صور من حياة الصحابيات

عبد الرحمن رأفت الباشا

حليمة السعدية

حَلِيمةُ السَّعديَّةُ أُمُّ الرَّسول الأعظَمِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الرَّضَاعِ هذه السَّيِّدة الرصان الرزان (¬1) أثيرة لدى كل مسلم ... عزيزة على كل مؤمنٍ ... فمن ثدييها الطاهرين رضع الغلام السعيد محمد ابن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه ... وعلى صدرها المفعم بالمحبة غفا ... وفي حجرها الطافح بالحنان درج ... ومن فصاحتها وفصاحة قومها بني «سعدٍ» نهل ... فكان من أبين الأبيناء (¬2) كلامًا ... ¬

(¬1) الرزان: الرصينة الرزينة. (¬2) إلآَّبيناء: جمع بيِّن، وهو ما يفصح عن كلامه بأحسن التبيين.

وأفصح الفصحاء نطقًا. إنَّها السَّيِّدة الجليلة حليمة السَّعديَّة أمُّ نبيِّنا محمدٍ - صلوات الله وسلامه عليه - من الرَّضاع. **** ولإرضاع السَّيِّدة السَّعديَّة للطفل المبارك الذي ملأ الدنيا برّاً ومرحمةً ... وأترعها خيرًا وهديًا ... وزانها خلقاً وفضلاً ... قصةٌ من روائع القصص، حكتها حليمة السَّعديَّة ببيانها المشرق الأنيق الجذاب ... وأسلوبها المتألِّق الرَّشيق الممتع. فتعالوا نستمع إليها ... فخبرها عن النَّبيِّ الكريم - صلى الله عليه وسلم - من روائع الأخبار. **** قالت حليمة السَّعديَّة:

خرجت من منازلنا أنا وزوجي (¬1) وابن لنا صغيرٌ نلتمس الرُّضعاء (¬2) في مكَّة، وكان معنا نسوةٌ من قومي بني «سعدٍ» قد خرجن لمثل ما خرجت إليه. وكان ذلك في سنةٍ قاحلةٍ مجدبةٍ (¬3) ... أيبست الزَّرع ... وأهلكت الضَّرع فلم تبق لنا شيئًا. وكان معنا دابَّتان عجفاوان (¬4) مسنَّتان لا ترشحان (¬5) بقطرة من لبنٍ فركبت أنا وغلامي الصَّغير إحداهما ... أمَّا زوجي فركب الأخرى، وكانت ناقته أكبر سناً وأشدَّ هُزالاً. ¬

(¬1) زوجها: هو الحارث بن عبد العزى السَّعدي ويكنى بأبي كبشة، أما ابنها: فاسمه عبد الله. (¬2) نلتمس الرُّضعاء: نبحث عن المولدين الجدد. (¬3) مجدبة: لا مطر فيها ولا نبات. (¬4) العجف: الهزال. (¬5) لا ترشحان: لا تقطر ضروعها بقطرة لبن.

وكنا - والله - ما ننام لحظة في ليلنا كلِّه لشدَّة بكاء طفلنا من الجوع، إذ لم يكن ثديي ما يغنيه ... ولم يكن في ضرعي ناقتنا ما يغذِّيه ... ولقد أبطأنا بالركَّب بسبب هُزال أتاننا (¬1) وضعفها فضجر رفاقنا منَّا ... وشقَّ عليهم السَّفر بسببنا. فلمَّا بلغنا مكَّة وبحثنا عن الرُّضعاء وقعت في أمر لم يكن بالحسبان ... ذلك أنه لم تبق امرأةٌ إلاَّ وعرض عليها الغلام الصَّغير محمَّد بن عبد الله ... فكنَّا نأباه لأنَّه يتيم، وكنَّا نقول: ما عسى أن تنفعنا أمُّ صبيٍّ لا أب له؟! ... وما عسى أن يصنع لنا جدُّه؟! ... **** ثمَّ إنَّه لم يمض علينا غير يومين اثنين حتَّى ظفرت ¬

(¬1) إلآَّتان: أنثي الحمار.

كلُّ امرأة معنا بواحد من الرُّضعاء ... أما أنا فلم أظفر بأحدٍ ... فلمَّا أزمعنا الرَّحيل قلت لزوجي: إنِّي لأكره أن أرجع إلى منازلنا وألقى بني قومنا خَاوية الوِفَاض (¬1) دون أن آخذ رضيعًا، فليس في صُويحباتي امرأةٌ إلاَّ ومعها رضيعٌ. والله لأذهبنَّ إلى ذلك اليتيم، ولآخذنَّه. فقال لي زوجي: لا بأس عليك، خذيه فعسى أن يجعل الله فيه خيرًا فذهبت إلى أمِّه وأخذته ... ووالله ما حملني على أخذه إلاَّ أنِّي لم أجد غلامًا سواه. **** فلمَّا رجعت به إلى رحلي وضعته في حجري، ¬

(¬1) خَاويَة الوِفَاض: الوفاض هو جلدة توضع تحت الرحى لتلقى الطحين، وخالية الوفاض: كناية عن الحاجة الشديدة وإلآَّفلاس التام.

وألقمته ثديي، فدرَّ عليه من اللَّبن ما شاء الله أن يدرَّ بعد أن كان خاوياً خالياً ... فشرب الغلام حتَّى رَوِي ثمَّ شرب أخوه حتَّى رَوِي أيضًا، ثمَّ ناما ... فاضَّجعت أنا وزوجي إلى جانبهما لننام بعد أن كنَّا لا نحظى بالنوم إلاَّ غرارًا (¬1) بسبب صبيِّنا الصغير. ثمَّ حانت من زوجي التفاتةٌ إلى ناقتنا المسنَّة العجفاء ... فإذا ضرعاها حافلان ممتلئان ... فقام إليها دهِشاً، وهو لا يصدِّق عينيه وحلب منها وشرب. ثمَّ حلب لي فشربت معه حتَّى امتلأنا ريّاً وشبعاً. وبتنا في خير ليلةٍ. ¬

(¬1) غراراً: قليلاً.

فلمَّا أصبحنا قال لي زوجي: أتدرين يا حليمة أنَّك قد ظفرت بطفل مبارك؟!. فقلت له: إنَّه لكذلك وإني لأرجو منه خيرًا كثيرًا. **** ثمَّ خرجنا من مكَّة فركبت أتاننا المسنَّة ... وحملته معي عليها؛ فمضت نشيطة تتقدَّم دوابَّ القوم جميعًا حتَّى ما يلحق بها أيٌّ من دوابِّهم. فجعلت صواحبي يقلن لي: ويحك يا ابنة أبي ذُؤيب، تمهَّلي علينا ... أليست هذه أتانك المسنَّة التي خرجتم عليها؟!!. فأقول لهنَّ: بلى ... والله إنَّها هي. فيقلن: والله إنَّ لها لشأناً. ****

ثمَّ قدمنا منازلنا في بلاد بني «سعد»، وما أعلم أرضاً من أرض الله أشدُّ قحطًا منها ولا أقسى جدبًا. لكنَّ غنمنا جعلت تغدو إليها مع كلِّ صباح، فترعى فيها ثمَّ تعود مع المساء ... فنحلب منها ما شاء الله أن نحلب، ونشرب من لبنها ما طاب لنا أن نشرب، وما يحلب أحدٌ غيرنا من غنمه قطرةً. فجعل بنو قومي يقولون لرعيانهم: ويلكم ... اسرحوا بغنمكم حيث يسرح راعي بنت أبي ذُؤيب. فصاروا يسرحون بأغنامهم وراء غنمنا؛ غير أنَّهم كانوا يعودون بها وهي جائعةٌ ما ترشح لهم بقطرةٍ. ولم نزل نتلقَّى من الله البركة والخير حتَّى انقضت سنتا رضاع الصَّبيِّ ... وتمَّ فطامه ...

وكان خلال عاميه هذين ينمو نموّاً لا يشبه نمو أقرانه ... فهو ما كاد يتم سنتيه عندنا حتَّى غدا غلامًا قويًا مكتملًا. **** عند ذلك قدمنا به على أمِّه، ونحن أحرص ما نكون على مكثه عندنا، وبقائه فينا، لما كنَّا نرى في بركته، فلمَّا لقيت أمَّه طمأنتها عليه وقلت: ليتك تتركين بُنيِّ عندي حتَّى يزداد فُتوَّةً وقُوَّةً ... فإني أخشى عليه وباء مكَّة ... ولم أزل بها أقنعها وأرغِّبها حتَّى ردَّته معنا ... فرجعنا به فرحين مستبشرين. **** ثمَّ إنه لم يمض على مقدم الغلام معنا غير أشهرٍ معدودات حتَّى وقع له أمر أخافنا ... وأقلقنا ... وهزَّنا هزًّا.

فلقد خرج ذات صباح مع أخيه في غنيماتٍ لنا يرعيانها خلف بيوتنا؛ فما هو إلاَّ قليلٌ حتَّى أقبل علينا أخوه يعدو، وقال: الحقا بأخي القرشيِّ، فقد أخذه رجلان عليهما ثيابٌ بيضٌ فأضجعاه ... وشقَّا بطنه ... فانطلقت أنا وزوجي نغدو نحو الغلام، فوجدناه منتقع الوجه (¬1) مرتجفاً ... فالتزمه زوجي , وضممته إلى صدري ... وقلت له: مالك يا بُنيَّ؟!!. فقال: جاءني رجلان عليهما ثيابٌ بيضٌ فأضجعاني، وشقَّا بطني، والتمسا شيئاً فيه، لا أدري ما هو ثمَّ خلَّياني، ومضيا. فرجعنا بالغلام مضطربين خائفين. ¬

(¬1) انتقع وجهه: أي تغير لونه.

فلمَّا بلغنا خباءنا التفت إليَّ زوجي وعيناه تدمعان، ثمَّ قال: إنِّي لأخشى أن يكون هذا الغلام المبارك قد أصيب بأمر لا قبل لنا بردِّه ... . فألحقيه بأهله، فإنَّهم أقدر منِّا على ذلك. **** فاحتملنا الغلام ومضينا به حتَّى بلغنا مكَّة، ودخلنا بيت أمِّه، فلمَّا رأتنا حدَّقت في وجه ولدها، ثمَّ بادرتني قائلة: ما أقدمك بمحمَّد يا حليمة وقد كنتِ حريصةً عليه؟! ... شديدة الرَّغبة في مُكثه عندك!!. فقلت: لقد قوي عوده ... . واكتملت فتوَّته ... . وقضيت الذي عليَّ نحوه، وتخوفت عليه من الأحداث؛ فأدَّيته إليك ... .

فقالت: اصدقيني الخبر فما أنت بالتي ترغب (¬1) عن الصَّبيِّ لهذا الذي ذكرته ... ثمَّ مازالت تلحُّ عليَّ ولم تدعني حتَّى أخبرتها بما وقع له، فهدأت ثمَّ قالت: وهل تخوَّفت عليه الشَّيطان يا حليمة؟. فقلتُ: نعم. فقالت: كلاَّ، والله ما للشَّيطان عليه من سبيل ... وإنَّ لابني لشأناً ... فهل أخبرك خبره؟. فقلتُ: بلى ... قالت: رأيت - حين حملت به - أنَّه خرج منِّي نورٌ أضاء لي قصور «بصرى» من أرض الشَّام ... ثمَّ إنِّي حين ولدته نزل واضعًا يديه على الأرض، رافعًا رأسه إلى السَّماء ... ثمَّ قالت: دعيه عنك، وانطلقي راشدةً ... ¬

(¬1) ترغب عنه: تزهد به ولا تريده.

وجزيت عنَّا وعنه خيرًا. فمضيت أنا وزوجي محزونين أشدَّ الحزن على فراقه ... ولم يكن غلامنا بأقلَّ منَّا حزناً عليه، وأسىً ولوعةً على فراقه. **** وبعدُ ... فلقد عاشت حليمة السَّعديَّة حتَّى بلغت من الكبر عتيّاً (¬1) ... ثمَّ رأت الطِّفل اليتيم الذي أرضَعتهُ، قد غدا للعرب سيِّداً ... وللإنسانيَّة مرشدًا ... وللبشرية نبيّاً ... ولقد وفدت عليه بعد أن آمنت به وصدَّقت بالكتاب الذي أُنزل عليه ... فما إن رآها حتَّى استطار بها سرورًا، وطفق يقول: «أُمِّي ... أُمِّي ...». ثمَّ خلع لها رداءه، وبسطه تحتها، وأكرم وِفادتها ¬

(¬1) عتيّاً: جاوزت حداً كبيراً من العمر.

أبلغ الإكرام، وعيون الصَّحابة تنظر إليه وإليها في غبطةٍ وإجلالٍ ... **** صلوات الله وسلامه على محمَّد البرِّ الوفيِّ ... صاحب الخلق الكريم ... ورضوان الله على السَّيِّدة حليمة السَّعديَّة ... ظئر (¬1) النَّبيِّ العظيم - صلى الله عليه وسلم - (¬2) ... ¬

(¬1) الظِئر: هي المرضعة غير الأم. (¬2) (*) للاستزادة من أخبار حليمة السَّعديَّة انظر: 1 - تاريخ الطبري:2/ 970وانظر الفهارس في العاشر. 2 - الطبقات الكبرى: 1/ 110، 151و4/ 50. 3 - حياة الصحابة: انظر الفهارس في الرابع. 4 - الاستيعاب «على هامش الإصابة»:4/ 270. 5 - السيرة لابن هشام: انظر الفهارس. 6 - الإصابة في تمييز الصحابة: 4/ 274 «الترجمة» 2990. 7 - أعلام النساء لكحالة:1/ 290. 8 - صفوة الصفوة: 1/ 57. 9 - ابن كثير: 2/ 273. 10 - أسد الغابة: 7/ 67. 11 - دلائل النبوة: 111. 12 - المحبر: 130،10.

صفية بنت عبد المطلب

صفيَّة بِنْتُ عَبْدِ المطَّلب «صفيَّة أَوَّلُ امرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ قَتَلَتْ مُشْرِكاً دِفَاعًا عَنْ دِينِ اللهِ» من هذه السَّيِّدة الجزلة الرَّزان (¬1) التي كان يحسب لها الرِّجال ... ألف حساب؟ ... من هذه الصَّحابيَّة الباسلة التي كانت أوَّل امرأة قتلت مشركًا في الإسلام؟ ... من هذه المرأة الحازمة التي أنشأت للمسلمين أوَّل فارسٍ سلَّ سيفاً في سبيل الله؟ ... إنَّها صفيَّة بنت عبد المطَّلب الهاشميَّة القرشيَّة عمَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. **** ¬

(¬1) الجزلة: أصلية الرأي، والرَّزان: الرصينة الرزينة.

