صلاة المؤمن

سعيد بن وهف القحطاني

2 - صلاة المؤمن في ضوء الكتاب والسنة ح مركز الدعوة والإرشاد بالقصب، 1431هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر. القحطاني، سعيد بن علي بن وهف أركان الإسلام./ سعيد بن علي بن وهف القحطاني - القصب، 1431هـ 5 مج. ردمك: 5 - 0 - 90179 - 603 - 978 (مجموعة) 9 - 2 - 90179 - 603 - 978 (ج2) (خمسة أجزاء في صندوق واحد) 1 - الإسلام 2 - العبادات (فقه إسلامي) 3 - التربية الإسلامية. أ. العنوان ديوي 252 ... 4396/ 1431 رقم الإيداع: 4396/ 1431 ردمك: 5 - 0 - 90179 - 603 - 978 (مجموعة) 9 - 2 - 90179 - 603 - 978 (ج2) الطبعة الثانية: 1424هـ- 2004م الطبعة الثالثة: صفر 1431هـ- يناير 2010م الطبعة الرابعة: شوال 1431هـ- 2010م حقوق الطبع محفوظة إلا لمن أراد طبعه، وتوزيعه مجاناً، بدون حذف، أو إضافة، أو تغيير، فله ذلك، وجزاه الله خيراً .. بشرط أن يكتب على الغلاف الخارجي وقف لله تعالى

المقدمة

بسم الله الرحمن ... الرحيم المقدمة إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فهذه رسالة مختصرة في الصلاة: قرة عين النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((حبب إليَّ النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة)) (¬1) بينت فيها بإيجاز: كل ما يحتاجه المؤمن في صلاته، وقرنت ذلك بالأدلة من الكتاب والسنة، فما كان من صواب فمن الله الواحد المنّان، وما كان من خطأ أو تقصير فمني ومن الشيطان، والله بريء منه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وقد استفدت كثيراً من تقريرات وترجيحات شيخنا الإمام العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز، قدّس الله روحه ونور ضريحه ورفع منزلته في الفردوس الأعلى. وقد قسمت البحث إلى أربعة وثلاثين مبحثاً على النحو الآتي: المبحث الأول: مفهوم الطهارة وأنواعها. المبحث الثاني: أنواع النجاسات ووجوب تطهيرها أو زوالها. المبحث الثالث: سنن الفطرة وأنواعها. ¬

(¬1) النسائي، كتاب عشرة النساء، باب حب النساء، برقم 3940، وأحمد في المسند، 3/ 128، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 3/ 827. (¬2) اقتداء بما قاله عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أخرجه أبو داود في كتاب النكاح، باب فيمن تزوج ولم يسمّ صداقاً حتى مات، برقم 2116، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 397، وانظر: الروح لابن القيم، ص 30.

المبحث الرابع: آداب قضاء الحاجة. المبحث الخامس: الوضوء. المبحث السادس: المسح على الخفين والعمائم والجبيرة. المبحث السابع: الغسل. المبحث الثامن: التيمم. المبحث التاسع: الحيض والنفاس والاستحاضة والسلس. المبحث العاشر: مفهوم الصلاة. المبحث الحادي عشر: حكم الصلاة. المبحث الثاني عشر: منزلة الصلاة في الإسلام. المبحث الثالث عشر: خصائص الصلاة في الإسلام. المبحث الرابع عشر: حكم تارك الصلاة. المبحث الخامس عشر: فضل الصلاة. المبحث السادس عشر: الأذان والإقامة. المبحث السابع عشر: شروط الصلاة. المبحث الثامن عشر: صفة الصلاة. المبحث التاسع عشر: أركان الصلاة وواجباتها وسننها. المبحث العشرون: مكروهات الصلاة ومبطلاتها. المبحث الحادي والعشرون: الخشوع في الصلاة. المبحث الثاني والعشرون: سجود السهو. المبحث الثالث والعشرون: صلاة التطوع. المبحث الرابع والعشرون: صلاة الجماعة. المبحث الخامس والعشرون: مكان صلاة الجماعة: المساجد. المبحث السادس والعشرون: الإمامة في الصلاة. المبحث السابع والعشرون: صلاة المريض. المبحث الثامن والعشرون: صلاة المسافر. المبحث التاسع والعشرون: صلاة الخوف. المبحث الثلاثون: صلاة الجمعة. المبحث الحادي والثلاثون: صلاة العيدين. المبحث الثاني والثلاثون: صلاة الكسوف.

المبحث الثالث والثلاثون: صلاة الاستسقاء. المبحث الرابع والثلاثون: صلاة الجنائز وةأحكامها. وأسأل الله العظيم أن يجعل هذا العمل القليل مباركاً خالصاً لوجهه الكريم، مقرباً لمؤلفه، وقارئه، وطابعه، وناشره من جنات النعيم، وأن ينفعني به في حياتي وبعد مماتي، وأن ينفع به كل من انتهى إليه، إنه خير مسؤول، وأكرم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. المؤلف حرر في ضحى يوم الجمعة 14/ 8/1421هـ

المبحث الأول: تعريف الطهارة وأنواعها

المبحث الأول: تعريف الطهارة وأنواعها أولاً: مفهوم الطهارة: 1 - الطهارة لغة: النظافة والنزاهة عن الأقذار الحسية والمعنوية. 2 - شرعاً: ارتفاع الحدث بالماء أو التراب الطهورين المباحين، وزوال النجاسة والخبث، فالطهارة هي زوال الوصف القائم بالبدن المانع من الصلاة ونحوها (¬1). ثانياً: الطهارة نوعان: معنوية وحسية: النوع الأول: الطهارة الباطنة المعنوية، وهي: الطهارة من الشرك والمعاصي، وتكون بالتوحيد والأعمال الصالحة، وهي أهم من طهارة البدن، بل لا يمكن أن تقوم طهارة البدن مع وجود نجس الشرك {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (¬2)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن المؤمن لا ينجس)) (¬3)، فيجب على كل مُكلَّفٍ أن يُطَهّرَ قلبه من نجاسة الشّرك، والشَّكّ، وذلك بالإخلاص والتوحيد، واليقين. ويُطَهّر نفسه وقلبه من أقذار المعاصي، وآثار الحسد، والحقد، والغلّ، والغِشّ، والكبر، والعجب، والرّياء والسُّمعة ... وذلك بالتوبة الصادقة من جميع الذنوب والمعاصي. وهذه الطهارة هي شطر الإيمان والشطر الثاني هي الطهارة الحسية. النوع الثاني: الطهارة الحسية: وهي الطهارة من الأحداث والأنجاس، وهذا هو شطر الإيمان الثاني، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الطهور شطر الإيمان)) (¬4). ¬

(¬1) انظر: المغني لابن قدامة، 1/ 12،وتوضيح الأحكام من بلوغ المرام لعبد الله البسام، 1/ 87. (¬2) سورة التوبة، الآية: 28. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب الغسل، باب عرق الجنب وأن المسلم لا ينجس، برقم 283، ومسلم في كتاب الحيض، باب الدليل على أن المسلم لا ينجس، برقم 371 من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬4) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، برقم 223.

ثالثا: تكون الطهارة بطهورين:

وتكون بما شرع الله من الوضوء، والغسل، أو التيمم عند فقد الماء. وزوال النجاسة أو إزالتها من اللّباس، والبدن، ومكان الصلاة (¬1). ثالثاً: تكون الطهارة بطهورين: الأول: الطهارة بالماء، وهي الأصل، فكلُّ ماءٍ نزل من السماء، أو خرج من الأرض وهو باقٍ على أصل خلقته فهو طهور، يُطهّر من الأحداث والأخباث، ولو تغير طعمه، أو لونه، أو ريحه بشيء طاهر، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الماء طَهورٌ لا ينجّسُهُ شيء)) (¬2)، ومن ذلك: ماء المطر، ومياه العيون، والآبار، والأنهار، والأودية، والثلوج الذائبة، والبحار، قال - صلى الله عليه وسلم - في ماء البحر: ((هو الطّهور ماؤه الحِلُّ ميتته)) (¬3). أما ماء زمزم فقد ثبت من حديث علي - رضي الله عنه -: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا بسجلٍ من زمزم فشرب منه وتوضأ)) (¬4)، فإن تغير: لون الماء، أو طعمه، أو ريحه بنجاسة فهو نجس بالإجماع يجب اجتنابه (¬5). ¬

(¬1) انظر: الشرح الممتع على زاد المستقنع لابن عثيمين،1/ 19،ومنهاج المسلم لأبي بكر الجزائري، ص170، وشرح عمدة الأحكام للمقدسي لسماحة العلامة ابن باز ص2 مخطوط في مكتبتي الخاصة. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب ما جاء في بئر بضاعة، برقم 67، والترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء أن الماء لا ينجسه شيء، برقم 66، والنسائي في كتاب المياه، باب ذكر بئر بضاعة، برقم 325، وصححه أحمد، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 16. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر، برقم 83، والترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور، برقم 69، والنسائي في كتاب المياه، باب الوضوء بماء البحر، برقم 331، وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب الوضوء بماء البحر، برقم 386. وقال الترمذي: ((هذا حديث حسن صحيح))، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 19، وسلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 480. (¬4) أخرجه الإمام أحمد في ((زوائد المسند)) 1/ 76، وحسنه الألباني في إرواء الغليل، 1/ 45، برقم 13، وتمام المنة، ص 46. (¬5) انظر فتاوى ابن تيمية، 21/ 30، وسبل السلام شرح بلوغ المرام للصنعاني، 1/ 22.

الثاني: الطهارة بالصعيد الطاهر

الثاني: الطهارة بالصعيد الطاهر، وهو بدل عن الطهارة بالماء، إذا تعذر استعمال الماء لأعضاء الطهارة، أو بعضها لعدمه، أو خوف ضرر باستعماله فيقوم التراب الطاهر مقام الماء (¬1). ¬

(¬1) انظر: منهاج السالكين وتوضيح الفقه في الدين للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ص 13.

