1408

عام جديد

عام جديد نشرت سنة 1966 (¬1) لمّا قعدت أكتب هذا الفصل لم يكن في ذهني شيء عن الموضوع الذي أكتب فيه، ولكني نظرت في التقويم المعلَّق بالجدار فوجدت الموضوع؛ الموضوع أول المحرّم. أفيمُرّ بكم أول المحرم كما يمر غيره من الأيام، وفي صبيحته وُلد عام وفي ليلته قضى عام؟ يجتاز المسافر مرحلة من الطريق فيحطّ الرحال ويقف ليستريح، فيتلفَّتُ وراءه ليرى كم قطع وينظر أمامه ليبصر كم بقي. والتاجر تنتهي سنته، فيقيم موازينه ويحسب غلته ليعلم ماذا ربح وماذا خسر. وهذه «محطة» جديدة نقف فيها ونحن نسير على طريق الحياة، وسنة أخرى تمضي من العمر، أفلا نقف عليها ساعة نفكر ونذكر ونحسب ونعتبر؟ ¬

_ (¬1) لم تكن هذه المقالة في الطبعة الأولى من كتاب «صور وخواطر» التي صدرت سنة 1958، وإنما أضافها إليه مؤلفه في طبعة لاحقة، وأصلها حديث حدّثَ به من إذاعة «صوت الإسلام» ثم نشره في مجلة «الوعي الإسلامي» (مجاهد).

نحن اليوم في أول المحرم من سنة ست وثمانين وثلاثمئة وألف، ننظر إليه في الفجر فنراه يوماً طويلاً يمتد أمامنا، نستطيع أن نعمل فيه ما نشاء، نستمتع فيه -إن أردنا- بدنيانا، ونحمّله ما نريد حمله من الزاد إلى أُخرانا، فإذا أمسى المساء وذهب اليوم لم نعد نستطيع أن نستفيد منه ولا أن نستمتع فيه. نظنّه باقياً لنا، فنُبَذّر في دقائقه كما يُبَذّر المسرف في ماله، ونضيع ساعاته، ولكنا لا نجده حتى نفقده. إنه لا يكاد يبدأ حتى ينتهي، ثم يمضي فلا يعود أبداً. اذكروا الآن أول يوم من المحرم سنة خمس وثمانين. لقد كنا نراه أيضاً ونحن نستقبله طويلاً، وكنا نقدر أن نصنع فيه خيراً كثيراً، فأين هو منا اليوم؟ وأين الأول من المحرم سنة أربع وثمانين؟ وأين أوائل المحرَّمات التي مرت بنا أو مررنا نحن بها من قبل؟ ماذا بقي منها في أيدينا؟ تمضي السنة وتجيء أخرى بعدها، فمَن لم يعمل خيراً فيها عمله في التي تليها. إن فاتك عمل الخير في النهار فعندك الليل خِلْفَة منه، فاعمل الخير فيه. مواسم متتابعة، إن أضعت الموسم فلم تزرع فيه فازرع في الذي يليه، وإن رسبت في الامتحان في دورة حزيران فعندك دورة أيلول. هي خلفة لك ما بقيت حياً، ولكن هل تعلم كم تبقى حياً؟ * * * ينقضي العام فتظن أنك عشته، وأنت في الحقيقة قَدْ مِتَّه! لا تعجبوا من هذا المقال ودعوني أوضح الفكرة بالمثال: أنت

كالموظف الذي مُنح إجازته السنوية شهراً كاملاً، إذا قضى فيها عشرة أيام يكون قد خسر منها عشرة أيام فصار الشهر عشرين، فإذا مرَّ عشرون صار الشهر عشراً، فإذا تم الشهر انقضت الإجازة فكأنها لم تكن. أتظنون أني «أتفلسف»؟ لا والله، بل أصف الواقع. نحن كلما ازداد عمر الواحد منا سنة في العَدّ نقصت من عمره سنة في الحقيقة، حتى ينفد العمر ويأتي الأجل، ونستقبل حياة أخرى تبدأ بالموت. فتحت كتابي «من حديث النفس» فقرأت فيه فصلاً نشرته في العدد الممتاز من مجلة الرسالة في مطلع سنة 1938، عنوانه: «على أبواب الثلاثين»، لو تصورت يومئذ أني سأقرؤه في مطلع سنة 1966 لتراءى لعيني دهر طويل. ثمان وعشرون سنة، أنظر إليها الآن بعدما مَرَّتْ فأراها كأنها يوم وليلة. ولو نظرت الآن إلى ما بعد ثمان وعشرين سنة، إلى سنة 1994، لرأيتها بعيدة جداً، ولكن من يقرأ هذا الفصل يومئذ سيرى سنتنا هذه كأنما كانت بالأمس. فنحن نوسع المستقبل بالأمل. * * * وما هذا المستقبل الذي نسعى إليه ونَكِدُّ من أجله؟ لما كنت طالباً كان مستقبلي في نيل الشهادة، فلما نلتها صار المستقبل في الوصول إلى الوظيفة، فلما وصلت إليها صار

المستقبل في بناء الأسرة وإنشاء الدار وإنسال الولد، فلما صارت لي الزوجة والدار والأولاد والحَفَدة صار المستقبل في الترقيات والعلاوات والمال المدَّخَر، وفي الشهرة والمجد والكتب والمقالات، فلما تمَّ لي -بفضل الله- ذلك كله لم يبقَ لي مستقبل أفكر فيه، إلا أن ينوّر الله بصيرتي ويريني طريقي فأعمل للمستقبل الباقي، للآخرة، وإنّي لَفي غفلة عنها. فالمستقبل في الدنيا شيء لا وجود له؛ إنه يوم لن يأتي أبداً، لأنه إن جاء صار حاضراً وطفق صاحبه يفتش عن مستقبل آخر يركض وراءه. إنه -كما قلت مرة- مثل حزمة الحشيش المعلَّقة بخشبة مربوطة بسرج الفرس، تلوح أمام عينيه فهو يعدو ليصل إليها، وهي تعدو معه فلا يدركها أبداً. إن المستقبل الحق في الآخرة، فأين منا من يعمل له؟ بل أين من يفكر فيه؟ وقد يكون هذا الذي أقوله فلسفة، ولكنها فلسفة واقعة، إنها حقائق لا يفكر فيها أحدٌ منّا. نحن كالمسافر في الباخرة أو في الطيارة، همّه الغرفة الجميلة أو المقعد المريح، يركب في الدرجة الأولى ويأكل أطيب الطعام ويَصْفَح الجرائد والمجلات، ينقل بصره فيما حوله أو تحته من المشاهد، ولكن هذا كله لأيام السفر، وأيام السفر معدودة. أفما كان خيراً له لو فكر فيما يريحه في إقامته في البلد الذي يمضي إليه؟ أما كان أنفع له لو تحمل بعض المتاعب في ليالي السفر القليلة، ووفّر ماله ليشتري به الراحة في سنوات الإقامة الطويلة؟ أم قد شغلته متعةُ السفر عن التفكير في سبب السفر، وجمالُ الطريق عن غاية الطريق؟

الحياة سفر، فكم من الناس يسأل نفسه: لِمَ السفر؟ وإلى أين الرحيل؟ كم منا من يسأل: ما الحياة؟ ولماذا خُلقنا؟ وإلامَ المصير؟ إننا نقطع الوقت من الصباح إلى المساء في مشاغل نخترعها لننسى بها أنفسنا ونبدّد بها أعمارنا؛ من أحاديث تافهة، ومجالس فارغة، ومطالعات في كتب لا تنفع أو نظرات في مجلات لا تفيد، فإن خلا أحدنا بنفسه ثَقُلت عليه صحبة نفسه وحاول الهرب منها، كأن نفسه عدوٌّ له لا يطيق مجالسته، فهو يضيق بها ويفتّش عما يشغله عنها، وكأن عمره عبء عليه، فهو يحاول أن يلقيه عن عاتقه وأن يتخلص منه. نَفِرُّ من نفوسنا ونبدد أعمارنا في لذائذ نتوهمها ونسعى وراءها، ولكنّا لا ننالها. لما كنت أشرف على طبع كتاب ابن الجوزي، «صيد الخاطر»، الذي قَدَّمتُ له وعلقت عليه، وجدت فيه كلمة عظيمة يقول فيها: "إن لذائذ الدنيا نماذج تُعرَض ولا تُقبَض". نماذج للعرض والإعلان لا للبيع والاقتناء، فأنت تُسَرّ برؤيتها ولكن لا تقدر على امتلاكها. خذوا أكبر لذات الدنيا، اللذة المعروفة، تروا أنها ليست في الحقيقة إلا لحظة، دقيقة أو دقيقتين، لا تكاد تحس بأنك قد وصلت إليها حتى تجد أنك قد فقدتها. إنها ليست إلا نموذجاً مصغَّراً للذة الآخرة، فما يستمر هنا دقيقة فقط يدوم هناك إلى الأبد. إنك فيها كمن يعطى ملعقة من الطعام ليذوقه ويجد طعمه

في حلقه، فإذا ارتضاه اشترى منه فأكل حتى شبع ... فالذواق في الدنيا والشبع في الآخرة. لذلك ترى الرجل الفاسق يشكو الجوع الجنسي مهما ذاق من الحرام. يعرف مئة من النساء، ثم يرى الواحدة بعد المئة فتطلبها نفسه كأنه ما عرف امرأة قط! ولا يزال كذلك حتى يعجز جسده ولا تكلّ رغبته، فهو كالعطشان الذي يشرب من ماء البحر، وكلما ازداد شرباً ازداد عطشاً. ومثلها لذة المال. إن الفقير الذي ينام في كوخ الطين ويأكل خبز الشعير، ويمشي بالحذاء البالي أو يركب عربة النقل التي يجرها الحمار، يتصور أنه لو نام يوماً على فراش الغني أو أكل على مائدته أو ركب في سيارته لنال اللذائذ كلها. ولكن الغني الذي أَلِفَ ذلك لم يعد يجد فيه لذة، بل يجد الألم إن فقد منه شيئاً. والشاب المغمور يتمنى أن يكون علماً مشهوراً تردد الإذاعات اسمه وتنشر الصحف رسمه ويتحدث الناس عنه، ولكن العالم المشهور الذي ألف ذلك لم يعد يهتم به ولا يباليه. إن لذّات الدنيا مثل السراب. ألا تعرفون السراب؟ تراه من بعيد غديراً، فإذا جئته لم تجد إلا الصحراء، فهو ماء ولكن من بعيد! * * * عفواً يا سادتي القراء إن جئت أعظكم وأزهّدكم، فما أردت وعظاً ولا تزهيداً، وما أنا من الوُعّاظ الزُّهّاد، ولكنها خواطر أثارها في نفسي أننا في اليوم الأول من المحرم، وأني وقفت كما يقف المسافر وقعدت أحسب كما يحسب التاجر.

إني أنظر إلى حياتنا هذه التي نعيشها، فأرانا فيها كموكب من السيارات تمضي مجنونة مسرعة متسابقة، هَمُّ كل واحدة أن تسبق الأخرى وتخلفها وراءها. ولكن لو سألت سُوّاقها إلى أين يسيرون ولماذا يسرعون لما وجدت عندهم جواباً. سباق إلى المال، سباق إلى اللذات، سباق إلى الوظائف، سباق في كل طريق من طرق الحياة ... ثم ينتهي العمر، فنترك كل ما استبقنا إليه ونمضي. فلنقف لحظات في مطلع كل عام لنسائل أنفسنا: ما الذي نربحه من هذا السباق؟ أوَليس الربح الحق في جهة أخرى غير الجهة التي يتجه الناس كلهم إليها ويحسبون أن الربح المقصود فيها؟ إن هذا اليوم نذير لنا بأن السنة المقبلة ستمضي كما مضت السنوات السابقة، وأن كل واحدة منها تحمل معها جزءاً من أعمارنا، حتى تنفد أعمارنا. فلنتدارك ما بقي، ولنكن يوماً واحداً في السنة من المتناصحين ومن المتواصين بالحق والمتواصين بالصبر. إنكم تقرؤون في المجلات كلاماً كثيراً، كلاماً جليلاً يزيد ثقافة عقولكم، وكلاماً جميلاً يُدخل البهجة على قلوبكم. وكل هذا خير، ولكن خيراً منه أن تسمعوا كلمة تذكركم أخراكم وتنفعكم يوم العرض على ربكم. وما أصلح -والله- لأن أقول أنا هذه الكلمة، وأنا إلى أن أُوعَظ فأتّعظ أحوج مني إلى أن أعظ، ولكن «على مدير الكاس أن ينهى الجُلاّس». لما أردت أن أسافر إلى جدة من بيروت قعدت في مطعم

المطار أفطر وأنتظر، وكان المطعم ممتلئاً، وكل من فيه يأكل ويشرب ويتحدث مثلما كنت آكل وأشرب وأتحدث، تراهم فتحسبهم أصدقاء متلازمين لا يفترقون وأنّ شَمْلَهم جميع لا يتشتّت، ولكن مطار بيروت (الذي تحط فيه كل ربع ساعة طيارة وتقوم منه طيارة) لا يلبث الصوت أن يخرج منه ينادي من المكبِّر: ركاب طائرة «BOAC» المسافرة إلى لندن يتوجهون إلى أرض المطار. فتترك أكلَها وشربها جماعةٌ من الحاضرين وتقوم. ثم ينادي: ركاب طائرة «KLM» المسافرة إلى جاكرتا، فيترك ناسٌ أكلَهم وشربهم ويقومون. وطائرة إلى أميركا، وأخرى إلى الكونغو، وثالثة إلى إيران، ورابعة إلى موسكو ... فنظرت في الناس وقلت لأخي (وكان معي): هذه هي حياتنا؛ نعكف على طعامنا وشرابنا ومشاغل عيشتنا، وإذا بالنداء يدعو مَن جاء دوره ليذهب إلى حيث يُحمَل، إما إلى غابات إفريقيا وإما إلى ثلج سيبيريا، وإما إلى ملاهي باريس ومشاهد نيويورك. فمَن كان مستعداً للسفر، حاجاته مَقْضِيَّة وحقائبه مُعَدَّة وحمله خفيف، مضى مستريح البال، ومَن جاء دوره وهو لم يعد متاعه ولم يقضِ حاجته ذهب بلا زاد ومضى على غير استعداد. أفلا نستعدّ للسَّفْرة التي لا بد منها، ونتزود بها الزاد الذي لا ينفع غيره فيها؟ أم نحن نتناسى الموتَ وهو أمامنا، نظنه أبعد شيء عنا وهو أقرب الأشياء منا، نصلّي على الأموات ونشيّع الجنائز ونحن نفكر في أمور الدنيا، كأنّا مُخَلَّدون فيها وكأن الموت كُتب على الناس كلهم إلا علينا؟ * * *

يا إخوتي القراء: إننا نعيش الأيام كلها في غفلة، فلننتبه اليوم، ولنقف كما يقف المسافر على المحطة، ينظر كم قطع من الطريق وكم بقي عليه منه. ولنفتح دفاترنا كما يفتح دفاترَه التاجرُ، لنرى ماذا ربحنا في سنتنا التي مضت وماذا خسرنا. ولنَمُدَّ أيدينا فنقول: يا ربنا، اغفر لنا ما سلف ووفقنا فيما بقي. اللهم إذا كتبت لنا أن نعيش إلى مثل هذا اليوم من قابل، فاجعل ما يأتي خيراً لنا وللمسلمين مما ذهب، وإلا فاكتب لنا بفضلك وكرمك حسنَ الخاتمة، واغفر لنا ذنوبنا، وكفِّرْ عنّا سيئاتنا، وتوفَّنا مع الأبرار. * * *

السعادة

السّعادة نشرت سنة 1948 كنت أقرأ في ترجمة كانْت، الفيلسوف الألماني الأشهر، أنه كان لجاره ديك قد وضعه على السطح قبالة مكتبه، فكلما عمد إلى شغله صاح الديك فأزعجه عن عمله وقطع عليه فكره. فلما ضاق به بعث خادمه ليشتريه ويذبحه ويطعمه من لحمه، ودعا إلى ذلك صديقاً له، وقعدا ينتظران الغداء، ويحدّثه عن هذا الديك وما كان يلقى منه من إزعاج وما وجد بعده من لذة وراحة، ففكّر في أمان واشتغل في هدوء، فلم يقلقه صوته ولم يزعجه صياحه. ودخل الخادم بالطعام، وقال معتذراً إن الجار أبى أن يبيع ديكه فاشترى غيره من السوق، فانتبه كانْت، فإذا الديك لا يزال يصيح! فكّرتُ في هذا الفيلسوف العظيم، فرأيته قد شقي بهذا الديك لأنه كان يصيح وسَعِدَ به وهو لا يزال يصيح، ما تبدّل الواقع، ما تبدّل إلا نفسه؛ فنفسه هي التي أشقته لا الديك، ونفسه هي التي أسعدته. وقلت: ما دامت السعادة في أيدينا فلماذا نطلبها من غيرنا؟ وما دامت قريبة منا فلماذا نبعدها عنا، إذ نمشي

إليها من غير طريقها ونَلِجُها من غير بابها؟ إننا نريد أن نذبح «الديك» لنستريح من صوته، ولو ذبحناه لوجدنا في مكانه مئة ديك لأن الأرض مملوءة بالدِّيَكة، فلماذا لا نرفع الديكة من رؤوسنا إذا لم يمكن أن نرفعها من الأرض؟ لماذا لا نسدّ آذاننا عنها إذا لم نقدر أن نسدّ أفواهها عنا؟ لماذا لا نجعل أهواءنا وفق ما في الوجود إذا لم نستطع أن نجعل كل ما في الوجود وفق أهوائنا؟ أنام في داري فلا توقظني عربات الشارع وهي تزلزل بسيرها الأرض، ولا أصوات الباعة وهي ترعد في الجو، ولا أبواق السيارات وهي تُسمع الموتى، وتوقظني همسة في جو الدار ضعيفة وخطوة على ثراها خفيفة، فإن نمت في الفندق لم يوقظني شيء وراء باب غرفتي، فإن كان نومي في القطار لم يزعجني عن منامي حديث جيراني إلى جنبي ولا صوت القطار وهو يهتزّ بي، فكيف احتملت هنا ما لم أكن أحتمله هناك، وآلمني هناك ما لم يؤلمني هنا؟ ذلك لأن الحس كالنور، إن أطلقتَه أضاء لك ما حولك فرأيت ما تحب وما تكره، وإن حجبته حجب الأشياء عنك، فأنت لا تسمع أصوات الشارع مع أنها أشد وأقوى وتسمع همس الدار وهو أضعف وأخفت، لأنك وجَّهْتَ إلى هذا حسَّك وأغفلت ذلك وأخرجته من نفسك فلم تسمعه على شدته، وخفي عنك كما تختفي في الظلام عظائم الموجودات. فلماذا لا تصرف حسّك عن كل مكروه؟ إنه ليس كل ألم يدخل قلبك، ولكن ما

أدخلته أنت برضاك وقبلته باختيارك، كما يُدخل الملكُ العدوَّ قلعتَه بثغرة يتركها في سورها! فلماذا لا نقوّي نفوسنا حتى نتخذ منها سوراً دون الآلام؟ إني أسمعكم تتهامسون، تقولون: فلسفة وأوهام. نعم، إنها فلسفة، ولكن ليست كل فلسفة هذياناً. وإنها أوهام، ولكن الحياة كلها أوهام تزيد وتنقص ونسعد بها ونشقى، أو شيء كالأوهام: يحمل الرجلان المتكافئان في القوة الحِمْلَ الواحد، فيشكو هذا ويتذمر فكأنه حمل حملين، ويضحك هذا ويغنّي فكأنه ما حمل شيئاً! ويمرض الرجلان المتعادلان في الجسم المرضَ الواحد، فيتشاءم هذا ويخاف ويتصور الموت، فيكون مع المرض على نفسه، فلا ينجو منه، ويصبر هذا ويتفاءل ويتخيل الصحة، فتسرع إليه ويسرع إليها. ويُحكَم على الرجلين بالموت، فيجزع هذا ويفزع فيموت ألف مرة من قبل الممات، ويملك ذلك أمره ويحكّم فكره، فإذا لم تُنجه من الموت حيلتُه لم يقتله قبل الموت وهمه. وهذا بسمارك، رجل الدم والحديد وعبقري الحرب والسلم، لم يكن يصبر عن التدخين دقيقة واحدة، وكان لا يفتأ يوقد الدَّخينة من الدخينة نهارَه كله، فإذا افتقدها خلَّ فكره وساء تدبيره. وكان يوماً في حرب، فنظر فلم يجد معه إلاّ دخينة واحدة لم يصل إلى غيرها، فأخّرها إلى اللحظة التي يشتدّ عليه فيها الضيق ويعظم الهم، وبقي أسبوعاً كاملاً من غير دخان صابراً عنه أملاً بهذه الدخينة، فلما رأى ذلك ترك التدخين وانصرف عنه، لأنه أبى أن تكون سعادته مرهونة بلفافة تبغ واحدة.

وهذا العلامة المؤرخ الشيخ الخضري، أُصيب في أواخر عمره بتوهم أن في أمعائه ثعباناً، فراجع الأطباء وسأل الحكماء، فكانوا يدارون الضحك حياء منه، ويخبرونه أن الأمعاء قد يسكنها الدود ولكن لا تقطنها الثعابين، فلا يصدق. حتى وصل إلى طبيب حاذق بالطب بصير بالنفسيات، قد سمع بقصته، فسقاه مُسْهلاً وأدخله المُستراح (المرحاض) -وكان قد وضع له فيه ثعباناً ميتاً- فلما رآه أشرق وجهه ونشط جسمه وأحسّ بالعافية، ونزل يقفز قفزاً، وكان قد صعد متحاملاً على نفسه يلهث إعياء ويئن ويتوجع. ولم يمرض بعد ذلك أبداً. ما شُفي الشيخ لأن ثعباناً كان في بطنه ونزل، بل لأن ثعباناً كان في رأسه وطار (¬1)، لأنه أيقظ قُوى نفسه التي كانت نائمة. وإن في النفس الإنسانية لَقُوىً إذا عرفتم كيف تفيدون منها صنعت لكم العجائب. تنام هذه القوى فيوقظها الخوف أو الفرح. ألم يتفق لواحد منكم أن أصبح مريضاً، خامل الجسد واهي العزم لا يستطيع أن ينقلب من جنب إلى جنب، فرأى حية تُقبل عليه ولم يجد من يدفعها عنه، فوثب من الفراش وثباً كأنه لم يكن المريض الواهن الجسم؟ أو رجع إلى داره العصر وهو ساغب لاغب قد هَدَّه الجوع والتعب، لا يبتغي إلا كرسياً يطرح نفسه عليه، فوجد برقية من حبيب له أنه قادم الساعة من سفره أو كتاباً مستعجَلاً من الوزير ¬

_ (¬1) انظر مقالة «مرضى الوهم» في كتاب «فصول اجتماعية»، وفيها تفصيل لهذا الإجمال وفيها حكايات مشابهة (مجاهد).

يدعوه إليه ليرقي درجته، فأحسّ الخفة والشبع، وعدا عدواً إلى المحطة أو إلى مقر الوزير؟ هذه القوى هي منبع السعادة، تتفجر منها كما يتفجر الماء من الصخر نقياً عذباً، فتتركونه وتستقون من الغدران الآسنة والسواقي العَكِرة. * * * يا أيها القراء: إنكم أغنياء ولكنكم لا تعرفون مقدار الثروة التي تملكونها، فترمونها زهداً فيها واحتقاراً لها. يُصاب أحدكم بصداع أو مغص أو بوجع الضرس فيرى الدنيا سوداء مظلمة، فلماذا لم يَرَها -لمّا كان صحيحاً- بيضاء مُشرقة؟ ويُحمى عن الطعام ويُمنَع منه فيشتهي لقمة الخبز ومضغة اللحم ويحسد من يأكلها، فلماذا لم يعرف لها لذّتها قبل المرض؟ لماذا لا تعرفون النعم إلا عند فقدها؟ لماذا يبكي الشيخ على شبابه ولا يضحك الشاب لصباه؟ لماذا لا نرى السعادة إلا إذا ابتعدت عنا، ولا نبصرها إلا غارقة في ظلام الماضي أو متَّشِحة بضباب المستقبل؟ كلٌّ يبكي ماضيه ويَحِنُّ إليه، فلماذا لا نفكر في الحاضر قبل أن يصير ماضياً؟ أيها السادة والسيدات: إنّا نحسب الغنى بالمال وحده، وما المال وحده؟ ألا تعرفون قصة الملك المريض الذي كان يُؤتَى بأطايب الطعام فلا يستطيع أن يأكل منها شيئاً، لمّا نظر من شُبّاكه

إلى البستاني وهو يأكل الخبز الأسمر بالزيتون الأسود، يدفع اللقمة في فمه ويتناول الثانية بيده ويأخذ الثالثة بعينه، فتمنى أن يجد مثل هذه الشهية ويكون بستانياً؟ فلماذا لا تقدّرون ثمن الصحة؟ أما للصحّة ثمن؟ من يرضى منكم أن ينزل عن بصره ويأخذ مئة ألف دولار؟ من يبيع قطعة من أنفه بأموال الشربتلي؟ (¬1) أما تعرفون قصة الرجل الذي ضل في الصحراء وكاد يهلك جوعاً وعطشاً، لما رأى غدير ماء وإلى جنبه كيس من الجلد، فشرب من الغدير وفتح الكيس يأمل أن يجد فيه تمراً أو خبزاً يابساً، فلما رأى ما فيه ارتَدّ يأساً وسقط إعياء. لقد رآه مملوءاً بالذهب! وذاك الذي لقي مثل ليلة القدر، فزعموا أنه سأل ربه أن يحوّل كل ما مسته يده ذهباً، ومس الحجر فصار ذهباً، فكاد يُجَنّ من فرحته لاستجابة دعوته، ومشى إلى بيته ما تسعه الدنيا، وعمد إلى طعامه ليأكل، فمَسّ الطعام فصار ذهباً وبقي جائعاً، وأقبلت بنته تواسيه، فعانقها فصارت ذهباً ... فقعد يبكي يسأل ربه أن يعيد إليه بنته وسُفرته وأن يبعد عنه الذهب. وروتشلد الذي دخل خزانةَ ماله الهائلة، فانصفق عليه بابها فمات غريقاً في بحر من الذهب! * * * يا سادة: لماذا تطلبون الذهب وأنتم تملكون ذهباً كثيراً؟ ¬

_ (¬1) الشربتلي أحد أثرياء مدينة جدة المعروفين.

أليس البصر من ذهب، والصحة من ذهب، والوقت من ذهب؟ فلماذا لا نستفيد من أوقاتنا؟ لماذا لا نعرف قيمة الحياة؟ كلّفتني المجلة بهذا الفصل من شهر، فما زلت أماطل به والوقت يمر، أيامه ساعات وساعاته دقائق، لا أشعر بها ولا أنتفع منها، فكأنها صناديق ضخمة خالية، حتى إذا دنا الموعد ولم يبق إلا يوم واحد أقبلت على الوقت أنتفع به، فكانت الدقيقة ساعة والساعة يوماً، فكأنها العلب الصغيرة المترعة جوهراً وتِبراً، واستفدت من كل لحظة، حتى لقد كتبت أكثره في محطة «باب اللوق» (¬1) وأنا أنتظر الترام في زحمة الناس وتدافع الركاب، فكانت لحظة أبرك عليّ من تلك الأيام كلها، وأسفت على أمثالها! فلو أني فكرت -كلما وقفت أنتظر الترام- بشيء أكتبه (وأنا أقف كل يوم أكثر من ساعة متفرقة أجزاؤها) لربحت شيئاً كثيراً. ولقد كان الصديق الجليل الأستاذ الشيخ بهجة البيطار يتردد من سنوات بين دمشق وبيروت، يعلّم في كلية المقاصد وثانوية البنات، فكان يتسلى في القطار بالنظر في كتاب «قواعد التحديث» للإمام القاسمي، فكان من ذلك تصحيحاته وتعليقاته المطبوعة مع الكتاب. والعلامة ابن عابدين كان يطالع دائماً (¬2)، حتى إنه إذا قام إلى الوضوء أو قعد للأكل أمَرَ مَن يتلو عليه شيئاً ¬

_ (¬1) في مصر، وقد كنت سنة 1947 مقيماً فيها. (¬2) انظر فصل «ابن عابدين ورسائله» في كتاب «فصول في الثقافة والأدب» (مجاهد).

من العلم، فألّف الحاشية. والسَّرَخْسي أملى وهو محبوس في الجُبّ كتابه «المبسوط»، أجَلّ كتب الفقه في الدنيا (¬1). وأنا أعجب ممّن يشكو ضيق الوقت. وهل يضيّق الوقتَ إلا الغفلةُ أو الفوضى؟ انظروا كم يقرأ الطالب ليلة الامتحان، تروا أنه لو قرأ مثله، لا أقول كل ليلة بل كل أسبوع، لكان علاّمة الدنيا. بل انظروا إلى هؤلاء الذين ألّفوا مئات الكتب كابن الجوزي والطبري والسيوطي والجاحظ، بل خذوا كتاباً واحداً كـ «نهاية الأرَب» أو «لسان العرب» وانظروا: هل يستطيع واحدٌ منكم أن يصبر على قراءته كله ونَسْخه مرة واحدة بخطه، فضلاً عن تأليف مثله من عنده؟ * * * والذهن البشري، أليس ثروة؟ أما له ثمن؟ فلماذا نشقى بالجنون ولا نسعد بالعقل؟ لماذا لا نمكّن للذهن أن يعمل، ولو عمل لجاء بالمدهشات؟ لا أذكر الفلاسفة والمخترعين، ولكن أذكّركم بشيء قريب منكم سهل عليكم هو الحفظ. إنكم تسمعون قصة البخاري لمّا امتحنوه بمئة حديث خلطوا متونَها وأَسْنادَها، فأعاد المئة بخطئها وصوابها! (¬2) والشافعي لما كتب مجلس مالك ¬

_ (¬1) «المبسوط» هو أوسع كتب الأحناف، وهو شرح «الكافي» للحاكم الشهيد. وكان السَّرَخْسي محبوساً لمّا ألَّفَه، حبسه في الجُبّ خاقانُ أوزجَنْد بسبب كلمة حق نصحه بها (مجاهد). (¬2) القصة جميلة فلا تفوّتوا قراءتها، وهي في مقالة «أمير المؤمنين في الحديث»، في كتاب «رجال من التاريخ» (مجاهد).

بريقه على كفه وأعاده من حفظه، والمعرّي لمّا سمع أرمنيَّيْن يتحاسبان بلغتهما، فلما استشهداه أعاد كلامهما وهو لا يفهمه! والأصمعي وحمّاد الراوية وما كانا يحفظان من الأخبار والأشعار، وأحمد وابن معين وما كانا يرويان من الأحاديث والآثار ... (¬1) والمئات من أمثال هؤلاء، فتعجبون. ولو فكّرتم في أنفسكم لرأيتم أنكم قادرون على مثل هذا، ولكنكم لا تفعلون. انظروا كم يحفظ كل منكم من أسماء الناس والبلدان والصحف والمجلات والأغاني والنكات والمطاعم والمشارب، وكم قصة يروي من قصص الناس والتاريخ، وكم يشغل من ذهنه ما يمر به كل يوم من المقروءات والمرئيات والمسموعات، فلو وضع مكان هذا الباطل علماً خالصاً لكان مثلَ هؤلاء الذين ذكرت. أعرف نادلاً كان في قهوة فاروق في الشام من عشرين سنة اسمه حلمي، يدور على رُوّاد القهوة وهم مئات يسألهم ماذا يطلبون: قهوة أو شاياً أو هاضوماً (كازوزة) أو ليموناً، والقهوة حلوة ومُرّة، والشاي أحمر وأخضر، والكازوزة أنواع، ثم يقوم وسط القهوة يردد هذه الطلبات جهراً في نَفَس واحد، ثم يجيء بها فما يخرم مما طلب أحدٌ حرفاً! * * * فيا سادة: إن الصحة والوقت والعقل، كل ذلك مال، وكل ذلك من أسباب السعادة لمن شاء أن يسعد. ومِلاك الأمر كله ¬

_ (¬1) اقرأ هذه الحكايات اللطيفة في مقالة «المطالعة» (في كتاب «فصول في الثقافة والأدب»)، ص 184 وما بعدها (مجاهد).

ورأسه الإيمان. الإيمان يشبع الجائع، ويدفئ المَقرور، ويغني الفقير، ويُسلي المحزون، ويقوّي الضعيف، ويُسَخّي الشحيح، ويجعل للإنسان من وَحشته أُنساً ومن خيبته نجحاً. وأن تنظر إلى من هو دونك، فإنك -مهما قَلَّ مرتبك وساءت حالك- أحسن من آلاف البشر ممن لا يقل عنك فهماً وعلماً وحسباً ونسباً، بل أنت أحسن عيشة من عبد الملك بن مروان وهارون الرشيد، وقد كانا مَلِكَي الأرض، فقد كانت لعبد?الملك ضرس منخورة تؤلمه حتى ما ينام منها الليل، فلم يكن يجد طبيباً يحشوها ويلبسها، وأنت لا تؤلمك ضرسك حتى يقوم في خدمتك الطبيب. وكان الرشيد يسهر على الشموع ويركب الدواب والمحامل، وأنت تسهر على الكهرباء وتركب السيارة، وكانا يرحلان من دمشق إلى مكة في شهر وأنت ترحل في أيام أو ساعات! فيا أيها القراء: إنكم سعداء ولكن لا تدرون، سعداء إن عرفتم قَدْرَ النِّعَم التي تستمتعون بها، سعداء إن عرفتم نفوسكم وانتفعتم بالمخزون من قواها، سعداء إن سددتم آذانكم عن صوت الديك ولم تطلبوا المستحيل فتحاولوا سدّ فمه عنكم، سعداء إن طلبتم السعادة من أنفسكم لا مما حولكم. سعداء إن كانت أفكاركم دائماً مع الله، فشكرتم كل نعمة وصبرتم على كل بليّة، فكنتم رابحين في الحالين ناجحين في الحياتين. * * *

تسعة قروش

تسعة قروش نشرت سنة 1948 من أسبوعين ابتُليت من أولادي بِبَلِيّة، هي أني كلما دخلت الدار تعلقوا بي طالبين تمثال «العبد الأسود ذي الطربوش الأحمر». وأنا لا أدري ما هذا التمثال ولا أعرف من أين آتيهم به، وهم يُلِحّون، لا يشغلهم عنه شيء من غالي اللعَب ونادر الطُّرَف، حتى كرَّهوا إليّ البقاء في البيت. وكنت مرة خارجاً إلى عملي مستعجلاً، فوجدت بائعاً يحمل هذه التماثيل ينادي: "الواحد بقرش"، ففرحت به فرح الضالّ في البادية يرى معالم الطريق، واشتريت تمثالين وحملتهما معتزّاً بهما كأني أحمل كنزاً، وعدت بهما. حتى إذا دنوت من الدار وجدت ولدين صغيرين قاعدين في ظل جدار، فلما أبصرا التمثالين برقت عيناهما، ودنا رأساهما في همس، وارتفعت يداهما في إشارة خفية متهيبة، وشَخَص بصراهما كما يفعل شابان غريران طلعت عليهما من الطريقة فتاة فتّانة، وقاما فتبعاني وعيونهما معلقة بالتماثيل. فلما رأيت ذلك منهما فكّرت أن أدفعها إليهما، ولكني خشيت أن أرجع فلا أرى البائع، وتخيلت رغبة أولادي فيها فلم تطب نفسي أن أحرمهم هذه المتعة، ولم أستطع الإعراض عن

الولدين الفقيرين، فدعوتهما فدفعت إليهما قرشين وقلت لهما: هو ذا البائع، فالحقاه فاشتريا مثلهما، الواحد بقرش. فأخذا القرشين، وعهدي بمثلهما أن القرش الصاغ ثروة له لا يناله إلا بشقّ النفس، فما حفلا بهما ولا هشَّا لهما، ولبثا شاخصَين في التمثالين كأنهما لم يريا القرشين ولم يسمعا الكلام، أو كأن عقلهما فارقهما فاستقر على ما في يدي فلم يفهما كلامي. وحاولت نسيانهما وسرت، فتبعاني كأنهما كلبان، وكنت أحس بحرّ نظراتهما على ظهري وبثقلها على روحي فأهم أن أمد يدي باللعب إليهما، ثم تدركني محبة الولد فأكف، حتى وصلت الدار وصورتهما أمام عيني، تمنع عنهما رؤية فرحة أولادي باللعب وتواثبهم إليها. ولما خرجت وجدت الولدين لا يزالان في الطريق يفتّشان عن البائع، يعدوان هنا وهناك كأم أضاعت طفلها ولا تدري أية سبيل سلك، فدعوتهما فأفرخت روعهما وسألتهما عن اسميها، فمشيا معي، فما درت مع الطريق دورة حتى لقيت البائع أمامي، فاشتريت لهما تمثالين وتركت لهما القرشين، ووجدت حول البائع أولاداً مثلهما، فقلت له: أعطِ كل ولد تمثالاً (¬1). وكانوا تسعة، فدفعت إليه تسعة قروش. * * * ¬

_ (¬1) الأصل في التمثال أنه ما نُحت من حجر أو صُوِّر من طين أو نحاس أو سواه، ويكون على هيئة إنسان أو حيوان، وهذا محرَّم صُنعُه وبيعه واقتناؤه، وقد كان مذهب علي الطنطاوي التشدد فيه، فلم =

هل تصدقون (أو أحلف لكم) أنّي لما نظرت في وجوه الأولاد وقد بدا فيها بهاء الفرح، وما عرفَت هذه الوجوه الفرح قط، ولاحت عليها سمات الطفولة الراضية الشاكرة، وما كان يلوح عليها إلا الألم والحقد المرير، وأشرق عليها نور إلهي سطع من وراء ما حملت من الأوساخ والأقذار، ولما رأيت عيون الأمهات الواقفات تدمع وألسنة الرجال الواقفين تدعو، أحسست في قلبي بفرحة لا تعدلها فرحة الجائع بالمائدة الملوكية المترعة، ولا الضَّجِر بالقصة العبقرية الممتعة، ولا المحب المدنف بلقاء الحبيب بعد طول الهجران. لا والله، فتلك أفراح أرضية وهذه فرحة سماوية، قد تعيش آلاف البشر وتموت ولا تحس مثلها. وشعرت كأني كبرت في عين نفسي، وأني صرت أقوى وأقدر، وأني نلت الأمانيّ ومُتِّعْتُ بالخلود. إننا ننفق كثيراً من المال نشتري به يسير المُتَع، وهذي متعة ¬

_ = يُبِحْ قَطّ لا لنفسه ولا لأحد من أهله أن يعرض في بيته مجسَّماً على هيئة حي من الأحياء. بل إنه كان ممن جهر بإنكار مُنكَر بدأ ينتشر في زمانه، فنهى الناس عن نصب التماثيل في الطرقات تعظيماً -كما يزعمون- للزعماء والكُبَراء. انظر مقالة «لا نريد تماثيل» في كتاب «كلمات صغيرة»، وراجع حديثه عن مقالة «لا تماثيل في الإسلام» في الحلقة 102 من «الذكريات» (في الجزء الرابع، ص39 وما بعدها). وإنما استطردت هذا الاستطراد لئلا يظن قارئٌ أن جدي رحمه الله اشترى لبناته تماثيل حقيقية، وما هي إلا لُعَب من لعب الأطفال، سمّاها تماثيل من باب الفصاحة في التعبير لا غير (مجاهد).

ما يكاد يجد الإنسان مثلها نلتها بتسعة قروش. وما تسعة قروش بالنسبة لي؟ إنها شيء كالعدم، شيء لا يغنيني وجوده ولا يفقرني فقده، فهل تحبون أن تشتروا مثل هذه المتعة؟ هل تحبون أن تعرفوا ما هي لذة الروح وما هي راحة القلب؟ هل تريدون أن تذوقوا نعيم الجنة وأنتم في الدنيا؟ لا تحسبوا أني أصُفُّ كلاماً وأرصفُ ألفاظاً، إني والله أسوق لكم حقائق. فإن أردتم معرفتها ففتّشوا حولكم عن هذه الطفولة المحرومة وهذه النفوس المعذَّبة، ثم أوْلوها الإحسان. وليست قيمة الإحسان بكثرة المال؛ إن المال ينفع الفقيرَ ولكنه لا ينزع من قلبه النقمة على الحياة ولا يَسْتَلُّ منها بغض الأغنياء ولا يملؤها بالحب. إن الذي يفعل هذا كلَّه هو العطف، وأن تُشعر الفقير بأنه مثلك، وأن تعيد إليه كرامته وعزة نفسه. ورُبّ تحية صادقة تلقيها على سائل أحب إليه من درهم، ودرهم تعطيه فقيراً وأنت تصافحه يكون آثَرَ عنده من دينار تدفعه إليه متكبراً مترفعاً، يدك تمتد إليه بالمال ووجهك يجرّعه كأسَ الإذلال. إن كل غني يستطيع أن يتصدق بالكثير، ولكن غنيّ القلب بالإنسانية والنبل والحب هو الذي يستطيع أن يتصدق -مع المال- بالعاطفة المنعشة؛ فلا تضنّوا على الفقراء بإنسانيتكم، ولا تبخلوا عليهم بعطاء قلوبكم، وذكّروهم أنهم لا يزالون معدودين من البشر، وأنهم مثلكم لأب واحد ولأم واحدة، لآدم وحواء، وأنهم لم ينحدروا إلى دركة الدواب والبهائم. ذكّروهم بهذه الحقيقة التي طالما نسيتموها أنتم، ونسوها هم

أنفسهم. ولِمَ لا ينسونها وهم يعيشون كما تعيش البهائم: ينامون مثلها على الأقذار، في الأكواخ والحقول وفي الأزِقّة المعتمة وفي الخرائب المهجورة، ويأكلون مثلها من فضلات الناس، ويشربون مثلها من البِرَك الآسنة والأنهار العَكِرة، ولمْ ينالوا تعليماً يرفعهم عنها ولا مدنية تميزهم منها؛ يسهرون في عصر الكهرباء على السُّرُج والقناديل، ويركبون في عهد الطيران على العربات التي تجرها الحمير، ويسكنون في الأكواخ على التراب في زمان ناطحات السحاب. ومن تشبّهَ منهم بالناس المتحضرين لم يكد يصل إلى مثل حضارة الإنسانية الأولى، يحلق مثل الناس، ولكنه يقعد على الأرض، على رصيف الشارع، وبيده مرآه مكسورة يرى فيها وجهه، والصابون القذر يغطيه، وموسى الحلاّق المفلولة تجري فيه، والدم ينبثق من نواحيه، ثم تمر على هذا الوجه البشري ممسحة لا ترضونها أنتم والله لمسح أحذيتكم! ويركبون مثلما يركب الناس، ولكن على عربات الكارو، العشرة على متر مربع من الخشب، محمولين على دولابين من الحديد يسحبه حيوان هزيل، والعربة ترتَجّ بهم فترقّص مِعَدَهم وتزلزل أمعاءهم، ثم لا تصل بهم إلى نهاية الميل الواحد إلا بعد ساعة! ولهم قهوات، ولكن قهواتهم إصطبلات فيها ركائز تسمى مناضد أمامها عيدان تُدعى كراسي! ولهم مطاعم، ولكن مطاعمهم يقدَّم فيها المرض في طِباق قذرة. فتداركوهم قبل أن يكفروا بالإنسان فينقلبوا حرباً عليه، حرباً ليس معها أمان. أشعروهم أنه لا يزال في الدنيا فضل وعدل ونبل. لِيَجُدْ كل واحد منكم على مَن هو دونه، لا بالمال وحده، بل

بالعاطفة والتواضع والإنسانية: الرئيس على المرؤوس، والوزير على الوكيل، والوكيل على المدير، والضابط على العريف، والعريف على الجندي ... فإن كل واحد من هؤلاء هو اليومَ عبدٌ لمَن هو أعلى منه وفرعون على ما هو دونه، يتكبر عليه مَن هو فوقه ويتكّبر هو على من تحته، حتى إن الشرطي ليطغى على البائع المتجول، والبائع يطغى على امرأته، والمرأة على ولدها، والولد على القطة يضربها بالعصا أو الكلب يرميه بحجر ... كلٌّ يحاول أن يَظلم كما ظُلم، والمجرم الأكبر هو الظالم الأول. إنهم كالحيوانات: الجرادة تأكل البعوض، والعصفور يأكل الجرادة، والحية تقتل العصفور، والقنفذ يقتل الحية، والثعلب يسطو على القنفذ، والذئب يسطو على الثعلب، والأسد يفترس الذئب، والإنسان يقتل الأسد، والبعوضة تقتل الإنسان، فتُغلق الحلقة على عدوان بعد عدوان. كم تلقون كل يوم ممّن هم دونكم، فلا تتفضلون بالالتفات إليهم ولا تفكرون فيهم ولا تشعرون بوجودهم، ثم تتألمون إذا أعرض عنكم من هو فوقكم وتجاهل مكانكم، وترون ذلك جرحاً لشعوركم وكسراً لقلوبكم! فلماذا تطلبون ممن فوقكم ما لا تعطونه من هم دونكم؟ أليس لهؤلاء نفوس تحس وقلوب تتألم؟ مررت أمس بسائلة على شاطئ النيل الصغير، في الروضة، وأمامها بنت لها تحبو، وصلت إلى كومة أوساخ فنبشت فيها حتى وجدت بقية لعبة فحملتها فَرِحة بها وعادت إلى أمها مستبشرة، فأخذتها منها أمها ومسحتها وحاولت أن تصلحها وتعيد الحياة

إليها، وقد فارقتها الحياة منذ أزمان. فلويت وجهي ألماً من منظر هذه القذارة، ثم عدت ألوم نفسي وأسائلها: ما ذنب هذه الأم إذا أحبت ابنتها وأرادت إسعادها؟ وما ذنب هذه البنت إذا طالبت بحق الطفولة الطبيعي باللعب؟ لماذا أشتري لبناتي كل أسبوع لعبة، ولم يخطر على بالي أبداً أن في البلد أطفالاً لا يجدون لعباً؟ نحسب أننا إذا أطعمنا أطفال الفقراء الخبز فقد أدَّينا حق الله وحق المروءة والإنسانية علينا، ولكن الطفل لا يكفيه الخبز ولا يرضيه، وهو يرى أطفال الناس يمرون به كل ساعة وعليهم أبهى الثياب ومعهم أغلى اللعب. إنه بين أمرين: إما أن يتبلد حسه وتموت نفسه، فلا يطمح أن يجاري هؤلاء ولا يأمل أن يكون مثلهم أبداً، فينشأ ضعيف الهمة ذليلاً مَهيناً، فيكون من أسباب ضعف هذه الأمة وهوانها على الأمم؛ وإمّا أن يثور ويغضب ويمتلئ قلبه الصغير حقداً، ثم يكبر ويكبر الحقد معه حتى يكون عدواً للمجتمع ونقمة على الناس، يظلمهم كما ظلموه، يسرق من يستطيع سرقة ماله، ويُزهق روح من يتمكن من إزهاق روحه، وينشر الفساد في الأرض. فلماذا نجعل من هؤلاء الأطفال أعداء لنا؟ لماذا لا نحبهم فنعلمهم الحب؟ أليسوا أزهاراً في روض الحياة؟ أليست كل زهرة حلوة ولو علاها الغبار؟ أليس كل صغير جميلاً ولو كان قطاً أو كلباً؟ أفنحبّ القطة الصغيرة ونمسحها ونضعها على الأحضان ونكره هؤلاء الأطفال؟ وما لهم؟ ألأنهم قُذْر الوجوه والثياب؟ إن القذارة لا تُحَب، ولكن هذا ذنب أمهاتهم، لا يغسلن وجوههم وهنّ

على النيل! لا، بل هو ذنبي وذنب كل واحد منكم وذنب الكُتّاب وأولي الأمر، إنهم لم يعلموا هؤلاء الأمهات النظافة، ولم يقل لهن أحد إن النظافة لازمة والوساخة مؤذية. ومن يقول لهن، وهن شحّادات على الطرقات، لا يكلمنَ أحداً بغير السؤال ولا يكلمهن أحدٌ أبداً؟ وما يدريني أن ابنتي أو ابنة أحدكم (لا سمح الله) ستلقى مثل هذا المصير؟ مَن منا أخذ على الدهر عهداً أن لا يزيل عنه نعمة؟ هل أَمِنّا المرض والفقر؟ هل أوقفنا حركة الفلك؟ وهل نسينا أن في الوجود إلهاً وأن بعد الدنيا آخرة؟ فكيف سوّغنا لأنفسنا -مع هذا كله- إهمالَ هذه «الإنسانية» الصغيرة المبرَّأة الطاهرة؟ لقد كان فينا مقلّدون متحذلقون ألّفوا جمعيات للرفق بالحيوان، ولكن لم ينشأ فينا إلى اليوم من يؤلف جمعية للرفق بالإنسان؟ لقد بلغ الخزي من نفوسنا أن وُجد فينا أناس يطعمون الكلاب المدللة اللحم السمين والشكلاطة الغالية، وحولهم بشر لا يأكلون اللحم مرة في الشهر ولا يتذوقون الشكلاطة أبداً! * * * إذا شئتم أن تذوقوا أجمل لذائذ الدنيا وأحلى أفراح القلوب، فجودوا بالحب وبالعواطف كما تجودون بالمال. * * *

القبر التائه

القبر التائه نشرت سنة 1940 كم ذا يقاسي العاشقون ويألمون، ولا يدري بهم أحد، ولا يبلغ وَهْمَ إنسان تصوُّرُ ما يعانون! كم للحب من شهداء عاشوا يائسين وقضوا صامتين، فما حازوا مجداً ولا فخاراً، ولا اشتروا جنة ولا أمنوا ناراً. مساكين، يعيشون في دنيا الناس وليسوا فيها، يرون بغير العيون، فلا يرى الناس ما يرون ولا يبصرون ما يرى الناس، يموت عندهم كل حي ما لم يتصل بالحبيب، ويحيا كل ذي صلة به حتى الجماد. إن فكروا ففي المحبوب، أو تكلموا فَعَنْه، أو اشتاقوا فإليه، أو تألموا فعليه: فإنْ تكلَّمْتُ لم أنطق بغيرِكمُ ... وإنْ سَكَتُّ فشغلي عنكمُ بكمُ وإن مُنحوا الدنيا باعوها كلها بقبلة منه أو شمّة أو ضمّة، ثم لم يأملوا إلا دوامها أو الموت بعدها لئلا يجدوا فقدها! لا يألمون إن قال الناس «مجانين»، ولا يحزنون إن نالهم الأذى، بل ربما سرّهم ما يسوء إن كان فيه رضا المحبوب. ويا ويلهم من العذّال، يا ويل الشَّجِيّ من الخَلِيّ!

يلومون قيساً لأنهم لا يرون لَيْلاه إلا كسائر النساء، ففي كل امرأة عِوَض عنها وبديل منها، ولو استعاروا عينَي قيس فنظروا بهما لرأوا ليلى هي الدنيا، وهي الأخرى، وهي الروح، لولاها ما كانت الحياة ولا أضاءت الشمس ولا أنار القمر، ولا بسم الروض ولا ضحك الينبوع، ولا همس النسيم ولا غنى الطائر، ولا كان في الدنيا جميل. قصة الحب هي القصة الأزلية التي تكرَّر دائماً وتعاد أبداً، لا تُمَلّ ولا تُسأم. نقرؤها كل يوم فلا نراها تبدّلَ فيها إلا الاسم، فهي آناً قصة ليلى أو لبنى أو عفراء، وهي آناً قصة ماجدولين أو فرجيني أو شارلوت، ولا تغيّر إلا المنازل؛ فمن بِطاح نجد إلى ضفة البحيرة، إلى ساحل الدنيا الجديدة، إلى ظلال الزيزفون، أما القصة فهي هي ما تبدلت ولا تغيرت، ولا يمكن أن تتبدل حتى تُبدَّل الأرضُ غيرَ الأرض. على أن للحب مواسم، وله منازل ينبت فيها كما ينبت النخيل في البصرة والكرم في الشام. فمن منازله لبنان، لبنان (شرقيّه والغربي) الذي برأه الله على مثال الجنة: روح وريحان، وحور وولدان، فمَن حلّ فيه مؤمناً ذاق نعيم الخلود في دار الفناء وأحس بسعادة الأخرى في الدنيا، ومن حلّه غيرَ مؤمن أذهب طيباته في حياته الدنيا وما له في الآخرة من خَلاق. لبنان الذي كان دارَ الأولياء والشعراء والسياح والزهّاد، من كل عابد متبتل ومحبّ هائم وتائب أوّاب. لبنان الذي جعل الله ماءه خمراً وجماله سحراً، فلا تدري أهو السحر قد خَيّل لك أنك في جنة الخلد أم هو السكر قد جعلك تحس التخلص من هذا

العالم الغارق في الدم، الملتحف باللهب، وتشعر أنك تعيش في الأفق الأعلى عيشة اللذة الدائمة والذهول الناعم الهنيء، وسط عوالم من النور تُدرَك ولا تُرى. لبنان الذي لا تدري أي شيء فيه هو أجمل: أذُراه التي تبرقعت ببراقع الثلج فلم تبصرها عين حي من يوم خلق الله العالم، فعزّ بالحجاب جمالُها حين ذل بالسفور الجمال، أم سفوحه الحالِيَة بالصنوبر، أم القرى المنثورة على تلك السفوح، أم ينابيعه المتفجرة تفجر الحكمة، أم أوديته الملتوية التواء الفكرة في رأس أديب لا يملك البيان عنها؟ وأيُّه هو أبهى: أصباح بلودان، أم ظهيرة الشاغور أو حمّانا، أم الأصيل الفاتن في ربى صوفر، أم المساء الوادع في خليج جونيه، أم مناجاة الملائكة في قمة جبل الشيخ، أم مسامرة الزمان عند الأَرْز، أو في بعلبك؟ أم أنت تؤثر هذا كله وتتمنى لو شملته بنظرة منك واحدة، ثم ضممته إليك، ثم شددت عليه حتى أفنيته فيك أو فنيت أنت فيه؟ تعالوا سائلوا سفوحه وذراه ووديانه ورباه كم شهدت من فصول هذه القصة الخالدة، قصة الحب، وكم أُريق على صخوره من الحَيَوات والعواطف، يُطِلْ جوابَكم لو ملك الكلام. ولكنه أبكم لا ينطق، والناس بُكْمٌ لا يروون إلا تاريخ الوحشية المدمرة العاتية، يحفّظونه أبناءهم ليكون لهم منه أظفار كأظفار الوحش ومخالب كمخالب النسور، أما تاريخ الإنسانية العاشقة فإنهم يَزْدَرونه ويترفعون عن حفظه، ويرون من الخطر على الأخلاق أن يُدَرَّس في المدارس! * * *

وكذلك أرى أنا، وهل أنا إلا من غُزَيّة؟ وإلا فمَن يروي لي قصة هذا القبر التائه، الذي نأى عن موطنه وفارق إخوانه، وطوّفَ حتى استقرّ عند قدم صخرة هائلة من صخور رأس بيروت، يلطمه الموج صباح مساء فيستغيث استغاثة غريق عاين الموت، ولا من مغيث؟ قبر منفرد ضائع بين الصخور، ليس ما يدلّ عليه إلا حجر منحوت نحتاً غير متقَن، عليه كتابة قد براها الماء فلم يبقَ منها إلا أنقاض هذه الأبيات: الشمسُ تطلع تارةً وتغيبُ ... والليلُ يجمع شملَ ... ... وأنا محبٌّ لم أجِدْ إلا الشّقا ... أُحيي الليالي ... ... ... أفيجمعُ القبرُ الأحبّةَ إنْ نَمُتْ ... ويكون ... ... ... ... فمَن -يا أهل بيروت- يعرف تلك القصة التي لم يبقَ منها إلا هذه الخاتمة الأليمة: قبرٌ تائه عليه شِعْر، إن لم يحفل به علماء اللسان كان حسبه أن يحفل به علماء القلوب؟ هل في هذا القبر عاشق من لبنان (يوم لم يكن قد فسد لبنان ولا عاثت فيه يد الحضارة) عرف فتاته في طفولتها الحلوة المبرَّأة، تتهادى بين البيت السعيد والحقل الخصيب، والمرعى الجميل والكرم البهي، فكانا يلحقان الأفراخ (الصيصان) وهُنّ بنات يوم واحد، قد خرجن من البيض كُراتٍ ذهبيةً من الريش الأصفر الناعم، تطير لخفّتها مع النسيم وتحل لحلاوتها في الفؤاد، فإذا رأتهما الدجاجة الأم فأقبلت عليهما نافشة ريشها مستنسرة خافا، فارتدّا إلى الجدي يلاعبانه والجحش يركبانه. وكان عالمهما

صغيراً كله، والصغير من كل شيء فاتن محبوب. ومَن منّا لا يحب الصبي والبُنَيّة، وفرخ الطائر والهُرَيرة والكُلَيب، وغُصَين الشجرة وزر الورد، وكل لطيف من التحف والطرف (¬1) ودقيق من الأشياء؟ من لا تنجذب إلى ذلك نفسه ويحنو عليه قلبه؟ ثم كبرا، فكانا يصحبان القطيع إلى القمم القريبة وإلى الوادي، ثم أبعدا المرعى فكانا يرافقان الشمس في غدوّها ورواحها ويطوّفان تَطوافها. ثم اكتمل جمالها وتمّت رجولته، وكذلك تؤتي الفضيلة أكلها إذا عاشت تحت عين الشمس، في الأعالي التي لا ترقى إليها جراثيم الفساد، فصارا يقاسمان الكبار السمر على «المصطبة» في ليالي الصيف وفي «العلِّيّة» في الشتاء. ومرت الأيام، فإذا هي فاتنة القرية وحسناؤها، وإذا هو بطل الديرة ورجلها، ومقدَّم الشباب في المصارعة وحمل الأثقال والعدو والسباحة، وتلك كانت مفاخر الشباب الجبلي في تلك الأيام، وكان رقصهم الدَّبْكة على «اليادل» أو على «دلعونة»، وكان هو شيخ الدبكة. وكان الحب قد ولد في نفسيهما، فكانا يجلسان على قلعة على شفير الوادي، يرعيان هذا الحب الوليد ويدعان القطيع يرعى بنفسه، وكان لها عنده مثل الذي له عندها، فما الذي فرق بينهما؟ أهو المال أم الدسائس، أم قد زوجوها من غيره، أم ماذا؟ مَن يحفظ قصتهما يا أهل بيروت؟ وكيف عاشت من بعده، وكيف عاش من بعدها؟ ¬

_ (¬1) الطرف أو الطرائف هي ما يسمى في لسان التجارة وفي لغة العامة «نوفوتيه» (nou veautes)، والكلمتان في اللغتين بمعنى واحد تقريباً.

أم كان متكئاً في زورقه، يرقب الشمس وهي في موقف الوداع صفراء شاحبة، لا يحفل بها أحد ممّن كان في الميناء لأن هموم العمل لم تدع في قلوبهم مكاناً للشعر، فأيقظه من غفلة التأمل أسرة تريد أن تجول في البحر جولة في الزورق، هنالك رآها واستقر حبها في قلبه، ولم يكن بذي صاحبة ولا ولد، فهام بها هياماً وقلب الأرض يفتش عنها علّه يحظى منها بنظرة فلم يلقها، فعاش بقية عمره يتجرع غصص الألم المكتوم، حتى مات حيث لقيها ودُفن حيث مات؟ أم أن هذا قبرها هي، يقوم على الشاطئ، على مسرح المأساة التي طالما مُثِّلَت عليه وأُعيدت؟ هنا كانت تقوم ترقب عودته من المهجر، من أميركا، تذكر أبداً كيف ودّعته بالدموع الغِزار وودّعها، ومنّاها الغنى والجاه والعودة القريبة، وانقضت الأيام وكرّت الشهور ولا حسَّ ولا خبر، والفتاة ترقب وتنظر وقد عافت عشّها وجَفَت أهلها، واختصرت دنياها كلها فكانت هذه الصخرة الصلعاء التي شهدت مبدأ آلامها وتأمُل أن تشهد نهايتها، تظن -من حبها وتذكّرها- أن السفينة لا تزال قريبة منها، وأن الحبيب يلوح بمنديله لا يزال، وبينها وبين الحبيب بحار ولُجَج وأيام وليال، والحبيب قد سلاها ونسيها، وطمست صورتَها في نفسه أمواجُ الثروة واللذة والدنيا العظيمة في نيويورك حتى محتها ... فماتت شوقاً إليه وأسفاً عليه. أم هي لم تمت، وإنما شهدت عودته، فإذا هو قد عاد رجلاً غير الذي ذهب لم يبقَ فيه من ابن القرية إلا كما يبقى من ندى الصباح تحت شمس الهاجرة، لا زيّه زيه ولا لسانه لسانه،

فأعرض عنها وازدراها، ورأت إلى جانبه فتاة من بنات «بايْ بايْ»، فخولطت وعادت إلى صخرتها تنتظر عودة من ليس يعود، حتى وافاها الأجل فدُفنت مكانها؟ أم هو قبر عاشق ماتت حبيبته كما ماتت ليلى، فعاش بعدها كما يعيش كل حبيب يائس؟ أم كانت قصة هذا القبر شيئاً آخر، فمن يعرف هذا الشيء؟ من يهتم بشهيد من شهداء الغرام؟ من يعنى بضحية من ضحايا العواطف؟ من يبكي للمحب المجهول ويقف على قبره وقوف الناس على قبر الجندي المجهول؟ يا رحمتا للعاشقين! حيهم بائس، وميتهم مَنسي، وحديثهم ضائع. يا رحمتا للعاشقين! لا يقام لشهيدهم قبر، وإن أقيم له لم يقف عليه أحد ولم يُحفَظ له تاريخ. ويا ضيعة هذا الكنز الأدبي العظيم، هذه الدنيا من العواطف التي لم يبقَ منها إلا ما أودع ديوان «العتابا»، فمن يُعنى بجمع هذا الديوان ونشره في كتاب؟ ألم تعلموا بعد أن في هذه «العتابا» من الصور والمعاني ما لا يملك بعضه غزل شعراء العرب كلهم مجتمعاً؟ فمن يهتم به؟ ومتى يأخذ الشعراء هذه الصور والمعاني فيودعونها الشعر الفصيح؟ * * * وبعد، فيا أهل بيروت: إذا جزتم بهذا القبر التائه فقفوا عليه كما تقفون على قبر الجندي المجهول، وقدّروا فيه المحبة كما تقدرون هنالك البغض، وكرموا فيه الحياة، فالحياة حب والحب حياة، واجعلوه تمثال العاطفة، فالعاطفة فوق العقل، والإنسان

إنسان بالعواطف لا بالتفكير. لا تحقروا العاطفة ولا تزدروا القلوب، فإن القلب منزل أقدس شيئين في الوجود: الإيمان والحب، وحسب العقل جموداً وعجزاً أنه لا يستطيع أن يفهم الحب ولا يدرك الإيمان. وحسب العاطفة كرماً ونبلاً أنّ من ضروبها حب الوطن والوفاء والإحسان والرحمة، وذلك ما يميز الإنسان من سائر الحيوان. ونحن اليوم في حاجة إلى الإيمان بالعاطفة الخيّرة، فلنجعل الحب العفيف وسيلة إليها (¬1)، ولنتخذ منه سلاحاً نحارب به الفسوق والدعارة والغلظة الوحشية، ولنستكمل به إنسانيتنا، فمن لم يعرف الحب لم يكن له قلب. * * * ¬

_ (¬1) هذا كلامي سنة 1940 وأنا في ذروة الشباب، وقد علمت الآن أن الحب الشريف كالليل المشمس، شيء كالمستحيل.

في الليل

في الليل نشرت سنة 1943 انفضَّ السامرون بعدما صدّعوا رأسي بأحاديث الانتخابات والنيابات، والمطامع المكسوَّة بأثواب القناعة والمنافع المتَّشحة بوشاح الإخلاص. وكان هزيع من الليل، فتنفست الصعداء وخرجت إلى «المَشْرَقة» (¬1) أشرف على دمشق. وإن دمشق وغوطتها وسبع عشرة قرية من قراها لتبدو للناظر من شرفة داري في «المهاجرين» واضحة كأنها صفحة الكف، يأخذ منها فضاءً عرضُه خمسون كيلاً بنظرة واحدة من علو مئتي متر. وكانت ليلة ساكنة رَخِيّة النسيم، قد زانها بدر شعبان، فوقفت أمتع النفس بها وآنس بسكون الكون بعد ضجة المجلس، ورحب الفضاء بعد ¬

_ (¬1) من البيوت الشامية القديمة ما كان بطابق واحد ومنها ما كان بطابقين، فإذا كان البيت بطابقين لزم أن يوجد فيه دَرَج يصل طابقه الأرضي بطابقه العلوي. ولم يكن هذا الدرج داخلياً كما هو في أبنية اليوم، بل كان يبدأ من طرف «الدِّيار» (وهو المساحة الواسعة أو الباحة التي تنفتح عليها غرف الدار في الطابق الأرضي) وينتهي بمساحة مكشوفة أصغر منها تنفتح عليها غرف النوم في الطابق العلوي، وهذه المساحة العلوية هي التي كانت تُسمَّى «المَشْرَقة» (مجاهد).

ضيق الغرفة، وأرخيت العنان لأفكاري فانسابت على مهل. ولبثت ساهراً وحدي وقد نامت النجوم على فرش المُزْن الرقراق، ونامت الجبال على أكتاف الأودية وحوافي السهول، ونامت الغوطة في أحضان قاسيون، ونامت الأشجار في جنان الغوطة، حتى بردى فإنه يمشي نائماً فِعْلَ الجند وهم قافلون من سفر بعيد متعب، وقد ملّ من طول السفر وبعد الغاية التي لم يصل إليها وهو يمشي نحوها منذ ألف ألف سنة، وكاد يخالطه اليأس من بلوغها! ولم يبقَ ساهراً معي إلا هذه الأضواء الكليلة التي ترتجف من الوحدة والخوف، وتنظر بعيونها «الزرقاء» خلال الظلام فلا تبصر الطريق. * * * وجعلت أفكر فأرى الطبيعة ظاهرها كباطنها، لا يُضمر الجبل نفاقاً، ولا السهل يبطن حقداً، ولا السحاب ينطوي على مكر، ثم أنظر إلى هذه السقوف التي كانت تبدو بهية براقة، يقطر منها النور بعدما اغتسلت بضياء القمر، فأفكر فيها: ماذا تحت هذه السقوف؟ كم تحتها من خبايا وعجائب ومؤتلف ومختلف! كم من معبد لمتهجد متنسك إلى جنب مخدع لمستهتر متهتك، هذا خلا بربّه وذاك بحبّه، فتجاورت منهما الظلمة والنور. وكم من سرير لميت يحف به أهله يبكون، ومضجع لعروسين أحاط بهما الأقرباء يضحكون. ومَن يبيت يتبرم بالولد ومن يتألم من العقم، وشاكٍ من التخمة وباكٍ من الجوع، ومسرور يتمنى لو طال الليل

ومنكود موجع ينتظر النهار، وكادح للعيش ناصب لا يستريح نهاره ولا يكاد ينام ليله، همه المال يجمعه ويرْكُمُه، قد حرم نفسَه من أجله الطيبات، ولو كُشف له الغطاء لعلم أنه إنما سخّره الله لآخر فهو يجمعه له ويكدح من أجله، وذاك نائم لا يفكر فيه ولا يباليه، حتى يجيء وقته فيأتيه ... وتلميذ ذكي قد أثقل جفنيه النعاس وهدّ جسده التعب وهو مقبل على كتبه ودفاتره، وآخر كسلان يغطّ غطيط البَكْر، ولو اطلعا على الآتي لرأيا أن هذه الدنيا سترفع الجاهل الخامل وتخفض العالم العامل، تفيض على الأول المجد والمال وتحرم الثاني، ولا يدري الحكمةَ في ذلك إلا الله. وكم من زوجين باتا متنافرين، يتمنى كل لو كان عزرائيل ووُكل بقبض روح صاحبه، وما ثمة من سبب إلا أن الزوج راح إلى الدار متألماً من أمر أصابه، يبتغي الراحة عند زوجه إذ تقبل عليه مُواسيةً مسلية بوجه طلق وفم باسم، وأن الزوجة كانت تنتظره وقد أناخ عليها الملل وترقب دخوله ضاحكاً مرحاً، فلما رأته مُرْبَدَّ الوجه خاب أملها فتألمت وأعرضت، ولما رآها معرضة ضاع رجاؤه منها فزوى وجهه عنها، وأمل كلٌّ أن يبدأه الآخر بالصلح لأنه عند نفسه لا ذنب له، فلما طال الوقت وهما متنافران يتراميان بالنظرات شزراً كالقطط في عراكها، استحكمت العقدة فلم يبق إلا الطلاق! وكم من سجين يتقلب في السجن على مثل الإبر، يذكر أهله الذين لا عائل لهم سواه، وقد حُبس في تهمة، وقاضيه في النادي يضارب على المائدة الخضراء بالمال الذي قبضه رشوة من

خصمه ليحكم عليه. وتائبة تجول في الطرقات الخالية مع الكلاب، ولا تجد من يَمُنّ عليها بكسرة خبز إلا إن دفعت ثمنها من جسدها لأنها زانية ملعونة لا تُقبَل لها توبة، والذي أفسدها وأغواها يتصدر المجالس، لا يذكر الناس خطيئته التي استزلّه الشيطانُ إليها في شبابه لأنه تاب منها، ومن تاب تاب الله عليه! وكم من أديب، أديب حقاً، قد طاعت له عَصِيّات الكَّلِم وذلَّت له العوالي من قطوف البلاغة، قد انزوى في خُصِّه لا يدري به أحد، ودعيٌّ جاهل، لصُّ معانٍ وصفّاف كلمات، قد جُمع له المجد الأدبي من أطرافه فكان له الاسم السائر والمال الوافر. ومُتَمَشْيِخ قد لبس مُسوح الزهّاد واتّزر بإزار الصالحين، قد عرّض لحيته وكوّر عمامته وأدلى عذبته وطوّل سبحته، ودعا الناس إلى الزهد في الدنيا ونبذ الأموال ورمي النقود في الطرقات لأنها وسخ الدنيا، فلما أطاعوه ورموها خالفهم إليها فالتقطها! وكم من أزواج قد باتوا في الفراش مع نساء لا يفضلن زوجاتهم في جمال ولا كمال، ولكنه شرع إبليس لا لذة فيه إلا مع الحرام. وكم من نساء تركن أزواجهن وارتمين في أحضان الملاعين من لصوص الأعراض! كم تحت هذه السقوف من شاعر يعتقد الناس أنه خُلق روحاً بلا جسم، وأنه يتغذى بالحب ويأكل العواطف، قد أغلق عليه بابه وطفق يعدّ نقوده التي يستوحيها الخيال ويستلهمها الشعر، فلما رآها قليلة لا تزال انصرف إلى نظم قصيدة جديدة يستدرّ بها المال.

ونصير للفضيلة، سخّر صحيفته لها ووقفها عليها، قد هرب من بيته وانصرف في تلك الساعة إلى عشيقته ليقرأ عليها مقالته الجديدة في ذم العشق وامتداح الوفاء الزوجي. وفلاح عاكف على لَبَنه يخلطه بالماء، وكلما صبّ فيه شيئاً نظر إليه وذاقه، فلما اطمأن إلى أنه لم يعد يحتمل زيادة جعل يفكر في أيمان جديدة يحلف بها غداً على أن اللبن خالص لم يمسه الماء! وباتت عشرون ألف فتاة ينتظرْنَ الزواج، وبات عشرون ألف فتى ينتظرون الزواج، وما حال بين الطائفتين إلا غلاء المهور وكثرة التكاليف، وسخف الآباء الذين يحسبون بناتهم دوابّ تباع في سوق البقر فهم يشتطون بأثمانها، والذين لا يمتثلون أوامر الشرع فيُروا البنت للخاطب الكفء ويطلقونهنّ في الطرقات متبرجات سافرات، فيراهن الفاسق والصالح وكل ذي عينين، حتى الحمار! وباتت الخمّارات مفتَّحة الأبواب مزدحمة بالطلاب، وبات المسجد مغلقاً قد قام خطيبه بالواجب عليه، فخطب في ذم الخمر وألقى فيه درساً، وانصرف لينام مطمئناً بعد ما أنكر المنكر وأمر بالمعروف. وكان النواب لا يزالون مجتمعين يتباحثون، وقد ملّ البوّابُ ونعس، ولكنه بقي قائماً يعلل النفس بأن البرلمان سيأتيه بقماش رخيص، وسيكسر رجل صاحب الدار إن جاء يطلب الأجرة ويسقط ديونه كلها، وتخيّل الديون ساقطة فأغمض عينيه مرتاحاً ونام.

وخلال ذلك عشرة آلاف شاب لا ينقصهم شيء من مال وصحة، ولكنهم لا يزالون يشكون الملل ولا يدرون ما يصنعون، فيُقبلون على الملاهي أو ينتحرون، ولو دققوا لعلموا أنهم إنما ينقصهم الإيمان. وأربعمئة ألف نسوا همومهم وناموا كالقتلى! (¬1) * * * وجعلت أَلِجُ بخيالي هذه البيوت وأجول تحت السقوف، فأجد كل خبيثة لا تعرفها أصناف الحيوان، وإن هي عرفتها ترفّعَت عنها وأبتها؛ أفهذا هو الإنسان سيد المخلوقات؟ وفيمَ هذه السيادة إن لم تكن بالإيمان والفضيلة والاستقامة والصدق والعلم؟ أليس الإنسان الذي يكفر بالذي خلقه، ويخون وطنه، ويسيء إلى أبيه الذي رباه وأمّه التي حملته، ويكذب وينافق ويغش ويسرق، ويكون عبدَ شهواته وأسيرَ جهله ... أليس هذا الإنسان شراً من الحمار؟ ¬

_ (¬1) يشير إلى سكان دمشق، فكأنهم كانوا في تلك السنة أربعمئة وخمسين ألفاً أو نحوها. وقد تتبعت عدد سكان دمشق فوجدت أن أول إحصاء رسمي لهم أُجري في أيام السلطان عبد الحميد، سنة 1884، وظهر فيه أنهم مئة وستون ألفاً. وقُدِّر عدد السكان بثلاثمئة ألف في بداية الحرب العالمية الأولى، ثم ازداد هذا العدد إلى 530 ألفاً عام 1960، و837 ألفاً عام 1970، وتجاوز المليون عام 1980، والمليونين عام 1990، والثلاثة الملايين عام ألفين، ولعلهم اليوم أربعة ملايين أو يزيدون (مجاهد).

ويل لهذا الإنسان! أتته آلاف الأنبياء والحكماء والمصلحين، وآلاف الآيات والنُّذُر، ولا يزال ممعناً في غوايته مقبلاً على شهواته. إن امرأة واحدة عارية تهدم في ساعة واحدة ما يبنيه الأستاذ المرشد المصلح الهادي في عشرين سنة. إن الصخر الأصم لَيلينُ ويتفجر منه الماء وقلب الإنسان لا يلين، وإن الجماد ليعي النُّذُرَ ويعتبر وهذا الإنسان لا يعي ولا يعتبر. من فكر واعتبر بهذه البيوت وكم مَرَّ عليها من ساكنين؟ كم رأت مَن ذلَّ بعد عزّ وعَزَّ بعد ذل، ولم يبق من ذلك شيء! هنالك وراء الأموي كانت «الدار الخضراء»، منزل الأخلاف من بني أمية، وكانت أمنعَ من النجم وأبهى من الشمس، وكانت سُرّة الأرض، من جبال الصين إلى البيرنيه، فآضت اليومَ مصبغةً صغيرة حقيرة! وسترجع المصبغة قصراً، ثم يصير القصر مقبرة (¬1). ¬

_ (¬1) تحدث عن هذه الدار في بعض مواضع «الذكريات» فقال: " ... وسوق القباقبية حيث تُصنَع القباقيب، وقد كان في موضعه «الدار الخضراء»، دار معاوية وأكثر الخلفاء من بني أمية، جنوبي الجامع ووراء جدار القبلة، ولا يزال الباب الذي كان يدخل منه الخلفاء إلى المقصورة ظاهراً ولكنه مسدود. كل ما في الدنيا يولد ويموت، يقوى ويضعف، يعزّ ويذلّ؛ فالدار الخضراء التي كانت يوماً عاصمة الدنيا وسرّة الأرض، ومنزل الخلفاء من بني أمية الذين كانوا يحكمون ما بين قلب فرنسا وقلب تركستان وأطراف باكستان، وكانت محط الآمال ومطمح أنظار الرجال، صارت سوقاً للقباقيب! ولم يبقَ من اسم الخضراء إلا مصبغة صغيرة تحت الأرض، هي المصبغة الخضراء" (الذكريات: 1/ 194). وانظر أيضاً مقالة «على أطلال الخضراء» في كتاب «البواكير» (مجاهد).

هذه هي الدنيا، ولكنّا غافلون عن حقيقتها، مطمئنون إليها، ظانّون أنها تدوم لنا. ماذا بقي من بني أمية ومن المماليك إلا هذه الجدران القائمة وهذه القباب؟ وماذا بقي من بني عثمان إلا السراي؟ سلوا دَرَج السراي كم رأى من صاعدين ونازلين، ما استقر منهم أحد، لا ربّ القصر يخلد فيه ولا ساكن السجن، كلهم عابر سبيل (¬1). واستغرقت في أفكاري، فلم أنتبه إلا وصوت المؤذن يَرِنّ في هذا السكون نقياً صافياً عذباً، يقول: «الصلاة خير من النوم»، فقلت: صدق والله، ومن السهر ومن المال ومن المجد، لأنها هي التي تبقى، على حين تفنى الدنيا بما فيها من مسرّات وأحزان. وقمت إلى الصلاة. * * * ¬

_ (¬1) اقرؤوا أيضاً المقالة الوجيزة البليغة (وفيها العبرة لمن شاء أن يعتبر): «على دار الزعيم»، في كتاب «مقالات في كلمات» (مجاهد).

إلى أخي النازح إلى باريس

إلى أخي النّازح إلى باريس نشرت سنة 1937 يا أخي: لمّا دخلتَ «مسابقة البعثة» أملت لك الفوز لِما عوّدك الله من التوفيق والمعونة، وخفت عليك الخيبة لأن الوزارة لا تريد إلا مبعوثاً واحداً في العلوم الرياضية من سوريا كلها، وأنّى لك أن تكون ذاك الواحد؟ فلما ظهرت النتيجة وكنت أنت الناجح في فروع الرياضة، وكنت الناجح في «الطبيعة» أيضاً، حمدت الله على هذه المنة وذهبت أستعجلك بالسفر، ولما عزمتَ أعددتُ لك ما تريد وأنا فرح مستبشر مسرور. كنت مسروراً لأني أعلم أنك ذاهب تطلب العلم، وتخدم الوطن، وتقوم بالواجب. ولكنْ لم يكَدْ يتحقق الأمر ويأزَف الرحيلُ، وأرى الباخرة الفخمة «مارييت باشا» رابضةً حِيال المرفأ في بيروت تسطع أنوارها وتتلألأ، وألقي نظري على هذا البحر الهائل الذي يمتد في الفضاء أسودَ مثل الليل، حتى يغيب في السماء أو تغيب فيه السماء ... لم أكد أرى ذلك حتى أدركت الحقيقة الواقعة وعلمت أنك مودع نازح، فغلبت عليّ العاطفة وفاضت نفسي رقة وحناناً.