اكتنف المجد صفيَّة بنت عبد المطَّلب من كلِّ جانب: فأبوها، عبد المطَّلب بن هاشم جدُّ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وزعيم قريش وسيِّدها المطاع. وأمُّها، هالة بنت وهبٍ أخت آمنة بنت وهب والدة الرَّسول - صلى الله عليه وسلم -. وزوجها الأوَّل، الحارث بن حرب أخو أبي سفيان ابن حرب زعيم بني «أميَّة»، وقد توفِّي عنها. وزوجها الثَّاني، العوَّام بن خويلد أخو خديجة بنت خويلد سيِّدة نساء العرب في الجاهليَّة، وأولى أمَّهات المؤمنين في الإسلام. وابنها الزُّبير بن العوَّام حواريُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أفبعد هذا الشَّرف شرفٌ تطمح إليه النُّفوس غير شرف الإيمان؟!. ****

لقد توفِّي عنها زوجها العوَّام بن خويلد وترك لها طفلًا صغيرًا هو ابنها «الزُّبير» فنشَّأته على الخشونة والبأس ... وربَّته على الفروسيَّة والحرب ... وجعلت لعبته في بري السِّهام وإصلاح القسيِّ. ودأبت على أن تقذفه في كلِّ مخوفةٍ (¬1) وتقحمه (¬2) في كلِّ خطرٍ ... فإذا رأته أحجم أو تردَّد ضربته ضربًا مبرِّحًا، حتَّى إنَّها عوتبت في ذلك من قبل أحد أعمامه حيث قال لها: ما هكذا يُضرب الولد ... إنَّك تضربينه ضرب مبغضةٍ لا ضرب أمٍّ؛ فارتجزت (¬3) قائلةً: مَن قَال أبغَضتُهُ فَقَد كَذَب ¬

(¬1) مخوفة: موقف يخاف منه. (¬2) تُقحمه: تدفعه وتدخله. (¬3) ارتجزت: قالت شعراً على بحر الرجز.

وإنَّما أَضربُهُ لِكَي يَلِبْ (¬1) وَيَهْزِمَ الجَيشَ وَيَأتِي بِالسَّلَبْ ولمَّا بعث الله نبيَّه بدين الهدى والحقِّ، وأرسله نذيرًا وبشيرًا للنَّاس، وأمره بأن يبدأ بذوي قُرباه، جمع بني عبد المطَّلب ... نساءهم ورجالهم وكبارهم وصغارهم، وخاطبهم قائلًا: (يا فاطمة (¬2) بنت محمَّد، يا صفيَّة بنت عبد المطَّلب، يا بني عبد المطَّلب إنِّي لا أملك لكم من الله شيئًا). ثمَّ دعاهم إلى الإيمان بالله، وحضَّهم على التصديق برسالته ... فأقبل على النور الإلهيِّ منهم من أقبل، وأعرض عن سَنَاه (¬3) من أعرض؛ فكانت صفيَّة بنت عبد المطَّلب في ¬

(¬1) يلِب: يصبح لبيباً، واللبيب: الذكي العاقل. (¬2) انظرها ص 35. (¬3) سناه: ضياؤه.

الرَّعيل (¬1) الأوَّل من المؤمنين المصدِّقين ... عند ذلك جمعت صفيَّة المجد من أطرافه: سُؤدد الحسب، وعِزِّ الإسلام. **** انضمَّت صفيَّة بنت عبد المطَّلب إلى موكب النُّور هي وفتاها الزُّبير بن العوَّام، وعانت ما عاناه المسلمون السَّابقون من بأس قريش وعنتها وطغيانها. فلمَّا أذن الله لنبيِّه والمؤمنين معه بالهجرة إلى المدينة خلَّفت السَّيِّدة الهاشميَّة وراءها مكَّة بكل ما لها فيها من طيوب الذِّكريات، وضروب المفاخر والمآثر ويمَّمت وجهها شطر المدينة، مهاجرةً إلى الله ورسوله. وعلى الرَّغم من أنَّ السَّيِّدة العظيمة كانت يومئذٍ تخطو نحو السِّتِّين من عمرها المديد الحافل ... فقد كان لها في ميادين الجهاد مواقف ما يزال ¬

(¬1) الرَّعيل إلآَّوَّل: الفوج إلآَّول.

يذكرها التَّاريخ بلسانٍ نديٍّ بالإعجاب رطيبٍ بالثَّناء، وحسبنا من هذه المواقف مشهدان اثنان: كان أولهما يوم «أحدٍ» ... وثانيهما يوم «الخندق». **** أمَّا ما كان منها في «أحد» فهو أنَّها خرجت مع جند المسلمين في ثلَّةٍ (¬1) من النِّساء جهادًا في سبيل الله. فجعلت تنقل الماء، وتروي العطاش، وتبري السِّهام، وتُصلح القِسيَّ (¬2). وكان لها مع ذلك غرضٌ آخر هو أن ترقب المعركة بمشاعرها كلِّها ... ولا غرو (¬3) فقد كان في ساحتها ابن أخيها محمَّدٌ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... ¬

(¬1) ثلة: طائفة. (¬2) القِسيَّ: جمع قوس وهو آلة الحرب يرمى بها بالسِّهام. (¬3) لا غرو: لا عجب.

وأخوها حمزة بن عبد المطَّلب أسدُ الله ... وابنها الزُّبير بن العوَّام حواريُّ (¬1) نبيِّ الله - صلى الله عليه وسلم - ... وفي المعركة - قبل ذلك كلِّه وفوق ذلك كلِّه - مصير الإسلام الذي اعتنقته راغبةً ... وهاجرت في سبيله محتسبةً ... وأبصرت من خلاله طريق الجنَّة. **** ولمَّا رأت المسلمين ينكشفون (¬2) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ قليلًا منهم ... ووجدت المشركين يوشكون أن يصلوا إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ويقضوا عليه؛ طرحت سقاءها أرضاً ... وهبَّت كاللَّبؤة (¬3) التي هوجم أشبالها وانتزعت من ¬

(¬1) الحواري: الناصر، وحواريو الرسل: الخاصة من أنصارهم. (¬2) ينكشفون: يتفرقون. (¬3) اللبؤة: أنثى إلآَّسد.

يد أحد المنهزمين رُمحه، ومضت تشقُّ به الصُّفوف، وتضرب بسنانه الوجوه، وتزأر في المسلمين قائلةً: ويحكم، انهزمتم عن رسول الله؟!!. فلمَّا رآها النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام مقبلةً خشي عليها أن ترى أخاها حمزة وهو صريعٌ، وقد مثَّل به المشركون أبشع تمثيلٍ (¬1) فأشار إلى ابنها الزُّبير قائلًا: (المرأة يا زبير ... المرأة يا زبير ...). فأقبل عليها الزُّبير وقال: يا أمَّه إليك ... إليك يا أمَّه (¬2). فقالت: تنحَّ لا أمَّ لك. فقال: إنَّ رسول الله يأمرك أن ترجعي ... فقالت: ولم؟! ... إنَّه قد بلغني أنه مثِّل بأخي، وذلك في الله ... ¬

(¬1) التمثيل: تشويه جسد الميت. (¬2) إليك يا أمه: ابتعدي يا أماه.

فقال له الرَّسول: - صلى الله عليه وسلم - (خلِّ سبيلها يا زُبير). فخلَّى سبيلها. **** ولمَّا وضعت المعركة أوزارها ... وقفت صفيَّة على أخيها حمزة فوجدته قد بُقر (¬1) بطنه، وأُخرجت كبده، وجُدع أنفه (¬2)، وصُلمت أذناه (¬3)، وشوِّه وجهه، فاستغفرت له، وجعلت تقول: إنَّ ذلك في الله ... لقد رضيت بقضاء الله. والله لأصبرنَّ، ولأحتسبنَّ (¬4) إن شاء الله. كان ذلك موقف صفيَّة بنت عبد المطَّلب يوم «أحد» ... ¬

(¬1) بقر بطنه: شُقَّ بطنه. (¬2) جدع أنفه: قطع أنفه. (¬3) صلمت أذناه: قطعت أذناه. (¬4) لأحتسبنَّ: لاجعلن ذلك المصاب في الله ولأطلبنَّ إلآَّجر عليه منه.

أمَّا موقفها يوم «الخندق» فله قصَّةٌ قصيرةٌ مثيرةٌ سُداها الدَّهاء والذَّكاء، ولُحمتُها (¬1) , البسالةُ والحزم ... فإليك (¬2) خبرها كما وعته كتب التَّاريخ. **** لقد كان من عادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عزم على غزوة من الغزوات أن يضع النِّساء والذَّراري في الحصون خشية أن يغدر بالمدينة غادرٌ في غيبة حماتها. فلمَّا كان يوم «الخندق» جعل نساءه وعمَّته وطائفة من نساء المسلمين في حصن لحسَّان بن ثابت (¬3) ورثه عن آبائه، وكان من أمنع حصون المدينة مناعةً وأبعدها منالاً. وبينما كان المسلمون يرابطون على حوافِّ (¬4) ¬

(¬1) السُّدى: الخيوط الطوليَّة للنسيج، واللحمة: الخيوط العرضية. (¬2) إليك خبرها: خذ خبرها. (¬3) حسَّان بن ثابت: شاعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمدافع عن الإسلام بشعره، توفي وله مائة وعشرون سنة قضى نصفها في الجاهلية ونصفها في الإسلام. (¬4) حواف الخندق: إطرافه.

الخندق في مواجهة قريش وأحلافها، وقد شُغلوا عن النِّساء والذَّراري بمنازلة العدو. أبصرت صفيَّة بنت عبد المطَّلب شبحًا يتحرَّك في عتمة الفجر، فأرهفت له السَّمع، وأحدَّت إليه البصر ... فإذا هو يهوديٌّ أقبل على الحصن، وجعل يُطيف به متحسِّساً أخباره متجسِّساً على من فيه. فأدركت أنَّه عينٌ (¬1) لبني قومه جاء ليعلم أفي الحصن رجالٌ يدافعون عمَّن فيه، أم إنَّه لا يضمُّ بين جدرانه غير النِّساء والأطفال. فقالت في نفسها: إنَّ يهود بني «قُريظة» قد نقضوا ما بينهم وبين رسول الله من عهدٍ وظاهروا (¬2) قريشًا وأحلافها على المسلمين ... وليس بيننا وبينهم أحدٌ من المسلمين يدافع عنَّا، ¬

(¬1) عين لبني قومه: جاسوس لهم. (¬2) ظاهروا قريشا: أعانوا قريشا.

ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه مرابطون في نحور (¬1) العدوِّ ... فإن استطاع عدوُّ الله أن ينقل إلى قومه حقيقة أمرنا سبى اليهود النِّساء واسترقوا الذَّراري، وكانت الطَّامَّة (¬2) على المسلمين. **** عند ذلك بادرت إلى خمارها فلفَّتهُ على رأسها، وعمدت إلى ثيابها فشدَّتها على وسطها، وأخذت عمودًا على عاتقها (¬3)، ونزلت إلى باب الحصن فشقَّته في أناةٍ وحذقٍ، وجعلت ترقب من خلاله عدوَّ الله في يقظةٍ وحذرٍ، حتَّى إذا أيقنت أنَّه غدا في موقفٍ ... يُمكِّنُها منه ... حملت عليه حملةً حازمةً صارمةً، وضربته بالعمود على رأسه فطرحته أرضًا ... ¬

(¬1) في نحور العدو: في وجوه العدو وقبالته. (¬2) الطامة: المصيبة الكبرى، وسميت القيامة طامة لأنها تطم كل شيء، أي تعم ولا تترك شيئا. (¬3) علي عاتقها: على كتفها.

ثمَّ عزَّزت الضَّربة الأولى بثانيةٍ وثالثةٍ حتَّى أجهزت عليه، وأخمدت أنفاسه بين جنبيه ... ثمَّ بادرت إليه فاحتزَّت رأسه بسكِّين كانت معها، وقذفت بالرَّأس من أعلى الحصن ... فطفق يتدحرج على سفوحه حتَّى استقرَّ بين أيدي اليهود الذين كانوا يتربَّصون (¬1) في أسفله. فلمَّا رأى اليهود رأس صاحبهم؛ قال بعضهم لبعض: قد علمنا أنَّ محمدًا لم يكن ليترك النِّساء والأطفال من غير ... حُماةٍ ... ثمَّ عادوا أدراجهم ... **** رضي الله عن صفيَّة بنت عبد المطَّلب. فقد كانت مثلًا فذّاً للمرأة المسلمة ... ربَّت وحيدها فأحكمت تربيته ... ¬

(¬1) يتربصون: ينتظرون ويترقبون

وأصيبت بشقيقها فأحسنت الصَّبر عليه ... واختبرتها الشَّدائد فوجدت فيها المرأة الحازمة العاقلة الباسلة ... ثمَّ إنَّ التَّاريخ كتب في أنصع صفحاته: إن صفيَّة بنت عبد المطَّلب كانت أوَّل امرأةٍ قتلت مشركًا في الإسلام (¬1). ... ¬

(¬1) (*) للاستزادة من أخبار صفيَّة بنت عبد المطَّلب انظر: 1 - الإصابة: 4/ 348 «الترجمة» 654. 2 - السيرة النبوية لابن هشام: «انظر الفهارس». 3 - المستطرف للأبشيهي: «انظر الفهرس». 4 - حياة الصحابة:1/ 154 «وانظر الفهارس». 5 - إلآَّغاني لأبي الفرج: «انظر الفهارس». 6 - ذيل تاريخ الطبري: «انظر الفهارس». 7 - أعلام النساء لكحالة: 2/ 341 - 346. 8 - الكامل في التاريخ: «انظر الفهارس». 9 - المعارف لابن قتيبة: «انظر الفهارس». 10 - الاستيعاب بهامش الإصابة: 4/ 345. 11 - أسد الغابة: 7/ 172. 12 - فتوح البلدان للبلاذري. 13 - الطبقات الكبرى: 8/ 41. 14 - سير أعلام النبلاء: 2/ 193. 15 - سمط اللآلئ: 1/ 18. 16 - ابن كثير: 4/ 108.

فاطمة الزهراء

فَاطِمَةُ الزَّهراء رَيْحَانَةُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - «المَهدِيُّ مِن عِترَتِي مِن وَلَدِ فَاطِمَةَ» [مُحَمَّدُ رَسُولُ الله] قصَّة حياة فاطمة الزَّهراء فصلٌ مشرقٌ من سيرة الرَّسول ... العظيم - صلى الله عليه وسلم - ... وصورةٌ رائعةٌ من صور حياة بيت النُّبوَّة الكريم ... ومثلٌ رائعٌ لما كان عليه الصحابة الكرام. **** ولدت فاطمة الزَّهراء رضوان الله عليها سنة بناء الكعبة قبل البعثة المحمَّديَّة بخمس سنين. أمَّا أمُّها فسيِّدةٌ رزانٌ جمعت العقل الحصيف (¬1) إلى النَّسب الشَّريف وضمَّت إلى ذلك الخلائق الفاضلة، ¬

(¬1) الحصافة: الحكمة في العقل، والجودة في الرأي.