المبحث الثاني: أنواع النجاسات ووجوب تطهيرها أو زوالها

المبحث الثاني: أنواع النجاسات ووجوب تطهيرها أو زوالها النجاسة: هي القذارة التي يجب على المسلم أن يتنزَّه عنها ويغسل ما أصابه منها، قال الله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ} (¬1)، وقال سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهّرِينَ} (¬2)، ومن هذه النجاسات ما يأتي: أولاً: بول الآدمي وغائطه، ويكون تطهيره بالغسل والإزالة على النحو الآتي: 1 - تطهير بول الغلام والجارية .. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بول الغلام يُنضَح (¬3) وبول الجارية يُغْسَل)) (¬4) وهذا ((ما لم يطعما، فإن طعما غُسِلا جميعاً)) (¬5). 2 - تطهير النعل يكون بالدَّلك في الأرض؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وَطِئَ أحدكم بنعليه الأذى؛ فإن التراب له طهور)) (¬6). 3 - تطهير ذيل ثوب المرأة: يُطَهّرُهُ التراب، فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ¬

(¬1) سورة المدثر، الآية: 4. (¬2) سورة البقرة، الآية: 222. (¬3) النضح: هو البل بالماء والرش. فبول الغلام الذي لم يطعم ولم يأكل يكفي فيه أن يرش فيُتبع بالماء دون فرك ولا عصر حتى يشمله كله. انظر: النهاية في غريب الحديث، 5/ 69، والقاموس المحيط، ص313، والمصباح المنير، 2/ 609، والشرح الممتع، 1/ 372. (¬4) أخرجه أحمد في المسند، 1/ 76، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب بول الصبي يصيب الثوب، برقم 610، والترمذي في كتاب الجمعة، باب ما ذكر في نضح بول الغلام الرضيع، برقم 610، وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في بول الصبي الذي لم يطعم، برقم 525. وصححه الألباني في إرواء الغليل، 1/ 188، برقم 166. (¬5) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب بول الصبي يصيب الثوب، برقم 378، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 76، برقم 364، وأصل نضح بول الغلام الصغير الذي لم يأكل الطعام. متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب بول الصبيان، برقم 223، ومسلم في كتاب الطهارة، باب حكم بول الطفل الرضيع وكيفية غسله، برقم 287 من حديث أم قيس بنت محصن. (¬6) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الأذى يصيب النعل، برقم 385، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 77، برقم 371.

4 - تطهير الأرض والفراش

المرأة إذا مشت في الطريق القذر، وبعده مكان طاهر أطيب منه، فإن ذيل ثوبها يطهر بذلك؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ((يطهره ما بعده)) (¬1). 4 - تطهير الأرض والفراش، إذا أصاب البول أو الغائط الأرض أو الفراش، فإن الغائط يزال ويصب مكانه ماء، أما البول فيكاثر بالماء؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في الأعرابي الذي بال في المسجد: ((دعوه وأهريقوا على بوله سجلاً من ماء أو ذنوبًا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)) (¬2)، وتزال آثار الغائط والبول بالاستنجاء أو الاستجمار كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ثانياً: دم الحيض، يُطهر بالدَّلْك والغسل، قال - صلى الله عليه وسلم - في دم الحيض يصيب الثوب: ((تَحتُّهُ، ثم تَقْرُصُه بالماء، ثم تَنْضَحُهُ، ثم تُصلي فيه)) (¬3). ثالثاً: ولوغ الكلب في الإناء (¬4)، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الأذى يصيب الذيل، برقم 383، والترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في الوضوء من الموطَئ، برقم 143. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب صب الماء على البول في المسجد، برقم 220، ومسلم في كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد، برقم 284. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب غسل الدم، برقم 227، ومسلم في كتاب الطهارة، باب نجاسة الدم وكيفية غسله، برقم 291. (¬4) آسار البهائم، والحيوانات، والسباع فيه تفصيل: ولا شك أن السؤر: هو الفضلة وبقية الشراب أو الطعام. ومعلوم أن الحيوان قسمان: نجس وطاهر. فالقسم الأول نجس وهو نوعان: النوع الأول نجس قولاً واحداً: وهو الكلب والخنزير وما تولد منهما أو من أحدهما فهو نجس عينه وسؤره وجميع ما خرج منه. النوع الثاني مختلف فيه، وهو الحمار الأهلي والبغل، وجوارح الطير: كالصقر والحدأة، وسباع البهائم: كالذئب، والنمر. والأسد. والراجح كما ذهب إليه أكثر أهل العلم أن آسار هذه الحيوانات طاهر؛ لأنه يشق التحرز منها غالباً. انظر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، 5/ 380، والمغني، 1/ 68، والشرح الممتع، 1/ 396. القسم الثاني: طاهر في نفسه وسؤره وعرقه وهو ثلاثة أنواع: النوع الأول الآدمي فهو طاهر وسؤره طاهر؛ لأن المؤمن لا ينجس، وحيضة المرأة ليست في يدها. النوع الثاني مأكول اللحم: طاهر وسؤره طاهر بالإجماع، إلا الجلاّلة مختلف في سؤرها، فتكون من النوع الثاني من القسم الأول، وتقدم الترجيح. النوع الثالث: الهرة سؤرها طاهر؛ لأنها من الطوافين. انظر: المغني لابن قدامة، 1/ 64 - 70، ومعلوم أن الحيوان نوعان: ما ليس له نفس سائلة، وما له نفس سائلة: النوع الأول: ما ليس له نفس سائلة، أي لا يسيل دمه إذا قتل أو جرح، وهو على قسمين: الأول: ما يتولد من الطاهر فهو طاهر، حياً وميتاً: كالديدان، والذباب ونحو ذلك، ولكن الذباب إذا وقع في الإناء يغمس فيه؛ لأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء. والثاني ما يتولد من النجس كالصراصير متولدة من نجاسة البالوعة فهو نجس حياً وميتاً. النوع الثاني ما له نفس سائلة، وهو ثلاثة أقسام: الأول ما تباح ميتته وهو السمك والجراد، وجميع حيوانات البحر التي لا تعيش إلا في الماء فهو طاهر حياً وميتاً. الثاني ما لا تباح ميتته كحيوان البر المأكول، وحيوان البحر الذي يعيش في البر كالضفدع والتمساح ونحو ذلك فهذا نجس بعد الموت. النوع الثالث: الآدمي طاهر حياً وميتاً. المغني، 1/ 59 - 63، والشرح الممتع، 1/ 74، و77، و378، و393 - 397.

رابعا: الدم المسفوح ولحم الخنزير والميتة

الكلب أن يغسله سبع مرات أُولاهنَّ بالتُّراب))، وفي رواية: ((فليرقه ... )) الحديث (¬1). رابعاً: الدم المسفوح ولحم الخنزير والميتة، {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (¬2). وجلد الميتة - التي يؤكل لحمها في حياتها (¬3) بعد ذكاتها - يطهر بالدباغ، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دُبغ الإهاب فقد طَهُر)) (¬4). ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب، برقم 279. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 145. (¬3) وسمعت سماحة شيخنا ابن باز رحمه الله يقول أثناء شرحه على بلوغ المرام حديث رقم 20: ((واختلف في إهاب ما لا يؤكل لحمه هل يطهر بالدبغ أم لا فقيل: حديث الدباغ عام لجميع الجلود، حتى جلود السباع. وقيل: إنه خاص بما يؤكل لحمه، وأحسن الأقوال وأقربها، وأظهرها أن الدباغ خاص بما يؤكل لحمه، وإن كان القول الآخر قوياً. وانظر: فتاوى ابن تيمية، 21/ 90 - 96، والفتاوى الإسلامية، 1/ 202، وتهذيب السنن، 6/ 64 - 72، وزاد المعاد، 5/ 754 - 756، والشرح الممتع، 1/ 75. (¬4) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب طهارة جلود الميتة بالدباغ، برقم 366، وأما حديث عبد الله بن عكيم قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كتب إلينا ((لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب))، أخرجه أحمد وأبو داود في كتاب اللباس، باب من روى أن لا ينتفع بإهاب الميتة، برقم 4128، والترمذي في كتاب اللباس، باب ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت، برقم 1729، والنسائي في كتاب الفرع، باب ما يدبغ به جلود الميتة، برقم 4249، وابن ماجه في كتاب اللباس، باب من قال لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب، برقم 3613. وصححه الألباني في الإرواء، 1/ 76 - 77. فهذا الحديث قيل فيه: إنه ضعيف، ولا يقابل الحديث الصحيح في مسلم، ولو صح وثبت أنه بعد حديث ميمونة لكان محمولاً على الإهاب قبل الدبغ، فحينئذ يحصل الجمع بينه وبين حديث ميمونة. ورجح هذا سماحة العلامة ابن باز في شرحه لبلوغ المرام، حديث رقم 23،والعلامة ابن عثيمين في الشرح الممتع،1/ 71،وانظر: التلخيص الحبير،1/ 47.

أما ميتة الجراد والسمك

أما ميتة الجراد والسمك، فقد جاء عنه - صلى الله عليه وسلم -: ((أُحلّ لنا ميتتان ودمان: أما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان الكبد والطحال)) (¬1). خامساً: الوَدْيُ: ماء أبيض ثخين، يخرج كَدِراً بعد البول، ويُطهّرُ بغسل الذكر، ثم الوضوء (¬2)، وإذا أصاب البدن منه شيء غُسل. سادساً: المذي: وهو ماء أبيض لزج يخرج عند التفكير بالجماع أو عند الملاعبة، وهو من النجاسات التي يشق الاحتراز عنها فخُفّف تطهيره، فمن حصل له ذلك: ((فليغسل ذكره وأنثييه (¬3) وليتوضأ وضوءه للصلاة)) (¬4)، ويغسل ما أصاب البدن، ويرش كفَّاً من ماء على ما أصاب الثوب أو السراويل؛ لحديث سهل بن حنيف - رضي الله عنه - (¬5). سابعاً: المني: هو ما يخرج دفقاً بِلَذَّةٍ، ويوجب الغسل، وهو طاهر على الصحيح (¬6)، ولكن يستحب غسله إذا كان رطباً، وفركه إذا كان يابساً، فقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرجل يغسل ثوبه من المني: ¬

(¬1) أخرجه أحمد في المسند، 2/ 97، وابن ماجه في كتاب الصيد، باب صيد الحيتان والجراد، برقم 3218، وفي كتاب الأطعمة، باب الكبد والطحال، برقم 3314، والدارقطني في كتاب الأشربة وغيرها، باب الصيد والذبائح والأطعمة وغير ذلك، برقم 4687. (¬2) المغني لابن قدامة،1/ 233،قال الإمام العلامة ابن باز: غسل الأنثيين خاص بالمذي دون الودي. (¬3) أنثييه: خصيتيه. (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في المذي، برقم 206، 208،وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 41، برقم 190 - 192، وأصله متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب الغسل، باب غسل المذي والوضوء منه، برقم 269، ومسلم في كتاب الحيض، باب المذي، برقم 303. (¬5) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في المذي، برقم 210، والترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في المذي يصيب الثوب، برقم 115، وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب الوضوء من المذي، برقم 506، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 142. (¬6) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 3/ 197 - 199، وهو الذي يرجحه ويفتي به سماحة شيخنا ابن باز رحمه الله تعالى.