لم أستطع أن أودّعك، ولم أقوَ على رؤيتك وأنت في الباخرة ماخرة بك عباب اليمّ، تنأى بك عني حتى تصير نقطة صغيرة على شاطئ الأفق، ثم تنحدر إليه وتختفي وراءه، وتختفي أنت معها، وتصبح (¬1) في نظري عدماً لأني لا أحس لها وجوداً. والوداعُ -يا أخي- جماع آلام الحياة وأساسها ومصدرها، وأشد ألوان الوداع وآلمها وأمرّها وداعٌ في البحر، ذاك الذي لا يطيقه ذو قلب. ودّعتك وداعاً عادياً، ولبثت في مدرستي ألقي دروسي وأنا هادئ الجوارح ساكن الطائر، ولكن في القلب مني زلزلة وفي الأعصاب ناراً. حتى إذا عاد أخوك ناجي (الذي صحبك إلى الباخرة) (¬2) فخبّرني أنك سرت «على اسم الله» أحسستُ كأن قلبي قد هبط من هذا الزلزال كبناء هوى، وأن هذه النار قد تركت أعصابي رماداً منطفئاً، فسقطت على كرسيّ. ¬

_ (¬1) تصبح هي (الباخرة) لا هو. (¬2) في حاشية وضعها جدي في هذا الموضع يوم صدر الكتاب أول مرة عرّفه قائلاً: "وهو القاضي الشرعي الآن"، ثم عدّل الحاشية في طبعة لاحقة فقال: "القاضي الشرعي، وهو الآن المستشار القانوني لوزارة الحج والأوقاف في السعودية". قلت: اشتغل ناجي الطنطاوي زماناً قاضياً شرعياً في دوما والنَّبْك، ثم انتقل إلى السعودية فعمل فيها مستشاراً في وزارة الحج والأوقاف سنين طويلة، وأخيراً عاد إلى دمشق فتوفي فيها (في بيته في دوما) قبل وفاة جدي بسنة واحدة، رحمهما الله (مجاهد).

لا أدري فيمَ هذا الضعف ولا أحبه من نفسي، ولكني أدري أني أتخيلك الآن وحيداً فريداً لا ترى حولك قريباً ولا صديقاً، تطل من شرفة الباخرة فلا ترى إلا السماء والماء، وقد أخذك دُوار البحر فلم تجد مُعيناً ولا مسعفاً، وأتصورك في ذلك البلد الغريب الذي لا ترى فيه إلا وجوهاً تنكرها، وأنت الذي لم يفارق بلده قط ولم يغب عن أهله ليلة ولم يسافر وحده أبداً. فلذلك ما أحزن، وفي ذلك أفكر. ولكنها -يا أخي- خطيئة تربيتنا الاتكالية. لو أن آباءنا عوّدونا، ولو أنّا عوّدناك على الحياة الاستقلالية الصحيحة، وتركناك وأنت في الثانية عشرة تذهب وحدك وتعود وحدك، وعوّدناك حمل التبعات، وأيقظنا فيك شخصيتك ولم ندعها ضائعة في شخصياتنا، ودفعناك إلى استثمار مواهبك ولم نتركها معطلة ... لو فعلنا ذلك وأنت في الثانية عشرة، لما خفت عليك السفر وحدك إلى باريس وأنت في طريق العشرين. * * * يا أخي: إنك تمشي إلى بلد مسحور والعوذ بالله، الذاهب إليه لا يؤوب إلا أنْ يؤوبَ مخلوقاً جديداً وإنساناً آخَرَ غير الذي ذهب، يتبدل دماغه الذي في رأسه وقلبه الذي في صدره ولسانه الذي في فيه، وقد يتبدل أولاده الذين هم في ظهره إذا حملهم في بطن أنثى جاء بها من هناك! إي والله يا أخي، هذه حال أكثر من رأينا وعرفنا (إلا من عصم ربك)، يذهبون أبناءنا وإخواننا وأحباءنا، ويعودون عُداةً

لنا دُعاةً لعدونا جنداً لاستعمارنا. لا أعني استعمار البلاد فهو هيّن ليّن، ثم إننا قد شُفينا منه بحمد الله أو كدنا، وإنما أعني استعمار الرؤوس بالعلم الزائف، والقلوب بالفن الداعر، والألسنة باللغة الأخرى، وما يتبع ذلك من الأرتستات والسينمات وتلك الطامّات، من المخدّرات والخمور وهاتيك الشرور. فانتبه لنفسك واستعن بالله، فإنك ستقدم على قوم لا يبالي أكثرهم العفاف ولا يحفل العرض (¬1). سترى النساء في الطرقات والسوح (¬2) والمعابر يعرضن أنفسهن عرض السلعة، قد أذلتهن مدنيّة الغرب وأفسدتهن وهبطت بهن إلى الحضيض، فلا يأكلن خبزهن إلا مغموساً بدم الشرف، وأنت لا تعرف من النساء إلا أهلك مخدَّرات معصومات كالدّر المكنون، شأنَ نساء الشرق المسلم، حيث المرأة عزيزة مكرمة محجوبة مخدَّرة، ملكة في بيتها، ليست من تلك الحِطّة والمذلة في شيء، فإياك أن تفتنك امرأة منهن عن عفتك ودينك، أو يذهب بلبك جمالٌ لها مزوّرٌ أو ظاهرٌ خدّاع؛ هي والله الحَيّة: ملمس ناعم وجلد لامع ونقش بارع، ولكن في أنيابها السمّ، وإياك والسمّ! إن الله قد وضع في الإنسان هذه الشهوة وهذا الميل، وجعل له من نفسه عدوّاً (لحكمة أرادها)، ولكنه أعطاه حصناً حصيناً يعتصم به وسلاحاً متيناً يدرأ به عن نفسه، فتحصّنْ بحصن ¬

_ (¬1) والعجيب أنه ليس في لغاتهم كلمة بمعنى العرض، لأن ذلك شيء لا يعرفونه. (¬2) جمع ساحة (مجاهد).

الدين وجرّدْ سلاح العقل تُوَقَّ الأذى كله. واعلم أن الله جعل من الفضيلة مكافأتها: صحة الجسم وطيب الذكر وراحة البال، ووضع في الرذيلة عقابها: ضعف الجسد وسوء القالة وتعب الفكر، ومن وراء ذلك الجنة أو جهنم. فإن عرضت لك امرأة بزينتها وزخرفتها فراقب الله، وحكّم العقل، واذكر الأسرة والجدود. لا تنظر إلى ظاهرها البرّاق، بل انظر إلى نفسها المظلمة القذرة وماضيها الخبيث المنتن. أتأكل من إناء ولغت فيه كل الكلاب؟ * * * يا أخي: إن في باريس كل شيء؛ فيها الفسوق كله، ولكن فيها العلم. فإن أنت عكفت على زيارة المكتبات وسماع المحاضرات وجدت من لذة العقل ما ترى معه لذة الجسم صفراً على الشمال (كما يقول أصحابك الرياضيون)، ووجدت من نفعها ما يعلقك بها حتى لا تفكر في غيرها. فعليك بها، استَقِ من هذا المورد الذي لا تجد مثله كل يوم، راجع وابحث وألِّفْ وانشر، وعِشْ في هذه السماء العالية، ودعْ من شاء يرتع في الأرض ويَعِشْ على الجيف المعطرة! غير أنك واجد في ثنايا هذه الكتب التي كتبها القوم المستشرقون عن العربية والإسلام وفي غضون هذه المحاضرات التي يلقونها عدواناً كثيراً على الحق وتبديلاً للواقع، فانتبه له، واقرأ ما تقرأ وأصغِ لما تسمع وعقلك في رأسك وإيمانك في صدرك. لا تأخذ كل ما يقولون قضيةً مسلَّمةً وحقيقة مقرَّرة،

فالحق هو الذي لا يكون باطلاً وليس الحق ما كان قائله أوربياً، فانظر أبداً إلى ما قيل ودع من قال. ثم إنك سترى مدينة كبيرة وشوارع وميادين ومصانع وعمارات، فلا يهولنّك ما ترى، ولا تحقر حياله نفسَك وبلدك كما يفعل أكثر من عرفنا من رُوّاد باريس. واعلم أنها إن تكن عظيمة وإن يكن أهلها متمدنين، فما أنت من أواسط إفريقيا ولا بلدك من قرى التُّبَّت (¬1)، وإنما أنت ابن المجد والحضارة، ابن الأساتذة الذين علّموا هؤلاء القوم وجعلوهم ناساً، ابن الأمّة التي لو حُذف اسمها من التاريخ لآضَ تاريخ القرون الطويلة صحفاً بيضاً لا شيء فيها، إذ لم يكن في هذه القرون بشر يدوّن التاريخُ تاريخَه سواهم ... فمَن هؤلاء الذين ترى؟ إنما هم أطفال أبناء أربعة قرون، ولكن أمتك بنت الدهر، لما وُلد الدهر كانت شابة وستكون شابة حين يموت الدهر. لا، لا أفخر بالعظام البالية ولا أعتز بالأيام الخالية، ولكن أذكره لك لأهزّ فيك نفسك العربية المسلمة، لأستصرخ في دمك قوى الأجداد التي قتلت وأحيت، وهدمت وبنت وعلمت، واستاقت الدهر من زمامه فانقاد لها طيّعاً ... إن هذه القوى الكامنة في عروقك نائمة في دمك، فليَفُرْ هذا الدم وليَثُرْ ويضطرم لتظهر ثانية وتعمل عملها. ¬

_ (¬1) كذا ضبطها الصحيح، وعامة الناس يخطئون فيلفظونها بكسر التاء والباء. انظر مقالة «طاقة أفكار: تصحيح أخطاء شائعة» في كتاب «كلمات صغيرة» (مجاهد).

لا تقل: ماذا يصنع طالب مثلي ضعيف في أمة قوية؛ فإن الأندلس المسلمة كانت بالنسبة لعصرها أقوى وكان روادها من طلاب الفرنجة أضعف، ولكنهم استطاعوا على ضعفهم أن يصنعوا هذه القوة التي تُعجب بها أنت ويذوب فيها غيرك. إن الدهر يا أخي دولاب والأيام دول، وإن في الشرق أدمغة، وفي الشرق سواعد، وفي الشرق مال، ولكن ينقص الشرقَ العلمُ، فاحمله إليه أنت وأصحابك، وعودوا إلى الشرق شرقيين معتزين بشرقيتكم الخَيّرة العادلة كما يعتز الغربيون بغربيتهم الظالمة الطاغية، واعلموا أن مهمتكم ليست ورقة تنالونها قد تُنال بالغش والاستجداء والسرقة، ولكن مهمتكم أمة تُحيونها. * * * يا أخي: إذا وجدت واسعاً من الوقت فادرس أحوال القوم وأوضاعهم في معايشهم وتجارتهم وصناعتهم ومدارسهم، وابحث عن أخلاقهم ومعتقداتهم، على أن تنظر بعين الناقد العاقل الذي يدوّن الحسنةَ لنتعلمها والسيئةَ لنتجنبها، ولا تكن كهؤلاء الذين كتبوا عن باريس من أبناء العرب فلم يروا إلا المحاسن والمزايا، ولا كأولئك الذين كتبوا عن الشرق من أبناء الغرب فلم يبصروا إلا المخازي والعيوب، ولكن كن عادلاً صادقاً أميناً. وإياك وهذه الحماقة التي يرتكبها بعض الكتّاب من الفرنجة حين يهرفون بما لا يعرفون ويقولون ما لا يعلمون، كهذا الأخرق الصفيق (¬1) الذي عمل أطروحة موضوعها «الحج» قدمها إلى ¬

_ (¬1) المسيو تريس، أحد الجهلة الذين جعلهم الانتداب أساتذة في مدارسنا!

جامعة كبرى، وهو يجهل العربية ولا يعرف أي كتاب من كتب المسلمين بحث في الحج، وإنما جمع الأخبار من الصحف وأفواه العامة! وكتب في نظام الريّ في الغوطة وزعم أنه وفّى البحث وأتمَّه، وهو لا يعرف منه إلا ما أخبره به ثلاثة فلاحين لقيهم في قرية ذهب إليها، مع أن نظام الري في الغوطة لا يكاد يعرفه في دمشق إلا نفر قليل! وذاك الذي كان معلماً أولياً في بلده فصار عندنا مدير دار المعلمين العالية، فذهب مع طلابه إلى ظاهر دمشق، فمشى ينظر إلى جانبَي طريق الربوة هنا وهناك فوجد في الجبل أثراً للماء، فقال: من أين جاء هذا الماء؟ لا بدّ أن يكون جاء من بردى، إذ لا ماء في دمشق إلا من بردى. فماذا تكون نتيجة «البحث العلمي» في هذه المسألة؟ هي أن بردى كان يصل إلى هنا؛ إذن فقد كان عرض بردى في الماضي أربعمئة متر! وانطلق يقرر دائماً هذه الحقيقة! * * * وبعد يا أخي: فاعلم أن أثمن نعمة أنعمها الله عليك هي نعمة الإيمان، فاعرف قدرها واحمد الله عليها، وكن مع الله تَرَ الله معك، وراقب الله دائماً واذكر أنه مطّلع عليك يَعْصِمْك من الناس ويُعِذْك من الشيطان ويوفقك إلى الخير (¬1). وفي اللحظة التي تشعر فيها أن دينك وأخلاقك في خطر احزم ¬

_ (¬1) وقد عصمه الله ووفقه فعاد أفضل مما كان، ومَنَّ عليه فكان أول دكتور في الرياضيات في بلاد الشام كلها، وهو عبد الغني الطنطاوي، الأستاذ في كلية العلوم في جامعة دمشق.

أمتعتك وعد إلى بلدك، وخلِّ «السوربون» تَنْعَ مَن بناها، وانفض يدك من العلم إن كان لا يجيء إلا بذهاب الدين والأخلاق. أستودع الله نفسك ودينك وأخلاقك، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر الحلقة 107 من «الذكريات»، في الجزء الرابع، وفيها صورة مفصَّلة لما أجملته هذه المقالة. وقد كان عبد الغني الطنطاوي من عباقرة الرياضيات المشهود لهم وله فيها مساهمات وإنجازات، وكان بارعاً في اللغات، أتقن الفرنسية في رحلة دراسته تلك، ثم تعلم الإنكليزية والألمانية بنفسه من غير معلم فأتقنهما قراءة وكتابة، وكان له باع في علوم العربية والدين كسائر إخوته. جاء إلى السعودية مدرّساً في جامعة أم القرى بمكة نحو عام 1980، ثم في جامعة الملك عبد العزيز بجدة، ثم تقاعد وأقام فيها حتى وفاته في أول جُمادى الآخرة من عام 1426 (2005)، رحمه الله (مجاهد).

اعرف نفسك!

من أحاديث الإذاعة اعرف نفسك! أذيعت سنة 1952 إنكم تسمعون كل يوم أحاديث في الجِدّ وفي الهَزْل وفي الخير وفي الشر؛ أحاديث تدعو إلى الوطنية، وأحاديث تسمو بالخُلُق، وأحاديث فيها متعة وفيها تسلية ... ولكن حديثي الليلةَ أهم من هذه الأحاديث كلها، لا لأني أنا كاتبه، أعوذ بالله من رذيلة الغرور، بل لأنه أمَسّ الموضوعات بكم وأقربها إليكم، ولأنه دعوة لكم لتعرفوا أنفسكم. لا تضحكوا يا سادة ولا تظنوا أني أهزل، ولا تقولوا: ومَن منّا لا يعرف نفسه؟ فإنه كان مكتوباً على باب معبد أثينة كلمة سقراط: «أيها الإنسان اعرف نفسك». ومن يوم سقراط إلى هذه الأيام لم يوجد في الناس إلا الأقل منهم مَن عرف نفسه! ومتى تعرف نفسك -يا أخي- وأنت من حين تصبح إلى حين تنام مشغول عنها بحديث أو عمل أو لهو أو كتاب؟ ومتى تعرف نفسك وأنت لا تحاول أن تخلو بها ساعة كل يوم تفكر فيها، لا يشغلك عنها تجارة ولا علم ولا متاع؟ ومتى، وأنت أبداً

تفكر في الناس كلهم إلا نفسك وتحدثهم جميعاً إلا إيّاها؟ تقول: «أنا»، فهل خطر على بالك مرة واحدة أن تسأل: «ما أنا»؟ هل جسمي هو «أنا»؟ هل «أنا» هذه الجوارح والأعضاء؟ إن الجسم قد ينقص بعاهة أو مرض، فتُبتَر رجل أو تُقطَع يد، ولكن «أنا» لا يصيبني بذلك نقصان! فما «أنا»؟ ولقد كنت يوماً طفلاً ثم صرت شاباً، وكنت شاباً وصرت كهلاً، فهل خطر على بالك أن تسأل: هل هذا الشاب هو ذلك الطفل؟ وكيف؟ وما جسمي بجسمه ولا عقلي بعقله، ولا يدي هذه يده الصغيرة، فأين تذهب تلك اليد؟ ومن أين جاءت هذه؟ وإذا كانا شخصين مختلفين فأيهما أنا؟ هل أنا ذلك الطفل الذي مات ولم يبقَ فيّ من جسده ولا فكره بقية؟ أم أنا الكهل الذي يُلقي هذا الحديث؟ أم أنا الشيخ الذي سيأتي على أثره بجسمه الواني وذهنه الكليل؟ ما «أنا»؟ وتقول: «حدّثت نفسي» و «نفسي حدّثتني»، فهل فكرت مرّةً ما أنت وما نفسك، وما الحد بينهما، وكيف تحدثك أو تحدثها؟ (¬1) وتسمع الصباحَ جرس الساعة يدعوك إلى القيام، فقد حان موعد الصلاة، فتحس من داخلك داعياً يدعوك إلى النهوض، فإذا ذهبت تنهض ناداك منك مُنادٍ أنْ تريَّثْ قليلاً واستمتع بدفء الفراش ولذة المنام. ويتجاذبك الداعيان: داعي القيام وداعي المنام. فهل ¬

_ (¬1) في كتاب «تعريف عام بدين الإسلام» حاشية طويلة في فصل «بين يدي الكتاب» توسّعَ فيها علي الطنطاوي في هذه المعاني، فمن شاء فليرجع إليها (مجاهد).

تساءلت: ما هذا وما ذاك؟ وما أنت بينهما؟ وما الذي يزيّن لك المعصية، ومَن يصور لك لذّتها ويجرّك إليها، وما الذي ينفّرك منها ويبعدك عنها؟ يقولون: إنها النفس وإنه العقل، فهل فكرت يوماً ما النفس الأمّارة بالسوء، وما العقل الرادع عنه؟ وما أنت؟ وتثور بك الشهوة حتى ترى الدنيا كلها مخدع الحبيب والحياة كلها متعة الجسد، وتتمنى أمانيّ لو أُعطيها شيطان لارتجف من فظاعتها الشيطان، ثم تهدأ شهوتك فلا ترى أقبح من هذه الأماني ولا أسخف من ذلك الوصال! ويعصف بنفسك الغضب حتى ترى اللذة في الأذى والمتعة في الانتقام، وتغدو كأن سبعاً حل فيك فصارت إنسانيتك وحشية، ثم يسكت عنك الغضب، فتجد الألم فيما كنت تراه لذة، والندم على ما كنت تتمناه. وتقرأ كتاباً في السيرة أو تتلو قصة أو تنشد قصيدة، فتحس كأنْ قد سكن قلبَك مَلَكٌ فطرتَ بغير جناح إلى عالم كله خير وجمال، ثم تدع الكتاب فلا تجد في نفسك ولا في الوجود أثارة من ذلك العالم. فهل تساءلت مرة: ما أنا من هؤلاء؟ هل أنا ذلك الإنسان الشهوان الذي يستبيح في لذته كل محرَّم ويأتي كل قبيح؟ أم ذلك الإنسان البطّاش الذي يشرب دم أخيه الإنسان ويتغذى بعذابه ويسعد بشقائه؟ أم ذلك الإنسان السامي الذي يحلق في سماء الطهر بلا جناح؟ أسبع أنا أم شيطان أم مَلَك؟ (¬1) * * * ¬

_ (¬1) راجع مقالة «النفس الأمّارة بالسوء والنفس اللوّامة» في كتاب «نور وهداية» (مجاهد).

أتحسب أنك واحد وأنك معروف، وأنت جماعة في واحد، وأنت عالم مجهول؟ كشفتَ مجاهل البلاد وعرفت أطباق الجو، ولا تزال أنت مَخفيّاً لم يظهر على أسرارك أحد. فهل حاولت مرة أن تدخل إلى نفسك فتكشف مجاهلها؟ نفسك عالم عجيب، يتبدل كلَّ لحظة ويتغير ولا يستقر على حال: تحب المرءَ فتراه مَلَكاً، ثم تكرهه فتبصره شيطاناً. وما ملكاً كان قطّ ولا شيطاناً، وما تبدل، ولكن تبدلت حالة نفسك. وتكون في مسرَّة فترى الدنيا ضاحكة، حتى إنك لو كنت?مصوِّراً? (¬1) لملأت صورتها على لوحتك بزاهي الألوان، ثم تراها وأنت في كدر باكية قد غرقت في سواد الحداد. وما ضحكت الدنيا قط ولا بكت، ولكن كنت أنت الضاحك الباكي. فما هذا التحول فيك؟ وأي أحكامك على الدنيا أصدق وأي نظرَيك أصح؟ وإذا أصابك إمساك فنالك منه صداع ساءت عندك الحياة، وامّحى جمال الرياض وطُمس بهاء الشمس واسْوَدّ بياض القمر، وملأتَ الدنيا فلسفة شؤم إن كنت فيلسوفاً وحشوت الأسماع شعر بؤس إن كنت شاعراً، فإذا زال ما بك بقَدَح من زيت الخَرْوَع ذهب التشاؤم في الفلسفة والبؤس في الشعر. فما فلسفتك -يا أيها الإنسان- وما شِعرك إن كان مصدرهما فَقْدَ قَدَح من زيت الخَرْوَع؟ وتكون وانياً واهي الجسم لا تستطيع حراكاً، فإذا حاق بك خطر أو هبط عليك فرح وثبت كأنْ قد نشطت من عقال وعدوت ¬

_ (¬1) أي رسّاماً، هكذا استعمل جدي هذه المفردة على الدوام (مجاهد).

عدو الغزال، فأين كانت هذه القوة كامنة فيك؟ هل خطر على بالك أن تبحث عن هذه القوة فتحسن استغلالها؟ هل تساءلت مرة عندما تغضب أو تفرح فتفعل الأفاعيل: كيف استطعت أن تفعلها؟ (¬1) إن النفس -يا أخي- كالنهر الجاري؛ لا تثبت قطرة في مكانها ولا تبقى لحظة على حالها، تذهب وتجيء غيرها، تدفعها التي هي وراءها وتدفع هي التي أمامها. في كل لحظة يموت واحد ويولد واحد، وأنت الكل؛ أنت الذي مات وأنت الذي وُلد، فابتغِ لنفسك الكمال أبداً، واصعد بها إلى الأعالي، واستولدها دائماً مولوداً أصلح وأحسن، ولا تقل لشيء «لا أستطيعه»، فإنك لا تزال كالغصن الطري لأن النفس لا تيبس أبداً ولا تجمد على حال، ولو تباعدت النقلة وتباينت الأحوال. إنك تتعود السهر حتى ما تتصور إمكان تعجيل النوم، فما هي إلا أن تبكر المنام ليالي حتى تتعوّده فتعجب كيف كنت تستطيع السهر. وتدمن الخمر حتى ما تظن أنك تصبر عنها، فما هي إلا أن تدعها حتى تألف تركها وتعجب كيف كنت تشربها. وتحب المرأة حتى ما ترى لك حياة إلا بها، فما هي إلا أن تسلوها حتى تعجب كيف كنت تحبها (¬2). فلا تقل لحالة أنت فيها: "لا أستطيع تركها"، فإنك في سفر دائم، وكل حالة لك محطة على الطريق، لا تنزل فيها حتى ترحل عنها. * * * ¬

_ (¬1) انظر ص20 - 21 في هذا الكتاب (مجاهد). (¬2) واقرأ إن شئت مقالتَي «عوِّدْ نفسك الخير» و «بَدِّلْ عاداتك إلى الأفضل»، وهما في كتاب «فصول اجتماعية» (مجاهد).

فيا أخي: اعرف نفسك، واخلُ بها، وغُصْ على أسرارها، وتساءل أبداً: ما النفس؟ وما العقل؟ وما الحياة؟ وما العمر؟ وإلى أين المسير؟ ولا تنسَ أنّ مَن عرف نفسه عرف ربه، وعرف الحياة، وعرف اللذة الحق التي لا تعدلها لذة. وإن أكبر عقاب عاقب به الله مَن نسوا الله أنه أنساهم أنفسهم! * * *

مجانين

مجانين نشرت سنة 1946 إذا رأيتم رجلاً يمشي في الطريق منفوش الشعر شارد النظر، قد لبس معطفه على القفا ومشى على غير هدى، قلتم إنه مجنون. وقد يكون مجنوناً، ولكنه قد يكون فيلسوفاً أو شاعراً أو رياضياً! وإذا سمعتم أن رجلاً لا يفرق بين السراويل والقميص ولا بين الجمعة والخميس قلتم إنه مجنون، ولكن أناتول فرانس (والعهدة على الراوي جان جاك روسو) دُعي إلى وليمة يوم الأحد، فذهب يوم السبت ولبث ينتظر متعجباً من تأخر الغداء، ولبثت ربة الدار تنظر متعجبة من هذه الزيارة المفاجئة، ثم لم يرضَ أن يصدق أنه يوم السبت! فهل كان أناتول، نابغة قومه في البلاغة وباقعة العصر، مجنوناً؟ وإذا شاهدتم رجلاً يعتزل في كوخ أو ينفرد في غار، ولا يقبل على الدنيا ولا يكلم الناس، قلتم إنه مجنون. ولكن الغزالي عاف الدنيا وقد اجتمعت له، والمجدَ وقد أقبل عليه، والرياسةَ وقد أتته منقادةً تسعى إليه، وحبس نفسه في أصل منارة الجامع الأموي في دمشق. فهل كان الغزالي، حجة الإسلام وعَلَم الأعلام، مجنوناً؟

وإذا بلغكم أن إنساناً نسي اسمه قلتم إنه مجنون، ولكن الجاحظ نسي كنيته وطفق يسأل عنها حتى جاءه ابن حلال بالبشارة بلُقياها، فقال له: "أنت أبو عثمان". فهل كان الجاحظ، عبقري الأدب ولسان العرب، مجنوناً؟ ونيوتن، وقد كانت في داره قطة، كلما أغلق عليه بابه وقعد إلى كتبه ومباحثه أقبلت تخرمش الباب وتخشخش بأظفارها، فتشغله عن عمله حتى يقوم فيفتح لها. فلما طال عليه الأمر كَدَّ ذهنه وأطال بحثه، فاهتدى إلى المخلص، ففتح في أسفل الباب فتحة تمرّ منها، فاستراح بذلك من شرها. ثم وُلد لها ثلاث قُطَيطات ففتح لكل واحدة منها فتحة! لم يستطع هذا العقل الكبير الذي وسع قانون الجاذبية أن يتسع لحقيقة صغيرة: هي أن الفتحة تكفي القطة الأم وأولادها. وأمبير، وقد كانت تعرض له مسائل في الطريق فلا يجد قلماً لها وورقاً، فحمل معه حَوّاراً (¬1)، فكلما عرضت له مسألة ورأى جداراً أسود وقف فخط عليه، فرأى مرة عربة سوداء واقفة فجعل يكتب عليها أرقامه ورموزه، واستغرق فيها حتى سارت العربة، فجعل يعدو خلفها وحَوّاره بيده وهو لا يدري ما يصنع! وهنري بوانكاريه (¬2)، وقد دعا قومه إلى وليمة في داره ¬

_ (¬1) الحَوّار: الطباشير، ولا بأس بعربيتها، لأن التحوير هو التبييض. (¬2) واحد من أكبر علماء الفيزياء والرياضيات في القرن التاسع عشر، من أعماله توحيد قوانين ماكسويل، وهو الإنجاز الذي ساعد آينشتاين على صياغة نظرية النسبية الخاصة (مجاهد).

وضرب لها الساعة السابعة موعداً، فلما حل الموعد وجاء القوم كان مشغولاً، فدعَوْه فلم يسمع، وألحّوا عليه فلم ينتبه، وكانوا يعرفون شذوذه، فأكلوا وانصرفوا. وقام بعد ساعتين فأمَّ غرفة المائدة فرأى الصحون الفارغة والملاعق المستعملة وبقايا الطعام، فجعل يفكر: هل أكل أم هو لم يأكل؟ ثم غلب على ظنه أنه قد أكل، فعاد إلى عمله! وأمر الله أفندي، العالم التركي المشهور صاحب «المَعْلمَة» (¬1) التركية، وقد كان يركب البحر كل يوم ما بين داره في إسكِدار وعمله في إسطمبول، فركب يوماً وكان إلى جنبه موظف كبير في السفارة البريطانية، وكان في جيبه فستق حلبي، وكان أمر الله أفندي مشغول الفكر فجال بيده وهو لا يشعر، فسقطت في جيب البريطاني ووقعت على الفستق، فأخرج منه فأكل. وظن الرجل أنه مزاح فسكت، ولكن الشيخ عاد وأوغل في الأكل حتى كاد يستنفد الفستق كله، وكان الفُلْك مزدحماً ما فيه مفر للبريطاني من هذه الورطة، فأحبّ أن يتلطف بالشيخ حتى يكف، فسأله: كيف وجدت الفستق؟ قال: عال! وعاد إلى تفكيره وأكله، فقال له: ولكن ليس في جوار الدار مثله أشتريه للأولاد، وإذا دخلت عليهم من غير فستق بكوا. قال الشيخ؛ عجيب! وعاد إلى الأكل والتفكير، فقال له: أفلا تتكرم بإبقاء شيء لهم؟ قال: بلى، بكل امتنان، وأخرج طائفة من الفستق فدفعها إلى الإنكليزي وأكل الباقي! وقد وُلّي وزارة المعارف وأُعطي عربة، فكان كلما بلغت ¬

_ (¬1) أي دائرة المعارف. ويا ليتهم سمّوها «مُعْلَماً» على وزن «مُعجَم».

به العربة المنزل وفتح له السائق الباب أخرج كيسه وسأله: كم تريد؟ فيقول له: يا سيدي، هذه العربة لمعاليك. فيتذكر ويقول: طيب. وقد سألته امرأةٌ مرة (وكان يمشي أمام داره): أين دار وزير المعارف يا سيدي؟ فقال لها: ومن هو وزير المعارف الآن؟! وصديقنا اللغوي العراقي عبد المسيح وزير (¬1)، وقد دخل مرة غرفة غيرَ غرفته في وزارة الدفاع، وكان من كبار موظفيها، فرأى أثاثها على خلاف ما كان يعهد، فغضب ودعا الفرّاش وقال له: حوِّلْ هذه المنضدة، انقل هذا الهاتف (¬2)، اعمل كذا، افعل كذا ... فلما استوت له كما يريد نظر فقال: أهذه غرفتي؟ قال: لا يا?سيدي. فانتقل إلى غرفته! وكنا نزوره أنا وأنور العطار، فدعا لنا مرة بشاي، وتدفق بالحديث وهو يشرب كأسه، فلما فرغت وضعها وتناول كأس الأستاذ العطار فشربها، ثم ثلّث بكأسي، فلما جاء الفرّاش يأخذ الكؤوس قال: سألتكم بالله، هل تريدون كأساً أخرى؟! وشيخ الشام ومربي الجيل الشيخ طاهر الجزائري، وقد حدثني الشيخ قاسم القاسمي أنهم احتالوا عليه حتى اشتروا له جبة جديدة وألبسوه إياها، وذهبوا به إلى دُمَّر فجلسوا حول البركة العظيمة في منزل الأمير عمر، وكان في المجلس الشيخ عبد الرزاق البيطار والشيخ جمال الدين القاسمي وجلّة العلماء، ¬

_ (¬1) وخُبِّرت أنه وضع كتاباً في ذهول العلماء ولم أرَه، وأشكر أحد تلاميذي في العراق إذا تكرم فأهداه إليّ. (¬2) لا يُعرف التلفون في الشام إلا بالهاتف.

فما كان من الشيخ طاهر إلا أن قام فنزع الجبة وجعل يغمسها في البركة ثم يدلكها بالتراب، ثم يغمسها، ثم علقها على غصن حتى جفت وتكرّشت، فلبسها وقال: الآن استرحت؛ إن الجبة الجديدة تشغل فكر صاحبها، أما العتيقة فإنه لا يبالي بها فينصرف إلى تفكيره. وصديقنا الكبير سامي بك العظم مفتش العدلية العام (¬1)، وقد حدثني من فمه أنه دعا فلاناً (وكان رئيساً للوزارة) إلى الغداء في داره في أقصى المهاجرين، فلما كان اليوم الموعود جاء الرئيس بسيارته إلى باب المنزل، فنزل منها وصرف السائق لئلا يطول عليه الانتظار، واجتاز الحديقة الممتدة وصعد الدرج العالي، وقرع الباب فلم يردّ أحد عليه، فعاد إلى البلد ماشياً في شمس الهاجرة من آب (أغسطس). أما سامي بك فقد نسي الموعد، ولم يكن في الدار أحد لأن أسرته في القاهرة، فذهب فتغدى في المطعم! وصديقنا الأديب العالم الرّاوية عز الدين التنوخي، وقد دعا للبحث في إعداد مهرجان المتنبي من سنين جمهرةً من أدباء البلد إلى المَجْمَع العلمي يوم كان أمين سره، فلما جاؤوا وجدوا المجمع مغلق الباب، فذهب بعضهم إلى دار الأستاذ يسأل عنه خشية أن يكون به مرض، وإذا هو يشتغل بتحقيق كتاب أبي الطيب اللغوي، وإذا هو يحدثهم عن الكتاب، أما حكاية الدعوة فقد نسيها من أساسها! * * * ¬

_ (¬1) يوم نُشر هذا الفصل.

أفكان هؤلاء، وفيهم كل عبقري عَلَم وكل نابغة إمام، أكانوا كلهم مجانين؟ أما في رأي العامة فَنَعَمْ! ذلك لأن القافلة تمشي، فمن سايرها عَدَّه أهلُها عاقلاً، ومن تقدم عنها يسلك طريقاً جديداً قد يكون أقرب وآمن عَدُّوه مجنوناً كمن تأخر عنها ليتيه في مجاهل الصحراء! لكن ذاك جنون العبقرية، وهذا جنون المارستان. إن العبقري شَغَل بالعلم فكرَه كله فلم يبق منه شيء لفهم الحياة، فصار عند أهلها مجنوناً. وبين جنون العبقرية وجنون المارستان نوع ثالث، ألا وهو جنون الغرام: وكل الناس مجنونٌ ولكنْ ... على قَدْرِ الهوى اختلف الجنونُ والهوى، يا ويح الهوى ما أكثر شعابه وما أضلّ أوديته! الهوى ... ومَنْذا الذي لم يَتِهْ في وادٍ من أوديته ولم يسلك شِعباً من شعابه؟ إن من لم يَهْوَ الغيد الحسان هَوِيَ الرياض والجنان أو الأصفر الرنّان، ومن لم تفتنه العيون التي في طرفها حَوَر فتنته الشهرة واستهواه الجاه ... كل الناس مجنون، ولكن أخطر المجانين مجانين الغرام! وهل في الدنيا أشد جنوناً ممّن ينكر الحياة ويُعرض عنها لا يريد أن يبصر وجهها، ويراها سوداء في عينيه لا تنيرها الشمس ولا يضوّئها القمر، كل ذلك لأن امرأة لم تمنحه قبلة؟ يا حفيظ! اللهم إنا نسألك السلامة! أما عرفتم مجنون ليلى؟ هذا الذي زهد في المجد والجاه

والعلم والمال والجنة، واجتنب حياة البشر وهام مع الوحش في البريّة، وملأ أيامه حسرة وكآبة وغمّاً لأن ... لأن الله خلق عينَي ليلى سوداوين فتّانتين، وجعل أنفها رقيقاً دقيقاً، وبرأ فمها أحمر كالوردة حلواً كالسكر صغيراً لا يعرف إلا لغة القبل! نعم، إنه جُنَّ لأن الله لم يخلق ليلى هذه قبيحة شَوْهاء! لقد كان يعيش قبل أن يعرف ليلى كما كان يعيش سائر أبناء آدم، وكانت حياته كاملة سعيدة من غير ليلى، فاشتهى يوماً أن يدنو من امرأة كما يشتهي كل رجل، فقادته المصادفة إلى ليلى، فأرادها، فلم يصل إليها فجُنّ، ولو كان عاقلاً لرأى في كل امرأة في الدنيا غَناء عن ليلى. إن مَثَله مَثَل رجل أراد أن يدخل بيتاً له مئة باب، فطرق باباً منها وعالجه فلم يُفتَح له، فوقف يبكي وينتحب شوقاً إلى الدخول ويضرب الجدار برأسه، والأبواب التسعة والتسعون مفتَّحة أمامه! وإن لكل رجل ليلى: كلٌّ يُغَنّي على لَيْلاهُ متَّخِذاً ... ليلى منَ النّاسِ أو ليلى من الخشبِ فإن فاتته ليلى الناس أجزأت عنها ليلى الخشب، فما بال قيس؟ أوَلم يخلق الله في النساء جميلة إلا ليلاه؟ أوَليست المصادفة هي التي ألقتها بين يديه، ولو كان رأى سُعدى أو سلمى لكان مجنون سلمى أو سعدى؟ وهذا مجنون آخر هو ستيفن مجنون ماجدولين. ولقد عرفته مذ نقله إلى الشرق إمامُ الكاتبين المنفلوطي رحمة الله على روحه،

ثم رأيت وجهه الفرنسي الأصيل في يوم كنت فيه أنا أيضاً مجنوناً يفكر بأعصابه لا بدماغه، ويرى الدنيا كلها خلوة من خلوات الحب، والحياةَ قصة من قصص الغرام، والوجودَ كله وجه فتاة فتّانة ... وقاتل الله الصبا وحماقات الصبا! عرفته يومئذ فرأيته بجنوني بطلاً من أبطال الحب وشهيداً من شهداء العاطفة، ولكني عدت إليه اليوم -وقد عقلت أو كدت- فإذا هو ... أعوذ بالله! يقول المجانين: إن الحب يطهّر النفوس ويزكيها ويوسع آفاقها وينميها ويسمو بها ويعليها، فتعالوا اسمعوا حديث هذا المحب الفرنسي ماذا صنع به الغرام. هجر أباه وتبرأ منه وأنكر حق أبوّته، ثم ذهب أخوه إلى المعركة وخاف أن يسقط عن سرجه، فبعث إليه يسأله ثمن سرج جديد، فلم يردّ عليه لأنه يحتاج إلى المال لينفقه فيما هو أهم، يريد أن يستأجر به مقعداً في المرقص يرى منه وجه ليلاه، أي «ماجدولينته»، فسقط أخوه عن سرجه ومات في المعركة! ثم فارق أباه وبقي في العراء، فأحسن إليه واحدٌ من أقربائه وأعطاه ما يبتغي من المال، فكانت مكافأة إياه على إحسانه أن سرق ماله، ودفع خنجراً في صدره فعجل موته! فعل ذلك كله من أجل امرأة، أضاع كل شيء ليجدها، ولكنها أعرضت عنه ومالت إلى غيره، إلى صديقه الذي قاسمه خبزه وشاركه فراشه، صديقه الذي سلبه سريره من تحته فباعه لينفق ثمنه على مآربه وهواه، وهذا المجنون المغفل لا يحس ولا يدري لأن الحب أعماه وأصمَّه. وهل رأيتم محباً له بصر؟ أعرضَت عنه، ولها الحق في الإعراض، هل تتزوج مجنوناً؟ إن الزواج إذا بُني على هذا الجنون الذي يسميه أصحابه «حباً» صار

البيت من بعده مستشفى مجاذيب ومارستاناً من المارستانات! تزوجت بغيره، فذهب ينتزعها من زوجها الشرعي ويرى أنه أحق بها، لأن اسمه واسمها منقوشان على شجرة زيزفون. ما شاء الله! إنك تستطيع أن تأخذ المرأة من بين ذراعي زوجها لأنك حفرت اسمها مع اسمك على شجرة! اسمعوا يا عقلاء (وأين العقلاء؟) شريعة المجانين، اسمعوا منطق الحب! هذا هو الحب الفرنسي: تفريط بحق الأسرة، واستهانة بواجبات الشرف والدين، واستئثار قاتل يمحو من الحياة أسمى فضائلها لهذه اللذة التي ينالها، ويُفقر النفس العامرة بالإيمان والفضيلة والمجد فلا يبقى فيها إلا صورة الحبيب، يراه العاشق في الأفق إذا نظر إليه والشمس واقفة للوداع، وفي السماء إذا تأمل فيها ونجومها تتوقد في هدأة الليل، وفي صفحة الماء وفي الروض البهيج، وفي كل كتاب يقرؤه ومشهد يراه: أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تَمَثَّلُ لي ليلى بكلّ سبيلِ * * * فيا رحمتا لهؤلاء المجانين! إنهم عُمْيٌ لا يبصرون من الدنيا إلا وجه امرأة واحدة، صُمٌّ لا يسمعون إلا صوتها، بُلْهٌ لا يشتغلون إلا بها، مجرمون لا يبالون بكل رذيلة إذا أوصلتهم إليها، أذلاّء لأنهم فقدوا الرجولة والكرامة، وغدا المثل الأعلى لهم أن يطيعوا هذه الرعناء الطائشة لأن لها عيناً بلون السماء وزرقة البحر ... هذا هو الحب يا أيها الشباب الصغار! كل عاشق هو «ستيفن»، ولو تناءت الديار وتباعدت

الأزمان، فاقرؤوا سيرة ستيفن تقرؤوا سير كل عاشق. لقد ارتضى أن يخسر كل شيء ليربح ماجدولين، فلما خسرها لم يبق له شيء، لقد غدا مجنوناً، وهل يمكن أن يكون محبٌّ عاقلاً؟ ها هو ذا يحرق الورقة المالية التي لا يملك غيرها ليقرأ على ضيائها رسالة الشيطانة، أعني الحبيبة، ويبقى من بعدها طاوياً يتضور جوعاً، لا يدري أن أحلام الحب وحماقاته لا تملأ المعدة الفارغة، وأن الرغيف الواحد أثمن عند الجائع من كل ما في الأرض من لَيْلَيَات وماجدولينات! لقد غدا تائهاً يدور في السُّبُل والطرقات وينام حيث يدركه المنام، لقد صيّره الحب موجوداً كالمعدوم، صار عضواً من الأمة أشلَّ لا ينفع ولا يضر، بل إنه يضر ولا ينفع! لقد سَدَّ في وجهه طرقَ المجد وحجب عن باصرتيه نور الشمس، فلم يبق فيه فائدة لنفسه ولا للناس، بل لقد صار هُزْأَة وغدا مسخرة، وكذلك يكون العاشقون! وينال هذا المجنون خمسة عشر ألفاً يستطيع أن يصنع بها الجلائل ويرفع بها لنفسه ولأمته مجداً، فماذا صنع بها؟ دفعها إلى عابر سبيل لا يعرفه! فما أكرم هؤلاء العشّاق الذين يمنحون ثروتهم كلها إلى من لا يعرفون، ويضنّ الواحد منهم على أخيه بثمن سرج لفرسه ويتركه يموت في المعركة! ثم يأتيه المال الوفير فينفقه في أتفه الأمور وأحط الرذائل: يستأجر مقاصير المسرح كلها ويرى الرواية وحده، لماذا؟ ليغيظ المرأة التي أحبها فتزوجت بغيره، لأنها تريد أن يكون زوجها رجلاً مثل الرجال لا امرأة لها شاربان ولحية ولا عقل لها! ثم يترقى ستيفن في فضائل

الحب، فينتهي إلى الغصب والنهب من حانة، ويعلن جنونه ليهدم به الحياة البشرية، فيزعم أن الحب أقدس الواجبات والزواج شر الرذائل، ثم تختم هذه الحياة النبيلة السامية بجريمة القتل! هذا هو مجنون ماجدولين، وذاك مجنون ليلى، أما سائر المجانين فهم بقية العاشقين. * * * فإذا كان في الدنيا جنون عبقرية وجنون مارستان، فإن جنون الهوى هو جنون الإجرام، لا سيما إذا كان هوى على الطريقة الفرنسية. فيا أيها الشباب الصغار: إذا لم يكن بدٌّ من الجنون فلنُجَنَّ بالمعالي والمكارم والعلم والفن، أو لنسكن المارستان. أما المرأة فصدقوني إذا قلت لكم: إنها لا تستحق أن يُجَنّ بها أحد! ورجائي من القراء ألاّ يخبروا بهذا أحداً من النساء! * * *

بيني وبين نفسي

بيني وبين نفسي نشرت في مستهل عام 1937 نظرت من النافذة فإذا كل شيء أراه نائم، هذه النخلة التي تقوم حيال شبّاكي، وقبة الأعظمية التي تبدو من ورائها في عظمة وجلال، ودجلة التي تجري صامتة مهيبة، والقمر الذي يغسل ماءها بشُعاعه ... وإذا على الطريق شبح يسير منهوكاً. على الطريق الذي لا يمتد في سهل ولا وعر، ولا يسير على سفح جبل ولا شاطئ بحر، ولا يسلك الصحراء ولا يخترق البساتين، ولكنه يلف السهل والوعر، والجبل والبحر، والصحراء والبساتين، وكل ما تحتويه ومن يكون فيها. على الطريق الطويل الذي يلوح كخط أبيض، يغيب أوله في ظلام الأزل ويختفي آخره في ضباب الأبد. رأيت شبحاً يسير على طريق الزمان، وسمعت صائحاً بالدنيا النائمة: تيقّظي، إن العام يرحل الآن! ففتحت النخلة عينيها ونظرت، فلما رأته قالت: قد رأيت «عشرات» مثله تأتي وتذهب فلم تبدل شيئاً؛ الفأس لا تزال باقية، وهذا الوحش البشري لا يزال ينتظر ثَمَري لِيَسْلُبَنيه، ثم إذا قنط

مني كافأني بلذع النار، فما لي وللعام الراحل؟ وأغمضت عينيها فنامت، ولم تكترث! ونظرت القبة، فلما أبصرته قالت: قد رأيت «مئات» مثله تجيء وتروح ولم تبدل شيئاً، فهذا النخيل قائم حولي كما كان، والشمس تطلع عليّ كل يوم وتغيب، والنجوم تسطع فوقي كل ليلة، والأرض تنتظرني تريد أن أهرم فتجذب أحجاري إليها وتأكلني، وكل شيء على حاله، لم يتبدل إلا الإنسان: كان الخليفةُ يمشي تحتي ويخطر بين أساطيني في حلل المجد وأردية الجلال، إنْ أمَرَ أطاعت الدنيا وإنْ نادى لبّى الدهر وإن مال مالت الأرض، وكان الناس يطيفون بي أجلّة أمجاداً، عباداً أذلاء لله وملوكاً أعزّة على الناس، فأصبحت وحيدة منعزلة، لا أرى إلا هذه الفئات من العامة المساكين الذين تعرّوا من كل جاه إلا جاه العبادة ومجد إلا مجد الآخرة، فما لي وللعام الراحل؟ وأغمضت عينيها وعادت تحلم، ولم تكترث! وتنبهت «دجلة» ونظرت، فلما رأته قالت: قد رأيت «ألوفاً» مثله تمرّ في هذا الطريق، فلم تعمل في الكون شيئاً ولم تغيّر إلا الإنسان، كانت تقوم على شاطئيّ القصور الفخمة، تتوّج هامَها العظمةُ، ويَحُلّ أرجاءها الجلالُ، ويمثل في أبهائها المجد، ويقف على بابها التاريخ يصدر عنها ويكتب حديثها، وتنبثق منها أشعة الحضارة والفن، وتسطع منها أنوار العلم والأدب، وتومض في شرفاتها وأروقتها العمائمُ التي كانت على أشرف رؤوس وأحفلها بالفضائل والعلوم ... فلم يبقَ من هذا كله إلا

أطلال يريدون أن يطمسوا اليوم آثارها ويغطّوا عليها بقبّعة! ولكن ذلك لن يدوم؛ إن طريق الزمن لا يزال مسلوكاً. ثم صمتت وعادت تجري كما كانت تجري، ولم تكترث! وأنصت القمر وأطلّ ينظر، فلما رأى العام الراحل قال: لقد رأيت «ملايين» مثله، وقد مللت مرّ السنين وكر العصور، فما لي وله؟ وعاد يفيض نوره على الكون ولم يكترث! وبقيت وحدي. * * * بقيت وحيداً، فنظرت في نفسي: لقد صحبت تسعاً وعشرين قافلة من قوافل الزمان، فهل اقتربت من آمالي؟ هل دنوت من الغاية التي أسعى إليها في سفري؟ ثم سألت نفسي: ما هي الغاية التي تسعين إليها؟ أتسيرين إلى غير ما نهاية؟ كلما مرّ عام تعلقتِ به فسرت معه، حتى يضيق بك عام من الأعوام فيقذف بك إلى وادي الموت؟ ألا تعلمين أين المسير؟ ولم تكن النفس ترقب مثل هذا السؤال فاضطربت اضطراباً شديداً، وكثرت فيها الآراء واشتدّ بين أعضائها الخلاف، ثم انشقّت انشقاقاً وانقسمت أحزاباً وانتثرت نفوساً. قالت النفس الأولى: الغاية يا صاحبي واضحة؛ إننا نسعى لخدمة هذا الجسم الذي نحمله، نحيا لسدّ حاجاته، وإجابة رغباته، وإمتاعه بملذاته. قالت الثانية: خسئت أيتها «النفس الفاجرة»! إننا لم نُسخَّرْ

من أجل هذا العنصر الأجنبي، إن الجسم ليس منا. قالت الأولى: أفهو إذن من غيرنا؟ وقهقهت ضاحكة. قالت: اسخري من نفسك. إنه لو كان منّا لما عشنا إلا فيه ولم نعش بعده، إنه ثوب نلبسه ونخلعه، أفيكون الثوب جزءاً من اللابس؟ قالت الأولى: إني لم أفهم فلسفتك. أتزعمين أن يدي ورجلي ليستا مني؟ قالت: نعم؛ إن المرء لو قُطعت يده أو رجله أو ذهب سمعه أو بصره فلن تنقص نفسه شيئاً، بل لقد يكون الأعمى الأصمُّ أكملَ نفساً وأقوى عقلاً وأسمى روحاً من السميع البصير، وإنك لتعلمين هذا، ولكنك «نفس سوء» تريدين الاستمتاع بشهواتك، ونحن لا نحيا لنيل الشهوات. قالت الأولى: فلِمَ إذن نحيا يا أيتها «النفس المفكِّرة»؟ قالت: نحيا لنكشف خبايا الوجود، لنستطلع طلع الكائنات، لنعرف نواميس الكون وأسرار الطبيعة ... من أجل هذا نحيا. فانبرت لها نفسي الثالثة فقالت: كنت أظنك عاقلة تفهمين وتعرفين، فإذا أنت جاهلة. ويحك! ما نحن والوجود؟ ما لنا والطبيعة؟ وماذا يعنينا أكانت المجرّة نهراً في السماء أم كانت مجموعة من الكواكب؟ وماذا ينفعنا أن يكون في المريخ ناس أو يكون مقفراً لا ناس فيه؟ وما لنا ولهذا الفضول؟ قالت الثانية: إنك «نفس شاعرة» تنكرين قيمة العلم.

قالت: إن هذا العلم خسران لك يا حمقاء! إنك كنت ترين في الكسوف حادثاً غريباً مليئاً بالأسرار يبعث فيك عالماً من العواطف، فلما علمت أنه حادث طبيعي: كوكب يقوم بحذاء كوكب، ضاع معناه وانتفت أسراره، ولم يعد يثير فيك عاطفة أو يَهيج فيك حِساً. قالت الثانية: وما قيمة العاطفة؟ أتريدين أن ندع العلم من أجل العاطفة؟ قالت الثالثة: لا، بل تعلّمي، ولكنْ تعلّمي ما تحتاجين إليه. العلم دواء يؤخَذ بمقدار الحاجة، ولكن الشعور غذاء لا يُستغنى عنه؛ فنحن نحيا لنرى الجمال ونستمتع به ونتذوقه في الطبيعة وفي الإنسان وفي الفن، من أجل هذا نحيا. فوثبت النفس الرابعة، «النفس المؤمنة المطمئنّة»، فقالت: يا للسخف! قالت الثالثة وقد غاظها ما قالت: أيَّ سخف ترين من فضلك؟ إذا كنا لا نرى الجمال فلِمَ نحيا؟ قالت الرابعة متهكمة: كأنك تحيَين الآن! إنك -يا سيدتي- سجينة، فاسعَي لتتخلصي من قيود السجن، ثم انطلقي في فضاء الحرية فيعشي في الحياة الأخرى: حياة الانطلاق. ورأيت أن المناقشة قد طالت وغدت مملّة وتشعبت فيها الآراء، فأسكتُّهنّ ورجعت أفكر وحدي. * * *

قلت: إنني لا أدري لماذا أحيا، ولا أعرف ما هي صلتي بالكون! كنت أنظر إلى الدنيا من خلال الكتب وأشرف عليها من نافذة المدرسة، فأراها صغيرة كقبضة الكف، فحسبت أنّي إذا خرجت من المدرسة وحزت الشهادة قبضت عليها بيدي. وعشت بهذا الأمل، لم أعرف حقيقة الحياة ولم أُعِدَّ لها العدة، ولم أجد من يخبرني خبرها إلا هؤلاء الأساتذة، وهم قوم مخادعون، لا يبصِّرون التلميذَ بالدنيا كما هي في ذاتها، بل كما يريدون هم أن تكون. وخرجت من المدرسة، وهبطت من سماء الخيال إلى أرض الحقيقة، فإذا الطريق مزروع بالشوك، فانطلقت أمشي وأجاهد بهمّة الشاب القوي الطموح، فما قطعت من الطريق إلا قليلاً حتى وجدت هذه الطفيليّات البشرية تتعلق بكتفي وتستمسك بي، حتى إذا دنوت من أول منزل وهممت أن أستريح فيه وثبَت فسبقتني إليه، فسرت أجاهد وأتقدم أؤمّ منزلاً آخر، حتى هدّني التعب ونال مني النصَب ولم أصل إلى شيء. ولاح لي فجأة قصر عظيم على الطريق، تلمع قِبابه المغشّاة بالذهب وتشرق جدرانه المغطاة بالفضة وتضيء نقوشه وزخارفه في شعاع الشمس، ويُقرأ على بابه بأحرف من نور: «هذا قصر اليأس». فراعني مظهره، وهممت أن أحيد عن الطريق فأدخله، ولكني نظرت إليه أولاً، فإذا هو موحش مظلم في وسطه قبر مفتوح مملوء بالأساود (¬1) والأفاعي، وإذا هو خالٍ من البشر، ¬

_ (¬1) الأساود جمع أسْوَد، وهو أسوأ أنواع الحيات وأفتكها (مجاهد).

ليس فيه إلا جماعة الشعراء البائسين يُعِدّون قصائدهم لتدفن معهم في هذا القبر الأسود فلا يدري بها أحد. فوليت هارباً، وآثرت العودة إلى مقارعة الشوك وجهاد الحياة. عدت فقارعت وجاهدت فلم أصل إلى شيء، فسألت نفسي: هل أيأس؟ * * * سألتها وحدثتها، ولكني جَهَرت بالحديث فأيقظت النائمين. أطلَّت عليّ النخلة فقالت: إلامَ تجاهد وتناضل؟ ماذا تريد أيها الرجل؟ ألا تقنع مثلي بأن تقف في مكانك حتى يأتيك الموت؟ قلت: لا، إن لي غاية واحدة، هي أن أبقى دائماً أجاهد وأناضل. فضحكت وقهقهت أوراقها وعادت إلى منامها. ومدّت القبة رأسها فقالت: ألا تنام مثلي أيها الفتى وتحلم؟ لماذا تعدو في طريق القبر؟ قلت: إني أحب أن أصل إلى القبر لأني سأخرج منه إلى الفضاء الواسع، سأخلع فيه ثوبي الجثماني ثم أنطلق صُعُداً. فذهبت وهي تحدث نفسها: ينطلق صعداً؟ أنا هنا منذ ألف ومئة سنة ولم أنطلق صعداً! ثم رجعت إلى المنام. وقالت دجلة وقد صفَّق لي ماؤها سروراً: امضِ أيها الغلام، امض؛ إن طريقك طويل ولكنك قوي. إنك لا تمشي إلى القبر لتَفنى ولكن تدخل من باب القبر إلى عالم الخلود. ها أنا قد بلغت من العمر سبعمئة وخمسين ألف سنة، ولكنك قد وُلدت بعقلك قبلي، وستعيش بروحك من بعد أن تموت الجبال وتغرق البحار،

ويختنق الهواء وتُدفن الصحراء! وأمّن القمر على كلامها، وأطلّ عليّ من النافذة فصافحني بشعاعه وقال: لقد صدقَت. إنك تعيش الآن لتعدّ العدة للحياة، حين تنطلق من قيود الجسم. ثم صمَتَ وصمَتُّ. * * * وكان العام يقطع اللحظة الأخيرة، فصحت به: أنا الذي يهتم بك أيها العام، أنا الذي يودعك ويستقبل غيرك، لا النخلة ولا القبة ولا دجلة ولا القمر، تلك للفناء وأنا للبقاء، تلك تنتظر الموت وأنا أنتظر الحياة ... أنا أمشي على هام السنين إلى الحياة الأخرى. * * *

شهيد العيد

شهيد العيد نشرت سنة 1946 [كلفتني محطة الشرق الأدنى أن أكتب قصة لتذاع عني أول يوم من عيد الأضحى، وهذا هو العيد قد حلّ، حلّت عليكم فيه البركات والخيرات، ولكن القصة لم تُكتَب. إن لها قصة يا سادة فاسمعوا قصتها.] أنا رجلٌ من طبعه التأجيل والتسويف، أؤخّر الأمرَ ما دام في الأجل فسحة، أُرجئه إلى آخر لحظة منه، ثم أقوم كالمجنون أنطّ (¬1) قافزاً مثل الأرنب الذي زعم «أخونا» لافونتين أنه نام حتى سبقته السلحفاة، وإنْ لم أكن قد رأيت في عمري سلحفاة تسبق أرنباً! فلما ورد عليّ كتاب المحطة نظرت، فإذا بيني وبين موعد الإذاعة أمد طويل، فاطمأننت ونمت. حتى إذا كانت ليلة العيد، ولم يبقَ أمامي إلا ساعات معدودة أكتب فيها القصة وألحق بها البريد الجوي، أخذت قلمي وصحيفتي لأكتب، فسُدَّت عليّ ¬

_ (¬1) نَطَّ في الأرض: ذهب، وهي من العامي الفصيح.

أبواب القول ومنافذه وكُواه، وعدت مُرْتَجَاً عليّ محبوساً لساني كأني ما مارست الكتابة قط! وكذلك نفس الأديب يا سادة؛ تتفتح تفتُّح الينبوع الدفّاق، ثم تشحّ شحّ الصخرة الصماء ما تبضّ بقطرة ماء (¬1)، ولكن الناس لا يصدقون ذلك. إنهم يحسبون الكاتب يُخرج المقال من نفسه كما يخرج التاجر البضاعة من دكانه، ولا يدرون أن هذا الكلام يجيء أحياناً حتى ما يقدر الأديب على ردّه، ويعزُب حيناً حتى لا يلقاه، وأنه يعلو ويصفو، وينزل ويتعكر. وما عجزت الليلة عيّاً ولا فَهاهَةً (¬2)، فأنا أكتب في الصحف من عشرين سنة، ولكن الكتابة بالأجرة، بيع وشراء، ولكل مبيع ثمن، وأنا أحب أن أنتصف وأنصف الناس من نفسي، لذلك رأيتني كلما سقطت على موضوع وزنته فوجدته لا يساوي الثمن الذي تدفعه لي المحطة، فتركته وفتّشت عن أغلى، وكلما خطرت لي فكرة طمحت إلى أعلى، حتى كاد يمضي الوقت ولم أصنع شيئاً، ونزل بي ما نزل بالأستاذ توفيق الحكيم لمّا كلفوه أن يضع حواراً للفِلْم وجعلوا له جُعْلاً ضخماً، فحصر فيه فكره وحشد له قواه وفَرَّ لأجله من داره، ثم انتهى به الأمر أن ألّفَ كتاب الحمار ولم يضع الحوار (¬3). ¬

_ (¬1) لا تبضّ الصخرة بالماء: لا ترشح، ومنه قولهم: بَضَّت عينُه، أي دمعت (مجاهد). (¬2) الفَهاهة والعي بمعنى واحد، والفعل منه فَهَّ يَفَهُّ (مجاهد). (¬3) «حمار الحكيم»، كتاب مشهور لتوفيق الحكيم (مجاهد).

عند ذلك أَيِسْتُ ولبست ثيابي، وهربت إلى الأسواق. * * * جلت في الأسواق. وأسواق دمشق ليلةَ العيد كأنها المحشر، قد أُوقِدَت فيها المصابيح وفُتحت المخازن وانتشر الباعة، وتدفّق عليها أهل البلد والفلاحون بالأزياء المختلفات واللغات المتباينات، وكل بائع ينادي برفيع صوته، وكل مُشترٍ يصيح، وكل مجتاز يتكلم، والبضائع معروضات من كل مأكول وملبوس ومفروش ومنظوم ومشموم، وكلٌّ يريد أن يُعِدّ الليلةَ عدّته للعيد فيشتري فيها طعامه ولباسه. وكنت أسير في هذا الزحام شاردَ الذهن نازحَ الفكر، أُعمل عقلي في هذه القصة التي وعدت بها المحطة فأعلنَت عنها وبشّرَت بها، ثم لم أستطع أن أكتبها، حتى وصلت إلى باب المُصَلَّى (¬1)، فإذا أنا بحشد عظيم من الناس قد احتشد حيال دكان، فدفعني الفضول إلى معرفة الخبر، فأقبلت أدفع الناس بكتفي وأشق طريقي بيديّ كلتيهما، وأطأ أعقاب الناس وأقدامهم، وأصغي إلى هذا الفيض العجيب من «النثر الفني» الذي جادت به قرائحهم فتدفق عليّ من ألسنتهم، حتى بلغت المشهد ونظرت. نظرت فرأيت اثنين يختصمان ويعتركان؛ أما أحدهما فكان مسكيناً قميئاً أعزل عاجزاً، وأما الآخر فكان ضخماً طُوالاً كالح ¬

_ (¬1) حي في أول الميدان (ميدان الحصى) في دمشق، كان فيه مُصلّى العيد لمّا كان الناس يعرفون السنّة فيصلون العيدين فيه لا في المساجد.

الوجه، مفتول العضل وسخ الثوب، قد حمل سكيناً في يده طويلة النصل حديدة الشفرة وهجم بها على صاحبه، والناس ينظرون ولا ينكرون، وصاحبه المسكين يصرخ ويتلفت تلفت المذعور، يطلب الغوث ولا يغيثه أحد، ويبتغي المهرب فيسد عليه الناس طريق الهرب. وإني لأفكر ماذا أصنع، وإذا بالخبيث العاتي يذبحه -والله- أمامنا ذبحاً، ويتركه يتخبط بدمه، ويوليه ظهره ويمضي إلى دكانه متمهلاً، فيعالج فيها شأنه على عادته، كأنه لم يرتكب جرماً ولم يأت الأمر النكر جهاراً! وكدت أهجم عليه وأسلمه إلى الشُّرَط، ثم ذكرت أن الشجاعة في مثل هذا الموطن تهوّر وحماقة، وأن المجرم بيده السكين، لا يمنعه شيء أن يَجَأ بها من يريده بِشَرّ. وطمعت أن يتحرك أحد الواقفين فيقدم عليه فأتبعه وأشد أزره، فلا والله ما تحرك أحد منهم ولا جَرُؤ على ذلك؛ بل لقد تكلم واحد منهم، فلما رفع القاتل رأسه ونظر إليه رأيته يجزع منه ويفزع، ويقول له بصوت مضطرب متلجلج: الله يسلِّم يديك! وحرت ماذا أعمل: أَأُبلّغ الشرطة، أو أدعهم وأمضي إلى داري لا عليّ ولا لي؟ ثم رأيت أن خير ما أفعل أن أكتب وصف ما رأيت وأبعث به ليُذاع ويعرفه الناس. وهأنذا أتهم هذا الرجل بالقتل، وأدعو الحكومة إلى القبض عليه حتى يعاقَب ويكون عبرة لمن يعتبر. ولا يحسبَنَّ أحدٌ أنه فَرَّ أو أن القصة متخيَّلة أو مكذوبة، أو أنها من أساطير الأولين أو

من أخبار العصور الخوالي، فالقاتل موجود في دكانه يغدو إليها ويروح إلى بيته، والقصة صحيحة رأيتها بعينَي رأسي وأنا سالم العقل غير مجنون ولا معتوه، متيقظ غير نائم ولا حالم، صاحٍ غير مخدَّر ولا سكران، ثم إني رأيتها الليلة البارحة! * * * هذه هي الحادثة الفظيعة التي كتب الله أن تكون هي موضوع قصتي التي فكرت فيها وأطلت التفكير، فكيف رآها الناس فلم يحفلوا بها ولم يأبهوا لها؟ أفَسَدت الأخلاق وضاعت المروءات حتى لا ننكر الأمر النُّكْر؟ أم خارت العزائم وانخلعت القلوب حتى لا نجرؤ على المجرم الظالم؟ وهل نامت الحكومة في الشام نَوْمَةَ أهل الكهف حتى ما تدري بالدم يسيل في شارع من أكبر شوارع دمشق؟ لقد سكت الجميع، حتى إن أنسباء القتيل قد ناموا على دمه وقعدوا عن الثأر له، ولم يتقدم أحدٌ منهم شاكياً ولا مدّعياً، لأن القاتل -كما قالوا- عازم على ذبحهم كلهم إنْ قدر عليهم، وماضيه حافل بمثل هذه الجرائم. فما سر هذا السكوت؟ لقد علمت السرَّ -بعدُ- يا سادة. ذلك أن المسكين الشهيد كان خروفاً من خرفان الضحية، وأن القاتل كان جزّارَ الحارة، وأن الناس شاركوه في جرمه، فأكلوا لحم الذبيح مشوياً ومقلياً ومطهياً، وأكلت معهم، ونسيت

من طيب اللحم هذا المشهد. هذه هي سنة الحياة؛ يموت المسكين لنستمتع نحن بأكلة طيبة، فكلوا منه أنتم أيضاً هنيئاً، واشربوا مريئاً، واشتغلوا بالأكل عن مطالبتي بالقصة. وكلَّ عام أنتم بخير! * * *

أعرابي في حمام

أعرابيٌّ في حَمّام نشرت سنة 1936 صحبنا في رحلتنا إلى الحجاز (¬1)، دليلٌ شيخٌ من أعراب نجد يقال له صْلَبي (¬2)، ما رأيت أعرابياً مثله قوّةَ جَنان وفصاحة ¬

_ (¬1) أخبار الرحلة مفصَّلة في كتاب «من نفحات الحرم» وفي الجزء الثالث من «الذكريات»، وكانت سنة 1935، قبل سنة من نشر هذه المقالة (مجاهد). (¬2) استوحى جدي رحمه الله شخصية هذا الأعرابي من دليل صحبهم في تلك الرحلة، ونسج حوله قصصاً متخيَّلة: الثلاث التي تأتي في هذا الكتاب، و «أعرابي في بلودان» المنشورة في كتاب «نور وهداية». قال في كتاب «من نفحات الحرم»: "كنا قد سألنا أمير القريات دليلاً وأقمنا ننتظره حتى جاء، وإذا هو سيد من سادات الشرارات اسمه صْلَبي، ولي في صفته كلام في أول قصة «أعرابي في حمام»، ما زدت فيه على الحقيقة، وإن كنت قد أقمت القصة على الخيال". وانظر أيضاً الحلقة الثالثة والسبعين من الذكريات (3/ 65)، وصف فيها ذلك الدليل ثم قال: "وقد أثمرَت لي صحبته أدباً جديداً حين كتبت قصته «أعرابي في حَمّام» وأختيها، وما جاء في هذه القصص من وصف الأعرابي هو وصف هذا الدليل، وإن قامت هذه القصص على أعمدة من الخيال" (مجاهد).

لسان وشدة بيان، ولولا مكان النبرة البدوية من لسانه لحسبته قد انصرف الساعة من سوق عُكاظ، لبيان لهجته وقوة عارضته وكثرة ما يدور على لسانه من فصيح الكلام. وكان أبِيَّ النفس أشمَّ المعطس كريم الطباع، لكن فيه لوثة وجفاء من جفاء الأعراب. رافقَنا أياماً طويلة، فما شئنا خلة من خلال الخير إلا وجدناها فيه، فكان يواسينا إذا أُصبنا، ويؤثرنا إذا أضقْنا، ويدفع عنا إذا هوجمنا، ويفدينا إذا تألمنا، على شجاعة نادرة ونكتة حاضرة، وخفة روح وسرعة جواب؛ قلنا له مرة: إن «صْلَبَة» في عرب اليوم كباهلة في عرب الأمس، قبيلة لئيمة يأنف الكرام من الانتساب إليها، وأنت -فيما علمنا- سيّد كريم من سادة كرام وليس لك في هذه القبيلة نسب، فما لك تُدعى صْلَبي؟ فضحك وقال: صدقتم والله، ما أنا من صلبة ولا صلبة مني، وإني لكريم العم والخال، ولكن لهذا الاسم نكتة أنا مخبركم بها. قلنا: هات. قال: كان أبواي لا يعيش لهما ولد، فلما وُلدت خَشِيا عليّ الموت فسمّياني صلبي. قلنا: أئن سمّياك «صلبي» عشت؟ قال: إن عزرائيل أكرم من أن يقبض روح صْلبي! وسألناه مرة: هل أنت متزوج يا صْلَبي؟ قال: لقد كنت متزوجاً بِشَرّ امرأة تزوجها رجل، فما زلت

أحسن إليها وتسيء إليّ، حتى ضقت باحتمالها ذرعاً فطلقتها ثلاثاً وثلاثين. قلنا: إنها تَبين منك بثلاث، فعلامَ الثلاثون؟ فقال على الفور: صدقةً مني على الأزواج المساكين! وطال بنا الطريق إلى تبوك وملّ القوم، فجعلوا يسألونه عن تبوك ويكثرون عليه، يتذمرون من بُعدها، حتى إذا أكثروا قال لهم: ما لكم تلومونني على بعدها؟ والله لم أكن أنا الذي وضعها هناك. ولم يكن صْلَبي يعرف المدن ولم يفارق الصحراء قطّ إلا إلى حاضرته تبوك (وتبوك لا تزيد عن خمسين بيتاً) فلما بلغنا مشارف الشام أغريناه بالإبلاد (¬1) ودخول المدينة، وجعلنا نصف له الشام ونشوّقه فيتأبى، وكنت صفيَّه من القوم وخليله ونَجِيَّه، فجعلت أحاوله وأداوره وبذلت في ذلك الجهد، فلم أصنع معه شيئاً لِمَا استقرّ في نفسه من كراهية المدن وإساءة الظن بأهلها، وكان عربياً حراً ومسلماً موحداً، لا يطيق أن يعيش يوماً تحت حكم «الروم» (¬2) أو يرى مرة مظاهر الشرك. فودّعناه وتركناه. * * * ¬

_ (¬1) أبلد: دخل البلد، كأنجد وأبحر وأصحر، ومثلها أصبح وأمسى وأظهر. (¬2) كانت الشام يومئذ في أيدي الفرنسيين (مجاهد).

وعدت إلى دمشق، فانغمست في الحياة وغصت في حمأتها، أكدّ للعيش وأسعى للكسب، فنسيت صلبي وصُحبته وكدت أنسى الصحراء وأيامها، ومرّت على ذلك الشهور. وكان أمس، فإذا بي ألمح في «باب الجابية» وسط الزحمة الهائلة وجهاً أعرفه، فلحقت به أتبيّنه، فإذا هو وجه صلبي، فصحت به: صلبي! قال: لا صْلَبي ولا مْلَبي! قلت: ولِمَ ويحك؟ قال: أنا في طلبك منذ ثلاث ثم لا تأتي إليّ ولا تلقاني؟ فقلت له ضاحكاً: وأي ثلاث وأي أربع؟ أتحسبها تبوك فيها أربعمئة نسمة؟ إنها دمشق يا صلبي، فيها أربعمئة ألف إنسان، فأين تلقاني بين أربعمئة ألف؟ قال: صدقت والله. قلت: هَلُمَّ معي. فاستخرجته من هذه الزحمة الهائلة وملت به إلى قهوة خالية، فجلسنا فيها ودعوت له بالقهوة المرة والشاي، فسُرَّ وانطلق يحدثني. قال: لمّا فارقتكم ورجعت وحيداً أسير بجملي في هذه البادية الواسعة، جعلَتْ نفسي تحدثني أنْ لو أجبتَ القوم ورأيت المدينة. فلما كان رمضان مرّ بنا بعض الحضريين فدعوني إلى صحبتهم لأرشدهم الطريق، ثم أغروني كما أغريتموني وحاوروني كما حاورتموني، حتى غلبوني على أمري ودخلوا بي دمشق، فما راعني والله يا ابن أخي إلا سيارة كبيرة كسيارتكم

هذه، لكنها أهول وأضخم، لها نوافذ وفيها غرف، وقد خطوا لها خطين من حديد فهي تمشي عليهما، فأدخلوني إليها، فخشيت والله وأَبَيت، فأقسموا لي وطمأنوني، فدخلت ويدي على خنجري إن رأيت من أحد ما أكره وجأته به، وعيني على النافذة إن رابني من السيارة أمر قفزت إلى الطريق. وجلست، فما راعنا إلاّ رجل بثياب عجيبة قد انشق إزاره شقاً منكراً ثم التف على فخذيه فبدا كأنما هو بسراويل من غير إزار، وعمد إلى ردائه فصف في صدره مرايا صغيرة من النحاس ما رأيت أعجب منها، فعلمت أنه مجنون، وخفت أن يؤذينا فوضعت كفي على قبضة الخنجر، فابتسم صاحبي، وقال: هو الجابي. قلت: جابي ماذا، جَبَّ الله (...)! قال: اسكت، إنه جابي الترام، أعني هذه السيارة. ثم مدّ يده إليه بقرشين اثنين، أعطاه بهما فُتاتة ورق، فما رأيت والله صفقة أخسر منها، وعجبت من بلاهة هذا الرجل إذ يشتري بقرشين ورقتين لا تنفعان! وجلست لا أنبس، فلم تكن إلاّ هُنَيّة حتى جاء رجل كالأول له هيئة قردية، إلا أنه أجمل ثياباً وأحسن بزّة، فأخذ هذه الأوراق فمزقها! فثارت ثائرتي وقلت: هذا والله الذل، فقبَّحَ الله مَن يقيم على الذل والخَسيفة. وقمت إليه فلببّته وقلت له: يا ابن الصانعة، أتعمد إلى شيء اشتريناه بأموالنا ودفعنا فيه قروشنا فتمزّقه، لأمزّقنّ عمرك. وحسبت صاحبي سيدركه من الغضب لكرامته والدفاع عن حقه مثل ما أدركني، فإذا هو يضحك، ويضحك الناس ويعجبون

من فعلي، لأن عمل هذا الرجل -فيما زعموا- تمزيق أوراق الناس التي اشتروها بأموالهم! ولما نزلنا من هذه الآفة قال لي صاحبي: هلمّ إلى الحمّام. قلت: وما الحمام يا ابن أخي؟ قال: تغتسل وتلقي عنك وعثاء السفر. قلت: إن كان هذا هو الحمام فما لي فيه من مأرب، حسبي هذا النهر أغطس فيه فأغتسل وأتنظف. قال: هيهات! إن الحمام لا يعدله شيء، أوَما سمعت أن الحمام نعيم الدنيا؟ قلت: لا والله ما سمعت. قال: إذن فاسمع ورَهْ (¬1). وأخذني فأدخلي داراً قَوْراء (¬2) في وسطها بركة عليها نوافير يتدفق منها الماء، فيذهب صُعُداً كأنه عمود من البلَّور ثم يتثنى ويتكسر ويهبط كأنه الألماس، له بريق يخطف الأبصار، صنعة ما حسبت أن يكون مثلها إلا في الجنان، وعلى أطراف الدار دكك ¬

_ (¬1) «رَ» فعل الأمر من رأى، والهاء للسَّكْت، يُؤتَى بها في الوقف على الفعل المعتلّ بحذف آخره، وهي عند النحاة جائزة إذا كان الفعل على أكثر من حرف، كما في قوله تعالى: {فبُهُداهُمُ اقْتَدِهْ}، وواجبة إذا كان على حرف واحد كما هو هنا (مجاهد). (¬2) الدار القوراء هي الواسعة، ومثلها البيت الاقَور (مجاهد).