والثَّروة الطَّائلة؛ فكانت تدعى في الجاهليَّة بالطَّاهرة، وتُنعت بسيِّدة نساء قريشٍ ... آمنت بالرَّسول - صلى الله عليه وسلم - إذ كفر به النَّاس، وصدَّقته إذ كذَّبه النَّاس، وواسته بمالها إذ حرمه النَّاس. وقد حبا الله هذه السَّيِّدة الوقور صباحة الوجه مع ما حباها به من الخلق الجميل، والحسب الأثيل (¬1) والمال الجزيل ... هذه هي أمُّ فاطمة الزَّهراء ... أمَّا أبوها فسيِّد المرسلين، وخاتم النَّبيِّين، وإمام المتَّقين ... فأعظم بهذا النَّسب الكريم نسبًا ... وهذا الأب العظيم أباً. **** كانت فاطمة الزَّهراء آخر أولاد أبويها، وآخر ¬

(¬1) الحسب الأثيل: الأصيل القديم.

الأولاد يتقلَّب في أعطاف الحنان والحَدب ... ويدرج في أكناف الحفاوة والحبِّ ... لذا كانت فاطمة ريحانة رسول الله صلوات الله عليه ... يرضى إذا رضيت ويسخط إذا سخطت. ولكنَّ حنان الأبوين لم يحل دون تعهُّد المحبوبة الأثيرة بالتَّربية وإعدادها لتحمُّل المسئوليَّات ... فقد روي أنَّها كانت تقوم وحدها بصنيع بيتها لا يعينها في أكثر أيَّامها أحدٌ، وأنها كانت تضمِّد جراح أبيها صلوات الله عليه في غزوة «أحد». ولمَّا بلغت الزَّهراء مبلغ النِّساء طمحت إليها الأنظار؛ فكان في جملة من خطبها أبو بكر وعمر ... فردَّهما الرَّسول صلوات الله عليه ردًّا كريمًا، وكأنَّما كان يريد أن يخصَّ بها عليًا رضوان الله عليه. **** وفي السَّنة الثَّامنة للهجرة خطب عليُّ بن أبي طالبٍ

فاطمة الزَّهراء فما أسرع أن استجاب الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - إلى طلبه، فخرَّ عليُّ ساجداً شكرًا لله، فلمَّا رفع رأسه من سجوده قال له الرَّسول عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام: (بارك الله لكما وعليكما، وأسعد جدَّكما (¬1) وأخرج منكما الكثير الطيب). وقد شهد عقد فاطمة الزَّهراء على عليِّ بن أبي طالب أبو بكر، وعمر، وعثمَّان، وطلحة (¬2)، والزُّبير من المهاجرين، وعددٌ يماثل عددهم من الأنصار. ولما أخذ القوم مجالسهم قال عليه الصَّلاة والسَّلام: (الحمد لله المحمود بنعمته، المعبود بقدرته، إنَّ الله عز وجل جعل المصاهرة نسبًا لاحقًا، وأمرًا مفترضًا ¬

(¬1) أسعد جدَّكُما: أسعد حظكما، وجعلكما من المرضي عنهم. (¬2) عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله التَّميمي: انظرهما في كتاب «صور من حياة الصحابة» للمؤلف، الناشر دار الأدب الإسلامي، الطبعة المشروعة.

وحكمًا عادلًا، وخيرًا جامعًا، أوشج (¬1) بها الأرحام وألزمها الأنام فقال عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} (¬2). أشهدكم أنِّي زوجت فاطمة من عليٍّ على أربع مائة مثقال فضَّةٍ إن رضي بذلك على السُّنَّة القائمة، والفريضة الواجبة ... فجمع الله شملهما، وبارك لهما، وأطاب نسلهما ... أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم). وزُفَّت سيِّدة نساء المسلمين إلى بيت زوجها. وما كان لها من جهازٍ غير سريرٍ مشروطٍ، ووسادةٍ من أدمٍ حشوها ليفٌ، ونورةٍ (¬3) من أدمٍ، وسقاءٍ، ومنخلٍ، ¬

(¬1) أوشج بها الأرحام: وصل بها الأرحام. (¬2) سورة الفرقان: آية54. (¬3) نورة من ادم: أي إناء من الجلد يغسل فيه.

ومنشفةٍ، وقدحٍ، ورحوان وجرَّتان. **** لم يطق الرَّسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - صبرًا على بعد الزَّهراء عنه؛ فعزم على أن يحوِّلها إلى جواره وكانت تجاوره منازل لحارثة بن النُّعمان فجاء إلى النَّبيِّ صلوات الله عليه وقال: إنَّه بلغني أنَّك تريد أن تحوِّل فاطمة إليك، وهذه منازلي وهي أقرب بيوت «بني النَّجَّار» إليك، وإنما أنا ومالي لله ورسوله، والله يا رسول الله: للمالُ الذي تأخذ مني أحب إلي من الذي تدع. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (صدقت، بارك الله عليك). ثمَّ حوَّل فاطمة إلى جواره وأسكنها منزلًا من بيوت حارثة رضوان الله عليه. **** ومنذ استقرت الزَّهراء في جوار أبيها كان يلمُّ ببيتها

كل صباح، فإذا أُذِّن للصُّبح كان يأخذ بعضادتي باب بيتها ويقول: (السَّلام عليكم أهل البيت ويطهِّركم تطهيرًا). وكان النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلَّى فيه ركعتين ثمَّ يثنِّي ببيت فاطمة ويطيل عندها المكث، ثمَّ يأتي بيوت نسائه. **** وقد رُوي عن محمَّد بن قيس أنَّ الرَّسول صلوات الله عليه خرج ذات مرة في سفرٍ ومعه عليُّ بن أبي طالب فصنعت له فاطمة رضوان الله عليها في غيبتهما سوارين وقلادةً وقرطين، ووضعت على باب البيت ستارةً، وذلك لقدوم أبيها وزوجها. فلمَّا قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها ووقف أصحابه على الباب لا يدرون أيبقون أم ينصرفون لطول مكثه عندها، فخرج الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - وقد عرف في وجهه الغضب حتَّى جلس على المنبر.

عند ذلك أدركت فاطمة رضوان الله عليها أنَّه فعل ذلك لما رأى من السِّوارين والقلادة والقرطين والسِّتر ... فنزعت قرُطيها وقلادتها وسواريها وأنزلت السِّتر وبعثت به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقالت لمن حمَّلته إياها: قُل للرَّسول تقرأ عليك ابنتك السَّلام وتقول لك اجعل هذا في سبيل الله، فلمَّا أتاه قال: (قد فعلت - فداها أبوها - ليست الدُّنيا من محمَّدٍ ولا من آل محمَّدٍ، ولو كانت الدُّنيا تعدل عند الله من الخير جناح بعوضةٍ ما سقى كافراً منها شربة ماءٍ). **** ثمَّ إنَّ بيت فاطمة الزَّهراء ما لبث أن سعد بالذُّرِّية الصَّالحة ... . فقد رُزق الأبوان الكريمان كلاً من الحسن، والحسين، ومُحسن ... . وزينب، وأم كلثومٍ. كانت فرحة الرَّسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - بهم كبيرةً، فقد

رُوي أنه لمَّا ولد الحسن سمَّاه والداه «حربًا» فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أروني ابني، ما سمَّيتموه؟). قالوا: حربًا ... قال: (بل هو حَسنٌ). **** وكان الرَّسول صلوات الله عليه يدلِّل أولاد فاطمة ويستأنسهم ويداعبهم ويرقِّصهم، وربما ركب الواحد منهم على كتفه وهو ... يصلِّي ... فيتأنَّى في صلاته ويطيل سجوده لكي لا يزحزحه عن مركبه. وقد كان من عادته صلوات الله عليه أن يبيت في بيت فاطمة حيناً بعد حينٍ، ويتولى خدمة أطفالها بنفسه وأبواهم قاعدان. ففي إحدى اللَّيالي سمع الحسن يستسقي (¬1)؛ فقام ¬

(¬1) يستسقي: يطلب السقيا.

صلوات الله عليه إلى قربةٍ فجعل يعصرها في القدح فمدَّ الحُسين يده ليتناول الماء، فنحَّاه عنه وبدأ بالحسن، فقالت فاطمة: كأنَّه أحبُّ إليك؟. فقال عليه السَّلام: (إنَّما استسقى أولًا). **** وكانت فاطمة رضوان الله عليها إذا دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيدها ورحَّب بها وأجلسها في مجلسه ... وكان إذا دخل عليها قامت له ورحَّبت به وأخذت بيده فقبَّلتها. فدخلت عليه في مرضه الذي توفِّي فيه فأسرَّ إليها فبكت ... ثمَّ أسرَّ إليها فضحكت، وكانت عائشة ترى ذلك فقالت في نفسها: كنت أحسب لهذه المرأة فضلًا على النِّساء فإذا

هي واحدةٌ منهنَّ بينما هي تبكي إذا هي تضحك. فلمَّا توفِّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألتها عن ذلك فقالت: أسرَّ إليَّ فأخبرني أنَّه ميِّتٌ فبكيتُ ... ثمَّ أسرَّ إليَّ أنِّي أوَّل أهل بيته لحوقًا به فضحكتُ. **** ولم تمكث فاطمة بعد وفاة أبيها عليه الصَّلاة والسَّلام طويلًا فلحقت به بعد أشهرٍ قليلةٍ، قيل إنها ستٌ أو ثلاثةٌ أو اثنان على اختلافٍ في الرِّوايات. ففي رمضان سنة إحدى عشرة للهجرة لبَّت فاطمة الزَّهراء نداء ربِّها، وفرحت باللُّحوق بأبيها. ولمَّا حضرتها الوفاة تولَّت أمر غسل نفسها بيدها وقالت لصاحبتها أسماء بنت عميسٍ - بعد أن اغتسلت كأحسن ما كانت تغتسل-: يا أمَّه إيتيني بثيابي الجدد، فلبستها ... ثمَّ قالت:

قد اغتسلتُ فلا يكشفنَّ لي أحدٌ كفنًا ... ثمَّ تبسمت، ولم تُر مبتسمةً بعد وفاة أبيها إلاَّ ساعة فارقت الحياة. رحم الله ريحانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رحمةً واسعةً فقد زُفَّت إلى عليٍّ في رمضان ... وزُفَّت إلى الجنَّة في رمضان أيضًا (¬1). **** ¬

(¬1) (*) للاستزادة من أخبار فاطمة الزَّهراء انظر: 1 - سير أعلام النبلاء: 2/ 118 2 - السيرة النبوية لابن هشام: «انظر الفهارس». 3 - تاريخ الطبري: «انظر الفهارس في العاشر». 4 - حياة الصحابة: «انظر الفهارس في الرابع». 5 - الإصابة: 4/ 377 «الترجمة» 830. 6 - أعلام النساء لكحالة: 4/ 108. 7 - الطبقات لابن سعد: 8/ 25. 8 - تهذيب التهذيب: 12/ 440. 9 - الترغيب والترهيب: 3/ 262. 10 - مسند أحمد: 2/ 149. 11 - صفة الصفوة: 2/ 9. 12 - أسد الغاية: 7/ 220. 13 - حلية إلآَّولياء: 1/ 69. 14 - الاستيعاب «بهامش الصحابة»: 4/ 373.

أسماء بنت أبي بكر

أسَماءُ بِنتُ أَبِي بَكرٍ ذَاتُ النِّطَاقَينِ «عُمِّرَت أَسمَاءُ مِائَةَ عَامٍ وَلَمْ يَسْقُطْ لَهَا سِنٌّ وَلَا ضِرْسٌ، وَلَمْ يَغِبْ مِنْ عَقْلِهَا شَيءٌ» [المُؤَرِّخُون] صحابيَّتنا هذه جمعت المجد من أطرافه كلِّها ... فأبوها صحابيٌّ، وجدها صحابيٌّ، وأختها صحابيَّةٌ، وزوجها صحابيٌّ، وابنها صحابيٌّ ... . وحسبُها (¬1) بذلك شرفًا وفخرًا ... أما أبوها فالصِّدِّيق خليل الرَّسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - في حياته، وخليفته من بعد مماته ... وأما جدُّها فأبو عتيقٍ والد أبي بكرٍ ... ¬

(¬1) حسبها: يكفيها.

وأمَّا أختها فأمُّ المؤمنين عائشة الطَّاهرة المبرَّأة ... وأمَّا زوجها فحواريُّ (¬1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزُّبير بن العوَّام ... وأمَّا ابنها فعبد الله بن الزُّبير - رضي الله عنه - وعنهم أجمعين ... إنَّها- بإيجاز- أسماء بنت أبي بكر الصِّدِّيق ... وكفى ... **** كانت أسماء من السَّابقات إلى الإسلام، إذ لم يتقدم عليها في هذا الفضل العظيم غير سبعة عشر إنسانًا من رجلٍ أو امرأةٍ. وقد لقِّبت بذات النِّطاقين لأنَّها صنعت للرَّسول صلوات الله عليه ولأبيها يوم هاجرا إلى المدينة زادًا، وأعدت لهما سقاءً (¬2) فلمَّا لم تجد ما تربطهما به شقَّت ¬

(¬1) الحواري: النصير، وحواريو الرُّسل: خاصَّة أنصارهم. (¬2) السِّقاء: القربة وغيرها مما يوضع فيه الماء.

نطاقها (¬1) شقَّين، فربطت بأحدهما المزود (¬2) وبالثَّاني السِّقاء ... فدعا لها النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام أن يبدلها الله منهما نطاقين في الجنَّة ... فلقبت لذلك بذات النِّطاقين. **** تزوج بها الزُّبير بن العوام، وكان شابًا مرملًا (¬3) ليس له خادمٌ ينهض بخدمته، أو مالٌ يوسِّع به على عياله غير فرس اقتناها. فكانت له نعم الزَّوجة الصالحة، تخدمه وتسوس فرسه وترعاه وتطحن النَّوى لعلفه، حتَّى فتح الله عليه فغدا من أغنى أغنياء الصحابة. ولما أتيح لها أن تهاجر إلى المدينة فرارًا بدينها إلى الله ورسوله كانت قد أتمَّت حملها بابنها عبد الله بن ¬

(¬1) النِّطاق: ما تشد به المرأة وسطها. (¬2) المزود: كيسٌ يوضع فيه الزاد للمسافر. (¬3) مرملاً: فقيراً.

الزُّبير فلم يمنعها ذلك من تحمل مشاقِّ الرِّحلة الطَّويلة، فما إن بلغت «قُباء» (¬1) حتَّى وضعت ... وليدها ... فكبَّر المسلمون وهلَّلوا، لأنه كان أوَّل مولود يولد للمهاجرين في المدينة. فحملته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووضعته في حجره، فأخذ شيئًا من ريقه وجعله في فم الصَّبيِّ، ثمَّ حنَّكه (¬2) ودعا له ... فكان أوَّل ما دخل في جوفه ريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. **** وقد اجتمع لأسماء بنت أبي بكرٍ من خصائل الخير وشمائل النُّبل، ورجاحة العقل ما لم يجتمع إلاَّ للقليل النَّادر من الرِّجال. فقد كانت من الجود بحيث يضرب بجودها المثل. ¬

(¬1) قباء: قرية على بعد ميلين من المدينة. (¬2) حنكه: مضغ شيئا ووضعه في حنكه.