ثامنا: الجلالة:

((إنما كان يجزئك إن رأيته أن تغسل مكانه، فإن لم تَرَ نضحت حوله، ولقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيصلّي فيه)) (¬1)، وفي رواية: ((وإني لأحكُّهُ من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يابساً بظفري)) (¬2)، وقالت: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغسل المني، ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب، وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه)) (¬3). ثامناً: الجلاّلة: وهي الدابة التي تأكل العذرة، فإذا حُبِست حتى يزول عنها اسم الجلاّلة فلحومها وألبانها طاهرة حلال بعد الحبس، فقد ثبت عن ابن عمر، رضي الله عنهما، أنه قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لحوم الجلاّلة وألبانها)) (¬4)، وكان ابن عمر إذا أراد أكل الجلاّلة حبسها ثلاثاً (¬5)، وعنه يرفعه: ((نهى عن الجلاّلة في الإبل أن يركب عليها، أو يشرب من ألبانها)) (¬6). تاسعاً: الفأرة: إذا وقعت الفأرة في السمن - سواء كان مائعاً أو جامداً - تُلْقَى وما حولها، فعن ميمونة رضي الله عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن فأرة سقطت في سمن فقال: ((ألقوها وما حولها فاطرحوه، وكلوا سمنكم)) (¬7)، هذا إذا لم يكن في السمن المتبقي أثر النجاسة في طعمه، أو لونه، أو رائحته، وإلا أُلقي ما تبقى، فيكون كالماء: إذا لم يتغير أحد ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب حكم المني، برقم 288. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب حكم المني، برقم 290. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب حكم المني، برقم 289. (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الأطعمة، باب النهي عن أكل الجلالة وألبانها، برقم 3785، والترمذي في كتاب الأطعمة، باب ما جاء في أكل لحوم الجلالة وألبانها، برقم 1824، وابن ماجه في كتاب الذبائح، باب النهي عن لحوم الجلالة، برقم 3189، وانظر: إرواء الغليل للألباني، 8/ 149 - 151. (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة ولفظه: ((أنه كان يحبس الدجاجة الجلاّلة ثلاثاً))، انظر: إرواء الغليل، 8/ 151، برقم 2505. (¬6) أخرجه أبو داود في كتاب الأطعمة، باب النهي عن أكل الجلالة وألبانها، برقم 3787. (¬7) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء، برقم 235، ورقم 5538، و5539، و5540.

عاشرا: بول وروث ما لا يؤكل لحمه نجس

أوصافه بنجاسة فهو طهور والله أعلم (¬1). عاشراً: بول وروث ما لا يؤكل لحمه نجس؛ لحديث جابر - رضي الله عنه -: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُتمسح بعظم أو ببعر)) (¬2)، وثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - امتنع من الاستجمار بالروث، وقال: ((هذا ركس)) (¬3). أما بول وروث مأكول اللحم فطاهر؛ لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة بالشرب من بول الإبل (¬4)، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يصلي في مرابض الغنم قبل أن يبني المسجد)) (¬5). الحادي عشر: إذا كان في الثوب أو البدن أو البقعة نجاسة، وذكرها المصلي في الصلاة أو بعد الصلاة؛ فإن ذلك فيه تفصيل: 1 - إذا ذكر ذلك وهو في الصلاة، أزال النجاسة، أو ألقى ما عليه نجاسة بشرط عدم كشف العورة، واستمر في صلاته، وصلاته صحيحة. 2 - إذا لم يستطع إزالتها أثناء الصلاة بحيث لو ألقى ما عليه النجاسة انكشفت عورته، أو كانت النجاسة على بدنه، فحينئذ ينصرف من صلاته ثم يزيل النجاسة ثم يعيد الصلاة. 3 - إذا ذكر بعد الانصراف من الصلاة أنه صلى في ثوب فيه نجاسة، أو صلى على بقعة فيها نجاسة، أو صلى وفي جسده نجاسة، فصلاته ¬

(¬1) انظر فتاوى ابن تيمية، 21/ 19 - 21 و38 - 39، و488 - 502، ورجح هذا القول ابن باز في شرح بلوغ المرام، مخطوط. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب الاستطابة، برقم 263. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب لا يستنجى بروث، رقم 156. (¬4) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها، برقم 233، ومسلم في كتاب القسامة، باب حكم المحاربين والمرتدين، برقم 1671. (¬5) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها، برقم 234، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ابتناء مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -،برقم 524، وانظر: شرح العمدة ((كتاب الطهارة)) لابن تيمية، ص108.

الثاني عشر: الخمر

صحيحة، ويدل على ذلك كله حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، حيث قال: صلّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، فلما كان في بعض صلاته خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى الناس ذلك خلعوا نعالهم، فلما قضى صلاته - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما بالكم ألقيتم نعالكم؟)) قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا. فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذراً - أو قال أذى - فألقيتهما، فإذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر في نعليه فإن رأى فيهما قذراً -أو قال: أذىً - فليمسحهما وليصلّ فيهما)) (¬1). وهذا خاص بإزالة النجاسة، أما من صلَّى وذكر وهو في صلاته أو بعد الانصراف منها أنه على غير وضوء، أو ذكر أنَّ عليه جنابة؛ فإنَّ صلاته باطلة من أولها؛ سواء ذكر أثناء الصلاة أو بعد الانصراف منها، وعليه أن يرفع الحدث ثم يُعيد الصلاة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُقبل صلاة بغير طهور ... )) (¬2). الثاني عشر: الخمر: جماهير العلماء على أن الخمر نَجِسَة العين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى: (( ... والمائعات المسكّرة كلها نَجِسة؛ لأنَّ الله سمَّاها رِجساً، والرّجس هو القَذِر والنّجس الذي يجب اجتنابه، وأمر باجتنابه مطلقاً وهو يَعُمُّ الشُّرب، والمسّ وغير ذلك، وأمر بإراقتها ولعن النبي - صلى الله عليه وسلم - عينها ... )) (¬3) وقال الشنقيطي رحمه الله: ((وجماهير العلماء على أن الخمر نّجِسَة العين لما ذكرنا، وخالف في ذلك ربيعة، والليث، والمزني صاحب الشافعي وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين كما نقله عنهم القرطبي في تفسيره، واستدلُّوا ¬

(¬1) أخرجه أحمد في المسند، 3/ 20، 92، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب الصلاة في النعل، برقم 650، وصححه الألباني في الإرواء، برقم 284. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة، برقم 224. (¬3) شرح العمدة في الفقه، (كتاب الطهارة)، لشيخ الإسلام، ص 109.

الثالث عشر: والخلاصة:

لطهارة عينها بأنَّ المذكورات معها في الآية (¬1): من مال مَيْسرَ، ومال قِمَار، وأَنْصاب، وأزْلام ليست نجسة العين وإن كانت محرمة الاستعمال، وأُجيب من جهة الجمهور بأنَّ قوله: {رجس} يقتضي نجاسة العين في الكل، فما أخرجه إجماع أو نص خرج بذلك، وما لم يخرجه نص ولا إجماع لزم الحكم بنجاسته؛ لأن خروج بعض ما تناوله العام بمخصص من المخصصات لايسقط الاحتجاج به في الباقي كما هو مقرر في الأصول .. وعلى هذا فالمسكّر الذي عمَّت به البلوَى اليوم بالتَّطيُّب به المعروف في اللّسان الدارج: (بالكلونيا) نجس لا تجوز الصَّلاة به، ويُؤَيّدُهُ أنَّ قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ} يقتضي الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء من المسكّر، وما معه في الآية بوجهٍ من الوجوه .. فلا يخفى على منصف أن التضمخ بالطيب المذكور والتّلذُّذ بريحه واستطابته واستحسانه - مع أنه مسكر، والله يُصَرّحُ في كتابه بأنَّ الخمر رجس - فيه ما فيه، فليس لمسلم أن يتطيب بما سمع ربه يقول فيه: {إنَّهُ رِجْسٌ} كما هو واضح، ويُؤَيّدُهُ أنّه - صلى الله عليه وسلم -، أمر بإراقة الخمر، فلو كانت فيها منفعة أخرى لبيّنها كما بيَّن جواز الانتفاع بجلود الميتة، ولَما أراقها (¬2). الثالث عشر: والخلاصة: أنَّ الأصل في الأشياء: الطَّهارة والإباحة، فإذا شكَّ المسلم في نجاسة ماء، أو ثوب، أو بُقعة أو غيرها فهو طاهر، وكذلك إذا تيقَّن الطهارة ثم شك هل تنجس أم لا؟ بنى على ما تَيَقَّنَهُ من طهارةٍ، وكذلك إذا تَيقَّن النجاسة وشكَّ في الطهارة بنى على ما تيقَّنه، ¬

(¬1) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. المائدة، الآية: 90. (¬2) أضواء البيان في إيضاح القرآن، 2/ 129، بتصرف يسير جداً، وانظر: الشرح الممتع لابن عثيمين، 1/ 366، فقد رجح عدم النجاسة. أما سماحة شيخنا عبد العزيز بن عبد الله ابن باز، فيرجح ما يراه الجمهور، وأن الخمر نجسة، ولا يجوز التطيب بالمسكر؛ ولأن التطيب به وسيلة إلى استخدامه وبيعه وشرائه وشربه.

الرابع عشر: وجميع الأواني مباحة؛

وكذلك إذا تيقَّن الحدث وشكَّ في زواله بنى على ما تيقّنه، وإذا شكَّ في عدد الركعات، أو الأطواف، أو الطلقات بنى على اليقين وهو الأقل، وهذه قاعة عظيمة وهي استصحاب الحال المعلوم واطّراح الشكّ (¬1)؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -، للرجل الذي يُخيَّل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة: ((لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً)) (¬2). الرابع عشر: وجميع الأواني مباحة؛ لأن الأصل فيها الإباحة (¬3) إلا ما خصَّه الدليل بالتَّحريم، كآنية الذَّهب والفضّة وما فيه شيء منهما - إلا الضبَّة اليسيرة من الفضة في الإناء للحاجة (¬4) -؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة)) (¬5). ¬

(¬1) انظر: شرح العمدة ((كتاب الطهارة)) لابن تيمية، ص83، ومنهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين لعبد الرحمن السعدي، ص6. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب من لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن، برقم 237، ومسلم في كتاب الحيض، باب الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك فله أن يصلي بطهارته تلك، برقم 361. (¬3) حتى آنية الكفار سواء كانوا من أهل الكتاب أو من غيرهم؛ لأن الله أحل لنا ذبائح أهل الكتاب؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل من الشاة المسمومة التي أهديت له في خيبر، واستعمل الماء من مزادة امرأة مشركة، وأما حديث أبي ثعلبة عند البخاري، برقم 5496، ومسلم، برقم 1930: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تأكلوا فيها إلا أن لا تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها))، فرجح سماحة شيخنا ابن باز رحمه الله تعالى أن الأمر بالغسل للاستحباب، إلا إذا رأى المسلم أثر الخمر أو لحم الخنزير في الإناء وجب عليه أن يغسله. وانظر: الشرح الممتع، 1/ 69. (¬4) لحديث أنس - رضي الله عنه -: ((أن قدح النبي - صلى الله عليه وسلم - انكسر فاتخذ مكان الشَّعْب سلسلة من فضة)) أخرجه البخاري في كتاب فرض الخمس، باب ما ذكر من درع النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 3109، وفي كتاب الأشربة، باب الشرب من قدح النبي - صلى الله عليه وسلم - وآنيته، برقم 5638. وانظر: الشرح الممتع، 1/ 64. (¬5) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب الأطعمة، باب الأكل من إناء مفضض، برقم 5426، ومسلم في كتاب اللباس والزينة، باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء، برقم 2067.