كثيرة مفروشة بالأسرّة والمُتَّكآت والزرابيّ كأنها خباء الأمير، فلم نكد نتوسطها حتى وثب إلينا أهلوها وثبة رجل واحد يصيحون علينا صياحاً غريباً، فأدركت أنها مَكيدة مدبَّرة وأنهم يريدون اغتيالي، فانتضيت خنجري وقلت: والله لا يدنو مني أحد إلا قطعت رقبته، فأحجموا وعجبوا ورَعَبوا، وغضب صاحبي وظنني أمزح ومال عليّ يعاتبني عتاباً شديداً. فقلت له: ويحك! أوَما تراهم قد أحاطوا بنا؟ قال: إنهم يرحبون بنا ويسلمون علينا. فسكتُّ ودخلت. وعادوا إلى حركتهم يضحكون من هذا المزاح ويدورون حولنا بقباقيبهم العالية، ويجيئون ويذهبون وأنا لا أدري ما هم صانعون، حتى قادونا إلى دكّة من هذه الدِّكَك وجاؤوا ينزعون ثيابنا، فتحققت أنها المكيدة وأنهم سيسلبونني خنجري حتى يهون عليهم قتلي، فقد عجزوا أن يقاتلوني وبيدي الخنجر، فأبيت وهممت بالخروج، ولكن صاحبي ألحَّ عليّ وأقسم لي، فأجبت واستسلمت، وإنّ روحي لتزهق حزناً على أني ذللت هذا الذل حتى أسلمتهم سَلَبي يسلبونني وأنا حيّ، ولو كنت في البادية لأريتهم كيف يكون القتال. حتى إذا تمّ أمر الله ولم يبقَ عليّ شيء قلت: أما من مسلم؟ أما من عربي؟ أتكشف العورات في هذا البلد فلا يغار أحد ولا يغضب إنسان؟ فهدّأ صاحبي من ثورتي وقال: أفتغتسل وأنت متّزر؟ قلت: فكيف أتكشف بعد هذه الشيبة، وتذهب عني في

العرب فتكون فضيحتي إلى الأبد؟ قال: من أنبأك أنك ستتكشف؟ هلاّ انتظرت؟ فانتظرت وسكت، فإذا غلام من أغلمة الحمام يأخذ بيده إزاراً فيحجبني به حتى أنزع عني إزاري وأتّزر به، فحمدت الله على النجاة. وكان صاحبي قد تعرّى، فأخذ بيدي وأدخلني إلى باطن الحمام، فإذا غرف وسطها غرف، وساحات تفضي إلى ساحات، ومداخل ومخارج ملتفّة ملتوية يضلّ فيها الخرّيت، وهي مظلمة كأنها قبر، قد انعقدت فوقها قباب وعقود، فيها قوارير من زجاج تضيء كأنها النجوم اللوامع في السماء الداجية، وفي باطن الحمام أناس عري جالسون إلى قدور من الصخور فيها ماء، فتعوذت بالله من الشيطان الرجيم وقلت: هذه والله دار الشياطين! وجعلت ألتمس آية الكرسي فلا أذكر منها شيئاً، فأيقنت أنها ستركبني الشياطين لِمَا نسيت من آية الكرسي. وجعلت أبكي على شيبتي أن يُختم لها هذه الخاتمة السيئة! وإني لكذلك، وإذا بالخبيث يعود إليّ يريد أن ينزع هذا الإزار الذي كسانيه، فصحت به: يا رجل، اتّقِ الله، سلبتني ثيابي وسلاحي وعدت تجرّدني وتعريني؟ الرحمة يا مسلمون! الشفقة أيها الناس! فوثب إليّ الناس وأحدقوا بي وجعلوا يضحكون، فقال صاحبي: ما هذا يا صْلَبي؟ لا تُضحك الناس علينا، أعطه الإزار. قلت: وأبقى عرياناً؟ قال: لا، ستأخذ غيره، هذا كساء يفسد إذا مسّه الماء، وإن للماء كساء آخر.

ونظرت فإذا عليه هيئة الناصح، وإذا هو يدفع إليّ إزاراً آخر، فاستبدلته به مكرهاً. وتبعت صاحبي إلى مقصورة من هذه المقاصير، فجلسنا إلى قدر من هذه القدور وأنا أستجير بالله لا أدري ماذا يجري عليّ، فبينما أنا كذلك وإذا برجل عارٍ كأنه قفص عظام، له لحية كثة وشكل مخيف، وقد تأبط ليفاً غليظاً، يا شرَّ ما تأبط! وحمل ماعوناً كبيراً يفور فَوَراناً، فاسترجعت وعلمت أنه السمّ وأنه سيتناثر منه لحمي، فقصد إليّ، فجعلت أفرّ منه وأتوثب من جانب إلى جانب، وهو يلحقني ويعجب من فعلي ويظن أني أداعبه، وصاحبي يضحك ويقسم لي إنه الصابون وإنه لا ينظف شيء مثله. قلت: ألا شيء من سدر؟ ألا قليل من أُشنان؟ قال: والله ما أغشك، فجرب هذا، إنه خير منه. فاستجبت واستكنت. وأقبل الرجل يدلكني دلكاً شديداً وأنا أنظر: هل تساقط لحمي؟ هل تناثر جلدي؟ فلا أجد إلا خيراً، فأزمعت شكره لولا أني وجدته يتغفّلني فيمد يده من تحت الإزار إلى فخذي فيدلكه ويقرصه، فقلت: هذا ماجن خبيث، ولو ترك من شرّه أحداً لتركني ولصرَفَته عني شيبتي. وهممت بهشم أنفه وهتم أسنانه، ولحظ ذلك صاحبي فهمس في أُذني: إنه ينظفك، وكذلك يصنع مع الناس كلهم. فلما انتهى وصب عليّ الماء شعرت والله كأنما نشطت من عقال، وأحسست الزهو والخفة، فصحت فأنكرت صوتي وقلت: ما هذا؟ أينطق على لساني مُغَنٍّ من الجنّ؟ وأعدت

الصيحة فازددت لصوتي إنكاراً، واستخفّني الطرب، فجعلت أغني وأحدو، فقال صاحبي: لعلك استطبت صوتك؟ قلت: إي والله. قال: أفأدلّك على باب القاضي؟ قلت: وما أصنع في باب القاضي؟ قال: ألا تعرف قصة جحا؟ قلت: لا والله، ما أعرف جحا ولا قصته. قال: كان جحا عالماً نحريراً وأستاذاً كبيراً، لكن كان فيه فَضْلُ نادرة وكان خفيف الروح، فدخل الحمام مرة فغنى فأعجبه صوته (وكان أقبحَ رجلٍ صوتاً) وراقه حُسْنُه، فخرج من فوره إلى القاضي فسأله أن ينصبه مؤذناً، وزعم أن له صوتاً لا يدخل أُذناً إلا حمل صاحبها حملاً فوضعه في المسجد. فقال القاضي: اصعد المنارة فأذِّن نسمعْ. فلما صعد فأذَّن لم يبقَ في المسجد رجل إلا فرَّ هارباً. فقال له القاضي: أي صوت هذا؟ هذا هو الصوت الذي ذكره ربنا في الكتاب! (¬1) قال: أصلح الله القاضي، ما يمنعك أن تبني لي فوق المئذنة حمّاماً؟! ولمح الأعرابي صديقاً له من أعراب نجد قد مرّ من أمام القهوة، فقطع عليّ الحديث وخرج مهرولاً يلحق به. * * * ¬

_ (¬1) في قوله تبارك وتعالى: {إنّ أنكَرَ الأصْوَات ...} (مجاهد).

أعرابي في سينما

أعرابي في سينما نشرت سنة 1940 وطالت غيبة صْلَبي، فنسيته وطرحت همه عن عاتقي، وعدت أدور مع الحياة كما تدور السانية، مغمض العينين، أطوف في مَفْحَص قطاة، فلا غايةً أبلغ ولا راحةً أجد، أغدو إلى كدّ العقل وعذاب النّفْس وجفاف الريق وانقطاع النّفَس، وأروح وما بقي فيّ بقية لعمل ولا طاقة على كتابة، فألقي بنفسي على كرسي أو سرير أنتظر عذاب اليوم الجديد. وإني لَغَادٍ إلى المدرسة ذات يوم، وإذا أنا بأعرابي في شملته يشير إليّ وهو يسير بين تلك المواخير: تريانون وليدو ولوازيس، حائراً يتلفت. فقلت: لعله ضالٌّ أحب أن يستهديني، ووقفت له، فلما دنا وتبيّنته لم أملك من الفرح فمي، فصحت في السوق وسط الناس! وما لي لا أصيح وقد وجدت صلبي بعد طول الغياب؟ وحييته وحياني تحية ذاكر للصحبة حافظ للود، وطفق يحدثني حديثه. قال: أتذكر يا شيخ ما ابتلاني به الله من أمر الحمام؟ لقد وقعت في داهية أدهى، ولقد والله كرهت الحضر وعفت المدن

وأصبحت أخشى فيها على نفسي، فما أدري ماذا سيكون من أمري بعد الذي كان. قدمت الشام قَدْمَة أخرى، فكان أول ما صنعت أن قصدت صاحبي، وكنت قد عرفت داره في «الميدان»، فأكرمني وأحسن استقبالي أحسن الله إليه، وذبح لي خروفاً، ولم يكتفِ بذلك من إكرامي بل أزمع أن يأخذني إلى سنمة. قلت: ولكني لا أعرف سنمة هذا ولا أدري من هو، فيكف تأخذني إليه؟ قال: لا بد من ذلك. فاستحييت منه وكرهت أن أخالفه بعد الذي صنع في إكرامي، وقلت في نفسي: لولا أن سنمة هذا صديق له عزيز عليه ما سار بي إليه، ولقد قال المشايخ من قبيلتنا: «صديق صديقك صديقك». فرضيت وقلت له: على اسم الله. ولكن الرجل لم يَسِرْ، بل أدركه لؤم الحضر فصاح بابنه أن هات الجرائد حتى نرى الرواية، فتوجّست خيفة الشر، وقلت: إن الرجل قد جُنَّ، وإلا فما بال الجرائد؟ وهل تراه يضربني بها؟ إذن والله لأريته عزّ الرجال ولضربته ضرباً يبلغ مستقر اللؤم في نفسه. وخشيت أن أتريّث أو أتلوّم فأخيب وأفشل، وذكرت حكمة حَمَد بن عْلَوي: «الغلبة لمن بدأ»، فشدّ ذلك من عزمي وصرخت: "يا هُو ... " ووثبت وثبة أطبقت بها على عنقه، وقلت: سترى لمن الجرائد والسياط، ألابن المدينة الخَوّار الفَرّار أم لابن البَرّ الحُرّ؟ فارتاع -وأبيك- وجعل يصيح من جنبه: أدركوني، أنقذوني! النجدة، العون! يا فلان (لابنه) أقبل. ويلك يا صلبي، يا مجنون، كُفَّ عني. ويلك، ماذا اعتراك؟

فأخذتني به رأفة، فكففت عنه وقعدت محاذراً أرقب أهل المنزل وقد اجتمعوا ينظرون إليّ بعيون مَن يهمّ بِفَرْي جلدي، فقال لي: ما أردت بهذا ويلك؟ وبمَ أسأت إليك حتى أستحقق منك هذا الصنيع؟ قلت: بالجرائد؟ أمثلي يُضرَب بالجرائد لا أمَّ لك؟ فضحك والله وجعل يكركر حتى لقد شبهت بطنه بقربة جوفاء أدخلتها الماء، وضحك كل من كان حاضراً من أهله وبنيه ضحكاً ما شككت معه أن القوم قد أصابهم طائف من الجن، فقلت: قبّحكم الله من قوم، وقبّحني إذ أنزل بمثلكم! وهممت بالانصراف، فصاح بي وعزم عليّ إلا ما رجعت، فبَرَرت بيمينه وقفلت راجعاً، فقال لي: وأنت حسبت الجرائد مما يُضرَب به؟ ألم تبصر جريدة قط؟ قلت: ويحك، فكيف إذن؟ أنا من بلاد النخيل، تبوك حاضرتي. قال: وتحسبها جرائد نخيل؟ قلت: إذن فجرائد ماذا؟ قال: خذ، هذه هي الجرائد. وألقى إليّ صحفاً سوداً بها من دقيق الكلم مثل دبيب النمل، فعجبت منها وسألته أن يقرأ عليّ ما فيها فأستفيد علماً ينفعني في آخرتي، فإن الرجل لا يزال عالماً ما طلب العلم فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل، ولقد سمعت أنه جاء في الأثر: «كن

عالماً أو متعلماً أو مستمعاً، ولا تكن الرابعة فتهلك». فضحك وقال: هل تظنها كتب علم؟ قلت: فماذا فيها مما ينفع الناس؟ قال: فيها أخبار البشر؛ مَن سافر منهم أو حضر، أو تزوج أو وُلد له ولد، فما يصنع أحدٌ من شيء إلا دُوِّن فيها، ولا ينبغ من عالم أو أديب أو يَقْدم مُغَنٍّ أو تجيء قَيْنة أو تأمر الحكومة أو تنهى إلا ذُكر ذلك فيها، حتى إنّ فيها صفة الخمر والإعلان عن الميسر، وأخبار دور الدعارة والدعوة إلى الروايات الخليعة! فلما سمعت ذلك طار عقلي، وأخذت هذه الجرائد فمزقتها شرّ ممزَّق، وعلمت أن الله مهلكٌ هذه القرية، وعزمت على مفارقتها ونويت ألاّ أعود إليها بعد الذي سمعت من خبر جرائدها، وما ظننت أن مثل ذلك يكون. ولم يجتزئ صاحبي بما أعلمني من علمها حتى وصف لي أخرى تكون في أيدي الصبيان والبنات، فيها صور قوم عراة تبدو عوراتهم ونساء ما يسترهن من شيء إلا شيء ليس بساتر! قلت: فهل يرضى الحضري بها؟ قال: نعم. فسقط والله من عيني وقلت: هذا القَرْنان الذي لا تأخذه على أهله غَيْرة، وما كنت أحسب أن رجلاً يؤمن بالله واليوم الآخر يفعل ذلك. * * * ولست مطيلاً عليك الحديث. وذهبنا نزور سنمة، فسرنا حتى بلغنا قصراً عظيماً على بابه خلق كثير، وله دهليز تسطع فيه الأضواء، فقلت: هذا قصر

أمير البلد، هذا الذي يدعونه رئيس الجماهير. وألهاني ما رأيت وشغلني ففقدت صاحبي وسط الزحمة، ولكني لم أُبال، وأقبلت أصعد الدرج، فمنعني أغلمة بثياب ضيقة حُمر ما رأيت مثلها، وعلى رؤوسهم كُمَمٌ لها رواق من فوق عيونهم كالذي يوضع على عينَي بغل العجلة، وأفخاذهم مكشوفة فعلَ أهل الفسوق والتهتك. فهممت أن آخذ ثلاثة منهم فأكركبهم على الدّرَج فأزحلق مِعَدَهم عن مواضعها، ثم قلت: ترفَّقْ يا صلبي لا تجنّ، فما أنت في البادية، أنت في قصر الأمير وهؤلاء مماليكه، وإنك إن مسستهم لم تجد أمامك إلا ضرب العنق. ووضعت يدي على عنقي أتحسسها فعلمت أني لا أزال أحتاج إليها. ولو أنني في السوق أبتاع مثلها ... -وجَدِّكَ- ما باليت أن أتقدّما وسألت الغلمان الكاشفي الأفخاذ ماذا يريدون مني أن أصنع، فأشاروا إلى كوّة ازدحم عليها الناس، فعلمت أن الدخول من هناك، وأقبلت أزاحم وأدافع وهم يردّونني حتى بلغت الكوّة، فإذا هي غرفة ضيقة كأنها القفص، وإذا فيها رجل محبوس والناس يتصدقون عليه، فقلت في نفسي: هذا رجل ضرب مماليكَ الأمير فحبسه هنا لتُضرَب عنقه في غداة الغد، وحمدت الله على السلامة، وتوجهت بوجهي إلى رجل توسمته أسأله: متى تضرب عنق السجين؟ فنظر إليّ ولم يُجِبْ، ثم ولاّني قفاه وانصرف، فعلمت أن الأمير يمنع الناس من الكلام في هذا، ولولا ذلك لأجابني. ودنوت من كوّة السجين فأعطيته قروشاً كانت معي وقلت له:

هذه لأولادك من بعدك، لهم الله فلا تحزن. فلم يقبضها حتى عدّها فرآها كثيرة، فرَدَّ إليّ بعضها وقبل بعضاً، فلم أُلحِفْ عليه وأخذتها منه، وأخذت معها ورقة صفراء أعطانيها لم أدرِ ما هي، ولكنني لم أشأ كسر قلبه بردّها، ووضعت ذلك كله في كمّي وعمدت إلى الكوة لأدخل منها فوجدتها عالية، فوثبت فأصبت بقدمي وجه رجل ممن كان هناك، فما باليته وقلت: سأعتذر إليه. فقد رأيت أهل المدن يؤذون إيذاء العدو ثم يعتذرون اعتذار الصديق! وأدخلت رأسي في الكوة، فصاح السجين صياحاً أرعبني والله، شبّهته بصراخ كلب ديس على ذنبه، وأجلب الناس فطفقوا يشدون برجلي وثيابي، وأنا أرفس بقدمي رفساً لا أبالي موقعه من أجساد الناس، والسجين اللئيم الذي أحسنت إليه يدفع برأسي ويشد بشعري، ولم يكن عضو من أعضائي إلا وهو مشغول، فيداي أتمسك بهما، ورجلاي أذود بهما عن نفسي، ولم أجد ما أدفع به أذاه عني إلا أن بصقت في وجهه، فأقبل يضربني فعضضت يده، ثم دنوت من وجهه فعضضت أنفه، وكان أنفاً ذليلاً لا يزال خبث طعمه على لساني. ثم أخرجوني قسراً وجبراً، وجاء مماليك السلطان فحجزوا بيني وبينهم، وأخذوا الورقة الصفراء، وأدخلوني من باب كان هناك إلى بهو واسع صَحَّ معه ما كنت قدرت من أن سنمة هذا سلطان البلد. ورأيت الناس قد صفّوا كراسيّهم كصف الصلاة، وإذا بعضهم يولي بعضاً دبره، فقلت: ما ألأمَ أهلَ المدن! والله ما كنت مولياً مسلماً ظهري إلا في الصلاة، وعمدت إلى الكرسي لأديره، فإذا هو مثبت بمسامير من حديد، فتركته واستدرت أنا

فجلست على قفاه، وجعلوا يضحكون مني فما ألقي لهم بالاً، حتى جاءت امرأة فجلست قبالتي، فقلت: يا أمَةَ الله استتري، فأقبلوا يَزْبُرونني، وإذا هي -فيما قالوا- شاب وليس امرأة! فجعلت أعجب. ولبثت أنتظر خروج السلطان، فإذا بالمماليك يديرونني فيجلسونني من حيث يجلس الناس، فلم أملك إلا الطاعة. وقعدت أنتظر، فلم أنشب أن جاء مملوك آخر فقدم إليّ صَفْحة من خشب قد صفّ عليها فَرَانيّ وشطائر (¬1) وقال: تريد؟ قلت أريد والله، وهل يأبى الكرامة إلا اللئيم؟ وأقبلت آكل فأجد طعاماً هشّاً تحت الأسنان حلواً في الحلق خفيفاً على البطن، فقلت: هذه هي البقلاوة التي وصفوها لنا. فمسحت شفتي بيدي وقلت: الحمد لله، جزاك الله خيراً. فظل واقفاً ولم يمضِ، فقلت: الحمد لله، لقد شبعت. قال: يَدَك على الفلوس؟ قلت: ويحك، ماذا تريد؟ قال: أكلت ثلاثين قطعة كل قطعة منها بسبعة قروش، فهذه مئتان وعشرة. قلت: قبّحك الله من عبد لئيم! تأخذ من ضيوف السلطان ثمن القِرى؟ ¬

_ (¬1) الفُرْنية الكاتو، وجمعها فَراني، والشطيرة والشطائر هي الساندوتش.

وكان ما أكلت قد شَدَّ ظهري، فوثبت إليه ووثب إليّ، وقام الناس، وزُلزل البهو بأهله، وكادوا والله يطردونني لولا أن ظهر صاحبي، فانفرد بالمملوك فأرضاه عني وجاء فقعد معي. وإنّا لكذلك يا شيخ، وإذا بالأنوار تنطفئ، وإذا بالخيل تهجم علينا مسرعة حتى كادت والله تخالطنا. فقلت: لك الويل يا صْلَبي، ثكلتك أمك، إنه الغزو فما قعودك؟ وقفزت قفزاتي في البادية، وصرخت وهجمت أدوس على أجساد الناس وهم يضجُّون ويصخبون، فلما كدت أبلغ الخيل اشتعلت الأنوار وفرّ العدوّ من خوف بطشي هارباً، وجاء عبيد السلطان ليخرجوني فردّهم عني صاحبي وكلمهم. فقلت: هذا والله العجز والذل، فقبح الله من يقيم عليهما! ترون العدوّ قد خالطكم وتلبثون قعوداً؟ ما أكرَهَكم إليّ يا أهل المدن، ما ظننت والله إلا أنكم ستحملون إليّ صلة السلطان على أن رددت عدوَّكم وهزمته. فضحك اللئام، وجعل صاحبي يحذرني العودة إلى مثلها. ولم ألبث حتى أُطفئت الأنوار كَرّةً أخرى، ففزعت ونظرت، فما أحسست إلا امرأة قد قبض عليها رجل خبيث يحاول أن ينال منها على مرأى منا ومسمع، وهي تستغيث وأنا أسمع صياحها ولا من مغيث. فثارت الحمية في رأسي، وسللت الخنجر وأقبلت أريده، فاختفى والله حتى كأنْ لم يكن هناك من أحد، وعادت الأضواء ورجع الصخب، فقلت: والله ما أقيم. وجعلت أصيح: أخرجوني، ويلكم أخرجوني! * * *

قال صْلَبي: فخرجت وقد علمت أن جرائدكم -يا أهل المدن- تنشر الفجور وتهتك ستر الله عن الناس وتفضحهم، وأن شبابكم بنات، وأن أمراءكم سَحَرة يسحرون أعين الناس حتى يُروهم ما لا يُرى، ثم إنكم لا تغارون على أعراضكم ولا تبالون كشف عورات أبنائكم وبناتكم ... لا والله ما أحبكم. وذهب مولياً عني مسرعاً يمشي بين تلك المواخير القذرة: ترياتون وليدو وأوليمبيا، تلقاء سوق الحميدية والأموي حيث المدينة الطاهرة الفاضلة، حيث دمشق التي سمّاها شوقي «ظئر الإسلام». * * *

الأعرابي والشعر

الأعرابي والشّعر نشرت سنة 1939 أتاني منذ يومين صْلَبي، فقال لي: هل أنت من المَعْنيين بالشعر والأدب؟ قلت: نعم، فماذا عندك؟ قال: نعمة ساقها الله إليك، إن أنت أضعتها يوشك ألاّ تلقى مثلها يَدَ الدّهر (¬1). قلت: فاذكر لي ما هي، فإني أرجو ألاّ أضيعها. قال: أتعرف «السّوالِم»؟ قلت: نعم؛ جمع تكسير. قال: لا والله ما هم بجمع تكسير، إنهم أكرم من ذلك، هم والله جمع مبارك. قلت: إنما أردت الكلمة. قال: كلمة ماذا؟ إنها قبيلة كانت متوارية في رملة من رمال ¬

_ (¬1) يدَ الدهر وأبَدَ الدهر، بمعنى واحد (مجاهد).

«عالج» لا يدري بها أحد ولم يكشفها إلا حكم الإمام عبد العزيز أطال الله عمره، فعرفها العرب وعرفوا فيها العربية المبرَّأة من العجمة، والبلاغة التي ما وراءها بلاغة، والنبرة الصافية التي إن سمعتها فإنما سمعت كلام سَحْبان أو خالد بن صفوان (¬1). قلت: ولكن ما أبعدك يا رملة عالج! قال: بل ما أدناك يا شارع الحلبوني! ألا تعرف دار الباشا؟ قلت: القنصلية السعودية؟ قال: بارك الله فيك، إن شيخ السوالم نازل فيها، وقد هبط دمشق ليلة أمس، وهو أول «سالمي» يهبطها بعد إذ فارقتها قبيلته. قلت: متى فارقوها؟ قال: صبيحةَ الفتنة التي قُتل فيها الوليد بن يزيد، الملك المظلوم الذي عبث خصومه بتاريخه، فقوّلوه ما لم يقل ونسبوا ¬

_ (¬1) ليس لهذا أصل في عالم الواقع، إنما هو أمر ابتكره خيال المؤلف، لكن الجِدّ الذي أضفاه على روايته هنا حملت بعضَ قارئيه على توهّم صحته، حتى إن أحدهم اعتمد عليه ذات يوم في بحث علمي رصين. قال في الذكريات: "كتبت مرّة قصصاً متخيَّلة عن أعرابي صَحِبَنا في رحلة الحجاز، منها «الأعرابي والشعر» التي قلت فيها إن قبيلة اسمها «السّوالم» لا تزال تنطق الفصحى لم يدخل ألسنتَها اللحن ولا بلغتها العُجمة. وكان ذلك خيالاً منّي، فأخذ ذلك الأستاذُ وحيد جباوي فوضعه في بحث له عن الفصحى وعن اللحن ونشر خلاصة منه في مجلّة مجمع اللغة العربية! " (انظر الذكريات: 3/ 399) (مجاهد).

إليه ما لم يفعل، وروى هذا العبثَ مؤرخون هواهم عليه وميلهم مع أعدائه، وأدباء محاضرون لا يبالون ما يروون (كصاحب «الأغاني»، والأغاني من الكتب التي أفسدت الدين والخلق، وإن صانت الأدب والشعر والأخبار) (¬1). قلت: إنك لتذكر تاريخاً قديماً. قال: هو ما قلت لك، غير أن الشيخ لا يحب أن يلقى أحداً، وقد حذّروه قوماً يُقال لهم «أهل الصحف» يفضحون الناس: ينشرون من أسرارهم ما يطوون ويعلنون من أخبارهم ما يُسِرّون ليُسَلُّوا بذلك من يشتري منهم هذه الصحائف. فاحْتَلْ للقائه بحيلة. ¬

_ (¬1) ربما كانت للوليد مآثر، فقد سار في الناس سيرة حسنة وزاد في أعطياتهم، لكنه كان في ذاته فاسداً متهتكاً مسرفاً في متابعة شهواته، ولو لم يكن كذلك لما حث الزُّهْريُّ عمَّه هشاماً على خلعه من ولاية العهد، والزهري هو مَن هو في علمه وورعه. ولمّا ترجم له السيوطي في تاريخ الخلفاء قال: "الوليد بن يزيد بن عبد الملك، الخليفة الفاسق"! ولعل كلمة الحافظ الذهبي فيه هي القول الفصل، قال: "لم يصحَّ عن الوليد كفر ولا زندقة، بل اشتهر بالخمر والفسق فخرجوا عليه لذلك". ثم إن الوليد كان طائشاً جاهلاً في سياسة المُلْك، فاستطاع أن يستعدي عليه كل الأطراف، بما فيها أبناء البيت الأموي أنفسهم حيث نكل بأبناء عمَّيه هشام والوليد. وبالجملة فأنا أظن أنه خرّبَ في الأشهر الستة التي ملك فيها أكثرَ ما بناه في عشرين سنةً عمُّه، الخليفة الحازم هشام بن عبد الملك، وأنه كان من أسباب (أو من مُسَرِّعات) زوال البيت الأموي الذي لم يعش بعده إلا خمس سنين (مجاهد).

ولقيت الشيخ فإذا هو فوق ما وُصف لنا، وإذا لسان مبين ولغة معربة وحديث، كأنك تقرأ في «البيان والتبيين» أو في «عيون الأخبار». ولقد خضنا معه كل بحر وعرجنا على كل منزل، فسألته عن الشعر واستطلعت رأيه في جديده، وسأله بعضُ من حضر عن مسائل من اللغة والنحو وعرض عليه أشياء من تمحّلات النحاة وغلاظاتهم، فأجاب بأسَدّ جواب وأحكمه، فما كان أعجبَ من سؤال السائل إلا جوابه هو، وما تقول فيهما إلا الأصمعي يشافه بُلَغاءَ الأعراب من أهل زمانه. وإني أروي هنا طرفاً من حديثه في الشعر بكلامي أنا لا ببيانه هو، فما استطعت حفظ ما قال بحروفه. * * * قلت له: كيف أنت والشعر؟ قال: أما ما قالت العرب فإني أرويه كله لا أخْرِم منه شيئاً، وأما ما قال المُحْدَثون بعدَ إذ فشا اللحن في الأمصار وعمَّت -فيما بلغنا- العُجْمَةُ فلا أعرفه ولا أرضى لنفسي روايته، لأن أصحابه أفسدوا على العرب ديوانهم وجاؤوهم بما ينكرون من القول. قلت: ولكنك رجل عادل حصيف، أفلا تسمع قول هؤلاء المحدثين قبل أن تحكم عليهم؟ قال: بلى والله، إني سامع فأنشدني. فنظرت، فكأنّ الله محا الشعر كله من قلبي إلا أبياتاً لأبي تمام في وصف الربيع نُرَوّيها التلاميذَ، فأنشدته إياها وفي ظني أنه

لا يرضى عنها لأنها ليست مما ألف، ولو أنشدته لغير أبي تمام أو أنشدته لأبي تمام غيرَها لكان ذلك أدنى إلى رضاه، ولكنْ ماذا أصنع وقد نسيت كل ما جاوزها من الشعر؟ قلت: مطرٌ يذوبُ الصَّحْوُ منه وبعدَه ... صحوٌ يكاد من الغَضارة يُمطِرُ غَيْثانِ؛ فالأنواءُ غيثٌ ظاهر ... لك وجهُهُ والصَّحْوُ غيثٌ مُضْمَرُ فرأيته قد طَرِبَ لها طرباً لم يُخْفِه وتمايل وصفق يداً بيد من الإعجاب، فقلت وقد قَوِيَت نفسي: كيف سمعت؟ قال لقد أحسن وجاء بما لم يسبقه إليه سابق، وما أحسبه يلحقه فيه فيدرك شأوَه لاحق. لقد عرف الناس ثلجاً يذوب، فأذاب لهم الصحو حتى سال ماءً، ثم عاد فجعل الصحو من طراوته كأنه يمطر، فلم يخلِّهم في المطر من صحو ولا في الصحو من مطر. ثم أصَّلَ وفرَّعَ، فجعل من الغيث ظاهراً ومُضمَراً، وما يكون مضمَر إلا وثمّةَ ضمير، ولا ضمير إلا في حيّ، أفلا تراه قد أسبغ الحياة على الجماد؟ قلت: هذا مذهب في الشعر يعرفه أهل زماننا ويحسبون أنهم ابتكروه، يعطيك صورة جميلة ولكنها ليست بَيِّنَة الحدود ولا واضحة المعالم، فأنت تستمتع فيها بكشف المجهول (وهو -?لَعَمري- أصل الآداب وأقوى الغرائز)، ثم تملأ فراغها بعواطفك وتجعل حدودها من أفكارك، فتكون كأنك صغتها لنفسك وتفهم منها ما لا يفهم سواك

قال: هذا شيء ما أعرفه ولكني لا أعيبه، ولقد طربت لما سمعت. قلت: أفلا أُسمعك من شعر أهل زماننا؟ قال متعجباً: وإن لأهل زمانكم لَشعراً؟ قلت: ولِمَ لا يكون؟ اسمع مقطوعة من حديث الشعر لشاعر اسمه فياض، قالها على لسان المتنبي أكبر شعراء العرب كأنه يعلّمه بها كيف يكون القول. قال: هذا لعمري النبوغ، فماذا قال؟ قلت: قال: جسدي النازل من شهوته ... سُلَّمَ العار وروحي السامية يا لَعُمرٍ مَشَيا فيه معاً ... ... ... ... ... ... ... ... ... فوثب كمن داس على جمرة أو لسعته عقرب، فأمسك بفمي، فسكتُّ فزعاً وقلت: ما لك؟ قال: ما هذا؟ قلت: شعر جديد. قال: أعوذ بالله، "جسدي النازل من شهوته"؟ وهل كانت شهوته جبلاً عالي الذرى أو قصراً شامخ الدعائم حتى ينزل منها؟ وإلى أين ينزل؟ وهل بعد الشهوة من منحدر أو دونها منزل؟ وسلّم العار هذا: هل هو جسده؟ فيكف صار سُلَّماً؟ قلت: لعله أراد أن جسده ينزل على سلّم العار، أي ينحط

في درك العار بسبب شهوته التي ركبت فيه، فما استقام له طريق القول. قال: برئتُ من العربية إن كان هذا يُفهَم من كلامه. إننا نعرف "ينزل فلان" إذا كان عالياً وهبط، و"ينزل البلدَ" إذا سكنه، و"ينزل بالقوم وعليهم" إذا حَلَّ فيهم، و"ينزل من الجبل" إذا كان قد صعد فيه، و"ينزل إلى الوادي" و"ينزل على الدرج" ... ولا نعرف "نزل السلّمَ" إلا إذا أقام فيه كما يقيم المرء في المدينة! ثم إن السلم يصعد عليه من يكون على الأرض، فأين كان هذا حتى نزل على السلم؟ هل ولدته أمه على المنارة فنشأ فيها، ثم بدا له فنُصب له «سلّم العار» لينزل عليه؟ قلت: أوَلا تسمع سائر المقطوعة؟ قال: لا والله. قلت: ولكنه ألقاها على ملأ من الأدباء والشعراء في سوق من أسواق الأدب في دمشق، كان أقامها أديبٌ من أدباء تَنوخ اسمه عز الدين بن علم الدين، فسمعوها وارتضوها وما رأينا فيهم من أنكرها عليه، ولكن أبا قيس لم يرضَها. قال الشيخ: ومن أبو قيس؟ قلت: هو التنوخي الذي حدثتك عنه، وهذه كلها أسماؤه، وله غيرها (¬1). ¬

_ (¬1) "الأديب الشاعر الراوية عزّ الدين (علم الدين) التنوخي"، هكذا وصفه في «الذكريات»، وله فيها أخبار متفرقة كثيرة (مجاهد).

قال: ما أكثرَ ما له من أسماء! قلت: وما أكثر ما له من فضائل وحسنات، وكثرة الأسماء دليل على شرف المسمّى. قال: هذا صحيح. قلت: أتحب أن أقرأ لك من شعر شوقي؟ قال: أسمع اسماً منكراً. قلت: نعم، ولكن له شعراً معروفاً. إنه يقول في الأزهر: قُمْ في فَمِ الدّنيا وحيِّ الأزهرا ... وانثُرْ على سَمعِ الزّمانِ الجَوْهرا واخشَعْ مليّاً واقضِ حقَّ أئمّةٍ ... طلعوا به زُهْراً وماجوا أَبْحُرا كانوا أجَلَّ من الملوك جَلالَةً ... وأعزَّ سلطاناً وأفخمَ مظهرا فاستوى جالساً وقال: لا جرم أنه شعر معروف، هذا هو الشعر. لقد أنطق أعظمَ ناطق وهو الدنيا، وأسمع أجلَّ سامع وهو الزمان، وجعل مدح الأزهر جوهراً، وهذا -لَعَمرُ الحق- أكبر مما صنع امرؤ القيس حين وقف واستوقف وبكى واستبكى. ثم وصف أئمته بخير ما يوصَف به علماء، سُمُوٌّ كالنجم ونورٌ كالنجم وهدي كهدي النجم، وعِلْم كالبحر، وهم بكثرتهم كماء البحر ... ولو شئتُ لكشفت عن خمسين معنى مستتراً وراء قوله: "طلعوا به زُهْراً وماجوا أبحراً" ... زدني من قوله.

فمضيت في القصيدة حتى بلغت قوله: "يا معهداً أفنى القرونَ جدارُه" ... فترنّح طرباً، وأعجبته صورة هذا الجدار وهو قائم في وجه القرون، ترتدّ عنه كليلةً عاجزة ثم تفنى وتضيع، كما ترتد الأمواج عن الصخرة ثم تذهب وتضمحلّ، والصخرة راسية ما ذهبت ولا اضمحلّت. واستزادني من شعره فأنشدته قولَه وهو لم يبلغ العشرين: صوني جمالَك عنّا إننا بشرٌ ... من التراب، وهذا الحُسْنُ روحاني أو فابتغي فَلَكاً تأوينه مَلَكاً ... لم يتخذ شَرَكاً للعالَم الفاني فهزَّه الطرب هزاً وقال: إن الشعراء يقولون، ولكنْ مثلَ هذا ما يقولون. إنهم وصفوا حسن المرأة وجمالها، ولكن لم يستطيعوا أن يرفعوها فوق الناس وأن يجعلوها من طينة غير طينتهم، وأن يبرِّئوها من مادة التراب حتى تخلص لصفاء الروح، ثم يجعلوها مَلَكاً يسكن السماء! إني لأعجب لكم؛ عندكم هذا الشاعر ولا تفاخرون به شعراء الأرض؟ * * * ثم قرأت عليه من شعر حافظ، فأعجبه ولكنه قال: هذا من عيار وذاك من عيار، ولست أسوّي بينهما. إن الأول عبقري إمام، وهذا مقلد ذو بصيرة وسبّاق ذو وثبات. قلت: إن الناس كانوا يسوّون بينهما أو يقاربون يوم كانا

حيَّيْن، وللأحياء مقاييس من صداقة أو عداوة ولهم صفات يُحَبّون من أجلها أو يُبغَضون؛ كخفة الروح وبسط الكف وحسن المجالسة. فلما ماتا ولم يبقَ إلا موازين الأدب بدأ الناس يدركون أن بينهما بوناً شاسعاً وأمداً بعيداً. ثم أسمعته لكثير من الأحياء والأموات، فأعجبه غزل رامي، وأنس بجزالة شعر البارودي وحُسن ابتكار صبري. وقرأت عليه من أشعار الشاميين، فقدم الزِّرِكْلي، واستقلَّ شعره وعجب من سكوته الآن، لأن الشاعر عنده مَن ينظم أبداً لا ينقطع حتى ينقطع عن نفسه سيلُ العواطف ويجف منها مَعين الحسّ، ومن يقول مثل شعر الزركلي الوطني الذي يسيل منه الدمع، دمع القلب، لا يمكن أن ينضب ينبوعه. وقد كره قصيدته «العذراء» ورأى فيها ضعفاً في التأليف بيّناً، وأعجبته جزالة شعر محمد البزم، ولكنه رأى ألفاظه أجزل من معانيه ومفرداته أمتنَ من جمله، وأخذ عليه قوله: إذا كان مَنْ أسدى لك الشرَّ هيّناً ... فقل لي -أبَيْتَ اللعن- من أين تثأرُ؟! وقال: إن العرب تقول "أسدى إليه يداً" ولا تنطق بها في الشر. أما قوله "أبيت اللعن" فإقحام لا معنى له، لأنها كلمة كان يخاطَب بها ملوك الجاهلية وقد بطلت، فأي ملك من ملوك الجاهلة يخاطب؟ وأخذ على مردم قوله في نشيده: "سماءٌ لَعَمْرُك أو كالسماء"، ورآه سَبْكاً مقلوباً، وكان ينبغي أن يقول: هم كالسماء، بل هم سماء. وأثنى على أنور العطار وطَرِبَ لأسلوبه، وشهد لقصيدته

«لبنان» أنها من أبلغ ما قال شاعر في وصف الطبيعة. وراقته فحولة بدويّ الجبل وشاعرية بشارة وأبي ريشة. أما الشعر الجديد -كشعر الرمزيين والمهاجرين- فلم يفهم منه إلا بعض مفردات من ألفاظه، ولم يعدده شعراً ولا كلاماً عربياً! (¬1) * * * وقد استمر المجلس ساعات طويلة، ومال الحديث فيه على من يتلقى العربية اليومَ على أبناء باريس، من أمثال الإمام اللغوي أبي جريجة الشيخ مارسيه أصمعيّ العصر (¬2)! وكان مجلساً نادراً ¬

_ (¬1) لعل بوسعنا أن نصنف هذه المقالة -على طرافتها- في باب النقد الأدبي، فقد أجرى مؤلفها آراءه في شعراء عصره على لسان هذا الشيخ السالمي، وهي آراء بقي جُلُّها على حاله لم يتغير بعد خمسين سنة لمّا نشر ذكرياته. وهذا الإيجاز يمكن تفصيله في بحث طويل قد يصلح مادة لرسالة جامعية مستقلة، وله شواهد كثيرة واستطرادات في «الذكريات» وفي سائر كتابات جدي رحمه الله (مجاهد). (¬2) قال في غير هذا الموضع: "ومن العجب أن الفرنسيين وصل بهم الأمر أن بعثوا بأبنائنا يأخذون لغتنا عن المسيو مارسيه في باريس، كأن باريس بادية البصرة وكأن مارسيه من فصحاء بني عقيل، أو كأنه الأصمعي أو الخليل! " (فصول في الثقافة الإسلامية، ص164). وقال: "كانوا يبتعثون الطلاّب إلى فرنسا للدراسة العليا، فزيّن لهم بعض الناس أن يبعثوا بعثة لدراسة اللغة العربية في فرنسا، وتعجّب الناس من ذلك، وكنت مستمراً على الكتابة في الصحف فكتبت مقالة عنيفة جداً انتقدت فيها هذا العمل، وقلت فيها: هل ترسلونه إلى أصمعي العصر المسيو مارسيه؟ "، وهي مقالة كانت لها آثار. راجع الذكريات: 3/ 200 (مجاهد).

ما قمنا منه إلا ونحن كارهون، نتمنى لو أنه يمتد بنا أسبوعاً، وخرجنا وقد امتلأت وِطابنا علماً وفوائدَ، هذا طرف منها، وإنه «طِبْق الأصل». * * *

هيكل عظمي

هيكل عظمي نشرت سنة 1936 [كنت أمس عند قريب لي يمارس صناعة الطب، فخرج لبعض حاجته حتى أطال الغياب، وتسرب إليّ الملل فقمت إلى خزانة كانت حيالي فقلت: لعل فيها كتاباً أقرؤه. فما راعني -حين فتحتها- إلا هيكل عظمي معلَّق بسقف الخزانة، وإلى جانبه هيكل ثان!] ... مَن أنت أيها الإنسان الذي انتهى به الأمر إلى أن يحبس في خزانة، ويلبث الدهرَ معلَّقاً بسلكة ويُعَدّ متاعاً من المتاع؟ أأنت رجل أم امرأة؟ أغنيّ أم فقير؟ أملك أنت أم صعلوك؟ هل كان في هاتين الحفرتين البشعتين عيون ساحرات الطَّرْف "يصرعنَ ذا اللب حتى لا حراك به" و"يفعلن بالألباب ما تفعل الخمر"؟ (¬1) ¬

_ (¬1) الأول صدر البيت المشهور لجرير، والآخر عجز بيت لذي الرمة: وعينان قال الله كونا فكانتا ... فَعولانِ بالألباب ما تفعلُ الخمرُ (مجاهد).

وهل كان على هذا الثغر المخيف شفاه لُعْس (¬1)، تأخذ دنيا البخيل بضمة على شفتيه، ويبذل حياتَه الجبانُ في قبلة منها؟ وهل كان على هذا القفص العظمي صدر ينسى امرؤ أسند إليه رأسَه الدنيا وما فيها؟ هل كانت هذه العظام المستطيلة المرعبة سواعد بضة طالما أثارت مِن هوىً وأذكت من خيال؟ أكنت -أيها الإنسان- امرأة فاتنة جميلة؟ وهذا الإنسان الآخر: هل كان عشيقك أيتها الفتاة؟ اعترفي فلا بأس عليك اليوم. هل كان يهيم بك حباً ويحيي الليالي يحوم حول منزلك، أو يرقب شرفتك، فإذا رأى إشارة منك أو أبصر على الشرفة ظلك أو لمح طرف ثوبك الأبيض أو الأصفر أو ... أو الأرجواني، انصرف وهو أسعد الناس حالاً، وراح يحبّر فيك «المقالات» (¬2)، وطفق يرى صورتك التي نسجها من خيوط حبه لا صورتَك التي هي لك: طفق يراها في السماء التي يرنو إليها ويعدّ نجومها، وفي صفحة الكتاب الذي يفتحه وينظر فيه، وبين أغصان الأشجار التي تمتد إلى شرفته، وحيثما تلفّتَ أو نظر "تلوح له ليلى بكل سبيل"؟ * * * ¬

_ (¬1) تختلف مقاييس الجمال باختلاف الأزمان، فقد أحب العرب -مثلاً- الأسنان المفلَّجة (التي تفصل بينها فراغات)، فكانت المرأة تفلّج أسنانها تزيّناً حتى تصير فَلْجاء! ومن هذا الباب الشفة اللَعْساء (الجمع لُعْس)، وهي الشفة التي اسوَدَّ باطنها! (مجاهد). (¬2) إشارة إلى مقالات «ذات الثوب الأرجواني» التي كان ينشرها المازني رحمه الله في تلك الأيام.

أم كنت -أيها الإنسان- ملكاً يضيء على مفرقه التاج المحلّى بالدّر، ويلمع تحته السرير المصنوع من الذهب، إذا أمر تقاتلوا على السبق إلى طاعته، وإذا اشتهى شيئاً أسرعوا إلى تحقيق شهوته، وإذا مرض لم يكن للناس حديث إلا حديث مرضه، وإذا أبَلَّ لم يكن سرور إلا ببشرى إبلاله، وإذا قام أو قعد أو قدم أو ذهب لهجت الألسن بقيامه وقعوده واشتغلت الصحافة بذهابه وقدومه، وإذا مشى في الطريق لم يمشِ على رجليه كما كان يمشي أبونا آدم عليه السلام وكما تمشي ذريته من بعده، ولكنه كان يمشي على رؤوس الناس الذين يحسّون -لفرط الإجلال أو لفرط السخط- بأنه يمشي على رؤوسهم جميعاً؟ أم كنت -أيها الإنسان- صعلوكاً حقيراً عاش على هامش الحياة ودُفن في حاشية المقبرة، فلم يحسّ أحد بحياته ولم يَدْرِ أحد بمماته، ولعل حياته أشرف حياة لأنها حافلة بالفضائل مترعة بالشرف، فكان يكدح طول نهاره ليحصل خبزه وخبز عياله، فيأكله مأدوماً بعرق جبينه، لا يؤذي أحداً، ولا يسرق مال الدولة، ولا يتخذ وظيفته جسراً إلى تحقيق شهواته وتحصيل لذاته ... ولعل موته أشرف موت، لأنه مات مجاهداً وسط المعمل أو سقط وفي يمينه المعول. انظر يا صديقي، التفت إلى يمينك. إن الملك الذي طالما خفتَه وأكبرته وأعظمت زينته وبزّته وشارته وحليته، فملت عن طريقه ولم تجرؤ على رفع نظرك إلى طلعته الكريمة، إنه معك في هذه الخزانة، قد نُزع عنه ثوب المُلْك والبهاء وعاد مثلك: لا الملك دام له ولا دام الغنى!

هل كنت -أيها الإنسان- رجلاً عفيفاً مستقيماً، أم كنت لصاً خبيثاً؟ اعترف؛ إنه لن يضرك اليوم اعتراف. هل كنت لصَّ أعراض تلبس ثوب التاجر أو ترتدي حلّة الموظف أو تتيه ببُرْد الغنيّ؟ كم من الأعراض سطوت عليه باسم الوظيفة أو بصلة الصداقة، أو ولجت إليه من باب السفور والاختلاط؟ أم كنت لصاً رسمياً لا سبيل للقانون عليه، يسرق من الناس ويسكتون لأنهم يريدون أن تمشي أعمالهم، ويسرق من الخزينة بأسناد مصدَّقة؟ أم كنت لص أدب، تسرق فكرة الفيلسوف وصورة الشاعر وموضوع الكاتب فتُلبسها ثوباً من أثوابك الخسيسة الممزقة، ثم تخرج بها على الناس على أنها بنت خيالك ووليدة عقلك؟ أم كنت مظلوماً، لم تكن لصاً ولم تحترف السرقة، ولكن رأيت صِبْية مشرفين على الموت من الجوع وأسرة كادت تودي من أجل رغيف، ورأيت حقك في بيت مال الأمة قد سرقه السادة الأكابر، فغطيت وجهك حياء وأخذت رغيفاً ليس لك، فثار بك المجتمع وقامت عليك الصحف، وتعلق بك القانون حتى استاقك إلى السجن، فمُتَّ فيه مفجوعاً بشرفك وأولادك؟ اقترب أيها المجرم، ادْنُ أيها الشهيد، تعال انتقم؛ هذا هو القاضي الذي حكم عليك لأنك سرقت رغيفاً تعيّش به أسرة، ثم خرج يخترق الصفوف، صفوف الشعب الذي اجتمع ليشهد انتصار الحق وظفر العدالة، فلما رآه حيّاه وهتف له حتى بُحَّ صوته وصفّق حتى احمرّت كفاه، حتى إذا ابتعد ولم يعد يراه أحدٌ

مَدَّ يده التي حمل بها مطرقة العدل فأخذ ثمن وجدانه الذي باعه، أخذ الرشوة! تعال انتقم؛ إن القاضي والمجرم قد التقيا وزالت من بينهما الفروق! * * * أم أنت -أيها الإنسان- جندي صاحوا به: الإنسانية في خطر، الحضارة مهددة بالزوال؛ لقد أوشك أن يموت الحق وتذهب الفضيلة! فاشتعلت الحميّة في رأسك، والتهب الدم في عروقك، وقدحت عيناك بالشرر، فتركت أمك المسكينة ليس لها بعدك إلا الله، وأسلمتَها إلى الحزن الطويل والثكل القاتل، وأولادك الذين تعلقوا بك يصيحون: "بابا، بابا" أسلمتهم إلى اليتم والفقر والبؤس، وذهبت تلبي نداء الإنسانية وتخلّص الحضارة، فنمت على الجثث وتجلببت باللهب وتوسدت القنابل، حتى إذا أدركك أجلك سقطت صريعاً، وأقبل رفاقك يدوسون على جثتك لا يجدون وقتاً لإزاحتها ودفنها، لأنهم يخافون إذا أبطؤوا ألاّ يدركهم الموت في سبيل الإنسانية! فلما ماتوا جميعاً ربحت الإنسانية وساماً زيّن صدر القائد وصفحة في تاريخ العدوان، وثبت كرسيُّ طاغيةٍ من الطغاة أو استقرت مكانةُ حزب من الأحزاب ... أما الأطفال الأيتام والعجائز الثاكلات فحسبهم عوضاً من آبائهم وحسبهنّ بدلاً من أبنائهن التمتع برؤية موكب القائد الظافر! أم أنت -أيها الإنسان- القائد نفسه، قد جُرِّد صدرُه من الأوسمة والشارات، وجسمُه من الحلة المزدانة بالقصب، ووجهُه من الأنف والعينين، وعاد قفصاً من العظام لا يمتاز

عن أصغر جندي وأحقر صعلوك، فلم تعد لك تانك العينان اللتان تبرقان فترتجف لبريقهما أقسى القلوب، وذانك الشاربان القائمان كساريتَي مركب، وذلك الصوت القوي الذي كان يصيح بالجنود: إلى الأمام ... أي إلى الموت، إلى الثكل، إلى اليُتْم، إلى الحرب، جحيم الحياة الدنيا! (¬1) وأنت أيها الآخر: أأنت ذلك الجندي؟ ما لك تقف جامداً؟ هذا قائدك. ألا تضم شفتيك وتثبت بصرك وتزوي ما بين عينيك، وتأخذ هيئة الجِدّ لتؤدي التحية العسكرية؟ ويحك! أما أنت جندي؟ هل أنت امرأة؟ أأنتِ عشيقة القائد العظيم، رآكِ مُنصرَفَه من المعركة التي طوّح فيها بالمئات من شباب أمته في سبيل العدوان على بقعة ليست له، أو إعطائها إلى غير أصحابها ومنحها لبعض الطارئين من الشعوب الذليلة المسكينة (¬2)، فماتوا كلهم ولم يقدروا على شيء، لأن للحق قوة كقوة النار والحديد؟ أأنت التي اخترقَتْ سهامُ لَحْظها هذا القلب الذي طالما هزئ بالقنابل والمدمرات، فجاء يصب جبروته على قدميك، وأصبح هذا الذي يصرّف عشرات الألوف من الكُماة المستلئمين تصرّفينه وتجرّينه من زمامه، حتى صار يفكر فيك وهو في ساحة الحرب، يزلزل الأرض تحت أقدام أهلها ويتأمل صورتك والعدو على أبواب معسكره، لا يخاف عليه أن يحتله الأعداء، إنما يخاف عليك أن تضم جسَمك غيرُ ذراعيه؟ ¬

_ (¬1) الحرب ما لم تكن لإعلاء كلمة الله، أو لدفع المعتدين وتثبيت الدين ورد المستعمرين الغاصبين، فهي بلاء شامل وشر مبين. (¬2) كاليهود الصهيونيين!

أم أنتما رجلان؟ أعدوّان أنتما أم صديقان؟ أكان بينكما مسافة على الأرض ومسافة في الزمان، أم أنتما رفيقان متلازمان؟ هل التقيتما في معمل، أو عملتما في منجم، أو اصطحبتما إلى الحرب، أو تجاورتما في السوق، أو اشتغلتما في ديوان؟ أم كنتما مضطجعَين في قصريكما المتقابلين، قد مللتما من التسلية فأنتما تدفعان العمر دفعاً، لا تتنازلان أن تنظرا من النافذة إلى هؤلاء البؤساء الذين يشتغلون دائماً وأبداً كأنهم آلات تدور، تحت الشمس في الصيف وتحت المطر في الشتاء، وفي الحرّ وفي الزمهرير، وفي الصحة وفي المرض، ليأخذوا بعد ذلك الواحدَ وتأخذوا أنتم التسعةَ والتسعين مكافأة لكم على غصبكم حريّتَهم وعسفكم إياهم وزرايتكم عليهم، فتنفقوها على الموائد الخُضر وفي كؤوس الخمر وعلى الشُّقر والسُّمر ... ثم إذا خرجتم تمسّحوا بأذيالكم وقبّلوا السياط التي تلهبون بها ظهورهم؟ * * * من أنتما أيها الإنسانان وما شأنكما؟ هل كان بينكما حاجز عرضه ثلاثمئة سنة فلم تلتقيا في الحياة، وجمع بينكما الموت الذي تُختصَر فيه المسافات وتلتقي فيه الأزمنة والأوقات؟ أأنتما هنا لتقولا: إن المُلك والغنى، والمجد والجاه، والفتنة والجمال، كل أولئك أثواب تُلبَس وتُخلَع، ولا يبقى للإنسان من دنياه إلا ما قَدّمَ من عمل، ينال به النعيم الخالد أو يَصلَى به النار الباقية؟ ألا ليت الناس يذكرون أبداً هذا المصير! * * *

في الترام

من أحاديث الإذاعة في التّرام نشرت سنة 1947 يا سادتي ويا سيداتي: كنت راكباً أمس في الترام (¬1) أفكر في موضوع أتحدث به إليكم فأسلّيكم وأفيدكم (فلا يكون الحديث لذيذاً بلا نفع ولا نافعاً بلا لذة)، فكان يطيِّرُ الموضوعات من رأسي هواءٌ بارد يلفح الوجوه فيبلغ منها مثلما تبلغ السياط، فقمت إلى الباب لأغلقه فاستعصى عليّ، فشددته فتأبّى، فجربت فيه الوسائل فما أجدت، فتركته وقعدت. وصعد شاب مفتول العضل عريض المنكبين بادي القوة، فجذبه فما استطاع، فأمسكه بكلتا يديه ووضع قوته كلها في ساعديه، حتى احمرَّ وجهه وانتفخت أوداجه والباب على حاله، فأغضى بصرَه حياءً منا أن ينظر في وجوهنا وقعد. وركب بعده شيخ وكهل وامرأتان، لم يكن فيهم إلا من جرّبَ مثلما جربنا، وخاب كما خبنا. فلما رأيت ذلك قلت مقالة أرخميدس في أول الدهر: «أوريكا»! وجدت الموضوع. إني سأجعل موضوع حديثي في ¬

_ (¬1) في مصر، وقد أمضى تلك السنة فيها (مجاهد).

الترام، فالترام -يا سادة- معرض الناس ومرآة الأمة، وهو مَسْلاة لمن نشد تسلية ومدرسة لمن أراد استفادة، وهو «سينما» أبطالها أناس صادقون، لا يمثلون رواية وضعها كاتب، ولكن يعرضون فِطَرهم التي فَطَرهم الله عليها وأخلاقهم وطباعهم. وكل صغيرة في الترام تمثل كبيرة في الحياة: هذا الباب المغلق مثلاً عنوان فصل كبير من فصول حياتنا ونقص بَيِّن في تربيتنا، إذ ربما كان دفاع الباب أقلَّ من قوة اثنين منا، ولكنا أتيناه متفرقين كما نفعل في كل أمر نرومه وإصلاح نطلبه، نعمد له فُرادى ونقصده أشتاتاً، فلا نصل إلى مقصد ولا نبلغ غاية؛ قد استقرت الفردية في سلائقنا، فترى الواحد منا يعمل ما لا تعمله الجماعة، فإذا اجتمعنا أضعف بعضُنا بعضاً أو استبدّ بعضنا ببعض! وإذا نحن أردنا التخلص من هذا قفزنا من أول الخط إلى آخره، فجاوزنا حد الاعتدال وتعدَّينا نطاق الممكن، وأردنا أن نبني الدار قبل أن نُعِدَّ الحجارة ونُصلح الأمة قبل أن نصلح الأفراد، كأن الأمة مخلوق مستقل له طول وعرض وعمق وارتفاع! لا يا سادة، ما الأمة إلا أنا وأنتم وهم وهنّ، فإذا لم يُصلح كلٌّ منا نفسه لم يكن للأمة صلاح. هذا عيب كبير فينا دل عليه الحادث الصغير، وما أكثرَ ما تدل الصغائر! * * * ركبت الترام مرة، وكان مزدحماً يغصُّ براكبيه، فلا تبصر لون أرضه ولا تعرف من الازدحام طوله من عرضه، وكان على

المقعد إلى جنبي شيخ مسنّ أحسبه قد دخل في الثمانين، وكان معه لبن سائل في صحن ضحل لا غطاء له ولا قعر، فكلما اهتز الترام أو تحرك الناس طار رشاشه على ثوبي الذي كنت أتجمّل به أيام الحرب، ولا أجد -وأنا موظف- السبيلَ إلى غيره، فكنت أضمّ ثيابي إليّ وأحاول أن أبتعد عنه ليدرك أذاه لي فيدفعه عني، فلا يدرك ولا يبالي، فقلت له: يا عم، قد آذيتنا ولوثتنا بالحليب. فما كان منه إلا أن صرّخ تصريخاً جمع عليّ أهل الترام، وقال: اتّقِ الله، ما هذا الكفر؟ ما هذا الجحود؟ ألا تعرف قدر النعم؟ إنه حليب طاهر. هل هو نجاسة؟ حرام عليك! فتركته ودخلت بين الناس، ووقفت مع الواقفين، وقد كادت تتلامس الوجوه وتتلاقى الأنفاس. وكدت أختنق، وإذا بشاب على آخر طراز في فمه سيكار أسود ضخم كأنه ذَنَب العَضْرَفُوط (¬1)، يخرج منه دخان كأن رائحته ضراط الخنافس، فوقف أمامي حتى أوشك أن يحرق بناره أنفي، فقلت له: انتبه يا أخي. فصاح: وأين الحرية الشخصية؟ وبأي حق تكلمني؟ ... وأمثال هذا الهذيان. فرأيت في ذلك عيباً آخر من عيوبنا. إننا نأخذ المسائل مقلوبة ونفهمها على أضدادها، فلا الشيخ فقه الدين وعرف الحلال من الحرام قبل أن يعظ ويفتي، ولا الشاب عرف المدنية وأدرك أحوال أهلها قبل أن يهذي ويتفلسف. الدينُ يحرِّم إيذاء الناس والمدنيةُ تمنع التدخين في الترام، ولكنا نأخذ ما لا نعرف ¬

_ (¬1) نوع من الحرباء والحرذون.

ونخوض فيما لا نعلم، فكان في حياتنا الشيء وضدُّه، اجتمعت فيها المتناقضات وائتلفت المختلفات، كما يكون في عصور الانتقال كلها. * * * وصعدت الترامَ مرة عجوزٌ متصابية متبرجة، كأنّ وجهها خريطة حربية من كثرة الخطوط المرسومة عليه والألوان؛ ففوق عينيها خطان أسودان مقوَّسان، وعلى خدَّيها بقعتان حمراوان، وشفتاها كأنهما قد غُمستا بالماء المغلي فاحترقتا ثم نزفتا، فاجتمع عليهما الدم متجمداً فظيعاً، فلم تعودا شفتين ولكن صارتا -والعياذ بالله- آفتين مشوَّهتين، وأظافر يديها كأظافر ذئبة افترست حَمَلاً، فهي طويلة محمرَّة مخيفة! فوقفت في غرفة الرجال وهي مملوءة بالناس، وإلى جنبها غرفة النساء فارغةً مفتوحاً بابها. فنظر الناس إليها متعجبين، ثم ردّوا أبصارهم عنها منكرين، فقالت: ما فيكم واحد مؤدب يقوم للست؟ يا عيب الشوم! فقال أحد الحاضرين: تفضلي، هذه غرفة النساء خالية. فنفضت يدها في وجوهنا وقالت: أنتم «متأخرين كثير» ... «متوحشين»؛ ما تعلمتم التمدّن! ورأيت مرة شابين دخلا عليّ غرفة الترام، يلبسان أردية بلا أردان وسراويل تشفُّ عن السيقان، فألقى أحدهما بنفسه على المعقد فاضطجع اضطجاع العروس على سريرها، ورفع الثاني رجلاً فوق رجل فعل الراقصة على مسرحها، ثم تحدثا حديثاً مخلوطاً فيه العامية بالفرنسية بالإنكليزية بالضحكات الخليعة

والإشارات المخنثة. تحدثا في الأدب، فكان من رأيهما أن الزيات والعقاد والمازني تحتاج كتاباتهم إلى ترجمان لصعوبتها، وأنها لا تُفهم بلا قاموس! ثم ذكرا الامتحان والدروس مع الحب والغرام وأماكن اللهو والتسلية، حتى إني لم أعد أطيق الصبر، فنزلت وركبت تراماً آخر! هذان مثالان لطبقة من نسائنا ورجالنا يُبديها الترام إن أخفتها البيوت، طبقة هي في الأمة كالديناميت في البناء والسم في الجسم والقذى في العين. وهي -وإن تكن نادرة فينا ولم تكن تخلو أمةٌ من مثلها- لا ينبغي للمصلحين منا أن يغفلوا عنها ويهملوا إصلاحها، لأننا أمة تستعيد اليوم حريتها وتبدأ جهادها، وتسعى لتصل ما انقطع من أمجادها، ولا يُنال المجد إلا بشباب أولي خلق وعلم، ونساء أُولات عقل وعفاف. * * * ولكنّ في الترام -في مقابل هذه الصورة التي تؤلم وتسوء- صوراً تسرُّ وتفرح. لقيت فيه أمس فلاحاً من فلاحي مصر بجلبابه وطاقيته وزيِّه، وكان معي صديق يتكلم في الجلاء عن مصر وفي جامعة الدول العربية، فاندفع والله هذا الفلاح في حديث عن السياسة والنزاع بين الدول الكبرى، وموقف هذا الشرق الأدنى وما يُتوقَّع له، وفصَّل القول في حالة مصر والشام والعراق والمغرب والحجاز واليمن، فكانت محاضرة مرتجَلة أكثر من نصف ساعة، مشى فيها الترام من الفسطاط إلى شبرا، لو أن سياسياً دعا الناس إلى أفخم ناد من النوادي فألقى عليهم مثلها لخرجوا معجبين.

ولقيت في الترام فلاحاً آخر، مرَّ به جابي الترام فناداه: يا أفندي. فقال له: "ما فيش أفندية دي الوقت، الفلاحين هم أسياد البلد"! يقظة عجيبة وكلام عظيم، وسيكون أعظمَ يوم يصير الفلاحون أسيادَ البلد حقاً، يوم لا يبقى في مصر شركة أجنبية ولا مصرف أجنبي، يوم لا يبقى في مصر شحّاد مصري، يوم يكون المصريون أعلم من الأجانب وأنظف منهم وأحرص على الصحة وأفهم للحياة وأسبق إلى المغامرة، وسيجيء هذا اليوم قريباً بحول الله. * * * أيها السادة والسيدات: إن الترام يكشف أخلاق الناس وطبائع البلدان، وهو مدرسة يرى المرء فيها القبيحَ من جاره فيتركه، والحسنَ فيتعلمه، ويستمتع الملاحِظُ المدقق بعد هذا كله بفصول «الفِلْم» البشري المعروض عليه. هذا فصل من الرواية: رفيقان يدعان الأمكنة الخالية ويجلسان حولك، هذا عن يمينك وهذا عن شمالك، ويتحدثان في أمورهما الخاصة بهما من فوق رأسك، لا يحفلان بك ولا يباليانك، كأنما أنت كرسي أو متكَأ، أو كأن أذنيك شبّاك يتكلمان منه! وهذا فصل آخر: رجل طويل عريض لا يطيب له أكل بذر البطيخ إلا في الترام، فلا يزال يقضمه بأسنانه ويقذف قشره بلسانه، فإن لم يصب به الناس آذاهم بقبح منظره وسوء أدبه! وهذا رجل يأتيك من خلفك وأنت واقف في زاوية الترام

يرجوك أن تفسح له ليمرّ، فإذا انزحت له أخذ مكانك وتركك حائراً لا تدري أين تقف! وهذا عامل بثيابه الملوَّثة بالزيت المعدني أو الملطخة بالطين، يحتك بك وأنت بثيابك البيض فلا يدعك حتى ينقل إليك زيته وطينه، فإن تكلمت قال: ليه؟ هو إحنا مش بني آدم؟! وهذه امرأة ضخمة عريضة القفا، تصعد ومعها ولد على ظهرها وولد في بطنها وولد تسحبه بيدها، وسلة كبيرة فيها سمك وبصل وكرّاث، فتقعد على الأرض فتشغل مكاناً كان يقف فيه عشرة رجال، ثم لا تزال تسبُّ هذا لأنه داس على ثوبها وتشتم ذاك لأنه مسَّ ولدها! وهذا عجوز ثرثار، لا يفتأ الطريقَ كله يذم هذا الشعب لأنه لم يتعلم أن النزول من مقدم الترام والركوب من آخره ويعجب من جهله وقلة تربيته، ولا يزال كذلك حتى يصل إلى محطته، فينسى محاضرته الطويلة وينزل من خلف لا من قُدّام! وهذا رجل منتفخ كأنه الديك الرومي، مزهوٌّ كالطاووس، يقعد أمامك فلا يرضيه إلا أن يمتد ويبرز بطنه ويؤخر رأسه ويرفع رجله في وجهك، حتى يقابلك نعلها ويكاد يمسُّك طرفها، ثم إذا لمح الجابي أسرع بالنزول ولم يدفع ثمن التذكرة! وهذا شيخ له عمامة وعذبة، لا يحب أن يذكر الله إلا على سبحة طويلة يرفعها بيده حتى يراها الناس كلهم، ولا يتمسك بسنة السواك إلا في الترام، فيخرجه من جيبه طويلاً ثخيناً فيستاك به على أبشع هيئة، ثم يعصره بأصابعه ويبصق على الأرض، وإذا

انتقده أحد نادى: يا ضيعة الدين ويا بَوار الأخلاق! وهذا فصل آخر يمثله السائق: يقف في المحطة يشتري طبق الفول ورغيف الخبز، ويتباطأ بعدها في سيره ليأكله، حتى إذا وجد أنه تأخر وفاته الموعد أسرع إسراع المجنون، ولم يمهل المرأة لتُركب ولدها وتركب بعده، فيبقى الولد في الترام خائفاً يصيح ويبكي يكاد يلقي نفسه، وأُمُّه تعدو وراء الترام، والناس يصرخون من كل جانب! * * * وفي الترام دليل على طباع كل قطر ونموذج من حياته؛ ففي الشام عراك على النزول والصعود وتسابق فظيع إلى المقاعد، لأن فيه شعباً حديث عهد بالجهاد والنضال، ولأن خطّ الترام له أول وله آخر، فالناس يركبون معاً وينزلون معاً. وفي مصر تدور أكثر الترامات دوَران السّواني (¬1) وتَكُرُّ كَرَّ الأيام، لا أول لها ولا آخر، والناس ينزلون ويصعدون في كل مكان، وفي مصر شعب وادع أنيس، فإذا فرغ مقعد في الدرجة الأولى رأيت كلاًّ يدعو الآخرَ إليه. والفرق في الشام وبيروت بين ركاب الدرجة الأولى والثانية قليل لا يكاد يظهر في زيّ ولا حديث، وهو في مصر ظاهر بَيِّن، لأن شعار مصر التفاوت في كل شيء، فليس في الشام -ساحله وداخله- أغنياء من الوزن الثقيل، ولكن ليس فيه أيضاً إلا القليل ¬

_ (¬1) جمع سانية، يدور فيها البغل ليستخرج بها الماء من البئر.

من الفقراء المدقعين، وليس فيه علماء كبار جداً، ولكن ليس فيه أيضاً أمية طاغية وجهالة منتشرة. أما مصر ففيها أشد الغنى وأشد الفقر، وفيها العلم والجهل، والقصور والأكواخ، بل إن فيها شارعاً واحداً في أوله الملاهي والمسارح فكأنك منه في باريس، وفي أوسطه البنوك والمصارف فكأنه من نيويورك، وآخره كأنه شارع من شوارع الرقّة أو الميادين (¬1). والترام في الشام هدف كل مظاهرة وغاية كل إضراب، فإن كان للطلاب مطلب من المعارف أحرقوا الترام، وإن شكا الناس من سوء الخبز أو كثرة الضرائب حطموا الترام، لأنه رمز السيادة الاقتصادية الأجنبية (¬2)، وأهل الشام لا يحتملون لأجنبي سيادة لا في الحكم ولا في المال. * * * إن حديث الترام طويل ووقت الحديث قصير، وقد استنفدته كله وزدت عليه، وأنا أرجو -إن أمللتكم- عفوَكم، وأشكر لكم على سماعه صبرَكم، والسلام عليكم. * * * ¬

_ (¬1) الميادين والرقة مدينتان على الفرات (مجاهد). (¬2) كذا كان، والترام اليوم -ككل شيء في الشام- هو بحمد الله ملك لنا وحدنا.

مرثية غراي

من الأدب الإنكليزي مرثيَّة غراي نشرت سنة 1936 [تُعَدّ هذه المرثية من أبلغ المراثي في الشعر الإنكليزي، قرأها عليّ صديقي الأستاذ حيدر الركابي، فنقلتها إلى العربية كما فهمتها. (¬1)] قرع الناقوس ينعى النهارَ الآفل، وراح القطيع يزحف ببطء ¬

_ (¬1) الاسم الكامل للقصيدة (في الأصل) هو «مرثيّةٌ في فناء كنيسة ريفية» (Elegy Written in a Country Churchyard) للشاعر الإنكليزي الكبير ثوماس غراي (Thomas Gray) (1771 - 1716)، وقد كتبها سنة 1750 وهو في مقبرة كنيسة قديمة في ريف باكنْغهامْشايَر في جنوب إنكلترا. وأحسب أن جدي رحمه الله كان أول من قدّمها لقرّاء العربية في هذه الترجمة، وبعده بعشر سنين نشرت لها الشاعرةُ العراقية نازك الملائكة ترجمةً موزونة في مئة وثلاثين بيتاً. أما حيدر الرّكابي فقد كان أستاذاً للّغة الإنكليزية، وهو ابن رضا باشا الركابي الذي كان الحاكم العسكري في الشام أيام الشريف فيصل قبل ميسلون، وكان حيدر من أصدقاء علي الطنطاوي في شبابه، وسكنا داراً واحدة في الأعظمية لمّا جمعهما التدريس في بغداد (مجاهد).

يتسلق الهضبة راجعاً إلى القرية، وعاد الفلاح إلى البيت يجر رجله تعباً، وبقي العالم لي وللظلام. تدثر الكون بالسواد وتوارى عن الأنظار، وسكنت الدنيا سكوناً مهيباً، ولم يبق في الجَوِّ نامةٌ تُسمَع، إلا هذه الأصوات العميقة تفيض بها الأودية البعيدة والشعاب النائية، وإلا طنين حشرة تطير، ونعيق بوم على تلك الدَّوْحة يشكو ظلمَ الناس وعدوانَهم على وكره الآمن. * * * هنالك، عند تيك الشجيرات القديمات، تحت تلك الرِّجام (¬1) التي يزدحم عليها الشعب ويتكوَّم (¬2) الكلأ، كان أجداد القرية ينامون إلى الأبد في حفرهم الضيقة وأجداثهم العميقة؛ لا يوقظهم نسيم الصباح الأَرِج، ولا تغريد البلبل الطَّرِب، ولا زُقاء الديك المزهوّ، ولا زمّارة الراعي السعيد ... كل ذلك لم يعد يوقظهم من رَقْدتهم. لا، ولن توقَد من أجلهم نيران المدافئ، ولن تقوم في خدمتهم ربّات المنازل، ولن يهتف أطفالهم اللُّثْغ فَرِحين بمقدمهم، ولن يتسلَّقوا رُكَبَهم يستبِقون إلى أحلى تَمْنِية لهم: قبلة آبائهم عند عودتهم إلى منازلهم وأهليهم. * * * ¬

_ (¬1) واحدتها الرَّجْمة، وهي الحجارة التي تُنصَب على القبر (مجاهد). (¬2) كوّم الكَومة وتكوَّمت: من العامي الفصيح.

كم كان المنجل العَضْب (¬1) يخضع لسواعدهم، وكم كانت الأرض الصَّلدة تشقق تحت معاولهم، والغابة القاسية كم لانت لضرباتهم! كان عملهم مفيداً وحياتهم مجدية، فلا يسخر الطموح من مسراتهم الهيِّنة وحياتهم المجهولة، ولا تستمع العظمة هازئةً حديث الفقر وقصته الساذجة القصيرة. فإنّ فخرَ القوّاد وعظمةَ الأقوياء، وكل ما تمنحه الثروة ويأتي به الجمال، كل ذلك ينتظر الساعة التي لا مفر منها والغاية التي لا مَحيد عنها، لا فرق في ذلك بين عظيم وحقير، لأن طريق المجد لا ينتهي إلا إلى القبر. * * * فيا أيها المغتَرّون: لا تلوموا هؤلاء المساكين أنْ خلت قبورهم من نُصُبُ المجد وتماثيل الجلال، على حين تتصاعد ألحان الثناء وأغاني المديح من بين جدران المدافن الفخمة تحت أقبيتها المزخرفة. لأن البخور المحروق والتمثال المنحوت لا يَرُدّ الروح على الميت الراقد، وهتاف الناس وعجيج الجماهير لا ينفخ الحياة في التراب الجامد، وقصائد المديح وآيات الثناء لا تبلغ سمع الموت البارد! * * * ¬

_ (¬1) العَضْب هو الحادّ القاطع (مجاهد).

ومن يدري؟ فلعل في بطن هذه البقعة المهجورة قلباً كان يمكن أن يفيض منه النور السماوي، ويداً كان يمكن أن تدير دفّة المركب السياسي، وأصابع كان يمكن أن تمشي على أوتار القيثارة الخالدة فتنشئ النغم السحري، لولا أن العلم لم يفتح أمامها صفحاته الحافلة بثمرات الزمان. * * * أخمد النسيانُ جذوةَ أرواحهم النبيلة، وأجمد نهرَ حياتهم الجارية، وطغا عليهم لجّ الزمان. ولكن، كم في جوف البحر من جواهر مخبوءة ولآلئ مجهولة، وكم في عرض البادية من وردة تفتحت واحمرَّتْ فلم يَرَها أحد، فضاع أريجها العطر في رياح الصحراء. ومن يدري؟ فلعل هنا بطلاً كهامبْدِن، كان حاكماً في حقوله مطلقاً وكان جباراً شجاعاً، ولعل هنا مِلْتون آخر ولكنه صامت مغمور، ولعل هنا كرومْوِل، ولكنه كرومْوِل بريء من دم أبناء الوطن (¬1). * * * ¬

_ (¬1) لعل المقصود هو جون هامبدن الذي كان من قادة الحرب الأهلية الإنكليزية في القرن السابع عشر، وهي الحرب التي قادها أولِفَر كرومْوِل وانتهت بسيطرته على الحكومة وإعدام الملك تشارلز الأول، ولكنه لم يلبث أن تحول إلى حاكم مستبد. أما مِلْتون فهو الشاعر الإنكليزي الأشهر جون مِلْتون، صاحب ملحمة «الفردوس المفقود»، وكان من مساعدي كرُمْوِلْ وأتباعه المقرَّبين (مجاهد).

منعهم القدر من الاستمتاع بهتاف الجماهير وتصفيق البرلمانات، ومنعهم من المغامرة وركوب الأهوال، وازدراء المصاعب واحتقار العقبات، ومنعهم من نَثْر الخيرات على بلادهم وقراءة تاريخهم في عيون الشعب. ولكن القدر لم يمنعهم مزاياهم وحدها وفضائلهم، بل منعهم رذائلهم أيضاً وجرائمهم، فلم يرتقوا العرش على الجماجم، ولم يسدّوا أبواب الرحمة على البشر، ولم يُخفوا حُمْرة العار والخجل، ولم يُخفتوا صوت الضمير، ولم يعطّروا معابد ترفهم واستكبارهم بالبخور الذي تحرقه شياطين الشعر. * * * لقد اتّبعوا طريقهم السَّوِيّ في وادي الحياة المنعزل البارد وساروا فيه صامتين؛ لم تتعلم أمانيُّهم القريبة وشهواتهم البريئة الخروجَ بهم عن صفوف الشعب المناضل على الحياة، المزاحم على البقاء. ولكنهم -مع ذلك- لم تَخْلُ قبورهم من أثر للذكرى ضئيل: شعر أخرق ونقش مَحْطوم، يستجدي المارة آهةَ العطف وهمسة التقدير، ويحفظ عظامهم من أن تُهان. إن هذا الشِّعر، شعر الأمية الساذجة الذي نطق بأسمائهم وأعمارهم، يقوم مقام التعظيم والتبجيل والرثاء، وينشر بين القبور نصوصاً مقدسة تعلم المربين والمعلمين كيف يصمتون ويتعلمون. * * *

وأي امرئ -مهما بلغ من خمول الذكر والهوان على الناس- يترك الدفء والنور والسعادة من غير أن يلتفت إلى الوراء فيودع العالم بنظرة؟ إن الروح الراحلة تريد أن تتكئ قبل رحيلها على صدر محب، والعين المغمضة تحتاج قبل إغمائها إلى دموع الإخلاص، بل إن صراخ الحياة لينبعث من صميم القبر فيضرم نارَها في رمادنا البارد. * * * وبعد، فيا أيها الشاعر الذي يقوم في المقابر ويندب الموتى المنسيين: إني لألتفت الآن إليك فأرى رجلاً مثلك، شاعراً هائماً قد جاء يبحث عما حل بك، وانتهى إليه مطافك، فوجد فلاحاً هَرِماً فسأله عنك، فقال له: لقد طالما رأيناه عند انبلاج الفجر، يسرع الخطو ليستقبل الشمس من ذروة التل. وطالما لمحناه في الظهيرة متمدداً بجسمه المنهوك على أقدام تلك الشجرة الهرمة وفوق جذورها الباردة العجيبة، يرقب الجدول الذي ينساب إلى جانبه ويتأمل مياهه الهادرة المتكسرة. وطالما أبصرناه هائماً على وجهه بالقرب من هذه الغابة، باسماً آناً كأنه ساخر من كل شيء، وآناً عابساً كئيباً كأنه مُضنَى هدَّتْهُ الآلام، أو مريض قتله الحب اليائس. * * * وفي ذات صباح، نظرنا إلى الهضبة فلم نجده! "فبحثنا عنه

عبر المرج وعند شجرته المفضلة" (¬1)، وإلى جانب الجدول وبالقرب من الغابة، فلم نقع له على أثر. "ومضى يوم جديد ولم يعد" (¬2). ثم رأينا -بعدُ- نعشه محمولاً إلى المقبرة، تُرَتَّل من حوله أناشيد الموت. وها هو ذا قبره قائم تحت تلك الشجرة التي كان يجلس إليها، فتعال اقترب، اقرأ ما عليه: هنا، في حضن الأرض، يرقد شاب تجهله الثروة ولا يدري به المجد، لا يعرفه إلا الحزن الذي اصطفاه خليلاً وهو في المهد. ¬

_ (¬1) كانت هذه الجملة في الأصل: "فبحثنا عنه في الذروة وعند الشجرة"، والذي أثبتُّه أصح لأن أصلها الإنكليزي هو: One morning I missed him on the custom'd hill Along the heath and near his favorite tree ولم أغير في القصيدة كلها سوى هذه الجملة المحصورة بين القوسين والتي تأتي بعدها (مجاهد). (¬2) في الأصل: "ثم رأينا شاعراً آخر يحتل مكانه"، ولا أشك أنه خطأ من الأستاذ حيدر الركابي الذي نقل النص لجدي (رحم الله الاثنين)، فليس في أصل القصيدة شاعر ثان، وإنما يتحدث مؤلفها -على لسان الراوي- عن «يوم ثان»؛ فالبيت الأول في هذا المقطع يتحدث عن يوم اختفى فيه الشاعر، ثم يجيء البيت الثاني الذي يقول: Another came, nor yet beside the rill, Nor up the lawn, nor at the wood was he فهو يتحدث عن يوم جديد جاء ولمّا يَعُد الشاعر، فلا يُعثَر عليه لا قرب الجدول ولا على المرج ولا في الغابة، ثم يأتي اليوم الثالث -كما سنقرأ في البيت التالي- فيُشاهَد محمولاً في النعش ماضياً إلى القبر (مجاهد).