حدَّث ابنها عبد الله قال: ما رأيت امرأتين قط أجود من خالتي عائشة وأمِّي أسماء، لكنَّ جودهما مختلفٌ ... أمَّا خالتي فكانت تجمع الشَّيء إلى الشَّيء حتَّى إذا اجتمع عندها ما يكفي؛ قسمته بين ذوي الحاجات ... . وأمَّا أمِّي فكانت لا تمسك (¬1) شيئًا إلى الغد ... وكانت أسماء إلى ذلك عاقلة تحسن التَّصرف في المواقف ... الحرجة ... من ذلك أنَّه لمَّا خرج الصِّدِّيق مهاجرًا بصحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمل معه ماله كلَّه، ومقداره ستَّة آلاف درهمٍ، ولم يترك لعياله شيئًا ... فلمَّا علم والده أبو قحافه برحيله - وكان ما يزال مشركًا - جاء إلى بيته وقال لأسماء: ¬

(¬1) لا تمسك شيئاً: لا تستبقي شيئاً.

والله إني لأراه قد فجعكم بماله بعد أن فجعكم بنفسه ... فقالت له: كلاَّ يا أبت إنَّه قد ترك لنا مالاً كثيرًا. ثمَّ أخذت حصى ووضعته في الكوَّة (¬1)، التي كانوا يضعون فيها المال، وألقت عليه ثوباً، ثمَّ أخذت بيد جدِّها- وكان مكفوف البصر- وقالت: يا أبت، انظر كم ترك لنا من المال. فوضع يده عليه وقال: لا بأس ... إذا ترك لكم هذا كلَّه فقد أحسن. وقد أرادت بذلك أن تسكِّن نفس الشَّيخ، وألاَّ تجعله يبذل (¬2) لها شيئًا من ماله ... ¬

(¬1) الكوَّة: تجويف في الحائط، أو نافذة صغيرة. (¬2) يبذل لها: يعطيها.

ذلك لأنها كانت تكره أن تجعل لمشركٍ عليها يدًا (¬1) حتَّى لو كان جدَّها ... **** وإذا نسي التَّاريخ لأسماء بنت أبي بكرٍ مواقفها كلَّها، فإنَّه لن ينسى لها رجاحة عقلها، وشدَّة حزمها، وقوَّة إيمانها وهي تلقى والدها عبد الله اللِّقاء الأخير. وذلك أنَّ ابنها عبد الله بن الزُّبير بويع له بالخلافة بعد موت يزيد بن معاوية، ودانت له الحجاز، ومصر، والعراق، وخراسان، وأكثر بلاد الشَّام. لكنَّ بني «أميَّة» ما لبثوا أن سيَّروا لحربه جيشاً لجباً (¬2) بقيادة «الحجاج بن يوسف الثَّقفيِّ» ... فدارت بين الفريقين معارك طاحنةٌ أظهر فيها ابن الزُّبير من ضروب البطولة ما يليق بفارس كميٍّ (¬3) مثله. غير أنَّ أنصاره جعلوا ينفضُّون (¬4) عنه شيئًا فشيئًا؛ ¬

(¬1) اليد: الصنيعة والمنة والمعروف. (¬2) جيشا لجبا: جيشا كثيفا جرارا. (¬3) الكمي: البطل الشجاع. (¬4) ينفضون عنه: يتفرقون عنه.

فلجأ إلى بيت الله الحرام، واحتمى هو ومن معه في حِمى الكعبة المعظَّمة ... وقبيل مصرعه بساعات دخل على أمِّه أسماء - وكانت عجوزًا فانيةً قد كفَّ بصرها - فقال: السَّلام عليك يا أمَّه (¬1) ورحمة الله وبركاته. فقالت: وعليك السَّلام يا عبد الله ... ما الذي أقدمك في هذه السَّاعة، والصخور التي تقذفها منجنيقات (¬2) الحجَّاج على جنودك في الحرم تهزُّ دور مكَّة هزًا؟!. قال: جئت لأستشيرك. قالت: تستشيرني!! ... في ماذا؟!. قال: لقد خذلني النَّاس وانحازوا عنِّي رهبةً من الحجَّاج أو رغبةً بما عنده ... ¬

(¬1) يا أمَّه: يا أمَّاه. (¬2) المنجنيقات: جمع منجنيق، وهو آلة حربية كانت تقذف بها الصخور ونحوها على المعاقل والحصون.

حتَّى أولادي وأهلي انفضُّوا (¬1) عنِّي، ولم يبق معي إلاَّ نفر قليلٌ من رجالي، وهم مهما عظم جلدهم (¬2) فلن يصبروا إلاَّ ساعةً أو ... ساعتين ... ورسل بني «أميَّة» يفاوضونني على أن يعطوني ما شئت من الدُّنيا إذا ألقيت السِّلاح وبايعت عبد الملك ابن مروان، فما ترين؟. فعلا صوتها وقالت: الشَّأن شأنك يا عبد الله، وأنت أعلم بنفسك ... فإن كنت تعتقد أنَّك على حقٍّ، وتدعو إلى حقٍّ، فاصبر وجالد كما صبر أصحابك الذين قتلوا تحت رايتك ... وإن كنت إنَّما أردت الدنيا فلبئس العبد أنت ... أهلكت نفسك، وأهلكت رجالك. قال: ولكنِّي مقتول اليوم لا محالة. ¬

(¬1) انفضُّوا: تفرقوا. (¬2) جلدهم: صبرهم واحتمالهم.

قالت: ذلك خيرٌ لك من أن تسلم نفسك للحجَّاج مختارًا، فيلعب برأسك غلمان بني «أميَّة». قال: لست أخشى القتل، وإنما أخاف أن يمثِّلوا بي. قالت: ليس بعد القتل ما يخافه المرء، فالشَّاة المذبوحة لا يؤلمها السَّلخ ... فأشرقت أسارير (¬1) وجهه وقال: بوركت من أمٍّ، وبوركت مناقبك (¬2) الجليلة؛ فأنا ما جئت إليك في هذه السَّاعة إلاَّ لأسمع منك ما سمعت، والله يعلم أنَّني ما وهنت ولا ضعفت، وهو الشَّهيد عليَّ أنَّني ما قمت بما قمت به حبًا بالدنيا وزينتها، وإنما غضباً لله أن تستباح محارمه ... وهأنذا ماض إلى ما تحبيِّن، فإذا أنا قتلت فلا تحزني عليَّ وسلِّمي أمرك لله ... ¬

(¬1) أسارير وجهه: محاسن وجهه. (¬2) مناقبك: خلالك وخصالك وشمائلك.

قالت: إنما أحزن عليك لو قتلت في باطل. قال: كوني على ثقةٍ بأنَّ ابنك لم يتعمَّد إتيان منكرٍ قطُّ، ولا عمل بفاحشةٍ قطُّ، ولم يجر في حكم الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمَّد ظلم مسلمٍ ولا معاهدٍ (¬1)، ولم يكن شيء عنده آثر (¬2) من رضي الله عز وجلَّ ... لا أقول ذلك تزكيةً لنفسي، فالله أعلم منِّي بي، وإنَّما قلته لأدخل العزاء (¬3) علي قلبك. فقالت: الحمد لله الذي جعلك على ما يحبُّ وأحبُّ ... اقترب منِّي يا بنيَّ لأتشمَّم رائحتك وألمس جسدك فقد يكون هذا آخر العهد بك. فأكبَّ عبد الله على يديها ورجليها يوسعهما (¬4) لثماً، وأجالت هي أنفها في رأسه ووجهه وعنقه تتشمَّمُه وتُقبِّلُه ... ¬

(¬1) المعاهد: الذميُّ. (¬2) آثر: أفضل. (¬3) العزاء: الصَّبر. (¬4) يوسعهما لثماً: يملؤهما تقبيلاً.

وأطلقت يديها تتلمَّس جسده، ثمَّ ما لبثت أن ردَّتهما عنه وهي تقول: ما هذا الذي تلبسه يا عبد الله؟!. قال: درعي. قالت: ما هذا يا بنيَّ لباس من يريد الشَّهادة. قال: إنَّما لبستها لأطيب خاطرك، وأسكن قلبك. قالت: انزعها عنك، فذلك أشدُّ لحميتك (¬1) وأقوي لوثبتك، وأخفُّ لحركتك ... ولكن البس بدلًا منها سراويل مضاعفةً (¬2)، حتَّى إذا صُرعت لم تنكشف عورتك. **** ¬

(¬1) أشد لحميتك: أقوي لنخوتك وشجاعتك. (¬2) مضاعفة: طويلة.

نزع عبد الله بن الزُّبير درعه، وشدَّ عليه سراويله، ومضى إلى الحرم لمواصلة القتال وهو يقول: لا تفتري عن الدُّعاء لي يا أمَّه. فرفعت كفَّيها إلى السَّماء وهي تقول: اللَّهمَّ ارحم طول قيامه وشدَّة نحيبه في سواد اللَّيل والنَّاس نيامٌ ... اللَّهمَّ ارحم جوعه وظمأه في هواجر المدينة ومكَّة وهو صائمٌ ... اللَّهمَّ ارحم برَّه بأبيه وأمَّه ... اللَّهمَّ إني قد سلَّمته لأمرك، ورضيت بما قضيت له، فأثبني عليه ثواب الصَّابرين ... لم تغرب شمسُ ذلك اليوم إلاَّ كان عبد الله بن الزُّبير قد لحق بجوار ربِّه. ولم يمض على مصرعه غير بضعة عشر يومًا

إلاَّ كانت أمُّه أسماء بنت أبي بكر قد لحقت به ... وقد بلغت من العمر مائة عام، ولم يسقط لها سنٌّ ولا ضرسٌ ولم يغب من عقلها شيءٌ (¬1). ... ¬

(¬1) (*) للاستزادة من أخبار أسماء بين أبي بكرٍ انظر: 1 - الأصابة: 4/ 229 «الترجمة» 46. 2 - أسد الغابة: 2/ 392 - 393. 3 - الاستيعاب «على هامش الإصابة»: 4/ 232. 4 - تهذيب التهذيب: 12/ 397. 5 - صفة الصفوة: 2/ 31 - 32. 6 - شذرات الذهب: 1/ 80. 7 - تاريخ الإسلام للذهبي: 3/ 133 - 137. 8 - البداية والنهاية: 8/ 346. 9 - أعلام النساء لكحالة: 1/ 36. 10 - عبد الله بن الزُّبير من سلسلة أعلام العرب للدكتور الخربوطلي. 11 - سير أعلام النبلاء: 2/ 208. 12 - قلائد الجمان: 149. 13 - النجوم الزاهرة: 1/ 189. 14 - المحبر: 100،54،22.

نسيبة المازنية

نَسِيبَةُ المَازِنِيَّةُ «مَا التَفَتُّ يَومَ أُحُدٍ يَمِيناً وَلَا شِمَالاً إلاَّ وَرَأَيتُ أُمَّ عُمَارَةَ تُقَاتِلُ دُونِي» [مُحَمَّدُ رَسُولُ الله] «أنتم على موعدٍ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند العقبة في آخر الهزيع (¬1) الأوَّل من اللَّيل». أسرَّ مصعب بن عميرٍ بهذه الكلمة إلى واحدٍ من مسلمي «يثرب»، فسرى الخبر بينهم سريان النَّسيم في سرعةٍ، وخفَّةٍ، وهدوءٍ. وأحيط به المسلمون الذين تسلَّلوا من المدينة، واندسُّوا بين جموع حجَّاج المشركين الوافدين على مكَّة من كلِّ صوبٍ. وأقبل اللَّيل فاستسلم حجَّاج المشركين إلى الكرى (¬2) ... ¬

(¬1) الهزيع الأول من الليل: الثلث إلآَّول منه. (¬2) الكرى: النوم.

وجعلوا يغُطُّون في نوم عميقٍ بعد يومٍ جاهدٍ ناصبٍ (¬1) قضوه في التَّطواف حول الأوثان ... والذَّبح للأصنام ... لكنَّ أصحاب مصعب بن عميرٍ من مسلمي «يثرب» لم يغمض لهم جفنٌ ... وكيف لجفونهم أن تغمض؟!. وقلوبهم تخفق بين فرحة باللِّقاء الذي قطعوا من أجله الفَيَافِي (¬2) والقِفَار (¬3) وأفئدتهم تكاد تطير من بين ضلوعهم شوقاً لرؤية نبيِّهم الحبيب صلوات الله وسلامه عليه. فقد آمن به أكثرهم قبل أن يسعدوا بلقياه ... وتعلَّقوا به قبل أن تكتحل أعينهم بمرآه ... **** وفي آخر الهزيع الأوَّل من أوسط أيَّام التَّشريق، ¬

(¬1) جاهد ناصب: متعب بسبب ما بذل فيه من جهد. (¬2) الفَيَافِي: الصحاري الواسعة. (¬3) القِفار: إلآَّراضي الجرداء.

وعند «العقبة» في «منى» تمَّ اللِّقاء الكبير في نجوةٍ (¬1) من قريشٍ ... فلمَّا تقدَّم اثنان وسبعون رجلاً من النَّبيِّ صلوات الله وسلامه ... عليه ... ووضعوا أيديهم في يديه واحدًا بعد آخر مبايعين على أن يمنعوه ممَّا يمنعون منه نساءهم وأولادهم ... ولمَّا انتهى الرِّجال من البيعة تقدَّمت امرأتان فبايعتا على ما بايع عليه الرِّجال ... ولكن من غير مصافحةٍ ... ذلك لأن الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام لا يصافح النِّساء. وقد كانت إحدى هاتين المرأتين تعرف بأمٍّ منيعٍ (¬2) ... ¬

(¬1) النجوة: البعد عن إلآَّمر حتى يظن أنه لن يلحقه احد. (¬2) أمّ منيع: هي أسماء بنت عمرو بن عدي بن ياسر الأنصارية السلمية، أمّ الصحابي معاذ بن جبل.

أما الأخرى فهي نسيبة بنت كعب المازنيَّة المكنَّاة بأمِّ عمارة. **** عادت أمَّ عمارة إلى «يثرب» فرحةً بما أكرمها الله به من لقاء الرَّسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم -. عاقدةً العزم على الوفاء بشروط البيعة ... ثمَّ مضت الأيام سراعًا، حتَّى كان يوم «أُحُدٍ»، وكان لأمِّ عمارة فيه شأنٌ وأيُّ شأنٍ؟!. خرجت أمُّ عمارة إلى «أُحُدٍ» تحمل سقاءها لتروي ظمأ المجاهدين في سبيل الله. ومعها لفائفُها لتضمِّد (¬1) جراحهم ... ولا عجب فقد كان لها في المعركة زوجٌ وثلاثة أفئدةٍ: هم رسولُ الله صلوات الله وسلامه عليه ... ¬

(¬1) تضمد: تداوي جراحهم وتربطها بالضماد، وهو رباط الجرح.