المبحث الثالث: سنن الفطرة

المبحث الثالث: سنن الفطرة الفطرة المقصودة في هذا المبحث: هي السُّنَّة عند أكثر أهل العلم. قالوا: والمعنى: إنها من سنن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولا شكَّ أنّ بعض الخصال واجبة وبعضها مُستحبة، ولا يمتنع قرن الواجب بغيره (¬1)، ومن هذه الخصال ما يلي: 1 - الختان: وهو قطع جميع الجلدة التي تُغطّي حشفة الرجل حتى تنكشف جميع الحشفة، وأما المرأة فَيُقطع الجزء الأعلى من اللَّحمة التي كالنَّواة، وهي تُشبه عُرف الدّيك، وهي في أعلى الفرج فوق محل الإيلاج، ويُستحبُّ أن لا تُؤخذ كُلُّها؛ لأنَّ المقصود تقليل شهوتها (¬2)؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - لبعض الختَّانات في المدينة: ((إذا خفضت (¬3) فأشمّي (¬4) ولا تنهكي (¬5) فإنه أسرى للوجه وأحظى عند الزوج)) (¬6). والختان يجب على الرجال، ويُستحب في حق النساء على الصحيح من أقوال أهل العلم (¬7)؛ ولهذا ((اختتن إبراهيم - عليه السلام - وهو ابن ثمانين سنة ¬

(¬1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 3/ 148، وفتح الباري، 10/ 340، والنهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، 3/ 457، والمغني لابن قدامة 1/ 114، ومعالم السنن، 6/ 101. (¬2) انظر: المراجع السابقة، نفس الجزء والصفحة، والروض المربع بحاشية ابن القاسم، 1/ 160، والشرح الممتع، 1/ 134. (¬3) الخفض للنساء كالختان للرجال، انظر: النهاية في غريب الحديث، 2/ 54. (¬4) شبه القطع اليسير بإشمام الرائحة، والنهك بالمبالغة فيه؛ أي اقطعي بعض النواة ولا تستأصليها، النهاية، 2/ 503، و5/ 137. (¬5) أي: لا تبالغي في استقصاء الختان. النهاية في غريب الحديث، 5/ 137. (¬6) أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه، (5/ 327، 328)، والطبراني في الأوسط، واللفظ للطبراني، وذكره الهيثمي في المجمع، 5/ 175، وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وإسناده حسن، وذكر الألباني له طرقاً كثيرة، وقال: وبالجملة فالحديث بهذه الطرق والشواهد صحيح، والله أعلم. انظر: سلسة الأحاديث الصحيحة، 2/ 357. وعند أبي داود بلفظ: ((لا تنهكي، فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب إلى البعل)) في كتاب الأدب، باب ما جاء في الختان، برقم 5271. (¬7) انظر: المغني لابن قدامة، 1/ 115، والشرح الممتع، 1/ 133، وشرح النووي، 3/ 148، والفتح، 10/ 340، وشرح العمدة، ص243. وهو الذي يفتي به شيخنا العلامة ابن باز.

2 - حلق العانة

بالقَدُّوم)) (¬1)؛ ولحديث: ((ألقِ عنك شعر الكُفر واختتن)) (¬2). 2 - حلق العانة. 3 - نتف الإبط. 4 - تقليم الأظفار. 5 - قصُّ الشَّارب. وهو واجب (¬3)؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الفطرة خمس، أو خمس من الفطرة: الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقصّ الشَّارب)) (¬4). وقد وقَّت النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر المُدَّة التي تُتْرَك فيها هذه الخصال، قال أنس - رضي الله عنه -: ((وُقّت لنا في قص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة)) (¬5). 6 - إعفاء اللحية. وهو واجب؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خالفوا المشركين، وفّروا اللحى وأَحفوا الشَّوارب)) (¬6). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه: ((جُزُّوا الشوارب وأرخوا اللّحَى، خالفوا ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} برقم 3356، ومسلم في كتاب الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل - عليه السلام -، برقم 2370. ووقع في رواية البخاري بتشديد الدال، بينما وقع في رواية مسلم بتخفيفها. انظر: حاشية صحيح مسلم، 2/ 1839. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الرجل يسلم فيؤمر بالغسل، برقم 356، وحسنه الألباني في الإرواء، برقم 79. (¬3) لحديث زيد بن أرقم - رضي الله عنه -: ((من لم يأخذ من شاربه فليس منا))، ويأتي تخريجه تحت عنوان: إعفاء اللحية. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب قص الشارب، برقم 5889، ومسلم في كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة، برقم 257. (¬5) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة، رقم 258،والنسائي، وفيه: ((وقّت لنا النبي - صلى الله عليه وسلم -)). (¬6) أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب تقليم الأظفار، برقم 5892، ومسلم في كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة، برقم 259.

7 - السواك:

المجوس)) (¬1). ومن حديث ابن عمر يرفعه: ((أنهكوا الشوارب وأعفوا اللحى)) (¬2). وقد جاء الوعيد فيمن لم يأخذ من شاربه، ففي حديث زيد بن أرقم - رضي الله عنه -: ((من لم يأخذ من شاربه فليس منَّا)) (¬3). 7 - السّواك: يُستحب السّواك في جميع الأوقات؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((السّواك مطهرةٌ للفمّ مرضاةٌ للرّبّ)) (¬4). ويتأكد استحباب السّواك في عدة أحوال: الأول: عند الانتباه من النَّوم؛ لحديث حذيفة - رضي الله عنه - قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يَشُوصُ فاهُ بالسّواك)) (¬5). الثاني: عند كل وضوء؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -،عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لولا أن أشقَّ على أُمتي لأمرتهم بالسّواك عند كلّ وضوء)) (¬6). الثالث: عند كل صلاة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لولا أن أشقَّ على أمتي أو على الناس لأمرتهم بالسّواك مع كلّ ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة، برقم 260. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب إعفاء اللحى، برقم 5893، ومسلم في كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة، برقم 259، واللفظ للبخاري. (¬3) أخرجه الترمذي في كتاب الأدب، باب ما جاء في قص الشارب، برقم 2761، والنسائي في كتاب الطهارة، باب قص الشارب، برقم 13، وأحمد، 4/ 366، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 5، وصحيح الجامع، برقم 6409. (¬4) أخرجه النسائي في كتاب الطهارة، باب الترغيب في السواك، برقم 5، والبخاري معلقًا مجزومًا به في كتاب الصوم، باب السواك الرطب واليابس للصائم، وصححه الألباني في الإرواء، برقم 66، وفي صحيح النسائي، 1/ 4. (¬5) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب السواك، برقم 245، ومسلم في كتاب الطهارة، باب السواك، برقم 225. (¬6) أخرجه البخاري معلقاً مجزوماً به في كتاب الصيام، باب السواك الرطب واليابس للصائم، (4/ 158 مع فتح الباري)، ومالك في الموطأ في كتاب الطهارة، باب ما جاء في السواك، برقم 115، وأحمد،2/ 433، برقم 400 و460 أحمد شاكر، وصححه ابن خزيمة، وغيرهم.

الرابع: عند دخول المنزل

صلاة)) (¬1). الرابع: عند دخول المنزل؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل بيته بَدَأَ بالسّواك)) (¬2). الخامس: عند تَغَيُّر رائحة الفم أو طعمه، أو اصفرار لون الأسنان من طعام أو شراب؛ لما رُويَ في ذلك (¬3)؛ ولأنَّ السواك إنَّما شُرع لتطييب الفم وتطهيره وتنظيفه، فإذا تغيَّر فقد تحقق السبب المقتضي له، فكان أولى منه عند الاستيقاظ من النوم (¬4). السادس: عند قِراءة القرآن الكريم، لحديث علي - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن العبد إذا تسوَّك ثم قام يصلي قام الملك خلفه فيستمع لقراءته فيدنو منه))، أو كلمة نحوها ((حتى يضع فاه على فيه فما يخرج من فيه شيء من القرآن إلا صار في جوف الملك، فطهّروا أفواهكم للقرآن)) (¬5). السابع: قبل الخروج من البيت إلى الصلاة؛ لحديث زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - قال: ((ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من بيته لشيءٍ من الصلاة حتى يستاك)) (¬6). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب السواك يوم الجمعة، برقم 887، ومسلم في كتاب الطهارة، باب السواك، برقم 252. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب السواك، برقم 253. (¬3) انظر: مسند الإمام أحمد، 1/ 214، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 1/ 226: وقال أبو هريرة: لقد كنت أستن قبل أن أنام وبعد ما أستيقظ، وقبل أن آكل وبعدما آكل حين سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ما قال. رواه أحمد، ورجاله ثقات. (¬4) انظر: شرح العمدة في الفقه، (كتاب الطهارة) لابن تيمية، ص217 - 218. (¬5) قال المنذري في الترغيب: رواه البزار بإسناد جيد لا بأس به، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب، 1/ 91، وقال في سلسة الأحاديث الصحيحة، 3/ 214 برقم 1213: ((إسناده جيد، رجاله رجال البخاري)). (¬6) قال المنذري في الترغيب: رواه الطبراني بإسناد لا بأس به، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب، 1/ 90.

ويستحب الاستياك على اللسان

ويستحب الاستياك على اللسان؛ لأن أبا موسى قال: أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأيته ((يستاك على لسانه)) (¬1). ويُستحب التيامن في السّواك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((كان يعجبه التيمن في تنعله، وترجله، وطهوره، وفي شأنه كله)) (¬2). ويُستحب أن يستاك بيده اليسرى؛ لأنه إماطة أذى يُفعل بإحدى اليدين، فكان باليسرى كالاستنجاء (¬3)، والله الموفق (¬4). 8 - غسل البراجم، قيل هي عُقد الأصابع التي في ظهر الكف (¬5)، وقيل: عقد الأصابع ومفاصلها كلها، ويلحق بالبراجم ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن، وكذلك جميع الوسخ المجتمع على أي موضع كان من البدن (¬6). وقيل: هي العُقد التي في ظهور الأصابع يجتمع فيها الوسخ، الواحدة: بُرْجُمة (¬7). 9 - الاستنشاق: ويأتي إن شاء الله تعالى. 10 - الاستنجاء أو الانتضاح: ويأتي إن شاء الله تعالى (¬8). وقد ثبت دليل هذه الخصال من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب السواك، برقم 244، ومسلم في كتاب الطهارة، باب السواك، برقم 254. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب التيمن في الوضوء والغسل، برقم 168، ومسلم في كتاب الطهارة، باب التيمن في الطهور وغيره، برقم 268، ومعنى تنعله: لبسه نعله، وترجله: ترجيل شعره، وهو تسريحه ودهنه. وهذا عام مخصوص؛ لأن دخول الخلاء، والخروج من المسجد، ونحوهما يبدأ فيهما باليسار. انظر: فتح الباري، 1/ 270. (¬3) شرح العمدة في الفقه، لابن تيمية، ص 224. (¬4) قال ابن تيمية: ((الأفضل أن يستاك باليسرى، نص عليه الإمام أحمد في رواية ابن منصور الكوسج، ذكره في مسائله، وما علمنا أحداً من الأئمة خالف في ذلك)). انظر: مجموع الفتاوى، 21/ 108، والاختيارات، ص 10، والشرح الممتع،1/ 127. (¬5) انظر فتح الباري، 10/ 338، وشرح النووي، 3/ 150. (¬6) شرح النووي، 3/ 150. (¬7) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، 1/ 113. (¬8) الانتضاح: هو أن يأخذ قليلاً من الماء فيرش به فرجه ومذاكيره بعد الوضوء؛ ليزيل عنه الوسواس. انظر: النهاية في غريب الحديث، 5/ 69،وفتح الباري، 1/ 338.