كان كريماً مخلصاً فكانت مكافأته عظيمة، منح البائسين كل ما يملك: وهو دمعه! ومنحه الله كل ما يطلب: وهو صديق! لم يُحِبَّ أن يفيض في ذكر مزاياه أكثر مما أفاض، ولم يشأ أن يهتك الستر عن نقائصه، لأنه استودعها كلها اللهَ الذي لا تضيع عنده الودائع. * * *

بين البهائم والوحوش

من أحاديث الإذاعة بين البهائم والوحوش نشرت سنة 1947 أيها المستمعون الكرام: أنتقل بكم هذه العشيّةَ إلى بقعة في مصر جُمعت فيها عجائب البلدان وغرائب الحيوان، فوُضع فيها البحر بحيتانه وتماسيحه وأفراسه وسباعه، والبرُّ بصحاراه وغاباته وأسوده وفهوده ووعله وغزلانه، ونُقلت إليها الذُّرى المُخْضَرَّة من لبنان تتفجر منها الينابيع وتنحدر السواقي وتغنيّ عليها البلابل والشحارير، ومُدَّت فيها القفار الجرداء من الجزيرة تسعى فيها المَها وتتسابق العِير، والأحراج الملتَفَّة من الهند تمشي فيها الفِيَلة، والثلوج المبسوطة من القطب تخطو عليها الدِّبَبة. وعاشت فيها الحيات والثعابين إلى جنب الحمام والعصافير، وصحبت فيها المعزى الذئابُ، والثعالبَ الدجاجُ، والسباعَ البشرُ. وفيها «الجَبَلاية»، هذا الجبل المسحور، تدخل منه إلى مسارب منحوتة في الصخر ولا صخر، وكهوف تتسلل فيها العيون ولا عيون، وقاعات في باطن الأرض كأنما هي أحلام شاعر قد تحققت وأمنيّة حالم قد تجسَّمَتْ، وطرق ظاهرة وخفية تنقلك في خطوات من حر الصيف إلى برد الشتاء، ومن جلوات الطبيعة في

أعراس الربيع، إلى خلوات النفس في نشوات الرؤى ... تلك هي «حديقة الحيوانات». وهي -بعد هذا كله- معرض للإنسان، ترى فيه طباعه وأزياءه وخلائقه ولغاته، تسمع فيه أشتات الملاحظات وعجائب التعليقات، تمشي مع الناس فتجد فيهم من يسير على هدى فيرى كل شيء ويقف عليه، ويخرج وما فاته مشهد ولا ناله تعب، ومن يدع اللوحات الدالّة على الطرق والحرّاس المرشدين إلى المسالك ويسير على غير الطريق، فيدور دوران السّانية، فيُتعب نفسه ولا يبصر شيئاً ولا يخرج بفائدة، فكأنه الرجل الضالّ الذي يترك هَدْيَ الأنبياء وحكمة الحكماء، ويتبع عقله الأعوج وهواه، فلا يسعد في دنياه ولا يسلم في أخراه. وتمرّ على حرّاس الحيوانات فتجدهم قد فرقت بينهم الحظوظ إذ ساوت بينهم الوظيفة، فحارس القرد والفيل والدب الأسمر يلعب حيوانه فيقف عنده الناس وتُلقى إليه القروش، فيتسلى ويتغنّى (¬1)، وحارس الخنزير لا يلتفت إليه أحد. * * * زرت الحديقة، ومشيت مع الناس أنظر كما ينظرون إلى أنواع الحيوان، وأرى فيهم أمثالها ولكنها قد تلفَّفَت بالثياب! ففيهم أسد له بطشته وإن لم تكن له لبدته، وفيهم ثعلب له حيلته وإن لم تكن له فروته، ودب له غلظته، وحمار له غفلته، ¬

_ (¬1) أي يستغني، ومنه «ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن».

وطاووس له خَيْلتُه (¬1)، وذئب له عدوته ... حتى وقفت على الأسد وهو يدور في قفصه متألماً في صمت، صابراً في استكبار، كأنه النابغة من الناس حبسوه في قفص من وظيفة صغيرة، أو إفلاس شامل، أو قرية منقطعة. يلحظ الناس بطرف عينه فيقول: آه لو كنت طليقاً في البادية يا?أيها الـ ... ـبشر! ورأيت الحارس يخرجه إلى مُتَنَزّهه، إلى القفص الضيّق بعد القَفْر الواسع والفضاء الرحيب، يُذِلّه بعصاه ويستطيل عليه بسوطه كما يستطيل الفرنسي اللئيم على المغربي الكريم ويُذلّه بسيف العدوان وقوة السلطان! (¬2) وسمعته يزأر مقيَّداً -كما يصيح المصلح في أمّة أفسدها التقليد- فلا يفزع من زئيره إلا الصبية الصغار، ولو زأر عند العرين لخلع هذه القلوب وزلزلها حتى قفزت من حناجر أصحابها. ووقفت عند الفيل، وقد تواضع حتى غرّ الناس منه لينه فنسوا شدته، وهان على أحدهم حتى أركبه صبيتَه، وصرّفه الفيّالُ واتخذه لعبته، كما يطيع الرجل امرأته فيضيع رجولته ويفقد منزلته! ووقفت على دبَّين متجاورين: دب أسمر صغير، وأبيض كبير قد اتخذوا له في قفصه من الجبس كهيئة الجليد، ووجَّهوا ¬

_ (¬1) الخيلة الخُيلاء والكِبْر. (¬2) خرجت فرنسا من الشام قبل كتابة هذه المقالة بسنة واحدة، لكنها بقيت في المغرب العربي مدة بعدها، فخرجت من تونس والمغرب سنة 1956، ثم تركت الجزائر أخيراً سنة 1962، بعد حرب دامية طويلة حافلة بالمآسي والأهوال (مجاهد).

مسكنه إلى الشمال حتى يظل بارداً لا تدخله الشمس، فيظنه موطنه، وموطنه هناك على حدود القطب الشمالي. ولكنهم لم يخدعوه؛ إنه ينظر فيرى قوماً لا يشبهون قومه، إذ لم تستعبدهم فئة قليلة منهم، ولم تظلمهم باسم العدل، ولم تخرسهم باسم حرية الكلام، ولم تملك دونَهم كلَّ شيء وتستمتع بكل متعة بشريعة ماركس ودين ديموس (¬1). يدور الأبيض النهارَ كله غضبانَ أَسِفاً لا يهدأ ولا يستريح فلا يصل إلى شيء، ويلعب الأسمر بكرة من الحديد ويراوغ الحارس ويُضحك النظّارة؛ كلاهما سجين، ولكن هذا ينسى سجنَه وذاك يذكره أبداً، كالناس: منهم من يذكر المصيبة ويُدنيها من خياله فيراها أبداً أمامه، ومنهم من يخادع نفسه في الحقائق فتصفو له الحياة. والأبيض -على جمال شكله ونعومة جلده- ثقيل سمج، والأسمر -على قبحه- لطيف خفيف، لأن الجمال جمال الروح لا جمال الجسد، فرُبَّ حسناء تنبو عنها القلوب، وغير ذات حسن تهواها الأفئدة وتعلق بها العيون. ووقفت على القردة، وهي تعيش العمرَ كله مجلسَ لهو ولعب، تقلد كما يقلد «قِرَدة» البشر، ولكنها تقلد فيما ينفعها وهؤلاء يقلدون فيما يؤذيهم! وعلى الببغاء وهي تردد ما يُقال بلا فهم، كهؤلاء الذين يعيدون علينا كل ما يقول الغربيون! وعلى الحيات وهنّ ناعمات الملمس ناقعات السم، كالصديق ¬

_ (¬1) «ديموس» باليونانية الشعب، ومنه اشتُقَّ اسم الديمقراطية.

المخادع، يُخالّك ليخاتلك، ويسقيك من قوله العسل وفيه من قبح مقصده الحنظل. * * * ومررت على فئات الحيوانات على اختلاف أشكالها وألوانها ومطاعمها ومشاربها ومن كل سائر أو سابح أو طائر: مما يحارب بمخلبه ونابه كالشجاع الأبيّ، وما يدافع بسُمّه كالنمّام المفسد، وما يقاتل بثقل جسمه كثِقال الروح من الناس؛ والقنفذِ وسلاحُه شَوكُه، كسليط اللسان بذيء المنطق؛ والسلحفاةِ وسلاحُها درعُها، كالمنطوي على نفسه المعتصم بصمته؛ والطاووس، وهو كالمرأة، سلاحه جماله وحسن منظره؛ والذي يعيش في الماء نظيفاً مطهّراً كالسمك؛ والذي يغتسل في اليوم عشر مرات كالدب؛ والذي لا يطيب له العيش إلا في الأوساخ والقاذورات كالخنزير، يلغ فيها كما يلغ المغتاب في أعراض الناس وينغمس انغماس الفاسق في حمأة الفجور؛ وسبع البحر، وهو أعلاها صوتاً وأضخمها زئيراً وأقلّها غناء وأضعفها قوة، كالجبان الفَخور والجاهل المدّعي؛ وما ينحطّ على فريسته من عَلٍ كالنسر، وما يأخذها قوة واقتداراً في وضح النهار كالأسد، وما يسلك إليها المسالك المظلمة ويتسلل صامتاً خلال الحجارة وفي أصول الجدران كالحيّات؛ وعلى الغزلان والعصافير، وهي أبهى الحيوان، فلا يقف عليها أحدٌ لكثرتها ويقفون على حيوان قبيح لأنه نادر، لأن قيمة الشيء بنُدرته لا بمنفعته، ولولا ذلك لما كان الهواء أرخص شيء والألماس أغلاه! حتى مررتُ على طائفة من الحمير محشورة في زريبة،

طائفة من حمير الشارع تأكل وتهز أذنابها، تتلفّت ترقُب العصا تنهال عليها كما يرقب الذليل المهانة ويعجب إن افتقدها، فلمّا لم تَرَها وعرفت أنها في أمان منها بطرت بطر حديث النعمة وترفّعت ترفّعَ اللئيم يسود في غفلة من الدهر، ونسيت ما كانت فيه كما ينسى غنيّ الحرب عهد الفقر، ويأنف من السيارة الفورد وكان لا يجد عربة الكارّو، ويُدخل أولاده المدارس الأجنبية وكان لا يعرف طريق الكُتّاب! يستخشن الخزَّ حين يلبسه ... وكان يُبرَى بظفره القَلَمُ وفكرَتْ هذه الحمير وقدّرتْ، فانتهى بها التفكير إلى أنها لم تعد حميراً وإنما صارت بشراً. أليس في البشر حمير؟ فلماذا لا يكون في الحمير بشر؟ ومرَّ حمار مسكين يجر عربة مثقلة بالحشيش لطعام حيوانات الحديقة فنظر إليها، فلما رآها أجفل وارتدّ. ما هذا؟ حمير مثله؟ إنه يفهم أن يكون في الحديقة نسور وصقور، وفهود ونمور، وزَرافات ونَعَام، وأن يكون فيها حمير الوحش لأنها غريبة المنظر، بعيدة الموطن، نادرة الوجود، أما أن يكون فيها حمير مثله تُسمَّن وتُخدم ولا تعمل، فهذا ما لا يفهمه أبداً! ووقف ونهق لها يحييّها، فترفعت عنه وتألمت من تطاوله عليها، ومدَّت شفاهها الرقيقة، وضمت آذانها الصغيرة، ولوّحت بأذنابها استنكاراً واستكباراً، ونسيت أصلها وتجاهلت أخاها، كما يفعل الموظف الصغير الذي يعيش بمال الأمة إذا وقف عليه أحد أبناء الأمة يسأل حاجة، إنه يظنه يسأل صدقة أو يطلب إحساناً!

أو الشرطي حين يلقى البائع السيّار من أهل بلده، وترجمان المستشار حين كان يقابل واحداً من بني قومه (¬1). فلما رأى ذلك منها بصق ومشى، يلعن الحظ الذي جعل «الحمير» سادة وأقام «الناسَ» لهم خدماً وخولاً! وبكى على خلائق «الجنس الحماري»: لقد ضاعت تلك الخلائق وهبطنا حتى صرنا مثل بني آدم، لا نعرف أقدار أنفسنا ولا أقدار إخواننا! * * * وجعلت أعاود الحديقة وأكرر زيارتها، فأرى هذه الحمير محشورة في الزريبة، تأكل وتشرب وتتعجب: لماذا لا يقف عليها أحد؟! إنها لا تلعب لعب القردة ولا تغنّي غناء البلابل، ولا تملك هيبة السبع ولا ضخامة الفيل، ولكنّ لها فنَّها وجمالها. وما الفرق بينها وبين غيرها؟ ألا يقرأ الناس لأدعياء الرمزية ولُصَقاء الأدب ولصوص البيان كما يقرؤون لأئمة البلاغة وملوك الكلام؟ ولكن هذه الفلسفة لم تقنع أحداً، فظل الناس معرضين عنها لا يحفلون بها. وماذا يبتغون منها؟ وهل قَلَّت الحمير حتى ما تُشاهد إلا بقرش صاغ؟ إن الحمار يبقى حماراً ولو وضعته في القصور وأركبته السيارات، وكسوته الحرير وأطعمته الفستق المقشَّر! ¬

_ (¬1) ذلك أمر قد مضى وانقضى بانقضاء الاستعمار، يوم كان الفرنسيون في الشام، ولهم في كل وزارة مستشار هو الحاكم الحقيقي والوزيرُ حاكمٌ من ورق، وكان لكل مستشار ترجمان من أبناء البلد، إلا أن ولاءه للمستعمر وقلبه مع الاستعمار. وكذلك تجد في كل أمة مَن يبيع نفسه لأعداء الأمة بالسعر القليل! (مجاهد).

حتى كان أمس، فرأيت القائمين على الحديقة قد عزموا على إخراج هذه الحمير منها كي يوفروا على أنفسهم ثمن طعامها، وينتفعوا بجهدها وعملها، ويجمّلوا الحديقة بإبعادها عنها ... فعلمت أن هذه آخرة كل «حمار» يتجاوز قدره وينسى أصله، فليعتبر سائر «الحمير»! * * * يا سيدات ويا سادة: العفوَ إذا لم أجد ما أحدثكم به إلا حديث الوحوش والحمير، فالحديث عنها أكثر فائدة وأسلم عاقبة من أحاديث الناس. والسلام عليكم ورحمة الله. * * *

لا أؤمن بالإنسان

لا أؤمن بالإنسان (¬1) نشرت سنة 1946 ويدعو الإنسانُ بالشرِّ دُعاءَه بالخير، وكان الإنسانُ عَجولاً. وكان الإنسانُ كَفوراً. وكان الإنسانُ قَتوراً. وكان الإنسانُ أكثَرَ شيء جَدَلاً. وخُلِقَ الإنسانُ ضَعيفاً. قُتِلَ الإنسانُ ما أكْفَرَه. يا أيّها الإنسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّك الكريم؟ وإذا أنعَمْنا على الإنسان أعرضَ ونأى بجانبه. وإذا مَسَّ الإنسانَ الضرُّ دعانا لِجَنْبه أو قاعداً أو قائماً، فلما كشفنا عنه ضُرَّه مَرَّ كأنْ لم يَدْعُنا إلى ضُرٍّ مَسّه. وإنّا إذا أذقنا الإنسانَ منّا رحمةً فرح بها، وإن تُصبْهم سيّئةٌ بما قدّمَتْ أيديهم فإنّ الإنسان كَفورٌ. إنّ الإنسانَ خُلِقَ هَلوعاً، إذا مَسَّهُ الشرُّ ¬

_ (¬1) كتب الأستاذ عبد المنعم خلاّف -في شرح دعوته إلى الإيمان بالإنسان- كتاباً كبيراً قيّماً. وناظرناه أنا والأستاذ محمود شاكر فيها ساعات طوالاً السنة الماضية في داره ودار الأستاذ الزيات ودار الأستاذ شاكر، وتكلمنا فيها في دار الدكتور عزام. وليس عندي جديد لم أقله يومئذ فأقوله اليوم، وما أظن أن عند الأستاذ جديداً فيها لم يكتبه في كتابه، فلست أجدد اليومَ هذه المناظرة، ولكن أذكّر الأستاذ بما لم ينسَه من حكم الإسلام في هذه المسألة، وأبيّن له لِمَ لا أؤمن (أنا) بالإنسان! والأستاذ خلاّف صديقي ورفيقي في دار العلوم سنة 1929.

جَزوعاً، وإذا مَسَّهُ الخيرُ مَنوعاً، إلاّ المصلّين الذين هم على صَلاتِهم دائمون. إنّ الإنسانَ لَكَنودٌ. كلا، إنّ الإنسانَ لَيَطْغَى أنْ رآه استغنى. كلامُ مَن هذا يا أخي عبد المنعم؟ أفبعدَ قول الله مقال لقائل؟ وإذا كان الله الذي خلق الإنسان على أحسن تقويم وكرَّمه وعلَّمه البيان يقول إنه ضعيف هَلوع، جَزوع من الشر مَنوع للخير، منكر للنعمة، كَفور قَتور كَنود عَجول جَدِل، يَطغى إذا استغنى، وإن هذا كله في طبيعته وتركيبه، تريد أن أؤمن به؟ وبِمَ أؤمن؟ إنّ ها هنا محذوفاً لا بد من تقديره، فالإيمان هو التصديق، ونحن إذ نؤمن بالله نصدّق بوجوده واتصافه بكل صفة خير وننزّهه عن كل صفة شر، فماذا تريدني أن أصدق حين أؤمن بالإنسان؟ أبكماله النسبي وسموّه وأنه مخلوق خَيِّر؟ إذا كان هذا هو المراد فأنا أؤمن، ولكن بالإنسان الذي أصلح إنسانيتَه بالإيمان والعمل الصالح، فإذا لم يفعل عادت هذه الإنسانية خُسراً لصاحبها ووَبالاً عليه، وكانت «حمارية» الحمار و «كلبية» الكلب خيراً من هذه «الإنسانية» في الدنيا وأنجى منها من العذاب في الآخرة! ولست أنا الذي يقول هذا الكلام وليس هذا رأياً أراه، ولكنه قول ربك الذي أقسم عليه ورب هذا الإنسان: {والعَصْرِ، إنّ الإنْسانَ لَفي خُسْرٍ، إلاّ الذينَ آمَنوا وَعَمِلوا الصّالِحَاتِ وَتَواصَوْا بالحَقِّ وَتَواصَوْا بالصَّبْر}. فإذا كنت تؤمن بالإنسان الذي أدرك ما خُلق له فسعى إليه، وعرف الله فأطاعه، فأنا معك. وإذا كنت تؤمن بالإنسان من حيث كان إنساناً فلا يا أخي؛ إني لم أجد دواعي هذا الإيمان. وهذا

تاريخ الإنسانية كله: نَحِّ منه الأنبياء ومَن ساروا على هديهم وأصلحوا فساد إنسانيتهم بشرائعهم، ثم انظر ماذا بقي، وقل لي: أين الإنسان الذي تؤمن به؟ الإنسان الذي قتل أخاه وتركه في العراء حتى علّمه غرابٌ أسود كيف يواري سَوْأةَ أخيه؟ أم الإنسان الذي ارتقى حتى صار يقتل بالقنبلة الذرية الآلاف من النساء والولدان لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، ولم يذنبوا ذنباً ولا أعلنوا حرباً؟ أم الإنسان الذي استغل هذه الحرب، وهي مأتم الإنسانية، فأخذ اللقمة من فم المرأة التي سيق زوجها إلى القتال والولد الذي أُخذ أبوه إلى الحرب، حتى إذا ماتوا من الجوع لبس الحرير ودان بالفجور، ورقص على جثتهم في هذا المأتم الباكي؟ أم الإنسان الذي يخون عهده وينسى الخبز والملح على حين تفي الكلاب؟ أم الذي يجزع ويضيق صدره ويبيد صبره على حين تصبر الحمير؟ أم الذي يُشقي غيرَه ليُسعد نفسَه، على حين يتعاون النمل والنحل على ما فيه خير الجميع؟! الإنسان الذي انفرد دون سائر الأحياء من ملائكة وحيوانات بالكفر بالله، لا يشاركه هذا الشرف إلا الشياطين، وهم كفار الجن، على حين يسبّح بحمد الله كل شيء؟ أهذا الذي تؤمن به؟ وأين دواعي الإيمان حتى أؤمن مثلك؟ دُلَّني عليها -يا أخي- فإني لا أراها. إني لأتلفّت حولي فلا أكاد أرى إلا آكلاً الدنيا باسم الدين، أو شارباً دمَ الوطن باسم الوطنية، أو سارقاً أموالَ الناس باسم التجارة، أو حافراً بئراً لأخيه وهو يبسم له بسمة الإخاء، أو متعالياً على الناس باسم الوظيفة وهو أجيرهم، أو أستاذاً يستغلّ منصب التعليم (وهو من عمل الأنبياء) ليعتدي على

عفاف تلميذته، أو طبيباً يسطو على عِرض مريضته أو ممرضته، أو محامياً يأخذ أجرة الوكالة من جمال موكِّلته، وامرأة تخون زوجها، وزوجاً يخالف إلى غير امرأته، وكلٌّ يكذب بقوله وعمله ويُظهر غير حقيقته، والكبير يأكل الصغير كما تأكل الحيتان السمك ويتربّص به ليلدغه كما تلدغ الحية ... فأين الإنسان الذي نؤمن به يا أخي؟ إني لأقوم على الطريق فأنظر فلا أكاد أرى إلا ذئباً يلبس الثياب ثم يسطو كما تسطو الذئاب، أو ثعلباً يحتال مثل الثعالب، أو ثعباناً ناعم الملمس ناقع السم، أو ضفدعاً لها صوت الثور ولكن لا تجرّ المحراث، أو ضَبُعاً تأكل أجساد الموتى، أو جرثومة فتّاكة تفسد في الخفاء، فأقول: سامح الله عبدَ المنعم! أهؤلاء هم البشر الذين يؤمن بهم؟! وأنقل البصر إلى ديار المتمدنين، فلا أرى مدنيّتهم إلا أظافر من حديد ومخالب من فولاذ كأظافر الوحش ومخالبه، ولكن الوحش يفترس ليعيش هو، وهؤلاء يحاربون لئلا يعيش غيرهم! ووجدتهم استخدموا قوى الطبيعة ولكن للشر، واستعملوا عقولهم ولكن في الضلال. وهذه طبيعة الإنسان، فلا تقل إن كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو يمجّسانه، فإن هذا حجة لي، لأن أبوَي المولود من البشر، فإذا كانا يُفسدان الفطرةَ فلأن الإفساد من عمل الإنسان. ما عرفنا حيواناً يُفسد فطرة الله في وليده، لا سبعاً ولا قطاً ولا دودة ولا طائراً! أوَليست نفس الإنسان يا أستاذ أمّارةً بالسوء؟ أليست أخت الشيطان: تُصَفَّد الشياطين بالأغلال في رمضان فتخلفها نفوس بني آدم، فتعمل عملها وتفسد فسادها وتوسوس وسواسها: {فَوَسْوَسَ إليه

الشّيْطانُ}، {ونَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ به نفسُه}، {إنّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بالسوء}. وما نفس الإنسان؟ إنها طبيعته التي طبعه الله عليها. * * * وما دام كلانا -والحمد لله- مسلماً، فعلامَ نختلف في حكم من أحكام الإسلام، وهو أن هذه الحياة الدنيا طريق له غاية خلق الله الناس لها: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلا لِيَعْبُدونِ}، وأن مَن يحرص على راحته في سفره ويتخيّر لذلك الزاد والمركب ولا يكون له مقصد من السفر، لا المنفعة ولا المتعة ولا السياحة، فهو أحمق! وأن كل عمل يعمله من لا يؤمن بالله وكل اختراع يخترعه سراب بِقيعة، لا يزيده من الله إلا بعداً، ولا يكون في نظر الإسلام إلا دليلاً على جهله وضلاله وخساره. أيستطيع مسلم -يا أستاذنا عبد المنعم- أن ينازع في هذا؟ فما النتيجة؟ هي أن الإنسان شرّ الدواب في الدنيا وأخزى المخلوقات يوم القيامة، ما لم يطهّر نفسَه بالإيمان ويُصلح فسادَ نفسه بالاتصال بالله. وهل أدلُّ على ندرة الحق والخير والجمال في عالم الإنسان من كونه جعلها مُثُلاً عليا، ومطمحاً من المطامح البعيدة، وأملاً من الآمال النائية؟ ولو كانت خلائقَ راسخة فيه وكانت طبيعة ملازمة له ما جعلها كذلك. فلو كان صادقاً ما كان يمدح الصادق بصدقه ويعجب منه أن لازمه وأقام عليه، ولو كان وفيّاً ما كان رابع المستحيلات عنده «الخِلّ الوفيّ»! إنما يطمح المرء إلى ما لا يملك، وإن مئة الدينار من الذهب هي «مَثَل أعلى» للفقير

المفلس، ولكنها عند الغني حقيقة تافهة. * * * ألا إني أؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء خيره وشره، ولكني لا أؤمن بإنسانك هذا! فهل عليّ من الله من شيء؟ إذن فليقل الناس عنّي ما شاؤوا! * * *

حكمة القدر

من أحاديث الإذاعة حكمة القدر نشرت سنة 1948 دخل علينا أمس -وكنا جماعة في المجلس- صديق لنا، فقال إن ابنة الأستاذ حبيب زحلاوي قد سقطت من الطبقة السادسة إلى الشارع! فارتعنا جميعاً وأعظمنا الخَطْب، وكنا نعرفها طفلة حلوة ملء إهابها الطهر والجمال والنشاط، فلم نستطع أن نتصورها وهي مِزَق من اللحم قد اختلط بعضُه ببعض. ووجَمْنا، وكانت سكتة لم يقطعها إلا ضحك صديقنا المخبر، فعرفنا أنها مزحة ثقيلة من مزحاته وأقبلنا عليه نسبّه ونشتمه، فقال: والله ما كذبت عليكم، لقد وقعت من الطبقة السادسة، ولكنها لم تُصَبْ بشيء، وهي سليمة. فصرخنا جميعاً: سليمة؟ قال: نعم والله. ألا تصدقون؟ إنها وقعت على حبال الغسيل الممدودة بين الشرفتين حيال الطبقة الخامسة، فعاقتها قليلاً، ونفذت منها إلى حبال الطبقة الرابعة، وما زالت تمر من حبال إلى حبال، حتى إذا بلغت الشارع كانت سقطتها على كومة من الرمال صَبَّتْها سيارة صباح ذلك اليوم، فلم تصب بأذى

ومضى يحلف ويؤكد الأيمان أن الذي يرويه هو الصدق والحق، وأن صبياً لصديق آخر (لا أسمّيه لئلا أسوءَه واذكِّره بمصابه) وقف على مكتب أبيه يلعب، فرأى صورة معلقة بالجدار، فوثب يريد أن يصل إليها فوقع على أرض الغرفة، وكانت من البلاط، وكانت السقطة على يافوخه، فمات لساعته. وقال معلّقاً ومتفلسفاً: ففيمَ إذن نفكر وندبر ما دام لا ينفعنا فكر ولا يفيدنا تدبير؟ ولِمَ لا ندع الأمور للقدر ونتركها تجري على أعنّتها كما يريد لها مُجريها، ما دمنا لا نملك أنفسنا ولا نعرف مصائرنا، وما دام هذا الكون كالمعمل الضخم المشتبك الآلات المتعدد الحركات، وما نحن إلا مسمار صغير فيه نسير كما يسيّرنا مهندسه الأعظم؟ وأسرع واحد منا فقال مصدِّقاً: نعم، ولكنّا خُلقنا للشقاء، وأُقمنا هدفاً للمصائب، ووُضعنا في دنيا ما فيها إلا الآلام. مَن سلم منها اليوم وقع غداً، ومَن لم يَمُتْ ولده من سقطته مات من علّته أو مات وهو صحيح معافَى، ما من الموت بُدٌّ، ولا بُدّ قبل الموت من البلايا والمتاعب. وتكلم ثالث يرى نفسه من كبار العقلاء، فأنكر القدر وجحد المقدِّر، وزعم أن الحياة ليست إلا عجينة في يدك أنت تديرها وتصوّرها، فإن صنعت منها تمثال غادة جميلة كان لك جمالها، وإن عملت منها هولة قبيحة كان عليك قبحها. إن مرضت فمن إقلالك الغذاء وإهمالك التوقّي، وإن دُعست (¬1) فمن تركك ¬

_ (¬1) الدعس من العامي الفصيح.

الحذر، وإن افتقرت فمن قعودك عن السعي ... وأمثال هذا الكلام. فقلت له: فلِمَ وُلد هذا في دار علم وتهذيب فتعلم وعرف سبل الوقاية وخطر الأمراض، ونشأ ذاك في بيت جهل وفساد فشبّ جاهلاً فاسداً لا يعرف كيف يتّقي الداء؟ ولماذا دُعس هذا من قلة حذره، وسلم من هو أقل منه حذراً وطريقه أشدّ خطراً؟ ولماذا يسعى الرجل حتى تنقطع من السعي أنفاسه ويرجع ولم يصل ولا إلى مثل خُفَّي حنين، وتأتي الأموال لآخَرَ بلا سعي ولا طلب؟ ولماذا يُتاح لهذا النابغة أن يظهر نبوغه حتى يكون اسمه تسبيحاً على كل لسان وعنواناً في كل كتاب، ويُجهل من هو أحدّ منه ذكاء وأكبر موهبة وأظهر استعداداً للنبوغ؟ ولماذا؟ ولماذا؟ وألف «لماذا»، لو شئت لسقتها لك فما استطعت الجواب على واحد منها. فما أنت في الوجود؟ هل تسيّر أنت الفلك على هواك؟ وهل تسوق الكون إلى غايتك؟ هل أنت إله؟ إنك ما كوّنت نفسك ولا شققت بيدك سمعك ولا بصرك. قال: فهل ترى أنت أن الإنسان مسيَّر؟ قلت: ما مسيَّر وما مخيَّر؟ وما هذه الفلسفة الفارغة؟ لقد اشتغل بها البشر من يوم بدؤوا يفكرون واختلفوا عليها وتجادلوا، ولا يزالون يختلفون ويتجادلون لم يصلوا إلى شيء. وإنما تاهوا في بَيداء لا أول لها ولا آخر، وهاموا على وجوههم في مَهْمَهٍ متشابِهِ الأرجاء بلا أمل ولا رجاء، فذهب هذا ينكر القدر ويزعم أن الحياة ملك الإنسان وأحداثها صنع يديه، وراح ذاك ينكر

إنسانيته ويجحد نفسه، ويراها مسماراً في آلة الكون وحجراً في جبل يدور مع الأرض أنّى دارت. وكان هذا متشائماً لا يرى إلا الذي وقع عن الكرسي فمات، فاعتقد أن الدنيا دار المصائب، وكان ذلك مغروراً لم يبصر إلا التي وقعت من الطبقة السادسة ولم تمت، فحسب أنه يسلم من كل أذى. ونحن مع القدر بَشر، لا آلهة ولا حجر، والدنيا ليست مسرّة كلها ولا مصائب، ولكنها مسرّة وكدر. وأنا كلما فكرت وذكرت ما رأيت من الحوادث بعيني ازددت يقيناً بأن أكثر الناس لا يعرفون سرّ الإيمان بالقدر. رأيت الترامَ مرة وقد انكسر مقوده فانحطّ من المنحدر الهائل عند الجسر (¬1) في دمشق، وكانت امرأة واقفة بين خطَّيه بعد المنعطف، فلما رأته مقبلاً كالموت النازل سُمِّرت رجلاها -من فزعها- بالأرض، وجمدت ولم يجرؤ أحد أن يدنو لإنقاذها فيموت معها، والوقت أضيق من أن يتسع لشيء، فأغمضوا عيونهم حتى لا يروا. فلما وصلت الحافلة إلى المنحنى تركت الخط وسارت قُدماً، فصدمت جداراً من اللبن الضعيف، ومرت منه إلى قوم في دارهم فقتلتهم! ورأيت مرة بعيني شباباً يمشون تحت فندق عدن بالاس في دمشق، فرفع أحدهم رأسه فجأة فرأى شيئاً يهوي قد صار حيال ¬

_ (¬1) الجسر الأبيض، موضع على السفح من قاسيون تحت جادة العفيف، كان فيه فيما مضى جسر على نهر تورا، ثم غُطِّي النهر فزال الجسر وبقي الاسم (مجاهد).

بصره، فتناوله بيده، وإذا هو صبي رضيع وقع من شباك الفندق. وهبطت أمه كالمجنونة، وهي امرأة من حماة، فرأته سالماً! ورأى غيري حوادث مثل هذه الحوادث، وفي كتاب «الفرج بعد الشدّة» للقاضي التنوخي مئات من القصص عمّن نجا وهو في لُجّ الهلاك، وفي كتاب الحياة آلاف من الأخبار عَمّن هلك وهو على بر النجاة. فما سر هذه العجائب؟ وكيف عاشت المرأة وقد فرّطت وعرّضت نفسها للموت بسيرها بين خطيّ الترام، ومات قوم اتخذوا كل أسباب الوقاية، فدخلوا دراهم وأغلقوا بابهم، فشق الترام الحائطَ ودخل عليهم فدعسهم؟ وكيف وقعت البنت فلم تمت، وتموت كلَّ يوم مئاتٌ من البنات بغير وقوع؟ إن هذا هو السر الذي لا يعرفه أحد، فلا تحاولوا كشف سر القدر، ولكن استفيدوا من حكمة القدر؛ وهذا ما سقت له حديثي. * * * ستقولون: وماذا نعمل؟ هل ندع أولادنا يسقطون من الشبابيك لا نبالي لأنها إن كانت لهم حياة فسيبعث الله لهم حبالاً تمسكهم أو رجالاً تتلقاهم، ولنقعد عن السعي لأنه إن كان لنا رزق فسيأتينا بلا سعي؟ لا يا سادة، ما هذا طريق فهم القدر ولا هذه حكمة القدر. صحيح أن الرزق مقدَّر، فهذا وُضع رزقه على مكتبه، فما

عليه إلا أن يقعد على كرسيه ويمسك قلمه، ويكتب اسمه الكريم كلَّ نصف ساعة مرّةً على أوراق تُعرَض عليه، وهو يشرب قهوته ويدخن دخينته، فيأتيه الرزق. وآخر وُضع رزقه في رأس الجبل عليه أن يصعد إليه، أو في بلد بعيد عليه أن يمشي إليه، أو في باطن الأرض ينزل إليه، أو في جوف البحر يغوص فيه، أو في جيوب الناس يأخذه منها ليُقبَض عليه، فيتحول رزقه إلى السجن! كلٌّ يأكل لقمته، ولكن من الناس من تجيئه اللقمة في صَحْفة من الفضة، ومن يأكلها مغموسة بالدم، أو مبلَّلة بالعرق، أو ملطَّخة بالوحل. لا، لا تقل: ما سر القدر؟ فما كشفه صاحبُه لأحد. ولكن ما دام الأمر مجهولاً فاسْعَ أن تأكل أنت لقمتك بطبق الذهب، وجدّ وابذل الجهد، فإن لم تصل إلى ذلك وصلت إلى الرضا والتسليم بحكم القدر، وتلك هي حكمة القدر. والأجل محدود، لا يدفعه -إذا حضر- حذرٌ ولا يضر -إن امتد- خطر، وقد يموت الشاب الصحيح ويعيش الشيخ العليل، ويهلك المعتصم بسبعة أسوار ويسلم الجندي الذي يقتحم النار. أعرف رجلاً من أبطال الثورة السورية رمى نفسه على الموت خمسين مرة، فكان الموت يَروغ من تحته ويهرب منه، ثم انتهت الثورة ونام في فراشه، فاختصم اثنان من السكارى، فأطلق أحدهما رصاص مسدسه، فأصاب خطأً رأس صاحبنا الذي نام فما قام. وروى ابن الجوزي أن رجلاً أغمي عليه، فحسبوه مات، ونصبوه على السرير وجاؤوا بالمغسِّل ليغسله، فلما أحس برد الماء تيقظ ونهض، فارتاع المغسل وسقط ميتاً

فلا تسأل ما السر، ولكن جاهد في سبيل الله وناضل عن الحق، ولا تخف الموت في جهادك ونضالك لأن الأجل محدود، فقد تعيش مئة سنة ولو خضت غمرات الموت. فاعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لأخراك كأنك ميت غداً، فتكون قد ضمنت لنفسك الدنيا والآخرة، وهذي حكمة من حِكَم القدر. * * * فالإيمان بالقدر حياة لأنه يفتح لك في كل ظلمة شعاعَ ضياء، وفي كل عسرة بابَ رجاء، ولولا الرجاء لمات المريض من وهمه قبل أن يُميته المرض، ولقُتل الجندي في الحرب من خوفه قبل أن يقتله العدو، ولولا الرجاء ما كانت الحياة. ولو تُركت الأمور لاحتمالات العقل وقوانين المادة لما استطعت أن تتنفس الهواء أو تشرب الماء خشيةَ أن تكون فيه جرثومة داء، ولا ركبت سيارة لاحتمال أن تُصطدم، ولا صعدت بناء لإمكان أن ينهدم، ولما استولدتَ ولداً لأنه قد يموت، ولا اتخذت خليلاً لأنه قد يخون، ولما اطمأننت على مال لأنه قد يُسرق، ولا دار لأنها قد تُحرق. والإيمان بالقدر راحة، لأنه لو كان الفشل من عملك وحدك وكان النجاح من صنع يدك لقطعت نفسك أسفاً إن فشلت أو سُبِقت. والإيمان بالقدر عزاء، لأنك إن قُدر عليك بالمصاب بولد فاحمد الله، ففي الناس من أصيب بولدين، وإن خسرت ألفاً

ففيهم من خسر ألفين. فهل عرفتم الآن ما حكمة القدر؟ هي أن نَجِدّ ونعمل ونسعى ونبذل الجهد، ثم لا نحزن إن فشلنا ولا نيأس إن لم نصل إلى ما نريد. وأن نكون مع القدر كمن يجتاز طريقاً فيه السيارات المزدحمات، فإن ذكر حوادثها وأخطارها وحدها لم يستطع أن يتقدم خطوة، وإن اعتقد -من غروره- أنه يستطيع أن يردّ عنه السيارة المقبلة ويدفع الخطر الآتي لم يسلم، ولكن إن انتبه وسار بحذر فهذا هو العاقل، ثم إن نجا حمد الله أنْ قدّر له النجاة، وإن أُصيب ذكر أنه لم يقصِّر، وإنما هو حكم القدر. * * *

بين الطبيعة والله

بين الطبيعة والله نُشرت مستهلّ سنة 1938 انصرف الطلاب إلى النوم حين سمعوا الساعة الكبيرة تطنّ عشرَ طَنّات، وخَلَتْ ردهة المكتبة ونشر عليها الصمتُ أجنحتَه السود، فلم أكن ألمح في خلاله إلا رنين طنّات الساعة وأصداء أصوات الطلاب الذين كانوا هنا منذ لحظة واحدة يتسامرون ويتحدثون، ترنّ هذه الأصداء في أذني، فإذا أنا أراها بعيني تتراقص بين طيات الصمت الأسود حتى تنحدر إلى أغواره العميقة، ويشمل السكوت الرهيب أبنية التدريس في كلية بيروت الشرعية، ويتمدد في أنحائها وغرفها وممراتها (¬1). ¬

_ (¬1) أمضى جدي رحمه الله سنة 1937 في بيروت مدرّساً في كليتها الشرعية. وقد وصف في ذكرياته الجوَّ النفسي الذي كان فيه يوم كتب هذه المقالة، فقال: "في مستهلّ عام 1938 كنت مدرّساً في الكلية الشرعية في بيروت التي تُدعى الآن «أزهر لبنان»، فكتبت مقالة طويلة فيها فلسفة وفيها فكر وفيها شعور، وفيها كلام جميل فارغ من الفكر ومن الشعور، وصفت فيها كيف دقّت الساعة آخر دقاتها في عام 1937 وانتهت بانتهائها الدروس في ذلك اليوم، فابتدر الطلابُ الأبوابَ وبقيت وحدي أصغي إلى خرير نهر الزمان من وراء جدار الصمت" ... انظر الذكريات: 3/ 245 وما بعدها (مجاهد).

فجلست أصغي إلى أناشيد الصمت التي كانت تُسمَع من حولي باستمرار، فأجدها تملأ قلبي مرارةً وأسى. ثم رفعت رأسي فُجاءةً إلى التقويم فنظرت فيه وجمد بصري عليه. أمن الممكن هذا؟ أيحدث هذا كله في هدوء؟ يموت في هذه الليلة عامٌ ويولَد عام، يمضي الراحل بذكرياتنا وآلامنا وآمالنا إلى حيث لا يعود أبداً، ويُقبل القادم فاتحاً ذراعيه ليأخذ قطعة من نفوسنا وقسماً من حياتنا، ولا يعطينا بدلاً منها شيئاً. وهل الحياة إلا أعوام فوق أعوام؟ وهل النفوس إلا الذكريات واللذائذ والآلام؟ وجلست بين المأتم والمولد أفكر وأتذكر وأحلم. ولقد تعودّت أن أجلس هذه الجلسة كلما تصرّم عام، أُصفّي حسابي مع الحياة، أنظر ماذا أخذَتْ وماذا أعطَتْ، وأراقب هذه القافلة من السنين التي بدأت مسيرها منذ ... منذ بدأ الزمان، ولست أدري متى بدأ الزمان، والتي تنتهي إلى حيث لا يدري أحد. تعودّت أن أعطي نفسي من فكري ساعة في العام، أفكر فيها في نفسي وفي الوجود (¬1). * * * نظرت فلم أجد حولي إلا كتاب التفسير أحضّر منه درسي ¬

_ (¬1) انظر المقالة الأولى في هذا الكتاب، وانظر فيه أيضاً مقالة «بيني وبين نفسي»، وانظر في كتاب «من حديث النفس» مقالات «على أبواب الثلاثين» و «على عتبة الأربعين» و «بعد الخمسين»، وفي «الذكريات» حلقات متفرقة في المعنى نفسه، انظر منها -على سبيل المثال- الحلقة 106، وهي في الجزء الرابع (مجاهد).

الذي سألقيه غداً، وكتب البلاغة التي أكسّر بها دماغي وأدمغة الطلاب من غير طائل، فنحّيتها كلها. ووجدت ركام «الوظائف» التي يجب عليّ أن أنظر فيها وأصححها، وأقرأ كل ما تفيض به هذه القرائح الفتيّة من سخف وهُراء يدعوه أصحابه «إنشاء»، فبعثرتها في غيظ وحنق. أنا في هذا البلاء منذ عشر سنين. عشر سنين، يا له من دهر طويل! كان ربيع حياتي وزهرة شبابي، أضعته كله في هذا العناء، فماذا استفدت؟ لا شيء إلا أنْ أحرقت نفسي كالشمعة لأضيء لهؤلاء الفتية طريقَهم إلى المجد، هؤلاء الذين أحببتهم وأخلصت لهم الحب، وعشت بهم دهراً ولهم، واعتصرت لهم ماء شبابي، ثم فرّق الزمان بيني وبينهم، فلم أعرف مكانهم من الشام أو العراق، ولم يعرفوا مكاني لأنهم لم يفكروا في أن يعرفوه. فأنا أحترق كالشمعة! يا للحقيقة المرّة المروِّعة! يا لشمعة شبابي التي ذوت وخبت وأوشكت أن تنطفئ! إني أعيش في العدم، أعيش في الماضي بالذكرى وفي المستقبل بالأمل، مع أن الحاضر وحدَه هو الموجود. لقد مضى الأمس إلى حيث لا رجعة، ولن يأتي المستقبل أبداً. وأين هو هذا المستقبل؟ ومَن ذا الذي يستطيع أن يصل إليه؟ لقد جلست في مثل هذه الليلة من العام الذي يموت الآن في شرفة منزلي بالأعظمية (في بغداد) أحلم بالمستقبل، بهذه السنة التي كانت مستقبلي، أسعى إليها وأؤمل أن أدركها، فلما أدركتها صارت حاضراً وطفقت أعدو إلى مستقبل آخر! إنني كالثور يسعى ليدرك حزمة الحشيش التي يراها على شبر واحد منه، فيُهلكه السعي ولا

ينالها أبداً، لأنها معلَّقة بقرنَيه تسعى أمامه! يومض شعاع الأمل من بين فرج الغد، فنسعى فلا نجده إلا سراباً. إن الأمل مصباح لا يضيء إلا من بعيد. أفليس من سخافات الفكر الإنساني أن يضع في اللغة كلمة «الأمل» ولفظ «المستقبل»؟ أليس وجودهما في المعاجم دليلاً على أننا لم ندرك بعدُ حقائقَ الحياة؟ لقد كنت في الأعظمية غبياً جاهلاً لأني كنت مطمئناً متفائلاً! كنت كلما ودعت بالخيبة عاماً انتظرتُ آمالي عند آخر، ولكني صحوت الآن، فلا آسَفُ على ماضٍ ولا أؤمل في مستقبل. لقد قُدر عليّ ألاّ أشهد ولادة العام إلا غريباً عن موطني بعيداً عن أهلي، تارة في مصر، ومرة بالحجاز، وحيناً في العراق. وهأنَذا الآن غريب من جهتين: هذا السد الهائل من الجبال، جبال لبنان، بيني وبين إخوتي في دمشق، وهذا البحر الواسع بيني وبين أخي في باريس؛ والدهر والأبدية بيني وبين آمالي، والقبر بيني وبين والديّ (¬1) ... وأنا -بعد هذا كله- غارق في كتب البلاغة ¬

_ (¬1) كانت قد مضت ستُّ سنين على وفاة أمه يوم كتب هذه المقالة، وأخوه عبد الغني سافر إلى باريس من قريب (انظر مقالة «إلى أخي النّازح إلى باريس»، وقد مضت في هذا الكتاب)، وبقي له في الشام أخوان وأختان يزورهم في كل أسبوع يومين، قال في الذكريات: "كنت أقضي ثلثَي الأسبوع في بيروت وثلثه في دمشق"، وأخباره في بيروت في تلك السنة مبسوطة في حلقتَي الذكريات 103 و104 (في أول الجزء الرابع) (مجاهد).

ووظائف الإنشاء، نسيت مشروعاتي الأدبية التي رسمت خططها وأقمت أسسها، وأهملت بحوثي ومطالعاتي، وبعت ذكائي ومواهبي وشبابي برغيف من الخبز! هذا ما قُدر عليّ، وإني راضٍ بما قدر. * * * إني أعيش بلا غاية، ولكنّ غايتي أن أعيش، أن أثبت وجودي في هذه الدنيا، كتلميذ كسلان ما جاء ليتعلم ولكن ليُعَدّ في التفقد موجوداً، أو موظف خامل مقصِّر. فلماذا إذن أعيش؟ ألأن لي حق الحياة؟ فلماذا لا يكون لي إذن حق الموت؟ ألا أملك أنا أمر نفسي؟ ولكن من أنا؟ ومن نفسي؟ أأنا اثنان في واحد؟ إني لا أستطيع التفكير في هذا. وملأ نفسي الشعور بالوحشة، وأحسست في نفسي وفيما حولي فراغاً مخيفاً، وشعرت كأن الغرفة تتسع ثم تتسع حتى صار بين الجدران فضاء لا يدركه البصر! ثم ضاق بي الفضاء حتى كدت أختنق فيه، فخرجت إلى الشارع، وكان مَوْهناً من الليل. * * * تركت ميدان البرج يضحك بالكهرباء ويرقص على ألحان الأشعة التي تنسكب على الميدان من ذُرى البُنى الرفيعة، فتغمره بجو فاتن وتسيل على جوانبه، وتنسج فوقه شبكة منسوجة من ملايين الخيوط الملونة بمئات الألوان. وتركت الناس يحتفلون بعيد رأس السنة، لا يتأملون معاني الوجود وفلسفة الوجود

وحقيقة الزمان، بل يبتغون المُتَع الرخيصة واللّذائذ الواطية في هذه المراقص الخليعة الغارقة في الخمر والعهر. ويمّمت شطر البحر، أمشي في الطرق المظلمة المنعزلة الخالية إلا من أعقاب السابلة ممن هو حليف البؤس أو الرذيلة، لعلّي حين فقدت الأنس بالناس أجد الأنس بالطبيعة ... وخلا الجو لفكري فانطلق. قالت النفس: إن العام يموت، أفلا نودّعه بحسرة أو نسكب على جدثه عَبْرة؟ فلم يعرف العقل ما هو الموت ولم يصدق بوجوده. قال العقل: ما هو الموت؟ إنْ كان انتقالاً من حال إلى حال فليس موتاً، وإن كان الموت عَدَماً فإن العدم ليس له وجود أبداً. قلت: ولكن أبي قد مات. قال: لا، إنه لم يمت؛ إنك تذكره ويعيش حياً في ذاكرتك. قلت: إن العام يموت الآن! قال العقل: إن العام 365 يوماً وبعضٌ من اليوم هو خمس ساعات، و48 دقيقة وبعضٌ منها هو 51 ثانية، وبعض الثانية، فلنفرض هذا البعض 20 ثالثة، وبعض الثالثة، ولنفرض أنه 30 رابعة، وبعض الرابعة، فلنفرض هذا البعضَ 25 خامسة (¬1) ¬

_ (¬1) قياس الأزمان الدقيقة يمكن أن يكون بالثواني والثوالث وأجزائها، حيث تُقسَّم كل وَحْدة زمنية إلى ستين جزءاً من الوحدات الأصغر، ففي الساعة ستون دقيقة، والدقيقة ستون ثانية، والثانية ستون ثالثة والثالثة ستون رابعة، إلخ. وهذا الأسلوب في القياس غير=

وبعضاً ... وهكذا يمشي العقل حتى يصل إلى أصغر الأجزاء الزمنية، ولكنه لا يزال يمشي ولا ينتهي أبداً. إن عام الهجرة مثلاً لا تزال له بقية في الوجود، أجزاء من الزمن بالغةٌ في الصغر حداً لا يدركه العقل ولكن تدركه الذاكرة. إن هذه البقايا هي ذكريات الأعوام الماضية في نَفَس العام الجديد (¬1). قلت: إني لم أفهم شيئاً! وقفز عقلي فجأة من أجزاء الزمن الصغيرة إلى الزمان المطلق، وراح يمشي على هذا الخط الطويل يقطعه في لحظة، ولكنه لا يستطيع أن يبلغ طرفيه، فلا يَني يحاول بلوغَهما ولا ينقطع عن السؤال: إلى أين ينتهي هذا الخط؟ من أين يبدأ؟ أليست له نهاية؟ ما هي اللانهاية؟ وذهب العقل يفكر: إن عمر عشر حشرات ساعة من عمري، وعمر عشرة رجال ساعة من عمر الصحراء، وعمر الصحارى ¬

_ = شائع في الكتابات العلمية، بل الشائع هو التقسيم العشري للثانية (التي صارت هي وَحْدة الزمن القياسية في النظام العالمي «SI»)، فجزء من ألفٍ من الثانية هو ملّيثانية، وجزء من مليون منها هو مايكروثانية، والنانوثانية جزء من بليون، والبيكوثانية جزء من ألف بليون (تريليون)، ثم الفمتوثانية، فالأتّوثانية، إلخ. وقل مثل ذلك في قياس الكتلة: غرام وملّيغرام ومايكروغرام، والمسافة: متر وملّيمتر ومايكرومتر ... (مجاهد). (¬1) ليس لهذا التصوير الفلسفي معنى لأن الزمن كله ينقضي، سواء أكان طويلاً أم قصيراً، فإذا انقضت أيامُ العام المنصرم وساعاته ودقائقه، فلماذا لا تنقضي ثوانيه وثوالثه وروابعه؟ (مجاهد).

كلها ساعة من عمر الشمس ... فما هي الساعة إذن؟ ما هو العام؟ ما هي حقيقة الزمان؟ وما هو المكان؟ إني لم أرَ مكاناً قط، ولم أرَ إلا موجودات لا أعرف نهايتها ولا أدرك آخرها. فكيف لي أن أرى مكاناً ليس فيه شيء؟ ما حقيقة المكان والزمان؟ ما عمرهما؟ ماذا وراءهما؟ ألا أستطيع أن أعرف هذا العالم الهائل، الذي تحجبه عن عيني هذه الطبيعة كما تحجب الكفُّ الدنيا الواسعةَ وهي كف واحدة؟ (¬1). وضجرت من هذه الفلسفة، فانصرفت عن العقل وتركته يهذي وحده. وكنت قد بلغت البحر، فوقفت في حِجْر الطبيعة أتأمل وأناجي وأحلم. لقد نفضت يدي من الناس ولجأت إلى هذه الطبيعة السخيّة ¬

_ (¬1) حين ذكر هذه المقالة في «الذكريات» ونقل منها فقرات قال في هذا الموضع: "إنني أعرف أشياء كثيرة تملأ المكان، ولكن ما هو المكان؟ وحوادث كثيرة على مدى الزمان، ولكن ما هو الزمان؟ فإذا كنت لا أعرف روحي التي أعيش بها، لا أدري ما هي، ولا أدري ما الزمان الذي هو رأس مالي ولا المكان، فما سعيُنا وما عملنا؟ ألسنا مثل القافلة التي جُنّ أهلوها فانطلقوا يركضون، لا يعرفون من أين جاؤوا ولا إلى أين يذهبون، ولا يهدؤون إلا إذا هدّهم التعب فسقطوا كالقتلى نائمين؟ كذلك نحن إذ نعدو على طريق الحياة، نتسابق كالمجانين ولكن لا ندري علامَ نتسابق؛ نعمل أبداً من اللحظة التي نفتح فيها عيوننا في الصباح إلى أن يغلقها النعاس في المساء، نعمل كل شيء إلا أن نفكر في أنفسنا أو ننظر من أين جئنا وإلى أين المصير! إن كل ما في الدنيا يذهب إن ذهبنا، لا يبقى لنا إلا ما قدّمنا لآخرتنا". انظر الذكريات: 3/ 251 (مجاهد).

الوفيّة الوادعة الجميلة لأجد عندها أنس نفسي وراحة قلبي، أنظر إليها فتَمَّحي هذه الأبعاد والمسافات التي تفصل بيني وبين أهلي، وتبدو لعيني حافلةً بالألوان التي لا يستطيع أبرع مصوِّر (¬1) أن يجمعها في لوحة. ومَن -لَعَمْري- يصوّر ألوان الغروب أو ألوان الزهر في الروض، أو يثبتها على لوحة بالألفاظ والأوزان أو بالأصبغة والألوان؟ إن الطبيعة أبرع في الألوان، ولكن الفن البشري أبرع في الأصوات. إن الطبيعة ليست موسيقية فنانة ولكن عندها من الألوان ما لا نهاية له. وهل عندها إلا هدير الموج، وخرير النهر، وحفيف الأشجار، وتغريد البلابل، وسجع الحمام، وقصف الرعد ... هذه موسيقاها، ومن هنا كانت الموسيقى أسمى الفنون لأنها ابتكار وتجديد، على حين أن الأدب والتصوير تقليد. هذه الطبيعة التي أجد في حِماها الحب والعاطفة والجمال كلما لجأت إليها فراراً من الناس وضيقاً بالحياة. وما ذهبت مرة إلى بَسِّيمَة (¬2) وأطللت على هذا الوادي الصغير الذي يشبه همسة حلوة من همسات الحب أو بيتاً بارعاً من قصيدة الجمال إلا ¬

_ (¬1) يريد «الرسّام»، ويسميه جدي دائماً «المصوِّر»، وإذا أراد ما ندعوه اليومَ صُوَرة (أي مما تلتقطه آلات التصوير) وصفها بالصورة الضوئية أو صورة الفوتوغراف (مجاهد). (¬2) قرية حلوة صغيرة مختبئة بين الجبال على القرب من العين الخضراء، وقد كانت مُصطاف الشاميين القريب ومتنزّههم الفاتن الحبيب، فأفسدتها «المدنية!» حين حولتها إلى حانات وخمارات وجعلتها معابد للشيطان!

نسيت الدنيا كلها؛ هذا الوادي الذي تجري فيه العين الخضراء ليّنةَ الأعطاف فاتنةَ المحاسن، كأنها فتاة مدللة تَخطِر بحسنها وفتنتها على سفح الجبل، تغمز بردى بعينها وتغريه بجمالها، وهو يلحقها جرياً في بطن الوادي متحدّراً متكسّراً كشابّ قوي متين العود جهير الصوت، قد اكتملت رجولته كما اكتملت أنوثتها، وأشجار الحَور «حُور كواشف عن ساق» يرقصن في عرس الفتاة المدللة والفتى القوي رقصة الحب، يتمايلن على العروسين وقد تعانقا بعد قليل وضم الفتى عروسه حتى اختفت بين ذراعيه وطار بها إلى دمشق، لتكون جلوتها في الغوطة جنة الأرض. وهذه الجبال الحمراء تقوم على الباب، تحرس الوادي أن يدخله واشٍ أو عَذول يفجأ العروسين العاشقين، وتمنع الشمسَ الملتهبة أن تدنو منهما أو تعكر عليهما خلوتهما، فيبقى الوادي جنة تجري من تحتها الأنهار، والدنيا من حوله في جحيم الصيف. * * * غبت في تأملي وأنا على شاطئ البحر، فلم ينبّهني إلا المطر يَسّاقط على وجهي ويديّ، فنظرت فإذا السحب قد نسجت في السماء ليلاً آخر، وإذا المطر يهبط متلاحقاً ثم يستحيل بَرَداً طيّاشاً، ثم تهب الريح وتُجَنّ الطبيعة جنونها، فتنطلق تُعَوّل وتولول وتنتف شعرها وتحطم كل ما بلغته يدها، فماجت نفسي واضطربت كهذا البحر الذي يزمجر ويلكم صخورَ الشاطئ حتى تكلّ سواعده، فيستلقي على الرمال، فلا تكون إلا لحظة حتى ينزل سوط الريح على ظهره دِراكاً، فيهب فزعاً مرتاعاً ويعود إلى ضرب الصخر في غير ما طائل، والريح تُدير هذه المعركة

كلها، تقفز على رؤوس الجبال، وتبعثر البَرَد يميناً وشمالاً، وتنثر السحائب ثم تجمعها ثم تعبث بها. جُنَّت الطبيعة جنونها، ولكني لم أخَفْها ولم تكبر في عيني، وإنما ازدريتها وأبغضتها! ما هذه المخلوقات الضعيفة العاجزة التي لا يدري بها أحدٌ من سكان هذا الكون الواسع؟ لقد رأيتها من قمة لبنان نقطة، فكيف يراها كوكب المشتري؟ وهل يعبأ نجم القطب بثورتها وجنونها؟ وانصرفت إلى نفسي أفكر آسفاً. إن العام يتصرّم وليس حولي صديق أطمئن إليه وأحمل معه أعباء الوداع، وأشاركه دمعة يذرفها معي على الفقيد الراحل وبسمة يمنحها هذا المولود الجديد. عرفت أن الصداقة ليس لها وجود عند الناس فنفضت يدي منهم، ولجأت إلى الطبيعة أتخذها صديقي المخلص وأوليها حبي وقلبي، فكانت هذه هي النتيجة. صادقت مجنونة طَيَّاشة بَطّاشة لا تعرف إلا التخريب والتدمير وتجهل ما هو الحق وما هو الشعور! أهذا كل ما لي عندك يا صديقتي؟ ألجأ إليك في ساعة من أحرج ساعات حياتي، قد تركت فيها أهلي وعِفْتُ صحبي، لألقي بنفسي بين أحضانك وأنشق عطرك، وأغتسل بعبير محبتك وأدفن آلامي في صدرك، فلا تلقينني إلا بهذا الجنون وهذا العويل؟ كلا، إنك لا تعرفين الحق ولا الشعور! * * *

وأين -لعمري- مكان الشعور من الطبيعة؟ أنا أشعر بجمال الربيع، ولكن هل يشعر الربيع بجمال نفسه؟ لقد رأت الكونتيسة دي نواي في الطبيعة مخلوقاً حياً ذا شعور، وعانقت الربيع وجالست المساء، ولكن ماذا رأى الربيع في الكونتيسة دي نواي؟ هل يفرّق الربيع بين الفتاة تقطف الزهرة لتقدمها بفمها إلى حبيبها، والبقرة تقطف الورقة لتملأ بها معدتها؟ وأنت أيها الجبل: كم رأيت من الفواجع التي تفتت الأكباد وتذيب القلوب، فهل شعرت بشيء منها؟ هل حزنت؟ هل تألمت؟ أشعرت بالأمس القريب يوم عصفت الأثرة برؤوس نفر من القُوّاد، فأطفؤوا بأفواههم شعلة السلام وملؤوا العالم ظلاماً، ونزعوا الرؤوس من أكتاف أصحابها، ثم نهضوا يبنون من الجماجم مجدهم في التاريخ، فلما امتلأت الأرض بالجثث وغسلت بالدموع، وتجلببت بالآلام والأوجاع والثكل واليتم، ولما سهرت الأمهات يبكين أبناءهن الذين ضاعت قبورُهم كما ضاعت أسماؤهم، وعكف الأطفال يهتفون: "بابا"! ينادون مَن ليس يجيب، كان القواد العظماء يحتفلون بالظفر ... أشعرت بشيء من ذلك يا لبنان؟ أشعرت بالأرامل والصبايا والأطفال يفتشون عن الخبز، الخبز الأسود، فلما لم يجدوه توسدوا رِجْلَك ونظروا إليك صامتين، ثم ماتوا جائعين كما مات ألوف وألوف في سبيل مجد القواد الظافرين؟ ألانَ قلبُك الذي قُدَّ من جلمد الصخر؟ أذرفتَ -يا لبنان- من عيونك الصافية دمعة حنان؟ وكم رأيت -يا لبنان- من متع الحب، وكم أوى إليك

العاشقون فاستظلوا بظلك وتعانقوا في حِجْرك، وشربوا خمر العيون وسكروا بنجوى الحب ... أأهاج ذلك عاطفتَك يا لبنان؟ أحرّك قلبَك كلُّ ذلك أيها الشاب التيّاه الذي يخطر بحلله الخضراء الزاهية ويتيه بعطره الخالد؟ فأين هو مكان الشعور من الطبيعة؟ وأنت أيها البحر الرقيق السيّال، أأنت أرهف شعوراً وأرقّ عاطفة؟ أيحزنك منظر البؤس والشقاء وأنت تلتهم الأحياء وتخنق البشر وتفتح فاك لابتلاعهم، أأنت ذو الشعور؟ أين هو الشعور؟ وأين أجد العاطفة في الطبيعة؟ أأبتغيها في البركان الهائل المحرق، أم في العاصفة العاتية المُدمِّرة؟ * * * وأين هو الحق في الطبيعة؟ أنا أرى في الطبيعة عاصفة تكسر الأغصان وتقلع الأشجار؛ وأرى صاعقة تهدم الدور، وأرى سيلاً يجرف المدن ويكتسح في طريقه كل شيء، وأرى البركان الثائر، وأرى الرياح العاتية ... كل هذا وجود مادّي للقوة، فأين هو الوجود المادي للحق؟ لقد اتضح الأمر، وخسرتُ صديقتي الطبيعة الجامدة الظالمة الميتة. فلمَن ألجأ؟ لمَن ألجأ ويحك يا نفس؟ هذا العام يوشك أن يموت! فعجزت النفس ولم تجب، وانطلق العقل يتفلسف، قال:

إن في الطبيعة لَحِسّاً وتمييزاً. ضع ذرة واحدة من الفحم (¬1)، وخمساً من الإيدروجين يأخذ الفحم أربعاً ويدع الواحدة، ومهما ضاعفت العدد تبقى النسبة ثابتة، أفليس هذا دليلاً على أن الجماد يميز؟ وضع الذهب بين عشرة معادن وألقِ عليه الزئبق، فإنه يعانق الذهب ويدع كل ما عداه. أفليس في هذا دليل على أن في الجماد شعوراً وعاطفة؟ وانظر لنفسك لا تحسّ حرارة الجو ولا ضغط الهواء، ولكن ميزان الحرارة ومقياس الضغط (البارومتر) يحسّان بهما، أفليس هذا دليل على أن الجماد أرهف حسّاً من الإنسان؟ ولكني لم أنتبه لما قال العقل. * * * ونظرت إلى البحر فقلت: ما البحر؟ ما الطبيعة؟ أنا لا أرى إلا هذا العالم المادي، ولكن ماذا وراء المادة من عوالم؟ إن الروح أول محطة في طريق هذه العوالم، فهل استطعنا أن نبلغها؟ إن العقل البشري يمشي إليها منذ بدأ صناعة التفكير، ولا يزال في الطريق لم تَبِنْ له معالمُها. إنه تعب وملّ ويئس؛ افتح الآن كتاب علم النفس، إنك لا ترى في فهرسه اسم الروح ولا النفس. وفكرت في العام الراحل فقلت: ما هو العام؟ ما وجوده؟ ما حقيقته؟ ولم أسمع جواباً، فأغمضت عيني كما أغمضت قبة الأعظمية عينيها منذ عام، ولكني لم أحلم ولم أتذكر، وإنما لبثت صامتاً محدّقاً في غير شيء كالأبله أو المشدوه، وتركت عقلي ¬

_ (¬1) أي الكربون، كذا كانوا يسمونه في مدارس الشام من قديم (مجاهد).

المغرور يتيه وحده في فضاء اللانهاية ... إنه لا يستطيع أن يعرف شيئاً مما وراء المادة، كما أن عقل الجنين لا يقدر أن يعلم شيئاً عن هذا العالم ولا يؤمن بوجوده. وكنت قد نسيت الطبيعة الجامدة الميتة التي لا شعور فيها ولا عاطفة، ونسيت هذه المخلوقات التافهة الحقيرة التي يدعونها «الناس»، ونسيت هذه الذرة التائهة في رياح الوجود التي اسمها «أنا»، وتوجهت إلى العظيم الباقي الذي هو وحده الخير المطلق والحق والجمال، توجهت إلى الله أسأله أن يُلبس هذا العام القادم ثوب السعادة، ويُضفي على العام الراحل حلة الغفران؛ اللهمَّ آمين. * * *

وحي صورة

وَحْي صورة نشرت سنة 1956 [كنت أبحث في أوراقي القديمة، فخرجت في يدي صورة لغلام في التاسعة من عمره، بطربوش طويل وإزار (سركس) لا ينزل عن الركبتين إلا قليلاً، فوقه سترة ضيقة وتحته جوارب غلاظ وحذاء قديم، فرَجَعتْني هذه الصورة ثماناً وثلاثين مرحلة من طريق العمر، رجعتني إلى سنة 1917.] ... وأمسكت بها أنعم النظر إليها لا أستطيع تركها، وأشعر كأني أعرف هذا الغلام، وأجد أن له من المحبة في قلبي أكثر مما لولدي! ولكن من هو؟ وما صلتي به؟ لست أذكر! وغبت في نفسي موغلاً في مسارب الماضي، وأبصرت الصبي يتحرك وتنصَبُّ الحياة فيه، ثم رأيته يخرج من الصورة بشراً يتكلم ويمشي كالذي تراه في الأفلام! فدنوت منه أحاول أن أمسّه، فإذا هو يتفلّت مني ويروغ، يحاول أن يدخل في هذا الضباب المنتشر من حولي والذي أظلمت منه الدنيا. ولم يكن في يدي إلا مصباح شاحب الضوء تخرج منه خيوط قليلة من النور، فكنت كلما حاولت أن أخترق بمصباح الذكرى ضباب النسيان

عاد يتكاثف الضباب، حتى حصرت الغلام بين خطَّين من الضوء فربطته بهما. قلت: من أنت، فإني أرى كأني أعرفك؟ قال: أما أنا فإني ما رأيتك ولا أرى أني أعرفك، فأرسلني. قلت: إنك لَغلام مشاكس، فما اسمك؟ قال: وما لك من اسمي؟ اسمي علي الطنطاوي.

قلت: هذا اسمي أنا، فكيف -ويحك- تنتحل اسمي، وما أنت أنا، لا يدك هذه يدي، ولا جسدك جسدي، ولا رأيك في الحياة رأيي؟! ونظرت يا أيها القراء، فإذا أنا أرى أمامي عشرات من الناس مختلفين جسماً وعقلاً؛ طفلاً وليداً، ودارجاً فَطيماً، وصبياً ناشئاً، ويافعاً مراهقاً، وفتى مجتمعاً، وشاباً مكتهلاً، كلهم يزعم أنه علي الطنطاوي! وسمعت قائلاً يقول لي: لا تعجب، فأنت أبداً في انتقال، في دورة موت وحياة؛ كلَّ يوم يموت فيك شخص ويولد شخص، كالشجرة تطرح أبداً من قشورها وتصنع لنفسها غيرها، أو كالنهر. تأمّل النهر تَرَ في كل لحظة قطرة تذهب وقطرة تجيء، والنهر هو النهر، ولولا هذا الجريان المستمر لكان بركة مستطيلة فيها ماء آسن. ما كان النهر نهراً إلا لأنه يجري ويتبدل، وما كان الإنسان إنساناً حياً إلا لأنه يتغير ويتحول. وتصور الإنسان الذي كان في جلدك من عشرين سنة، هل فيك ذرة من جسده أو نقطة من دمه؟ ألا تحب ما كان يكره، وتحْقِر ما كان يقدس، وتزهد فيما كان يحرص عليه؟ وانظر لنفسك: أما يتبدل المخلوق الذي يحمل اسمك بين ساعة وساعة؟ بين ساعة الرضا وساعة الغضب، وحين يملأ قلبَه الإيمانُ وحين تشتعل أعصابه بالشهوة؟ أما يكون مرة نمراً كاسراً، ومرة شيطاناً مَريداً، ومرة مَلَكاً نورانياً؟ وولى عني وتركني أفكر: كيف كان هذا الغلام يوماً أنا،

أو كيف كنت أنا يوماً هذا الغلام؟ وكيف يصير علي الطنطاوي الواحد مئة علي الطنطاوي، ما فيهم واحد كالآخر؟ ولكن ما هذا الذي أقوله؟ أترونني جُننت؟ أم أن الناس قد جنّوا فما يفكر أحد في نفسه ولا يحاول أن يكشف أسرارها ويدرك عجائبها، وما يرون في الحديث عن أسرار النفس إلا فناً من فنون الجنون؟ ومن ينفرد منا بنفسه يفكر فيها ويسائلها: من أين جاءت، ولِمَ خُلقَت، وإلى أين المصير؟ إننا نهرب منها أبداً ونشتغل عنها بكل شيء، حتى الكتاب الفارغ والحديث التافه واللعبة الحمقاء، والقعود على كرسي القهوة الساعات بلا عمل، كل شيء إلا صحبة النفس! كذلك الناس اليوم: نسوا الله فأنساهم أنفسهم. * * * وأَنِسْتُ بهذا العالَم الذي رجعَتْني الصورةُ إليه، لا أدري أكان ذلك لأنه أفضل وأكمل، أم أن الإنسان فُطر على الزهد في حاضره والحنين إلى ماضيه والتطلع إلى مستقبله. يُضيِّع الحاضرَ لماضٍ لن يعود أبداً ومستقبل لن يجيء أبداً، لأنه إذا جاء صار حاضراً فتركه ومضى يتطلع إلى مستقبل آخر؛ فهو كحزمة الحشيش المعلَّقة بعصا مربوطة بظهر الفرس، فهو يراها أمامه فيعدو ليدركها، وتعدو معه فلا يصل إليها أبداً. وهذا من عجائب صنع الله في هذه الدنيا، لئلا يشعر المرء أبداً بالاستقرار فيها ولا يرى فيها إلا ما يراه المسافر في القطار. وصاح بي الغلام يريد أن أرسله لينطلق، فأسقطني صياحه

من أجواء الفكر، فالتفَتُّ إليه، وعلقت أنظاري بهذه الثياب الزريّة التي يلبسها، فسألته: أتذهب إلى المدرسة بهذه الثياب؟ قال: نعم، وهل تبصر فيها عيباً؟ هل تكشف عورة؟ هل ترى فيها تشبّهاً بالنساء؟ أليست نظيفة؟ قلت: ألا تلبس الحلة التي يلبسها التلاميذ جميعاً؟ قال: أتعني السترة والبنطال؟ هل تريد أن يسخر مني الأولاد ويلحقوني في الأزقة ينادون «فلَّق زم»؟ وهل يلبسها من التلاميذ إلا المخنثون. قلت: ويجيء التلاميذ جميعاً بهذا الإزار (السَّرْكَس)؟ قال: نعم. فذكرت أننا كنا كذلك حقيقة، وكان الذي يلبس هذه الحلة الإفرنجية كالذي يلبس «شلحة» أمه، وكان الأولاد يهتفون وراءه بهذا الهتاف الشنيع، وأننا لما وصلنا إلى الثانوية (وكان ذلك بعد ميسلون ودخول الفرنسيين) وألزمونا بلبسها كانت أمي رحمها الله هي التي تخيطها لي، فتصوّر ماذا تكون هذه الحلة التي تخيطها أمي؟ وأن أول حلة خاطها لي الخيّاط كانت مصنوعة من جبة خلّفها أبي رحمه الله، وكنت في الصف التاسع، فأحسست يوم جئت المدرسة بها كأني إمام المتأنقين! وأنّا بلغنا صف البكالوريا ولم يكن فينا من يجرؤ أن يعقد حول عنقه هذه العقدة، نرى ذلك تفرنجاً وتنطّساً لا يليقان بطلبة العلم. فأين من هذا ما يصنع شبابُ اليوم؟ أين هذا التأنق والتجمل،

وإنفاق ساعة كل صباح في ترجيل الشعر وتصفيفه واختيار العقدة الملائمة للثياب والحذاء الموافق للجوارب، مما كان في أيامنا؟ رحمة الله على تلك الأيام. * * * وقلت للغلام: ألا تمشي معي أريك دمشق؟ قال: أنا أرى دمشق كل يوم، ولا أريد أن أمشي معك. إنني لا أمشي مع من هو أكبر مني ولا أمشي مع من لا أعرف. قلت: ولو كان قريبك؟ قال: فهل أنت قريب؟ قلت: أنا أقرب الناس إليك. قال: وما تكون مني؟ قلت: أنا أنت. فضحك الخبيث وقال: رحم الله هبَنَّقَة (¬1)؛ أنت أنا، فمن أنا؟ ¬

_ (¬1) أحد بني قيس بن ثعلبة، ضُرب بحمقه المثل فقيل: «أحمق من هبنّقة»! ومن حمقه أنه كان يرعى غنم أهله فيرعى السمان في العشب وينحّي المهازيل، فقيل له: ويحك! ما تصنع؟ قال: لا أفسد ما أصلحه الله ولا أصلح ما أفسده! ومن حمقه أنه جعل في عنقه قلادة من ودع وعظام وخزف، فسُئل عن ذلك فقال: لأعرف بها نفسي ولئلا أضل. فبات ذات ليلة فأخذ أخوه قلادته فتقلّدها، فلما أصبح ورأى القلادة في عنق أخيه قال: يا أخي، أنت أنا، فمن أنا؟!

فكدت أقول له: أنت أنا. ثم خفت أن يجترئ عليّ بالقول الجارح لأنه -كما بدا لي- سليط اللسان، فسكتّ عنه، وما زلت به حتى رضي أن يمشي معي. قال: ولكني لا أجاوز آخر الشارع. قلت: وأي شارع. فقال: وهل في دمشق مئة شارع؟ الشارع الذي فتحه جمال باشا، وأنا أعرفه من قبل طريقاً ضيّقاً يمتد من بعد المشيرية إلى محطة الحجاز، يقطعه هذا الزقاق الذي يصل من المَرْجَة إلى الشابكلية: زقاق رامي. قلت: لقد تغيرت الأرض ومَن عليها يا ولدي، وفُتحت مئات من الشوارع، وصارت «المرجة» لُبَّ البلد وقد كانت في آخره، وقامت وراء شركة الكهرباء (حيث المزابل التي تعرفها) العماراتُ الضخمة والحدائق الواسعة. وطريق الصالحية الذي كان يمتد وحدَه بين البساتين، ما على طرفَيه إلا بيوت قليلة تقوم صفاً واحداً وراءه الفضاء، صار اليوم سوق المدينة، وقامت على جانبيه أحياء إذا جئتها حسبت نفسك في باريس، وحي «المهاجرين» الفقراء من أهل جزيرة كريت (إقريطش) صار حيَّ الأغنياء والمترفين، وصارت البقعة الواحدة منه التي لا تذرع مئة متر مربعة أغلى من أرض الحي كلها! وبوابة الصالحية، حيث يمر الترام بين «الخسته خانة» وبستان الكركة في طريق ضيق كان منذ غروب الشمس مربطَ قطّاع الطرق، لقد صارت بوابة الصالحية ميداناً فسيحاً فيه العمارات العالية والشوارع الفسيحة، شارع

بغداد وشارع الأركان، والبساتين صارت أحياء عامرة، وبستان الأعاجم صار حيّ الحلبوني، وبستان السبكي وبستان الحبوبي صارا أضخم أحياء الشام ... لقد دار الفلك ثماناً وثلاثين دورة على دمشق التي تعرفها. قال: إذن يجب أن أكون ابن ثمان وأربعين! قلت: نعم. قال: ألا تراني أمامك صبياً؟ قلت: وأنت ألا تراني أمامك كهلاً؟ قال: أرجو ألاّ تلقي عليّ هذه الفلسفة الجنونية. قلت: ويحك! ما ألقيتها عليك. وهل أنت شيء له وجود؟ إنما ألقيها على نفسي. وسحبت الغلام، وسرت به وهو مشدوه مما يسمع. ورأى السيارات الكثيرة وهي تتعادى وتتسابق مسرعة مجنونة كأنما هي راكبة على جناح شيطان، من كل لون وجنس، من الصغيرة التي تشبه صندوق اللعب إلى الكبيرة التي تسع سبعين راكباً، تخرج عن يمينه وعن شماله ومن أمامه ومن خلفه، كأنها العفاريت في قصة «الملك سيف»، تتلاطم أصواتها في الأذن كأنها عزيف الجن، فارتاع ووقف حائراً. فقلت له: ما لك؟ ألا تعرف السيارات؟ فلم يشأ أن يظهر الجهل وقال: وهل تظنني آتياً من الصحراء؟ كيف لا أعرفها؟ لقد فاخرت التلاميذ بأن والدي ركب فيها. قلت: وهل كانت مثل هذي؟

قال: لا، كانت سيارة واحدة لجمال باشا لم يأتِ دمشقَ غيرُها، فكان الناس يخرجون لرؤيتها. وأنا أعرف الطيارة أيضاً، صغيرة لها جناحان واحد فوق الآخر، يركب فيها رجلان. قلت: إن من الطيارات اليوم ما يركب فيه مئة، يحملهم من دمشق إلى الهند قفزةً واحدة. فنظر إليّ مفتوح الفم شاخص العينين، كأنه لا يصدق! قلت: وهل تعرف الكهرباء؟ قال: نعم، وأدخلناها دارنا منذ أيام، وضربني المعلم من أجلها. قلت: ولماذا يضربك من أجلها؟ قال: كنت أحدّث التلاميذ أن في بيتنا مصابيح تشتعل بلا كبريت، ندير زرّاً في الجدار فتضيء، فكذّبوني فضربتهم، فجاء المعلم فضربني! (¬1) قلت: ولكن للكهرباء اليوم منافع لا تعرفها؛ أنها تدفئ المنازل في الشتاء وتبرد الطعام في الصيف، وتسيِّر الـ ... صاح الصبي مقاطعاً: ما هذا؟ أعوذ بالله. فنظرت فإذا هو إعلان عن فِلْم في السينما، فيه صورة فتاة عارية ورجل يقبّلها، فقلت: هذا إعلان سينما. ألا تعرف السينما؟ ¬

_ (¬1) هذه حقيقة وقعت لي أيام الحرب الأولى.