وولدها حبيب (¬1)، وعبد الله ... وذلك بالإضافة إلى إخوتها من المسلمين الذَّائدين (¬2) عن دين الله المنافحين عن رسول الله. ثمَّ كان ما كان يوم «أُحُدٍ» ... فلقد رأت أمُّ عمارة بعينيها كيف تحوَّل نصر المسلمين إلى هزيمةٍ كبرى ... وكيف أخذ القتل يشتدُّ في صفوف المسلمين فيتساقطون على أرض المعركة شهيدًا إثر شهيد ... وكيف زلزلت الأقدام، فتفرَّق الرِّجال عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتَّى لم يبق معه إلاَّ عشرةٌ أو نحوٌ من عشرةٍ ... ممَّا جعل صارخ الكفَّار ينادي: لقد قتل محمَّدٌ ... لقد قتل محمَّدٌ ... ¬

(¬1) حبيب بن زيد: انظره في كتاب «صور من حياة الصحابة» للمؤلف، الناشر دار الأدب الإسلامي، الطبعة المشروعة. (¬2) الذَّائدين: المدافعين عن دين الله.

عند ذلك ألقت أمُّ عمارة سقاءها، وانبرت إلى المعركة كالنَّمرة التي قصد أشبالها بشرٍّ ... ولنترك لأمِّ عمارة نفسها الحديث عن هذه اللَّحظات الحاسمات، فليس كمثلها من يستطيع تصويرها بدقَّةٍ وصدقٍ. قالت أمُّ عمارة: خرجت أوَّل النَّهار إلى «أُحُدٍ» ومعي سقاءٌ أسقي منه المجاهدين حتَّى انتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والدَّولة والرِّيح (¬1) له ولمن معه ... ثمَّ ما لبث أن انكشف المسلمون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما بقي إلاَّ في نفرٍ قليلٍ ما يزيدون على العشرة ... فملت إليه أنا وابني وزوجي ... وأحطنا به إحاطة السِّوار بالمعصم، وجعلنا نذود عنه بسائر ما نملكه من قوَّةٍ وسلاحٍ ... ¬

(¬1) الدَّولة: النصر والغلب، والرِّيح: القوة.

ورآني الرَّسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - ولا تُرس معي أقي به نفسي من ضربات المشركين. ثمَّ أبصر رجلًا مولِّياً (¬1) ومعه ترسٌ فقال له: (القِ تُرسك إلى من يقاتل) فألقى الرَّجل تُرسه ومضى ... فأخذته وجعلت أتترَّس به عن الرَّسول - صلى الله عليه وسلم -. ومازلت أضارب عن النَّبيِّ بالسيف ... وأرمي دونه بالقوس حتَّى أعجزتني الجراح. وفيما نحن كذلك أقبل «ابن قمئة» كالجمل الهائج وهو يصيح: أين محمَّد؟ ... دلُّوني على محمَّدٍ. فاعترضت سبيله أنا ومصعب بن عميرٍ، فصرع مُصعبًا بسيفه وأرداه قتيلاً ... ¬

(¬1) موليا: فارا هاربا.

ثمَّ ضربني ضربة خلَّفت في عاتقي جُرحًا غائرًا ... فضربته على ذلك ضرباتٍ، ولكنَّ عدوَّ الله كانت عليه ... درعان (¬1) ... ثمَّ أتبعت نسيبة المازنيَّة تقول: وفيما كان ابني يُناضل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضربه أحد المشركين ضربةً كادت تقطع عضده ... وجعل الدَّم يتفجَّر من جرحه الغائر ... فأقبلت عليه، وضمَّدت جرحه، وقلت له: انهض يا بنيَّ وجالد (¬2) القوم ... فالتفت إليَّ الرَّسول صلوات الله وسلامه عليه وقال: (ومن يُطيق ما تطيقين يا أمَّ عمارة)؟!. ¬

(¬1) الدرع: ثوب من الحديد يلبسه المحارب ليحمي صدره. (¬2) المجالدة: المضاربة بالسيف.

ثمَّ أقبل الرَّجل الذي ضرب ابني، فقال الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام: (هذا ضارب ابنك يا أمَّ عمارة). فما أسرعت أن اعترضت سبيله وضربته على ساقه بالسَّيف، فسقط صريعًا على الأرض ... فأقبلنا عليه نتعاوره (¬1) بالسُّيوف ونطعنه بالرِّماح حتَّى أجهزنا (¬2) عليه، فالتفت إليَّ النَّبيِّ الأعظم - صلى الله عليه وسلم - مبتسمًا وقال: (لقد اقتصصت منه يا أمَّ عمارة ... والحمد لله الذي أظفرك به ... وأراك ثأرك بعينك). **** لم يكن ولدًا أمِّ عمارة أقلَّ شجاعةً وبذلًا من أمِّهما وأبيهما، ولا أدنى تضحيةً وفداءً منهما ... ¬

(¬1) نتعاوره: نضربه واحدا بعد آخر. (¬2) أجهزنا عليه: قضينا عليه وأهلكناه.

فالولد سرُّ أمِّه وأبيه، وصورةٌ صادقةٌ عنهما. حدَّث ابنها عبد الله قال: شهدت «أُحُدًا» مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا تفرَّق النَّاس عنه دنوت منه أنا وأمِّي نذبُّ (¬1) عنه، فقال: (ابن أمِّ عمارة؟). قلت: نعم. قال: (ارم ...). فرميت بين يديه رجلًا من المشركين بحجر فوقع على الأرض، فما زلت أعلوه بالحجارة حتَّى جعلت عليه منها حملًا، والنَّبيُّ عليه السَّلام ينظر إليَّ ويبتسم ... وحانت منه التفاتةٌ فرأى جُرح أمِّي على عاتقها يتصبَّب منه الدَّم فقال: (أمَّك ... أمَّك ... اعصب جرحها. بارك الله عليكم أهل بيتٍ ... ¬

(¬1) نذب: ندافع.

لمقام أمِّك خيرٌ من مقام فلانٍ وفلانٍ ... رحمكم الله أهل بيتٍ). فالتفتت إليه أمِّي وقالت: ادع الله لنا أن نرافقك في الجنَّة يا رسول الله. فقال: (اللهم اجعلهم رفقائي في الجنَّة). فقالت أمِّي: ما أبالي بعد ذلك ما أصابني في الدُّنيا. ثمَّ عادت أمُّ عمارة من «أُحُدٍ» بجرحها الغائر وهذه الدَّعوة التي دعا لها بها الرَّسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم -. وعاد النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام من «أُحُدٍ» وهو يقول: (ما التفتُّ يوم أحدٍ يمينًا ولا شمالاً إلاَّ ورأيت أمَّ عمارة تقاتل دوني). ****

تمرست أمُّ عمارة يوم «أُحُدٍ» على القتال؛ فأتقنته ... وذاقت حلاوة الجهاد في سبيل الله؛ فما عادت تطيق عنه صبرًا. وقد كتب لها أن تشهد مع الرَّسول صلوات الله وسلامه عليه ... أكثر المشاهد ... فحضرت معه الحديبية، وخيبرًا ... وعمرة القضيَّة (¬1)، وحُنينًا ... وبيعة الرِّضوان ... ولكنَّ ذلك كله لا يعدُّ شيئًا إذا قيس بما كان منها يوم «اليمامة» على عهد الصِّدِّيق رضي الله عنها وعنه. **** تبدأ قصة أمِّ عمارة مع يوم «اليمامة» منذ عهد الرَّسول صلوات الله وسلامه عليه. ¬

(¬1) عمرة القضية أو عمرة القضاء: هي العمرة التي اعتمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بعد صلح الحديبية.

فقد بعث الرَّسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - ابنها حبيب بن زيدٍ برسالة إلى مسيلمة الكذَّاب ... . فغدر مسيلمة بحبيبٍ وقتله قتلةً تقشعرُّ منها الجلود. ذلك أن مسيلمة قيَّد حبيبًا ثمَّ قال له: أتشهد أن محمَّدًا رسول الله؟. فقال: نعم. فقال مسيلمة: أتشهد أنِّي رسول الله؟. فقال: لا أسمع ما تقول ... . فقطع منه عضوًا ... . ثمَّ مازال مسيلمة يعيد عليه السُّؤال نفسه، فيردُّ عليه الجواب نفسه ... .. لا يزيد عليه ولا ينقص ... . وكان في كلِّ مرَّة يقطع منه عضوًا حتَّى فاضت

روحه الطَّاهرة، وذلك بعد أن ذاق من العذاب ما تتزلزل منه الصُّمُّ الصِّلاب (¬1). **** نعى النَّاعي حبيب بن زيدٍ إلى أمِّه نسيبة المازنيَّة فما زادت على أن قالت: من أجل مثل هذا الموقف أعددته ... وعند الله احتسبته ... لقد بايع الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة (¬2) صغيرًا ... ووفَّى له اليوم كبيرًا ... ولئن أمكنني الله من مسيلمة لأجعلنَّ بناته يلطمن الخدود عليه ... **** لم يبطئ اليوم الذي تمنَّته نسيبة كثيرًا ... حيث أذَّن مؤذِّن أبي بكرٍ في المدينة أن حيَّ على قتال المتنبِّئ الكذَّاب مسيلمة ... ¬

(¬1) الصُّم الِّصلاب: الصخور الصلبة (¬2) ليلة العقبة: ليلة بيعة العقبة.

فمضى المسلمون يحثُّون الخطا إلى لقائه، وكان في الجيش أمُّ عمارة المجاهدة الباسلة وولدها عبد الله ابن زيدٍ. ولمَّا التقى الجمعان وحمي وطيس (¬1) المعركة كان يترصَّد لمسيلمة نفرٌ من المسلمين وعلى رأسهم أمُّ عمارة التي تريد أن تنتقم لابنها الشَّهيد ... ووحشيُّ بن حرب (¬2) قاتل حمزة يوم «أُحُدٍ» ... فقد كان يريد أن يقتل شرَّ النَّاس وهو مؤمنٌ. بعد أن قتل أحد أخيار النَّاس وهو مشركٌ. **** لم تستطع أمُّ عمارة أن تصل إلى مسيلمة بعد أن قطعت يدها في المعركة ... ¬

(¬1) الوطيس: التنور، ويقال حمي وطيس المعركة: التهبت واشتدت. (¬2) وحشيّ بن حرب: انظره في كتاب «صور من حياة الصحابة» للمؤلف، الناشر دار الأدب الإسلامي، الطبعة المشروعة.

وأثخنتها (¬1) الجراح ... لكن وحشيَّ بن حرب، وأبا دجانة صاحب سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصلا إلى مسيلمة وضرباه عن يد واحدةٍ ... فقد طعنه وحشيُّ بالحربة ... وضربه أبو دجانة بالسَّيف ... فخرَّ صريعًا في طرفة عينٍ. **** عادت أمُّ عمارة بعد «اليمامة» إلى المدينة بيد واحدة ومعها ابنها الوحيد. أمَّا يدها الأخرى فقد احتسبتها (¬2) عند الله كما احتسبت من قبل ولدها الشَّهيد. ولم لا تحتسبهما؟! ... ¬

(¬1) أثخنتها الجراح: أوهنتها وأضعفتها. (¬2) احتسبتها عند الله: طلبت أجرها عليها من الله.

ألم تقل للرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام: ادع الله لنا أن نرافقك في الجنَّة ... فقال الرَّسول صلوات الله وسلامه عليه: (اللَّهمَّ اجعلهم رفاقي في الجنَّة). فقالت: ما أبالي بعد ذما أصابني في الدُّنيا ... رضي الله عن أمِّ عمارة وأرضاها؛ فقد كانت طرازًا فريدًا بين النِّساء المؤمنات ... وأنموذجًا فذّاً بين المجاهدات الصَّابرات (¬1) ... ... ¬

(¬1) (*) للاستزادة من أخبار نسيبة المازنيَّة انظر: 1 - الطبقات الكبرى لابن سعد: 8/ 301. 2 - الاستيعاب «على هامش الإصابة»: 4/ 475. 3 - الإصابة: 4/ 479 «الترجمة» 1426. 4 - صفة الصفوة: 2/ 34. 5 - امتاع الأسماع: 1/ 148. 6 - تهذيب التهذيب: 12/ 455.

رملة بنت أبي سفيان

رَمْلَةُ بِنْتُ أَبي سُفْيَانَ «أُمُّ حبيبة آثَرَتِ الله وَرَسُولَهُ عَلَى مَا سِوَاهُمَا، وَكَرِهَتْ أَنْ تَعُودَ لِلْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ المَرْءُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ» [المُؤَرِّخُون] ما كان يخطر ببال أبي سفيان بن حربٍ أنَّ في وسع احد من قريش أن يخرج على سلطانه (¬1) أو يخالفه في أمرٍ ذي بالٍ (¬2). فهو سيِّد مكَّة المطاع ... وزعيمها الذي تدين له بالولاء (¬3). لكنَّ ابنته رملة المكنَّاة بأمِّ حبيبة، قد بدَّدت (¬4) هذا الزَّعم، وذلك حين كفرت بآلهة أبيها. وآمنت هي وزوجها عبيد الله بن جحشٍ بالله وحده لا شريك له، وصدَّقت برسالة نبيِّه محمَّد بن عبد الله. وقد حاول أبو سفيان بكلِّ ما أوتي من سطوةٍ ¬

(¬1) يخرج على سلطانه: يخالف أمره. (¬2) أمر ذو بال: أمر ذو أهمية وشأن. (¬3) الولاء: الطاعة والمتابعة. (¬4) بدَّدت هذا الزعم: أبطلت هذا الزعم ومزقته.

وبأسٍ (¬1)، أن يردَّ ابنته وزوجها إلى دينه ودين آبائه، فلم يفلح، لأنَّ الإيمان الذي رسخ في قلب رملة كان أعمق من أن تقتلعه أعاصير (¬2) أبي سفيان، وأثبت من أن يزعزعه غضبه. **** ركب أبا سفيان الهمُّ بسبب إسلام رملة، فما كان يعرف بأيِّ وجه يقابل قريشاً بعد أن عجز عن إخضاع ابنته لمشيئته، والحيلولة دونها ودون اتِّباع محمَّد. **** ولمَّا وجدت قريشٌ أنَّ أبا سفيان ساخطٌ على رملة وزوجها اجترأت عليهما، وطفقت تضيِّق عليهما الخناق، وجعلت ترهقهما (¬3) أشدَّ الإرهاق، حتَّى باتا لا يطيقان الحياة في مكَّة. ولمَّا أذن الرَّسول صلوات الله وسلامه عليه ¬

(¬1) البأس: القوَّة. (¬2) أعاصير: جمع إعصار، وهو ريح شديدة ترتفع بتراب الأرض ومياه البحر. (¬3) ترهقهما: تتعبهما وتعنِّيهما.