والفطرة فطرتان

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عشرٌ من الفطرة: قصّ الشَّارب، وإعفاء اللّحية، والسّواك، واستنشاق الماء، وقصّ الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص (¬1) الماء)). ونسي مصعب العاشرة، قال: إلا أن تكون المضمضة (¬2)، قال الإمام النووي. قال القاضي عياض: ولعلها الختان المذكور مع الخمس، وهو أولى (¬3). والفطرة فطرتان: فطرة تتعلق بالقلب، وهي معرفة الله ومحبته وإيثاره على ما سواه، وفطرة عملية وهي هذه الخصال وما في معناها، فالأولى تُزكي النفس والروح وتُطهّر القلب، والثانية تُطهر البدن وكل منهما تمد الأخرى وتقوّيها (¬4). ¬

(¬1) انتقاص الماء: قيل هو الاستنجاء، وقيل هو الانتضاح، انظر: فتح الباري،1/ 338، وشرح النووي، 3/ 150. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة، برقم 261. (¬3) شرح النووي، 3/ 150، وقد ذكر ابن حجر في الفتح أن خصال الفطرة تبلغ ثلاثين خصلة، 10/ 337. (¬4) انظر: تحفة المودود بأحكام المولود لابن القيم، ص 99 - 100.

المبحث الرابع: آداب قضاء الحاجة

المبحث الرابع: آداب قضاء الحاجة للقاضي حاجته آداب بعضها مستحب وبعضها واجب ومنها ما يلي: 1 - أن لا يَسْتَصْحِبَ ما فيه اسم الله تعالى إلا إن خاف عليه الضَّياع؛ لِمَا ذُكر عن أنس - رضي الله عنه -، أنه قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء وضع خاتمه)) (¬1) وكان خاتمه نقشه: ((محمد رسولُ الله)). 2 - أن يبتعد عن الناس ويستتر عنهم؛ لئلا يُسمع له صوت أو يُشم له رائحة، فعن جابر - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد)) (¬2). 3 - أن يقول عند الدخول في البنيان، وعند تشمير الثياب في الفضاء: ((بسم الله (¬3)، اللهم إني أعوذ بك من الخُبثِ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب الخاتم يكون فيه ذكر الله تعالى يدخل به الخلاء، برقم 19، والترمذي في كتاب اللباس، باب ما جاء في لبس الخاتم في اليمين، برقم 1746، والنسائي في كتاب الزينة، باب نزع الخاتم عند دخول الخلاء، برقم 5210، وابن ماجه في الطهارة وسننها، باب ذكر الله - عز وجل - على الخلاء والخاتم في الخلاء، برقم 303، والحديث ضعفه بعض أهل العلم، وبعضهم صححه كالمنذري، وانظر تفصيل ذلك: التلخيص الحبير لابن حجر، 1/ 108. قال: لأنه من رواية ابن جريج عن الزهري عن أنس، وابن جريج لم يسمعه من الزهري وإنما سمعه من زياد بن سعد عن الزهري بلفظ آخر ((أنه - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتماً من ذهب ثم ألقاه)) قال سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز في شرحه لبلوغ المرام، ص 19 مخطوط: قيل هذا الحديث معلول والأقرب أن ابن جريج سمعه بدون واسطة عن الزهري، وسمعه بواسطة عن زياد عن الزهري في حديث لبسه - صلى الله عليه وسلم - خاتم الذهب ثم ألقاه فهذا صحيح سمعه بواسطة وهذا صحيح سمعه بدون واسطة، وتوهيم الثقات يحتاج إلى دليل، فالأفضل عدم دخول الخلاء بشيء فيه ذكر الله تعالى. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب التخلي عند قضاء الحاجة، برقم 2، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 4، برقم 2. (¬3) زيادة البسملة زادها سعيد بن منصور في سننه، وأخرجها ابن أبي شيبة في المصنف، 1/ 1، وقال الحافظ في الفتح، 1/ 244 زادها العمري وإسناده على شرط مسلم، وقد جاء قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء أن يقول: بسم الله)) أخرجه الترمذي في كتاب الجمعة، باب ما ذكر من التسمية عند دخول الخلاء، برقم 606،وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب ما يقول الرجل إذا دخل الخلاء، برقم 297، وصححه الألباني في الإرواء، 1/ 88 - 89.

4 - أن لا يرفع ثوبه إذا كان خارج البنيان حتى يدنو من الأرض

والخبائث)) (¬1)، ثم يقدم رجله اليسرى فيدخل. 4 - أن لا يرفع ثوبه إذا كان خارج البنيان حتى يدنو من الأرض حتى لا تنكشف عورته؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((كان إذا أراد حاجةً لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض)) (¬2). 5 - أن لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها؛ لحديث أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط ولكن شرقوا أو غربوا)) (¬3)، قال أبو أيوب: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بُنيت قِبَل القبلة فننحرف عنها ونستغفر الله (¬4)، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((رقيت على بيت أختي حفصة فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعداً لحاجته مُستقبل الشام مُستدبر القبلة)) (¬5)، فأبو أيوب - رضي الله عنه - حمل الحديث على العموم، وأنه عام في المباني والصحراء، وعلى ذلك جمعٌ من أهل العلم، وأنه يدل على التحريم مطلقاً (¬6)، وقال بعضهم: النهي عن الاستقبال والاستدبار خاص بالفضاء؛ لحديث عبد الله بن عمر السابق، والقاعدة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر بأمر ثم فعل خلافه دلّ على أن النهي ليس للتحريم بل للكراهة، وحديث أبي أيوب عام، ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب ما يقول عند الخلاء، برقم 142، ومسلم في كتاب الحيض، باب ما يقول إذا أراد دخول الخلاء، برقم 375. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب كيف التكشف عند الحاجة، برقم 14، والترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في الاستتار عند الحاجة، برقم 14، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 6. (¬3) هذا بالنسبة لأهل المدينة ومن كان خلفها، وهكذا من كان جنوبها، أما من كان في شرقها أو غربها فإنه يجنب أو يشمل حتى لا يستقبل القبلة. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق، برقم 394، ومسلم في كتاب الطهارة، باب الاستطابة، برقم 264. (¬5) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب التبرز في البيوت، برقم 148، ومسلم في كتاب الطهارة، باب الاستطابة، برقم 266. (¬6) انظر: تمام المنة في التعليق على فقه السنة للألباني، ص 60 ط 2.

6 - أن يبتعد عن طرق الناس وظلهم، ومواردهم

وحديث ابن عمر خاص، والقاعدة أن الخاص يقدم على العام في النصوص، لكن الأفضل للمسلم أن لا يستقبلها مطلقاً لا في البناء ولا في الصحراء؛ لأن حديث عبد الله بن عمر يحتمل أنه كان قبل النهي ويحتمل أنه خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، كما قال جماعة من أهل العلم (¬1). 6 - أن يبتعد عن طرق الناس وظِلّهم، وموارِدِهِم؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((اتّقوا اللَّعانَيْن)) (¬2) قالوا: وما اللعانان يا رسول الله؟ قال: ((الذي يتخلَّى في طريق الناس أو في ظلهم)) (¬3). وعن معاذ - رضي الله عنه - يرفعه: ((اتّقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظّلّ)) (¬4). 7 - أن يطلب مكانا ليناً منخفضاً ويحترز من البول؛ لكي لا يصيب البدن أو الثياب؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قبرين فقال: ((إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه (¬5) من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة)) (¬6). 8 - أن لا يتكلم وهو يقضي حاجته، ولا يرد سلاماً ولا يجيب بلسانه ¬

(¬1) هذا ترجيح سماحة العلامة عبد العزيز بن باز في شرحه لبلوغ المرام، وشرحه لعمدة الأحكام للحافظ المقدسي، وانظر: الشرح الممتع على زاد المستقنع لابن عثيمين، 1/ 98، وشرح العمدة لابن تيمية، ص 148. (¬2) أي الأمرين الجالبين للعن؛ لأن من تغوط أو بال في موضع يمر به الناس فمن عادة الناس لعنه وشتمه. انظر: النهاية في غريب الحديث، 4/ 255. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب النهي عن التخلي في الطرق والظلال، برقم 269. (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب المواضع التي نهي عن البول فيها، برقم 26، وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب النهي عن الخلاء على قارعة الطريق، برقم 328، وحسنه الألباني في الإرواء، 1/ 100، برقم 62. (¬5) جاء في ذلك ثلاثة ألفاظ في عدة روايات: (يستتر، يستنزه، ويستبرئ)، وكلها صحيحة، والمعنى أنه لا يتجنبه، ولا يتحرز منه. انظر فتح الباري، 1/ 318، وشرح النووي، 3/ 201. (¬6) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله، برقم 216، ومسلم في كتاب الطهارة، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه، برقم 292.

9 - أن لا يبول في الماء الراكد

مؤذناً، إلا ما لا بدّ منه؛ ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((أن رجلا ًمرّ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبول فسلَّم، فلم يردّ عليه)) (¬1)؛ ولحديث المهاجر بن قنفذ - رضي الله عنه - أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يبول فسلم عليه فلم يرد عليه حتى توضأ ثم اعتذر إليه فقال: ((إني كرهت أن أذكر الله - عز وجل - إلا على طهر))، أو قال: ((على طهارة)) (¬2). 9 - أن لا يبول في الماء الراكد؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يبولنَّ أحدُكُمْ في الماء الدَّائِم الذي لا يجري ثم يغتسل منه)) (¬3). 10 - أن لا يغتسل في الماء الراكد وهو جنب؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب)) (¬4). 11 - أن لا يبول في مستحمه الذي يغتسل فيه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يبولن أحدكم في مستحمه ثم يغتسل فيه)) (¬5). 12 - أن لا يمسك فرجه بيمينه ولا يستنجي بها؛ لحديث أبي قتادة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء، وإذا أتى الخلاء فلا يمسّ ذكره بيمينه، ولا يتمسح بيمينه)) (¬6). 13 - أن لا يستجمر بروث ولا عظم؛ لحديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، في ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب التيمم، برقم 370. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب أيرد السلام وهو يبول؟ برقم 17، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 6. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب البول في الماء الدائم، برقم 239، ومسلم في كتاب الطهارة، باب النهي عن البول في الماء الراكد، برقم 282. (¬4) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب النهي عن الاغتسال في الماء الراكد، برقم 283. (¬5) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب البول في المستحم، برقم 27، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 8، رقم 22. (¬6) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب النهي عن الاستنجاء باليمين، برقم 153، ومسلم في كتاب الطهارة، باب النهي عن الاستنجاء باليمين، برقم 267.