قال: بلى، أخذونا إليها في المدرسة، فأرونا صور القتال في «جناق قلعة»، وكانت في طريق الصالحية بعد «الخسته خانة» (¬1). قلت: صحيح، أعرفها، وقد هُدمت وشيد في مكانها عمارة ضخمة تعرض «أفلاماً» من نوع آخر، اسمها «البرلمان»! قال: ولكن كيف لا تمنع الحكومة هذا المنكر؟ كيف لا ينكره العلماء؟ قلت: إن أمثال هذه الصور في كل مكان. انظر ... وأشرتُ إلى المجلات المعلَّقة في الطريق عند البيّاعين، وسألته: ألا تقرؤون المجلات؟ قال: وما المجلات؟ إننا لا نعرفها. قلت: أتقرؤون كتباً غير كتب المدرسة؟ قال: نعم، أنا أقرأ في «العقد الفريد» و «حياة الحيوان» للدميري وكتاب «الفرج بعد الشدة» و «الأغاني». قلت: هذه كتب لا يقرؤها إلا العلماء، فمن دلّك عليها وأنت في هذه السن؟ قال: كان الرجال الذي يجتمعون على أبي للدرس كل يوم يتناقشون، فيقول لي أبي: هات الجزء الرابع من تاج العروس، هات الثالث من الحاشية، هات الخامس من فتح القدير ... ¬

_ (¬1) وكانت السينما في موضع البرلمان، وقد احترقت وبقيت أنقاضها سنين طويلة.

فتعلمت أسماء الكتب، وصرت أدخل المكتبة وحدي فأسحب كل كتاب فأقرأ فيه صفحة، فإن أعجبني قرأته، وإلا أخذت غيره، فمن هنا عرفت هذه الكتب (¬1). قلت: وهل يعرفها رفاقك في المدرسة؟ قال: إن بعضهم يعرف بعضها. قلت: ألا تقرؤون كتباً للتسلية؟ فاحمرّ وجهه وسكت. قلت: أخبرني، لا تكذب عليّ، ولا تخف مني. قال: ولما أخافك؟ أنا لا أخاف أحداً، ثم إني مؤمن لا أكذب أبداً، وهل يكذب المؤمن؟ قلت: إذن أخبرني. قال: نقرأ القصص في الخفاء؛ قصة عنترة وحمزة البهلوان والملك سيف ... وكنا نقلِّد هؤلاء الأبطال، فنتبارز في صحن الأموي كل يوم عندما ندخله. قلت: ولماذا كنتم تدخلونه كل يوم؟ قال: لماذا؟ لنصلي ونسمع الدروس. قلت: ولِمَ؟ أليس في المدرسة درس دين؟ قال: لا. ¬

_ (¬1) هذه كلها حقائق.

قلت: كيف؟ ألا يعلمونكم القرآن؟ قال: بلى، عندنا درس تجويد ودرس تفسير. قلت: والفقه؟ قال: وعندنا درس فقه، وعندنا درس حديث ودرس وعظ. قلت: وكم ساعة في الأسبوع لذلك كله؟ قال: عشر ساعات. قلت: إنهم يستكثرون عليها الآن ساعتين في الأسبوع! ولست أدري لماذا يحسبونها درساً واحداً؟ إنها دروس مختلفة ولو كان يجمعها اسم «الدين»، فإذا كان يكفيها ساعتان فاجعلوا للعربية ساعتين فقط للنحو والصرف والإنشاء والإملاء والمحفوظات، وللرياضيات ساعتين فقط للحساب والهندسة والجبر، وللطبيعيات ساعتين ولو تعددت علومها. * * * وقطع الحديث وجعل ينظر مدهوشاً إلى النساء السافرات، الباديات الأذرع إلى الآباط والسيقان إلى الرُّكَب، الكاشفات عن الشعر والنحر والصدر. قلت: ما لك؟ قال: ما هؤلاء؟ قلت: نساء. قال: وهل تظنني حسبتهن بقراً؟ ولكن كل نساء الشام يلبسن

الملاءة، لا تفرق المسلمة من النصرانية أو اليهودية إلا بأن هذه تستر وجهها وتلك تكشفه، أما الملاءة فللجميع (¬1). فماذا يكون هؤلاء إذا لم يكنَّ مسلمات ولا نصرانيات ولا يهوديات؟ وسكتُّ لأني لم أجد جواباً، وطال السكوت، وفكرت فيما كنا فيه وما صرنا إليه، وعاد ذهني إلى هذا الحاضر المُمِضّ، فرأيت الصبي يتملص مني ويبتعد عني حتى عاد إلى ضباب الماضي، ولم يبق في يدي إلا هذه الصور الباهتة، صور عهود مضت بما كان فيها من جهل بعلوم الكون وانقطاع عن دنيا الحضارة، وما كان فيها من الفضائل والأخلاق والرضا والسعادة، عهود الإيمان والطهر والصفاء، عهود صباي الذي فقدته إلى الأبد (¬2). يا سقى الله تلك العهود! * * * ¬

_ (¬1) وهذه أيضاً حقيقية. (¬2) ما جاء في هذه المقالة هو الموجز، وتفصيله في «الذكريات» التي بدأ علي الطنطاوي بتدوينها ونشرها بعد ثلاثة عقود من نشر هذه المقالة (مجاهد).

يا بنتي

يا بنتي نشرت سنة 1954 يا بنتي، أنا رجل يمشي إلى الخمسين (¬1)، قد فارق الشباب وودّع أحلامَه وأوهامَه، ثم إني سِحْتُ في البلدان ولقيت الناس وخَبِرتُ الدنيا، فاسمعي مني كلمة صحيحة صريحة من سني وتجاربي لم تسمعيها من غيري. لقد كتبنا ونادينا ندعو إلى تقوم الأخلاق ومحو الفساد وقهر الشهوات، حتى كَلَّتْ منّا الأقلامُ ومَلَّت الألسنة، وما صنعنا شيئاً ولا أزلنا منكراً، بل إن المنكرات لتزداد والفساد ينتشر، والسفور والحسور والتكشف تقوى شِرَّته وتتسع رقعته، ويمتد من بلد إلى بلد، حتى لم يبقَ بلد إسلامي -فيما أحسب- في نَجْوَة منه. حتى الشام التي كانت فيها الملاءة السابغة، وفيها الغلوّ في حفظ الأعراض وستر العورات، قد خرج نساؤها سافرات حاسرات ¬

_ (¬1) حينما نشرت «دار المنارة» هذه الرسالةَ أول مرة أضاف جدي تعليقاً في هذا الموضع قال فيه: "كان ذلك يوم كتابة المقالة، وهو اليوم -سنة 1406هـ- يقرع أبواب الثمانين". أما اليوم، وأنا أراجع هذا الكتاب في طبعته الجديدة، فقد مضى على فراقه لنا في هذه الدنيا إحدى عشرة سنة، عليه رحمة الله (مجاهد).

كاشفات السواعد والنحور! ما نجحنا وما أظن أننا سننجح. أتدرين لماذا؟ لأننا لم نَهْتَدِ -إلى اليوم- إلى باب الإصلاح ولم نعرف طريقه. إن باب الإصلاح أمامك أنت يا بنتي ومفتاحه بيدك؛ فإذا آمنت بوجوده وعملت على دخوله صلحت الحال. صحيح أن الرجل هو الذي يخطو الخطوة الأولى في طريق الإثم، لا تخطوها المرأة أبداً، ولكن لولا رضاك ما أقدم ولولا لينك ما اشتدّ؛ أنت فتحت له وهو الذي دخل، قلت للّص: تفضل. فلما سرقك اللص صرختِ: أغيثوني يا ناس، سُرِقتُ! ولو عرفت أن الرجال جميعاً ذئاب وأنت النعجة لفررت منهم فرار النعجة من الذئب، وأنهم جميعاً لصوص لاحترست منهم احتراس الشحيح من اللص. وإذا كان الذئب لا يريد من النعجة إلا لحمها، فالذي يريده منك الرجل أعزّ عليك من اللحم على النعجة، وشر عليك من الموت عليها. يريد منك أعزّ شيء عليك: عفافك الذي به تَشْرُفين، وبه تفخرين، وبه تعيشين. وحياة البنت التي فجعها الرجل بعفافها أشد عليها بمئة مرة من الموت على النعجة التي فجعها الذئب بلحمها، إي والله. وما رأى شاب فتاة إلا جرّدها بخياله من ثيابها ثم تصورها بلا ثياب. إي والله، أحلف لك مرة ثانية. ولا تصدقي ما يقوله لك بعض الرجال من أنهم لا يرون في البنت إلا خلقها وأدبها، وأنهم يكلمونها كلام الرفيق ويودّونها ودّ الصديق. كذبٌ والله، ولو سمعتِ أحاديثَ الشباب في خلواتهم لسمعت مهولاً مرعباً.

وما يبسم لك الشاب بسمة، ولا يُلين لك كلمة، ولا يقدم لك خدمة، إلا وهي عنده تمهيد لما يريد، أو هي -على الأقل- إيهام لنفسه أنها تمهيد! وماذا بعد؟ ماذا يا بنت؟ فكّري: تشتركان في لذة ساعة، ثم ينسى هو، وتظلين أنت أبداً تتجرعين غصصها. يمضي «خفيفاً» يفتش عن مغفَّلة أخرى يسرق منها عرضها، وينوء بك (¬1) أنت «ثِقَلُ» الحمل في بطنك، والهم في نفسك، والوصمة على جبينك. يغفر له هذا المجتمعُ الظالم ويقول: شاب ضَلّ ثم تاب، وتبقين أنت في حمأة الخزي والعار طولَ الحياة، لا يغفر لك المجتمع أبداً. ولو أنك -إذ لقيتِه- نصبت له صدرك وزويت عنه بصرك وأريتِه الحزم والإعراض، فإذا لم يصرفه عنك هذا الصد، وإذا بلغت به الوقاحة أن ينال منك بلسان أو يد، نزعت حذاءك من رجلك ونزلت به على رأسه ... لو أنك فعلت هذا لرأيت مِن كل مَن يمرّ في الطريق عوناً لك عليه، ولَمَا جرؤ بعدها فاجر على ذات سِوار، ولجاءك -إن كان صالحاً- تائباً مستغفراً يسأل الصلة بالحلال؛ جاءك يطلب الزواج. والبنت -مهما بلغت من المنزلة والغنى والشهرة والجاه- لا تجد أملها الأكبر وسعادتها إلا في الزواج، في أن تكون زوجاً صالحة وأماً موقَّرة وربة بيت. سواء في ذلك الملكات والأميرات ¬

_ (¬1) هذا هو التعبير الأصح؛ قال تعالى: {مَا إنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنوءُ بِالعُصْبَةِ أولي القُوَّة}.

وممثلات هوليود ذوات الشهرة والبريق الذي يخدع كثيرات من النساء. وأنا أعرف أديبتين كبيرتين في مصر والشام، أديبتين حقاً، جُمع لهما المال والمجد الأدبي، ولكنهما فقدتا الزوج ففقدتا العقل وصارتا مجنونتين، ولا تحرجيني بسؤالي عن الأسماء فإنها معروفة. الزواج أقصى أمانيّ المرأة، ولو صارت عضوة البرلمان وصاحبة السلطان. والفاسقة المستهترة لا يتزوجها أحد، حتى الذي يغوي البنت الشريفة بوعد الزواج، إن هي غوت وسقطت تركها وذهب -إذا أراد الزواج- فتزوّج غيرها من الشريفات، لأنه لا يرضى أن تكون ربة بيته وأم ابنته امرأة ساقطة! والرجل وإن كان فاسقاً داعراً، إذا لم يجد في سوق اللذات بنتاً ترضى أن تريق كرامتها على قدميه وأن تكون لعبة بين يديه، إذا لم يجد البنت الفاسقة أو البنت المغفَّلة التي تشاركه في الزواج على دين إبليس وشريعة القطط في شباط، طلب مَن تكون زوجته على سنّة الإسلام. فكساد سوق الزواج منكن يا بنات، لو لم يكن منكنّ الفاسقات ما كسدت سوق الزواج ولا راجت سوق الفجور، فلماذا لا تعملنَ، لماذا لا تعمل شريفات النساء على محاربة هذا البلاء؟ أنتنّ أولى به وأقدر عليه منا لأنكن أعرف بلسان المرأة وطرق إفهامها، ولأنه لا يذهب ضحيةَ هذا الفساد إلا أنتن: البنات العفيفات الشريفات، البنات الصيّنات الديّنات. في كل بيت من بيوت الشام بنات في سن الزواج لا يجدن زوجاً، لأن الشباب وجدوا من الخليلات ما يغني عن الحليلات. ولعل مثل هذا في غير الشام أيضاً، فألِّفْنَ جماعات منكن من

الأديبات والمتعلمات ومدرّسات المدرسة وطالبات الجامعة تعيد أخواتكن الضالاّت إلى الجادّة، خوِّفْنَهنّ الله، فإن كُنّ لا يخَفْنَه فحذِّرْنَهنّ المرض، فإن كنّ لا يَحْذَرْنَه فخاطبْنَهنّ بلسان الواقع، قلنَ لهنّ: إنكن صبايا جميلات، فلذلك يُقبل الشباب عليكنّ ويحومون حولكن، ولكن هل يدوم عليكنّ الصبا والجمال؟ وهل دام في الدنيا شيء حتى يدوم على الصبيّة صباها وعلى الجميلة جمالُها؟ فكيف بكنّ إذا صرتن عجائز مَحنيّات الظهور مجعَّدات الوجوه؟ من يهتم يومئذ بكنّ ومن يسأل عنكنّ؟ أتعرفنَ من يهتم بالعجوز ويكرمها ويوقرها؟ أولادها وبناتها وحَفَدتها وحفيداتها. هنالك تكون العجوز ملكة في رعيتها ومتوجَّة على عرشها، على حين تكون «الأخرى» ... أنتنّ أعرف بما تكون عليه! (¬1) فهل تساوي هذه اللذةُ تلك الآلامَ؟ وهل تُشترى بهذه البداية تلك النهاية؟ وأمثال هذا الكلام. لا تحتجن إلى من يدلكنّ عليه، ولا ¬

_ (¬1) رأيت في بروكسل عند ملتقى طريقين -وقد فُتح الطريق للمارة- عجوزاً لا تحملها ساقاها، تضطرب من الكبر أعضاؤها، تريد أن تجتاز والسيارات من حولها تكاد تدعسها، ولا يمسك أحدٌ بيدها. فقلت لمَن كان معي من الشباب: ليذهب أحدكم فليساعدها. وكان معنا الصديق الأستاذ نديم ظبيان، وهو مقيم في بروكسل من أكثر من أربعين سنة، فقال لي: أتدري أن هذه العجوز كانت يوماً جميلةَ البلد وفتنة الناس، وكان الرجال يلقون بقلوبهم وما في جيوبهم على قدميها ليفوزوا بنظرة أو لمسة منها، فلما ذهب شبابها وزوى جمالها لم تعد تجد من يمسك بيدها!

تُعدمنَ وسيلة إلى هداية أخواتكن المسكينات الضالات، فإن لم تستطعن ذلك معهن فاعملن على وقاية السالمات من مرضهن، والناشئات الغافلات من أن يسلكن طريقهن. * * * وأنا لا أطلب منكن أن تَعُدْنَ بالمرأة المسلمة اليوم بوثبة واحدة إلى مثل ما كانت عليه المرأة المسلمة حقاً، لا، وإني لأعلم أن الطفرة مستحيلة في العادة (¬1)، ولكن أن ترجعن إلى الخير خطوة خطوة كما أقبلتنّ على الشر خطوة خطوة. إنكنّ قَصَّرْتُنّ الثيابَ ورفعتنّ الحجابَ شعرة شعرة، وصبرتُنّ الدهر الأطول تعملنَ لهذا الانتقال، والرجل الفاضل لا يشعر به، والمجلات الداعرة تحثّ عليه، والفُسّاق يفرحون به، حتى وصلنا إلى حال لا يرضى بها الإسلام ولا ترضى بها النصرانية، ولم يعملها المجوس الذين نقرأ أخبارهم في التاريخ، إلى حال تأباها الحيوانات. إن الديكين إذا اجتمعا على الدجاجة اقتتلا غَيْرَةً عليها وذوداً عنها، وعلى الشواطئ في الإسكندرية وبيروت رجال مسلمون ¬

_ (¬1) فالليل أسود مظلم والضحى مشرق وضّاح، ولكن الله ما نقلنا من الظلام إلى النور في لحظة، بل هو يولج النهار في الليل فلا تحسّ بهذه النقلة؛ كالعقرب الصغير في الساعة: تراه واقفاً لا يتحرك، ولكن عُدْ إليه بعد ساعتين تَرَه قد مشى. وكذلك ينتقل الإنسان من الطفولة إلى الصبا ومن الشباب إلى الشيخوخة، وكذلك يكون تبدل الأمم وتحولها من حال إلى حال.

لا يغارون على نسائهم المسلمات أن يراهُنّ الأجنبي. لا أن يرى وجهوهنّ ولا أكفهنّ ولا نحورهنّ، بل كل شيء فيهن! كل شيء إلا الشيء الذي يقبح مرآه ويجمل ستره، وهو حلقتا العورتين وحلمتا الثديين! وفي النوادي والسهرات «التقدمية» الراقية رجال مسلمون يقدّمون نساءهم المسلمات للأجنبي ليراقصهن، يضمّهنّ حتى يلامس الصدرُ الصدرَ والبطنُ البطنَ والفمُ الخدَّ، والذراع ملتوية على الجسد، ولا ينكر ذلك أحد! وفي الجامعات المسلمة شباب مسلمون يجالسون بنات مسلمات متكشّفات باديات العورات، ولا ينكر ذلك الآباء المسلمون ولا الأمهات المسلمات! وأمثال هذا. وأمثال هذا كثير، لا يُدفَع في يوم واحد ولا بوثبة عاجلة، بل بأن نعود إلى الحق من الطريق الذي وصلنا منه إلى الباطل، ولو وجدناه الآن طويلاً ... وإنّ مَن لا يسلك الطريقَ الطويل الذي لا يجد غيرَه لا يصل أبداً. وأن نبدأ بمحاربة الاختلاط. والاختلاط غير السفور، وأنا لا أمنع من كشف الوجه إن كان لا يتحقق بكشفه الضررُ على الفتاة والعدوانُ على عفافها، وأراه -عند أمن الفتنة- خيراً من هذا الذي نسمّيه في بلاد الشام حجاباً، وما هو إلا ستر للمعايب وتجسيم للجمال وإغراء للناظر. السفور إن اقتصر على الوجه -كما خلق الله الوجهَ- نقبل به، وإن كنا نرى الستر أحسن وأَولى، أما الاختلاط فشيء آخر. وليس يلزم من السفور أن تختلط الفتاة بغير محارمها، وأن تستقبل الزوجةُ السافرة صديقَ زوجها في بيتها، أو أن تحييّه إن قابلته في الترام أو لقيته في الشارع، وأن تصافح البنتُ رفيقَها في الجامعة،

أو أن تصل الحديثَ بينها وبينه، أو أن تمشي معه في الطريق وتستعدّ معه للامتحان، وتنسى أن الله جعلها أنثى وجعله ذكراً وركّب في كلٍّ الميلَ إلى الآخر، فلا تستطيع هي ولا هو ولا أهل الأرض جميعاً أن يغيروا خلقة الله وأن «يساووا» بين الجنسين (¬1)، أو أن يمحوا من نفوسهم هذا الميل. وإن دعاة المساواة والاختلاط باسم المدنيّة قوم كذّابون من جهتين: كذابون لأنهم ما أرادوا بذلك كله إلا متاع جوارحهم وإرضاء ميولهم، وإعطاء نفوسهم حظها من لذة النظر وما يأملون من لذائذ أُخَر، ولكنهم لم يجدوا الجرأة على التصريح به فلبّسوه بهذا الذي يهرفون به، بهذه الألفاظ الطنّانة التي ليس وراءها شيء: التقدمية، والتمدن، والحياة الجامعية ... وهذا الكلام الفارغ -على دَوِيّه- من المعنى، فكأنه الطبل! وكذّابون لأن أوربا التي يأتمّون بها ويهتدون بهديها، ولا يعرفون الحق إلا بدمغتها عليه، فليس الحق عندهم الذي يقابل الباطل ولكن الحق ما جاء من هناك: من باريس ولندن وبرلين ونيويورك، ولو كان الرقصَ والخلاعة والاختلاط في الجامعة والتكشف في الملعب والعري على الساحل (¬2)، والباطل ما جاء ¬

_ (¬1) لي مقالات وأحاديث شرحت فيها معنى المساواة، وأنها تكون في الحقوق والواجبات والثواب والعقاب، لا في الوظائف، فلا يحبل الرجل ويُرضع بدلاً من المرأة، ولا تحارب هي أو تمتهن المهن الشاقة بدلاً من الرجل، ولا الأعمال المحرَّمة أو التي تجرّها إلى الحرام. (¬2) ومن هناك أيضاً جاءت دولة إسرائيل!

من هنا: من الأزهر والأموي وهاتيك المدارس الشرقية والمساجد الإسلامية، ولو كان الشرفَ والهدى والعفاف والطهارة، طهارة القلب وطهارة الجسد ... إن في أوربا وفي أميركا -كما قرأنا وحدّثَنا مَن ذهب إليهما- أُسَراً كثيرات لا ترضى بهذا الاختلاط ولا تُسيغه، وإن في باريس ... في باريس يا ناس، آباء وأمهات لا يسمحون لبناتهم الكبيرات أن يَسِرْنَ مع شاب أو يصحبنَه إلى السينما، بل هم لا يُدخلونهنّ إلا إلى روايات (¬1) عرفوها وأيقنوا بسلامتها من الفحش والفجور، اللذَين لا يخلو منهما -مع الأسف- واحدٌ من هذه «التهريجات» والصبيانيات السخيفة التي تسميها شركاتُ مصر الهزيلةُ الرقيعةُ، الجاهلةُ بالفن السينمائي مثلَ جهلها بالدين ... تسميها أفلاماً! يقولون: إن الاختلاط يكسر شِرَّة الشهوة ويهذب الخلق وينزع من النفس هذا الجنون الجنسي، وأنا أحيل في الجواب على من جرّب الاختلاط في المدارس، روسيا التي لا تعود إلى دين ولا تسمع رأي شيخ ولا قسّيس. ألم ترجع عن هذه التجربة لمّا رأت فسادها؟ وأميركا، ألم تقرؤوا أن من جملة مشكلات أميركا مشكلة ازدياد نسبة «الحاملات» من الطالبات؟ (¬2) فمن يسرّه ¬

_ (¬1) يريد الأفلام السينمائية، هكذا كان يسمّيها (مجاهد). (¬2) لذلك صاروا يدرّسون «الثقافة الجنسية» في المدارس، أي أنهم يصبّون البنزين على النار؛ يصفون للفتاة الغافلة البريئة ما خفي من سَوْأة الرجل وماذا يصنع إذا خلا بأنثى! ووُجد فينا من شياطين الإنس مَن يدعونا إلى أن نصنع في ذلك مثلَ صنيعهم. كما أنهم صاروا يدرّبون طالبات المدارس المتوسطة على استعمال حبوب منع الحمل!

أن يكون في جامعات مصر والشام وسائر بلاد الإسلام مثل هذه المشكلة؟ * * * أنا لا أخاطب الشباب ولا أطمع في أن يسمعوا لي، وأنا أعلم أنهم قد يردّون عليّ ويسفّهون رأيي لأني أحرمهم من لذائذ ما صدّقوا أنهم قد وصلوا إليها حقاً، ولكن أخاطبكنّ أنتنّ، أنتنّ يا بناتي المؤمنات الديّنات، يا بناتي الشريفات العفيفات: إنه لا يكون الضحية إلا أنتنّ، فلا تقدّمنَ نفوسكنّ ضحايا على مذبح إبليس، لا تسمعنَ كلامَ هؤلاء الذين يزيّنون لكنّ حياة الاختلاط باسم الحرية والمدنية والتقدمية والروح الجامعية، فإن أكثر هؤلاء الملاعين لا زوجة له ولا ولد، ولا يهمّه منكن جميعاً إلا اللذة العارضة! أما أنا فإني أبو أربع بنات (¬1)، فأنا حين أدافع عنكنّ أدافع عن بناتي، وأنا أريد لكُنّ من الخير ما أريده لهنّ. إنه لا شيء مما يهرف به هؤلاء يَرُدّ على البنت عِرْضَها الذاهب، ولا يرجع لها شرفها المثلوم ولا يعيد لها كرامتها ¬

_ (¬1) كذلك كان يوم كتب هذه المقالة سنة أربع وخمسين، وفي السنة التي بعدها رزقه الله بصغرى بناته، يمان. وأنبتها الله نباتاً حسناً وفقّهَها في دينه حتى صارت من المُفتيات الداعيات، ودَرّست علومَ الدين -من فقه وتفسير وسواهما- في جامعة الملك عبد العزيز في جُدّة زماناً، ثم اختارها الله إلى جواره فلحقت بأبيها قبل كتابة هذه الحاشية بسنتين كاملتين، لا تزيدان يوماً ولا تنقصان يوماً، وهذا من غرائب الموافقات. عليها وعلى أبيها رحمة الله (مجاهد).

الضائعة. وإذا سقطت البنت لم تجد واحداً يأخذ بيدها أو يرفعها من سقطتها، إنما تجدهم جميعاً يتزاحمون على جمالها ما بقي فيها جمال، فإذا ولّى ولَّوا عنها كما تولّي الكلاب عن الجيفة التي لم يبقَ فيها مِزْعة لحم! * * * هذه نصيحتي إليك يا بنتي، وهذا هو الحق فلا تسمعي غيره، واعلمي أن بيدك أنت لا بأيدينا معشرَ الرجال، بيدك مفتاح باب الإصلاح، فإذا شئت أصلحت نفسك وأصلحت بصلاحك الأمةَ كلها. والسلام عليكِ ورحمة الله (¬1). * * * ¬

_ (¬1) نُشرت هذه المقالة أولَ مرة في العدد الأول من أعداد السنة الثالثة من مجلة «المسلمون» الدمشقية الذي صدر في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1953، وبعد ذلك بسنوات صدر كتاب «صور وخواطر» والمقالة فيه، وفي آخرها حاشية قال فيها: "كتب الله لهذه المقالة ما لم يكتبه لغيرها، فنُشرت في دمشق في رسالة وحدَها، ونشرت في رسالة في بغداد وفي القاهرة وفي الإسكندرية، وتُرجمت إلى الأوردية ونشرت في «الدون» أكبر جرائد باكستان، وإلى الإنكليزية ونشرت في «التايمز» الهندية، وإلى الفارسية ونشرت في جريدة «برس» الإيرانية". وبعد ذلك بثلاث وثلاثين سنة أصدرت دار المنارة المقالةَ في رسالة مستقلة مرة أخرى، فكتب لها مؤلفها مقدمة جديدة، وقد رأيت =

¬

_ = أن أُثبتها هنا ليطّلع عليها من لم يَقْتَنِ الرسالة المستقلة من قرّاء هذا الكتاب (ولا بد أنهم كثير)؛ قال: "أنا أكتب وأخطب من ستين سنة، فما قُدِّر لمقالتين نشرتهما من الذيوع ما قُدِّر لهاتين المقالتين؛ «يا ابني» و «يا بنتي»، ولاسيما مقالة «يا بنتي»؛ كتبتها وأنا أمشي إلى الخمسين، وأنا اليوم أقرع باب الثمانين، أسأل الله دوام الصحة وحسن الخاتمة وأن يجزي خيراً من يمدّ يديه من القرّاء ويقول آمين. طُبِعَت مقالة «يا بنتي» ستاً وأربعين طبعة علمت بها، ولعلها طُبعت غيرها ولم أعلم بها، فقد أبحتُ لمن يشاء أن يطبعها (على أن يوزعها بالمجّان). ونحن نُهاجَم اليوم من طريقين: طريق الشبهات، وطريق الشهوات. الأول مرض أشدّ خطراً وأكبر ضرراً، ولكنه بطيء السّرَيان، فليس كل مَن تُلقى إليه شبهة يقبلها، ولكن كل مَن تُثار له -من الشباب- شهوة يستجيب لها؛ فهو مرض سريع الانتشار كثير العدوى، وإن كان يُضني ولا يُفني، ويُؤذي ولا يُميت. والأول كفر وهذا يوصل إلى الفسق. وقد كتبت بعدها وحاضرت وأذعت وحدّثت كثيراً كثيراً، ولكن بقي لهذه المقالة -بفضل الله- أثرها في نفس قارئها وقارئتها. أسأل الله أن ينفع بها وأن يثيبني ويثيب ولدي وصهري محمد نادر حتاحت (الذي ينشرها اليوم) عليها. ولم أبدّل فيها ولا في أختها (يا ابني) حرفاً. وكيف وقد قُرئت في الشرق والغرب، وطُبِعَت في الشام والأردن ومصر والعراق، وتُرجمت -فيما علمت- إلى أوسع لغتين انتشاراً وأكثر اللغات ناطقين بها: الإنكليزية والأوردية، وصارت ملكاً للقرّاء، فكيف أبدّل فيها؟ ". وفي آخر المقدمة وضع جدي مكان وزمان كتابتها: "مكة المكرمة، 1 ربيع الأول 1406". رحمه الله (مجاهد).

يا ابني

يا ابني نشرت سنة 1955 [إلى السيد «م. أ.» من الإسماعيلية بمصر، الذي كتب إليّ واستحلفني أن أقرأ كتابه وأن أرد عليه.] لماذا تكتب إليّ على تردد واستحياء؟ أتحسب أنك أنت وحدك الذي يحس هذه الوَقدة في أعصابه من ضَرَم الشهوة، وأنك أنت وحدك الذي اختُصَّ بها دون الناس أجمعين؟ لا يا ابني؛ هوِّن عليك، فليس الذي تشكو داءَك وحدك ولكنه «داء الشباب»، وقد كتبت فيه قديماً وحديثاً، ولولا أني لا أحب الحديث المعاد ولا أقتني (مع الأسف) إلا الأقلّ من مقالاتي القديمة لنقلتها إليك أو لأحلتك عليها. ولئن أرَّقك هذا الذي تجد وأنت في السابعة عشرة، فلطالما أرّقَ كثيرين غيرك صغاراً وكباراً، ولطالما نفى عن عيونهم لذيذ الكرى، ولطالما صرف عن درسه التلميذَ وعن عمله العاملَ وعن تجارته التاجرَ. وما الحب الذي افتنَّ في وصفه الشعراء وفي تحليله الأدباء إلاّ ما تجده أنت سواء بسواء، ولكنك أخذته مجرداً مكشوفاً فعرفه الناس فلم يُخدعوا عنه، وأخذوه فلفّوه بمثل ورق «الشكلاطة»

ليخدعوا عن حقيقته الناس. وشربت بفيك من الينبوع، وشربوا بالكأس المذهَّبة الحواشي. والماء في كأس أبي نواس التي أقام في قرارتها كسرى (¬1) كالماء في الساقية، والشهوة التي رسالتك إليّ كالشهوة في غزل الشعراء وشعر الغزليين ولوحات المصورين وألحان المغنّين، ولكن الضمير هاهنا بارز ظاهر والضمير هنالك مستتر خفي، وشر الداء ما خفي واستتر! إنه ما أشرف على مثل سنك أحدٌ إلا توقّد في نفسه شيء كان خامداً، فأحسّ حَرَّه في أعصابه، وتبدلت في عينه الدنيا غيرَ الدنيا والناسُ غيرَ الناس، فلم يعد يرى المرأة على حقيقتها إنساناً من لحم ودم، له ما للإنسان من المزايا وفيه ما فيه من العيوب، ولكنْ أملاً فيه تجتمع الآمال كلُّها وأمنيّة فيها تلتقي الأماني، ويُلبسها من خيال غريزته ثوباً يُخفي عيوبها ويستر نقائصها ويبرزها تمثالاً للخير المحض والجمال الكامل، ويعمل منها ما يعمل الوثني من الحجر: ينحته بيده صنماً ثم يعبده بطوعه رباً! إن الصنم للوثني رب من حجر، والمرأة للعاشق وثن من خيال! كل هذا طبيعي (¬2) معقول، ولكن الذي لا يكون أبداً طبيعياً ¬

_ (¬1) يريد قول أبي نُوَاس: تدورُ علينا الرّاحُ في عَسْجَدِيَّة ... حَبَتْها بألوان التّصاوير فارسُ قَرَارَتُها كسرى وفي جنباتها ... مَهَاً تَدَّرِيها بالقِسِيّ الفوارِسُ يصف كأساً ذهبيّة نُقشت في قعرها صورة كسرى وزُيِّنَت جوانبها بصور المَهَا والفوارس (مجاهد). (¬2) طبيعي هي الدائرة على أقلام البلغاء من القدم، والقياس طبعي.

ولا معقولاً أن يحس الفتى بهذا كله في سن خمسَ عشرةَ أو ستَّ عشرة سنة، ثم يَضطره أسلوبُ التعليم إلى البقاء في المدرسة إلى سن عشرين أو خمس وعشرين. فماذا يصنع في هذه السنوات وهي أشد سنين العمر اضطرامَ شهوة واضطرابَ جسد، وهياجاً وغلياناً؟ ماذا يصنع؟ هذه هي المشكلة! أمّا سنّة الله وطبيعة النفس فتقول له: تزوج. وأما أوضاع المجتمع وأساليب التعليم فتقول له: اختَرْ إحدى ثلاثٍ كلُّها شر، ولكن إياك أن تفكر في الرابعة التي هي وحدها الخير، وهي الزواج! إما أن تنطوي على نفسك، على أوهام غريزتك وأحلام شهوتك، تدأب على التفكير فيها وتغذّيها بالروايات الداعرة والأفلام الفاجرة والصور العاهرة، حتى تملأ وحدَها نفسَك وتستأثر بسمعك وبصرك، فلا ترى حيثما نظرت إلا صور الغيد الفواتن، تراهنّ في كتاب الجغرافيا إن فتحته، وفي طلعة البدر إن لمحته، وفي حمرة الشفق وفي سواد الليل، وفي أحلام اليقظة وفي رؤى المنام. أريدُ لأنسى ذِكرَها فكأنما ... تَمَثّلُ لي لَيلى بكل سَبيلِ ثم لا تنتهي بك الحال إلاّ إلى الهَوَس أو الجنون أو انهيار الأعصاب. وإما أن تعمد إلى ما يسمونه اليوم «الاستمناء» (وقد كان يسمّى قديماً غير هذا)، وقد تكلم في حكمه الفقهاء وقال فيه الشعراء، وكان له في كتب الآداب باب لا أحب أن أدل عليه أو

أرشد إليه. وهو وإن كان أقل الثلاثة شراً وأخفها ضرّاً (¬1)، ولكنه إن جاوز حده ركب النفس بالهم والجسم بالسقم، وجعل صاحبه الشاب كهلاً محطماً كئيباً مستوحشاً، يفر من الناس ويجبن عن لقائهم ويخاف الحياة ويهرب من تبعاتها، وهذا حكم على المرء بالموت وهو في رباط الحياة. وإما أن تغرف من حمأة اللذة المحرمة وتسلك سبل الضلال وتؤم بيوت الفحش، تبذل صحتك وشبابك ومستقبلك ودينك في لذة عارضة ومتعة عابرة، فإذا أنت قد خسرت «الشهادة» التي تسعى إليها و «الوظيفة» التي تحرص عليها والعلم الذي أمَّلت فيه، ولم يبق لك من قوَّتك وفتوّتك ما تضرب به في لُجّ العمل الحرّ. ولا تحسب -بعدُ- أنك تشبع؛ لا، إنك كلما واصلت واحدة زادك الوصال نهماً، كشارب الماء المِلْح (¬2) لا يزداد شرباً إلا ازداد عطشاً. ولو أنك عرفت آلافاً منهن ثم رأيت أخرى متمنّعة عليك معرضة عنك لرغبت فيها وحدها، وأحسست من الألم لفقدها مثل الذي يحسه مَن لم يعرف امرأة قط. وَهَبْكَ وجدت منهن كل ما طلبت ووسعك السلطان والمال، فهل يسعك الجسد؟ وهل تقوى الصحة على حمل مطالب الشهوة؟ ودون ذلك تنهار أقوى الأجساد. وكم من رجال كانوا أعاجيب في القوة وكانوا أبطالاً في الرَّبْع (¬3) والصَّرْع ¬

_ (¬1) لست أدعو إليه ولكن أقرر حقيقة قررها كثير من كبار الأطباء ووافقوا فيها رأي الفقهاء من الحنفية في الجملة. (¬2) الماء الملح: أي المالح. (¬3) الربع رفع الأثقال، وصاحبه الربّاع.

والرمي والسّبق، ما هي إلا أن استجابوا إلى شهواتهم وانقادوا إلى غرائزهم حتى أمسوا حطاماً. إن من عجائب حكمة الله أنه جعل مع الفضيلة ثوابها: الصحة والنشاط، وجعل مع الرذيلة عقابها: الانحطاط والمرض (¬1). ولَرُبّ رجل ما جاوز الثلاثين يبدو -ممّا جار على نفسه- كابن ستين، وابن ستين يبدو من العفاف كشاب في الثلاثين. ومن أمثال الإفرنج التي سمعناها وهي حق وصدق: «من حفظ شبابه حفظ له شيخوخته». ولو ترك الرجل غريزته، ولم تكن هذه المُغرِيات من الصور والروايات والأفلام وتكشّف النساء وشيوع الفاحشة، لما هاجت به الغريزة إلا مرة أو مرتين في الشهر والشهرين؛ لأن من القواعد الثابتة في العلم أنه كلما ارتقى الحيوان (والإنسان هنا حيوان) في سلّم التطور قلّ عنده السِّفاد وطال الحمل. فالديك والدجاجة يتسافدان كل يوم لأن مدة الحمل (بالبيضة) يوم واحد، أما القط (وهو من ذوات الأثداء) فيسافد القطة مرة أو مرتين في السنة لأن ¬

_ (¬1) حينما نشرت دار المنارة هذه المقالة في رسالة مستقلة سنة 1986 أضاف الشيخ رحمه الله في هذا الموضع حاشية لم تكن في الطبعات السابقة، قال فيها: "يبعث الله النُّذُر لمن أراد أن يعتبر، ومن ذلك المرضُ الخبيث الذي جَدَّ الآن وأعيا الأطباءَ علاجُه وعزّ عليهم دواؤه، الذي لا يأتي إلا من الفسوق وارتكاب الفواحش، وهو «الإيدز». ولو هداهم الله إلى معرفة دوائه لأرسل لهم نذيراً غيره، ثم تأتي الطامة الكبرى التي لا يملك لها أحدٌ دفعاً ولا منعاً، يوم القيامة، يوم تبرز الجحيم فتلتقم كل كفّار أثيم والعياذ بالله" (مجاهد).

حملها مرة في السنة أو مرتين. وأظن أن الإنسان أرقى من القط، فلماذا يكون للقط موسم واحد (هو عندنا شباط) وتكون شهور السنة كلها شباط عند بعض الناس؟ لهذه المغريات! فالبلاء كله من هذه المغريات، من دعاة الشر ورسل إبليس الذين يزيّنون للمرأة التكشف والتبرج والاختلاط باسم المدنيّة والتقدمية والنهضة النسائية، وما يُعْنون بالمرأة إلا كعناية الجزّار بالنعجة: يطعمها ويدفع عنها ويحميها ويسمّنها، ولكن للذبح! والذين دأبوا على نشر صور العاريات في مجلاتهم من الممثلات الأجنبيات أولاً، ثم من بنات المدارس بدعوى الرياضة ونساء السواحل بحجّة الاصطياف، وعملوا على ذلك الدهر الطويل، على خطة مرسومة وسبيل معينة، صابرين محتسبين لوجه إبليس، ولولاهم ولولا مجلاتهم ولولا تلك الروايات من قبل وهاتيك الأفلام من بعد، ولولا الذين تخرّجوا بمدرسة الضلال ثم وَلُوا هم (مع الأسف) أمرَ أبنائنا وبناتنا في مدارسنا، ما رأينا ولا توهّمنا أننا سنرى يوماً بنات المسلمين يكشفن عن سيقانهن وأفخاذهن للعبة بكرة السلة أو لعرض في حفلة الرياضة أو لاصطياف على الساحل. ولو بُعث قاسم أمين ومَن شايعه على دعوته من رؤوس الفتنة، ورأوا إلامَ انتهت إليه المرأة بدعوتهم (التي أرادوا بها غير هذا) لأخذتهم الصّعْقة! وأؤكد لك أن «ذلك الأمر» في حقيقته أتفه وأهون مما تظن، وأن الحديث عنه أعظم منه ووصفه أكبر أثراً في النفس من فعله. ولولا هذا الفن: فن الشعر والقصة والتصوير والغناء، ولولا هذا الذي يجمّل المرأة ويحسّن الحب، لما رأيت لتلك «الصلة

الجسمية» في نفسك ولا نفس غيرك من الشباب عُشرَ مِعشار ما تحسّه اليوم. إنها عملية كالعمليات الطبية كلها، ولكنها قذرة حقاً، لذلك وضع الله لها هذا «البنج» الذي يُعمي ويصمّ فلا يرى المرءُ القبحَ فيها، وهذا البنج هو الشهوة، ولو فكر المرء فيها هادئاً، لو فكر فيها بعقل رأسه لا بعقل أعصابه لما رآها إلا كما أقول. وهذه المغريات كلها لا تعمل عملها ولا تؤتي المُرَّ من ثمرها ما لم يوجد رفيق السوء، الذي يدلك على طريق الفاحشة ويوصلك إلى بابها. إنها كالسيارة الكاملة العدة، وهذا الرفيق كالزِّناد، وليس تمشي السيارة مهما كانت قوتها إلا بالزناد. * * * وكأني أسمعك تقول: هذا هو الداء، فما الدواء؟ الدواء أن نعود إلى سنة الله وطبائع الأشياء التي طبعها عليها. إن الله ما حرّمَ شيئاً إلا أحلّ شيئاً مكانه؛ حرّم المراباة وأحل التجارة، وحرّم الزنا وأحل الزواج، فالدواء هو الزواج. الزواج وحده طريق الإصلاح. وأنا أقترح على الجمعيات الإسلامية والنوادي الإصلاحية أن تؤسس قسماً جديداً يرغّب الشبان في الزواج ويدعوهم إليه ويسهّله عليهم، ويدل الخاطب على الفتاة التي تصلح له ويصلح لها، ويقرضه المال إن كان معسراً. ولهذا الاقتراح تفصيلات وذيول، مَن استجاب له وأراد العمل به شرحت له تفصيلاته. فإذا لم يتيسّر لك الزواج ولم تُرِد الفاحشة فليس إلا التسامي.

وأنا لا أريد أن أعقّد هذا الفصل الذي أكتبه ليكون مفهوماً واضحاً بمصطلحات علم النفس، لذلك أعمد إلى مثال أمثّلهُ لك: أترى إلى إبريق الشاي الذي يغلي على النار؟ إنك إن سددته فأحكمت سدَّه وأوقدت عليه فَجَّرَهُ البخارُ المحبوس، وإن خرقته سال ماؤه فاحترق الإبريق، وإن وصلت به ذراعاً كبيراً كذراع القاطرة أدار لك المصنع وسيّر القطار وعمل الأعاجيب. فالأولى حالة مَن يحبس نفسه عن شهوته يفكر فيها ويعكف عليها، والثانية حال من يتبع سبل الضلال ويؤم مواطن اللذّة المحرّمة، والثالثة حال المتسامي. فالتسامي هو أن تنفّس عن نفسك بجهد روحي أو عقلي أو قلبي أو جسدي يستنفد هذه القدرة المُدَّخرة ويُخرج هذه الطاقة المحبوسة: بالالتجاء إلى الله والاستغراق في العبادة، أو بالانقطاع إلى العمل والانغماس في البحث، أو بالتفرغ للفن والتعبير عن هذه الصور التي تصورها لك غريزتك بالألفاظ شعراً، أو بالألوان لوحة، أو بالألحان نغماً، أو بالجهد الجسدي والإقبال على الرياضة والعناية بالتربية البدنية أو بالبطولة الرياضية. والإنسان -يا ابني- محب لنفسه لا يقدم أحداً عليها، فإذا وقف أمام المرآة ورأى استدارة كتفيه ومتانة صدره وقوة يديه، كان هذا الجسم الرياضي المتناسق القوي أحبَّ إليه من كلّ جسد أنثى، ولم يرضَ أن يضحّي به ويُذهب قوته ويعصر عضلاته ويعود به جلداً على عظم من أجل سواد عينَي فتاة، ولا من أجل زرقتهما! * * *

هذا هو الدواء: الزواج، وهو العلاج الكامل، فإن لم يمكن فالتسامي، وهو مسكّن مؤقت ولكنه مسكّن قوي ينفع ولا يؤذي. أما ما يقوله المغفلون أو المفسدون من أن دواء هذا الفساد الاجتماعي هو تعويد الجنسين على الاختلاط حتى تنكسر بالاعتياد حدة الشهوة، وفتح «المحلات العمومية» حتى يُقضى بها على البغاء السري، فكلام فارغ. وقد جرّبَت الاختلاطَ أممُ الكفر فما زادها إلا شهوة وفساداً (¬1)، أما «المحلات العمومية» فإننا إذا أقررناها وجب أن نوسّعها حتى تكفي الشبان جميعاً، وإذن فينبغي أن يكون في القاهرة أكثر من عشرة آلاف بغيّ لأن في القاهرة (من أصل المليونين ونصف المليون من سكانها) (¬2) مئتَي ألف شاب على الأقل ... وإذا نحن جَوّزْنا للشباب ارتيادها فاستغنوا بذلك عن الزواج فماذا نصنع بالبنات؟ هل نفتح لهن محلات عمومية فيها «بغايا» من الذكور؟! * * * كلام فارغ يا ابني والله، وما تقوله عقولهم ولكن غرائزهم، ¬

_ (¬1) وهذي الأمم الإسكندنافية أطلقت لغرائز أبنائها العَنانَ فصنعوا ما شاء لهم هوى نفوسهم، فهل سعدوا؟ أليست بلادهم أكثر البلاد انتحاراً وانهيارَ أعصاب، واستهلاكاً للمخدِّرات والمهدِّئات وكل ما يعين على الهرب من معركة الحياة؟ (¬2) كذلك كانوا يوم نُشرت هذه المقالة، وصاروا اليوم (1986) أكثر من عشرة ملايين.

وما يريدون إصلاح الأخلاق ولا تقدم المرأة ولا نشر المدنية ولا الروح الرياضية ولا الحياة الجامعية ... إنما هي ألفاظ يتلمظون بها، ويبتدعون كل يوم جديداً منها يهوّلون به على الناس ويروّجون به لدعوتهم، وما يريدون إلا أن نخرج لهم بناتنا وأخواتنا ليستمتعوا برؤية الظاهر والمخفي من أجسادهن، وينالوا الحلال والحرام من المتعة بهن، ويصاحبوهن منفردات في الأسفار ويراقصوهن متجملات في الحفلات ... وينخدع -مع ذلك- بعض الآباء فيضحّون بأعراض بناتهن ليُقال إنهم من المتمدنين! وبعد يا ابني، فلا تتردد في الكتابة إليّ إن لم يُرضِك هذا الجواب، ولا تستحْيِ مما تجد من حَرّ هذه الشهوة التي ركّبها الله في النفس؛ إنها علامة القوة والأَيْد والشباب، وعليك بالزواج، ولو أنك طالب لا تزال. فإن لم تستطعه فاعتصم بخوف الله والانغماس في العبادة والدرس والاشتغال بالفن، وعليك بالرياضة فإنها نعم العلاج. والحديث طويل وهذا ما اتسع له مجال المقال، ومن استزادني زدته رسالة إن شاء، أو مقالة إن شاء الناشرون. * * *

رمضان

من أحاديث الإذاعة رمضان نشرت سنة 1957 هذا الحديث عن رمضان. وفي رمضان النور والعطر، وفي رمضان الخير والطهر، وفي رمضان الذكريات الكُثر، ففيه نزل الذكر، وفيه ليلة القدر، وكان فيه نصر بدر، وفي آخره عيد الفطر. ورمضان نور على المآذن ونور في القلوب، ورمضان صوم عن الطعام وصوم عن الحرام. إن كانت الحياة تنازعاً على الحياة فهذا الشهر إدراك لسرّ الحياة، وإن كان العمر كله للجسم فهذا الشهر للروح، وإن كانت الدنيا للتناحر والخصام فهذا الشهر للحب والوئام. * * * هذا هو رمضان الذي أبصرت وجهه من كوّة الطفولة فأحببته، ورأيت أثره الخَيِّر في كل مكان في دمشق فأكبرته، ثم لم أعد أراه أبداً، فعلمت أني قد افتقدته وأضعته. إن رمضان الذي عرفته لم يعد يتردد على دمشق؛ إن هذا

رمضان جديد، يحمل اسم رمضان الأول الذي رأيته أول مرة من أكثر من أربعين سنة، ولكنه ليس ذلك الرمضان. رمضان القديم كان يغمر أرجاء دمشق كلها، فكنت تحسّ به حيثما سرت. تراه في المساجد الممتلئة بالمصلّين والقارئين والمتحلّقين حول كراسيّ المدرسين، وتراه في الأسواق، فلا تجد عورة بادية ولا منكراً ظاهراً ولا مطعماً مفتوحاً ولا مدخّناً ولا شارباً، وتشتري البضاعة وأنت آمن من الغش والغبن، لأن أفسق البائعين لا يغش في رمضان. والمرأة تعمل مطمئنة إلى أنها مهما أخطأت فلن تسمع من زوجها كلمة ملام، لأن الصائم لا يشتم ولا يلوم في رمضان. والرجل يجيء إلى بيته وهو آمن أن يجد من زوجته نكداً أو إساءة، لأن المرأة المسلمة الصائمة لا تؤذي زوجها في رمضان. ولو تركت بابك مفتوحاً لما دخل لص، لأن اللصوص يُضْربون عن العمل ويتوبون عن السرقة في رمضان! أما رمضان الجديد فلا تعرفه هذه الشوارع الجديدة والأحياء الحديثة، ولم يعرف بعدُ الطريقَ إليها، ودمشق القديمة لم يعد يستطيع أن يسيطر عليها، فالمساجد مملوءة بالنائمين والمتحدثين والمدرّسين الجاهلين، والأسواق مفتَّحةُ المطاعم مملوءةٌ بالمفطرين، والصائمون تسوء أخلاقهم في رمضان من الجوع وشهوة «الدخان»، والشياطين تصفَّد في رمضان، ولكن الفساق ينطلقون عاملين فيه كما كانوا يعملون قبل رمضان. ولقد كان أشدُّ الناس بعداً عن الدين إذا سمع مدافع رمضان تاب وأناب إلى الله، ونزع نفسه الآثمة واستبدل بها نفساً زكية متعبدة، كما ينزع ثوبَه الوسخ ويستبدل به ثوباً نظيفاً. والبيوت

التي كان يسودها الخصام تتحول في رمضان إلى دور أمن وسلام، والمدينة تصير كلها أسرة واحدة، أو «مدرسة داخلية»؛ يأكل الناس فيها في وقت واحد، وينامون في وقت واحد، ويقومون في وقت واحد. إذا دنت ساعة الغروب رأيتَ الناس جميعاً مسرعين إلى بيوتهم، هذا يحمل صحن الفول المدمَّس (¬1)، وهذا يحمل الجَرادق (¬2) والبَرازق. وتكون المائدة منصوبة، حتى إن أفقر الناس يجد في رمضان فطوراً شهياً، لأن كل صائم في رمضان يتفقد جيرانه ومَن حوله، فلا يأكل هو الطعامَ الطيب والألوانَ الكثيرة وجارُه لا يجد إلا الخبز والجبن. وتصطفّ الأسرة كلها حول المائدة يجمعها شعور واحد، شعور واحد يجمع الغني والفقير والأمير والأجير، هو الجوع، فأغنى الناس يشتهي قبل المغرب ملعقة من حساء أو رشفة من شراب. والأولاد يقفون على الشرفات أو على جوانب الطرق، فإذا رأوا مصباح المنارة أو سمعوا المدفع صاحوا بنغمة موزونة ولحن موقَّع: «أذّن، أذّن ...» وطاروا إلى بيوتهم كما تطير العصافير إلى أعشاشها إذا رأت طلائع الليل. وتخلو الطرق وتهدأ الأصوات، ثم ترتفع من كل مكان، من الكوخ ومن القصر على السواء، كلمة «الحمد لله»، كلهم شبع وكلهم رضي وكلهم شكر، الذي أكل السبعة الألوان والذي أكل الخبز والمسبَّحة والفول. ثم يمضي الرجال إلى المساجد ليصلّوا التراويح، أو يصلّوها مع أهليهم وأولادهم. وتكون الأسواق مضاءة، والأولاد ¬

_ (¬1) من الديماس، والديماس هو الفرن. (¬2) الجرادق كلمة فصيحة.

مزدحمين فيها على بيّاع المثلجات إن كان الوقت صيفاً، أو بيّاع الفول النابت. ومَن أراد لهواً لم يجد إلا «الحَكَواتي» يقصّ قصة عنترة، وكلها بطولة ونبل (¬1)، أو «الكراكوزاتي». فإذا مضت ساعة بعد صلاة العشاء انطفأت الأضواء وخلت الأسواق، وانصرف الناس إلى دورهم ليناموا. والمسحِّر لا يجيء إلا في وقت السحور، لا يجيء نصفَ الليل ليوقظك من نومك ويقرع بطبلته رأسَك كما يفعل الآن، وأنت مجبر أن تقول له: أشكرك، ثم تدفع له أجرته على أنه كسر دماغك وحطم أعصابك! ولم تكن هذه الإذاعات التي لا تسكت لحظة في رمضان، ولا كانت في البيوت هذه الأجهزة الشنيعة، مصيبة المصائب، الرادّ (¬2) الذي تستطيع كل امرأة جاهلة وكل ولد لعّاب أن يزعج به مئة بيت، ولا يكلفه ذلك إلا أن يمد أصبعه وهو نائم فيدير زرّه أنملة (سنتيمتر)، فيُدخل الداءَ العصبيّ على كل من سكن هذه البيوت، ويهرب رمضان المسكين بتأمله وخشوعه وطهره. إن رمضان لا يستطيع أن يعيش إلا مع الهدوء والسكون، فكيف يعيش في هذه الضجة الهائلة، وكيف يتفرغ الصائم لعبادته وكيف يتوجه إلى ربه؟ (¬3) وكيف ينام ليقوم إلى السحور إذا كان ¬

_ (¬1) لا كهذه القصص الآثمة الداعرة التي تَغضب الكلابُ لو وُصفت مجتمعاتُها بمثل ما يوصَف به المجتمع فيها. (¬2) الراد هو الراديو، لأنه يردّ الصوت المنتشر في الفضاء. (¬3) ولم تكن يومئذ هذه الفضائيات، أكرم الله الشيخ فاختاره إلى جواره قبل أن تخترق حياتَنا وتصير مسلسلاتُها وبرامجها «شعيرة» من شعائر رمضان! (مجاهد).

كل صاحب رادّ لا يَسمع وحده، بل يُسمع أربعين جاراً، وكانت الأصوات لا تنقطع طول الليل، والمسحّر يجيء من الساعة الواحدة، وهؤلاء الموسيقيون الفاشلون الذين عجزوا عن أن يكونوا رجال فنّ فأسبغوا على غنائهم ثوب الدين (والدين يبرأ منهم) وتغزلوا بالرسول صلى الله عليه وسلم بدلاً من التغزل بليلى وسلمى! والبيّاعون يأتون من طلوع الشمس: مصلح البوابير وبياع الحليب و «اللي عنده سجاد للبيع» ... والأولاد الذي يتخذون الحارات والجادات ملاعب للكرة؟ وكيف يشعر بوجود رمضان من يركب الترام فيرى أمامه من يدخن وينفخ في وجهه الدخان، ويرى المطاعم مفتَّحة والأكَلَة يأكلون، ويرى الناس إن صاموا عن الشراب وعن الطعام لا يصوم إلا القليل منهم عن الكذب والغش والغيبة والبذاءة والحلف بغير الله، أو الحلف كاذباً بالله، ولا يصوم إلا القليل عن الغضب والبطش والأذى؛ وليس الصيام -في الحقيقة- إلا تدريباً خُلُقياً، ليس الصوم جوعاً وعطشاً فقط. خلق الله ملائكة، وخلق شياطين، وخلق وحوشاً وسباعاً، فالمَلَك خير كله، والشيطان شر كله، والسبع طبيعته البطش لولاه ما عاش، وخلق الإنسان من الثلاثة جميعاً: ففي الإنسان مَلَك وشيطان وسبع، المَلك له الإيمان والرحمة والطاعة والخشوع والسموّ النفسي، والشيطان له الشهوة المحرَّمة والكذب والاحتيال والإفساد، والسبع له الغضب والبطش والقهر. والصيام في الحقيقة صيام عن السبعية والشيطانية، لتخلص النفس في هذا الشهر للمَلَكية، فإذا لم تظهر على الصائم أخلاق الملائكة، وإذا

بقي يغضب ويبطش كالسبع ويشتهي ويفسد كالشيطان، فإنه لم يعرف حقيقة الصيام. * * * لقد كان رمضان الذي يجيء دمشق من أربعين سنة رمضاناً حقيقياً، وما أدري أمات وجاء غيره، أم قد شاخ وعجز عن أن يطوف دمشق كلها، أو أن يَثِبَ فيدخل في نفوس أهلها، فصار يُثبت وجوده في المفكرة والتقويم وفي أضواء المآذن ومدافع القلعة فقط، فقط لا غير؟ أم أنا الذي تغير وتبدل؟ كنت أنظر قبل أربعين سنة بعين صبيّ لم يقارف إثماً فكنت أرى رمضان، فلما أثقلت الآثامُ أجفاني لم أعد أراه؟ وكان أهل دمشق في مثل طهارة الأطفال، لم تشوّه أصباغُ الحضارة طبيعةَ الحسن في نفوسهم، ولم تُفسد الشُّبَهُ والعصبيات جمالَ الأخوّة بين أفرادهم، ولم تكن قد هُتكت أستار الصيانة ولا مُزِّقت براقع الحياء، كانت المرأة لزوجها وولدها وربها، والرجل لزوجته وولده وربّه، فكانوا يرون رمضان كلهم؛ يرون هلاله في الأفق، ونوره في القلوب، وأثره في البيوت والأسواق والمدارس والمساجد، ويشعرون حقاً أن قافلة العمر كانت تمشي بهم في صحراء مجدبة، فإذا كان رمضان مشت في الواحة التي تعبق بِرَيّا الأزاهير، وترقص على أنغام الشحارير، فيكون من ذلك أنس للنفس وراحة للروح. فأين ذلك الرمضان؟ أين هو؟ دلوني عليه؛ دلوني عليه أجِدْ فيه ماضيَّ الذي فقدته وأُنسي الذي أضعته.

رمضان الذي يتوب فيه كل عاص، ويتصل فيه كل منقطع، ويشهد فيه كل محجوب، وتسطع فيه الأنوار في كل قلب حتى لتمتلئ بالرضا والاطمئنان والحب، ويقوم الناس في الأسحار، ساعةَ يتجلى الله على الوجود تجلّي الرحمة والغفران وينادي المنادي من السماء: ألا من سائل فأعطيه؟ ألا من مستغفر فأغفر له؟ فيهتفون من أعماق قلوبهم: يا أرحم الراحمين! ويسألون الله ويستغفرونه، فيحسّون أنْ قد صعدوا بأرواحهم إلى حيث يرون الأرض كلها ومَن عليها ذرّة تجول في هذا الفضاء، الدنيا كلها بأطماعها وأحقادها ومغرياتها، ويتذوقون أعظم اللذاذات، اللذّة التي لا تقاربها لذّة، لذّة الاتصال بالله، ومناجاته في سكنات الليل وهدآت الأسحار، فتسطع أنوار الإيمان في كل قلب، ويمتلئ بالرضا والاطمئنان والحب. والقلب كالنسر الذي يضرب بجناحيه في طِباق السماء، ولكنّا قيّدناه بقيود المادة ثم أغرقناه في حمأة المطامع والشهوات، فكيف يطير نسر مقيَّد الجناح غارق في الطين؟ هذا هو رمضان؛ فحُلّوا القيودَ فيه عن قلوبكم، واغسلوها من أوضار الحمأة التي غمستموها فيها، ودعوها ترتفع لتطّلع على جمال الوجود، وترى من هذا المرقب العالي جمالَ رمضان. * * *

طبقات الأصدقاء

طبقات الأصدقاء نشرت سنة 1958 خذ قلماً وورقاً وحاول أن تكتب أسماء أصدقائك جميعاً، ثم صنفهم أصنافاً، تَجِدْ أولاً أن منهم من ليسوا أصدقاء على التحقيق، ولكنهم أصحاب ورفقاء. فمنهم رفيق تَلْقاه كل يوم أمامك، في السيارة أو الترام، يحيّيك فتحيّيه، ويسألك فتجيبه، ويرجوك إغلاق النافذة فإن فعلت شكر، أو يدوس على رجلك فإن أحسّ اعتذر، والكلمة تجر الابتسام، والابتسام يجر الكلام، وتمرّ الأيام، فإذا أنتما تتبادلان تحيّة الصديقين وتتحدثان حديث الصفيَّيْن، وأنت لا تعرف اسمه ولا تدري «ما» هو. ومنهم رفيق العمل؛ تكون موظفاً فترى مكتبه حيال مكتبك ووجهه تلقاء وجهك، أو تكون عاملاً فترى آلته إلى جانب آلتك، أو يكون زميلك في المتجر أو جارك في السوق، تكون معه أكثر مما تكون مع أهلك وولدك وتلقاه أكثر مما تلقى أصدقاءك وأهل وُدّك، وقد تشاركه الجِدّ والهزل والرضا والغضب، وما شكلك من شكله، ولا عقلك من عقله، ولا أنت من واديه.

ورفيق السفر، ممن تجمع جسدَيكما عربةُ القطار وروحَيكما الرغبة في دفع الملل، فيكون منك سلام ومنه كلام، وملاحظة لما ترى وجواب لما تسمع، وما هي إلا ساعات حتى تتشاركا في الطعام، وتتجاورا في المنام، وتَسّاقط بينكما الأستار، فيرى منك وترى منه ما لا يراه المرء إلا من ساكن بيته وذي قرابته، وما أنت منه ولا هو منك في ودّ ولا إخاء. ورفيق القهوة ورفيق الملعب ... وضروب من الرفقاء غير من ذكرت، ربما استمرت صلة المرء ببعضهم حتى سمّاهم أصدقاءه، وما هم بالأصدقاء، ولا اختارهم بمِلْكه ولا صاحبَهم باختياره، ولكن الحياة ألقتهم في طريقه وحملتهم على عاتقه، وإذا هو لم يُحْصِهم ولم «يَجْرُدهم» مثلَ جرد التاجر بضاعته، ثم يصنفّهم أصنافاً فيبقي على الجيد ويطرح الرديء، لم يَدْرِ إلى أي هاوية تسوق هذه الصداقات، لأن الصاحب ساحب، وكل قرين بالمقارن يقتدي. ورُبَّ رجل سايرته في طريق أو رافقته في سفر أو عرفته في ديوان، فبذلت له من ظواهر الود ما يبذله الرجل المهذب لمن يلقاه وأنت لا تدري وجهته في الحياة، فنُسب إليك وعُرف بك، واتّصل بك شَرُّه أو أصابك ضُرُّه أو لحق بك عاره، وإذا هو قد ترك فيك أثراً منه من حيث لا تشعر. وكل كلمة تَنصَبُّ في أذنك إنما هي بذرة كالبذرة التي تُلقى في الأرض المخصبة، قد تكون بذرة خير فتُنبت في نفسك خيراً، وقد تكون بذرة شر فتُنبت في نفسك شراً. ورُبَّ ناسٍ كانوا صالحين فأفسدتهم صحبة شرير بدّل حالهم وأشقى حياتهم، وناسٍ كانوا أشراراً فصلحوا بصحبة الصالحين، ومن

كان مستريحاً من وخز الغريزة يشتغل عنها بعلم أو فن أو رياضة قلب أو جسد، فأوقد عليه نارَها وأذاقه أُوارَها صاحبٌ لا يدري من أين سقط عليه! وآخر يمشي في طريق النار فمشى به صديقٌ في طريق الجنة ... وليس الصديق الذي يذكّرك اللهَ كمن يُنسيك ذكره، ولا الذي يسوقك إلى المسجد للعبادة كمن يقودك إلى الماخور للفجور، ولا مَن يحدثك عن كتاب طالعه لتطالعه أنت كمن يصف حسن راقصة رآها لتسعى أنت إلى مرآها. * * * فإذا أردت الخَلّة التي تجمع خلال الخير، والعمل الذي يُصلح الأعمال كلها، فاكتب أسماء أصدقائك وأصحابك ومن تتصل به بروابط الود، وانظر إلى كل واحد منهم: هل هو صالح في نفسه أم هو غير صالح؟ وهل هو مخلص لصديقه أم هو لا يبالي إلا نَفْعَ نفسه ولذتها؟ وهل هو مؤنس لجليسه أم هو فقط مزعج غليظ؟ فإذا فعلت رأيت الرفاق على أنواع، ووجدت فيهم من هو صائم مُصَلٍّ له سَمْت المتقين وزيّ الصالحين، ولكنه يتخذ ذلك سلماً للدنيا وشبكة للمال، ووجدت حقيقته تكذّب ظواهر تُقاه، فإن عاهدته خانك، وإن عاملته غشك. ووجدت فيهم من هو صادق المعاملة أمين اليد، ولكنه لا يصوم ولا يصلي وليس له من الدين إلا اسمه، فهو يفسد عليك دينك. ووجدت فيهم من هو صالح متعبد أمين صادق المعاملة،

ولكنه عارم الشهوة جامح الغريزة، لا حديثَ له إلا عنها ولا خَوْضَ إلا فيها، قد كفّ عن الحرام جوارحَه وأطلق فيه لسانه، فهو يؤذيك بإثارة الخامد من رغبتك وإيقاظ الهاجع من غريزتك. ومن هو صالح في نفسه، أمين في معاملته، عفُّ اللسان طاهر الذيل، ولكنه لا ينفع صديقاً ولا يسعد صاحباً، ولو كان على الفرات وأنت تتحرق من الظمأ ما ناولك كأسَ ماء! ومن يخدم صديقه ويُسِرّه، ولكنه لا يبالي في خدمته ومسرته أن يعطيه من دينه، فيخون من أجله أمانتَه، ومن عرضه، فيُنيله من باب الحرام لذته، ومن شرفه، فيعينه على أكل حقوق الناس وسرقة أموالهم، يرى كل ذلك في سبيل الصداقة جائزاً مباحاً، فيأخذ بيدك حتى يدخلك معه جهنم. ومن هو دَيّن في نفسه مُعين لصديقه، واقف عند حدود الله، لا يقارف إثماً ولا يباشر محرَّماً، ولكنه يجهل طرائق المعاشرة وآداب المؤاكلة وكلَّ ما تواضع عليه المهذبون من الناس، فيأتي بما تَغْثي منه نفسُك وتَهيج أعصابُك. ومن هو أحمق رقيع، أو فَحّاش طَيّاش، ومَن يصادقك لحسَبَك أو منصبك، فهو يتخذك زينة ليومه وعدّة لغده، فأنت عند حلية تجمّل الجدار! * * * والخلاصة أن الأصحاب خمسة: فصاحب كالهواء لا يُستغنى عنه، وصديق كالغذاء لا عيش إلا به، ولكن ربما ساء

طعمه أو صَعُبَ هضمه. وصاحب كالدواء، مُرٌّ كريه ولكنْ لا بدَّ منه أحياناً، وصاحب كالصَّهباء، تلذّ شاربها ولكنها تودي بصحته وشرفه، وصاحب كالبلاء. أما الذي هو كالهواء فهو الذي يفيدك في دينك وينفعك في دنياك، وتَلَذّك عِشرتُه وتمتعك صحبته. وأما الذي هو كالغذاء فهو الذي يفيدك في الدنيا والدين، لكنه يزعجك أحياناً بغلظته وثقل دمه وجفاء طبعه. وأما الذي هو كالدواء فهو الذي تضطرك الحاجة إليه وينالك النفع منه، ولا يرضيك دينه ولا تسلّيك عشرته. وأما الذي هو كالصهباء فهو الذي يبلّغك لَذّتك ويُنيلك رغبتك، ولكن يفسد خلقك ويهلك آخرتك. وأما الذي هو كالبلاء فهو الذي لا ينفعك في دنيا ولا دين، ولا يمتعك بعِشرة ولا حديث، ولكن لا بدّ لك من صحبته. * * * وعليك أن تجعل الدين مقياساً ورضا الله ميزاناً، فمَن كان يفيدك في دينك فاستمسك به، إلا أن يكون ممن لا تقدر على عشرته. ومن كان يضرُّك فاطَّرِحْه واهجره، إلا أن تكون مضطراً إلى صحبته، فتكون هذه الصحبة ضرورة، والضرورات تبيح المحظورات، بشرط ألاّ تجاوز في هذه الصحبة حدَّ الضرورة. وأما الذي لا يضرّك في دينك ولا ينفعك في دنياك، ولكنه ظريف ممتع، اقتصرت منه على الاستمتاع بظَرْفه، على ألاّ تمنعك هذه الصحبة من واجب ولا تمشي بك إلى عبث أو إثم. وما كان وراء ذلك فهو الذي قيل في مثله:

إذا كنتَ لا عِلْمٌ لديك تُفيدنا ... ولا أنت ذو دِينٍ فنرجوك للدينِ ولا أنت ممَّنْ يُرتَجى لِمُلِمَّةٍ ... عملنا مثالاً مثلَ شخصِك من طينِ * * *

أنا والإذاعة

أنا والإذاعة أذيعت سنة 1942 أيها السادة: إني أشكو إليكم القائمين على هذه المحطة، فقد ظلموني وظلموكم معي. جاؤوا بي لأحدثكم، فحسبت أني سأدخل نادياً فيه ناس أراهم فأخاطبهم على قَدْر عقولهم، فإن كانوا علماء كلمتهم كلام العلماء، وإن كانوا من العامة خاطبتهم خطاب العامة؛ فإذا هم يصعدون بي دَرَجاً بعد دَرَج، حتى إذا كلَّتْ رجلاي من الصعود وهممت بالرجوع قالوا: قد وصلنا. فنظرت فإذا نحن في أعلى طبقة من عمارة البرق والبريد، فَتَلفَّتُّ أنظر: أين النادي الذي سأخطب فيه؟ فما عهدت نادياً يُبنى على رأس مئذنة! وأين الناس؟ وإذا هم يُدخلونني من دهليز إلى دهليز، حتى انتهيت إلى زاوية مظلمة، فأشاروا إلى باب وقالوا: هُسْ، إياك أن تتكلم، أو تعطس، أو تسعل، أو تخبط برجلك، أو تدق بيدك، أو تُخَشْخِش (¬1) بأوراقك! فقلت: فكيف إذن أتحدث؟ أتريدون أن يكون حديثي إيماء ¬

_ (¬1) من العامي الفصيح.

وإشارة من غير كلام على لغة الخرسان؟ قالوا: لا، ولكن إذا جاء دورك تكلمت. وفُتح الباب، ودخلنا غرفة صغيرة كأنها الصندوق المغلق، لا شبّاكَ ولا باب، ولا نافذةَ ولا كوّة ولا شقَّ لدخول الهواء. ورأيت فيها مكتباً ما عليه إلا علبة قائمة على عمود من الحديد ووراءها مرآة، وقد وقف أمامها شاب يصوِّت أصواتاً، بعضها يخرج من حلقه وبعضها من صدره وبعضها من بطنه، ويتخلَّع ويتلوّى مع النغمات، وقد يأتي بكلمات يلقيها إلقاء بلا نغم، ووراءه رفاق له يضربون بأعوادهم ويزمّرون، فأجهدت ذهني خمس دقائق كاملات لأعرف ماذا يصنع هذا الرجل: أيغني أم يخطب، أم هو مصروع معتوه يُخَلِّط، أم يتكلم بلسان أهل مالطة ... ؟ فلم أهتدِ إلى حقيقته، ثم سكت، وتقدّم من العلبة أحدُ موظفي المحطة فقال: لقد انتهت الحفلة الموسيقية. فقلت: إذن هي حفلة موسيقية؟ سبحان القادر على كل شيء! وأقبل الموظف عليّ، فأشار بيده إلى حيث كان يقف الشاب صاحب الأصوات المخنَّثة، فقلت: ماذا؟ أأعمل أنا أيضاً حفلة موسيقية؟ قالوا: هُسْ! هُسْ! وأدار مفتاحاً كمفتاح الكهرباء، وجعل يكلمني بلسانه بعد أن كان يتكلم بيديه. قال: تفضل يا أستاذ، اقعد وتكلم. قلت: أتكلم مع من؟ أين الناس؟ أين المستمعون؟

قال: تكلم هنا (وأشار إلى العلبة). قلت في نفسي: أعوذ بالله من شر هذه الغرفة! لقد حسبتها سجناً مغلقاً فإذا هي مارستان! أأكلم علبة؟ أمجنون أنا؟ ونظرت في المرآة فوجدت صورتي متغيرة. أهذا أنا؟ وأمعنت النظر، فإذا الذي حسبته مرآةً لوحٌ من زجاج بيننا وبين الغرفة الأخرى، فنحن نرى من فيها ولكن لا نسمع أصواتهم، فاجتمعت عليّ هذه الليلة المتناقضات: هنا أشخاص أراهم ولا أسمع أصواتهم، وهنالك صندوق تخرج منه أصوات أسمعها ولا أرى أهلها ... وبحثت عن مهرب فلم أجد، وفتشت عن نصير فلم ألقَهْ، وما حولي إلا شباب جدد وموسيقيون معهم أعوادهم، وأنا الشيخ الوحيد في هذه العُصْبة. فاستسلمت للمقادير، وقعدت والعرق يسيل على عنقي ووجهي، وشرعت أكلم العُلبة كالمجانين، خوفاً من أن يحلّ بي هذه الليلة ما هو أعظم! نعم؛ لقد ظُلمت أيها السادة وظُلمتم معي، لأن أكثركم يُؤْثر «عتابا» بلدية أو «قَرّادية» نقدية، أو أغنية شاكية باكية ميّتة مميتة لا شرقية ولا غربية من أغاني عبد الوهاب، على كل ما في الدنيا من محاضرات! ولكنكم تستطيعون أن تُديروا مفتاح الرادّ فتتخلصوا مني ومن محاضرتي، وتبعثوا إليّ مما يوحيه إليكم نُبلكم وكرمكم من الشتائم واللعنات التي لا أسمع منها شيئاً. ولكن المصيبة عليّ أنا، لقد حبُست في مارستان لا أخرج منه حتى أكلم علبة من حديد ربع ساعة، لا تنقص ثانية ولا تزيد!