للمسلمين بالهجرة إلى «الحبشة»، كانت رملة بنت أبي سفيان وطفلتها الصَّغيرة حبيبة، وزوجها عبيد الله بن جحشٍ (¬1)، في طليعة المهاجرين إلى الله بدينهم، الفارِّين إلى حِمى «النَّجاشيِّ» (¬2) بإيمانهم. **** لكنَّ أبا سفيان بن حربٍ ومن معه من زعماء قريشٍ، عزَّ (¬3) عليهم أن يفلت من أيديهم أولئك النَّفر من المسلمين، وأن يذوقوا طعم الرَّاحة في بلاد «الحبشة». فأرسلوا رسلهم إلى النَّجاشيِّ يحرضونه (¬4) عليهم، ويطلبون منه أن يسلمهم إليهم، ويذكرون له أنَّهم يقولون في المسيح وأمِّه مريم قولاً يسوؤُه (¬5). فبعث النَّجاشيُّ إلى زعماء المهاجرين، وسألهم ¬

(¬1) عبيد الله بن جحش: هو أخو الصحابي الجليل عبيد الله بن جحش ويُقال اسمه عبد بن جحش. (¬2) النَّجاشي: ملك الحبشة، وقد سمع القرآن وآمن بالله ورسوله وآوى المسلمين انظره في «صور من حياة التابعين» للمؤلف، الناشر دار الأدب الإسلامي. (¬3) عزَّ عليهم: صعب عليهم. (¬4) يحرضونه عليهم: يثيرونه عليهم. (¬5) يسوؤه: يؤذيه ويحزنه.

عن حقيقة دينهم، وعمَّا يقولونه في عيسي بن مريم وأمِّه، وطلب إليهم أن يسمعوه شيئاً من القرآن الذي ينزل على قلب نبيِّهم. فلمَّا أخبروه بحقيقة الإسلام، وتلوا عليه بعضاً من آيات القرآن, بكى حتَّى اخضلَّت (¬1) لحيته وقال لهم: إنَّ هذا الذي أنزل على نبيِّكم محمَّدٍ، والذي جاء به عيسى بن مريم يخرجان من مشكاةٍ (¬2) واحدةٍ. ثمَّ أعلن إيمانه بالله وحده لا شريك له، وتصديقه لنبوة محمَّدٍ صلوات الله وسلامه عليه ... كما أعلن حمايته لمن هاجر إلى أرضه من المسلمين على الرَّغم من أنَّ بطارقته (¬3) أبوا أن يسلموا، وظلَّوا على نصرانيَّتهم. **** ¬

(¬1) اخضلَّت لحيته: تبللت لحيته. (¬2) المشكاة: ما يوضع عليه المصباح، (أي من مصدر نور واحد). (¬3) البطارقة: جمع بطريق وهو القائد.

حسبت (¬1) أمُّ حبيبة بعد ذلك أنَّ الأيَّام صفت لها بعد طول عبوس ... وأنَّ رحلتها الشَّاقَّة في طريق الآلام قد أفضت (¬2) بها إلى واحة الأمان ... إذ لم تكن تعلم ما خبَّأته لها المقادير ... **** فلقد شاء الله تباركت حكمته، أن يمتحن أمَّ حبيبة امتحاناً قاسياً تطيش (¬3) فيه عقول الرِّجال ذوي الأحلام (¬4) وتتضعضع أمامه أفهام ذوي الأفهام. وأن يخرجها من ذلك الإبتلاء الكبير ظافرةً تتربَّع (¬5) على قمَّة النَّجاح ... ففي ذات ليلةٍ أوت أمُّ حبيبة إلى مضجعها، فرأت فيما يراه النائم أن زوجها عبيد الله بن جحشٍ يتخبَّط في ¬

(¬1) حسبت أمُّ حبيبة: ظنَّت. (¬2) أفضت بها: انتهت بها وأوصلتها. (¬3) تطيش: تتوه وتضل. (¬4) ذوو الأَحلام: أصحاب العقول. (¬5) تتربَّع: تجلس.

بحرٍ لِّجيٍّ (¬1) غشيته ظلماتٌ (¬2) بعضها فوق بعضٍ، وهو بأسوإ حالٍ ... فهبَّت من نومها مذعورةً (¬3) مضطربةً ... ولم تشأ أن تذكر له أو لأحدٍ غيره شيئًا ممَّا رأت ... لكن رؤياها ما لبثت أن تحقَّقت، إذ لم ينقض يوم تلك اللَّيلة المشؤومة (¬4) حتَّى كان عبيد الله بن جحشٍ، قد ارتدَّ عن دينه وتنصَّر ... ثمَّ أكبَّ على حانات (¬5) الخمَّارين يُعاقر (¬6) أمَّ الخبائث (¬7) فلا يرتويٍ منها ولا يشبع. وقد خيَّرها بين أمرين أحلاهما مُرٌّ: ¬

(¬1) بحرٌ لُجي: بحر ذو لجج متلاطمة. (¬2) غشيته ظلمات: غطَّته ظلماتٌ وأطبقت عليه. (¬3) هبَّت مذعورة: نهضت خائفة. (¬4) الليلة المشؤومة: الليلة التعيسة. (¬5) حانات الخمارين: دكاكين الخمَّارين. (¬6) يعاقر الخمر: يلازمها ويدمن عليها. (¬7) أمَّ الخبائث: كناية عن الخمر، ودعيت بذلك لأنها أصل كل شر.

فإما أن تطلَّق ... وإما أن تتنصَّر ... **** وجدت أمُّ حبيبة نفسها فجأةَ بين ثلاثٍ: فإمَّا أن تستجيب لزوجها الذي جعل يُلحُّ في دعوتها إلى التَّنصُّر؛ وبذلك ترتدُّ عن دينها- والعياذ بالله- وتبوء (¬1) بخزي الدُّنيا وعذاب الآخرة. وهو أمرٌ لا تفعله ولو مُشط لحمها عن عظمها بأمشاط من جديدٍ ... وإمَّا أن تعود إلى بيت أبيها في مكَّة، وهو ما زال قلعةً للشِّرك، فتعيش فيه مقهورةً مغلوبةً على دينها. وإما أن تبقى في بلاد «الحبشة» وحيدةً، شريدةً، لا أهل لها ولا وطن ولا مُعين. فآثرت (¬2) ما فيه رضا الله عزَّ وجلَّ على ما سواه ... ¬

(¬1) تبوء بخزي الدنيا: ترجع بعار الدنيا. (¬2) آثرت: فضَّلت واختارت.

وأزمعت (¬1) على البقاء في «الحبشة» حتَّى يأتي الله بفرج من عنده. ... لم يطل انتظار أمِّ حبيبة كثيرًا. فما إن انقضت عدَّتها (¬2) من زوجها الذي لم يعش بعد تنصُّره إلاَّ قليلًا حتَّى أتاها الفرج ... لقد جاءها السَّعد يرفرف بأجنحته الزُّمرُّديَّة (¬3) الخضر فوق بيتها المخزون على غير ميعادٍ ... ففي ذات ضحى مفضَّض السَّنا (¬4) طلق المحيَّا طرق عليها الباب؛ فلمَّا فتحته فوجئت «بأبرهة» وصيفة (¬5) النَّجاشيِّ ملك «الحبشة». فحيَّتها بأدب وبشر، واستأذنت بالدُّخول عليها وقالت: ¬

(¬1) أزمعت: عزمت وقررت. (¬2) العدَّة: المدَّة المشروعة التي تقضيها المرأة بعد وفاة زوجها أو طلاقها منه. (¬3) الزمرديَّة: نسبة إلى الزمرُّد، وهو حجر كريم أخضر اللون. (¬4) مفضَّض السَّنا: أي سناه فضي اللون والسَّنا: الضوء. (¬5) وصيفة النجاشي: خادمته الخاصَّة.

إنَّ الملك يحيِّيك ويقول لك: إنَّ محمَّدًا رسول الله قد خطبك لنفسه ... وإنَّه بعث إليه كتابًا وكَّله فيه بأن يعقد له عليك ... فوكِّلي عنك من تشائين. **** استطارت (¬1) أمُّ حبيبة فرحاً، وهتفت: بشَّرك الله بالخير ... بشَّرك الله بالخير ... وطفقت تخلع ما عليها من الحليِّ؛ فنزعت سواريها، وأعطتهما لأبرهة ... ثمَّ ألحقتهما بخُلخالها (¬2) ... ثمَّ أتبعت ذلك بقُرطيها (¬3) وخواتيمها ... ولو كانت تملك كنوز الدُّنيا كلَّها لأعطتها لها في تلك اللَّحظة. ¬

(¬1) استطارت فرحاً: كادت تطير من شدَّة الفرح. (¬2) الخلخال: ضربٌ من الحلي تضعه المرأة في رجلها. (¬3) القرط: الحلق.

ثمَّ قالت لها: لقد وكَّلت عنِّي خالد بن سعيد بن العاص (¬1)، فهو أقرب النَّاس إليَّ. **** وفي قصر النَّجاشيِّ الرَّابض على رابيةٍ شجراء (¬2) مطلَّة على روضةٍ من رياض «الحبشة» النَّضرة. وفي أحد أبهائه (¬3) الفسيحة المزدانة بالنُّقوش الزَّاهية، المضاءة بالسُّرج (¬4) النُّحاسيَّة الوضَّاءة، المفروشة بفاخر الرِّياش ... اجتمع وجوه الصَّحابة المقيمين في «الحبشة»، وعلى رأسهم جعفر بن أبي طالبٍ، وخالد بن سعيد بن العاص، وعبد الله بن حذافة السَّهميُّ (¬5)، وغيرهم لشهدوا عقد أمِّ حبيبة بنت أبي سفيان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) خالد بن سعيد بن العاص: انظره في كتاب «صور من حياة الصحابة» للمؤلف، الناشر دار الأدب الإسلامي، الطبعة المشروعة. (¬2) رابية شجراء: رابية ذات شجر. (¬3) الأبهاء: جمع بهو، وهو القاعة الواسعة. (¬4) السرُّج: جمع سراج، وهو المصباح الذي يضاء بالزَّيت ونحوه. (¬5) انظرهم في كتاب «صور من حياة الصحابة» للمؤلف، الناشر دار الأدب الإسلامي، الطبعة المشروعة.

فلمَّا اجتمع الجمع، تصدَّر النَّجاشيُّ المجلس وخطبهم فقال: أحمد الله القدُّوس المؤمن العزيز الجبَّار (¬1)، وأشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمَّداً عبده ورسوله، وأنَّه هو الذي بشر به عيسي بن مريم. أمَّا بعد ... فإنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلب منِّي أن أزوِّجه أمَّ حبيبة بنت أبي سفيان، فأجبته إلى ما طلب، وأمهرتها نيابةً عنه أربعمائة دينارٍ ذهبًا ... على سنَّة الله ورسوله ... ثمَّ سكب الدَّنانير بين يدي خالد بن سعيدٍ بن العاص. وهنا قام خالدٌ فقال: الحمد لله أحمده وأستعينه، واستغفره، وأتوب إليه، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، أرسله بدين ¬

(¬1) القدوس، المؤمن، العزيز، الجبار: من أسماء الله الحسنى.

الهدى والحقِّ ليظهره (¬1) على الدِّين كلِّه ولو كره الكافرون. أمَّا بعد ... فقد أجبت طلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وزوَّجته موكِّلتي أمَّ حبيبة بنت أبي سفيان. فبارك الله لرسوله بزوجته ... وهنيئاً لأمِّ حبيبة بما كتب الله لها من الخير. ثمَّ حمل المال وهمَّ أن يمضي به إليها؛ فقام أصحابه لقيامه وهمُّوا بالانصراف أيضًا. فقال لهم النَّجاشيُّ: اجلسوا فإنَّ سنَّة الأنبياء إذا تزوَّجوا أن يُطعموا طعامًا. ودعا لهم بطعام فأكل القوم ثمَّ انفضُّوا (¬2). **** ¬

(¬1) ليظهره: ليجعله غالباً قوياً ظاهراً. (¬2) انفضوا: تفرَّقوا.

قالت أمُّ حبيبة: فلمَّا وصل المال إليَّ أرسلت إلى «أبرهة» التي بشَّرتني خمسين مثقالاً (¬1) من الذَّهب؛ وقلت: إنِّي كنت أعطيتك ما أعطيت حين بشَّرتني، ولم يكن عندي يومئذٍ مالٌ ... فما هو إلاَّ قليلٌ حتَّى جاءت «أبرهة» إليَّ وردَّت الذَّهب، وأخرجت حُقّاً (¬2) فيه الحليُّ الذي كنت أعطيتها إيَّاه فردَّته إليَّ أيضًا وقالت: إنَّ الملك قد عزم عليَّ ألاَّ آخذ منك شيئًا. وقد أمر نساءه أن يبعثن لك بكلِّ ما عندهن من الطِّيب. فلمَّا كان الغد جاءتني بورسٍ (¬3)، وعودٍ (¬4) وعنبرٍ، ثمَّ قالت لي: ¬

(¬1) المثقال: ما يوزن به الذهب ونحوه. (¬2) الحق: بضم الحاء وعاء الطيب. (¬3) الورس: نباتٌ أصفرٌ يُتَّخذ منه الزعفران. (¬4) العود: ضربٌ من الطيب يتبخَّر به.

إنَّ لي عندك حاجةً فقلت: وما هي؟!. فقالت: لقد أسلمت، واتَّبعت دين محمَّدٍ، فاقرئي على النَّبيِّ منِّي السَّلام وأعلميه أنِّي آمنت بالله ورسوله ولا تنسي ذلك ... ثمَّ جهَّزتني (¬1). **** ثمَّ إنِّي حملت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فلمَّا لقيته، أخبرته بما كان من أمر الخطبة، وما فعلته مع «أبرهة» وأقرأته منها السَّلام. فسرَّ بخبرها وقال: (وعليها السَّلام ورحمة الله وبركاته) (¬2). ... ¬

(¬1) جهَّزتني: أعدَّت لي جهازي. (¬2) (*) للاستزادة من أخبار رملة بنت أبي سفيان انظر: 1 - الإصابة: 4/ 305 «الترجمة»: 4/ 303. 2 - الاستيعاب: «على هامش الإصابة»: 4/ 303. 3 - أسد الغابة: 5/ 457. 4 - صفوة الصفوة: 2/ 22. 5 - المعارف لابن قتيبة: 3440،136. 6 - سير أعلام النبلاء. 7 - مرآة الجنان لليافعي. 8 - السيرة النبوية لابن هشام: «انظر الفهارس». 9 - تاريخ الطبري: «انظر الفهارس في العاشر». 10 - طبقات ابن سعد: «انظر الفهارس في الثامن». 11 - تهذيب التهذيب لابن حجر:12/ 419. 12 - حياة الصحابة: «انظر الفهارس». 13 - أعلام النساء لكحالة: 1/ 464.

الغميصاء بنت ملحان

الغُمَيصَاءُ بِنْتُ مِلْحَانَ المُكنَّاةُ بِأُمٍّ سُلَيمٍ «مَا سَمِعْنَا بِامْرَأَةٍ قَطُّ كَانَتْ أَكْرَمَ مَهْرًا مِنْ أُمٍّ سُلَيْمٍ؛ إِذْ كَانَ مَهْرُهَا الإِسْلاَمُ» [أَهْلُ المَدِينَةِ] كانت الغميصاء بنت ملحان- حين أهل الإسلام بنوره على الأرض - نصفًا تخطو نحو الأربعين من عمرها، وكان زوجها مالك بن النَّضر يسبغ عليها من وارف (¬1) حبِّه، وظليل وداده ما ملأ حياتها نضرةً (¬2) ورغدًا (¬3) وكان أهل «يثرب» يغبطون الزَّوج السَّعيد على ما تتحلَّى به عقيلته من رجاحة العقل، وبعد النَّظر، وحسن التَّبعُّل (¬4). **** ¬

(¬1) وارف حبِّه: ظلال حبِّه الممتدة. (¬2) النضرة: الرونق واللطف والبهجة والبهاء. (¬3) رغداً: الرغد العيش الواسع الطيب الذي لا تعب فيه. (¬4) التَّبعُّل: أداء حق الزوج بالطاعة والإحسان.