14 - إذا استجمر بالحجارة فلا بد أن يستجمر بثلاثة فأكثر

قصة الجن عندما سألوه الطعام فقال لهم: ((لكم كل عظم ذُكِرَ اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة علفاً لدوابكم)). فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((فلا تستنجوا بهما فإنها طعام إخوانكم [من الجن])) (¬1). 14 - إذا استجمر بالحجارة فلا بد أن يستجمر بثلاثة فأكثر؛ لحديث سلمان - رضي الله عنه - يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو نستنجي باليمين، أو نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو نستنجي برجيع (¬2) أو بعظم)) (¬3)؛ ولحديث عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن فإنها تجزئ عنه)) (¬4). 15 - أن لا يدخل يده في الإناء إذا كان مستيقظاً من النوم حتى يغسلها ثلاثاً، لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده)) (¬5). 16 - أن يُزيل ما على السبيلين من النجاسة وجوباً بالماء، أو بالحجارة وما في معناها من كل جامد طاهر ليس له حرمة - كالخشب، والخرق والمناديل، وكل ما أنقى به فهو كالحجارة على الصحيح (¬6). والاستنجاء على ثلاث مراتب: ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن، برقم 450، وما بين المعقوفين عند أحمد، برقم 4149، 6/ 94 وغيره. (¬2) الرجيع: الروث والعذرة. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب الاستطابة، برقم 262. (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب الاستنجاء بالأحجار، برقم 40، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود 1/ 10. (¬5) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب الاستجمار وتراً، برقم 162، ومسلم في كتاب الطهارة، باب كراهة غمس المتوضئ وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثاً، برقم 278. (¬6) انظر: المغني لابن قدامة، 1/ 213، وقال: وهو قول أكثر أهل العلم.

المرتبة الأولى: الاستجمار بالحجارة، ثم الاستنجاء بالماء هو الأكمل بدون مشقة أو ضرر

المرتبة الأولى: الاستجمار بالحجارة، ثم الاستنجاء بالماء هو الأكمل بدون مشقة أو ضرر. المرتبة الثانية: الاستنجاء بالماء وحده. المرتبة الثالثة: الاستجمار بالحجارة وحدها، ولكن لا بد من ثلاث فأكثر، ولا يجزئ أقل منها. والأفضل أن يقطع على وتر إذا أنقى (¬1). والأدلة على الاستجمار بالحجارة تقدمت، أما الاستنجاء بالماء؛ فلحديث أنس - رضي الله عنه -، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلامٌ نحوي إداوة (¬2) من ماء، وعَنَزَة (¬3) فيستنجي بالماء)) (¬4)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((نزلت هذه الآية في أهل قباء {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} (¬5) قال: كانوا يستنجون بالماء فنزلت هذه الآية)) (¬6). 17 - أن يقطع على وتر إذا استجمر بالحجارة وأنقى؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ومن استجمر فليوتر)) (¬7). 18 - أن يدلك يده بالأرض بعد الاستنجاء ثم يغسلها؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((قضى حاجته ثم استنجى من تور، ثم دلك يده بالأرض)) (¬8). ¬

(¬1) انظر: الشرح الممتع على زاد المستقنع لابن عثيمين،1/ 104 و109،وشرح بلوغ المرام لسماحة العلامة ابن باز، وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلية والإفتاء،5/ 7. (¬2) إناء صغير من جلد. (¬3) العنزة: الحربة الصغيرة. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب الاستنجاء بالماء، برقم 50، ومسلم في كتاب الطهارة، باب الاستنجاء بالماء من التبرز، برقم 271. (¬5) سورة التوبة، الآية: 108. (¬6) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الاستنجاء بالماء، برقم 44،وابن ماجه في كتاب الطهارة، باب الاستنجاء بالماء، برقم 357،والترمذي وغيرهم. وصححه الألباني في الإرواء،1/ 84. (¬7) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب الاستجمار وتراً، برقم 162، ومسلم في كتاب الطهارة، باب الإيتار في الاستنثار والاستجمار، برقم 237/ 22. (¬8) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب الرجل يدلك يده بالأرض إذا استنجى، برقم 45، وابن ماجه في كتاب الطهارة، باب الاستنجاء، برقم 358، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 11، وصحيح ابن ماجه 1/ 63.

19 - أن ينضح فرجه وسراويله بالماء؛ ليدفع عن نفسه الوسوسة

19 - أن ينضح فرجه وسراويله بالماء؛ ليدفع عن نفسه الوسوسة؛ لحديث الحكم بن سفيان قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((إذا بال يتوضأ وينتضح)) (¬1). 20 - أن لا يطيل الجلوس والمكث في الحمام أو الخلاء فوق حاجته؛ لأن في ذلك كشفاً للعورة بلا حاجة؛ ولأن الحشوش والمراحيض مأوى الشياطين والنفوس الخبيثة، فلا ينبغي أن يبقى في هذا المكان الخبيث؛ لأنه لا يذكرُ الله - عز وجل - بلسانه أثناء جلوسه على قضاء حاجته (¬2). 21 - يُستحب أنْ لا يتطهر الرجل بفضل طهور المرأة، ولا المرأة بفضل طهور الرجل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((نهى أن تغتسل المرأة بفضل الرجل أو يغتسل الرجل بفضل المرأة، وليغترفا جميعاً)) (¬3)، وهذا النهي على سبيل الأولوية وكراهة التنزيه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه أنه ((كان يغتسل بفضل ميمونة رضي الله عنها)) (¬4)؛ ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: اغتسل بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في جفنة، فجاء ليغتسل منها فقالت: إني كنت جنباً، فقال: ((إن الماء لا يجنب)) (¬5)، أما إذا دعت الحاجة لاغتسال الرجل بفضل المرأة ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الانتضاح، برقم 166، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 34. (¬2) انظر: الشرح الممتع، 1/ 101. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب النهي عن ذلك، برقم 81، والنسائي في كتاب الطهارة، باب ذكر النهي عن الاغتسال بفضل الجنب، برقم 238، وأحمد، 4/ 110،وغيرهم، وصححه الألباني في صحيح أبي داود،1/ 19،وصحيح النسائي، 1/ 50، وصححه ابن حجر في بلوغ المرام، برقم 9، وفي الفتح، 1/ 300. (¬4) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب القدر المستجد من الماء في غسل الجنابة ... برقم 323. (¬5) أخرجه أحمد في المسند (1/ 235)، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب الماء لا يجنب، برقم 68، والنسائي في كتاب الطهارة، باب ذكر بئر بضاعة، برقم 325، 326، والترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في الرخصة في ذلك، برقم 65، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في المشكاة 1/ 142، وصحيح سنن أبي داود 1/ 16.

22 - أن يقدم رجله اليمنى عند خروجه من الخلاء ويقول: غفرانك

أو المرأة بفضل الرجل زالت الكراهة (¬1). 22 - أن يقدم رجله اليمنى عند خروجه من الخلاء ويقول: ((غفرانك))؛ لحديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج من الغائط قال: ((غفرانك)) (¬2). ¬

(¬1) رجح ذلك العلامة ابن باز - رحمه الله تعالى - في شرحه لبلوغ المرام، حديث رقم 9. وانظر: الشرح الممتع لابن عثيمين، 1/ 36 و37، وقال: من غرائب العلم أنهم استدلوا بالحديث الأول على أن الرجل لا يتوضأ بفضل المرأة، ولم يستدلوا به على أن المرأة لا تتوضأ بفضل الرجل ... ،1/ 36. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب ما يقول الرجل إذا خرج من الخلاء، برقم 30، والترمذي في كتاب الطهارة، باب ما يقول إذا خرج من الخلاء، برقم 7، وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب ما يقول إذا خرج من الخلاء، برقم 300، وابن خزيمة، وغيرهم، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 9، برقم 30، وصحيح ابن ماجه، 1/ 55، وإرواء الغليل، 1/ 91، برقم 52.

المبحث الخامس: الوضوء

المبحث الخامس: الوضوء 1 - ما يجب له الوضوء: يجب الوضوء لأمور ثلاثة: الأول: الصلاة مطلقاً: سواء كانت فرضاً أو نفلاً، حتى صلاة الجنازة؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ} (¬1)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)) (¬2)؛ ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما يرفعه: ((لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول)) (¬3)، ولحديث علي - رضي الله عنه - يرفعه: ((مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)) (¬4). الثاني: الطواف بالبيت؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الطواف بالبيت صلاة .. )) الحديث (¬5)؛ ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة رضي الله عنها: ((افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري)) (¬6). ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 6. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب لا تقبل صلاة بغير طهور، برقم 135، ومسلم في كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة، برقم 225. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة، برقم 224. (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب فرض الوضوء، برقم 61، والترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور، برقم 3، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 2/ 8. (¬5) أخرجه النسائي المناسك، باب إباحة الكلام في الطواف، برقم 2920، والترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء في الكلام بعد الطواف، برقم 960، وابن خزيمة 4/ 222، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 2/ 614، وصحيح الترمذي، 1/ 283، وإرواء الغليل، 1/ 154. (¬6) أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، برقم 305، ومسلم في كتاب الحج، باب بيان وجوب الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقِران ... ، برقم 1211/ 120.

الثالث: مس المصحف

الثالث: مسُّ المصحف؛ لحديث عمرو بن حزم، وحكيم بن حزام وابن عمر - رضي الله عنهم -: ((لا يمسَّ القرآن إلا طاهر)) (¬1). 2 - فضل الوضوء: للوضوء فضائل كثيرة منها على سبيل المثال ما يلي: أولاً: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن أمتي يدعون يوم القيامة غُرّاً مُحَجَّلِين من آثار الوضوء)) (¬2). ثانياً: وعن عثمان - رضي الله عنه - أنه قال حينما توضأ وضوءاً كاملاً: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ نحو وضوئي هذا، وقال: ((من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر الله له ما تقدم من ذنبه)) (¬3). ثالثاً: وعن عثمان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: ((لا يتوضأ رجل مسلم فيحسن الوضوء، فيصلي صلاة إلا غفر الله له ما بينه وبين الصلاة التي تليها)) (¬4). رابعاً: وعنه أيضاً: ((ما من امرئٍ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءَهَا، وخُشوعَها، وركُوعها، إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يُؤتِ (¬5) كبيرة وذلك الدهر كله)) (¬6). ¬

(¬1) أخرجه مالك في كتاب القرآن، باب الأمر بالوضوء لمن مس القرآن، برقم 1،والدارقطني في سننه في كتاب الطهارة، باب في نهي المحدث عن مس القرآن، برقم 431 - 433،والحاكم، 1/ 397، وصححه الألباني بشواهده من حديث حكيم وابن عمر. انظر: إرواء الغليل،1/ 158،والتلخيص الحبير لا بن حجر، 1/ 131،والشرح الممتع على زاد المستقنع لابن عثيمين، 1/ 261. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب فضل الوضوء والغر المحجلون من آثار الوضوء، برقم 136،ومسلم في كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، رقم 246. (¬3) أخرجه البخاري، في كتاب الوضوء، باب المضمضة في الوضوء، برقم 164، ومسلم في كتاب الطهارة، باب صفة الوضوء وكماله، برقم 226. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الوضوء، باب الوضوء ثلاثاً، برقم 160، ومسلم في كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء والصلاة عقبه، برقم 227. (¬5) وفي نسخة دار السلام: ((ما لم يأت)). (¬6) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء والصلاة عقبه، برقم 228.