فلنستعن بالله، ولنتحدث. * * * ولكن خبروني أولاً: هل تسمعون كلامي حقيقة؟ أما أنا فلا أصدق أنكم تسمعون مني. وكيف يسمع من هو في المهاجرين وحمص وحلب والقاهرة وطهران ما لا يسمعه هذا الأخ الجالس أمامي وراء الزجاج، والذي يبدو عليه أنه لا يدري ماذا أقول، فلا يبتسم ولا يعبس ولا يفتح عينيه ولا يرفع حاجبيه، ولا يصنع شيئاً يدل على أنه سامع؟ وهذا من نِعَم الله عليّ، فلو سمعني أتكلم عنه لما نجوت منه بسلام! فإذا كنتم تسمعون -يا سادة- كلامي فأشيروا إليّ، أو صفّقوا، أو قربوا أفواهكم من الرادّ وصيحوا ... إني انتظرت فلم أسمع صيحتكم، فلم يبقَ إلا أن أصنع كما صنع زميلنا المحترم جحا حين أذَّن ونزل من المنارة يعدو، قالوا: إلى أين يا جحا؟ قال: أريد أن ألحق صوتي فأنظر: إلى أين وصل؟ ولنفرض أنكم سامعون، فعمَّ أحدثكم؟ ومَن لي بالحديث الذي يرضيكم جميعاً: العالم منكم وغير العالم، والرجل والمرأة، والكبير والصغير؟ وأي معلم يستطيع أن يلقي درساً واحداً يفهمه تلميذ المدرسة الأولية وطالب الجامعة ومَن بينهما، ويرضون عنه ويعجبون به؟ لقد فكرت طويلاً، وحشدت قوى نفسي كلها وما تعلمت من علم وما حفظت من مسائل، لآتيكم بحديث يدهشكم حتى

تقولوا: ما شاء الله كان! ما هذه المحاضرة؟ شيء عظيم جداً! ولكني لم أستقر على موضوع. قلت: الدنيا الآن في رمضان، وخير الأحاديث حديث الدين. وما أسهل الكلام في الدين في هذه الأيام! وما أيسر أن يجعل المرء نفسه مجتهداً، وأن يرى الرأي المخالف لأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل والليث بن سعد والأوزاعي، وكل مجتهدي الأرض، فيتمسك به ويخطِّئ المخالفين، مَن كان منهم ومَن سيكون إلى يوم القيامة! ولِمَ لا؟ إنه رجل وهم رجال، والحَدّاد والنجّار والموسيقي رجال أيضاً، فلماذا لا يكونون أئمة مجتهدين ما دام العلم بالعربية -نَحْوها وصرفها وبلاغتها- والفقه -أصوله وفروعه- والتفسير والحديث ليس شرطاً في الاجتهاد؟ وما دامت الحكومة تمنع غيرَ الطبيب أن يكتب وصفة دواء، وغيرَ المهندس أن يرسم مصوَّر بناء، وتدع مَن شاء يتكلم في الدين والأدب بما شاء؟ وما دام كل ما يحتاجه الرجل في هذه الأيام ليكون واعظاً مرشداً يُقتدى به ويُستمَع لقوله وتُقبَّل يده ويُتمسَّح بذيله، أن يعرّض لحيته ويكوّر عمّته ويوسع جبته ويطوّل سُبحته، ثم يتكلم كلاماً تقبله العامة، ولو خرّفَ وخلّطَ وضلَّلَ، وأكل الدنيا بالدين واستغل غفلة الغافلين، لا يسأله سائل عما يفعل أو يقول! لا، لن أتكلم في الدين، فالكلام فيه شديد الخطر؛ فأنا أخشى أن أقول الحق فأُغضب الناس، أو أقول الباطل فأُسخط الله. ثم إني طلبت الليلةَ مرضاة السامعين، وأكثر السامعين -لجهلهم بالدين، ولطول ما رأوا من أدعياء العلم فيه- منصرفون

عنه زاهدون في حديثه، حتى الأتقياء الصالحون منهم الذين يتمسكون في رمضان بدينهم، فيقضون نصف النهار في الأموي، نائمين يشخرون وينخرون (¬1)، أو متحلّقين حِلَقاً يمزحون في الجامع ويضحكون ويكذبون ويغتابون! فلنتكلم في الأدب إذن، فالأدب أسلم عاقبة وأوسع حرية، وهو هيّن عليّ وعلى غيري، وقد صار الأدب الآن كوصل ليلى: كلٌّ يدّعيه، وكلُّ مَن يستطيع أن يكتب كلاماً في ورقة ويجد صَفّافاً يَصُفُّ له حروفه وصاحب جريدة ينشره فهو كاتب بليغ! وكل من يأتي بلفظ موزون أو شبه موزون فهو شاعر مفُلق! وكل من يحفظ خبراً عن أبي تمام والمتنبي، أو هوغو ولامارتين، أو شكسبير وملتون، فهو أديب أريب! وكل من عاب كاتباً كبيراً بحق أو بباطل فهو ناقد محقق! ومن عجز عن أن يفكر كما يفكر أبناء آدم عليه السلام ويتكلم كما يتكلمون، ففكر تفكيراً غير آدمي وتكلم كلاماً ليس بإنساني، فهو شاعر رمزي! وإن في الرمزية متَّسَعاً لجميع الأغبياء والأدْعياء، وإذا شكا القراء أنهم لا يفهمون هذا الأدب الرمزي فالقراء جاهلون رجعيون جامدون! لا يا سادة، إن الأدب امتُهن وابتُذل، فلن أتكلم في الأدب. أفأتكلم في السياسة؟ إن السياسة في بلدنا أن ينتقد الرجلُ قوانينَ الحكومة ويتكلم في رجالها، ويتهم كل أمين يكرهه بالسرقة، ويصف كل سارق يحبه بالأمانة، ويكون له رأي في الملك عبد الله وابن السعود وإتلي ومولوتوف وترومان، ويرسم ¬

_ (¬1) من العامي الفصيح.

أحسن الخطط لمحاربة الغلاء، وتنظيم مِلاكات الموظفين، وحل مشكلة فلسطين، وإدارة ألمانيا المحتلة، ويقترح وجوه الإصلاح للجامعة العربية وهيئة الأمم المتحدة ... ولو كان تاجراً أمّياً أو سائق ترام أو شيخ ضيعة يضع بصمة إبهامه مكان التوقيع على دفاتر الانتخابات! لا، لن أتكلم في السياسة. أفأتحدث إليكم في الفلسفة؟ لقد اشتغلت بها حيناً وأنا أستطيع أن أتفلسف متى أردت، ولا يكلفني ذلك إلا أن أقول ما لا أفهمه أنا ولا القراء، وأن أنظر إلى كل ما تواضع عليه الناس من أفكار وعادات، فأقيم لهم أدلة غامضة لا تُدرَك على أنه خطأ وأن الصواب هو عكسه! * * * وبعدُ يا أيها السادة، فاعلموا أن وقت حديثي قد انتهى، وأني قد خدعت القائمين على المحطة، فأطعتهم وكلمت العلبة ربع ساعة، وقبضت الأجرة، ولم أقل شيئاً. وكذلك يكون الرجل الناجح في هذه الأيام، يأخذ الأجرة من غير عمل (ولنا في ساداتنا العلماء الأعلام مدرّسي دائرة الفتوى قدوة غير حسنة)! هذا، وأنا لا أدري هل يدفعون لي أجرة أم أنهم سيكتفون بشكري الجزيل؟ فإذا أعطونا شيئاً ربحناه، وإلا فحسبنا أننا لم نعطهم شيئاً نندم عليه! ولا تعجبوا يا سادة، فكل الناس تاجر يعرض بضاعته، ونحن -معشر الأدباء- بضاعتنا الكلام، وكل كلام له ثمن، فهاتوا كثيراً تسمعوا جيداً، وإلا فالبضاعة كلها من هذا النوع!

والسلام عليكم ورحمة الله. (¬1) * * * ¬

_ (¬1) لو كان التاريخ الذي وُضع في رأس المقالة صحيحاً فسوف يكون هذا هو أولَ حديث قدمه علي الطنطاوي من محطة الشرق الأدنى، لكنني أغلّب أنه حديثه الأول من إذاعة دمشق، وإذا كان الأمر كذلك فلن يكون تاريخ المقالة صحيحاً، بل سيكون سنة 1947، وهذا الاستنتاج يحتاج إلى تعليل وبيان. صرّح جدي -رحمه الله- دائماً أنه كان من أوائل المتحدثين في إذاعة الشرق الأدنى من يوم أُنشئت هذه الإذاعة في يافا. وقد بحثت فوجدت أن أول ما أذاعته هيئة الإذاعة البريطانية بالعربية كان من لندن في أوائل سنة 1938، وبعد ذلك بأربع سنوات أنشأت الهيئةُ إذاعةً خاصة باللغة العربية بدأت تذيع من يافا باسم «محطة الشرق الأدنى». ويغلب على الظن أن جدي قد بدأ بإذاعة أحاديثه منها في تلك السنة، 1942، والظاهر أنه وَهِم -وهو يضم المقالة إلى الكتاب- فظن أنها أول ما ألقاه من أحاديث في محطة الشرق الأدنى فوضع في رأسها هذا التاريخ، والصحيح -والله أعلم- أنها أول حديث له من إذاعة دمشق. لقد صدر أول بَثٍّ عن الإذاعة السورية في السابع عشر من نيسان سنة 1946، بمناسبة يوم الجلاء، واستمر ست ساعات، وكان البث من غرفة صغيرة في مبنى البريد. وخلال الأشهر العشرة التالية دأبت الإذاعة على البث المتقطع، مرةً كلَّ عدة أيام، حتى بدأت أخيراً بالبث المنتظم في الرابع من شباط سنة 1947، بعدما خصص للإذاعة مبنى من ثلاث طبقات في شارع بغداد بدمشق، وهو مبنى البرق والبريد والهاتف.=

¬

_ = فهل كان هذا الحديث هو أول أحاديث علي الطنطاوي من إذاعة دمشق أم من إذاعة الشرق الأدنى؟ السياق يوحي بأنه حديث «شامي»، فهو يذكر في السامعين "مَن كان في المهاجرين (من أحياء دمشق) وحمص وحلب"، وهو يصف لنا المبنى الذي أذاع حديثه منه فيقول: "فإذا نحن في أعلى طبقة من عمارة البرق والبريد"، وهذا أقرب إلى وصف المبنى الجديد الذي بدأت منه الإذاعةُ السورية إرسالها. هذا من حيث إيحاء السياق وإيحاء المكان، أما إشارة الزمان فتحسم الأمر وتنفي عنه أي خلاف، فهو يقول في الحديث: "إن السياسة في بلدنا أن ينتقد الرجل قوانين الحكومة ... ويرسم أحسن الخطط لمحاربة الغلاء وإدارة ألمانيا المحتلة"، وألمانيا لم تكن محتلَّة سنة 1942، إنما صارت كذلك بعد هزيمتها واستسلامها غير المشروط في الثامن من أيار (مايو) سنة 1945؛ وإذن فلا بد أن هذا الحديث قد أُذيع بعد ذلك التاريخ، وإذن فالراجح أنه كان أول حديث يقدمه علي الطنطاوي رحمه الله من إذاعة دمشق في السنة الأولى لإطلاقها، سنة 1947، والله أعلم (مجاهد).

يوم مع الشيطان

يوم مع الشيطان نشرت سنة 1957 -1 - أنا أخطب من قديم، فما يتعاظمني بحمد الله موقف ولا أضيق بقول، إلا موقفاً واحداً، كلما ازددت بالخطابة تمرُّساً ازددت له هيبة ومنه فراراً، فأنا لا أزال أمامه اليوم ذلك الشابَّ الذي أقدم على مواجهة الناس أول مرة في حفلة مدرسية كانت قبل بضع وثلاثين سنة، وقد كنت تلميذاً في المدرسة الثانوية (¬1). ذلك الموقف الذي أخشاه وأتهيَّبه هو خطبة الجمعة، وما أهابه خوفاً من الناس، فقد فرغ مني الناس وفرغت منهم إذ صار لي منهم صديق وعدو، أما الصديق فليس يضرّني عنده أن أسيء مرة وهو يرى أني قد أحسنت مئة مرة، وأما العدو فمهما جئته به من خير وإحسان أترضَّاه به فلن أنال رضاه ... بل لأن هذا الموقف خاصة -من دون المواقف كلها- ليس مقام فصاحة ولَسَن وبيان، ولكنه مقام وعظ وهداية وإرشاد، مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمَن قامه وجب أن يتخلق ما استطاع بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم وأن يكون متّبعاً ¬

_ (¬1) القصة في الذكريات: 1/ 132 (مجاهد).

سنن الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى إذا قال "اتقوا الله" لم يكذب قولَه فعلُه، ولم يُبطل ما يعرف الناس من سيرته أثرَ ما يسمعون من موعظته، ولأنه المقام الذي لا يقول فيه الخطيب: "سادتي"، ولا يوجه كلامه توجيه تشريف وإعظام لصاحب فخامة أو صاحب دولة كما يصنع خطباء الدنيا، بل هو ينظر بعين الشرع فيراهم كلهم عبيداً لله، أكرمهم أتقاهم لا أقواهم ولا أغناهم، وهو يتكلم بلسان الشرع، فيرفعه الشرع حتى يكون فوقهم جميعاً، فيأمرهم جميعاً وينهاهم ويحذّرهم ويُنذرهم، فإن كان يأمر ولا يأتمر وينهى ولا ينتهي بطل نفعه وذهب خيره، وأعقبه ذلك الهوانَ على الناس والخَسارَ في الآخرة. لذلك أجد عنتاً كلما كُلِّفت خطبةَ الجمعة وأُعِدّ نفسي لها من قبل أيام، أحاول أن أذكّرها بالله وأن أدلها على طريق الخير وأسلكه بها ما استطعت واستطاعت، وأبتغي من المواعظ والفِكَر ما ألين به هذا القلب القاسي. وقد كنت قبل أيام أستعد لخطبة الجمعة التي ألقيتها في مسجد الجامعة السورية وأُذيعت منه، فنمت مبكراً على أن أقوم من الليل لصلاة العشاء، لعلي أدخل في ركب المتهجدين كما يدخل الفضولي الحقير في الوليمة الكبيرة التي لم يُدعَ إليها إلا السادة العظماء، فأكون مرة واحدة في عمري مع الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع، والذين يَصُفّون الأقدامَ والناس نيام، يَدْعون ربهم خوفاً وطمعاً، وما أنا منهم ولا أدرك غبارهم، ولكن تشبّهاً بهم: «إن التشبّه بالكرامِ فَلاحُ». وبيَّتُّ العزم على ذلك، فصحوت في الساعة التي قدّرتها

كأنما أيقظني موقظ، وذهبت أقوم، ومددت يدي (وكان النوم آخذاً بمعاقد أجفاني) فأحسست برودة الجو ودفء الفراش، فاسترخى جسدي، وحُبِّبَ إليّ النوم واجتمعت فيه رغباتي كلها، وسمعت كأن هاتفاً يهمس في أذني يقول: الوقت فسيح والليل طويل، والفراش دافئ والجو بارد، فنَمْ ساعة. فاستجبت له، فجاء آخر يقول لي: قُمْ، نفِّذْ ما عزمت عليه وتوكل على الله، واذكر ثواب الصبر على الطاعة وعذاب الإقدام على المعصية. ولو أن رجلاً أدنى منك جمرة أو جاءك بمئة ليرة لوثبت من الفراش، فكيف لا تبالي بجهنم كلها وأنت تخاف الجمرة، ولا تحفل الجنةَ بنعيمها وأنت ترجو مئة ليرة؟ فعاد الأول يقول: تريث لحظة، وانقلب على جنبك الآخر. واشتدت عليّ هذه الرغبة حتى لقد أحسستها في أعضائي كلها، فانقلبت فإذا أنا أشعر لمعاودة المنام على ذلك الجانب بلذة لا تعدلها اللذاذات. فرجع الثاني يقول: ويحك! هذا هو الشيطان يصرفك عن الصلاة، فاستعذ بالله منه. وصرت بين «نم» و «قم» تترددان عليّ كدقات الساعة: نم، قم، نم، قم، نم، قم ... وكنت أعرف من علم النفس أن هذا التردد لا آخر له، وسيظل حتى أستغرق في النوم أو يطلع الفجر، فإذا لم أَثِبْ عند كلمة «قم» لم أقم أبداً. وقلت: أعوذ بك يا ربّ من الشيطان وأسألك العون عليه، وتوجهت بقلبي إلى الله، فلما ذكرت الله رأيت الشيطان قد خنس وانقطع عني وسواسه، ولم يبقَ إلاّ

«قم، قم، قم»، فقمت وتوضأت وقد سرَّني أني غلبت الشيطان واستجبت إلى طاعة ربي. وأحببت أن أصلي صلاة خاشعة مخلصة لله، ووقفت للنية مُصَفّياً نفسي من الأكدار نافياً عن فكري الشواغل، أريد أن أدخل على الله وأنا نظيف لم تعلق بذهني أوضار الدنيا، وذهبت أقول: «الله أكبر»، وإذا بالخواطر الدنيوية تنثال عليّ قبل أن أُتمّ تكبيرة الإحرام. فعدت أجمع ذهني وأركز فكري، فإذا حاولت الإحرام فسدت عليّ نية التوجه وتفرق ما جمعت من ذهني. وتكرر ذلك، وعجبت من نفسي، فما كان لي بمثله عهد من قبل. وذكرت الله واستغفرته فعرفت السبب؛ إنه الشيطان، لمّا طردته بالذكر أول مرة ووثبت من الفراش دخل نفسي العُجب وظننت أني صرت من الصالحين، فرأى الخبيث في هذا باباً جديداً يلج عليّ منه، فجاءني متنكراً بهيئة الناصح ليفسد عليّ صلاتي بهذا التكلّف الذي ما عرفه الصحابة ولا التابعون ولا أوجبه الله في كتاب ولا سنّة! (¬1) واستعذت بالله منه وصليت، فلما انتهيت قال لي: ما هذه الصلاة؟ أين هذه من صلاة الخاشعين؟ إن الصلاة إذا لم تكن على وجهها كان وجودها كعدمها. فأدركت أن هذه حيلة من حِيَله ¬

_ (¬1) كان هذا التكلّف شائعاً في تلك الأيام (ولعله ما يزال كذلك إلى اليوم) ولطالما رأيته في الجوامع وأنا صغير، يجهر المصلي بتكبيرة الإحرام مرة بعد مرة، وما يزال يكررها حتى يشوّش على المصلين صلاتهم، يريد أن يوافق نطقُه بها بلسانه استحضارَ نية الصلاة بقلبه، فهو كمن يسعى ليُدخل بيدٍ مرتعشةٍ خيطاً غليظاً في سَمّ إبرة صغير! (مجاهد).

طالما أضاع على كثير من المسلمين صلاتهم بها، يقول لهم: "ليست الصلاة ركوعاً وتلاوة وذكراً، ولكنّ الصلاة الحقَّ هي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر فلا يأتي المرء معها معصية ولا ذنباً، والتي يقف فيها بين يدي مولاه لا يفكر في شيء قط من أمر الدنيا ولا يذهب إليه ذهنه، ولا يبصر بعينيه ما حوله ولا يحسه ولا يدري به" ... فلما استقر ذلك في نفوس طائفة من الناس ورأوا أنهم لا يقدرون عليه، قالوا: إذا لم تكن صلاتنا صلاة، ولم نكن نقدر على خير منها، فما لنا نُتعب أنفسنا بالركوع والسجود في غير ثواب؟ وتركوا الصلاة جملة، فكان لإبليس ما أراد! مع أن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وشريعة الله لا تنافي طبائع البشر التي طبع الله الناس عليها، وليس على المصلي إلا أن يخشع ما استطاع، وأقل درجات الخشوع أن يدرك معاني ما ينطق به وأن يتصورها، وكلما عرض له عارض من الأفكار الدنيوية التي لا يخلو منها ذهن مُصَلٍّ ذكر أنه بين يدي الله وأن الله أكبر منها، فطردها بقوله «الله أكبر»، يقولها كلما قام أو قعد أو ركع أو سجد. أمّا أن نكلف المصلي ألاّ يرى ما حوله ولا يسمع به ولا يحس، ونجعل ذلك شرطاً لصحة الصلاة، فهذا ما لم يقل به أحد، والرسول صلى الله عليه وسلم أطال السجود لمّا ركب ظهره أحد ولدَي فاطمة (نسيت مَن منهما رضي الله عنها وعنهما) لأنه أحس به. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «مَن رابه في صلاته شيء فليسبِّح الرجال وليُصَفِّح (أي يصفق) النساء»، وجوَّز قتل الحيّة والعقرب في الصلاة، وأباح للمصلي منع الماشي أمامه من أن يمر ... ومعنى ذلك أن المصلي يرى ما حوله ويحسه، ومن قال إنه لا يرى؟

وعمر كان يفكر في تجهيز الجيش وهو في الصلاة (على الرغم منه) لاشتغال فكره به، لا أنه كان يتعمد. والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر حقيقة، فمن لم تَنْهَه صلاته لم يتركها، بل يرجع إلى الله بالتوبة والاستغفار، ومن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً خيرٌ ممّن ترك الطاعة وأقام على المعصية! * * * فلما رأى الشيطان أن هذه الحيلة لم تَجُزْ عليّ عاد يوسوس لي ويقول: لقد صليت صلاة كاملة، هذه هي الصلاة، وأنت رجل صالح متعبد عارف بالله لا يغلبك الشيطان أبداً، وأنت من أهل الجنة فاحمد الله على ذلك. قلت: لعنك الله، هذه إحدى بلاياك! تريد أن آمَن مكر الله، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الفاسقون، كما أنه لا ييأس من رَوح الله إلا القوم الكافرون، فالمؤمن أبداً بين حالتَي الخوف والرجاء، إن استقر على إحداهما وحدها هلك. وقعدت أقرأ القرآن، لأن قرآن الفجر كان مشهوداً، فجرب الخبيث معي ألواناً من وساوسه كلها ليصرفني عن الفهم والتدبّر، منها أن أجعل همي كله لمخارج الحروف وأحكام التجويد، والترقيق والتفخيم والاستطالة والإشمام، وقال: انظر الضاد من «المغضوب»، فإنها ما جاءت على وجهها، وانظر الغين فصحح مخرجها، والمَدّ المتصل في «الضالّين» لم يبلغ مداه ... يريد أن أشتغل بذلك عن فهم القرآن والعمل به، مع أن ذلك مما لم يُسمَع عن صحابيّ أو تابعيّ أنه اشتغل به أو أَوْلاه هَمَّه، بل لقد كره

السلف التدقيق في ذلك (¬1). ومنها أن أسرع وأتلو تلاوة الببغاء وأستكثر من القراءة لأقول إني ختمت في يومين أو ثلاثة. ومنها أن أتعلم القراءات المختلفة وأقرأ بها على العامة، وذلك مما لا أراه يجوز لأنه فتنة لهم وإفساد لعقيدتهم، ولأنه سبب عُجْب القارئ ورضاه عن نفسه، ولأن فيه صرفاً عن حقيقة التلاوة التي هي التدبر والفهم واستنباط الحكم، ثم إنه يجعل التلاوة صناعة من الصناعات يعيش بها أهلها، يقدَّم منهم مَن كان أطرى حَنْجَرة وأحلى صوتاً وأبصر بالأنغام، وهذا حرام (¬2). والقرآن ليس للاستكثار من الختمات بلا فهم، ولا للاشتغال بأوجه القراءات والاقتصار على أحكام التجويد، ولا للتلحين به كتلحين الغناء واتخاذه أداة للطرب، بل هو قانون فيه أمر ونهي، فيجب أن يُفهَم ويُهتدى بهديه، ويُتبَع أمره ويُنتهَى بنهيه، ويوقَف عند حدوده. وجعلت أقرأ وأحاول أن أفهم وأفسّر لنفسي، وفهمت أحكاماً جديدة مما قرأت من آيات وأخذت أدوِّنها، ثم نبهني الله فعلمت أن الشيطان -لما رآني نجوت من أحابيله الأولى- عاد بأُحبولة جديدة، يريد أن أفسر القرآن بعقلي وأقول فيه برأيي فأضل. ¬

_ (¬1) مانظر «الإحياء» للغزالي، و «تلبيس إبليس» لابن الجوزي، و «إغاثة اللهفان» لابن القيم: ج1 ص160. (¬2) والصحيح أنه لا يجوز (عند الحنفية) أخذ الأجرة على تلاوة القرآن، والفقهاء إنما جوّزوا أخذ الأجرة على تعليمه، وأخطأ المتأخرون منهم في نقل الحكم فخلطوا بينهما، وللعلامة ابن عابدين رسالة في هذا الموضوع، انظرها في مجموعة رسائله المطبوعة.

وكذلك يصنع الخبيث؛ يصرف الناس أبداً إلى الإفراط أو إلى التفريط ليجد بينهما دائماً باباً يدخل منه، ولذلك مدح الله الاعتدال والتوسط، وجعل أمة محمد صلى الله عليه وسلم أمة وسطاً، وجعل كل فضيلة وسطاً بين رذيلتين. والمسلك الحق في التلاوة وسط بين القراءة الببغاوية بلا فهم ولا تدبر، ولو صححت المخارج وضبطت الأحكام، وبين تفسير القرآن بالرأي، من غير رجوع إلى كتب اللغة وأسباب النزول والمأثور من التفسير. * * * وجعلت أقرأ وأرجع إلى الزمخشري وابن كثير وما عندي من كتب التفسير، فلما اشتغلت بالتلاوة والذكر شعرت بلذة روحية عرفت معها معنى قول الرجل الصالح (ونسيت من هو): "نحن في لذة لو ذاقها الملوك لقاتلونا عليها بالسيف"! (¬1) وعرفت أن هذه هي اللذة الباقية على حين تنقطع اللذائذ كلها. كُلْ ما شئت من الطيّبات، فإذا شبعت مرت بك ساعة لا يبقى للطعام فيها لذة تتوهمها أو ترجوها. وائت من شئت من الجميلات، فإذا انتهيت مرت بك ساعة لا تبقى للوصال فيها لذة تتصورها أو تتمناها. وكل لذة لها حد إن هي بلغته وقفت عنده، إلا لذة الروح. ولقد قرأت قصصاً كثيرة تمثل الواقع (وإن كانت من صنع الخيال) عن أناس نالوا من المال ما يعجزون عن إنفاقه ووصلوا إلى كل ما يريدون من المُتَع، وكانوا مع ذلك يشكون الفراغ والملل ويحسون أنهم قد فقدوا شيئاً، فهم أبداً يتطلعون إلى المستقبل ينتظرون هذا ¬

_ (¬1) الكلمة منسوبة لإبراهيم بن أدهم (مجاهد).

«الشيء» الذي افتقدوه، وما فقدوا -في الحقيقة- إلا نفوسهم: {نَسُوا اللهَ فأنْسَاهُمْ أنْفُسَهُم}، وحرمهم لذائذ الروح، وهي وحدها التي لا حَدَّ لها، ولا تزال كلما طلبتها تجد مزيداً منها. * * * فلما أصبح الصبح قلت: لأجرِّبَنَّ أن أكون مع الله يومي كله. فعاد الشيطان يقول: هذا الغرور، وهذا ما لا يكون، إنه أصعب الصعب، بل هو المستحيل. قلت: بل هو والله السهل القريب، وما هي إلا أن أتصور كأني أرى الله، فإن لم أكن أراه فإنه يراني. فإذا كان أبي أو أستاذي الذي أُجِلّه وأحبّه قد أمرني بشيء ونهاني عن شيء، ثم قعد يُطِلّ عليّ ويبصر ما أصنع، أتراني أخالفه فأدع ما أمر به وآتي ما نهى عنه؟ إنه ما يعصي اللهَ أحدٌ وهو يتصور أنه يراه، ومن هنا جاء في الحديث: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن». أيزني على عين أبيه أو أستاذه؟ وما عليّ إلا أن أبقى متيقظاً متنبهاً، فكلما عرض لي أمر ذكرت حكم الله فيه، فإن كان محرَّماً تركته، وإن كان مباحاً حكّمت فيه عقلي. قال: وهل تمنع خواطرَ السوء أن تطوف برأسك؟ وهل تملك نفسك عند الشهوة أو الغضب؟ قلت: أما الخواطر فإن الله -بكرمه ومَنِّه- يثيب على الخَيِّر منها ولو لم يحقِّقْه صاحبُه بالفعل، ولا يؤاخذ على الشرير إلا إذا حققه. وأما الشهوة والغضب فعليّ أن أجتنب أسبابهما، وأن أبقيهما في عقالهما لا أطلقهما حتى تجمَحا عليّ فأعجز عن كبح

هذا الجماح منهما. والشهوة والغضب كالصخرة المستقرّة على شفير الوادي، يصعب وَقْفُها إذا هي انحدرت كالبلاء النازل، ولكنْ لا يصعب عليك أن تَدَعها مكانها ولا تحركها. ثم إني لا أدّعي العصمة، وإذا غُلبت على أمري فأتيت ذنباً استغفرت وتبت، والتوبة الصادقة تمحو الحَوْبَة. ولست أنوي من الآن أن آتي المعصية وأن أتوب بعدها، وما أكون بذلك تائباً، ومن يضمن لي إن حييت أن أُقبل حينئذ على التوبة وألاّ استمرئ المعصية فأوغل فيها وأتبعها بغيرها؟ * * * وحاولت -ما استطعت- أن أكون على العهد، فتبدلَت حالي ذلك اليوم حتى لقد عجب أهلي مني؛ كنت أغضب لأشياء يأتونها وأعاتب عليها، فسكَتُّ ذلك اليومَ عنها، وأكلت ما قُدِّم إليّ، لم أقل لشيء جاء ادفعوه عني ولا لشيء غاب هاتوه لي، ورضيت بما رأيت، إلا شيئاً محرَّماً فما كنت لأرضى به لو رأيته. ولبثت على مراقبة لله وحذر من الشيطان، وبقيت لي بقية من حلاوة الإيمان التي ذقت في السَّحَر، فكشف لي ذلك طرفاً من الحقيقة التي كانت محجوبة بأغشية المادة عن نظري، فرأيت أن المعطي المانع هو الله، وأنه هو النافع الضارّ، وأنه هو الذي يُضحك ويُبكي، وأن الناس ليسوا إلا قِطَعاً في هذه الآلة الضخمة تتحرك ولا تحرك نفسها، وأن من أصابه خير من قطعة فيها فشكرها واعتقد أن الخير من هذه القطعة، أو مسّه منها ضُرٌّ فعاتبها أو سبَّها يعتقد أن الضرر منها نفسها، من المسمار أو الدولاب، لم يكن إلا مجنوناً! ولست أزعم أن هذا الشعور قد

لازمني حتى صار عادة لي، فإن ذلك من مراتب الصدّيقين، ولو زعمته لكنت من أكذب الناس، ولكنه شعور خامرني لحظات وذقته أولَ مرة في حياتي. وكنت -كسائر الناس- أفزع من الوَحدة وأحس ثقلها عليّ، وأحاول أن أفر منها إلى رفيق أُناقله لغو الحديث أو كتاب أقرأ فيه فارغ الكلام، فصرت ذلك اليوم أحب الوحدة وأطمئن إليها. وما يكون في وحدةٍ مَن يراقب الله ويحسّ بأنه معه يسمع ويرى، ويتوجّه إليه بالدعاء بلسانه وبقلبه يسأله ما دَقَّ وما جَلَّ، معتقداً أن كل شيء بيده، وأنه إن لم يُعْطِه ما طلب أعطاه خيراً منه. والدعاء بهذا المعنى عبادة، بل هو مخّ العبادة كما جاء في الحديث الصحيح. وغدوت منفرداً عن الناس وأنا منغمس فيهم داخل بينهم. وجعلت أرصد الشيطان، فإذا هو مرابط لي عند كل طريق يؤدي إلى الجنة، يأتيني -كما أخبر الله عزَّ وجلَّ- عن يميني وعن شمالي، ومن أمامي ومن خلفي، ولكنه لا يستطيع أن يجيء من فوقي ولا يستطيع أن يسد عليّ طريق الاستنجاد بربي. ورأيت الإيمان كالحصن الذي يحصِّنني منه، ولكنّ له في جدار هذا الحصن مداخلَ وثغرات احتفرها ليدخل منها، منها المداخل الكبار الظاهرة (وسأعدد بعضها في هذا المقال) ومنها المداخل الدقيقة الخفية. وعلى المؤمن أن يبقى ساهراً أبداً يحرس حصنه، أو أن يسد هذه المداخل سداً مُحكَماً ليأمن دخوله منها، وربما اغتنم الخبيث انشغال الإنسان بمراقبة مدخل منها فدخل عليه من غيره، كما صنع بي لما رأى أني لم أصدقه بأن صلاتي باطلة،

فعاد يدخل عليّ من باب العُجْب فيريني أنها الصلاة المقبولة الكاملة. وعلى مقدار سهر العبد في سد مداخل الشيطان وحراسة ما لا يمكن سده منها، يكون خلاصه من وسواسه في الدنيا ويناله نعيم الله في الآخرة. والله لم يترك الإنسان في هذه الحراسة أعزل، بل وضع في يده سلاحاً ماضياً قاطعاً، «رشاشاً» يستطيع أن يردّ به أعْتى الشياطين، هو ذكر الله حتى يخنس الشيطان ويبلس وينكمش وينقطع وسواسه. وليس المراد الذكر باللسان فقط، بل التذكر بالقلب، وهو الأصل فيه، والمسافر الذي يذكر وطنه وأهله لا يقول بلسانه، ولكنه يستحضر الوطن والأهل بقلبه. وذكرُك اللهَ هو ألاّ تنساه، وأن يكون دائماً في قلبك، وأن تتصور أنه مطّلعٌ عليك وأنه معك، فإن صَحِبَ ذلك الذكرُ المأثور باللسان فهو أحسن وأكمل. * * * وكان لي مع الشيطان ذلك اليوم مواقف تستعصي على العدّ، أذكر منها هذا على سبيل المثال على وساوسه: حاول أن يسخّطني على الله ويكفرني بنعمه عليّ، حينما مرّ بي في الطريق رجل كان معنا في المدرسة فخاب وقصّر، وكان مضرب المثل في السوء فطُرد من المدرسة، فما هي إلا أن جال ههنا وههنا حتى صار له الجاه العريض والمال الكثير، فجاء الشيطان يقول لي: أما ترى هذا؟ أتكون أنت في علمك وفضلك دونه مالاً وجاهاً، ما هو ذنبك حتى تقصر بك الأقدار عنه؟

فقلت: اخرس يا عدو الله! تريد أن أكفر بنعم الله عليّ؟ وهل في الدنيا أحدٌ نال الخيرَ كله حتى ما يزيد عليه فيه أحد؟ فلماذا أنظر إلى هذا ولا أنظر لأناس هم مثلي (إن لم يَفْضُلوني) علماً وخلقاً، وهم دوني في الجاه والمال؟ ولماذا تريدني أن أنظر لمن هم فوقي في الدنيا لأحسدهم، ولا أنظر لمن هم فوقي في الدين؟ لماذا أزاحم على زيادة درجة في دار الزوال ولا أزاحم على زيادة درجات في دار البقاء؟ لماذا أحسد هذا إن صار ماله أكثر من مالي، ولا أحسد ذاك على أنه صلّى أكثر من صلاتي، ونال أكثر من ثوابي، وكان له في بنك الحسنات رصيد أكبر من رصيدي؟ ولِمَ أحسده على ماله ولا يحسدني هو على علمي؟ أليس العلم والخلق والذكاء نِعَماً كنعمة المال والجاه؟ فماذا ينقصني؟ إنه لا ينقصني والحمد لله شيء أحتاج إليه: صحتي جيدة، وموردي يقوم بحاجاتي ويَفْضُل منه عنها، وأنا في سلام في بيتي، وفي راحة في عملي، وفي أمان في سِرْبي، وفي منزلة في بلدي، وأنا راضٍ عن ربي، وليس لي مطلب إلا أن يبعدك عني! * * * وحاول أن يثير ما أخمدته السنون من شهوتي حين واجهت في الترام فتاة إفرنجية كأنها فلقة بدر، وقد كشفت عن النحر والصدر والقدم والساق، ولقد ألممت بهذا كله منها بالنظرة الخاطفة. وذكرت حديث النظرتين وأن «لك الأولى وعليك الثانية»، فغضضت عنها وملت ببصري إلى الطريق وبفكري إلى مسائل أُخَر. فرجع الشيطان بفكري إليها، وجعل يعيد عليّ تصور

مفاتنها ويمثلها لي على صور لا أستطيع أن أعرض لها بالوصف، وإن كان كل قارئ يدرك مثلَها بالتصوّر، فسرقَتْ عيني نظرة أخرى إليها من غير عزم مني عليها، فاستعذت بالله وقرأت الآية: {يَعْلَمُ خَائنَةَ الأَعْيُنِ ومَا تُخْفي الصُّدورُ}، متعجِّباً من دلائل الإعجاز فيها، وأنها ألمَّت بأربع كلمات فقط بحالات النفوس البشرية ودخائلها؛ «خائنة الأعين»؟ لقد خانتني عيني حقيقة، فما أعظم أسلوب القرآن! ولما رأيت أن المعركة مع الشيطان قد طالت وخفت ألاّ أثبت في الميدان فررت بديني ونزلت فوقفت أنتظر تراماً آخر، هذا وأنا في سن الخمسين، فكيف بابن العشرين أو الثلاثين؟ وجاء الترام الآخر فركبته، وأحسست أن الملعون قد ركبه معي، فما إن أخذت مكاني في غرفة الدرجة الأولى، وسلّم عليّ الجابي وسلّم عليّ بعض الركاب وأثنوا على أحاديثي ومواعظي، حتى وسوس لي الشيطان يقول: أرأيت؟ إن ألسنة الخلق أقلام الحق، وإن ثناءهم عليك يكتب لك ويشهد لك بالصلاح. فقلت: أعوذ بالله منك أن تخدعني عن نفسي وأن تجعلني أصدق كلامهم فيّ. وصعد رجل ما عليه إلا أسمال ممزَّقة وسخة لها رائحة تزكم الآناف، فضممت عنه ثيابي ليمرّ، فلم يسعه إلا أن جاء فقعد إلى جنبي. وأحسست بنار الغضب تشتعل في أعصابي، ووثق الشيطان من انتصاره هذه المرة عليّ، فرجعت وقلت: لا والله، لا أشمّت الشيطان بي. وذكرت عهديَ اللهَ، وتوجهت إليه مستعيناً به، فأنزل السكينة عليّ وبدّل مقاييس الرجال في عيني. وما أكثر ما

تتبدل هذه المقاييس؛ ففي التدريب العسكري يصنَّف الناس على طول الأجسام، فإذا رجعوا إلى وظائفهم صُنِّفوا على المراتب والدرجات، فإن جاءت المعركة صُنِّفوا على الشجاعة والإقدام، فإن كان دفع الضرائب صُنِّفوا على المال والأملاك ... ورأيت كأني في يوم العرض، يوم الامتحان الأكبر، يوم يكون الناس قسمين لا ثالث لهما: ناجحين في الامتحان يمشون فرحين مستبشرين إلى الجنة، وساقطين في جهنم يشيّعهم الخزي والعار، وقلت: لعل هذا بثيابه القذرة ورائحته المنتنة يكون مع الناجين، وأكون أنا -لا قدّرَ الله- مع الهالكين، ولعل من حقه هو أن ينفر مني ويضم ثيابه عني! واستغرقت في هذه الخواطر حتى بلغ الترام الغاية. -2 - ووجدت أن من أوسع مداخل الشيطان إلى قلوب الناس: المال. ولقد خلق الله الخلق لعبادته وأمرهم بأوامر يأتونها، وحدد لهم أرزاقهم وكفلها لهم، وأقسم لهم على أن ذلك حق مثلما ينطقون. هل يشك ناطق في أنه ينطق؟ فتركوا ما أمرهم به واشتغلوا بما كفله لهم! كالتلميذ في المدرسة الداخلية، يكلَّف بعلوم يتعلمها ويُعَدُّ له طعام يأكله، فيترك الدرس الذي كُلِّف به ويذهب إلى المطبخ يبحث عن طعامه، فيعرّض نفسه للعقوبة،

وقد يُحرَم جزاءَ إهماله من الطعام. وربما بلغ به الجهل أن يسأل الطباخ أن يزيد له في حصته، والطباخ لا يستطيع أن يزيد فيه أو أن ينقص منه وليس هو الذي قدره وقسمه. أو كالموظف الذي يبتغي الوسيلة إلى المحاسب الذي يوزع الرواتب (¬1) ليعطيه راتب الرئيس أو المعاون، يحسب أنه هو الذي يملك قسمتها وتوزيعها، وينسى أن المِلاك (¬2) قد حدد لكل موظف درجته براتبه، فلا يملك واحد منهم -مهما كان قوياً ومهما زاحم واحتال- أن يأخذ راتب غيره، ولا يفوت أحداً راتبُه ولو كان ضعيفاً، ولو كان مريضاً في بيته. وكذلك الأرزاق: قسم الله لكل امرئ رزقه وحدد له في الحياة عمله، ووكل من يوصل إليه هذا الرزق، فما كان له أتاه على ضعفه، وما كان لغيره لم ينَلْه بقوّته. وربما حسب الرجل أن كل ما يدخل يده فهو رزقه، فيَمُنّ على من أعطاه أو يَضِنّ على من سأله، مع أن فيه ما هو رزق غيره، رزق ولده وأهله وخادمه وتابعه، وما هو في الحقيقة إلا موزِّع، كمحاسب المصرف: تحت يده آلاف الآلاف ولكنها ليست له، ما له منها إلا راتبه، وليس له أن يمنّ ولا أن يضنّ، وكمعتمد الدائرة: يقبض رواتب موظفيها من الصندوق ليوصلها إليهم. وليس معنى ذلك أنك تقعد لا تصنع شيئاً وتنتظر أن ينزل عليك رزقك من السماء، فإن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة (كما يقول عمر)، ولكن الله يرزق الناسَ بعضَهم من بعض. وعليك ¬

_ (¬1) وهي في اللغة الوظائف (الواحدة وظيفة)، ولكننا آثرنا اللفظ الشائع. (¬2) «المِلاك» في الشام هو ما يُسمّى في مصر باللفظ الأعجمي «الكادر».

بذل الجهد واستنفاد الطاقة وابتغاء الأسباب المشروعة، على أن تؤمن بأن النجاح والتوفيق بيد الله وحده، فلا تفرحَ بما أوتيت من الخير فرحاً يؤدي بك إلى البطر، ولا تأسى على ما فاتك منه أسى يُسلمك إلى اليأس. والمال وسيلة إلى العيش لا يُقصَد لذاته، ولكن الشيطان يدخل على الناس من باب الشُّحّ، فيطلبونه لذاته ويجمعونه، ويحبسونه في صناديقهم ويمنعونه من التداول، وكلما زاد ما في أيديهم منه زاد ما في نفوسهم من الطلب له والحرص عليه، حتى ليَضنّ أحدهم بالقرش على الولد الجائع الفقير وهو يملك ألف ألف! فإذا بلغ المرء هذا المبلغ في طاعة الشيطان تمكّن منه فجرَّعه غُصَصَ الفقر وهو ينام على أكياس الذهب، وجعله يبخل على نفسه بالأكلة الطيبة والضِّجْعَة المريحة والمُتَع المباحة، ويعيش حياة المحرومين ليموت من بعدُ موت الموسرين، فلا يزيد على أن جمع هذا المال لوارثه، يستمتع به من بعده ولا يحمده عليه ولا يدعو له دعوة صالحة! وهذا هو الغاية في الخذلان والعياذ بالله. * * * ومنها: النساء. والله ما حرّم شيئاً إلا أحلَّ مكانه شيئاً: حرّم الربا وأحل البيع، وحرّم السرقة وأحل الشراء والاستيهاب، وحرّم لحم الخنزير وأحل اللحوم كلها، وحرّم المُسْكر وأحل الأشربة جميعاً، وحرّم الزنا وأحل الزواج، وجعل مذاق النساء كلهن

واحداً وإن اختلفت الصور، فجاء الشيطان فمَنَّانا في كل جديد لذة، فجعلنا نسعى أبداً وراء هذا الجديد حتى يستنفد السعيُ طاقةَ أجسادنا فتركبنا العلل، والرغبة كما هي ما نقصت ولا زالت، كالعطشان يشرب من ماء البحر فلا يزداد إلا عطشاً! وحبَّبَ إلينا الحرام وزيَّنه في عيوننا، وكرَّه إلينا الحلال (ولو كان أحلى منه) وسوَّده في أبصارنا، حتى لَيطلب الرجل واحدةً يسهر ليله ويُفني جسمه ويذرف دمعه شوقاً إليها، وعنده مِن حلاله مَن لا تُقاس هذه بشِسْع نعلها! وكلما خمدت هذه النار في أعصابنا أوقدتها نظرة إلى عورة بادية، أو إصغاء إلى كلمة نابية، أو صُحْبة شرير يدل على طريق الفساد. ولو أنّا سلكنا طريق الشرع فتحصّنّا بحصن الزواج، وتسلحنا بغَضِّ النظر عن الحرام وسَدِّ الأذن عن الفحش، وتخيُّر الصالحين من الأقران، لجمعنا بين صحة الجسد وراحة القلب والنجاة في الآخرة. * * * ومنها: التمسك بالحاضر الموجود والزهد بالغائب الموعود. يقول لك الشيطان: هذا يومُك بين يديك، فما لك ولغدٍ لا تدري ماذا يكون فيه؟ وهل يبيع العاقل موجوداً بمعدوم ومحقَّقاً بمتوهَّم؟ وهل رجع مَنْ ذهب فخبَّر بما رأى؟ إنما هي هذه الحياة، فاحْيَ فيها واستمتع بها وخذ من لذائذها! فإن أنت استمعت إليه جرَّك من هذه المقدمة إلى النتيجة الملازمة لها المقرونة بها، وهي

الكفر بالآخرة، وإنكار المعاد، والخروج من الدين. وإن أنت استعصيت عليه داورك وراوغك ودخل عليك من المدخل الآخر، وهو طول الأمل (وطالما دخل منه على القلوب وطالما أفسد به الناس) وقال لك: إن العمر أمامك، فاستمتع بيومك واعزم على أن تتوب في غدك. فإن جاء الغد قال: أجِّلْها إلى غد. ثم لا يأتي هذا الغد أبداً، لأنه كلما جاء صار حاضراً وجَدَّ من بعده غدٌ جديد. فإن كنت شاباً قال: وما عليك؟ إنك ستتوب إذا صرت كهلاً. فإن صرت كهلاً قال: ستتوب متى شخت. وإن كنت عَزَباً قال: تتوب متى تزوجت، وإن كنت متزوجاً قال: تتوب متى حججت ... ولا زال بك يؤخر عليك التوبة يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر، حتى يفاجئك عزرائيل فيمضي بك عاصياً أو فاسقاً، والعياذ بالله. * * * ومنها: الإقامة على المألوف واتّباع ما وجدنا عليه الآباء والأجداد، وإنْ دعانا داعٍ إلى ما هو خير منه وأهدى سبيلاً وأرضى لله. ومن هنا جاء الشرك أولاً، والتمسّك بالبِدَع والمُحدَثات آخراً، وكلما قام مصلحٌ بإماتة بدعة ثار عليه أدعياءُ العلم وقالوا له: أأنت خير من العلماء الذين رأوها من كذا وكذا وسكتوا عنها وأقرّوها؟ هل كانوا جميعاً جاهلين وأنت وحدك العالم؟ أم كانوا ضالّين وأنت وحدك المهتدي؟ وأيّدَتهم العامة التي تأنس بكل ما هو مألوف ولو كان مخالفاً للسنّة، وتنفر من كل جديد ولو كان

فيه الرجوع إلى ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه. ومنها: ابتغاء الراحة والهرب من كل ما فيه مشقة أو تعب، وفَقْد الصبر بمعانيه الثلاثة، الصبر على المصيبة، والصبر على أداء الطاعة، والصبر على مفارقة المعصية. * * * ومنها: الابتعاد عن قصد السبيل، وترك أوساط الأمور والميل إلى جانبيها، والغُلُوّ في كل شيء، وفي الغلوّ الهلاك؛ كالماشي على القَنْطَرة الضيقة: إنْ سار في وسطها سَلِمَ، وإن غلا في التيامُن أو التياسُر بلغ حافتها فزلَّت به قدمه فسقط. وقد عقد ابن القيِّم فصلاً في هذا المدخل من مداخل الشيطان وضرب عليه أمثالاً، بَيَّنَ فيها كيف يغلو قومٌ في التساهل في الطهارة حتى يحملوا الأنجاس، ويغلو آخرون في التطهير حتى يُوَسْوِسوا، وكيف يبخل رجل بالزكاة المفروضة ويبذل آخَرُ مالَه كله حتى يكون كَلاًّ على الناس، ويترك امرؤٌ سنّةَ النكاح ويُقارب آخَرُ النساءَ من حِلٍّ ومن حرمة، ومن يَزْري على العلماء وأهل الدين، ومن يعظّمهم تعظيم العبادة المختصة بالله عز وجل (¬1). وزَهِدَ قوم بعلم الكتاب والسنة وزعموا بأن ذلك علم العامة، وأن الخاصّة يُنَقّون قلوبهم ويشتغلون برياضتها فتنطبع فيها العلوم بلا تعلم، واستدلّوا جهلاً بآية: {واتَّقُوا اللهَ ويعلّمُكُمُ الله}. ومنهم من زاد في هذا الغلوّ حتى صار يصحّح الأحاديثَ أو يضعِّفها عن ¬

_ (¬1) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن القيم، ص16.

طريق الكشف، أو يأخذ الأحكامَ من الرؤى والأوهام، أو يكذب على الله ويبلِّغ عنه ما لم ينزِّلْ به سلطاناً. وجاء قوم بضدِّ هذا، حين وقفوا على ما جاء في فضل العلم وأهله، فطلبوه وتعمقوا فيه وصاروا المرجع في أمور الدين والمقصد في الفتوى والمسائل، فأوهمهم الشيطان أنهم بلغوا بذلك الغايةَ، وصرفهم عن تفقد القلوب ورياضتها وتنقيتها من الأوضار وإنقاذها من الأمراض، مع أن من الأمراض القلبية ما يفتك بها أشدَّ من فتك السرطان والجُذام بالأجسام، وهي العُجْب والحسد والرياء وأمثالها. وتهذيب القلوب واستشعار الإخلاص هو لُبُّ الدين، فالصلاة بلا إخلاص قيام وقعود، والصيام بلا إخلاص جوع وعطش، والحج بلا إخلاص تعب ونصب، والعالِم بلا إخلاص إبليس آخر! وإبليس ما أُتِيَ من جهة الجهل، بل أُتِيَ من جهة المرض القلبي الفتاك الذي هو الكِبْر. ولست أَحْقِر العلم أو أزيِّن الجهل، فالجهل هو المفتاح الذي يفتح به الشيطان كل باب إلى الفساد، والصالحون الذين ضلّوا بجهلهم بأحكام الدين كثيرون، ولَعالمٌ «عامل» أشدُّ على الشيطان من سبعين عابداً «جاهلاً»، ولولا الجهل ما استطاع الشيطان أن يدفع أناساً -ممّن كان قبل هذه الأيام- إلى الغلوّ في التوحيد (بزعمهم) حتى قوَّلهم بمثل مقالة «وحدة الوجود»، ودفع آخرين إلى الأخذ بظواهر النصوص حتى شبَّهوا، أو إلى صرفها إلى المجاز حتى عطّلوا. ولولا الجهل ما هدم قومٌ القرآنَ وخالفوا نصوصَه بحجة أن له ظاهراً وباطناً، ولولا الجهل ما تمسك قوم بالبدع وتركوا لها السنّةَ الثابتة.

وهذه المقالة في القرآن من أكبر مداخل الشيطان؛ ذلك أنه رأى القرآن محفوظاً بحفظ الله، لا يأتيه الباطل من أمامه ولا من ورائه ولا يُبدَّل حرفٌ واحد منه، وعلم أنه لا يستطيع أن يجيئه من جهة تنزيله فجاءه من جهة تأويله، فألقى إلى نفر من الناس أن للقرآن ظاهراً وباطناً، فظاهِرُه هذه الألفاظ وما تدل عليه من المعاني في لسان العرب وما تنصرف إليه من المجازات بعُرْف أهله، وباطنه ما يتوهّم هؤلاء أنه هو المقصود، ولو لم تدلّ عليه لغة ولم يقرّه عرف، واحتجوا لذلك بأثر حوَّلوه عن المراد منه، فصار الدين الواحد دينين: شريعة وحقيقة! وليت شعري: ما الشريعة إن لم تكن هي الحقيقة، وما الحقيقة في الدين إن لم تأتِ بها الشريعة؟ * * * ومن أوسع مداخله (على الشباب خاصة): الحرية والانطلاق وحلّ كل قيد، مع أن الدين والفضيلة والعقل كلها قيود (¬1)، ولا تكون الحرية الكاملة إلا للمجانين والدواب، فالدابة تمشي عارية الجسم بادية السَّوأة، تفعل ما تريد وتأتي ما تشتهي، ولكن لها وقتاً للشهوة، شهراً في السنة، والإنسان لو انطلق مع هواه وغريزته، وهُتكت الأستار دون شهوته ونُضِيت الثياب، لكان عمره كله كذلك الشهر، ولما بقي عرض مَصون ولا مال مَضمون ولا حياة اجتماعية، ولأكل القويُّ مالَ الضعيف وعدا على عرضه وماله وأهله، ثم يجيء من هو أقوى منه فيعتدي هو أيضاً عليه كما اعتدى هو على غيره. ¬

_ (¬1) العقل والحكمة مشتقّان من العِقال والحَكَمَة، وهما في اللغة القَيْد.

ومن هنا تبدو صعوبة عمل الداعي إلى الله في جماعات الشباب. إن المعلم الفاسق يدعو طلاّبه إلى كل ما فيه لذة النظر أو لذة التطلع، أو اللذة الأخرى، فيغريهم بذلك، فبِمَ يغريهم المعلم الديِّن وهو يدعوهم إلى تركها كلها؟ لا تنظرْ إلى المرأة الجميلة لأن ذلك حرام، ولا تدخل أماكن الرقص لأن ذلك حرام، ولا تشاهد الفلم العاري ولا تقرأ القصة الداعرة لأن ذلك حرام ... يدعوهم إلى حرمان أنفسهم من لذة حاضرة ابتغاءَ لذة مغيَّبة، وفي ذلك أكبر المشقة وأشد الجهد. ولذلك أعظم الله ثوابَ الشاب الناشئ في طاعة الله، الذي يرى طريق اللذة المحرمة مفتوحاً أمامه ويمنع نفسَه منه ابتغاءَ مرضاة الله، وجعله في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله، ليستريح ويتلذذ حين يتألم الناس، كما تألم في الدنيا وهم مستريحون متلذذون. * * * ومنها أنه يكبِّر أولياءه في عيون الناس، قال تعالى: {إنّمَا ذلكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أولياءَهُ (¬1) فلا تَخَافوهُمْ وخَافُونِ إنْ كنتُمْ مُؤمنين}. ومن هنا وقر في صدورنا -لمّا ضعف إيماننا- تعظيم الغربيين، وصرنا نرى الحَسَن إن جاء من عندهم ازداد حُسْناً، والقبيحَ إن كان من عندنا ازداد قبحاً، وكل ما يرونه خيراً فهو الخير. حتى الموسيقى التي هي لسان الطبع وحديث القلب، إن كانت من هناك فهي الموسيقى العالمية الخالدة، ولو كان الذي نسمعه منها هو -على الحقيقة- أصوات متنافرة ورقاعة بادية! ¬

_ (¬1) معناها: يخوفكم بأوليائه، قال قتادة: يعظّمهم في صدوركم.

حتى الفن الذي هو مظهر الجمال وتعبير الشعور، إن كان من هناك فهو الفن العالمي الخالد ولو كان خربشات وتخليطات، ولو كان فيه لوحات من هذا الفن الجديد، إذا أنت لم تقرأ تحت اللوحة أنها صورة فتاة حسبتها كومة من علب الكبريت! حتى الفجور الذي يأباه كل عقل وينفر منه كل طبع، إن كان من هناك فهو التطبيق العملي للفلسفة الوجودية! حتى السم الناقع الذي اسمه الخمر، إن كان من هناك فهو ماء الحياة! * * * ومنها أنه عطّل الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر، حين قال للعلماء: إن في عزكم عزّ الدين وفي هوانكم هوان الإسلام وشماتة المخالفين، فهل يليق بكم أن ينكر أحدكم منكراً أو يصدع بحق عند أمير ظالم، فيسحبه الشُّرَط على رؤوس الأشهاد، فتتدحرج عمامته وتتخرّق جُبّته ويتعرض للمكروه؟ وصدّقه قومٌ من العلماء، ونسوا أن الرسول -صلوات الله عليه- ضُرب وأوذي وكسرت أسنانه ورُمي بالحجارة وألقي عليه كرش البعير، وأن الصحابة حملوا من الأذى ما لا تحمله الجبال، فما كانت هذه المهانة إلا عزاً لهم ومجداً ورفعةَ منزلةٍ عند الله وعند الناس. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو قدوتنا وإمامنا، وأنه لما قعد علماؤنا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجاملوا الملوك وسعوا إلى أبواب الأمراء، وبَشُّوا في وجوه الفُسّاق ولايَنوا المجاهرين بالمعاصي، سلبهم الله الهيبة التي كانت لهم في صدور الحكام وفي قلوب الرعية، وأحوجهم إلى السلاطين وسلّطهم عليهم. * * *

ومنها: أنه حوَّل الدينَ من جواهر إلى مظاهر ومن حقائق إلى أشكال، فصار القرآن كلاماً يُتغنَّى به ولا يُعنَى إلا بمخارج ألفاظه وطول مُدوده (¬1)، وصار الدعاء كلاماً فصيحاً مُسَجَّعاً محفوظاً معاداً، وصارت الصلاة قياماً وقعوداً وركوعاً وسجوداً، وصار الحج سفراً وعودة ... أعمالُ جوارح والقلبُ غائب، وألفاظ لسان والفكر ساهٍ لاهٍ، وعباداتٌ غدت كالأجساد بلا أرواح، ودينٌ اقتصر على المساجد دون البيوت والأسواق. فلنتنبه -يا أيها الناس- إلى وساوس الشيطان، ولنستعذ بالله منه، ولنَذْكر دائماً أن الله معنا يسمعنا ويرانا، ولنعرف حكم الشرع في كل ما نأتي وما ندع، ولنعلم جميعاً أن العمر ماضٍ، والدنيا إلى الفناء، وأنه ما خلد في الدنيا أحدٌ حتى نخلد فيها، ولا فَرَّ من مُلْك الله أحد حتى نفرَّ من ملك الله. وأن في الوجود رباً، وأن بعد الحياة موتاً، وأن بعد الموت نشوراً وحساباً عسيراً، ثم تكون العاقبة جنة أو ناراً، فما أهون الألم في الدنيا يُعقب لذة باقية، وما أمَرَّ اللذةَ العارضة يكون من ورائها الألم الدائم. نسأل الله السلامة، وألاّ يجعلنا من الذين يأمرون الناس بالبِرّ وينسون أنفسهم، وأن يهدينا ويهدي بنا، ونعوذ بالله من الشيطان الرجيم (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر آخر الجزء الثالث من الإحياء للغزالي. (¬2) راجع آخر الجزء الثالث من إحياء علوم الدين للغزالي، وتلبيس إبليس لابن الجوزي، وإغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن القيم.

نداء إلى أدباء مصر

نداء إلى أدباء مصر نشرت سنة 1943 أتممت البارحة قراءة كتاب «جبران» لمؤلفه ميخائيل نُعَيمة، فأعجبني أسلوبه -على ما فيه من مخالفة لقانون اللغة وقواعد العربية- لما حمل من الصور البيانية والمجازات المستحدَثَة، والتشابيه التي لا نظير لها والاستعارات التي لم تتحدث عنها كتب البلاغة، لأن علماءها لم يقرؤوا مثلها، ولأنه أسلوب مستمَد من قلب حيّ وخيال قوي، على حين أن من الأساليب ما يُستمَد من كتب اللغة. وتمنيت لو أن مثله يجيء صحيحاً بنفَس عربي، فيكون نادرة الأساليب، ومفخرة الأدب، وهيهات! أما موضوع الكتاب فلم يعجبني، لأني وجدت حياة هذا الرجل -كما يصفها صديقه المؤلف- سلسلة آثام: من كفر إلى فسوق، ومن اعتماد على امرأة تشتغل وتغذوه وهو كسلان يتمدد على فراشه، إلى خيانة لهذه المرأة ونقض لعهدها، ومن إكبار لنيتشه المجنون، إلى الجنون به، إلى سرقة آثاره وانتحالها! ووجدته في حياته كلها أشبهَ بالمرأة المدلَّلة الكسول، هَمُّه شهوته، إنْ بالحقيقة وإنْ بالمجاز، يعبّر عنها بهذه الصور العارية وهذه القصص الفاسقة، التي ردّ على واحدة منها إمامُ الكُتّاب

المنفلوطي رحمه الله في نظراته، وهي القصة التي يدعو فيها النساءَ إلى ترك أزواجهن واللحوق بعشاقهن، لأن رباط الحب الشهواني أقوى عنده من رباط الزواج الشرعي! ووجدته تتوالى عليه المواعظ فلا يتّعظ، وتتعاقب النُّذُر فلا يتوب: يموت أبوه وأخته وأمه، ويصاب بالمرض العُضال ينخر جسمه الذي رُبي بالحرام نخر السوس (¬1)، وتأتيه في ذلك فتاة لم تعرف غير الطهر ولم تصحب إلا العفاف، تريد أن تحيّي فيه الكاتب الفيلسوف الذي تُكْبره وتُجِلّه، قد حملت معها عفافها وطهرها وطيب سريرتها، فكان ردّه على تحيتها وترحيبه بها أن أخرجها من عنده بلا عفاف ولا طهر، وسلبها أعزَّ شيء عليها: عِرْضَها. ووجدت كتاب حياته يُختصَر في كلمة واحدة: هي أنه خسر الإيمان والرجولة والفضائل كلها وربح شهرة عريضة، وترك صفحات فيها كلام جميل يلذ قارئه، ولكنه يسلبه إيمانه من قلبه ويقوّض بيته على رأسه، ولوحات فيها خطوط وألوان لا يرى فيها من كان مثلي من الناس، وهم مليون إلا واحداً من كل مليون، إلا أجساماً عارية لا معنى لها ولا دلالة، ولا يُعرف لها رأس من ذَنَب، والباقون من الناس يقولون إنها تدل على معان كبيرة هي رموز لحقائق الحياة، ويوضحون لك غامضها ويفتحون المغلَّق من معانيها بمحاضرة طويلة لا تفهم منها شيئاً، لأنهم هم لم يفهموا شيئاً منها. هذه هو الرجل الذي اتخذه قومه «نبياً»! ¬

_ (¬1) مات جبران بداء السل (مجاهد).

فخبروني: ماذا يصنع هذا الكتاب بنفوس الناشئة إن هم قرؤوه؟ أي قدوة في الحياة يكون لهم فيه؟ أيّ نمط من العيش يحبِّب إليهم؟ أما والله إنه لخطب داهم؛ ليس خطبَ هذا الكتاب وحده، فإن له لَأمثالاً، وإن أمثاله لَكثير كثير. وسيقول قوم: أنت رجل رجعي جامد، هذا هو الفن، يُغتفَر لصاحبه ما لا يغتفر لغيره. ولئن كنتُ جامداً فهم والله مائعون، والجامد يستقر ويتماسك، أما المائع فيسيل ويضيع. ولئن كنت رجعياً فالرجعية مشتقة من الرجوع، وهي في الغرب سبّ لأنها عودة إلى ظلام القرون الوسطى وجَهالة الماضي الذميم، وهي عندنا مدح لأنها رجوع إلى مثل ما كان عليه أجدادنا في عصور العلم والنور. أما قولهم "هذا هو الفن" فإني أنكره أشد الإنكار. إن الذي أعرفه أن الفن هو الذي يبحث عن «الجمال» بحثَ العلم عن «الحقيقة»، وأنه يُدْرَك بالعاطفة كما يُدرَك العلم بالعقل. فمن قال إن الجمال لا يكون إلا في الفحشاء والمنكر؟ أليس في تصوير الفضيلة جمال؟ والوفاءُ والوطنيةُ والإخلاص والنبل، أَخَلَتْ كلها من الجمال، واقتصر الجمال على ما يثير الشهوة ويحركها؟ أوَمن أجل حماقة نزلت برأس فرويد فرفع من شأن الشهوة ونَوَّهَ بها ننسى فضائلنا وسجايانا؟ إنّ مَن كانت هذه مقالتهم لم يأتوا بجديد، إلا أنهم لم يسمّوا الرذيلة رذيلة ولا الفحش فحشاً، وإنما سموه فناً. والجنون فنون، والذي أعرفه أنا أن الفن إن كانت عاقبته فساد الأخلاق وانهيار بناء الأمة لم يكن له وزن، وأن للأدب غاية هي تهذيب الطباع

وصرف العواطف إلى الخير، وتنبيه الضمائر الغافلة، وإيقاظ الهمم والمروءات، وما إلى ذلك مما يكون منه نفع الناس، وأن في الحياة ما هو أثمن من الجمال والفن، فيها الخُلُق والعِرْض والفضيلة والدين، وأن من يبيع ذلك كله بلوحة مزخرفة بالخطوط والألوان، أو قصيدة قد أودعت سحر البيان، كان أخسَرَ الناس قاطبة. وليست مقالتهم في الفن إلا إعادة لما يقوله غيرهم، فهي عن تقليد لا عن اجتهاد، وهي محصول ذاكرة تَحفظ وتُردِّد، لا ثمرة عقل يَبحث ويقيس ثم يصدّق أو يكذّب، لذلك تجد لهم الرأي وضده، وما الأولَ رأوا ولا بدا لهم فعدلوا، وإنما قال لهم معلّموهم فقالوا، ثم مالوا فمالوا، فلا سبيل إلى مناقشتهم فيما يقولون، ولا تجوز مناظرة المقلِّد الذي يروي قول إمامه دون دليله. هذا الذي أعرفه، ولكنّ مَن حولي من الأدباء لا يعرفون إلا العبث يشتغلون به والنارُ تشتعل من حولهم، والسيلُ طامياً يندفع إليهم، والبلاءُ نازلاً يحيط بهم. وإلا فأين الأدباء عن هذا الذي في سواحل الإسكندرية وبيروت، وعمّا في دور الملاهي وحانات الخمر؟ أين هم عن العِرض المَثْلوم في رأس البَرّ وستانلي باي (¬1)، ¬

_ (¬1) من شواطئ الإسكندرية التي عُرفت بالتكشف والفساد من تلك الأيام. قال في غير هذا الموضع: "خبّروني: هل في الدنيا دين من الأديان أو خُلُق من الأخلاق يبيح هذا الذي في ستانلي باي وسيدي بشر؟ فلماذا لا يُحارَب المنكر؟ لماذا لا يقوم عليه القائمون على الأخلاق؟ لماذا لا ينفّر منه الأدباء؟ ... يا أيها المصريون، بل أيها=

والشرف المُهان والفجور المُعْلَن؟ أين هم عن المدارس التي تعلم التلاميذ الجهل مركَّباً تركيباً مَزْجِيّاً كيميائياً، حين تعلمهم كل شيء إلا حقائق دينهم، وحين تقرهم على كشف العورات وإضاعة الصلوات واختلاط البنين بالبنات، أو هي تدفعهم إلى ذلك دفعاً؟ أين أدباؤنا عن الرجولة التي يعصف بها داء التأنّث في الشباب؟ يا ويحَ من يظن أن الأدب إنما هو حديث الشهوة ملفوفاً برداء الفن، والمواخير موضوعةً بين دفّتَي كتاب أو في غلاف مجلة، ويستهين بالعِرْض والأخلاق، والعرب أغير الأمم على الأعراض، يفخرون بالبخل بها وصيانتها فخرَهم بالجود بالمال وبذله، ويحافظون عليها في صحوهم وسكرهم: وإذا شربت فإنني مُستهلِكٌ ... مالي، وعِرْضي وافِرٌ لم يُكْلَمِ لأن المال يُعوَّض إن فُقِد، والعرض إن ثُلِمَ لا يلتئم. أصون عِرْضي بمالي لا أُدنِّسه ... لا بارك اللهُ بعد العِرْضِ بالمالِ أحتالُ للمال إنْ أَوْدَى فأجمعه ... ولست للعِرض إن أودى بمُحتالِ ¬

_ = المسلمون: انتبهوا، إنها النار شبّت في «ستانلي باي» وأقبلت تضربها الرياح الأربع وتهيّجها تحرق كل ما تمسه. إنها النار، وإني نذير لكم". انظر مقالة «إلى علماء مصر» في كتاب «في سبيل الإصلاح»، وهذه المقالةُ هنا (هي والتي ستأتي بعدها) كأنهما التتمة لها، فكان ينبغي أن تلحقا بها في ذلك الكتاب (مجاهد).

وكانوا يفخرون بغض الطرف عن الجارات: وأغُضُّ طَرْفي إنْ بدت لي جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها هذا وُهم في جاهلية، فلما جاء الإسلام وبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق أقرَّ العربَ على ما كانوا عليه من فضيلة، ومن فضائلهم الغَيْرة على الأعراض، وأدّبهم أحسن التأديب حين أنزل على نبيهم: {قُلْ للمُؤْمنينَ يَغُضّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظوا فُرُوجَهُم}، وحرّم عليهم كشف العورات. ثم استدار الزمان، وكان ناس يدّعون أنهم عرب مسلمون ثم لا يتخلقون بأخلاق الجاهلية ولا يتأدبون بأدب الإسلام؛ غاض ماء الحياء من وجوههم فلم يستحيوا أن يسايروا زوجاتهم في الطرقات سافرات باديات الشعور والنحور، واستُلَّت الشهامة من قلوبهم وامَّحَت الغيرة، فلم يردعهم دين ولم يزعهم خُلُق عن أن يعرضوا بناتهم ونساءهم وأخواتهم عاريات الأجسام كلها إلا ما يستر العورة الكبرى، في مكان اختلط فيه الرجال والنساء ... أمرٌ واللهِ لو سمعه مسلم من المسلمين الأولين لصُعق له، ولو سمعه جاهلي لأغمي عليه من غرابته وفظاعته، ومصر ذات الأزهر لا تمنع ذلك ولا تحرّمه، ودينها الرسمي الإسلام! اللهمَّ إليك المشتكى! وهذه مجلات مصر تنشر كل أسبوع صور العاريات، فتزيد نار الشهوة في أعصاب الشبان والشابات ضِراماً ولا مُنكِر، حتى جرّأها هذا السكوت على الإقدام على عدوان يمنعه القانون

والذوق والنبل والدين، وهو تصوير الشيخ الجليل أبي العيون تصويراً هزلياً بعمامته وجبته ومعه امرأة عارية، وتكرار ذلك مرتين، وتهكمها عليه لأنه انفرد بإنكار هذا المنكر الفظيع وأعلن الغيرة على الأعراض. فإلى متى تمتد هذه الجاهلية العمياء؟ * * * فيا أدباء مصر: انتبهوا، فوالله إنها لتوشك أن تنهار الأخلاق فلا تقوم لها قائمة، وتذهب هذه البقية من الدين فلا يبقى دين، وتموت هذه الفئة من أهل المروءة فلا يبقى من مروءة. يا أدباء مصر: إن العالم العربي ليسمع منكم ويقتدي بكم، فإن أنتم لم تسلكوا به سبيل الإصلاح وتدلّوه على طريق الخير كان عليكم أكبر الوزر. ورحم الله ذا قلم جرّده لنُصرة هذه الدعوة والدفاع عن الشرف، وذا صحيفة فتحها لتلك الأقلام، وأعانها على دعوتها، وكل قارئ أقبل عليها ونشرها. * * *

نحن المذنبون

نحن المذنبون نشرت سنة 1955 كنت أمس عند قريب لي شاب، لا يدع شيئاً في هذه الكتب التافهة التي يحملها بائعو الجرائد إلا اشتراه، حتى اجتمع له منها ما لو أنفق ثمنَه في كتب العلم النافع والأدب القيِّم وقرأه لصار به من علماء الأدباء أو من أدباء العلماء، وجعلت أنظر فيها، فسألني: ألا تقرأ هذه الكتب؟ قلت: أقرؤها إن وقعت لي بالمَجّان لأستعين بها على النوم، أما شراؤها فلست أستحلّه لأن أكثر مؤلفيها مفسدون، وحرامٌ أن أعينهم على إفسادهم ولو بثمن نسخة واحدة. فقال: خذ ما تشاء منها لتقرأه. فأخذت طائفة من كتب التراجم، ومنها كتاب في ترجمة «اللورد بيرون»، وقرأته في الفراش أجتلب به النوم، فإذا أنا أجد فيه من البلايا والطامّات ما أطار النومَ من عينَيّ غضباً لله، وللفضيلة، ولأخلاق الشباب الذين يقرؤونه. كتاب مطبوع أجملَ طبع على أجود ورق، محلَّىً بالصور، وفيه الديناميت الذي ينسف أسس الحياة الاجتماعية بكل ما فيها من دين وخلق وفضائل.

وأنا لم أعرف مِن بيرون هذا إلا أنه شاعر غزل إنكليزي، قرأت من شعره مترجَماً إلى الفرنسية والعربية ما يطرب ويعجب، ولم أكن أدري قبل أن أقرأ هذا الكتاب أن هذا البيرون قد جاء من جَدٍّ معتوه فاجر، وأب مجرم ساقط، وأم مجنونة حمقاء، وأن حياته ... لا، لن أصف لكم ما في هذا الكتاب النجس فأكون راويةً للشر وحاملاً للرجس، ولكن ألخّص ما فيه بكلمة واحدة، هي أن هذه الحياة كانت سلسلة من الجرائم، بدأت بعشقه وهو في سن السابعة ومحبته الصبيانَ الحِسان الأماليد، وانتهت بأن أحب أخته! أخته، ألا تصدقون؟ حباً أثمر حَبَلاً! هذه الرذائل كلها، ومؤلف الكتاب يمجّد الرجل ويبجّله ويلبسه أثواب العظمة والجلال، ولا ينكر عليه بكلمة واحدة؟ لماذا؟ لأنه استطاع أن يصنع كلاماً جميلاً، لأنه نظم شعراً بليغاً، لأنه كان أديباً ... والأديب مَغفورٌ له كل ذنب، محتمَلٌ منه كل أذى. وأنا أديب، ولكن إنْ كان هذا هو الأدب فاشهدوا عليّ أني طلَّقتُ الأدبَ طلاقاً لا رجعة فيه، وسامحكم الله بالثلاثين سنة التي أنفقتها من عمري في الكتابة فيه، وبالعشرة الآلاف من الصفحات التي كتبتها في هذه السنين الثلاثين. إن كان هذا هو الأدب فلعنة الله على الأدب! لعنة الله على الشعر الجميل والوصف العبقري إذا كان لا يجيء إلا بذهاب الدين والفضيلة والعفاف. لعنة الله على بيرون وبودلير، وعلى بشار وأبي نواس، وعلى من يفسد عليّ ديني ويذهب بعرضي ويحقر مقدساتي ليقول كلاماً حلواً. وهل تعوّض عليّ لذتي بحلاوة

الكلام الدينَ الذي فسد، والعرضَ الذي ذهب، والمقدسات الذي مُرِّغت بالوحل؟ هل في الدنيا مؤمن أو كافر، شرقي أو غربي، يسمح بوضع هذا الكتاب بين أيدي أبنائه وبناته ليتعلموا منه أن يحب الشابُّ أختَه حباً ينتهي بالحمل؟ هل يسمح بذلك إلا أن يكون قد فقد عقله؟ فكيف يسكت الناس عن هذا الكتاب وهو يباع علناً؟ كيف يُغْضون على هذا الماخور السيَّار؟ كيف تقر الحكومة نشرَ كتاب يلعن كل ما يباركه الشيخ والقسيس والحاخام، ويهدم كل ما يبنيه الوُعّاظ والمعلمون والمصلحون، ويبيح كل ما تحرمه الشرائع والقوانين والأعراف؟ آمَنّا بحرية الرأي، ولكن هل معنى هذه الحرية أنّ كل من استطاع كتابة صفحات وطبعها يكون حراً أن يقول ما شاء، ولو دعا إلى الكفر والفسوق والعصيان؟ لماذا تمنع البلاد الملكية الطعن بالذات الشاهانية، وتبيح الطعن بالرسل والأنبياء بتسفيه أديانهم وتقبيح شرائعهم؟ وهل الحرية أن يعمل كل إنسان ما يريد؟ ولو ضرب غيره؟ ولو عدا على ماله؟ ولو مشى في الطريق عارياً؟ ولو كتب مثل هذا الكتاب؟ (¬1) ولماذا نقيم القيامة على من يسرق عشرة قروش ونبعث وراءه الشرطة والدرك والنيابة والمحكمة والسجن، ونترك سارق الأعراض والعقائد؟ ¬

_ (¬1) من شاء فليقرأ مع هذه الكلمةِ الكلمةَ الأخرى: «حرية الكتابة»، وهي في كتاب «فصول في الثقافة والأدب»، ص234 (مجاهد).

إن في الأسواق كتباً نجسة مدمِّرة، أُلِّفت لتمجيد أناس كانوا في سِيَرهم وفي أخلاقهم شرَّ نموذج يُعرَض على أنظار الناشئين والناشئات، ولا يكون لهم منها إلا دليل يأخذ بأيديهم ليسلِّكهم هذه المسالك؛ منها كتاب جبران خليل جبران لنُعَيْمة (¬1)، جبران الذي يصفه صديقه -وهو يقرّظه- بأنه حمل نفسه إلى المجد على عاتق امرأة، ثم لم يكفه هذا الصَّغار حتى جعل مكافأتها أن خان عهدها! جبران الذي يمدحه صَفيُّه وخليله نعيمة بأنه كان يحاول أن «يأتي» كل فتاة كانت تأتي إليه معجَبة به! ومنها كتاب بلزاك وكتاب إسكندر دوماس وأشباههم من أدباء الإفرنج، ممن كانوا يعبثون بعرض الفتاة ويفجعونها فيه، ويجعلون منها بَغِيّاً لينظموا قصيدة غزل أو يكتبوا قصة حب، كما أحرق نيرون روما ليؤلف لحنه الموسيقي على لهيب نارها! وشرٌّ من هذه الكتب كلها كتاب «الرباط المقدس» لتوفيق الحكيم، لأنه دعوة صريحة للعبث بالأمانة الزوجية، وأن تشرك المرأة حبيبَها مع زوجها في جسدها! كتاب لم أجد في كل ما رأيت من كتب دعاة الرذيلة أوقحَ من مؤلفه الفاجر ولا أقل حياء منه. أوَتدرون كيف قرأت هذا الكتاب؟ كنت في مصر سنة 1945، جئتها بعد غيبة عنها امتدت سبع عشرة سنة، وأقام لي المصريون الكرام حفلات كثيرة، قام في واحدة منها الشاب العالم الصالح عبد الرحمن الباني (مفتش الدين في وزارة المعارف ¬

_ (¬1) الذي مَرَّ خبره في المقالة السابقة، وبين نشرها ونشر هذه المقالة اثنتا عشرة سنة (مجاهد).

السورية اليوم) (¬1) وكان طالباً في الأزهر، فألقى خطبة عاب فيها على الأدباء المسلمين سكوتهم عن إنكار منكرات النشر، وضرب المثل بهذا الكتاب، وبلغت به الحماسة أن طوَّحَ به فألقاه عليّ من فوق المنبر، وقال: خذ انظر ماذا يكتبون وأنتم نائمون! وأصابني الكتاب بضربة على وجهي، ولكني لم أغضب ولم أردد عليه مثلها، بل احتملتها صابراً لأن الحق كان معه. لأننا نحن المذنبون. * * * نحن المذنبون، ونحن نستحق هذه الضربة وأشد منها. إن الكثرة الكاثرة من الناس في كل بلاد المسلمين منا، وفينا الأموال، وفينا الكفايات، وفينا الأقلام، والحكم في عرف الديمقراطية للأكثر، ومع ذلك ... ومع ذلك نجد الصحافة في أيدي «الآخَرين»، والنشر في أيديهم والمدارس والجامعات في ¬

_ (¬1) كان من تلاميذ جدي المبكرين من يوم درّس في «الجوهرية» سنة 1345هـ، ثم صار من أصدقائه المقرَّبين، وله في الذكريات أخبار متفرقة، ما ذكره في واحدة منها إلا بخير وثناء، قال: "كان من تلاميذي فيها واحد نبغ حتى صار من شيوخ التعليم ومن العلماء، وأمضى شطراً من عمره موجّهاً للمدرّسين، مشرفاً على وضع المناهج وتأليف الكتب في العلوم الدينية لأنه كان مفتّش التربية الدينية في وزارة المعارف، وهو أحد تسعة كانوا أوفى مَن مرّ بي من الطلاب، وقد مرّ بي آلاف وآلاف وآلاف من سنة 1345 إلى الآن" (الذكريات: 1/ 362) (مجاهد).