وفي ذات يومٍ من أيَّام الله الخالدة نفذ إلى «يثرب» - مع الدَّاعية المكِّيِّ مصعب بن عميرٍ (¬1) - أوَّل شعاعٍ من أشعَّة الهداية المحمَّديَّة، فتفتَّح له قلب الغميصاء كما تتفتَّح أزاهير الرِّياض لتباشير الصَّباح، فلمَّا لبثت أن أعلنت إسلامها يوم كان المسلمون- في المدينة- يعدُّون على الأصابع. ثمَّ دعت الزَّوجة الوفيَّة زوجها الأثير لينهل معها من هذا المنهل الإلهيِّ العذب الطَّهور، ويحظى بما حظيت به من سعادة الإيمان ... لكنَّ مالك بن النَّضر لم يشرح للدِّين الجديد صدرًا، ولا طاب به نفسًا، بل إنَّه دعا زوجه بالمقابل إلى الرُّجوع عن الإسلام والعودة إلى دين الآباء والأجداد وتشبَّث كلُّ من الزَّوجين بموقفه، فالغميصاء تكره أن تعود إلى الكفر بعد الإيمان كما يكره المرء أن يقذف في النَّار ... ¬

(¬1) مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف القرشي: أحد السابقين إلى الإسلام، وأوَّل المبشرين به خارج مكَّة، استشهد يوم «أحد».

ومالكٌ يتعصَّب لدين الآباء والأجداد في عنادٍ ... وكانت الغميصاء تملك من قوَّة الحجَّة ما تفحم (¬1) به زوجها، وكان في دعوتها من نور الحقِّ ما يفضح باطله الواهي (¬2) المتهافت (¬3) ... وكان لمالكٍ صنمٌ من خشبٍ يعبده من دون الله، فكانت تحاجُّه في أمره قائلةً: أتعبد جذع شجرةٍ نبت في الأرض التي تطؤها بقدميك، وترمي فيها فضلاتك؟! ... أتدعو- من دون الله- خشبةً نجرها لك حبشيُّ من صنَّاع المدينة؟!. ولمَّا ضاق الزَّوج ذرعاً بحجج زوجته الدَّامغة (¬4) غادر المدينة ومضى هائماً على وجهه متَّجهاً نحو بلاد ¬

(¬1) ما تُفحم: ما تسكت به زوجها من الدليل والبرهان. (¬2) الواهي: الضعيف الذي لا قوام له. (¬3) المتهافت: المتساقط المتداعي. (¬4) الدَّامغة: التي لا يجد الخصم عنها حولاً.

الشام، ثمَّ إنه لم يلبث هناك قليلًا حتَّى مات على شركه. **** وما إن شاع في المدينة خبر ترمُّل الغميصاء حتَّى تشوق كثيرٌ من الرِّجال إلى الإقتران بها، لولا أنَّهم كانوا يخشون أن تردَّهم خائبين لما بينها وبينهم من الاختلاف في الدِّين. غير أنَّ زيد بن سهلٍ (¬1) المكنى بأبي طلحة أطمعه في رضاها به ما كان بينهما من روابط القربى، فكلاهما من بني «النَّجَّار». **** مضى أبو طلحة إلى بيت الغميصاء وخاطبها بكنيتها قائلًا: يا أمَّ سليم، لقد جئتك خاطبًا، فأرجو ألاَّ أردَّ خائبًا. ¬

(¬1) زيد بن سهل: انظره في كتاب «صور من حياة الصحابة» للمؤلف، الناشر دار الأدب الإسلامي، الطبعة المشروعة.

فقالت: والله ما مثلك يردُّ يا أبا طلحة، ولكنَّك رجلٌ كافرٌ وأنا امرأةٌ مسلمةٌ، ولا يحل لي أن أتزوَّجك، فإن تسلم فذاك مهري ولا أريد منك صداقًا غير الإسلام. فقال: دعيني حتَّى أنظر في أمري. ومضى ... ولمَّا كان الغد عاد إليها وقال: أشهد أن لا إله إلاَّ الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله. فقالت: أما وإنَّك قد أسلمت، فقد رضيتك زوجاً ... فجعل النَّاس يقولون: ما سمعنا بامرأة قط كانت أكرم مهراً من أمٍّ سليم إذ كان مهرها الإسلام. **** نعم أبو طلحة بما كانت تتحلَّى به أمُّ سليمٍ من كريم الشَّمائل (¬1)، ونبيل الخصائل، ثمَّ زاده سعادةً بها أنَّها وضعت له غلامًا غدا قرَّة عينه، وفرحة قلبه. ¬

(¬1) كريم الشَّمائل: ذو خصال كريمة حميدة.

لكنَّه بينما كان يتأهَّب لسفرٍ من أسفاره اشتكى الطِّفل الصَّغير من علَّةٍ ألمَّت به، فجزع عليه جزعاً شديداً كاد يصرفه عن السَّفر. وفي غيبته القصيرة ذوى (¬1) الغصن النَّضير (¬2)، ثمَّ وُري الثَّرى (¬3)، فقالت أمُّ سليمٍ لأهلها: لا تخبروا أبا طلحة بموت ابنه حتَّى أخبره أنا. **** عاد أبو طلحة من رحلته فتلقَّته أمُّ سليمٍ هاشَّةً باشَّةً فرحةً مستبشرةً؛ فبادرها بالسُّؤال عن الصَّبيِّ فقالت: دعه فإنَّه الآن أسكن ما عرفته. ثمَّ قربت إليه العشاء، وجعلت تؤنسه وتدخل على قلبه السرور، فلمَّا وجدت أنَّه شبع واستراح قالت له: يا أبا طلحة أرأيت لو أن قوماً استرجعوا عاريةً (¬4) ¬

(¬1) ذوى: ذبل وضعف. (¬2) النَّضير: الحسن الجميل. (¬3) ووري الثرى: دفن في التراب. (¬4) عاريَّة: الشئ المستعار الذي يجب رده.

أعاروها لآخرين أفمن حقَّهم أن يخطوا عليهم أن يمنعوها منهم؟. قال: لا. قالت: إن الله استردَّ منك ما وهب، فاحتسب ولدك عنده ... فتلقى أبو طلحة قضاء الله بالرِّضا والتَّسليم. ولما أصبح غدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحدَّثه بما كان من أم سليمٍ، فدعا له ولها بأن يعوِّضهما الله خيرًا ممَّا فقداه، وأن يبارك لهما في العوض؛ فاستجاب الله جل وعز دعاء نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وحملت أمُّ سليمٍ، ولما أتمت حملها كانت عائدةً إلى المدينة من سفر هي وزوجها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فلمَّا دنوا من «يثرب» جاءها المخاض فتوقَّف أبو طلحة معها ومضى النَّبيِّ الكريم - صلى الله عليه وسلم - يريد دخول المدينة قبل أن يجنَّ عليه الليل، فرفع أبو طلحة طرفه إلى السَّماء وقال:

إنَّك لتعلم يا رب أنَّه يعجبني أن اخرج مع رسولك إذا خرج، وأن أدخل معه إذا دخل وقد منعني من ذلك ما ترى. فقالت له أمُّ سليمٍ: يا أبا طلحة إني - والله - لا أجد من ألم المخاض بهذا المولود ما كنت أجده من قبل، فانطلق بنا ولا تتأخَّر عن صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فانطلقا حتَّى إذا بلغا المدينة وضعت حملها، فإذا هو غلامٌ، فقالت لمن حولها: لا يرضعه أحد قبل أن تذهبوا به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فلمَّا أصبح حمله إليه أخوه أنس بن مالكٍ (¬1)، فلمَّا رآه النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مقبلًا قال: (لعل أمَّ سليمٍ ولدت). فقال: نعم يا رسول الله ... ووضع الغلام في ¬

(¬1) أنس بن مالك: انظره في كتاب «صور من حياة الصحابة» للمؤلف، الناشر دار الأدب الإسلامي، الطبعة المشروعة.

حجره، فدعا بعجوةٍ من عجو المدينة ولاكها في فمه الشَّريف حتَّى ذابت، ووضعها في فم الصَّبيِّ، فجعل يتلمظها (¬1)، ثمَّ مسح وجهه بيده الكريمة، وسمَّاه عبد الله، فجاء من صلبة عشرةٌ من علماء الإسلام الأخيار. **** ولقد كان من شأن أمِّ سليمٍ أنها أحبَّت رسول الله صلوات الله وسلامه عليه حبًا خالط منها اللَّحم والعظم، وسكن في حبَّة القلب. وقد بلغ من حبِّها له ما حدَّث عنه ابنها أنسٌ قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نائماً في بيتنا ذات نهارٍ؛ وكان الحرُّ شديدًا، فأخذ العرق يتصبَّب من جبينه، فجاءت أمِّي بقارورةٍ، وجعلت تُسلت فيها العرق فاستيقظ النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام وقال: (ما هذا الذي تصنعين يا أمَّ سليمٍ؟!). ¬

(¬1) يتلمظُّها: أي يتتبع بلسانه بقيتها ويمسح به شفتيه.

قالت: هذا عرقك أجمعه وأجعله في طيبنا، فيغدو أطيب الطِّيب. ومن شواهد حبِّها لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه وهي كثيرةٌ وفيرةٌ، أن ابنها أنساً كانت له ذؤابةٌ (¬1) تنوس (¬2) على جبينه، فرغب إليها زوجها أن تقصَّها له بعد أن طالت فأبت ذلك؛ لأنَّ النَّبيَّ صلوات الله وسلامه عليه كان كلَّما أقبل عليه أنسٌ مسح رأسه بيده ومسَّ ذؤابته المدلاَّة على جبينه. **** ولم تقتصر خصائل أمِّ سليم على أنَّها كانت مؤمنةً راسخة الإيمان، عاقلةً وافرة العقل، زوجاً وأماً من الطراز الأول ... وإنما كانت فوق ذلك كلِّه مجاهدة في سبيل الله. ¬

(¬1) الذؤابة: خصلة من الشعر في مقدمة الرأس. (¬2) تنوس: تتمايل.

فلكم ملأت رئتيها من غبار المعارك العبق (¬1) بطيوب الجنَّة!!. وخضَّبت (¬2) أناملها من جراح المجاهدين، وهي تمسحها بيديها وتحكم عليها الضِّماد (¬3). ولكم سكبت الماء في حلوق العطاش وهم يجودون بنفوسهم في سبيل الله ... وحملت لهم الزَّاد ... وأصلحت السِّهام. لقد شهدت «أُحُدًا» هي وزوجها أبو طلحة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودأبت هي وعائشة رضوان الله عليهما على نقل قرب الماء على ظهريهما وإفراغها في أفواه القوم. كما شهدت «حنيناً» أيضًا، وقد اتخذت لنفسها ¬

(¬1) العبق: المضمخ بالطيب. (¬2) خضَّبت: لونت، والخضاب: هو الحناء. (¬3) الضِّماد: ما يربط به الجرح.

يومذاك خنجرًا وتمنطقت به، فلمَّا رآه زوجها أبو طلحة قال: يا رسول الله، هذه أمُّ سليم معها خنجرٌ. فقال لها النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام: (ما هذا يا أمَّ سليمٍ؟!). قالت: خنجرٌ اتَّخذته حتَّى إذا دنا منِّي أحدٌ من المشركين بقرت (¬1) به بطنه ... فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك سرورًا بما قالت. **** وبعد ... أفتظنُّ أن على ظهر الأرض امرأةً أسعد سعادةً وأزهى خاتمةً من أمِّ سليمٍ بعد أن قال فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (دخلت الجنَّة فسمعت فيها خشفةً (¬2) ... فقلت: من هذا؟!. ¬

(¬1) بقرتُ بطنه: شقت بطنه. (¬2) خشفة: حركة مشيٍ.

قالوا: الغميصاء بنت ملحان أمُّ أنس بن مالكٍ) (¬1). ... ¬

(¬1) (*) للاستزادة من أخبار الغميصاء بنت ملحان انظر: 1 - الطبقات الكبرى1/ 467، 407و2/ 116و3/ 515و7/ 19و8/ 174، 121، 104، 8. 2 - تاريخ الطبري: 2/ 76،21 «وانظر الفهارس في العاشر». 3 - حياة الصحابة: «انظر الفهارس في الرابع». 4 - السيرة لابن هشام: 2/ 354 - 4/ 88. 5 - سير أعلام النبلاء: 2/ 304 - 311. 6 - المعارف لابن قتيبة: 308،371. 7 - أعلام النساء لكحالة: 2/ 256. 8 - تهذيب التهذيب: 12/ 471. 9 - الإصابة: 4/ 461 «الترجمة» 1321. 10 - الاستيعاب «على هامش الإصابة»: 4/ 455. 11 - حلية إلآَّولياء: 2/ 57. 12 - صفة الصفوة: 2/ 65. 13 - أسد الغابة: 7/ 212. 14 - المحبر: 428.

أم سلمة

أُمُّ سَلَمَةَ أَيِّمُ العَرَبِ «لَمْ تَبْقَ هِنْدٌ المَخزُومِيَّةُ أُماً لِسَلَمَةَ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا غَدَتْ أُماً لِجَمِيعِ المُؤمِنِينَ» أمُّ سلمة، وما أدراك ما أمُّ سلمة؟!. أما أبوها فسيِّدٌ من سادات «مخزومٍ» المرموقين، وجوادٌ من أجواد العرب المعدودين، حتَّى إنَّه كان يقال له: «زاد الرَّاكب» (¬1)، لأن الرُّكبان كانت لا تتزوَّد إذا قصدت منازلة أو سارت في صحبته. وأمَّا زوجها فعبد الله بن عبد الأسد أحد العشرة السَّابقين إلى الإسلام؛ إذ لم يسلم قبله إلاَّ أبو بكرٍ الصِّدِّيق ونفرٌ قليلٌ لا يبلغ أصابع اليدين عددًا. ¬

(¬1) هو أبو أمية بن المغيرة القرشي.