3 - صفة الوضوء الكامل وكيفيته:

سادساً: وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - يرفعه: ((ما من مسلم يتوضأ فيُحسن وضوءهُ، ثم يقوم فيصلي ركعتين مقبلٌ عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة)) (¬1). سابعاً: وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه: ((إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرجت كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيّاً من الذُّنوب)) (¬2). ثامناً: وعن عثمان - رضي الله عنه - يرفعه: ((من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره)) (¬3). تاسعاً: وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ألا أدلُّكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرّباط، فذلكم الرّباط)) (¬4). 3 - صفة الوضوء الكامل وكيفيته: صفة الوضوء الكامل المشتمل على الفروض والواجبات والمستحبّات كالآتي: 1 - ينوي الوضوء بقلبه؛ لحديث عمر - رضي الله عنه -: ((إنما الأعمال بالنيات)) (¬5).ولا ينطق بالنية؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينطق بها؛ ولأن الله يعلم ما في القلب، فلا ¬

(¬1) أخرجه مسلم في الطهارة، باب الذكر المستحب عقب الوضوء، برقم 234. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب خروج الخطايا مع ماء الوضوء، برقم 244، وأخرج قريباً منه في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب إسلام عمرو بن عبسة، برقم 832. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب خروج الخطايا مع ماء الوضوء، برقم 245. (¬4) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره، برقم 251. (¬5) أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، برقم 1، ومسلم في كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم - ((إنما الأعمال بالنية)) وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال، برقم 1907.

2 - يقول: بسم الله

حاجة إلى الإخبار بما فيه. 2 - يقول: بسم الله؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: ((لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه)) (¬1). 3 - يغسل كَفَّيْه ثلاث مرات؛ لحديث عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - (¬2)، وحديث حُمران عن عثمان - رضي الله عنه - (¬3). 4 - يتمضمض ويستنشق من كف واحد بيده اليمنى، ويستنثر بيده اليسرى (¬4). يفعل ذلك ثلاث مرات بثلاث غرفات بكفه؛ لحديث عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - (¬5). ويسبغ الوضوء ويبالغ في الاستنشاق إلا أن يكون صائماً؛ لحديث لقيط بن صبرة - رضي الله عنه - (¬6) ويستاك؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬7). 5 - يغسل وجهه ثلاث مرات من الأُذُنِ إلى الأُذُنِ عرضاً، ومن منابت شعر الرأس إلى أسفل اللّحية والذَّقن طولاً؛ لحديث عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - (¬8)، ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في التسمية على الوضوء، برقم 101، وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في التسمية في الوضوء، برقم 398، 399، والترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في التسمية عند الوضوء، برقم 25،وغيرهم، وحسنه الألباني لكثرة طرقه وشواهده في إرواء الغليل، برقم 81. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب مسح الرأس كله، برقم 185، ومسلم في كتاب الطهارة، باب في وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 235. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب في المضمضمة في الوضوء، برقم 164، ومسلم في كتاب الطهارة، باب صفة الوضوء وكماله، برقم 226. (¬4) أخرجه النسائي من حديث علي - رضي الله عنه - في كتاب الطهارة، باب بأي اليدين يستنثر، برقم 91، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 21 برقم 89. (¬5) أخرجه البخاري برقم 185، ومسلم برقم 235، وقد تقدم تحت عنوان صفة الوضوء الكامل وكيفيته. (¬6) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الاستنثار، برقم 142، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 29، برقم 129. (¬7) أخرجه البخاري معلقاً مجزوماً به في كتاب الصيام، باب السواك الرطب واليابس للصائم، (البخاري مع فتح الباري 4/ 158)،وقد تقدم في المبحث الثالث، سنن الفطرة. (¬8) أخرجه البخاري، برقم 185، ومسلم، برقم 235، وتقدم تخريجه.

6 - يغسل يده اليمنى ثلاث مرات من رؤوس الأصابع إلى المرفق

وحديث حمران عن عثمان - رضي الله عنه - (¬1)،ويخلّلُ لحيته؛ لحديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - (¬2). 6 - يغسل يده اليمنى ثلاث مرات من رؤوس الأصابع إلى المرفق (¬3)، ويدلك ذراعه (¬4)، ويغسل مرفقه (¬5)، ويخلل بين الأصابع (¬6). ثم يغسل يده اليسرى مثل ما غسل اليمنى. 7 - يمسح رأسه مرة واحدة، يبل يديه بالماء ثم يمرهما من مقدم رأسه إلى قفاه ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه (¬7)، ثم يدخل أصبعيه السبَّابتين في أذنيه ويمسح بإبهاميه ظاهر أُذنيه (¬8). 8 - يغسل رجله اليمنى ثلاث مرات من رؤوس الأصابع إلى الكعب (¬9)، ويغسل كعبه (¬10)، ويخلل بين الأصابع (¬11)،ثم يغسل رجله ¬

(¬1) أخرجه البخاري، برقم 164، ومسلم، برقم 226، وتقدم تخريجه. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب تخليل اللحية، برقم 145، وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في تخليل اللحية، برقم 431، وصححه الألباني لكثرة طرقه وشواهده في إرواء الغليل، 1/ 130، برقم 92، وقال الحافظ في بلوغ المرام: أخرجه الترمذي من حديث عثمان، وصححه ابن خزيمة. (¬3) لحديث حمران عن عثمان، أخرجه البخاري برقم 164، ومسلم برقم 226، وتقدم تخريجه، ولحديث عبد الله بن زيد أخرجه البخاري، برقم 185،ومسلم، برقم 235،وتقدم تخريجه. (¬4) ابن خزيمة في صحيحه 1/ 62، برقم 118، والحاكم 1/ 161، وأحمد، وصححه ابن خزيمة. (¬5) لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غسل يديه حتى أشرع في العضد، أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، برقم 246. (¬6) أخرجه أبو داود، برقم 142،وصححه ابن خزيمة من حديث لقيط - رضي الله عنه -،وتقدم تخريجه. (¬7) لحديث عبد الله بن زيد عند البخاري، برقم 185،ومسلم، برقم 235،وتقدم تخريجه. (¬8) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 121، 123، وصححه ابن خزيمة من حديث عبد الله بن عمرو، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، برقم 123، ورواه الترمذي وابن ماجه والنسائي من حديث عبد الله بن عباس، وصححه الألباني في الإرواء، برقم 90، 1/ 129. (¬9) تقدم تخريجه من حديث عبد الله بن زيد، وحمران عن عثمان - رضي الله عنه -. (¬10) لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غسل رجله حتى أشرع في الساق، أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، برقم 246. (¬11) لحديث لقيط - رضي الله عنه -، أخرجه أبو داود، برقم 142، وتقدم تخريجه.

9 - ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله

اليسرى مثل ما غسل اليمنى. 9 - ثم يقول: ((أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)) (¬1). ((اللهم اجعلني من التوَّابين، واجعلني من المتطهرين)) (¬2). ((سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك)) (¬3). 10 - من توضأ مثل هذا الوضوء ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدم من ذنبه؛ لحديث عثمان - رضي الله عنه - (¬4)، وفي حديث عقبة ابن عامر - رضي الله عنه -: ((ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يقوم فيصلي ركعتين مقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة)) (¬5)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال عند صلاة الفجر: ((يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دفّ نعليك بين يديّ في الجنة))؟ قال: ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهر طهوراً [تامّاً في ساعة من ليل ولا نهار إلا صليت بذلك الطّهور، ما كتب الله لي أن أصلي])) (¬6). 4 - فروض الوضوء وأركانه: فُروض الوضوء هي أركانه؛ لأنَّ هذه الفروض هي التي تتكوّن منها ماهيَّة الوضوء، وكل أقوال وأفعال تتكون منها ماهية العبادة فإنها ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب الذكر المستحب عقب الوضوء، برقم 234. (¬2) أخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب فيما يقال بعد الوضوء، برقم 55.وانظر: صحيح الترمذي، 1/ 18. (¬3) النسائي في عمل اليوم والليلة، ص173،برقم81، وانظر: إرواء الغليل، 1/ 135، 2/ 94. (¬4) أخرجه البخاري برقم 164، ومسلم برقم 226، وقد تقدم في المبحث الخامس، وفي فضل الوضوء. (¬5) أخرجه مسلم، برقم 234، وقد تقدم في المبحث الخامس، وفي فضل الوضوء. (¬6) أخرجه البخاري في كتاب التهجد، باب فضل الطهور بالليل والنهار، برقم 1149،ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل بلال - رضي الله عنه -،رقم 2458،وما بين المعقوفين من لفظ مسلم.

أولا: غسل الوجه، ومنه المضمضة والاستنشاق والاستنثار

أركان (¬1)، وفروض الوضوء ستة: أولاً: غسل الوجه، ومنه المضمضة والاستنشاق والاستنثار؛ للآية؛ ولحديث لقيط - رضي الله عنه -: ((وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)) (¬2)؛ ولحديثه أيضاً: ((إذا توضأت فمضمض)) (¬3)؛ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه: ((من توضأ فليستنثر)) (¬4).ولِمَواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - على المضمضة والاستنشاق. ثانياً: غسل اليدين إلى المرفقين، اليمنى ثم اليسرى، للآية؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه: ((إذا توضأتم فابدأوا بميامنكم)) (¬5). ثالثاً: مسح الرأس كله ومنه الأذنان؛ للآية؛ ولحديث عبد الله بن زيد - رضي الله عنه -: ((الأذنان من الرأس)) (¬6). ولمواظبته - صلى الله عليه وسلم - على مسح الأذنين. وللمسح على الرأس ثلاث صفات: الصفة الأولى: مسح جميع الرأس؛ لحديث عبد الله بن زيد - رضي الله عنه -: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدَّم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردَّهما إلى المكان الذي بدأ منه)) (¬7). ¬

(¬1) انظر: الشرح الممتع على زاد المستقنع لابن عثيمين، 1/ 147 - 148. (¬2) أخرجه أبو داود، برقم 142، وقد تقدم في المبحث الخامس: الوضوء. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الاستنثار، برقم 144، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 30، برقم 131. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب الاستنثار في الوضوء، برقم 161، ومسلم في كتاب الطهارة، باب الإيتار في الاستنثار والاستجمار، برقم 237/ 22. (¬5) أخرجه أبو داود في كتاب اللباس، باب في الانتعال، برقم 4141، وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب التيمم في الوضوء، برقم 402، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، برقم 323، وصحيح أبي داود، برقم 3488، ومشكاة المصابيح، برقم 402، وقال الحافظ في بلوغ المرام: أخرجه الأربعة، وصححه ابن خزيمة. (¬6) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب الأذنان من الرأس، برقم 443، 444، 445 وغيره، وصححه الألباني لكثرة طرقه وشواهده في صحيح ابن ماجه، برقم 357 - 359، والإرواء، برقم 84، والصحيحة، برقم 36. (¬7) أخرجه البخاري، برقم 185، ومسلم، برقم 235، وقد تقدم في صفة الوضوء.