أيديهم، وكل شيء في أيديهم. ونحن الذين ندفع تكاليف هذه الصحف، نحن الذين نشتريها ونقرؤها، ونحن ندفع أثمان هذه الكتب، ونحن الذين يرسلون أبناءهم وبناتهم إلى هذه المدارس والجامعات، ونحن الذين يؤدون الضرائب لهذه الحكومات التي تهجر كتاب ربنا وسنّة نبيّنا وتحكم فينا بقوانين فرنسا وإيطاليا وسويسرا، والتي تبيح فينا الزنا والربا والفجور والعصيان وكلَّ ما يحرّمه علينا دينُنا رغماً عن أنوفنا. ويا ليتنا ننكر بألسنتنا وأقلامنا إن عجزنا (ولسنا عاجزين) عن أن ننكر بأفعالنا! ويا ليتنا -إذ لم نستطع منع هذه الكتب وهذه المجلات- لم نمدّها بأموالنا! ويا ليتنا -إذ لم نقدر على إصلاح هذه المدارس والمعاهد- لم نبعث إليها بأبنائنا وبناتنا! ويا ليتنا -إذ بعثناهم إليها- ألزمناهم بالصلاة والصيام وتقوى الله، وغض البصر وستر العورات والبعد عن المحرمات، وسلّحناهم لذلك بسلاح من معرفة حقيقة الإسلام والوقوف على أحكامه! ويا ليتنا -?إذ لم نفعل ذلك كلنا- فَعَله علماؤنا على الأقل، فلم يكن أبناؤهم وبناتهم من السابقين الأولين في طريق الاستهتار والفسوق! أفلا نستحق أن نُصفَع بهذه الكتب كلَّ يوم على وجوهنا؟! * * * إن أكثر هؤلاء الأشرار (من أمثال توفيق الحكيم) عُزّاب غير متزوجين، ليس لهم ولد يخافون عليه الفساد ولا بنت يخشون على عفافها الضياع، فهم لذلك يفتحون علينا -في صحفهم

ومجلاتهم وكتبهم- باباً بعد باب للاختلاط والفجور والبغاء المقنَّع، يخترعون كل يوم اسماً جديداً؛ فمن «الحرية الفكرية»، إلى «الحياة الفنية»، إلى «الروح الرياضية»، إلى «النهضة النسائية» ... والمسمّى واحد والغاية واحدة؛ وهي أن يستمتعوا المتعةَ المحرمة ببناتنا، بالنظر إلى محاسنهنّ في الطريق، والاختلاط بهنّ في المعهد، ورؤية المستور من أعضائهنّ في الملعب، وتقصِّي العيون الفاجرة كلَّ موضع من أجسامهن على الشاطئ، وما يتبع النظرة من الابتسام، وما بعد الابتسام من الكلام، ثم الموعد واللقاء، ثم ... ما نعرف وتعرفون! غاية طبيعية لا بد من بلوغها، ومن أنكر ذلك لم يكن إلا أحمقَ مجنوناً، أو كذاباً ملعوناً يُظهر غير ما يُبطن ويقول غير ما يعتقد. وهل تُدحرج الصخرةَ من فوق الجبل، ليس أمامها شيء، وتنتظر أن تقف على الطريق؟ هل تضع النار والبارود وترقب ألاّ يكون انفجار، بل يكون برد وسلام؟ هذه حقيقة من أظهر الحقائق، من كان لا يبصرها فهو أعمى، ومن أنكرها فهو شيطان. فلِمَ لا نعترف بالحقائق؟ لماذا ننكر بألسنتنا ما تنطق بصحته قلوبُنا وجوارحنا؟ لماذا نكون مثل هؤلاء «التقدميين»، يفعلون كل شيء، ولكن يستحيون من التصريح باسمه؟ وكيف يجوز لهم في شرع هذه المدنية أن يهجموا علينا ولا يجوز لنا أن ندافع عن أنفسنا؟ أتبلغ الوقاحة باللص أن يأتي ليسرق عِرْضَ ابنتي جَهاراً نهاراً، ولا يحق لي أن أحصِّنها منه بالحجاب الشرعي وبالتربية الإسلامية، وأن أدافع عن نفسي

بالفكر والقلم واللسان؟ إننا في أنظارهم «رجعيون» و «جامدون» و «متعصبون» لأننا لم نقل لهم: تفضلوا انتقوا مَن تشاؤون من بناتنا لتصاحبوها في السينمات، وتراقصوها في السهرات، وتأخذوها إلى «البلاجات»! لقد بلغنا من المذلة والضعف أنْ صرنا نخشى اللص ونهرب منه لئلا نُشاهَد متلبسين بهذه الجريمة الهمجية المخالِفة للمدنية والتقدمية: جريمة منع اللص من أن يسرقنا! لقد تبدّلت المقاييس وتغيرت الأفهام، فصار الناس يُجِلّون البغايا من الممثلات والراقصات أكثر مما يُجلّون الفاضلات الصالحات، ويحترمون المغنين والمغنيات أكثر من احترام المدرسين والمعلمات! "لقد (¬1) ذهبت أم كلثوم إلى أميركا يوماً فكان السفير المصري في استقبالها! وأم كلثوم مغنية مطربة عبقرية، ولكن ما هي في نظر الإسلام؟ كيف يصف الإسلام المرأةَ ¬

_ (¬1) ما بين الأقواس (من هنا إلى قوله "البنات موظَّفات مع الرجال" في الصفحة بعد الآتية) لم يظهر في الطبعات السابقة من الكتاب، وهو في أصل المقالة التي نُشرت في العدد السابع من السنة الرابعة من مجلة «المسلمون» الذي صدر في ربيع الثاني 1375 (تشرين الثاني 1955). ولم أعرف لماذا حذف جدي -رحمه الله- هذه الفقرات من المقالة يوم نَشَرها في الكتاب، وترددت مليّاً وأنا أفكر: أأُبقي المقالةَ على حالها أم أردّ لها ما بُتر من أوصالها؟ وهل يحق لي أن أتصرف بها تصرف المؤلف الأصيل وما أنا إلا محرر وكيل؟ ثم ملت إلى إثبات ما كان محذوفاً وإعادة الفقرات المنزوعة إلى جسم المقالة، ففيها من المعاني الخيِّرة ما لا ينبغي حرمانُ قارئِها من نفعه أو كاتبِها من الثواب عليه (مجاهد).

التي تغنّي للرجال سافرةً كاشفةَ الشعر والنحر والذراعين؟ (¬1) ولا تقولوا: المستعمر! فلقد صنع تلاميذ المستعمرين في كل بلد إسلامي بعد الاستقلال ما لم يصنعه المستعمر أيام الاحتلال. لقد حكَّمْنا برقابنا هؤلاء الذين رباهم المستعمرون على هواهم، وعلموهم في مدارسهم (¬2) وأورثوهم مقاصدهم، فقطعوا بنا من طريق الشر في هذه السنين القصار أكثر مما قطع بنا المستعمر في ذلك الدهر الطويل! كنا نُحكَم أيام المستعمر بـ «المجلة»، وهي القانون المدني الإسلامي، فصرنا نُحكم بقانون السنهوري، أي بالقانون المدني الفرنسي! وكنا نعود في المحكمة إلى الحاشية والفتاوى الهندية ¬

_ (¬1) لو رأى الشيخ ما صارت عليه المغنيات اليوم لَعَدّ مغنيات الأمس من الراهبات المتبَتِّلات! وما أثني على زمان كان فيه أولئك، بل أرثي لزمان صار فيه هؤلاء. وإن من رحمة الله بالشيخ أن قبضه إليه قبل أن ينقبض صدره بمرأى تُرّهات اليوم التي تملأ الإذاعات والفضائيات! (مجاهد). (¬2) في الماضي أرسَلْنا «بعضاً» من أولادنا إلى مدارس أعدائنا ليَرضعوا فيها حبهم وحب عقائدهم وقِيَمهم وأفكارهم، بعضَ أولادنا فقط. ثم دار الزمان دورته، فصرنا اليوم ولا يكفينا أن نجعل من بعض أولادنا عدواً لنا، بل لا يطمئن بالنا حتى نَهَب أعداءنا كلَّ أولادنا، فقلنا لهم: لماذا نرسل منهم القُلَّ إلى بلادكم ولا نسلمكم الكُلَّ في بلادنا؟ وكذلك كان: دعوناهم فجاؤوا بالمناهج والأفكار والمدرّسين والأعوان، واستعاروا منا الأرض والجدران والبنيان، وقلنا لهم: دونكم أولادَنا فشوِّهوا ولوِّثوا منهم الأفئدة والأذهان! يا حسرتا على مُصابنا في أولادنا في هذا الزمان! (مجاهد).

وبدائع الصنائع (¬1) فصرنا نعود إلى كتب النصارى واليهود! وكانت المحاكم الشرعية قائمة أيام المستعمر فألغيناها، وكانت الأوقاف الإسلامية مَصونة أيام المستعمر، لا تُمَدّ لها يد بتبديل أحكامها أو قطع نظامها (¬2)، فألغينا الأوقاف وقسمناها. ماذا أعدد؟ وماذا أذكر؟ ألم يَزِد التكشف والاختلاط بعد الاستقلال؟ ألم يبتدع ديوانُ المحاسبات في الشام بدعةَ جعل البنات موظَّفات مع الرجال؟ " هذا كله ثمر الغَرْسة الخبيثة التي غرسها فينا الاستعمار، وإنه لن يكون الجلاء حقاً حتى تجلوَ قوانين المستعمر عن محاكمنا، وشُبَهُهُ عن رؤوسنا، وعاداته عن بيوتنا، كما جلت جنوده عن أرضنا. وذلك في أيدينا؛ نحن الكثرة الكاثرة، نحن الذين نملك الأموال والعقول والألسنة والأقلام، ونملك هذه المنابر التي تستطيع أن تهز الأرض إذا علاها رجال، لا أشباه الرّجال! فإذا بقينا على هذا الصمت، وهذا الضعف، وهذه العبودية، كنا مستحقين أن نُصفَع على وجوهنا كل يوم، لا بالكتب، بل بالنعال! * * * ¬

_ (¬1) أي حاشية ابن عابدين، وكل ما ذُكر من كتب المذهب الحنفي الذي كان مذهبَ الدولة العثمانية، والذي بقي هو الغالب في الشام من بعد (مجاهد). (¬2) النظام في اللغة خيط العقد.

في الحب

في الحب نشرت سنة 1955 [كتب إليّ أخ من كرام الأدباء يقول: هذا باب الأدب (¬1)، والشعر كله حديث عن الحب، وأنت وعدت القراء بأنك كاتبٌ لهم فيه إن رضيت «المسلمون». وها هي ذي قد رضيت وفتحت لك باباً، فهل تدخل منه مُنجِزاً وعدَك؟ وإن كنت تجهل الحب ولا تعرفه فمَن الذي كان يستعير اسمك من ثلاثين سنة إلى اليوم، فيكتب فيه هاتيك الفصول، من كل راقص من القول مُرقص، ومن كل شعر يلعب بالقلوب (وإن لم يُنظَم نظمَ الشعر)، ومن كل نشيد يكاد يغنّي بنفسه إن لم يجد المغني؟] -1 - أنا رجل قد قطع الزمان ما بينه وبين الحب، وصرفته عنه السنُّ وشواغلُ العقل وهموم الأيام، فكيف ألبس في الكهولة أثواب الطفولة، وأرجع من مَراقب الخمسين إلى ملاعب ¬

_ (¬1) نُشرت هذه المقالة أول مرة في «باب البيان» بمجلة «المسلمون»، في العدد الثامن من السنة الرابعة الذي صدر في آخر سنة 1955=

العشرين؟ وما أنا -مع ذلك- ممّن يزدري الحب. ومن حرّم الكلام في الحب؛ "واللهُ الذي أمال الزهرة على الزهرة حتى تكون الثمرة، وعطف الحمامة على الحمامة حتى تنشأ البيضة، وأدنى الجبل من الجبل حتى يولد الوادي، ولوى الأرض -في مسراها- على الشمس حتى يتعاقب الليل والنهار، هو الذي ربط بالحب القلبَ بالقلب حتى يأتي الولد؟ ولولا الحب ما الْتَفَّ الغصن على الغصن في الغابة النائية، ولا عطف الظبيُ على الظبية في الكِنَاس البعيد، ولا حنا الجبل على الرابية الوادعة، ولا أمدّ الينبوعُ الجدولَ الساعي نحو البحر. ولولا الحب ما بكى الغمام لجدب الأرض، ولا ضحكت الأرض بزهر الربيع، ولا كانت الحياة" (¬1). ما في الحب شيء ولا على المحبين سبيل، إنما السبيل على من ينسى في الحب دينه، أو يضيع خلقه، أو يهدم رجولته، أو يشتري بلذّةِ لحظةٍ في الدنيا عذابَ ألف سنة في جهنم! أوَلم يؤلف ثلاثةٌ من أعلام الإسلام ثلاثةَ كتب في الحب (¬2)، وهم ¬

_ (¬1) = (جُمادى الأولى 1375). وحينما نشرها جدي رحمه الله في الكتاب لم يُثبت هذه المقدمة في أولها، فأثبتّها أنا تماماً للفائدة، وكذلك حذف السطور الأربعة الأولى، فاستحسنت أنا إعادتها إلى موضعها، وأرجو أن أكون في ذلك كله محسناً غير مسيء (مجاهد). ما بين الأقواس فقرة من قصة «ابن الحب» من كتابي «قصص من التاريخ». (¬2) «الزهرة» لابن داوود الظاهري، و «روضة المحبين» لابن القيم، و «طوق الحمامة» لابن حزم.

صاحب الإعلام (¬1) ومصنّف المُحَلّى والإمام ابن الإمام؟ فيا ليت الشبّان يعودون إلى الحب (الحب المباح، حب الحليلة لا حب الخليلة، وحب الإخوان لا حب الأخدان) فتقل هذه الشرور ويخف هذا الفساد. ولكن كيف أكتب عن الحب؟ وهل تسع هذه المقالة حديث الحب؟ هل يوضع القمر في كف غلام؟ هل يُصَبّ البحر في كأس مُدام؟ وأين -لَعَمْري- الألفاظ التي أحمّلها معاني الحب؟ أين التعبير الذي يترجم عن العاطفة؟ إن البشر لا يزالون أطفالاً ما تعلموا الكلام، إنهم خُرْسٌ يتكلمون بالإشارات، وما هذه اللغات البشرية إلا إشارات الخرسان، وإلا فأين الألفاظ التي تصف ألوان الغروب، ورجفات الأنغام، وهواجس القلوب؟ نقول للّون «أحمر»، وفي صفحة الأفق عند المساء عشرات ¬

_ (¬1) «إعلام الموقّعين عن رب العالمين»، وهو كتاب جليل فيه علم كثير، وفيه شغب على المذاهب الفقهية المدروسة المحقَّقة، ومثلُه في ذلك «المُحلّى» لابن حزم. ونحن لا نقول إن كل ما في المذاهب الأربعة مما يجب اتّباعه ولا تجوز مخالفته، ولكن نقول إن من كان مقلداً على كل حال فأَولى به أن يتبع مذهباً خُدِم أكثر من ألف سنة من أن يتبع فقيهاً منفرداً برأيه أو يتبع محدثاً غيرَ فقيه. والحديث هو الأصل، ولكنْ ليس كل محدث فقيهاً، ولا كل صيدلي طبيباً، ولا كل من وقف على نصوص القوانين يكون قاضياً أو محامياً. هذا وأنا أعلم أن الاثنين (ابن القيم وابن حزم) من أجَلِّ العلماء الذين ازدان بهم تاريخ الإسلام، ولكن لكل عالم هفوة، والعصمة للرسول صلى الله عليه وسلم ولأمته فيما ينعقد عليه «إجماع» مجتهديها.

الألوان كلها أحمر، وما يشبه لونٌ منها لوناً، وما عندنا لهذه العشرات إلا هذا اللفظ الواحد. ونقول للّحن «رَصْد»، ولكنّ رجفة في صوت المغني أو مَدّة أو غنة تجعل من الرصد مئة رصد، وما عندنا لهذه المئة إلا اللفظ الواحد. ونقول: قصة «جميلة» ونغمة «جميلة»، ومنظر «جميل» وطفل «جميل»، ما عندنا إلا هذا اللفظ الواحد نكرّره كالببغاوات نعبّر به عن ألف جمال، ما منها جمال يشبه جمالاً. وأين جمال القصة من جمال الوادي، وجمال العمارة من جمال المرأة؟ وجمال المرأة: أهو لون واحد حتى نطلق عليه الوصف الواحد؟ لو حشدت مئة من أجمل الجميلات في مكان لرأيت مئة لون من ألوان الجمال، تشعر بها ولكن لا تملك وصفها. إن في الأرض اليوم أربعة مليارات من العيون البشرية نصفها في أوجه الأُنثَيات، ونصف النصف تحت حواجب الغيد الفاتنات، وما فيها عينان هما -في شكلهما ووحيهما وأثرهما في النفس- كعينين أُخرَيَين. ثم إن لكل عين حالات مختلفات لا يحصيها العد، ولغات لو كان يدركها البشر لكان لكل عين قاموس يترجم عنها كالقاموس المحيط! وما عندنا لهذا كله إلا هذا اللفظ الواحد: جميل، جميل، جميل ... نكرّره ونعيده. وكذلك الحب. الحب عالم من العواطف، ودنيا من الشعور فيها كل عجيب وغريب، وليس لنا إليه إلا هذه الكوّة الضيقة، الكلمة القصيرة ذات الحرفين: الحاء والباء. الحاء التي تمثل الحنان، والباء التي تجعل الفم وهو ينطق بها كأنه متهيئ

لقبلة! كلمة «الحب». ولكن كم بين حب وحب! بين حب التلميذ مَدرستَه، وحب الوالد ولدَه، حب الصديق صديقَه، وحب المتشائم الوَحْدةَ، وحب أكلة من الأكلات وحب منظر من مناظر الطبيعة وحب كتاب من الكتب ... وبين حب المجنون ليلاه. وحب العاشقين أنواع وأنواع. ففي أي الحب أتحدث؟ وكيف أجمع أطراف الكلام حتى أحشره في هذه الصفحات، ولو لبثت شهراً أكتب كل يوم فصلاً ما أتيت على ما في نفسي ولما وفّيت حقه الموضوع؟ -2 - ولكني مع ذلك سأحاول، أحاول أن أكتب في الحب وقد تقضّى الصبا وتولى الشباب. وما كان يوماً يملأ القلب صار ذكرى لا تكاد تخطر على البال. لقد كنت -إذ أكتب في الحب- أغرف من مَعين في نفسي يتدفق، فجفّ النبع حتى ما يَبَضُّ بقطرة، وخلا الفؤاد من ألم الهجر وأمل الوِصال، وبطل سحر الغيد، وطمست شمس الحقيقة سُرُجَ الأباطيل. ولو أني بُليت بحب جديد لأعاد لي الحب أيامي التي مضت. والحب يصنع المعجزة التي تتقطع دونها آمال البشر؛ يعيد للمحب ماضيات الأيام، ويرجع له خوالي الليالي، ويردّ الكهلَ فتى والفتى طفلاً. وأين مني الحب؟ لم يعد ينقصني بعد السن والتجربة إلا أن يتعبّدني الحب وأن أعود إلى تلك الحماقات! أعوذ بالله من الجنون بعد العقل! كلا، «ما أنا من دَدٍ ولا دَدٌ

مني» (¬1)، فاتركوني أيها العشاق، اتركوني فقد أنستني الأيام كيف يكون الغرام. وماذا يبتغي العشّاقُ مني ... وقد جاوزتُ حدَّ الأربعين؟ ولكن هل تركني العشاق؟ هذه كتبهم بين يدي يطلبون مني أن أكتب لهم في الحب، كأننا لسنا في حرب مع اليهود، وليس في الدنيا غلاء ولا بلاء ولا مفاسد ولا عيوب، ما بقي علينا إلا الكلام في الحب! ومتى كان المحبون يحفلون في الدنيا بغير المحبوب؟ لا يعرف المُحِبّ إلا ليلاه، يحيا لها ويموت فيها، أكبر هَمّه من العيش أن تعطف عليه بنظرة أو تجود له ببسمة، أو أن تمسّ بيدها يدَه فتمشي في أعصابه مثلُ هزّة الكهرباء، ويسكر منها بلا دَنّ ولا قدح، ويطرب بلا حَنْجَرة ولا وتر، وغاية أمانيّه من الدنيا أن يلقي برأسه على صدرها، أو يجمع فاه إلى فيها في ذَهْلةٍ لَذّةٍ (¬2) عميقة، تحمله إلى عالم مسحور يجتمع فيه الزمان كله وتختصر فيه الأمكنة جميعاً، فتكون هذه اللحظة هي الأزل وهي الأبد، وهي الماضي وهي المستقبل، ويكون المحبّان هما وحدهما الناس. أولئك هم العاشقون. وأولئك هم -عند أنفسهم- أرباب ¬

_ (¬1) الدد: اللهو واللعب، وأصل هذا القول حديث رواه أنس بن مالك: «لست من دد ولا الدَّدُ مني»، أي ليس اللهو والباطل من شِيَمي ولا أقربه. والظاهر أنه حديث ضعيف (مجاهد). (¬2) لذة: لذيذة.

القلوب، وهل يكون ذا قلب من لم يلامس قلبَه الحب؟ وأولئك هم أولو الأبصار، وهل تبصر عينٌ جمالَ الوجود إن لم تفتحها يدُ الهوى؟ وأولئك هم المعذَّبون الصابرون. يعيشون فلا يدري بآلامهم أحد، ويموتون فلا يقام لشهيدهم قبر، لا يهدؤون ولا يَهنَؤون؛ إن اشتهى الناس المسَرَّة استمتعوا هم بالآلام، وإن اطمأنّ الناس إلى الحقائق طاروا هم وراء الأوهام، وإن أنِسوا بالضحك استراحوا هم إلى البكاء، يبكون في الفراق من لوعة الاشتياق، ويبكون في الوصال من خوف الفراق، يريدون أن يطفئوا بالدمع حُرقَ القلب، وما يزيدها الدمع إلا شِرّةً وضِراماً. يبكون لأنهم يطلبون ما لا يكون فلا يصلون إليه أبداً. يترك العاشق النساء جميعاً ويهتم بها وحدها، فهو يريد أن تترك الرجال وتنظر إليه وحده، وأن تدع لأجله الدنيا وما فيها، وتغمض عينيها فلا ترى فيها غيره، وتوصد أذنيها فلا تصغي إلى سواه؛ فهو يغار عليها من القريب والبعيد، ومن أمها ومن أبيها، ومن الشمس أن تبصرها عينُ الشمس، ومن الكأس أن تُقبِّل ثغرَها شفةُ الكأس. وماذا يريد العاشقون؟ سلوا الشعراء يحلفوا لكم إنهم لا يطلبون إلا نظرة تروي الغليل وبسمة تُطفي الجوى، وأن يندمج بها ويَفنى فيها، فهو يعانقها «والنفس بَعدُ مَشوقةٌ» إليها، ويضمها وهو يحس أنه لا يزال بعيداً عنها. يمضي عمره بعيداً عنها، خالياً قلبه من حبّها، لا يدري بوجودها، ثم يراها مرة واحدة، ينظر إليها نظرة، فيحسب أنه قد عرفها من الأزل وأنه لم يفارقها ساعة! ويقسم أنها ما خُلقت إلا له ولم يُخلق إلا لها، ولا يعيش إلا لها

وبها، فهما «روح في جسدين» (¬1)، هي هو وهو هي، ينظر بعينيها ويسمع بأذنيها ويجوع ببطنها، فإن أكلت شبع، وإن شربت رويَ، وإن سُرَّت ضحك، وإن تألمت بكى، وإن أصابها الصداع وجعه رأسه ... يطرب وهو بعيد عنها إن سمعت نغماً عذباً، ويبتسم وهو في أعماق منامه إن رأت في منامها حلماً حلواً. يتبع هواها على القرب والبعد، ويُؤْثر رضاها في الغيبة والحضور، ويطيعها إطاعة لو أن العباد أطاعوا ربهم مثلها لأقفرت من أهلها جهنم! يسهر الليل كله يتقلب على فراش السّهْد من الشوق إليها، والخوف منها، والطمع فيها، ويُعِدّ الكلام الطويل ليقوله لها، فإذا لقيها نسي ما كان أعدّه من هيبتها! إن تكلم لم ينطق بغير حديثها، وإن سكت لم يفكر إلا فيها، قد جهل كل طريق كان يعرفه إلا طريقها، فما يمشي إلا توجه إليها، يحوّم حولها علّه يرى البيت الذي تسكنه أو ينشق الهواء الذي تنشقه. ينام الناس ويسهر ليله يساير النجوم في مسالكها، ويعد الدقائق في مجراها، لا يرى حيثما نظر غيرها ولا يبصر سواها، يراها بين سطور الكتاب إن نظر في صفحات الكتاب، وفي وجه البدر إن رنا إلى طلعة البدر، وبين النجوم إن قلّب نظره في النجوم ... يراها في كل شيء تفتح عليه العيون، فإن أغمضهما رأى طيفها في ثنايا الأحلام. ¬

_ (¬1) وهذا ما أراده من يقول: أنا مَنْ أهوى ومَنْ أهوى أنا ... نحن روحان حَلَلْنا جَسَدا ولكن قصرت به العبارة.

يذكّره بها وميض الزهر في الروض، وحديث الساقية للسفح، والحمامة تسجع على الغصن، والمغني يصدح في هدأة الليل بـ «يا ليل» فيُصغي طرباً إليه الليل، ولفتة الجدول عند الرابية، وفتنة الوادي عند الجَزْع، والدرب الحالم تحت فروع الدلب، والصفصاف على كتف النهر، والشلال الهادر في الليل الداجي، والتلال الخضراء اللابسة جلابيبَ الصنوبر، والجبل الأجرد المتوّج بعمامة من الصخر. إن هب النسيم من نحو أرضها شَجَّتْه النسائم، أو جرى السيل من جهتها أجرت دموعَه السيولُ، أو طلع الكوكب من أفقها أهاجت أشواقَه الكواكبُ، أو رأى طيراً تمنى لو استعار -ليزورها- أجنحةَ الطير! يحب لأجلها كل ما كان منها وما اتصل بها، الرُّضاب الذي تنفر منه النفوس إن كان رضابها فهو خمر، وريح العَرَق التي تأنف منها الطباع إن كانت ريحها فهي عطر، والألم إن جاء منها كان لذة، والذّم إن جرى على لسانها كان ثناء، والظلم إن وقع منها أشهى إلى قلبه من نيل الحقوق من أيدي الغاصبين، والأهل (أهلها) أحباؤه وأصدقاؤه، ولو عدَوا عليه وأساؤوا إليه. يرضى منها بالقليل الذي لا يُرضي. إن بسمت له بسمة فكأنْ قد بسم له الدهر وواتته الأماني، وإن كلمته كلمة فكأنْ قد صبَّت في روحه الحياة! يعاف لحبها طعامه وشرابه، ويهجر راحته ومنامه، والمجد يزهد فيه ولا يباليه، والدين يتركه والمال لا يفكر فيه! وإن هو ابتغى المعالي يوماً فإنما يبتغيها لِيَسُرَّها ويرضيها، وإن نظم أو كتب فلها وحدها، وإن أغار في الحرب فلينال إعجابها، وإن طلب العظائم فليعظم في عينها. إن سَعِدَ

الناس بالغنى والجاه لم يسعده إلا لقاؤها، وإن حرص العقلاء على رضا الله لم يحرص إلا على رضاها، وإن افتخروا بالصحة والقوة فخر بالمرض والضعف والهزال! يرى القصرَ إن خلا منها سجناً والسجنَ إن كان معها قصراً، والقَفْرَ إن كانت فيه روضة والروضةَ إن فارقتها قفراً، واليومَ إن واصلته لحظة واللحظةَ إن هجرته دهراً، يرى الشمسَ من هجرها سوداء مظلمة، والليلَ البهيم من وصالها شمساً مشرقة. تؤرقه ويرجو لها طيب المنام، وتسقمه ويسأل لها البعد عن الأسقام. يعتذر من ذنبها وهي المذنبة، ويبكي من حبها وهو القتيل، فهي شفاؤه وهي داؤه، وهي نعيمه وهي شقاؤه، وهي جنته وهي ناره. يطلب أن تلتقي الروحان ويتوحد الاثنان، وهذا ما لا يكون أبداً، لذلك يترك حاضره ويحنّ إلى الماضي، يعود بالذكرى إليه يفتش في زواياه عن هذه الأمنية، أو يتطلع إلى المستقبل يستشف بالخيال ما فيه، فلا يرجع له ماض، ولا ينجلي له آتٍ، ولا يثبت له حاضر! وهذا أبداً دأب العاشقين؛ إنهم يئسوا من أن يساعدهم الناس على بلواهم، فتركوا دنيا الناس وعاشوا وحدهم في دنياهم. هاموا على وجوههم يبحثون عن قِطَع قلوبهم التي خلّفوها في مدارج الهوى وملاعب الصبا وتحت الأطلال، ويسائلون الحُفَر والحجارة ويناجون الأحلام والأوهام. يقول العاذلون: انْسَ ليلاك، ففي الأرض لَيْلَيَات كُثُر، واستبدل بها. وما يدري العاذلون ماذا يلاقي، لا، ولا نظروا إلى ليلى بعينيه ولا شعروا بها بقلبه ... فيا رحمتا للعاشقين مما تقول العواذل!

-3 - هذا هو الحب عند الأدباء، فما الحب عند النفسيين؟ أنا أقول لكم ما الحب عند النفسيين. لا يرى النفسي في الحب إلا رغبة في متاع الجسد قابلَها امتناعٌ وإباء، فاشتدّت وامتدّت، وكانت بين الرغبة والامتناع شرارة كالتي تكون بين سلكي الكهرباء، وهذه الشرارة هي «الحب». ما الحب إلا «شهوة» لم تُقضَ ورغبة لم تتحقق، وكل ما يقول المُحبون العُذريّون وهْمٌ وضلال. يقولون إنهم لا يطلبون إلا المجالسة والكلام، ولو كانت مجالسة وكلام لطلبوا لمسة اليد وقبلة الخد، ولو كانتا لطلبوا العناق والضم ورشفة الفم ... كصاعد الجبل، يرى الذروة أمامه فيحسبها القمّة التي لا شيء فوقها، فإذا بلغها تكشفت له ذروة أعلى. إنها سلسلة لها حلقات متصلات، ما أمسكتَ بواحدة منها إلا جرَّتْ معها التي بعدها، حتى تصل إلى آخر حلقة فيها: نظرةٌ فابتسامةٌ فَسَلامُ ... فكلامٌ فموعِدٌ فلقاءُ فالمحكمةُ الشرعية لعقد العقد أو محكمة الجنايات لتلقّي العقوبة. هذه هي سنّة الله؛ ما جعل الله طريقاً للصداقة بين الشاب القوي والصبية الحسناء. لا، ولا بين الكهل والشَّوهاء؛ لا صداقةَ قَطّ بين رجل وامرأة، ما بينهما إلا الحب المُفضي إلى «الاجتماع ...». إن الصداقة صلة بين متشابهين، بين الرجل والرجل وبين المرأة والمرأة، والحب صلة بين مختلفين ليتكاملا به فيغدوا بالحب كالكائن الواحد.

فإن لم تكن رغبة يقابلها امتناع لم يكن حب. والمرأة التي تمنح جسدها كلَّ طالب تكون مطلوبة وتكون مرغوباً فيها للّذة العابرة والمتعة السائرة، ولكنها لا تكون محبوبة أبداً! ويسخر النفسيون من رجل يتوسل إلى المرأة التي يحبها بالأرق والسهاد والضعف والنحول، والهزال المميت والسلّ الرئوي، وبأنه شبح يمشي وخيال يتحرك ... فماذا تصنع المحبوبة بهذا «البلاء»؟ إن المرأة تريد في العاشق رجلاً متين البناء قوي الجسد مفتول العضل، يسند ضعفها بقوّته ويتم أنوثتها برجولته، لا تريد ميتاً إن توكأت عليه انهدم. فإن كان «شعراء النحول» هؤلاء صادقين بهذا الهذر الذي ملؤوا به نسيبهم وحشوا به أشعارهم، فليفتشوا لهم عن «ممرضات» لا عن «حبيبات»! ولا يصدق النفسيون أوصاف الشعراء المحبين. إن المحب عندهم لا يرى الفتاة على حقيقتها ولكنه يُلبسها من حبّه ثوباً يراها فيه أجمل الناس. ولا يصدقون دعوى الحبّ من النظرة الأولى؛ إن النظرة الأولى تنشئ «الحس بالجمال» لا الحب. وقد وصف وليم جيمس هذا الحسّ بأنه هزّة في الأعصاب يعقبها خدر سريع، فإذا أحسست جمال فتاة قد طلعت عليك من الطريق فصَبَرت عنها نفسك وغضضت بصرك وثَبَتَّ لحظة واحدة حتى تمرّ بك وتمضي عنك واشتغلت عنها بغيرها نسيتها، وإن كررت النظر إليها (¬1) أو تبعتها لتعرف مقرّها ولد حبّك إياها، أي رغبتك في «الاجتماع» بها. ¬

_ (¬1) وفي الحديث: «لك النظرة الأولى»، أي التي تلقيها عَرَضاً بلا تعمّد ولا قصد، «وعليك الثانية» أي المتعمَّدة المقصودة.

والحب عاطفة عابرة تدوم ما دامت الرغبة والامتناع، فإن زال أحدهما زالت، فإن كان «اللقاء» لم يبقَ حب، لأنه يختنق تحت اللحاف! ومن هنا يستبين لك أن الزواج إنْ بُني على الحب وحده لم يكن فيه خير، ولو أن المجنون تزوج ليلى زواج عاطفة فقط، بلا مراعاة مصلحة ولا نظر في كفاءة، لكان بينهما بعد ثلاث سنين «دعوى تفريق»! * * * فإذا جئت علماء الحياة وجدت للحب عندهم منزلة أدنى ورتبة أخَسّ، الحب عندهم غريزة جعلها الله في نفس الإنسان لئلا ينقرض ويمّحي؛ فالجوع منبّه له ليأكل فيبقي شخصه، والحب (أو الرغبة) منبّه له ليعمل على ما يبقي نوعه، أو هو شيء أبسط (¬1) من ذلك وأحقر؛ تمتلئ المثانة فيذهب المرء ليبول، وتمتلئ الحويصلة بالسائل الآخر فيذهب لـ «يعمل»! لا فرق في ذلك بين المجنون وليلى وبول وفرجيني، وبين الحمار والأتان والديك والدجاجة، وبين تلاقح الزهر والورد ... وسواء بعد ذلك كل «إناء» يلقى فيه هذا الماء! والمقصود في الحقيقة من الحب هو بقاء النسل، وكلما علا الحيّ منزلةً قَلَّ اللقاء وطال الحمل. الديك والدجاجة يجتمعان كل يوم لأن مدة الحمل بالبيضة ليلة، أما الهرّ والهرّة فيجتمعان مرة في السنة أو مرتين لأن الهرّة تلد مرة في السنة أو مرتين. ولولا المُغريات في الناس لكفى بين نوعَي البشر اجتماعٌ مرة في العام! ¬

_ (¬1) البسيط في اللغة الواسع، وقد استعملت الكلمة بالمعنى العامي.

والحب العذري، أي الحب الشريف الذي ليس فيه مطلب جنسي، هو في نظر العلم كذبة حمراء وفرية ليس لها أصل، وإنما هما غريزتان: حفظ الذات بالطعام، وحفظ الجنس بالاتصال. فهل تصدّق الجائع إذا حلف لك أنه لا يريد من المائدة الملوكية إلا أن ينظر إليها ويشمّ على البعد ريحها؟ كلا، كل حبّ مصيره إلى النكاح أو السفاح. * * * هذا هو الحب، فصدِّقْ ما يقوله فيه المحبّون، أو صدّق ما يقوله المفكرون العالِمون. هو عند الأدباء والشعراء وعند المحبين والعشاق سلطان عَنَتْ له القلوب وذلّت له الملوك، فباعوا في سبيله التيجان، من لدن أنطونيو وكليوباترة إلى إدوارد وسمبسون (¬1). والمحبوبة عندهم هي الدنيا، دينهم التوحيد في الحب، لكل شاعر عاشق «واحدةٌ» وقف عليها قلبه وأدار عليها شعره وقرن نفسه حياتَه (¬2) بها، فقَرَنَ التاريخُ اسمَه بعد موته باسمها، ¬

_ (¬1) تُوِّج إدوارد الثامن ملكاً على المملكة المتحدة (بريطانيا) بعد وفاة والده الملك جورج الخامس أوائل عام 1936، لكنه لم يلبث أن تنازل عن العرش قُبَيل نهاية السنة نفسها ليتزوج واليس سمبسون، وهي مطلَّقة أميركية عارضت زواجَه بها أمُّه وعائلته، بالإضافة إلى الكنيسة الإنكليزية التي كانت تحرّم على أي من طرفَي الطلاق الزواج مرة أخرى ما دام طليقه حياً (وهو تشريع ألغت الكنيسة العمل به عام 2002) (مجاهد). (¬2) أي مدة حياته.

فلا تُعرف إلا به ولا يُعرف إلا بها: قيس وليلى، وقيس ولبنى، وجميل وبثينة، وكُثَيّر وعزّة، وعروة وعفراء، وذو الرّمة ومَيّ، وتَوبة والأخيلية، والعباس وفوز، وبول وفرجيني ... فكان رباطاً لم تقدر على حلّه يدُ الزمان. وهو عند النفسيين والطبيعيين ما قد رأيت وسمعت (وهو الحق لا ما يقول العاشقون). والحب -بعد ذلك كله- سرّ الحياة وروح الوجود! * * *

ديوان الأصمعي

للتسلية والإحماض (¬1) ديوان الأصمعي نشرت سنة 1955 [كان ديوان الأصمعي مفقوداً حتى وجد صديقنا الأستاذ سعيد رمضان هذه النسخة المفرَدة منه في مكتبة جامعة برنستون فأهداها إليّ، وأنا أنقل عنها اليوم هذه الصفحة من باب «الكُنى والألقاب». (¬2)] قال الأصمعي: سألت أبا عمرو بن العلاء: لِمَ سُمِّي أحمد بالشوقي؟ قال: لقد سألت عن هذا جدّي أبا العلاء (يعني المعرّي. قلت: وهو غير أبي على المصري) فقال: سُمّي بذلك لأنه أكثَرَ ¬

_ (¬1) روى ابن اسحاق أن ابن عباس كان إذا جلس مع أصحابه حدّثَهم ساعة في القرآن والتفسير والحديث، ثم يقول: حَمِّضونا. فيأخذ في حديث العرب، ثم يعود. ورُوي عن أبي الدرداء قوله: إني لأستجم ببعض اللهو ليكون لي عوناً على الحق. (¬2) لم يكن ذلك قط، فلا يَهِمْ قارئٌ فيحسبه حقيقة ويحمله على محمل الجِدّ ثم يحدّث به في الناس. وهذا الفصل لا تظهر طرافته ولا =

في شعره من ذكر الشوق. قلت: فلِمَ لُقِّبَ إبراهيم بالحافظ؟ قال: لكثرة حفظه الحديث. قال الجاحظ: وأبو عمر هو زوج أم عمرو التي قال فيها الشاعر: إذا ذهب الحمارُ بأمّ عَمْروٍ ... فلا رجَعَتْ ولا رجعَ الحمارُ وسبب هجائه إياها أنها منعت عنه الكأس، حيث يقول: صَبَنْتِ (¬1) الكأسَ عنّا أمَّ عَمروٍ ... وكان الكأسُ مجراها اليمينا ¬

_ = تكتمل المتعة بقراءته إلا لذي علم بالأدب واللغة والتاريخ والأعلام، وقد افترض جدي أول الأمر -لمّا نشره في عدد مجلة «المسلمون» الصادر في نيسان 1955 (رمضان 1374) - أن كل قارئ له سيدرك كل إشارة فيه، فلم يعلق عليه بشيء من الحواشي غير اثنتين، ثم أضاف إليه خمسَ حواش أُخَر لما نشر المقالة في الكتاب في طبعته الأولى، وما زال يزيد فيها -طبعةً بعد طبعة- حتى صارت أربعين. ذلك أن الزمان تبدل، وذهب ناس وجاء ناس، وكثير ممّا كان يُعرف بَداهةً صار غامضاً يحتاج إلى بيان؛ فتابعته -رحمه الله- على خطّته وأضفت بعض الحواشي التي رأيت لها ضرورة، فما وجدته معروفاً (أو ينبغي أنه كذلك) تركته إذ لم أجد بي حاجة إلى تعريف المعرَّف، وما غلب على ظني الجهل به عرّفت به على قَدْر الحاجة وعلى الغاية من الاختصار (مجاهد). (¬1) رُوي البيت في «الأغاني» بلفظ صددت، وكذلك هو في «خزانة الأدب»، وفي «الجمهرة» بلفظ صرفت، والصَّبْن والصرف واحد، والبيتان لعمرو بن كلثوم من معلقته (مجاهد).

وما شَرُّ الثلاثة -أمَّ عمرو- ... بصاحِبِكِ الذي لا تَصْبَحينا (¬1) والثلاثة هم شوقي وحافظ والمطران، والمطران هو الذي ذهب بأم عمرو، وسبب تلقيبه بالحمار أنه كان مع صاحبيه كالحمار مع الجوادين، يحاول أن يجري معهما وما هو من جنسهما. قال الأصمعي: وحدثنا ابن قُتَيبة وطه بن الحصيني (¬2)، عن أحمد الإسكندري (¬3) أنه إنما لُقِّبَ أحمد بالشوقي لأنه سمّى ديوانه «الشوقيات». قال: وحدثني إبراهيم المازني، عن جده أبي عثمان المازني (¬4)، أنه قال: لقيت من الحفّاظ مَن لا أحصي، فما وجدت مثل الحافظ إبراهيم. قلت: فما بلغ من حفظه؟ قال: أنه كان يحفظ أسماء أيام الأسبوع وشهور السنة، ويعدّ الخلفاء الراشدين لا يغيب عن ذهنه أحدٌ منهم. قال إبراهيم بن عبد القادر المازني: فعجبت من ذلك، ¬

_ (¬1) أي الذي لا تسقينه الصَّبوح. والصَّبوح اللبنُ الذي يُحلَب صباحاً، أو هو كل شراب يُشرَب في الصباح (مجاهد). (¬2) الحصيني في لغة أهل الشام الثعلب. (¬3) أحمد عمر الإسكندري: أديب أزهري من علماء مصر، اشتغل بالتعليم وألف كتباً مدرسية كثيرة، وكان من أعضاء مجمع اللغة بالقاهرة، وتوفي سنة 1937 (مجاهد). (¬4) أبو عثمان المازني من أئمة اللغة الكبار، من أعلام القرن الثالث (مجاهد).

ورويته في كتابي «قبض الريح (¬1) في أخبار رواة الصحيح». قال: والمازني لم يكن من بني مازن، ولكنهم ادّعَوه، وسبب ذلك أنهم سمعوا قصيدته المشهورة: لو كنتُ من مازنٍ لم تَستَبِحْ إبلي ... بنو اللقيطة من ذُهْل بن شَيْبانا فأعجبتهم، فردّوا عليه إبله، وأكرهوا بني اللقيطة على تقبيل يده وسؤاله الدعاء. قلت: وزعم أبو عبيدة أن اللقيطة أمهم، والصحيح أن «اللقيطة» قصة مطبوعة في مصر (¬2). قال الأصمعي: ووقفت في الموصل على حلقة محمد بن الصواف (¬3)، وهو يُملي «باب الكُنى والألقاب» من كتابه، وكان ممّا أملاه: "وبنو الأصفر الروم، والمصفِّرة طائفة من الخوارج، والحمراء مُضَر" ... فسأله رجل من عرض الحلقة: وبنو الأسود في حلب (¬4)، لِمَن يُنسَبون؟ قال الشيخ: للأسود بن أبي الأسود الدُّؤَلي الذي وضع النحو. قال: فالأزرق؟ قال: لعُلاثَة بن الأحوط، وهو أبو الأزارقة. ¬

_ (¬1) «قبض الريح» كتاب للمازني. (¬2) «لقيطة» رواية للقاصّ المصري محمد عبد الحليم عبد الله (مجاهد). (¬3) الشيخ محمد محمود الصواف (الذي كان من جدّي بمنزلة الأخ الشقيق وكان له الرفيق الصديق) كان من الموصل، رحمهما الله (مجاهد). (¬4) منهم عبد القادر الأسود، كان رئيس محكمة النقض.

قال الأصمعي: وحدثنا السّمعاني (وكان عالماً بالأنساب) أنه لما أوقع الحَجّاج بالأزارقة ذهب أَخَوان منهم، الأزرق والزرقاء، فسكنا حلب، وأبوهما علاثة من بني فارع، بطن من تميم. وحدثني ابن هشام (وكان أنحى أهل زمانه) قال: أخبرني ابن جنّي أن «الزرقاء» من أسماء الرجال، وعلامة التأنيث فيه للاكتفاء. قلت: وما الاكتفاء؟ قال: كانت امرأة علاثة تشتهي أن تلد بنتاً، فلما ولدت فحلاً سمته الزرقاء، اكتفاءً بعلامة التأنيث عن الأنثى. قال ابن هشام: وهذه فائدة جليلة تكتب بماء الذهب. وحدثني عبد القادر المَغْربي (وهو رجل عالم من أهل أطْرابلس الشام (¬1)، وإنما سُمّي «المُغرَبي» لكثرة غرائبه وفوائده، ثم قيل «المَغربي» بفتح الميم تخفيفاً، فظن من لا علم له أنه من المغرب، وليس كذلك)، قال: وللزرقاء عَقِب في حلب، منهم المحدث مصطفى الزرقاء، وكان يُملي الحديث في جامع حلب ثم اتصل بالسلطان. وثّقَه الذهبي، وقال يحي بن سعيد القطان إنه ثقة، ولكنه أضاع نفسه بدخوله النّيابات وسَوْقه السيارات (¬2). قال الأصمعي: وهو غير عبد الوهاب (وقيل عبد الواهب) ابن الأزرق، الذي كان يتولى جباية المُكوس للملك أوديب (قلت: بل الملك أديب، أي الشُّشْكُلي)، وهو الذي مدحه رؤبة ¬

_ (¬1) ولد عبد القادر المغربي في اللاذقية، ولكنه نشأ في طرابلس وأمضى فيها شطر عمره (مجاهد). (¬2) اشتغل الشيخ مصطفى الزرقا بالسياسة حيناً، فكان نائباً عن حلب مرّتين وعُيِّنَ مدةً وزيراً للعدل ووزيراً للأوقاف، رحمه الله (مجاهد).

ابن العجاج بقوله: حيِّ الفتى عبدَ الوّهاب الأرزقا ... وهو مدير المُكْس، أعني القمرقا صيَّرَ باب الرَّشَوات مُغلَقا ... وأصلح الأمورَ حتى فَوْرَقا قال المبرّد في تفسيره: القُمْرُق هو المُكس (¬1)، معرَّبة عن الهندية، وفَوْرَق لا يحتاج إلى تفسير لأنه غامض، والتفسير إنما يكون للواضحات البَيِّنات. قال الأصمعي: وحدثني العزّ بن شيخ السروجية (¬2) قال: أخبرني أبو زيد السروجي (قلت: وهذا من روايات الأكابر عن الأصاغر، لأنه شيخ السروجية وأبو زيد سروجيٌّ من مريديه) قال: لقد وهم المغربي، والصحيح أن الزرقاء والأزرق بلدان في البلقاء في شرقيّ الأردن (¬3) وليسا رجلين كما خُيِّل إليه. والمغربي يتخيل أشياء لا وجود لها ويكتب عنها، من ذلك المجمع العلمي العربي، توهمه قائماً وهو لم يوجد، ولو كان موجوداً لكان له آثار ولنفع البلد بشيء (¬4). ¬

_ (¬1) كان عبد الوهاب الأزرق هو المدير العام للجمارك أيام الشيشكلي. ذكره جدي في آخر الحلقة 112 من «الذكريات» وأثنى عليه، رحم الله الاثنين (مجاهد). (¬2) هو عز الدين التنوخي شيخ السروجية رحمه الله. (¬3) هما اسما مدينتين في الأردن. (¬4) كان الشيخ المغربي نائب رئيس المجمع العلمي بدمشق، رحمه الله.

وهذا الرَّجَز منحول لرُؤْبة، صنعه رجل من أهالي الشام يقال له أنور العطار، وكان مولعاً بصنع الأشعار. قال الأصمعي: ولُقِّبَ بالحكيم جماعة، منهم توفيق الحكيم، وحكيم باشي قصر العيني في القاهرة، وهي إحدى مدن اليمن. وحدثني محمود بن محمد بن شاكر (¬1) (وهو محدث أصله من نِينَوَى) قال: إن الذي أسقط القِفْطي وأخمل ذكرَه هو حمار الحكيم. قلت: وما خبر ذلك؟ قال: إنه لمّا ألف كتابه «أخبار الحكماء» أهداه إلى أمير نينوى، وزعم له أنه لم يَدَعْ حكيماً لم يذكره فيه، وكان في مجلسه رجل ماكر يحسد القفطي يقال له الفريد بن أبي الحديد (¬2) (قلت: وقد شرح «نهج البلاغة» الذي ألّفه الشريف الرَّضِي) فقال له: تقول إنك لم تدع حكيماً إلا ذكرته، فأين حمار الحكيم؟ فبُهت، وغضب الأمير وضربه عشرين سوطاً، ونهى الناس عن قراءة كتبه. قال الأصمعي: وكان حمار هذا من كبار الحكماء، ولكن أهل مصر اطّرَحوه انتصاراً منهم للقفطي، فلم يذكره إلا رجلٌ من أبناء عمومته يقال له توفيق الحكيم. قال النووي: وتوفيق الحكيم وَضَّاع لا يُقبَل له حديث، ذهب ¬

_ (¬1) كتوفيق الحكيم ومحمود شاكر معروفان. (¬2) محمد فريد أبو حديد: أديب مصري، كان من أعضاء المجمع اللغوي، واشتغل مديراً للمطبوعات ووكيلاً لدار الكتب (مجاهد).

إلى قرى مصر نائباً في الأرياف، فأهمل عمله وخان أمانته، وصار يفكر في الرقص والغناء وهو على كرسيّ النيابة في المحكمة، والقاضي ينتظر مطالعته والظَّنينُ يرقب ما تنفرج عنه شفتاه، فلما أفاق زعم أن نومه معجزة وأنه كان مع أهل الكهف (¬1). قلت: وكان يكتب في القهوات وعلى أرصفة الشوارع، ويزعم في «الرسالة» أنه يكتب «من البرج العاجي» (¬2). قال: ولُقِّب طه بن الحُصَيني بطَقْطُر، بفتح الطاء وسكون القاف وضم الطاء الثانية، واختُلف في تفسيره على ثلاثة أوجه: الأول: أنه لفظ أعجمي، معرّب «دَكْتُر»، والدَّكْتُر بلسان الروم الطبيب. قال منير العجلاني الدمشقي (¬3) في كتابه «الأمثال السائرة في طبقات الدكاترة»: وهذا أصح الأقوال، والجمع دكاترة، قاسوه على جِهْبِذ وجَهابذة قياساً على التوهّم. قال شارحه أحمد السمّان (¬4): وقياس التوهّم أن يكون على اختلاف الوزن المصرفي، وذلك لأن جِهْبِذ فِعْلِل كدِعْبِل، ودُكْتُر فُعْلُل كدُعْبُب، وربما أشبعوا الضمة فقالوا «دكتور»، كما قالوا «أصبوع» في أُصْبُع ويَبْرود في يَبْرُد، قال الشاعر (قلت: وهو عبد القادر بن المبارك): ¬

_ (¬1) «حمار الحكيم» و «يوميات نائب في الأرياف» و «أهل الكهف» كلها كتب لتوفيق الحكيم (مجاهد). (¬2) عنوان مقالات له في «الرسالة». (¬3) منير العجلاني، وكان قد كتب مقالة عنوانها «طبقات الدكاترة». (¬4) رفيق جدي في طفولته، درس الاقتصاد وصار من بعدُ مديرَ جامعة دمشق، رحم الله الاثنين (مجاهد).

يَبْرودُ يَبرُدُ صيفاً مَن أقام بها ... لذاك قيل مع الإشباع يَبرودُ (¬1) الثاني: أنه عند الروم بمعنى «الحاج» عند المسلمين، وذلك أنّ كل مَن حج إلى دَيْر يُقال له «الصَّرْبون» في مدينة البَريز (¬2)، على نهر السين (وقيل نهر الشين)، وجلس إلى رهبانٍ فيه سُمي طَقْطُر، وهو لقب تشريف. وأكبر رهبان ذلك الدير المِص صَنيون (¬3)، على وزن صَهيون ومَلعون. قال الزكي بن المبارك: وأصل المِصّ المُصْيُ، حُذفت ياؤه على شبه التّرخيم، والمِصْيُ والمِصْطِر (¬4) السيد، ومن الروم قوم يقال لهم بنو ألْمان يدعون السيد القط. قال النشاشيبي: وهو وهم من ابن المبارك، والسيد عند الألمان «الهر» وعند الطليان «السّنور» (¬5). قلت: والقط والهر والسِّنَّوْر واحد، ولا وجه لما قاله النشاشيبي. الثالث: أن الطقطر مَن يأخذ من بيت مال المسلمين ثمن ظَهْره ونفقته ويرحل إلى بلاد الإفرنج فيلهو ويلعب، ثم إذا حان ¬

_ (¬1) يبرود بلدة قريبة من النبك، في القلمون، وهي مشهورة ببردها؛ في الذكريات: "لما جئت النبك رأيت جماعة ماتوا من شدّة البرد في الذُّرى العالية المحيطة بالنبك ويبرود الممتدّة إلى بَعْلَبكّ" (مجاهد). (¬2) السوربون في باريس. (¬3) ماسينيون. (¬4) المسيو والمستر. (¬5) السِّنْيور والهِرْ.

مَعاده إلى بلده استكتب أحدَ العلوج كتاباً بلسان القوم هناك، ثم وضع اسمه في ذَنَبه وأخذ به إجازةَ مشايخ الإفرنج بالتدريس والإقراء، وشهادتَهم له بأنه عالمٌ علاّمة مُدركٌ فَهّامة! وربما اشترطوا أن يأتي معه بزوجة إفرنجية من أجيرات المعامل أو بائعات التذاكر! قال سعيد بن جمال الدين الأفغاني (¬1): وهذا هو القول الصحيح، وبه قال شيخنا الصوفي الصالح أبو قيس عز الدين بن علم الدين التنوخي قُدِّس سرُّه، تحقق له من باب الكشف. قال جعفر الحسني (¬2): وقد ثبت عند أهل الآثار أن قبر السروجي بطاح الجمل في «شاغور دمشق» هو لشيخ السروجية هذا. قال الأصمعي: وهذا غلط، لأن شيخ السروجية حي يُرزَق، وهو اليوم أمير بَلاس (¬3)، من أعمال دمشق، يقصده فيها الشعراء وأرباب الحاجات فيعودون بالهبات الوفيرة من «جُرَز» البقدونس و «حُزَم» البصل، مَدَّ الله في عمره وزاد في ملكه. وربما وُصف الواحد بصفة الجماعة، فقالوا: «الدكاترة زكي مبارك» (¬4). حدّثنا أبو هاشم محمد بن المبارك، عن أبيه، عن جده، قال: حدثني عمي عبد الله بن المبارك أن هارون الرشيد ¬

_ (¬1) سعيد الأفغاني، العلامة باللغة والنحو، كان هو وعلي الطنطاوي رفيقَي عمر من الطفولة إلى الممات، رحمهما الله (مجاهد). (¬2) أمين سر المجمع ومدير الآثار. (¬3) للتنوخي مزرعة في قرية بَلاس. (¬4) كان يدعى بذلك تظرّفاً لأنه حمل ثلاث شهادات دكتوراة (مجاهد).

سأله لمّا دخل عليه: هل تعرف الزكي المبارك؟ قال: هو من قبيلتنا. وكره أن يزيد على ذلك. قال أبو هاشم: ولعله نزَّه نفسه عن الغيبة. قلت: بل خشي لسانَه، وكان هَجّاء. وابنه (ابن الزكي) كان قاضي دمشق على عهد صلاح الدين الأيوبي. قال الزيات: وأنا أعرفه، وقد رويت عنه في «الرسالة». قال الأصمعي: والزيات صاحب «الرسالة» مختلَف في اسمه، قيل أحمد، وقيل عبد الملك. كان في أول أمره يبيع الزيت في أزقّة المنصورة، ثم رحل إلى بغداد ليؤدب بعض أولاد الملوك، وبها نشأ ابنه (ابن الزيّات) وعلا نجمه حتى وَلِيَ الوزارة للمعتصم والواثق، فرحل أبوه إلى مصر وأعرض عن الولايات والأعمال، وهجر «الرسالة»، واعتكف في تكيّة الدراويش التي يقال لها «المجمع اللغوي» (¬1). حدثنا أبو عبيدة، قال: أخبرني ابن الأعرابي -قراءةً عليه من كتاب «أسواق الأدب» - أن أسواق الأدب كانت ممتلئة بأرباب الصناعات من الأدباء والعلماء، كالقَطّان واللبّاد والوَرّاق والوَشّاء والشَوّاء والعلاّف والرفّاء والدبّاغ والصبّاغ والعطّار والصبّان واللحّام والقفّال والبَزّاز والبَزّار والسمّان والطحّان والبَيْطار والصوّاف والعقّاد والجَوْهري والإسطرلابي والصابوني والبستاني ¬

_ (¬1) توقفت «الرسالة» عن الصدور قبل نشر هذه المقالة بعامين، وصار صاحبها (الزيات) عضواً في المجمع، ثم أعاد إصدار مجلته سنة 1963 فلم تكن لها قيمتها الأولى ولم تَعِشْ إلا قليلاً (مجاهد).

والحانوتي والسكّري والحَلواني والزجّاجي والكَتّاني والحريري والبارودي والخُضَري والجندي والعسكري. قال الأصمعي: حدثنا ابن قتيبة أن السمّان هو «أزهر» الذي وفد على المنصور (¬1)، وله نسل في الشام، منهم أحمد ووجيه الدين، وكانا يبيعان السمن في دكان لهما في دمشق، عند باب القلعة، مما يلي المهاجرين في الباب الشرقي (¬2)، ثم أقبلا على العلم. أما وجيه فبرع في السيمياء والسحر، حتى مَدَّ حبالاً من داره إلى دور الناس علق فيها قوارير صغاراً من الزجاج، فإذا كان الليل نفث فيها من سحره، فتوقدت القوارير من غير نار فأضاءت ما حولها، وزعم أن اسمها الكهرباء (¬3)، وصنع مراكب تمشي على دواليب وربطها بهذه الحبال فسارت من غير أن يجرّها إنسان أو حيوان، وقال إنها «الترام». قال الأصمعي: وما رويت هذا الخبر إلا تملّحاً، فلا تَغْتَرَّ به، فإن ذلك من المحال الذي لا يكون أبداً. وأما أحمد فبرع في العلم حتى ولاّه السلطان مَشْيَخةَ المدرسة الكبرى التي تُدعى «الجامعة» (¬4)، خلفاً لقسطنطين بن ¬

_ (¬1) قصته مشهورة في كتب الأدب، وفيها طرافة (مجاهد). (¬2) لا يدرك النكتة في هذا التخليط إلا ابن دمشق أو رجل عارف بمعالمها وأحيائها (مجاهد). (¬3) هو صديقنا الأستاذ وجيه السمان، العالم الأديب ومدير مؤسسة الكهرباء. (¬4) كان رئيس الجامعة.

زريق (¬1)، صاحب القصيدة التي يقول فيها: أستودعُ اللهَ في بغدادَ لي قَمَراً ... بالكَرْخِ من فَلَك الأزْرار مطلعُهُ ودَّعْتُهُ وبِودّي لو يودّعني ... صفوُ الحياة وأَنّي لا أُوَدّعُهُ قال أنور العطار: وقد سألت عن خبر هذه القصيدة لما زرت الكَّرْخ، فعلمت أن هذا القمر هو الصافي النّجَفي (¬2)، وكان قد لقيه ففتنه جماله من أول نظرة. والعطار هذا شاعر بارع وَصَّاف، وكان يَتَّجِرُ بالعطر، يأتي به من تلفيتا في جبل سنير ويبيعه في دارَيّا، وكان راوية يحفظ ما لا يُحصَى من القصائد ولا يحفظ حسبة أربع في أربع، فكان الناس يحتالون عليه، فترك تجارة العطر ورحل إلى الموصل، فاشتغل فيها بصناعة الشعر وألَّف كتابه «ظلال الأيام» (¬3)، وهو أجمع كتاب لفقه الإمامية. وأما ابن البيطار فهو أعلم الناس بالنبات، وله فيه الكتاب المعروف بـ «المفردات»، وكان أبوه بيطاراً في الميدان بدمشق، وكان رجلاً صالحاً يبطر خيول المجاهدين حسبة بالمجان. قال ابن الأنباري: والبطر الشق، ومنه البيطر والبيطار. ثم عكف على العلم حتى صار يشار إليه بالبنان ولُقِّب بـ «بهجة الشام»، وكان ¬

_ (¬1) قسطنطين زريق من أساتذة الجامعة الأميركية، ولَّوه مرة رئاسة جامعة دمشق. (¬2) الشاعر المعروف، وابن زريق شاعر قديم. (¬3) ديوان أنور العطار، وقد كتبت أنا مقدمته.

محاضراً نظاراً بليغاً، وكانت له حلقة في «جامعة دمشق» يُقرئ فيها (¬1). والبارودي منسوب إلى البارود. قال جالينوس: وهو تراب أسود يؤتَى به من جزيرة في بحر الظلمات، فإذا مَسَّتْه النار كان له دويٌّ كأنه صوت الرعد، وهو يوضع في قناة الرمح فينطلق من أعلاها ناراً محرقة، ويقال لها البندقية. قال الجاحظ في كتاب «الحيوان»: وهذا من أكاذيب الأوّلين ولا يقول به إلا من أخزاه الله وسلبه نعمة العقل، ولو كانت هذه القناة تقذف ناراً لأحرقَتْها هذه النار، وما «البندقية» إلا اللَّوْزينج بلُبّ البندق، وقد أكلتها غيرَ مرة. قال عمر الحكيم (¬2): وهذا كله باطل، و «البندقية» مدينة في بلاد الصين، كثيرة المطر دروبها مغمورة أبداً بالماء، فمن أراد أن يعبر غاص في الماء إلى ركبتيه، وفيها رجل يقال له جَنْدُل (بفتح الجيم وضم الدال) (¬3) يحمل الناس على عاتقه لئلا يمسهم الماء، قرأنا ذلك في كتاب الجغرافيا للنظيم الموصلي (¬4). قال أحمد بن أمين: وكان جندل هذا ممدَّحاً، ولمحمد بن وهّاب المغني المخنَّث قصيدة في مدحه غاية في الغَثَاثة والثقل، ¬

_ (¬1) الشيخ بهجة البيطار، وكان يدرّس في الجامعة. (¬2) أستاذ الجغرافيا في جامعة دمشق. (¬3) الجَنْدول، القارب الذي يجوب قنوات البندقية (فينيسيا) (مجاهد). (¬4) كان أستاذاً للجغرافيا.

يصفه فيها بأنه "ذهبي الشعر حلو اللفتات" (¬1). قال الأصمعي: والصحيح أن البارودي منسوب إلى بلدة يقال لها: بارودة، نبغ من أهلها جماعة منهم فخر الدولة وسروال الملّة (¬2)، ومنهم محمود بن سامي البارودي، ومصطفى الباردوي (¬3). وكان فخر الدولة (وربما اختُصر فقيل له: الفخري والسراويلي) زعيم الجَرْبا، وهي بلدة في غوطة دمشق على يمين السالك إلى بحر لوط، ثم انتُخب لنيابة السلطنة في دمشق فقال فيه ابن منير الطرابلسي (وكان خبيث اللسان) أرجوزة مطلعها: دمشق قد فاز الزعيم «فَخْري»! (¬4) قال أبو الفرج: وكان الفخري البارودي بصيراً بالموسيقى (¬5) وله أصوات فيها صنعة حسنة، اتصل بحيي بن أكثم (قاضي قضاة المسلمين الذي قال فيه الشاعر: متى تصلح الدنيا ويصلح أهلها) فأقطعه الجربا، ولما أغار الإفرنج على الشام -يتقدمهم غورو ¬

_ (¬1) طرفا بيت من قصيدة «الجندول» المشهورة للشاعر علي محمود طه (مجاهد). (¬2) كانت تلك العبارة مباسطة لفخري البارودي. (¬3) أستاذ في جامعة دمشق سابقاً. (¬4) انظر الذكريات 5/ 134 من الطبعة الجديدة (مجاهد). (¬5) بلغ من اهتمام فخري البارودي بالفن الموسيقي أن ألّفَ موسوعة موسيقية في أربعة أجزاء! وفي «الذكريات» حلقة حكى فيها جدي رحمه الله قصته مع «رقص السماح» في الشام، وهي قصة طويلة فمن شاء قرأها هناك (الحلقة 136 في الجزء الخامس)، وفيها أن ولع فخري البارودي بالموسيقى كان وراء تلك الفتنة (مجاهد).

الأعور- باعها وأنفق ثمنها في الجهاد (¬1)، وكان كريماً. وحدثني من أثق به أن الخياط كان يَخيط ثياب الجند ويعيش من ذلك، ثم ادّعى الولاية وأظهر الكرامات، من ذلك أنه ينظر إلى قدح الماء العذب الزّلال فيرى فيه آلافاً من العقارب الصغيرة ذوات الأيدي والأرجل والخراطيم، وقال إن اسمها «الجراثيم»، وإنها على صغرها تقتل الفيل! وجاء بأنبوبة مسحورة، فمن نظر منها خُيِّل إليه أنه يرى ذلك، فأنكر عليه العلماء، وصدَّقه جماعة من الأحداث وتبعوه وعظّموه أشد التعظيم، ولقبوه «العليم» (¬2). قال ابن الأثير في حوادث تلك السنة: ثم رُفع أمره إلى السلطان، فلما ثبت ذلك عليه أخرجه من دمشق، فابتنى لنفسه صومعة في رأس جبل قاسيون (¬3)، وبقي فيها حتى نبغ ولده ابن الخياط هيثم (¬4) المشهور، فـ «انتصر» له (¬5)، فأعادوه وولَّوه الإقراء في المدرسة الجامعة. قال: ووجدت في كتاب «صناعات الأشراف» للزكيّ المحاسني الشاعر: أن الخُضَري المؤرخ الأصولي كان يبيع ¬

_ (¬1) ورث فخري البارودي أراضيَ واسعةً في بعض قرى الغوطة، باعها وأنفق ثمنها في دعم الثورة والعمل الوطني (مجاهد). (¬2) الدكتور أحمد حمدي الخياط أستاذ أطباء دمشق وأول من فتح مخبراً للتحاليل في الشام، وقد عرّب هو كلمة الدكتور فجعلها «العليم». (¬3) كانت داره أعلى دار في جبل قاسيون في دمشق. (¬4) الدكتور هيثم ولده، وهو أستاذ في كلية الطب وأحد نوابغ الشام. (¬5) «الانتصار» كتاب معروف لابن الخياط.

الخُضَر على باب الجامع الأزهر في مصر، تورّعاً وتنزّهاً عن أموال السلاطين، والماوَرْدي كان يصنع ماء الورد ويبيعه، والخُبْزأَرُزّي (¬1) كان يعمل الأرز ملفوفاً برقاق الخبز ويبيع الواحدة بدرهم، وأن الخصّاف كان يخصف نعال الحُجّاج في مِنى، والقَفّال كان يصنع أقفال الصناديق الحديدية للمصارف، وأن حسن البنّاء (¬2) كان يبني البيوت، ثم تركها وأقبل على بناء النفوس. (¬3) * * * ¬

_ (¬1) أو الخُبْزرُزّي، نصر بن أحمد، شاعر غَزِل عاش في البصرة آخرَ القرن الثالث وأول الرابع، كان يعمل بخَبْز «خُبز الرُّز» وينشد الأشعار فيجتمع عليه الناس، وله أخبار طريفة (مجاهد). (¬2) رحمه الله. (¬3) لمّا اشتغلت بترتيب أوراق جدي رحمه الله وجدت قطعة مخطوطة (لم تُنشر من قبل) فيها مشروع تتمة لديوان الأصمعي، ولكنها قصيرة مقطوعة، فقد شرع فيها ثم لم يكملها فبقيت نواةَ مقالة لا مقالة قائمة بذاتها، فنَفِسْتُ بها أن تبقى بلا نشر، ولم أجد لها مكاناً أثبتها فيه أصلحَ من هذا الموضع، فألحقتها بالمقالة الأصلية. وها هي ذي في الصفحة الآتية (مجاهد).

-2 - قال الأصمعي: قد انتهى القول في «الكُنى والألقاب»، وهذا هو القول في «الأمالي»: أخبرنا حمزة بن فتح الله المصري الأزهري، قراءةً عليه في كتابه «حديث الأربعاء» (¬1)، أن آخر من أملى في جامع عمرو بن العاص في الفسطاط هو أبو الحسن النَّدْوي الهندي. قال: ومن أماليه: ماذا ببدرٍ فالعَقَنْقَلِ من مَزارِبَةٍ جَحاجِحْ الضّاربينَ التَّقْدُمِيّةَ بالمُهنَّدةِ الصفائحْ (¬2) قال الأصمعي: البيتان من شواهد سيبويه في كتابه «الأغاني»، وقد كره أن يُنسَب إليه فعزاه إلى أبي الفرج الأصبهاني (الذي وُلد بعد موت سيبويه بدهر طويل)! قال طه بن الحصيني: وهذا يؤيد مذهبنا في أن الأدب العربي منحول كله، وأن ما يُنسَب إلى مجنون ليلى من الشعر هو من نَظْم شاعر مجهول عاش قبل سيل العرمرم، أو أنه من نظم المستشرق المعروف بـ «مَرْج الليوث» (¬3). ¬

_ (¬1) كتاب لطه حسين (مجاهد). (¬2) قال جدي في حاشية وضعها هنا: "البيتان في لسان العرب، مادة «قدم» ". قلت: ومن أراد «فَكَّ رموزهما» فليعد إلى اللسان في الموضع المذكور (مجاهد). (¬3) مارجليوث.

و «بدر» الواردة في البيت موضع بين فاس وخراسان، ذكره ياقوت في كتابه «القاموس العصري» (¬1)، وهو أصح كتاب في لغة الفرس. وقيل: بل المراد بدر الدين الحامد (¬2)، وكان صديقاً للشاعر، وقد بلغه أن به شيئاً، فهو يسأل: ما به؟ و «ما» اسم ممنوع من الصرف لعلّتين، هما حذف الهمزة وبقاء الألف، وأصله «ماء». قال الأصمعي: وسمعت من أنسطاس ابن الكرملي أن الماء إنما سُمّي ماء لأن المِعزى إذا عطشت قالت: «ماء»، فسمي بذلك حكايةً لصوتها. ولم أرَ من ذكر هذه الفائدة غيره، وقد أرشدَته إليها عنزة كانت عنده في الدَّيْر. و «ذا» من قولهم: "يا هذا"، أي "يا أيها الرجل"، قال المَرْدَميّ في معلَّقته التي عُلِّقت على باب المجمع العلمي العربي: يا أيها الرّجُلُ المُعلّمُ غيرَهُ ... هلاّ لنفسك كان ذا التَّعْليمُ وقد سرقه من قول أبي هريرة في وداع ابنته: ودِّعْ هُرَيرةَ إن الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ ... وهل تُطيقُ وَداعاً أيُّها الرَّجُلُ؟ و «العقنقل» شيء لم يذكره الشعراء في أشعارهم لاجتماع ¬

_ (¬1) لإلياس أنطون إلياس، كان في وقته أشهرَ معجم إنكليزي-عربي، فلما نُشر «المَوْرد» فاقه شهرة حتى خَمَل ذكره ونسيه الناس (مجاهد). (¬2) شاعر مشهور من حماة، أسَنُّ من جدي بنحو عشر سنين، وكان يُلقَّب بشاعر العاصي (والعاصي -لمن لا يعرف من القرّاء- هو نهر حماة، وعليه نواعيرها المشهورة) (مجاهد).

العين والقافين فيه. والمَزاربة والجَحاجِح مما لا يحتاج إلى تفسير، لأنه غير معروف. و «الضاربين» من الضرب الذي يكون منه الطرح ثم القسمة، وذلك كله بعد الجمع. قال الشاعر: وجمعته فضربته ... فطرحته فقسمته أي أخذت بـ «مجامع» ثوبه فـ «ضربته» فـ «طرحته» أرضاً فـ «قسمته» أقساماً! قلت: وهذا التفسير كمن فسر الماء بالماء. قال الميداني في «مجمع الأمثال»: والذي فسر الماء بالماء رجل من العرب، وقيل من غيرهم، وقال قوم: هو امرأة وليس برجل. قال ابن المبارك: وقوله "وليس برجل" من اللغو، ويكفي قوله "امرأة". قلت: وهذا وهم من ابن المبارك قاسه على ما عُرف في أيامه من أن الناس رجال ونساء، ولو أدرك أيامنا لرأى أنّ مِن النساء مَنْ لَسْنَ بنساء ولا رجال، وأن من الرجال من ليسوا برجال ولا نساء! * * *

زورق الأحلام

زورق الأحلام نشرت سنة 1967 زرت صديقاً لي من رفاق الصغر، فرأيت ولده منكبّاً على أوراق له، يفكر ويكتب ثم يمزق ما كتب، ثم يعود إلى التفكر. فقلت لأبيه: ما له؟ قال: إنه مستغرق في الإنشاء. قلت: فيمَ يكتب؟ قال: في الموضوع الأزلي الذي لا يملّ منه مدرّسو الإنشاء ولا يسأمون من ترديده. قلت: ما هو؟ فضحك وقال: السؤال الذي يُلقى في كل بلد وفي كل وقت، لا يتبدل بتبدّل الأمكنة ولا الأزمان، وهو: "ماذا تريد أن تكون في المستقبل؟ ". وسكت لحظة كأنه يتذكر، ثم قال لي: أتذكر كم مرة سُئلنا هذا السؤال في المدرسة؟ قلت: أذكر، لقد كتبت فيه مرات لست أحصيها. عشرين مرة؟ ثلاثين؟ أكثر من ذلك! وكنت في كل مرة أنطلق مع

أحلامي، أتخيل دروب الحياة وقد فُرشت لي بالسجاد الذي تغوص فيه -من لينه- الأقدامُ، ثم رُشَّت عليها العطور ونُثرت فوقها الورود والزهور. لقد طالما تخيلت نفسي هائماً في رياض هذا المستقبل أنشق ريّا عطره وأجتلي جمال زهره، وأرتع في خيره المُرجَّى وبِرّه. تصورت نفسي طبيباً له العيادة الكبيرة والزبائن الكُثُر، وعشت في هذا الحلم حتى تخيلت نفسي أرى «اللوحة» على بابي وأمد يدي لألمس «السماعة» في عنقي! وتصورت نفسي ضابطاً كبيراً، قد هبطت النجوم من سمائها حتى استقرت على كتفيه ونزل البرق حتى صار يخرج من قرع مِهْمَازيه. وتصورت نفسي صاحب المزارع الواسعة الشاسعة والحقول المُمْرِعة المُزهِرة، أفيق فيها مع العصافير لأنظر إليها، أكحل العين في الأصْباح بمرآها. وتصورت وتصورت ... فأين مني الآن تلك التصورات؟ لقد أردت لنفسي وأراد الله لي، فكان ما أراد الله لي لا ما أردت لنفسي. كنت من شهور أقلّب أوراقاً لي قديمة أفتش فيها عن وثيقة أطلبها، فوجدت «إيصالاً» هذا نصُّ ما فيه: المملكة المصرية دار العلوم العليا نادي التمثيل والموسيقى نمرة مسلسلة (70) وصل من حضرة العضو محمد علي طنطاوي مبلغ 10 قروش صاغ قيمة اشتراكه عن شهر أكتوبر سنة 1929 تحريراً في 15 أكتوبر سنة 1929 الخاتم الرسمي، أمين الصندوق محمد علي الضبع.

علي الطنطاوي عضو نادي التمثيل والموسيقى! وتصورت ماذا تكون خاتمة القصة التي بدأت بهذا الإيصال لو قُدِّر لها أن تكتمل فصولُها. إلى أين كان يصل بي ذلك الطريق الذي وضعت قدمي عليه يوم صرت عضواً في هذا النادي، لو أني تابعت السير فيه حتى بلغت آخره؟ كنت أبدأ ممثلاً في الكلية، ثم أعتلي خشبة المسرح، ثم أدخل فرقة من الفرق، ثم يُسجَّل اسمي في القائمة التي تبدأ باسم يوسف وهبي وتنتهي باسم إسماعيل ياسين! فيكون علي الطنطاوي اليوم ممثلاً عجوزاً (¬1) متقاعداً، يتسكع على أبواب الحانات ويعاشر القَيْنات، ويسهر الليالي وينام الأيام (¬2)، ويعود بلا صحة ولا مال، وربما عاد بلا دنيا ولا دين. ولم يكن يحول بيني وبين هذه الغاية شيء، فالاستعداد لذلك في نفسي كبير والرغبة فيه شديدة، وكان يزيَّن لي فأراه يومئذ حسناً، ولكن الله صرفني عنه، وما كان ذلك بعمل مني ولكن بصنع الله لي (¬3). ¬

_ (¬1) كلمة «عجوز» في الأصل للمرأة، ولكنها عمَّت في الاستعمال. (¬2) اليوم في الأصل النهار. (¬3) قَصَّ هذه القصةَ علينا في الذكريات (بألفاظ متقاربة) ثم قال: "ولكن الله صرفني عنه؛ أصبحت يوماً فإذا خاطرٌ قويّ لم أملك له دفعاً يدفعني لترك دار العلوم ونادي التمثيل فيها والعودة إلى دمشق، وكان هذا الخاطر هو الموجَةَ التي حوّلَت زورقي إلى ما هو خير لي، فاللهُمّ لك الحمد" (الذكريات: 1/ 358) (مجاهد).