وأمَّا اسمها فهند، لكنها كنيت بأمُّ سلمة، ثمَّ غلبت عليها الكنية. **** أسلمت أمُّ سلمة مع زوجها فكانت هي الأخرى من السَّابقات إلى الإسلام أيضًا. وما إن شاع نبأ إسلام أمِّ سلمة وزوجها حتَّى هاجت قريشٌ وماجت وجعلت تصبُّ عليهما من نكالها (¬1) ما يزلزل الصُّمَّ الصِّلاب (¬2)، فلم يضعفا ولم يَهِنا ولم يتردَّدا. ولمَّا اشتد عليهما الأذى وأذِن الرَّسول صلوات الله عليه لأصحابه بالهجرة إلى «الحبشة» كانا في طليعة المهاجرين. **** مضت أمُّ سلمة وزوجها إلى ديار الغربة وخلَّفت وراءها في مكَّة بيتها الباذخ (¬3) وعزَّها الشامخ، ونسبها ¬

(¬1) النكال: الأذى الشديد الذي يجعل المصاب به عبره لغيره. (¬2) الصم الصِّلاب: الصخور القاسية. (¬3) الباذخ: العالي الرفيع.

العريق، محتسبةً (¬1) ذلك كلَّه عند الله، مستقلةً له في جنب مرضاته. وعلى الرَّغم مما لقيته أمُّ سلمة وصحبها من حماية النَّجاشيِّ (¬2) نضَّر الله في الجنَّة وجهه، فقد كان الشَّوق إلى مكَّة مهبط الوحي، والحنين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصدر الهدى يفري كبدها وكبد زوجها فريًا. ثمَّ تتابعت الأخبار على المهاجرين إلى أرض «الحبشة» بأن المسلمين في مكَّة قد كثر عددهم، وأنَّ إسلام حمزة بن عبد المطَّلب، وعمر بن الخطَّاب قد شدَّ من أزرهم (¬3)، وكفَّ شيئاً من أذى قريش عنهم، فعزم فريق منهم على العودة إلى مكَّة، يحدوهم (¬4) الشَّوق ويدعوهم الحنين ... ¬

(¬1) محتسبة: طالبة الجزاء من الله. (¬2) النجاشي: ملك الحبشة انظره في كتاب «صور من حياة التابعين» للمؤلف، الناشر دار الأدب الإسلامي. (¬3) شدَّ أزرهم: قوَّاهم. (¬4) يحدوهم الشوق: يسوقهم الشوق.

فكانت أمُّ سلمة وزوجها في طليعة العائدين. **** لكن سرعان ما اكتشف العائدون أن ما نمي إليهم من أخبار كان مبالغاً فيه، وأنَّ الوثبة التي وثبها المسلمون بعد إسلام حمزة وعمر، قد قوبلت من قريش بهجمةٍ أكبر. فافتنَّ المشركون في تعذيب المسلمين وترويعهم، وأذاقوهم من بأسهم ما لا عهد لهم به من قبل. عند ذلك أَذِن الرَّسول صلوات الله وسلامه عليه لأصحابه بالهجرة إلى المدينة، فعزمت أمُّ سلمة وزوجها على أن يكونا أوَّل المهاجرين فرارًا بدينهما وتخلُّصًا من أذى قريشٍ. لكنَّ هجرة أمِّ سلمة وزوجها لم تكن سهلةً ميسرةً كما خيِّل لهما، وإنما كانت شاقةً مرَّةً خلَّفت وراءها مأساةً تهون دونها كلُّ مأساةٍ. فلنترك الكلام لأمِّ سلمة لتروي لنا قصَّة مأساتها ...

فشعورها بها أشدُّ وأعمق، وتصويرها لها أدقُّ وأبلغ. قالت أمُّ سلمة: لما عزم أبو سلمة على الخروج إلى المدينة أعدَّ لي بعيراً، ثمَّ حملني عليه، وجعل طفلنا سلمة في حجري، ومضى يقود بنا البعير وهو لا يلوي (¬1) على شيءٍ. وقبل أن نفصل (¬2) عن مكَّة؛ رآنا رجالٌ من قومي بني «مخزوم» فتصدَّوا لنا وقالوا لأبي سلمة: إن كنت قد غلبتنا على نفسك، فما بال امرأتك هذه؟! ... وهي بنتنا، فعلام نتركك تأخذها منَّا وتسير بها في البلاد؟!. ثمَّ وثبوا عليه، وانتزعوني منه انتزاعًا. ¬

(¬1) لا يلوي على شئ: لا يقف عند شئ ولا ينتظر. (¬2) قبل أن نفصل عن مكَّة: قبل أن نخرج منها.

وما إن رآهم قوم زوجي بنو «عبد الأسد» يأخذونني أنا وطفلي، حتَّى غضبوا أشدَّ الغضب وقالوا: لا والله لا نترك الولد عند صاحبتكم بعد أن انتزعتموها من صاحبنا انتزاعًا ... فهو ابننا ونحن أولى به. ثمَّ طفقوا يتجاذبون طفلي سلمة بينهم على مشهدٍ مني حتَّى خلعوا يده وأخذوه. وفي لحظات وجدت نفسي ممزقة الشمل وحيدةً فريدةً: فزوجي اتَّجه إلى المدينة فرارًا بدينه ونفسه ... وولدي اختطفه بنو «عبد الأسد» من بين يديَّ محطَّماً مهيضًا (¬1) ... أمَّا أنا فقد استولى عليَّ قومي بنو «مخزوم»، وجعلوني عندهم ... ¬

(¬1) مهيضاً: ممزَّقاً مكسراً.

ففرِّق بيني وبين زوجي وبين ابني في ساعةٍ. ومنذ ذلك اليوم جعلت أخرج كلَّ غادة إلى الأبطح، فأجلس في المكان الذي شهد مأساتي، وأستعيد صورة اللَّحظات التي حيل فيها بيني وبين وولدي وزوجي، وأظلُّ أبكي حتَّى يخيِّم عليَّ اللَّيل. وبقيت على ذلك سنةً أو قريبًا من سنةٍ إلى أن مرَّ بي رجلٌ من بني عمي فرقَّ لحالي ورحمني وقال لبني قومي: ألآ تطلقون هذه المسكينة!! فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها. وما زال بهم يستلين قلوبهم ويستدرُّ عطفهم حتَّى قالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت. ولكن كيف لي أن ألحق بزوجي في المدينة وأترك ولدي وفلذة (¬1) كبدي في مكَّة عند بني «عبد الأسد»؟!. ¬

(¬1) فلذة كبدي: قطعة كبدي.

كيف يمكن أن تهدأ لي لوعةٌ أو ترقأ لعيني عبرةٌ (¬1) وأنا في دار الهجرة وولدي الصَّغير في مكَّة لا أعرف عنه شيئًا؟!!. ورأى بعض النَّاس ما أعالج (¬2) من أحزاني وأشجاني فرقَّت قلوبهم لحالي، وكلَّموا بني «عبد الأسد» في شأني (¬3) واستعطفوهم عليَّ ... فردُّوا لي ولدي سلمة. **** لم أشأ أن أتريَّث في مكَّة حتَّى أجد من أسافر معه، فقد كنت أخشى أن يحدث ما ليس بالحسبان فيعوقني عن اللَّحاق بزوجي عائقٌ ... لذلك بادرت فأعددت بعيري، ووضعت ولدي في حجري، وخرجت متوجهةً نحو المدينة أريد زوجي، وما معي أحدٌ من خلق الله. ¬

(¬1) ترقا لعيني: تجف لعيني دمعة. (¬2) أعالج: أعاني. (¬3) في شأني: في أمري.

وما إن بلغت «التَّنعيم» (¬1) حتَّى لقيت عثمان بن طلحة (¬2) فقال: إلى أين يا بنت «زاد الرَّاكب»؟!. فقلت: أريد زوجي في المدينة. قال: أو ما معك أحدٌ؟!. قلت: لا والله إلاَّ الله ثمَّ بنيَّ هذا. قال: والله لا أتركك أبدًا حتَّى تبلغي المدينة. ثمَّ أخذ بخطام (¬3) بعيري، وانطلق يهوي بي ... فوالله ما صحبت رجلًا من العرب قطُّ أكرم منه ولا أشرف، كان إذا بلغ منزلًا من المنازل ينيخ بعيري، ثمَّ يستأخر عنِّي، حتَّى إذا نزلت عن ظهره واستويت على ¬

(¬1) التنعيم: مكان على ثلاثة أميال من مكَّة. (¬2) عثمان بن طلحة: كان حاجب بيت الله في الجاهلية، أسلم مع خالد ابن الوليد وشهد فتح مكَّة، فدفع إليه الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام مفتاح الكعبة وكان يوم رافق أم سلمة مشركاً. (¬3) الخِطام: حبلٌ يجعل في عنق البعير ليقاد به.

الأرض دنا إليه وحطَّ عنه رحله، واقتاده إلى شجرة وقيَّده فيها. ثمَّ يتنحى عنِّي إلى شجرة أخرى فيضطجع في ظلِّها. فإذا حان الرَّواح إلى بعيري فأعدَّه، وقدَّمه إليَّ، ثمَّ يستأخر عنِّي ويقول: اركبي ... فإذا ركبت، واستويت على البعير، أتى فأخذ بخطامه وقاده. **** وما زال يصنع بي مثل ذلك كلَّ يوم حتَّى بلغنا المدينة، فلمَّا نظر إلى قريةٍ «بقباء» (¬1) لبني عمرو بن عوفٍ قال: زوجك في هذه القرية، فادخليها على بركة الله، ثمَّ انصرف راجعًا إلى مكَّة. **** اجتمع الشَّمل الشَّتيت (¬2) بعد طول افتراقٍ، وقرَّت ¬

(¬1) قُباء: قرية في ضواحي المدينة تبعد عنها ميلين، وفيها مسجد قباء أوَّل مسجد أسس على التقوى. (¬2) الشَّتيت: المفرَّق.

عين أمُّ سلمة بزوجها، وسَعِدَ أبو سلمة بصاحبته وولده ... ثمَّ طفقت الأحداث تمضي سراعًا كلمح البصر. فهذه «بدرٌ» يشهدها أبو سلمة ويعود منها مع المسلمين، وقد انتصروا نصرًا مؤزرًا (¬1). وهذه «أُحُدٌ» يخوض غمارها بعد «بدرٍ»، ويُبلي فيها أحسن البلاء وأكرمه، لكنَّه يخرج منها وقد جرح جُرحًا بليغًا، فما زال يعالجه حتَّى بدا له أنَّه قد اندمل (¬2)، لكنَّ الجرح كان قد رُمَّ على فسادٍ (¬3) فما لبث أن انتكأ (¬4) وألزم أبا سلمة الفراش. وفيما كان أبو سلمة يعالج من جرحه قال لزوجه: يا أم سلمة، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا تصيب أحدًا مصيبة، فيسترجع (¬5) عند ذلك ويقول: ¬

(¬1) مؤزراً: قوياً مبيناً. (¬2) اندمل: تماثل للشفاء. (¬3) رم الجرح على فساد: يعني صلح في الظاهر وهو فاسد في الحقيقة. (¬4) انتكأ: انفتح. (¬5) يسترجع: يقول إنَّا لله وإنا إليه راجعون.

اللَّهمَّ عندك احتسبت مصيبتي هذه ... اللَّهمَّ أخلفني خيرًا منها، إلاَّ أعطاه الله عزَّ وجلَّ ...). ظلَّ أبو سلمة على فراش مرضه أيَّاماً ... وفي ذات صباح جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليعوده، فلم يكد ينتهي من زيارته ويجاوز باب داره، حتَّى فارق أبو سلمة الحياة. فأغمض النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام بيديه الشريفتين عيني صاحبه، ورفع طرفه إلى السَّماء وقال: (اللَّهمَّ اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المقرَّبين ... . واخلفه في عقبه (¬1) في الغابرين. واغفر لنا وله يا ربَّ العالمين ... وأفسح له في قبره، ونوِّر له فيه). ¬

(¬1) اخلفه في عقبه: كن عوضاً عنه لأولاده وأهله.

أمَّا أمُّ سلمة فتذكرت ما رواه لها أبو سلمة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: اللَّهمَّ عندك أحتسب مصيبتي هذه ... لكنَّها لم تطب نفسها أن تقول: اللَّهمَّ أخلفني (¬1) فيها خيرًا منها؛ لأنَّها كانت تتساءل: ومن عساه أن يكون خيرًا لي من أبي سلمة؟!. لكنَّها ما لبثت أن أتمَّت الدعاء ... **** حزن المسلمون لمصاب أم سلمة كما لم يحزنوا لمصاب أحدٍ من قبل ... وأطلقوا عليها اسم «أيم (¬2) العرب» ... إذ لم يكن لها في المدينة أحد من ذويها غير صبية صغار كزغب القطا (¬3). **** ¬

(¬1) اخلفني فيها خيراً منها: عوضني عنها ما هو خير منها. (¬2) الأيِّم: المرأة التي فقدت زوجها. (¬3) كزغب القطا: كفراخ القطا التي لم ينبت ريشها، والقطا: نوع من اليمام يؤثر في الصحراء مفرده قطاة.

شعر المهاجرون والأنصار معاً بحقِّ أم سلمة عليهم، فما كادت تنتهي من حداداها على أبي سلمة حتَّى تقدم منها أبو بكرٍ الصِّدِّيق يخطبها لنفسه، فأبت أن تستجيب لطلبه ... ثمَّ تقَّدم منها عمر بن الخطَّاب؛ فردَّته كما ردَّت صاحبه ... ثمَّ تقدَّم منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت له: يا رسول الله، إنَّ فيَّ خِلالاً (¬1) ثلاثًا: فأنا امرأةٌ شديدة الغيرة فأخاف أن ترى منِّي شيئًا يغضبك فيعذِّبني الله به. وأنا امرأةٌ قد دخلت في السِّنِّ (¬2). وأنا امرأةٌ ذات عيالٍ. فقال عليه الصَّلاة والسَّلام: وأمَّا ما ذكرت من غيرتك فإنِّي أدعو الله عزَّ وجلَّ أن يذهبها عنك. ¬

(¬1) خلالاً: صفات. (¬2) دخلت في السن: جاوزت سنَّ الزواج.

وأمَّا ذكرت من السِّنِّ فقد أصابني مثل الذي أصابك ... وأمَّا ما ذكرت من العيال، فإنَّما عيالك عيالي). ثمَّ تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أمِّ سلمة؛ فاستجاب الله دعاءها، وأخلفها خيرًا من أبي سلمة. ومنذ ذلك اليوم لم تبق هند المخزوميَّة أُماً لسلمة وحده؛ وإنما غدت أُماً لجميع المؤمنين. نضَّر الله وجه أمِّ سلمة في الجنَّة ورضي عنها وأرضاها (¬1). ¬

(¬1) للاستزادة من أخبار أمِّ المؤمنين امِّ سلمة رضي الله عنها انظر: 1 - الإصابة: 4/ 458 «الترجمة» 1309. 2 - الاستيعاب «على هامش الإصابة»: 4/ 454. 3 - تهذيب التهذيب: 12/ 455 - 465. 4 - تاريخ الإسلام للذهبي: 3/ 97 - 98. 5 - البداية والنهاية: 8/ 214 - 215. 6 - صفة الصفوة: 2/ 20 - 21. 7 - شذرات الذهب: 1/ 69 - 70. 8 - أسد الغابة: 2/ 588 - 589. 9 - تقريب التهذيب: 2/ 627. 10 - الأعلام مراجعه: 9/ 104. 11 - ابن كثير: 4/ 91.

§1/1