وفي أوراقي التي وجدت فيها هذا الإيصال شهادةٌ مكتوبة بالخط الديواني ولها إطار مذهَّب الحواشي، وفي رأسها اسم «وزارة الأوقاف»، فيها قرار تعييني إماماً في جامع رستم في حي العُقَيبة في دمشق، أي والله، وتاريخها سنة 1924، أي من اثنتين وأربعين سنة شمسية (¬1). إني لأنظر إلى هذه الشهادة، وأرجع البصر إلى ذلك الإيصال الذي اصْفَرَّ لونُه وبَلِيَ ورقه وتمزقت طيّاته، فأرى عجباً دونه والله ما يشطح إليه خيال القُصّاص. من إمام جامع إلى ممثل في التياترو! ولكن كيف دخلت نادي التمثيل والموسيقى؟ إني لأتأمل هذا «الإيصال» فأعود إلى أيامي الماضيات، إلى سنة 1347هـ، وقد نلت شهادة «البكالوريا» (كما كنا نسميها يومئذ، أو «التوجيهية» كما تُسمّى اليوم، وكان الفرنسيون قد أنشؤوها تلك السنة) فحملتها وسافرت إلى مصر، فدخلت دار العلوم العليا وانتسبت إلى الجامعة المصرية، وكنت أول سوري يؤمّ مصر للدراسة العالية في غير الأزهر. وكنت أحرر في مجلّتَي خالي وأستاذي محب الدين الخطيب، المجلة الأدبية الأولى في العالم العربي، وهي «الزهراء»، والمجلة الدينية الأولى في العالم الإسلامي، وهي «الفتح». وأعلنت عمادة الكلية (أو مديرية المدرسة كما كانت تسمى) عن تأليف نادٍ للتمثيل والموسيقى ودَعَوا من يريد الاشتراك فيه ¬

_ (¬1) أي وقتَ كتابة هذه المقالة، أواخر سنة 1966، وقد نُشرت في «الوعي الإسلامي» في عدد كانون الثاني (يناير) 1967 (مجاهد).

إلى طلب الانتساب، فكنت فيمن أراد. وجاؤونا برجل (ممثل) يعلّمنا التمثيل، قصير متحذلق، لا أدري ما صنع الله به بعد هذه السنين التي قاربت الأربعين، ولا أزال أذكر اسمه، حفظته لغرابته، وإن كان مكان الأسماء من ذاكرتي قد كثرت فيه الخروق التي لا تُرقَع! (¬1). واختبَرَنا بجمل نلقيها إلقاء مسرحياً، على أن نعبّر عن معانيها بخلجات وجوهنا ولهجات حروفنا وإشارات أيدينا، فلما جاءت النوبة إليّ وألقيت تلك الجمل دُهش هو ومن كان معنا من الطلاب ورأوا شيئاً ما كانوا يتوقعونه، وشهدوا بأن هذا الشامي ممثل «جامد» (أي ماهر، ونعوذ بالله من الجمود). ما كانوا يتوقعونه هم مني، أما أنا فكنت أتوقعه من نفسي لأني كنت قد ألَّفت -من تلاميذي في المدرسة الابتدائية التي كنت أعمل فيها في دمشق- فرقة للتمثيل، وكنت أكتب لهم القصة وأعلمهم تمثيلها، وكنت بارعاً في التمثيل (¬2). وما أريد أن أفيض في سرد القصة، فلذلك كتاب عنوانه «ذكريات نصف قرن»، كتبت منه كثيراً وبقي عليّ منه كثير (¬3)، ¬

_ (¬1) في الحلقة 34 من الذكريات (وفيها هذه القصة): "أرادوا أن يؤلفوا فرقة للتمثيل فجاؤونا بشابّ له اسم غريب لا أزال أحفظه، هو فتوح نشاطي (مجاهد). (¬2) لهذا الإيجاز تفصيل في الحلقة الثامنة والثمانين من الذكريات، في الجزء الثالث (مجاهد). (¬3) وُلدت «الذكريات» فكرةً في خيال جدي رحمه الله أوائلَ مقدمه=

ولكن أريد بيان العبرة من هذه القصة: لقد اشتغلت بالتمثيل واحترفت الصحافة وغصت في السياسة، ولكن الله كان يوجّه طريق سيري، فلم يختَرْ لي من ذلك كله شيئاً. * * * لا، لا أقول «إن الإنسان مسيَّر»، فإنها أضل مقالة قالها الإنسان. الإنسان مخيَّر، أعطاه الله اليدين، فهو يستطيع أن يحركهما ليتصدق على السائل وأن يحركهما ليضرب البريء، ومنحه الرجلين، فهو يقدر أن يمشي بهما إلى المسجد ليصلي أو إلى الماخور ليفسق. جول سيمون يردّ على مَن يدّعي أنه مسيَّر فيقول له: سأرفع يدي بعد ثلاث دقائق. فهل تراهنني على أنني لا أستطيع أن أرفع يدي؟ ولكن ليس معنى هذا أن الإنسان يستطيع أن يتحكم في ¬

_ = إلى المملكة، وما زلت أسمع بمشروع الكتاب الذي سمّاه بهذا الاسم منذ وعيت، ولعله قد بدأ يجمع مادته ويسوّد مسوَّداته منذ تلك الأيام، بل أحسب أن هذه المقالة (والمقالتان بعدها في هذا الكتاب) جزء من النواة المبكرة للمشروع. غير أن السنين مضت تجر بأذيالها سنين، وهو يؤجل إنجاز المشروع ثم يؤجل، حتى صار إخراج هذا الكتاب أمنيّةَ الأُمنيّات عنده، هو وتكملة «تعريف عام بدين الإسلام»، وحتى قال في أول «تعريف عام» إنه يتنازل عن كل ما كتبه عمرَه كلَّه ويوفّق الله إلى تأليف جزأيه الباقيين (في الإسلام والإحسان) وإلى كتابة «ذكريات نصف قرن». فأما تتمة «تعريف عام» فلم تُكتَب قَط، وأما الذكريات فقدَّرَ الله كتابتها على التفصيل الذي قرأتموه في مقدمتها، والحمد لله (مجاهد).

الكون ولا أن يقرر لنفسه المصير. الصخرة لا تتحرك والسيارة تتحرك، فنحن لا ننكر حركة السيارة ولا حرية سائقها في التوجه بها، ولكن ليس معنى هذا أن يخترق بها الجبل ولا أن يمشي بها على وجه الماء. إن السيارة تمشي بـ «حرّية» سائقها و «اختياره»، ولكنها لا تمشي إلا على الطريق، وتسرع ولكنها لا تجاوز في سرعتها الحد الأقصى الذي حدده «مصنعها» لسيرها. وكذلك الإنسان؛ إن له حرية واختياراً، ولكنه لا يستطيع أن يسلك إلا الطريق الذي تشقّه له الأقدار، وله مقدرة ولكنها في حدود المقدرة التي أعطاها الله للإنسان. إنه كراكب الزورق في البحر؛ يوجّهه حيث شاء، ولكن قد تضربه موجةٌ عاتية فتحوّل وجهته من اليمين إلى الشمال، وكذلك تصنع الأيام بزوارق الأحلام. كنت في مصر وقد رسمت طريقي وحدّدت وجهي: أن أكمل الدراسة في دار العلوم وأعمل في الصحافة، وإذا بموجة تلطم صدر زورقي فتعيدني إلى دمشق، فأدخل فيها كلية الحقوق، وأغامر في السياسة، وأقود الطلاب جميعاً إلى ساح النضال، وأحترف الصحافة، فأكتب في «فتى العرب» عند مؤلف «سيد قريش» وفي «ألف باء» عند باقعة الصحافة في الشام (¬1)، ثم أتولى التحرير الداخلي في الجريدة الوطنية الكبرى التي أصدرتها ¬

_ (¬1) الأول هو معروف الأرناؤوط والثاني يوسف العيسى، وانظر الحلقات 35 - 37 من الذكريات (في آخر الجزء الأول) ففيها تفصيل هذا الإجمال (مجاهد).

الكتلة الوطنية رافعة لواء النضال للاستقلال (¬1)، وكان آخر ما أفكر أن أكون موظفاً. أنا أكون موظفاً في ظل الانتداب؟! وإذا فُرض ما لا يكون وقبلت التوظيف فلن أكون معلماً محترفاً، حسبي أنني أعلم في المدارس الأهلية في دمشق (الأمينية والكاملية والجوهرية والتجارية) من سنة 1925 (1345هـ)، إي والله! ولكن هذا الذي كان؛ فقد كانت في سنة 1931 نكسة وطنية بعد انتخابات 20 كانون (أي ديسمبر) التي قاطعناها، وسيطر الفرنسيون، وعطّلوا الجريدة التي كنت أعمل فيها، فقبلت أن أكون معلماً لئلا أدع إخوتي بلا طعام. وضربت موجة أخرى زورقي حين آذاني الحاكمون، فنقلوني في أقل من ثلاث سنوات بين خمس من القرى، وآذيتهم بقلمي ولساني، فتركت الشام وسافرت إلى العراق. وكان لي في العراق إخوان وكان لي تلاميذ، منهم من صار رئيس جمهورية (رحمه الله وأبقى أخاه (¬2)) ومنهم من لست أحصي ممّن صاروا وزراء، وصار منهم كبار القضاة والقادة والضباط. ¬

_ (¬1) «الأيام»، وأخباره فيها في الجزء الثاني من الذكريات: ص49 - 65 (مجاهد). (¬2) كان عبد الرحمن عارف رئيس جمهورية العراق لما كتبت هذا الفصل. قلت: حكم لمدة سنتين (1966 - 1968) وكان أخوه عبد السلام عارف رئيساً قبله منذ عام 1963، وقد عُرف كلاهما بالتدين والنزاهة، مع ميول قومية مَشوبة بعاطفة إسلامية. وبالجملة فقد كانت أيامهما أحسن مما قبلها وخيراً مما بعدها (مجاهد).

ما كان أحلى أيامي في العراق، وسلام مني لا ينقضي على إخواني وتلاميذي في العراق. وصرفتني موجة إلى لبنان، فعملت في بيروت سنة 1937 وصار من تلاميذي فيها أساتذة في الجامعة، وناس من كبار الناشرين وأصحاب المجلات، وصار منهم رئيس القضاء الشرعي، ومنهم الشاب العالم الصالح الذي سرّني وفرّح قلبي أن سمعت من أيام نبأ انتخابه بالإجماع مفتياً للبنان (¬1). وموجة أخرى حولتني إلى القضاء، وما كنت أظن يوماً أن سَأَلي القضاء. ثم عدت بعد أكثر من ربع قرن في القضاء أمضيت نصفه في محكمة النقض، عدت بعد التقاعد مدرِّساً في مكة المكرمة بجوار حرم الله. * * * جرَّني إلى هذا الكلام كله موضوعُ الإنشاء. فليفكر إخواننا المعلمون حين يلقون هذا السؤال فيما كانوا يجيبون عليه وهم طلاب؛ هل كانوا يريدون أن يكونوا معلمين؟ أم كانت لهم غايات طالما تطلعوا إليها وحاولوا بلوغها، وأحلام كبار طالما كانوا ¬

_ (¬1) قال جدي في حاشية وضعها هنا: "هو الشيخ حسن خالد". قلت: بقي مفتياً للجمهورية اللبنانية منذ كتابة هذا المقال وحتى استشهاده عام 1989، وما زلت أذكر مبلغ حزن جدي عليه وأسفه على مقتله -وقد اغتيل في تلك الحرب الهوجاء التي عصفت بلبنان سنين- وما ذكره إلا بخير، رحمة الله على الجميع (مجاهد).

يناجونها في خلواتهم ويسامرونها في لياليهم ويحلمون بها في يقظاتهم، وجّهوا إليها زوارق حياتهم وكل همهم أن يصلوا إليها، فجاءت موجة فضربت الزورق فحولت طريقه؟ أما أنا فقد رَثَّ زورقي وبلي من طول ما توجه يميناً وتوجه شمالاً، فمَرَّ بي على كل بلد فرأيته، وأطال بي الرحلة فذقت الحلو والمر، وعرفت المتع واللذاذات، والمتاعب والآلام؛ عرفت لذة المال، ومتعة الشهرة، وحلاوة المنصب، وإعجاب الجماهير ... ولو عدت تلميذاً الآن وسُئلت هذا السؤال لقلت إنه لم يبقَ لي من الآمال إلا أمل واحد، هو أن يرزقني الله حسن الخاتمة، وأن يخلفني في أهلي وبناتي، وأن يريني قبل موتي بياض يوم النصر للإسلام وأهله بعد هذا الليل الذي امتد سواده وعَمّ، اللهمّ آمين. * * *

رقم مكسور

من تاريخ الماضي القريب رقم مكسور نشرت سنة 1968 لا، لا تظنوه «رمزاً» ولا تُتعبوا أنفسكم في تفسيره، فما كنت قط من كتّاب الرمزية ولا ملت يوماً إليها، وما هو إلا «رقم مكسور» حقيقة في التقويم المعلَّق في داري، نظر إليه صبي صغير، ابن أحد أصدقائي، وقد سألته عن السنة الجديدة، فقال إنها سنة 1918؛ ذلك أن رقم الستة قد كُسر رأسه فصارت الستة واحداً. قطعة طولها ثلاثة مُعَيشيرات (¬1)، ولكنها ردّتني إلى الوراء خمسين سنة. وجدت نفسي مشدوداً إلى الماضي على الرغم مني، لم أعد أستطيع أن أفكر في غير سنة 1918، لأن صورها طغت على نفسي حتى أنستني الموضوع الذي كنت أفكر فيه لأكتب فيه مقالة المجلة. فأفتِني يا أخي الأستاذ العامودي (¬2): هل ¬

_ (¬1) المِعشار سنتيمتر، والمُعَيشير (مُصَغَّره) ملّيمتر. (¬2) كان الأستاذ محمد سعيد العامودي رئيسَ تحرير مجلة «الحج» التي نُشرت فيها هذه المقالة في عدد شوال سنة 1387 (مجاهد).

أدع الكتابة في هذا العدد، أم أسرد على القرّاء ذكريات 1918؟ وما للقراء وذكرياتي؟ وليست مجلة «الحج» مجلة أدبية وما أُعِدَّت لنشر الذكريات؟ ما عندي اليوم إلا هذا الموضوع، فإما أن تتكرم بنشره، وإما أن تعفيني من الكتابة في هذا العدد من المجلة، والأمر لك يا أخي الأستاذ السعيد! * * * قطعة من الرقم بحجم رأس الدبوس، ولكنها ردتني إلى ما قبل خمسين سنة. وما خمسون سنة بالزمن الطويل، ولكن هذه السنين الخمسين قد بدّلت في حياتنا كل شيء. إني عندما أذكر كيف كنا سنة 1918 وأرى كيف صرنا سنة 1968 لا أكاد أصدق أني يقظان، وأفرك عيني أحسب أني نائم وأن الذي أراه رؤيا منام! لقد تبدلت الأرضُ غيرَ الأرض والناسُ غيرَ الناس، وما كنا نظنه من المستحيلات صار حقيقة واقعة. وما لي أعمد إلى التعميم قبل التخصيص والفلسفة قبل القصة، وأنسى أني أدوّن ذكريات تلميذ لا أسرد تاريخ عصر؟ لقد كنت سنة 1918 تلميذاً، وعندي وثيقة محفوظة فيها درجاتي المدرسية لتلك السنة، وكنا لا نزال في دمشق في ظلال الحكم التركي. وكانت الحرب في نهايتها، ولكني لا أعرف منها إلا ما يعرفه تلميذ يقيم في بلد بعيد عن الحرب وأهوالها، وإن لم يكن بعيداً عن آثار الحرب. كنا نرى آثارها في الطرق الخالية من الرجال، لأن الرجال

سيقوا كرهاً إلى معركة كانوا يحسّون أنْ ليس لهم فيها ناقة ولا جمل، وأنها ليست جهاداً في سبيل الله ولا دفاعاً واجباً عن الأرض ولا عن العرض، لذلك كانوا يفرّون منها، وكان الضابط الموكل بالفُرّار (الذي كنا ندعوه بـ «أبي لبّادة» لأنه يلبس قلنسوة طويلة من اللبّاد) يمسك بكل شاب يراه -إذا هو رأى شاباً- يسأله: نَرْدِه وَثيقة؟ (أي: أين وثيقتك؟) فإذا لم يُبرز وثيقة الإعفاء من الخدمة العسكرية أو الإجازة المعتادة أمر بسحبه إلى مقر التجنيد، وكنا نسميه «السُّوَيقات»، وكان على طريق المدرسة (¬1). فكنا نرى المقبوض عليهم بالعشرات، نمر بهم كل يوم كما نمر بالجائعين الممددين على جوانب الطرق، الذين يبحثون في أكوام القمامة عن شيء يأكلونه، وكان هذا من المناظر المألوفة! وكان الخبز من النوادر، والأفران مغلقة الأبواب، ما فيها إلا كوة صغيرة يزدحم عليها الناس ليأخذوا أرغفة من الخبز الأسود، وما ذلك إلا لأن الترك أخذوا قمح الشام إلى حلفائهم الألمان، وتركوا أهل الشام (كما تركوا جنودهم في الميدان) بلا طعام! وزاد البلاءَ وُرودُ الجراد. وإني لأذكر صبيحة إعلان الحرب سنة 1914 وقد تغطت سماء المدرسة بالجراد، تغطت حقيقة والله، كأن أَرْجال (¬2) الجراد سحابة مطبقة، لا أقولها مجازاً، ¬

_ (¬1) قال في «الذكريات»: "وهو في البناءين القائمَين إلى الآن في سوق صاروجا". وأكثر ما يُذكر هنا موجزاً مَرويٌّ هناك بالتفصيل. راجع حلقات الذكريات 4 - 6، في الجزء الأول (مجاهد). (¬2) جمع رِجْل، وهي الجماعة من الجراد (مجاهد).

وكانت سحابة واطية قريبة حتى كان الجراد يتساقط على الأرض! جراد كَنَسَ الحقول وقضى على كل شيء مَرَّ عليه. كانت أيام بلاء وشقاء، ولكنا كنا نهتف في المدرسة كل صباح بالتركية "باديشاهم جوق يشا"، أي أطال الله عمر السلطان. كانت أناشيدنا باللغة التركية، وكان من المدرسين من يدرّسنا باللغة التركية، حتى النحو، القواعد العربية كنا نتعلمها باللغة التركية، فإذا أراد المدرّس أن يسألنا مثلاً "ما هو الفاعل" قال: فاعل نِدِرْ؟ وكان اسم جمال باشا يُدخل الرعب إلى قلوبنا نحن الصغار، حتى إن معلماً في المدرسة أشاع أنه نسيب جمال باشا، فكنا نموت من الخوف إذا دخل علينا. هذا كل ما كنا نعرف عن الحرب. ومن أين نعرف أكثر منه وما كان في البلد، بل لم يكن في الدنيا كلها إذاعات، وما كان عندنا جرائد، أو ما كنا نعرف -نحن التلاميذ- وما كان يعرف جمهور الناس ما الجرائد، وكانت دمشق في عزلة، كانت منطوية على نفسها. لم يكن في الألف من أهلها واحدٌ يستطيع أن يعدّ أسماء خمس دول أوربية ولم نكن نعرف شيئاً من مخترعاتها. لمّا جاءتنا أول سيارة (سنة 1915 أو 1916، لم أعد أذكر)، سيارة فورد من ذوات الرفارف والدواليب الدقيقة والسقف المصنوع من القماش، خرج الناس كلهم ليروها، ليروا هذه الأعجوبة: عربة تمشي بلا خيل تجرّها! فلما وصلت فزعوا منها وابتعدوا عنها! لم يكن في دمشق إلا عشرون داراً فيها الكهرباء. لم يكن فيها شارع واحد، وأول شارع فيها هو الذي فتحه جمال باشا سنة 1916،

أذكر ذلك، ولا يزال يحمل عند الناس اسمه إلى الآن. كنا نقرأ في المدرسة «الجغرافيا»، ولكن العلماء كانوا يبحثون في حلقاتهم عن حكم قراءة الجغرافيا: هل هو الإباحة أو المنع؟ وكان ثلاثة أرباع الناس، بل أكثر، يعتقدون أن الأرض مسطَّحة ويكّفرون من يقول بكرويتها! مع أن المسلمين عرفوا أنها كرة، بل هم قد قاسوا محيط الأرض وعرفوا طول خط الاستواء قبل ألف ومئتَي سنة، والرقم الذي وصلوا إليه لا يختلف عن الرقم المعترَف به اليوم علمياً إلا واحداً في الألف. تقدمت الأمم وتأخرنا، وتعلّمت وجهلنا، حتى انتهينا سنة 1918 - على عهد العثمانيين- إلى جَهالة مطبقة بالدنيا وأهلها. ولست أعني أن حكم العثمانيين كان شراً، ولست مع هؤلاء المغفلين الجاهلين الذين يقولون «الاستعمار العثماني» كما يقولون «الاستعمار الفرنسي» و «الاستعمار الإنكليزي»؛ فلقد كان العثمانيون الأوّلون ملوكاً مسلمين، رفعوا راية الدين وفتحوا لها ربع أوربا، وأقاموا للإسلام دولة كانت ثالثة الدولتين الكبيرتين: دولة أمية ودولة العباس، وكان منهم ملوك عظام كالفاتح والقانوني (سليمان). ولكن خلف من بعدهم خلف كانوا شراً علينا وعلى قومهم، هم «الاتحاديون». بل لقد بدأ الفساد من عهد السلطان محمود (¬1) الذي ترك أحكام الشرع وأخذ ¬

_ (¬1) السلطان محمود الثاني، حكم الإمبراطورية العثمانية بين عامَي 1808 و1839، وكان عصره كئيباً والخسائر فيه كثيرة، وفي أيامه ضاعت الجزائر (مجاهد).

قوانين أوربا، دفعه إلى ذلك ضغط الكفار وجمود أذهان العلماء وعجزهم -كما يقول ابن القيم في مثل هذه الحال- عن استنباط الأحكام من أدلة الإسلام. الاتحاديون الذين شوّهوا اسم السلطان عبد الحميد (وقد تبين اليوم براءته من أكثر ما اتهموه به) والذين انهزموا أمام دول البلقان التي كانت تخضع للسلاطين من آل عثمان، والذين أقحموا الدولة في حرب ما لها فيها مصلحة فقضوا عليها. هؤلاء الذين منهم جمال باشا هم الذين أساؤوا إلينا وإلى الترك على السواء. * * * وأصبحنا يوماً من سنة 1918 وإذا في البلد رَجّة، وما كانت تعرف بلدُنا الرجات، وإذا نحن نرى لأول مرة «المظاهرات»، وما كنا نعرف إلا «العرضات». وإذا نحن نسمع هتافاً، لا كهتاف "باديشاهم جوق يشا"، بل هو هتاف جديد: "لِيَحْيَ الاستقلال العربي". ورأينا الناس فرحين ففرحنا معهم، لا لأننا عرفنا سر فرحهم، بل لأن مدرستنا التركية قد أغلقت وسُرِّحنا منها، فلذلك فرحنا! وسمعنا الناس يقولون: جاء الشريف وانقضى حكم الأتراك، فقلنا: من الشريف؟ قالوا: فيصل بن الحسين، منقذ العرب ومحررهم وقائد نهضتهم. ولم نكن نعرف ما صنع منقذ العرب ولا ندري ما هذه النهضة العربية التي يتحدثون عنها، فعشنا حتى عرفنا ودرينا!

كم رأينا بعدُ وكم شاهدنا! رأينا ولادة الاستقلال وموته في ميسلون، ودخول غورو، وثورة سنة 1925 التي دامت سنتين، قهرنا فيها فرنسا التي غلبت الإمبراطور غليوم، غلَبَها منّا مئاتٌ من الثوار. وشهدنا بعث الاستقلال سنة 1946، والانقلابات التي بدأها حسني الزعيم ولم تنتهِ بعد (ولا يعلم أحد متى تنتهي)، والوحدة والانفصال. كم شاهدنا من دول قامت ثم زالت، وعهود كانت ثم انقضت، وناس كانوا على كراسي الحكم في السراي ثم صاروا على حصير السجن أو على أعواد المشانق! أدركنا عهد الترك، وعهد الشريف، وعهد الفرنسيين، وعهد الاستقلال، وعهد الوحدة ... وما عهدٌ منها إلا بكينا فيه منه وبكينا بعده عليه! الناس يقرؤون التاريخ، ولكنّا عشنا نحن في التاريخ، لم نطلّ عليه من نوافذ المناهج المدرسية بل كنا فيه من داخل. الأساتذة والمؤرخون الذين يكتبون التاريخ يقعدون مع المشاهدين، وكنا نحن على المسرح مع الممثلين. يقولون إن الدهر دولاب يدور أبداً، يرفع ويضع، ويعلي وينزل، ولكنه كان يدور ببطء عقرب الساعة، فصار يدور بسرعة مراوح الطيّارة. لقد تبدلت الأحوال وتغير المجتمع في هذه السنين الخمسين أضعافَ أضعاف ما تبدلت في القرون الخمسة الماضية. * * *

والحديث طويل طويل، وإذا قدر الله أن يتم كتابي الكبير «ذكريات نصف قرن» جاءتكم في فصوله بقاياه (¬1). * * * ¬

_ (¬1) وقد جاءت بقاياه بالفعل، ولكن بعد نشر هذه المقالة (والتي بعدها في الكتاب) بأربع عشرة سنة، لمّا نشر جدي رحمه الله حلقات ذكرياته في «المسلمون» أولاً وفي «الشرق الأوسط» آخِراً، وهي التي صارت اليوم كنزاً مطبوعاً في ثمانية مجلدات يتداولها الناس (مجاهد).

وقفة على طلل

وقفة على طلل نشرت سنة 1962 يقولون أن امرأ القيس (¬1) كان أول من وقف واستوقف وبكى واستبكى، وأنا صانعٌ اليومَ مثل ما صنع امرؤ القيس. ¬

_ (¬1) لما وصلت إلى هنا وأنا أراجع الكتاب وجدت أن الطابع (الذي طبع مادته) أصرّ على أن يكتب اسم شاعرنا الجاهلي بصورة واحدة حيثما جاء في المقالة، كتبه «امرؤ القيس» كما حفظه في المدرسة. فهممت أن أصحّح خطأه وأمضي كما أصنع في كل حين، ثم قلت: بل أضيف حاشية ينتفع بها بعض القراء، بل ربما كثير منهم، فقد عَمَّ الضعف بالعربية حتى جهل كثيرٌ من الناس ما ينبغي أن يُعلَم منها بالضرورة. فاحفظوا القاعدة: إذا تحركت هذه اللفظة اشترك في الحركة آخرُها والحرف الذي قبله، فهما يُضَمّان معاً في حالة الرفع، ويُفتحان معاً في النصب ويُكسران في الجر، ويظهر هذا التحريك في اللفظ وفي الرسم (الكتابة)، فنقول: امرُؤُ القيس شاعر عبقري، وإنّ امرَأَ القيس كان من فحول الشعراء، وقرأت معلقة امرِئِ القيس (ولم أفهم منها شيئاً بالطبع)! وفائدة ثانية: كل اسم في اللغة العربية -عدا مصادر الخماسي والسداسي- يبدأ بهمزةٍ فهي همزة قطع، تُلفَظ وصلاً وفصلاً، ما عدا اثني عشر اسماً سُمعت عن العرب بهمزات وصل، «امرؤ» أحدها، وابحثوا عن البقية في كتب النحو والإملاء (مجاهد).

ولكن امرأ القيس استوقف أصحابه، فوَقَفوا له «مَطِيَّهم» يقولون: "لا تَهْلِكْ أسىً وتَجَمَّلِ"، واستوقفت أنا «سيّارة القصّاع» (¬1) لتنتظرني حتى أقف بالأطلال، فما التفتت سيارة القصاع إليّ ولا ردت عليّ. وكان وقوفه على «سِقْط اللِوى»، ألا تعرفون ما سقط اللوى؟ إنه بين «الدَّخول» و «حَوْمَل»! ثلاثة أسماء ما زالت تجري على كل لسان وتقرع كل سمع من ألف وخمسمئة سنة إلى اليوم، وما عرف أحدٌ قط ما هي ولا أين تكون! (¬2) ووقفت أنا على أطلال ماثلة في قلب دمشق وفي أكبر سُوحها. ووقف امرؤ القيس ليبكي ذِكَرَ الغرام، ووقفت لأعرض صور الماضي وأعتبر بأحداث الليالي. * * * صليت العصر أمس في جامع «يَلْبُغا» (¬3) وخرجت أنتظر سيارة القصّاع، فسلم عليّ صديق لي، وأشار إلى بقايا الغرف ¬

_ (¬1) يريد الحافلة (الباص) التي تذهب إلى القصاع، وهو حي من أحياء دمشق خارج السور، شرقيّ باب توما (مجاهد). (¬2) حددها كلها الشيخ ابن بليهد رحمه الله في كتابه «صحيح الأخبار». (¬3) كان موضعه تلاً يُشنَق عليه المجرمون، فأخذه والي دمشق سيف الدين يَلبُغا سنة 847هـ وأنشأ عليه هذا المسجد، وقد أراد يوماً بعض حكام السوء أن يستغلوا موقعه من لب المدينة فيبنوا مكانه بناء تجارياً يخصَّص منه طابق للمسجد! فأنكرنا ذلك وأبطلناه بعون الله. قلت: علمت أن «الأوقاف» هدمته سنة 1975 وبدأت ببناء مجمَّع كبير مكانه، ولا أدري ما فعل الله بالجامع (مجاهد).

في شمالي المسجد وسألني: ما هي؟ فحرّك بهذا السؤال سواكن ذكرياتي، وردّني إلى مَواضي أيامي، فرجعت أدراجي ثلاثاً وأربعين سنة حتى عدت تلميذاً في هذه المدرسة، وجعلت أستعيد صور حياتي فيها وأتذكر أساتذتي ورفاقي. وأين رفاقي؟ أين؟ لقد تشعّبت بهم سُبُل الحياة وضربهم موج لُجّتها، فرفع ناساً وخفض ناساً وأغرق آخرين. كانوا متجاورين في المدرسة على مقعد واحد، فاختلفت في الحياة مقاعدهم، فجلس هذا على سدّة الحكم وذلك على كرسي الحاجب على بابه، وصار هذا هو القاضي ورفيقه هو المتّهَم الذي يقوم بين يديه، وغدا هذا من أرباب الأموال والأعمال فلا يدري ما يصنع بماله، وذلك من أصحاب العَيْلة (¬1) والعيال فلا يعرف -لعيلته- من أين ينفق على عياله. اغتنى ابن الفقير وافتقر ابن الغني، وتأخر في الحياة من كان في المدرسة سابقاً وسبق من كان فيها متأخراً، ومشى قومٌ على الطريق السوي، فكان غاية مسعاهم وظيفة فيها الستر أو مورد فيه الكفاف، وقفز قوم من فوق الأسوار، فكانوا يوماً في الأوج ويوماً في الحضيض، في القصر حيناً وحيناً في السجن! كم ربَّتْ هذه المدرسة من أطفال وكم خرّجت من رجال! كانت الدروس للجميع، وكانت كلها هدى وخير، فاهتدى بها من اهتدى وضل من ضل، كالمطر يهطل على الأرض كلها، فتتشربه قطعة فتنبت به الزهر والثمر، وتأباه أخرى فتحيله بِرَكاً لا ¬

_ (¬1) العَيْلة الفقر.

تلبث أن يأسَنَ ماؤها ويُفسد الأرضَ والجو. لقد لبثَتْ نصفَ قرن تربي وتعلم، وكانت قوية شابة، ثم نال منها الوَنى وهدّها الكلال، ثم آضَتْ أطلالاً. إنها كسفينة ترددت آلاف المرات بين الشاطئين؛ تنقل الركاب من شاطئ الطفولة إلى شاطئ الشباب، تقطع بهم لُجّةَ المضيق العميق، فمنهم من يصل ومنهم من تطويه اللجة بمياهها، ثم يتفاوت الواصلون، فمنهم من يبقى على الشاطئ يسير على الطريق المستقيم، أو يلتوي وينحرف، ومنهم من يصعد الجبل فيعلو قليلاً أو كثيراً، ومنهم نفرٌ يبلغ الذروة، ثم يهبط الجميع، سواءٌ منهم من علا ومن انخفض، ويواريهم التراب. حتى إذا كَلَّتْ السفينة ورَثَّت حبالها وصدئت وتخرّقت وقفت، ثم مالت وغاصت في رمال الشطّ وبقيت مكانها، كأنها هيكلُ حوتٍ كبير فقد الحياة من زمن بعيد. * * * إني لأذكر الآن كيف دخلت هذه المدرسة. لقد كنت في مطلع سنة 1918 تلميذاً في الصف الخامس في مدرسة جمعية الاتحاد والترقي (اتحاد وترقي مكتبي إعدادي سي)، التي كانت تُعرف بين الناس بـ «المدرسة التجارية» لأن التجار هم الذين أنشؤوها بأموالهم، وكانت أكبر ثانوية في البلد، وكان والدي مديرها، وكان يدرّس فيها فحولُ الرجال، وحسبكم أن تعرفوا أن منهم العالم الجليل هاشم بك مدير المعارف، الذي

كان له وحده من السلطان ما يقتسمه اليوم أربعةُ وزراء للمعارف في أربع دول، هي سوريا ولبنان والأردن وفلسطين. وكان يحكم الشامَ الأتراكُ، لا أعني محمداً الفاتح وسليمان وأولئك السلف الصالح الذين حملوا راية الهدى إلى أسوار فينا، بل الخلف الفاجر: الاتحاديين الملحدين. وكان الأمر لجمال السفاك، فكنا نحن الصغار نرتجف هلعاً إذا ذكر فينا اسمه. فأصبحنا يوماً فإذا الأرض غير الأرض والناس غير الناس؛ لقد دالت دولة الأتراك واختفت رايتهم الحمراء ذات الهلال، وجاءت دولة جديدة لها راية مربعة الألوان. وغدونا على المدرسة، وكانت في دار العابد في سوق صاروجا (¬1)، فإذا المدرسة قد أغلقت، وافتتحت مدرسة ثانوية جديدة باسم «المدرسة السلطانية الثانية» (¬2)، وكان مقرها في هذه الغرف التي تَمْثُل أطلالها اليومَ شواخِصَ في صحن الجامع، ودخلتُ إليها فوُضعت في الصف الرابع بعد أن كنت في الخامس. إني لا أذكر من رفاقي فيها إلا ثلاثة كانوا في صفي، هم عبد الحكيم مراد المحامي، وصلاح الدين شيخ الأرض المهندس، وحسن السقا الكيميائي. أما المعلمون فأنا أذكر منهم حسني كنعان والتكريتي وجميل مراد، وكانوا يومئذ في مطلع الشباب، والشيخ محمداً النابلسي رحمه الله. وكان مدير القسم الابتدائي شريف آقبيق، ومدير الثانوي سعيد مراد رحمه الله. ¬

_ (¬1) صاروجا من أمراء المماليك، مات سنة 743هـ. (¬2) كانت المدرسة الثانوية تسمى يومئذ «السلطانية».

والأستاذ سعيد مراد شيخ المعلمين، ما مات حتى رأى تلاميذَ تلاميذِ تلاميذِ تلاميذه، حقيقةً لا مبالغة، وخليفتُه اليوم عبد الرحمن السفرجلاني، ابن معلم الشام شيخنا الشيخ عيد السفرجلاني، الذي حوت سجلات مدرسته الابنَ وأباه وجدَّه، كلهم مَرَّ عليه وكان من تلاميذه. ومن تلاميذ أستاذنا عبد الرحمن شيوخ يُشار إليهم اليوم بالبنان، منهم الرئيس شكري القُوَّتلي رحمه الله، وفقيد القضاء وعميده مصطفى بَرْمَدا، وشيخ الإداريين في ديار الشام جميل الدهّان ... وقد ذكرته استطراداً، وحديثه وحديث أبيه أطول من أن يُكتفى فيه بالإشارة العارضة. أعود إلى الكلام على الأستاذ سعيد مراد. لقد كان في الواقفين عند باب الأموي حَذّاء (كندرجي) من فضلاء الناس (وكان في التجار وأرباب الصناعات كثير من أهل العلم والفضل في تلك الأيام)، وكان أبي يبعث بي إليه كلما احتجت إلى حذاء. وكان أبي يجلس عنده فيمن يجلس عنده من العلماء، فذهبت إليه يوماً فوجدت في دكانه الأستاذ مراد، فصرت -من بعدها- أتهيّبه كلما لقيته وأُجِلّه عن أن أمدّ إليه رجلي ليأخذ مقاسها (¬1)، لمجرّد ¬

_ (¬1) أخشى أن يصعب فهم هذه الجملة على تسعة قارئين من كل عشرة، فما معنى أن يأخذ الحذّاءُ مقاسَ الرِّجْل؟ هذه صنعة أدركت أنا آخرها ولم يعد لها في دنيانا الحاضرة وجود؛ فما كان الناس يعرفون الأحذية الجاهزة ولا هذه المتاجر المملوءة بها من كل حجم وشكل ولون، بل كان المرء يذهب إلى «حذّاء» (أي صانع أحذية) فيقيس قدمه ويصنع له حذاءً يناسبه. ولسوف يسمع أولادنا أو أولاد أولادنا هذا الخبر فيضحكون منه ويعدّونه في الأعاجيب (مجاهد).

أني علمت أنه صديق المدير الأول. ومرّت أيام طوال، وكنت يوماً على قوس المحكمة وأمامي من المحامين والمتقاضين عشرات وعشرات، فلمحت من نافذة القاعة (وكانت المحكمة في دار البارودي في القنوات) الأستاذ سعيد مراد واقفاً في صحن الدار مع من ينتظر من الناس، وقد أحنت الأيام ظهره وأرعشت يدَه، فتركت القوس ونزلت، والحاضرون يعجبون، حتى وصلت إليه فقبّلت يديه وسألته عما يأمر به، وأخذته من يده فقلت لمن كان في المحكمة: هذا أستاذي وأستاذ الشام، وأنا أستأذنكم في أن أؤخر دعاواكم لأقضي حاجته. وكانوا في عجلة من أمرهم، فلما رأوا ذلك قالوا جميعاً: نعم، ونحن راضون. فأقعدته على كرسي وانطلقت أحمل أوراقه بنفسي، فرأيت دموعه تتساقط من خلال لحيته البيضاء (¬1). وكنت يوم وفاة أستاذنا سعيد البحرة قاضي دمشق، وكنت في صدر مجلس التعزية، فجاء الأستاذ شريف آقبيق فلم يجد مكاناً، فنزلت حتى أخذت بيده وأقعدته مكاني، وقلت لهم: هذا أستاذي. أما الأستاذ الذي طالت له صحبتي واتصلت به مودتي فهو حسني كنعان، وإن من الإنصاف أن أقر هنا -وهو حي يرزق (¬2) - ¬

_ (¬1) هذه القصة وغيرها من أخبار الأستاذ سعيد مراد في الذكريات، وانظر أيضاً الحديث عنه في مقالة «مع بعض مشايخي» في كتاب «رجال من التاريخ»، وفي آخرها ذكر للأستاذ شريف آقبيق كذلك (مجاهد). (¬2) توفي -رحمه الله- سنة 1980 (مجاهد).

أنه أول من علمني ما هو الإنشاء العربي، وكانوا يعلموننا الإنشاء بالتركية، ولو امتدّ بالاتحاديين العهدُ لما كنت أستطيع أن أخطّ سطراً. وكانت لحسني كنعان معرفة بالموسيقى وكان إليه الفضل في الأناشيد المدرسية، فقد كان يؤلفها ويلحنها وينشدها بصوته العذب. وأنا أشهد أن أصفى حنجرة عرفتها هي حنجرة حسني كنعان في شبابه، ولقد أنشد مرة النشيد المشهور «ويلي على أوطاني من غارة العدوان» أمام الملك فيصل بن الحسين، فأبكى الملك وكل من حضر، وجُعل على أثرها مدرّساً في السلطانية الأولى (مكتب عنبر)، وله مع ذلك مئات من المقالات، ما زال يوالي نشرها من أكثر من ثلاثين سنة إلى الآن. وهو نابلسي، ونابلس بلد الأنجاد الأحرار، وفيها جبل النار. والنابلسيون قومه وهم أصله، ولكن يظهر أنهم قد استنفدوا الشجاعة كلها فلم يورّثوه شيئاً منها، فكان جريء القلم ولكنه منخلع القلب. ومن أخباره في هذه المدرسة أنه كان يأخذ الأشعار القديمة فيبدل من كلماتها ويلقيها علينا، فكان منها قصيدة الحِلّي: سَلي الرِّماحَ العَوالي عن مَعالينا ... واستشهدي البيضَ: هل خاب الرجا فينا وسائلي العُرْبَ والألبانَ ما فعلَتْ ... بعسكر التُّرْك والألمان أيدينا وزار المدرسةَ يوماً الحاكمُ العسكري رضا باشا الركابي، وكان مَهيباً مخيفاً ورث سطوة جمال باشا وإن لم يكن له ظلمه،

ودخل الصف بلباسه العسكري تُزيّن صدرَه الأوسمةُ ويتدلى على جانبه السيف، ومن ورائه وزير المعارف والمديران وبعض الأعوان، وكان رفيقنا حسن السقّا يقرأ هذه القصيدة، فمد بها صوته وصال بها وجال ومال واختال، فلما انتهى قال له الباشا: من علمك هذا؟ فقال: الأستاذ (وأشار إلى حسني كنعان مدّ الله في عمره). فمد الباشا يده ليصافحه، فنظرنا فإذا الأستاذ يصفَرُّ لونه ويميد ويكاد يهوي لولا أن استند على مقعد الطلاب، كل ذلك من رعبه من اليد الممتدة إليه، حتى إذا علم أنها مُدَّت للمصافحة عادت إليه روحه. فلما خرج الباشا قال الأستاذ: أرأيتم؟ هكذا ينبغي أن تكون الشجاعة ويكون الثبات! وضحك التلاميذ ضحكاً مكتوماً، لا من كلامه، بل من البلل الذي لحظوه في سراويله! وقد روى هذه القصة بنفسه وكتبها بقلمه، ولو كنت أعلم أنه يسوؤه ذكرها لما ذكرتها. والأستاذ حسني كنعان -بعد ذلك- من أبَرِّ الإخوان وأوفى الأصدقاء (¬1). * * * ¬

_ (¬1) كل ما جاء في هذه المقالة مفصل في الذكريات، وهذه القصة في الحلقة السادسة منها. وقد كان الأستاذ حسني من الأوفياء حقاً، لا أذكر أن جدي حلَّ بالشام يوماً إلا وكان من أسرع الناس إلى زيارته وأحرصهم على اللقاء به، على وُدٍ وإخاء وانسجام وصفاء جمع بينهما، رحمهما الله (مجاهد).

تركت الناس يزدحمون على سيارة القصاع، وهي تجري في هذا الشارع الجديد الذي يمشي من المرجة من أمام الفندق الكبير إلى مدخل شارع بغداد، ورحت أعيش وحدي في دنيا تلك الأيام، حين لم يكن هذا الشارع ولا الفندق الكبير ولا شارع بغداد. حين كان إلى جنب الجامع بناء قديم يطل على المرجة، هو العدلية، وإلى جانبه بناء أقدم منه هو البريد، وكان في موضع الفندق بيوت صغار متصلة كبيوت البحصة. كانت المرجة آخرَ البلد، كما كان آخرها من هناك القصّاع، وكانت دمشق كلها بيوتاً عربية متلاصقة، لم تكن فيها إلا عمارة واحدة هي عمارة العابد، ولم يكن فيها إلا شارع واحد هو شارع جمال باشا الذي افتتح سنة 1916، وأنا أتذكر فتحه. وكان طريق الصالحية يمشي بين البساتين، ما فيه إلا مجموعات قليلة من البيوت عند بوابة الصالحية وعند الشهداء وعَرْنوس. أما شارع بغداد، وأحياء الروضة والحبوبي والمزرعة والميدان الجديدة، فلم يكن لشيء من ذلك وجود. وكانت بوابة الصالحية جادة ضيقة، على يمينها (حيث يبدأ اليوم شارع بغداد) دك وراءه بستان يقال له بستان الكركة، وعن شمالها «الخسته خانة» (المستشفى العسكري)، وكان في موقع التجهيز الأولى تلال تُلقى عليها الأوساخ. لم يكن في دمشق سنة 1918 شوارع ولا عمارات، ولا كان فيها هذا العدد من المدارس والمستشفيات، وما كان فيها إلا خمس سيارات فورد صغيرات، وما كان فيها هذا الجمهور من المهندسين والمحامين والأطباء، ولم تكن تضاء بيوتها بالكهرباء،

ولم يسمع أحدٌ في دمشق بالرادّ، بل لم يكن قد وُجد يومئذ، ولا بالهاتف الآلي، ولا بمواقد الغاز، ولا بالغسّالات والبرّادات، ولم يركب أحد من أهل دمشق الطيارات. ما كان في دمشق شيء من مظاهر هذه الحضارة النافعة، وما كان فيها كذلك شيء من أوْضارها ولا أضرارها، لا ملاهي ولا فسوق ولا إلحاد ولا تكشف، وكان الناس ينامون من بعد العشاء ويفيقون من قبل الشمس. وكانت المساجد ممتلئة والدروس فيها حافلة، وكان العلماء عاملين بعلمهم، يريدون به وجه الله لا يطلبون به الدنيا، وكان الناس يرجعون إليهم في شؤون دينهم ودنياهم. هذه دمشق سنة 1918، ذكّرتني بها هذه الأنقاض، فهل كانت خيراً أم ما نحن فيه هو الخير؟ هل خسرنا في هذه السنين الأربعين أم ربحنا؟ أما أنت يا مدرستي فعليك وعلى أساتذتي فيك وعلى رفاقي سلام الله ورحمته وبركاته. * * *

فلسفة العيد

فلسفة العيد نشرت سنة 1967 لما دفع إليّ موزّع البريد الكتابَ ورأيت على ظرفه اسم جريدة «البلاد» (¬1) قرأته من عنوانه، وعرفت قبل أن أفتحه أن فيه تكليفاً بمقال، ولكن ما عرفت ولا قدّرت أن يكون المقال في الفلسفة! وظننت أن الأستاذ رئيس التحرير غلط فظن اسمي هنري برجسون أو وليم جيمس، أو أن أحد أولاد الحـ ... ـلال قد اغتابني عنده فقال له إني فيلسوف عظيم! وهممت أن أعتذر. ثم داخلني الغرور وقلت: ما دام رئيس التحرير قد رآني أهلاً للكتابة في الفلسفة فأنا من الفلاسفة الكبار، ولكني -من التواضع- أجهل مقدار نفسي! وذكرت أن في بطاقاتي القديمة بطاقةً مطبوعة سنة 1348هـ مكتوباً عليها تحت الاسم الكريم (أي اسمي) «بكالوريوس فلسفة»، وكنت قد اقتديت في ذلك بصديقي الدكتور زكي المحاسني الشاعر الكاتب، وكان زكي قد ¬

_ (¬1) نُشر هذا المقال في جريدة «البلاد» يوم 28 رمضان 1386 (10 كانون الثاني/يناير 1967) (مجاهد).

نال الشهادة في الفلسفة قبلي بسنة واحدة، وهو في مثل سني، ولكنه يدّعي أن عمره ست وخمسون سنة فقط (¬1)! وكنا قد تعلمنا أن الفلسفة كانت قديماً «تَحضُن» العلومَ كلها، لمّا كانت العلوم كالأطفال في سن الحضانة، فكلما كبر علم و «بلغ» سن الرشد استقل عنها. وكانت مناهج الفلسفة التي درسناها فيها علم النفس والأخلاق والاجتماع والمغيَّبات (ما وراء الطبيعة، أي الميتافيزيك)، وعلم الجمال وعلم المنطق بقسمَيه، الصوري اليوناني والفكري. أي أن الفلسفة كانت على أيامنا مثل بريطانيا التي كانت العظمى، فكبرت تلك العلوم فاستقلت وصَغُرَت هي وقَلَّت، حتى لم يبقَ فيها إلا مباحث (ولا أقول علم) ما وراء المادة (الميتافيزيك)، كما أنه لم يبقَ لبريطانيا التي كانت تحكم ربع سكان الأرض من ربع قرن إلا لندن وضواحيها، لأن أيرلندا لا يريدها أكثرها، وإسكتلندا لها تاريخها المغاير لها، وويلز (حتى ويلز) تنطق -كما سمعنا- بغير لغتها. إذن ... إذن أنا فيلسوف حقاً ما دام رئيس التحرير -وهو حجة في معرفة الرجال- قد رآني أهلاً للكتابة في الفلسفة، وما دمت أحمل شهادة في الفلسفة مَرَّ عليها أربعون سنة، ولم يبقَ عليّ لأستكمل شروط الفلسفة كلها إلا أن أُطيل شعر رأسي وأركب على حمار أبيض، كما فعل الشاعر الزهاوي لمّا عمل ¬

_ (¬1) كان عمر جدي يومها سبعاً وخمسين، رحمه الله ورحم المحاسني (مجاهد).

فيلسوفاً، بعد أن كان شيخاً له جُبّة وعمامة! وهذا سهل؛ فتطويل الشعر يوفّر أجرة الحلاق، وركوب الحمار يُغني عن السيارة ومشاكل السائقين. ولكن كيف أتفلسف في الكلام على العيد؟ قرأت مرة لأستاذ جامعي كبير فصلاً في «فلسفة عَبِيد بن الأبرص». وليست فلسفته مذهباً يفسر مشاكل الفكر أو يكشف خفايا النفس، أو يزاحم فلسفة أرسطو وأفلاطون، بل إن فلسفته في قوله: وكلُّ ذي غَيْبَة يَؤوب ... وغائبُ الموت لا يَؤوب هذا الكشف العظيم هو الذي أدهش الأستاذ الجامعي الكبير حتى جعل منه فلسفة عرف فيها هذا الأمر المخبأ وكشف هذا السر المتواري، لأن الناس كانوا يظنون أن الميت يؤوب، وأنه يموت اليوم ليعود غداً، وأنهم يضعونه في القبر فيجدونه خارجاً من بئر المقبرة قاعداً في دلو الماء! فجاء الشاعر الفيلسوف ابن الأبرص يؤكد لهم أنه لا يؤوب. فهل تريدون فلسفة من هذه النوع؟ هل أقول إن الأيام تمر متشابهة متشاكلة كما يمر الجندي في العرض، لباسهم واحد وزيهم واحد، ثم يأتي القائد بثيابه المتفردة وأوسمته اللامعة، وأن العيد في الأيام كالقائد في الجند (¬1). ولكن هذا تشبيه سخيف وليس فلسفة العيد. ¬

_ (¬1) انظر مقالة «حديث العيد» في كتاب «مع الناس» (مجاهد).

أم أقول إن أعياد الناس منها أعياد وطنية تذكّر بحادث رائع أو نصر بارع، وأعياد موسمية كيوم النيروز وأعياد الربيع، أو أعياد لهو ولعب ومتعة كأعياد المساخر (الكرنفال) وأعياد الفسوق الذي يسمى فناً، وأعياد فيها مزيج من هذا وذاك، تبدأ في المعبد وتنتهي في المرقص! وإن لنا -معشرَ المسلمين- عيدين اثنين، عيد الفطر وعيد الأضحى، وإنهما عيدان دينيان، فالفطر شكرٌ لله على التوفيق للصيام، والأضحى شكر لله على التوفيق للحج. ولكن دين الإسلام يجمع الدنيا والآخرة، ويطلب أداء حق الله وحق النفس وحق الأهل وحق الناس، لذلك كان في العيد لبس الجديد، وبهجة الوجه، وحلاوة القول، وبسطة اليد، والسعة في الإنفاق، وأن يشمل بالخير القريبَ والجار، فيكون عيدنا ثواباً من الله، وأُلْفة بين الناس، وتعميماً للخير. ولكن هذا الكلام ليس فلسفة العيد، فما فلسفة العيد التي يطلب رئيس التحرير أن أكتب فيها؟ هل أقول: إن العيد -في حقيقته- عيد القلب، فإن لم تملأ القلوبَ المسرّةُ ولم يُتْرِعْها الرضا ولم تَعُمَّها الفرحة كان العيد مجرَّد رقم على التقويم؟ إذا كان هذا هو العيد فأين -يا إخوتي- هو العيد؟ أين بهجة القلب وأين مسرة النفس وأين بهاء الأيام، وهؤلاء هم العرب، بل هؤلاء هم المسلمون كلهم، في خلاف ونزاع وتهاتر وتخاصم؛ قد اشتغلوا بهدم أنفسهم عن هدم عدوهم، وأُلقي بأسهم بينهم، وترك أكثرُهم دينَهم وتخلَّوا عن كريم خِلالهم؟

أين العيد وهذه حال المسلمين؟ وكيف يبتسم القلب وهو يبكي دماً لما يرى ويسمع؟ وكيف نقول لمن نلقاه: "كلَّ عام أنتم بخير"، وما نحن بخير هذا العام، ولا كنا بخير العامَ الذي قبله، ولو أنه لا يجوز اليأس لقلت إننا لا ننتظر أن نكون بخير العام الذي بعده؟ (¬1) فلا تقولوا: "كل عام أنتم بخير"، ولكن قولوا لمَن تلقونه في هذا العيد: "ما كل عام أنتم بِشَرّ"! فهل تكون هذه هي فلسفة العيد؟ * * * ¬

_ (¬1) لم يطَّلِعْ الشيخ على الغيب، ولا يكون ذلك لبشر، ولكن قلب المؤمن ينير له الظلمات ويهديه في المُدلَهِمّات، وكذلك كان؛ فإنها لم تَنْقَضِ غير مئة وخمسة وأربعين يوماً بعد نشر هذه الكلمة حتى سقطت القدس في أيدي اليهود! (مجاهد).

كتاب تعزية

كتاب تعزية نشرت سنة 1967 إلى السيدة الفاضلة التي كتبت إليّ وكتمت اسمَها عني، ونِعِمّا فعلت، فما لي باسمها حاجة بعدما فهمت ما في كتابها. وأنا أحب أن تصدّقي يا بنتي (أو يا أختي) أني لمّا قرأت كتابك بكيت معك وشاركتك حزنك، وأني قرأته على أصحابي فبكوا منه مثل بكائي. إنها فاجعة، ولكنك لست أول مَن فَرَّقَ الموت بينه وبين من يحب، ولست أول أم فقدت بنتها، ومن عرف أن له في مصيبته شركاء وأن لهذه المصيبة أمثالاً خَفَّ عنه بعض ما يلقى. إن كتابك -على عامية ألفاظه، وعلى أنه ليست فيه كلمة صحيحة، لا في رسمها ولا في إعرابها- إنه على هذا كله قطعةٌ فنية قليلٌ أمثالُها. إنك استطعت أن تستنزلي به الدمعَ من عيون طائفة من أعلام الأدب، وكم من الشعراء الذين يَرْثون فلا يستقطرون قطرة من دمع قارئ أو سامع، لأنهم ما بكوا لمّا نظموا. ذلك ليعلم طلاب الأدب أن الذي يخرج من القلب هو

الذي يقع في القلب، وأن من يمتلكه المعنى الذي يكتب فيه هو الذي يمتلك به الذين يقرؤونه، أما الذي ينحت الألفاظ من أعماق القاموس بالمعول ليكوّمها على الورق بالمجرفة، فهو عامل في إصلاح الطرق وليس صائغاً لجواهر الكلام! ولست أدعو إلى العامية، ولا إلى نبذ البلاغة وإهمال القواعد، معاذ الله، ولكنْ أدعو إلى امتلاء النفس بالفكرة قبل تحريك القلم على القرطاس. والعفو -يا بنتي- إذا انصرفت عن جوابك وتكلمت في الإنشاء، فإنما جاء ذلك استطراداً، والصناعة تميل بطبع الإنسان، والاستطراد من شأن الأديب العربي. * * * فهمت من كتابك أنك من مكة، لأنك تقولين إنك لم تعودي تستطيعين دخول الحرم بعد ذهاب الفقيدة. فما هذا الكلام يا بنتي؟ إنْ فقدتِ بنتك فهل فقدت -والعياذ بالله- إيمانك؟ في مثل هذه المواقف، مواقف الحزن واللوعة، يعرف المؤمن قيمة هذه النعمة التي هي الإيمان. الملحد الذي لا يرى إلا هذه الحياة الدنيا يُجَنّ إن مات له عزيز أو ينتحر؛ إنه يتصور أنه كان له ففقده، وكان معه ففارقه إلى الأبد. أما المؤمن فيعلم أن الله هو الذي أعطى وهو الذي أخذ، وأن بعد هذا الفراق لقاء، حيث يلتقي الصالحون في الجنة، فهو يجتهد ليكون من أهل الصلاح ويسأل الله أن يرحم ميّتَه ويجعله من أهل الصلاح، ليكون هذا اللقاء لقاء دائماً سعيداً لا فراق بعده. هذا هو الفرق بين المؤمن والكافر، فأين إيمانك؟

اسمعي يا بنتي: لو أن الفقيدة -رحمها الله- ذهبت تزور خالتها أو جدّتها وبقيت عندها شهراً، هل كنت تخافين، أم تطمئنين عليها لأنها في رعاية أختك أو أمك؟ هل كنت تبكين وتُعَوّلين لذهابها، أم ترضَين وتُسَرّين لثقتك بمن هي ذاهبة لزيارتها؟ فلماذا لا تطمئنين عليها وأنت مؤمنة، تعتقدين أنها ذهبت إلى رحمة من هو أرحم منك بها، وهو الله الذي خلقك وخلقها؟ أنا أعلم أن هذا الكلام الذي أقوله حق كله، ولكن من كان مصاباً مثلك لا يفهمه ولا يدخل في عقله، ويجده ثقيلاً على قلبه. فدعيه واشتغلي بشيء يملأ وقتك، بعمل من الأعمال. وبدّلي منزلك وانتقلي إن استطعت إلى منزل آخر، لأن بقاءك في المنزل الذي كانت فيه الفقيدة يهيج عليك أحزانك؛ إنّ كل ركن منه وكل شيء فيه يذكرك بها، فإن بدّلتِه أو تركته وسافرت، فابتعدت عنه حيناً، خَفَّ عليك لذع الذكريات. تحدثي عنها؛ قولي لمن معك كلَّ ما يخطر منها على بالك. حمّلي مَن حولك بعض أحزانك. لا تنطوي على نفسك وهي على ظهرك فتنفردي وحدك بحملها. لذلك كان من المستحسن -عند التعزية- الكلام عن الميت لينفس أهلوه عن أنفسهم بهذا الكلام، والخوض في غيره من الموضوعات لينسوا بها لحظةً ما هم فيه من الأحزان. أما ما يصنعه النساء عندنا في الشام في المآتم، مما لم يرد به شرع ولم يسوِّغه عقل، إذ يصطفّ قريبات الميت حتى يملأن المكان ولا يُبقين إلا كرسياً أو كرسيين للمعزيات، تدخل المعزية بلا سلام وتقعد لحظة

بلا كلام ثم تَنْسَلّ خارجة بلا وداع، فشيء من أقبح العادات. إن الكلام ينفّس عن المصاب، فتكلمي. والشغل يلهي عن الحزن، فاعملي. والسفر والانتقال يمنع سيل الذكريات الأليمة، فانتقلي أو فسافري، وإنْ عرض لك البكاء فابكي، لا تخجلي. أما سمعت بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم لمّا أرسلت إليه إحدى بناته أنّ ولدها يجود بنفسه، وتسأله الحضور، فأرسل إليها أن اصبري واحتسبي، فأعادت الطلب حتى ذهب، فلما رأى الولد وهو يضطرب اضطراب الموت لم يستطع أن يمسك عنه فبكى صلى الله عليه وسلم. ابكي، فالبكاء سَلْوَة المحزون، ولكن لا تقولي ما لا يرضاه الله من القول. * * * تقولين إن بنتك التي كنت تخافين عليها النسيم أن ينال منها مَسُّ النسيم، وتذبّين عنها الذباب كيلا يؤذيها حَطُّ الذباب، قد وُضعت في التراب وداخلها دود الأرض، وأنك تركتها وحيدة وقد كنت لا تتخلّين لحظة عنها. فما هذا الكلام يا أيتها المرأة: البنت وُضعت في التراب؟ لا، إن الجسد هو وحده الذي وُضع في التراب ورتع فيه الدود. وما الجسد؟ الجسد قميص، فهل كنت تبكين وتعوّلين إن نزعت قميصَها البنتُ فأُحرق بالنار القميصُ؟ صحيحٌ أنّ الجسد جزء منا، ولكنْ في هذه الدنيا فقط. ألم تكن المشيمة جزءاً من الجنين، ثم إذا وُلد أُلقيت في صندوق

القُمامة؟ أفتبكي الأم لأن ولدها نُزعت عنه مشيمته وألقاها؟ ولو كان في بطن الحامل توأمان اثنان يعيشان فيه معاً وأمكن أن يفكرا لاعتقدا أن البطن هو الدنيا، ولو جاءت ساعة الولادة وسبق واحدٌ منهما، ورآه الثاني يفارقه ويغوص في الأعماق، لظن أنه مات ودُفن في باطن الأحشاء، ولبكى عليه ورثاه! ولو ترك مشيمته وراءه لحزن الباقي لمرآها كما نحزن نحن إذ نرى جسد الميت. هذا هو مثال الموت: إن الذي اعتقده التوأم موتاً إنما هو ولادة وخروج إلى عالم أرحب وأوسع، عالم لا يقاس به البطن وضيقه وظلامه. وما نراه نحن موتاً إنما هو ولادة وخروج إلى عالم آخر، إذا قسناه بهذه الدنيا رأينا نسبته إليها كنسبة الدنيا إلى بطن الحامل. هل سافرت مرة من جدة إلى مكة؟ إنك تنظرين فلا ترين من الطريق إلا خطاً قصيراً، ولكن الطريق أطول مما ترين، وما خفي وراءك مما قطعت وما بقي أمامك مما لم تقطعي أكثر مما ظهر. وكذلك طريق الحياة: إننا نرى منه خطاً قصيراً هو هذه الحياة الدنيا التي نعيش فيها، وما خفي عنا أكثر. الحياة أربع مراحل: مرحلة الحمل في بطن الأم، ومرحلة الدنيا، ومرحلة البرزخ، ومرحلة الآخرة؛ ونسبة كل واحدة لما قبلها كنسبة ما بعدها إليها. لو أمكن أن نخاطب الجنين في بطن أمه ونسأله: ما هي الدنيا؟ لأجاب أن الدنيا هي هذه الأحشاء المظلمة الضيقة. فلو

قلنا له: إن ها هنا دنيا أوسع، فيها الأفق الممتد والبحر العريض والسهل الفسيح والجبل العالي، وفيها جمال الربيع وصفاء الينبوع، وفتنة الجمال وسحر العيون ونشوة الحب ... لما استطاع أن يفهم لذلك كله معنى. وكذلك نحن إذا سمعنا وصف الحياة الآخرة وما أعد الله فيها من ألوان النعيم وأفانين العذاب. * * * لا تقولي إني أتفلسف عليك، فإن الذي أقوله صحيح، وأنا لا أملك لك -مع الأسف- إلا الكلام. أنا لا أستطيع أن أنتزع أشواك الحزن من قلبك، ولكن أنت تستطيعين. تقولين: كيف؟ بالرجوع إلى الذي يقلّب القلوب ويبدل الأحوال، إلى الله الذي يحول بين المرء وقلبه. توجَّهي إليه فاسأليه لك الصبر والأجر، ولها المغفرة والعفو، واسأليه أن يجمعك بها في دار النعيم، يوم يُوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب. وانظري الأكلة التي كانت تحبها، فاصنعيها وجوّديها وجودي بها عن روحها، وانظري الثوب الذي كانت تُؤْثره فتصدّقي به على من يستحقه وهَبي ثوابه إليها. هذا الذي ينفعها عند ربها ويخفف عنك من حزنك عليها. هذا وأنا أسأل الله أن يرزقك الصبر ويجزل لك -إن صبرت- الأجر. * * *

فن الكلام

فن الكلام نشرت سنة 1959 زارني الليلة البارحة صديق لي، فاستقبلته واعتذرت إليه بأني مشغول، عندي مقالة. قال: كل يوم مقالة أو حديث؟ متى تنتهي هذه المقالات وهذه الأحاديث؟ قلت: حتى أنتهي أنا. قال: إنك تنشر باستمرار من ثلاثين سنة، فمن أين تجيء بهذه الموضوعات كلها؟ قلت: أسمعُ كلمة من متكلم أو أبصر مشهداً في طريق فأدير ذلك في ذهني، ولا أزال أولّد من الكلمة كلمةً ومن المشهد مشهداً حتى يجيء من ذلك حديثٌ أو مقالة. قال: أرني كيف تصنع حتى أتعلم! فضحكت وقلت: إنها عملية تتم في ذهني لا في يدي، فكيف أريك ما لا يُرى. وكنا قد شربنا القهوة، ولكني لم أكتفِ بها ووجدت أنها لا

تزال بي رغبة إلى الشاي (وأنا كالإنكليز -في هذه فقط- أشرب الشاي في الصباح وفي الأصيل وفي الليل، لا أنتهي منه حتى أعود إليه). فقلت للبنت: قولي لأمك إن بابا يسألك: هل من آداب الضيافة أن نقدم الشاي بعد القهوة؟ فذهبَت فقالت لها: ماما، بابا يريد شاي. قلت له: أسمعت؟ هذا موضوع حديث. قال متعجباً: هذا؟ قلت: نعم. لقد بعثتها إلى أمها لتنقل إليها عبارة معناها أني أريد شاياً، ولكني جعلتها نكتة لطيفة ليس فيها أمر وليس فيها جفاء، فأضاعت البنت هذه المزايا كلها حين بلّغتها المعنى المجرد جافاً قاسياً كأنه أمر عسكري. أفلا يوحي إليك هذا بشيء؟ فنظر وقال: لا. قلت: أما أنا فقد ذكرني بقصة الملك الذي رأى رؤيا مزعجة فدعا بمن يعبّرها له، فقال له: تفسيرها أنها ستموت أسرتك كلها. فغضب الملك وأمر به فجُلد عشر جلدات وطُرد. ودعا بآخر، فقال له: أيها الملك، إن تعبير رؤياك واضح، هو أنك أطول عمراً من أسرتك كلها. فسُرَّ الملك وأمر أن يُعطى مئة دينار. والمعنى واحد، ولكن هذا قذف به في وجه الملك عارياً صلداً كأنه يقذفه بحجر، فخرج مضروباً، وذلك لفَّه بثوب جميل من حُسن التعبير وقدّمه إليه بيمينه برفق وتعظيم، فخرج بالجائزة. هذا هو الموضوع.

قال: إني لم أفهم شيئاً إلى الآن، فما هو الموضوع؟ قلت: «فن الكلام». إن الإنسان -كما يقولون- حيوان ناطق. وليس النطق أن يُخرج الحروف ويصفّ الكلام، بل أن يعرف كيف يتكلم، ورُبّ كلمة تُدخل الجنة وكلمة تُدخل النار، وكلمة أنجت من القتل وكلمة دفعت صاحبها إلى القتل. ورُبّ صاحب حاجة عند وزير أو كبير عرف كيف يطلبها فقُضيت له، وآخر طلبها فلم يصل إليها. وكثيراً ما كان يقصدني أرباب الحاجات يسألونني أن أكلم لهم مَن أعرف من الوزراء والكُبراء، وأنا أكره أن أسأل في حاجة لي أو لغيري، فكنت أعتذر إليهم، ولكني أفيدهم فائدة أكبر من وساطتي، هي أن ألقّنهم الكلام الذي يقولونه للوزير أو للكبير، ولولا أن الوقت يضيق عن التمثيل لضربت لذلك أمثالاً. وفي كتب الأدب العجائب في هذا الباب، ولعلّي أعود إلى الكلام فيه يوماً. وهذا فن لا يُتعلَّم تعلماً، ولكن يوصَل إليه بالقلب الذكي، وبأن تعرف خُلُق مَن تكلمه والطريق إلى نفسه. وكل نفس لها باب وإليها طريق؛ لم يخلق الله نفساً مغلقة لا باب لها، فهذا يُدخَل إليه من باب التعظيم، وهذا من باب العاطفة، وهذا من باب المنطق، وهذا من باب التهديد والتخويف، وهذا يزعجه التطويل ويحب الاختصار، وهذا يُؤْثر الشرح والبيان ... ولا بد لك قبل أن تكلم أحداً أن تعرف من أي باب من هذه الأبواب تدخل عليه. ولا أذهب بك بعيداً، بل أبقى معك في الدار. أليس لك أولاد؟ قال: بلى.

قلت: قد يجيئك ولدك وهو عابس مُبَرْطِم (¬1)، فيقول لك بلا سلام ولا كلام: أريد نصف ليرة. فتقول له: أما أخذت البارحة نصف ليرة، أكلَّ يوم نصف ليرة؟ وتطرده. ويجيء الولد الآخر فيقبّل يدك ويسلم عليك، ويقول لك: بابا، أنا أشكرك لأنك أعطيتني أمس نصف ليرة، ولكني أنفقتها وأنا أريد غيرها، ولكني مُسْتَحٍ منك، وسأقتصد ولن أنفقها كلها مثل المرة الماضية. فتقول له: لماذا تستحي مني؟ هل يستحي أحد من أبيه؟ خذ هذه ليرة (¬2). إنك لا تفضّل ولداً على ولد ولا تبخل بنصف الليرة، ولكن الأول أساء الأدب فعاقبته بالحرمان، والثاني أحسن الأدب فأجبت له الطلب. والمرأة الحكيمة التي تعرف خلق زوجها وتعرف كيف تكلمه تصل إلى كل ما تريده منه، والمرأة الحمقاء تحرم نفسها من كل شيء. الأولى تعرف الوقت المناسب لعرض طلبها، فلا تجيء زوجَها وهو غضبان أو متضايق، بل تنظر ساعة رضائه وانطلاق نفسه فتطلب منه. ولا يكفي الرضا منه، بل يجب أن يكون مع رضا النفس امتلاء اليد، فإذا كانت تعلم أن الزوج ليس لديه من المال ما يلبّي به الطلب لم يُفِدْها حسن العرض ولا جمال القول. * * * ¬

_ (¬1) الكلمة عربية. (¬2) نشر جدي رحمه الله هذه المقالة في جريدة «الأيام» وعمري سنتان، وكان للّيرة شأن يومئذ (مجاهد).

وليست العبرة بألفاظ الكلام فقط، بل باللهجة التي يُلقى بها هذا الكلام. والتحية إن ألقيت بلهجة جافة كانت شتيمة، والشتيمة إن ألقيت بلهجة حب كانت تحية، والولد الصغير يعرف هذا بالفطرة؛ إن قلت وأنت ضاحك: "أَخْ يا خبيث" سُرَّ وابتسم، وإن قلت وأنت عابس مهدد: "تعال يا آدمي يا منظوم" (¬1)، خاف وهرب. وإن قلت لصديقك في الدار: "تفضل اقعد"، كانت مَكرُمة، وإن قالها رئيس المحكمة للمحامي في وسط دفاعه كانت إهانة، مع أن الكلمة واحدة، وإن كُتبت لم يكن بين حالَيها اختلاف، وما نقلها من حال إلى حال إلا اللهجة. وخذ مثلاً أقرب، كلمة «صباح الخير». إن صباح الخير قد يكون معناها أني "لا أبالي بك ولا أحس غيابك ولا حضورك"، وذلك إن قلتها ووجهُك خال من كل تعبير وصوتُك خال من الحرارة، كأنك تردد جملة محفوظة. وقد يكون معناها أني "أعطف عليك ولكني أراك دوني وأحس أني أرفع منك"، إن قلتها وأنت باسم بسمة دبلوماسية، وقد أحنيت رأسك ربع معشار (سانتيمتر) انحناءة مصطَنَعة. وقد يكون معناها أني "صديقك المخلص لك"، إن قلتها بابتسامة صادقة وبلهجة طبيعية. وقد يكون معناها أني "أحتقرك وأزدريك" إن قلتها وأنت مصّعرٌ خدَّك زاوٍ نظرَك شامخ بأنفك. وقد يكون معنى صباح الخير سَبّ الأب! ¬

_ (¬1) كل وَلَد من نسل آدم «آدمي» بالضرورة، ولكنّ للكلمة معنى خاصاً في عامية أهل الشام، فإذا وصفوا بها شخصاً أرادوا أنه صالح مستقيم. والمعنى الذي تؤديه لفظة «المنظوم» قريب من هذا المعنى أيضاً (مجاهد).

فإذا عوتب القائل قال: وهل شتمته؟ هل قلت له شيئاً؟ إنما قلت صباح الخير. وقد يكون للكلمة أحياناً عكس معناها الذي يدل عليه لفظها، يُفهَم ذلك من قرائن القول وظروف الكلام. فإذا خرجت من العمل أنت وزميلك، فاصطحبتما في الطريق حتى بلغت دارك، تقول له: تفضل معنا. فيقول لك: في أمان الله. لأن "تفضَّلْ معنا" هنا معناها "فارِقْنا واذهب عنا"، بدليل أنه لو أخذها على حقيقتها وتفضل معك لضقت به وعجبت منه. وقد يطيل الزائر السهرة ثم يتهيأ للقيام فتقول له: "بَكِّير (بَدْري)، كمان شوي"، ومعنى ذلك: "لقد أطلت فاذهب". وإذا مللت من حديث محدثك تقول: "لا يُمَلّ"، وهو في الحقيقة قد مُلّ! وتقول: "غير مقطوع حديثك"، وقد قطعته وفصلت رأسه عن جسده أو بترت ذَنَبه عن جسمه! (¬1) وقد يفقد الكلام كل معنى ويصير جُمَلاً فارغة، كقولك لمن تلقاه: "كيف حالك؟ " وأنت لا يهمّك حقيقةً أن تعرف حاله ولا ماله. ويقول لك: "مشتاقون"، وما هو بالمشتاق إليك ولا المفكر فيك. وتقول: "طمِّني عن الصحة"، كأن صحته تشغل فكرك وتطرد النوم عن عينيك، ولا تطمئن حتى تثق بكمالها وتمامها! كنت مرة خارجاً من المستشفى بعد عملية جراحية لا أزال ¬

_ (¬1) وكل ذلك من التعبيرات الشامية الدارجة، وهي من باب «النفاق الاجتماعي» الذي لا غنى عنه لبقاء المودة بين الناس! (مجاهد).

أقاسي آلامها، فلقيني صديق لي فقال: كيف الصحة؟ فظننته يسأل عنها حقيقة، ورحت أشرح له ما بي وأصوّر ما أجد، وتكلمت خمس دقائق، فلما انتهيت سكَتُّ ونظرت إليه أسمع منه، فقال: كيف الصحة؟ إن شاء الله بخير؟ وإذا به لم يسمع من شرحي وبياني شيئاً! ودليل آخر؛ هو أسلوب التحية في الشام وفي مصر وغيرهما من البلدان، يقول لك مَن تلقاه: كيف أصبحت؟ كيف الأولاد؟ فتجيبه بما تيسر، فيعود فيقول: وكيف أصبحت؟ وكيف الأولاد؟ يعيدها كما تعاد «إزيّك» في مصر و «ايش لونك» في الشام والعراق، سبع عشرة مرة على الأقل، فلا تدري بماذا تجيب! ومن الكلام الذي لا يُدرى المراد منه سؤال إخواننا الصحفيين كلَّ مَن يلقونه -في كل مناسبة وفي غير مناسبة- عن شعوره عند رؤيته هذا المشهد وانطباعه (وما أدري ما معنى «انطباعه») لذلك الحادث؟ ولو حققت عن مراد السائل من سؤاله وجدت أن السائل لا يعرف حقيقة ما يريده، فضلاً عن أن يعرفه المسؤول. * * * ولهجة الكلام وملامح الوجه تقلب المعنى قلباً. تصوروا رجلاً يدخل المأتم الحزين وهو باسم الثغر منطلق الوجه، ويقول بلهجة مرحة: "عظّم الله أجركم، والله تألمنا لمصابكم". أو يدخل الفرح وهو دامع العين ويقول بلهجة باكية: "لكم تهانينا، إننا فرحون لفرحكم"!

إن من يسمعه يقول إنه أحمق أو كاذب. ومثله مثل هؤلاء «المغنّين» الذين يسمون أنفسهم قُرّاء (وما هم بالقراء) يتلون آية العذاب من كتاب الله التي تَقْشَعِرّ لها الجلود بصوت مَرِح ونغمة مرقِّصة، ويتلون آية البشرى والنعيم بنغمة حزينة وصوتٍ باك. وإن من أمارات الحكم على شخصية إنسان لهجة كلامه، فمَن كان يتكلم بصوت هادئ ولهجة متّزنة وحروف واضحة كانت له شخصية المهذَّب النبيل، ومن كان مرتفع الصوت حادّ اللهجة، يتشدّق في كلامه أو يَمطّ الحروف لم تكن له هذه الشخصية. وقد ترى امرأة جميلة الوجه وأخرى دونها جمالاً، ثم تسمع كلامها فتجد صوت الأولى خشناً ولهجتها قاسية وهي مسترجلة في نطقها، وتجد للثانية صوتاً رقيقاً ولهجة ناعمة ونغمة حَيِيّة، فيزيد في عينيك جمالُها حتى لَتجدها أجمل من صاحبتها، بل ربما شوّه كلامُ الأولى صورتَها في بصرك حتى رأيت جمالها قبحاً. قال صاحبي: لقد اكتملت المقالة. قلت: نعم، وكان موضوعها جديداً، هو «فن الكلام». * * *

من آثار المؤلف

من آثار المؤلف 1 ـ أبو بكر الصديق 1935 2 ـ قصص من التاريخ 1957 3 ـ رجال من التاريخ 1958 4 ـ صور وخواطر 1958 5 ـ قصص من الحياة 1959 6 ـ في سبيل الإصلاح 1959 7 ـ دمشق 1959 8 ـ أخبار عمر 1959 9 ـ مقالات في كلمات 1959 10ـ من نفحات الحرم 1960 11ـ سلسلة حكايات من التاريخ (1 ـ 7) 1960 12ـ هتاف المجد 1960 13ـ من حديث النفس 1960 14ـ الجامع الأموي 1960 15ـ في أندونيسيا 1960 16ـ فصول إسلامية 1960 17ـ صيد الخاطر لابن الجوزي (تحقيق وتعليق) 1960 18ـ فِكَر ومباحث 1960

19ـ مع الناس 1960 20ـ بغداد: مشاهدات وذكريات 1960 21ـ سلسلة أعلام التاريخ (1ـ 5) 1960 22ـ تعريف عام بدين الإسلام 1970 23ـ فتاوى علي الطنطاوي 1985 24ـ ذكريات علي الطنطاوي (1ـ 8) 1985ـ 1989 25ـ مقالات في كلمات (الجزء الثاني) 2000 26ـ فتاوى علي الطنطاوي (الجزء الثاني) 2001 27ـ فصول اجتماعية 2002 28ـ سيّد رجال التاريخ (محمد صلى الله عليه وسلم) 2002 29ـ نور وهداية 2006 30ـ فصول في الثقافة والأدب 2007 31ـ فصول في الدعوة والإصلاح 2008 32ـ البواكير 2009 * * *

§1/1