الصفة الثانية: المسح على العمامة المحنكة وحدها

الصفة الثانية: المسح على العمامة المحنّكة وحدها؛ لحديث عمرو بن أمية عن أبيه قال: ((رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح على عمامته وخفَّيه)) (¬1). ويشترط للمسح على العمامة وحدها أو عليها مع الناصية ما يشترط للمسح على الخفين. واختاره العلامة ابن باز رحمه الله، وابن تيمية رحمه الله تعالى (¬2). الصفة الثالثة: المسح على الناصية والعمامة المحنّكة؛ لحديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -: ((أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - توضَّأ، ومسح بناصيته وعلى العمامة وعلى خفيه)) (¬3)؛ ولحديث بلال ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين والخمار)) (¬4). رابعاً: غسل الرجلين إلى الكعبين، مع العناية بالعقبين؛ للآية؛ ولحديث أبي هريرة وعبد الله بن عمر وعائشة - رضي الله عنهم -: ((ويل للأعقاب من النار)) (¬5)؛ ولمواظبته - صلى الله عليه وسلم - على ذلك. وما تقدّم من الفرائض هو المنصوص عليه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ} (¬6). خامساً: الترتيب؛ لأن الله تعالى ذكر الوضوء مرتباً، وأدخل الممسوح بين المغسولات، ولا نعلم لهذا فائدة غير الترتيب؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرتَّباً؛ ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أبدأ بما بدأ الله به)) (¬7). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب المسح على الخفين، برقم 204، 205.وانظر: زاد المعاد،1/ 199. (¬2) انظر: شرح العمدة لابن تيمية، ص 271. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين، برقم 274. (¬4) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين، برقم 275. (¬5) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب من رفع صوته بالعلم، برقم 60،، وباب من أعاد الحديث ثلاثاً ليفهم عنه، برقم 96، وفي كتاب الوضوء، باب غسل الرجلين ولا يمسح على القدمين، برقم 163،ومسلم في كتاب الطهارة، باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما، برقم 241. (¬6) سورة المائدة، الآية: 6. (¬7) أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 1218.

سادسا: الموالاة

سادساً: الموالاة: وهي عبارة عن الإتيان بالطهارة في زمن متصل، فلا يؤخّر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله؛ لحديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رجلاً توضأ فترك موضع ظفرٍ على قدمه فأبصره النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ارجع فأحسن وضُوءَك)) فرجع ثم صلى (¬1).وعند أبي داود، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي وفي ظهر قدمه لُمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، ((فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعيد الوضوء والصلاة)) (¬2).فلو لم تجب الموالاة لأمره بغسل اللُّمعة فقط (¬3). 5 ـ شُروط الوضوء: شروط الوضوء عشرة: الإسلام، والعقل، والتَّمييز والنّية، واستصحاب حكمها بأن لا ينوي قطعها حتى تتمَّ الطَّهارة، وانقطاع موجب، واستنجاء أو استجمار قبله، وطهورية ماء وإباحته، وإزالة ما يمنع وصوله إلى البشرة، ودخول وقت على من حدثه دائم لفرضه (¬4). 6 - سُنَنُ الوضوء: أولاً: السواك؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء)) (¬5). ثانياً: غسل الكفين في أول الوضوء، إلا إذا كان مستيقظاً من نومٍ، فإنَّه يجب غسلهما ثلاثاً قبل أن يدخلهما في الإناء (¬6). ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب وجوب استيعاب جميع أجزاء محل الطهارة، برقم 243. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب تفريق الوضوء، برقم 175،وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 36،وفي إرواء الغليل، 1/ 127 لطرقه وشواهده الكثيرة. (¬3) انظر: منار السبيل، 1/ 24، والشرح الممتع على زاد المستقنع، 1/ 148، والروض المربع حاشية ابن القاسم، 1/ 181، والمغني لابن قدامة، 1/ 155، ومؤلفات الإمام محمد بن عبد الوهاب، قسم الفقه، المجلد الثاني: رسالة شروط الصلاة وأركانها وواجباتها، وفتاوى سماحة الشيخ ابن باز، 3/ 294. (¬4) انظر: هذه الشروط مشروحة في الروض المربع حاشية ابن قاسم، 1/ 189 و193، وانظرها في: فتاوى سماحة العلامة ابن باز، 3/ 294، ورسالة شروط الصلاة للإمام محمد ابن عبد الوهاب، قسم الفقه من مؤلفاته، المجلد الثاني. (¬5) أخرجه البخاري معلقاً مجزوماً به (فتح الباري 4/ 158)، ومالك برقم 115، وقد تقدم في المبحث الثالث: سنن الفطرة. (¬6) أخرجه البخاري، برقم 162،ومسلم، برقم 278،وقد تقدم في المبحث الرابع: آداب قضاء الحاجة.

ثالثا: الدلك

ثالثاً: الدلك؛ لحديث عبد الله بن زيد ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُتي بثُلُثي مد فجعل يدلك ذراعه)) (¬1). رابعاً: تثليث الغسل في الوضوء؛ لحديث حمران عن عثمان - رضي الله عنه -، وحديث عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - (¬2). فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنّه توضأ ثلاثاً ثلاثاً، وهذا كثير، وثبت أنه ((توضأ مرّتين مرّتين)) (¬3). وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه ((توضأ مرّةً مرّةً)) (¬4)، وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه ((غسل بعض أعضائه مرتين، وبعضها ثلاثاً)) (¬5). خامساً: الدعاء بعد الوضوء؛ لحديث عمر - رضي الله عنه - (¬6). سادساً: صلاة ركعتين بعد الوضوء؛ لحديث حمران عن عثمان، وعقبة بن عامر، وبلال - رضي الله عنهم - (¬7). سابعاً: الاعتدال في الوضوء مع الإسباغ: فالأفضل أن يتوضأ المسلم ثلاثاً ثلاثاً بدون إسراف ولا اعتداء، لا في الوضوء ولا في الغسل، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((كان يغتسل من إناء - هو الفَرَقُ - من الجنابة)) (¬8) قال سفيان: والفرق: ثلاثة آصع (¬9). وعن أنس - رضي الله عنه - قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع إلى خمسة ¬

(¬1) أخرجه ابن خزيمة، 1/ 62، برقم 118، والحاكم، 1/ 161، وتقدم تخريجه في صفة الوضوء. (¬2) أخرجه البخاري، برقم 185، ومسلم، برقم 235، وقد تقدم في صفة الوضوء. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب الوضوء مرتين مرتين، برقم 158. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب الوضوء مرة مرة، برقم 157. (¬5) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب مسح الرأس كله، برقم 185،وفي باب من مضمض واستنشق من غرفة واحدة، برقم 191،ومسلم في كتاب الطهارة، باب في وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -،برقم 235. (¬6) أخرجه مسلم برقم 234، وقد تقدم في صفة الوضوء. (¬7) حديث بلال أخرجه البخاري في التهجد، باب فضل الطهور بالليل والنهار، برقم 1149، ومسلم برقم 2458، وقد تقدم في صفة الوضوء. (¬8) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة ... ، برقم 319. (¬9) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب القدر المستحب في غسل الجنابة ... برقم 319/ 41.

أمداد)) (¬1). وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تغتسل هي والنبي - صلى الله عليه وسلم - في إناء واحد يسع ثلاثة أمداد، أو قريباً من ذلك (¬2). وعن أم عمارة (¬3) وعبد الله بن زيد (¬4) رضي الله عنهما ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُتي بثُلُثي مدّ فجعل يدلك ذراعه)). قال البخاري رحمه الله تعالى: ((بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن فرض الوضوء مرة مرة، وتوضأ أيضاً مرتين، وثلاثاً ولم يزد على ثلاث، وكره أهل العلم الإسراف فيه وأن يجاوز فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -)) (¬5). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في الجمع بين الروايات السابقة: ((وهذا يدل على اختلاف الحال في ذلك بقدر الحاجة)) (¬6). ولا شك أن هديه - صلى الله عليه وسلم - يدل على الاقتصاد في الماء مع الإسباغ والكمال، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((بت عند خالتي ميمونة ليلةً، فلما كان في بعض الليل قام النبي - صلى الله عليه وسلم - فتوضأ من شن معلَّق وضوءاً خفيفاً وقام يصلي ... )) (¬7). فينبغي الاقتصاد في الماء وعدم الإسراف، فعن عمرو بن شعيب عن ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب الوضوء بالمد، برقم 201، ومسلم في كتاب الحيض، باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة ... برقم 321. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة ... ، برقم 321. (¬3) حديث أم عمارة أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب ما يجزئ من الماء في الوضوء، برقم 94، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 20. (¬4) ابن خزيمة 1/ 61،رقم 118،والحاكم 1/ 161،وتقدم تخريجه في صفة الوضوء الكامل. (¬5) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب ما جاء في الوضوء، قبل الحديث رقم 135. (¬6) الفتح، 1/ 305. (¬7) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب التخفيف في الوضوء، برقم 138، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم 763.

7ـ نواقص الوضوء:

أبيه عن جده قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأراه الوضوء ثلاثاً ثلاثاً ثم قال: ((هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء، وتعدى، وظلم)) (¬1). وعن عبد الله بن مُغَفَّل أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء)) (¬2). 7ـ نواقص الوضوء: 1 - الخارج من السبيلين: كالبول، والغائط (¬3)، والريح (¬4)، والمذي (¬5)، والودي، والمني (¬6)، فهذه الخوارج تنقض الطهارة إجماعاً كما قال ابن قدامة (¬7)، ودم الاستحاضة ينقض الوضوء على الصحيح (¬8) وهو قول عامة ¬

(¬1) أخرجه النسائي في كتاب الطهارة، باب الاعتداء في الوضوء، برقم 140، وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في القصد في الوضوء وكراهية التعدي فيه، برقم 422، وأحمد، 2/ 180، وحسنه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 31. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب الإسراف في الماء، برقم 96، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 21. (¬3) لقوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مّنكُم مّنَ الْغَائِطِ} سورة المائدة، الآية: 6، ولحديث صفوان ابن عسال - رضي الله عنه -: ((ولكن من غائط، وبول، ونوم))، أخرجه أحمد، 4/ 240، والترمذي في كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين للمسافر والمقيم، برقم 96، وابن ماجه في كتاب الطهارة، باب الوضوء من النوم، برقم 478، وغيرهم، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 1/ 30. (¬4) لقوله - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة: ((لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً))، أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب من لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن، برقم 137، ومسلم في كتاب الحيض، باب الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك، برقم 361، ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عندما سئل ما الحدث؟ فقال: ((فساء أو ضراط)). البخاري مع الفتح، 12/ 329، ومسلم، 1/ 204. (¬5) لحديث علي - رضي الله عنه -،أخرجه أبو داود، برقم 206، 208،وتقدم تخريجه في المبحث الثاني: أنواع النجاسات. (¬6) لقول ابن عباس: ((المني، والودي، والمذي: أما المني ففيه الغسل، وأما المذي والودي ففيهما إسباغ الطهور)). ذكره ابن قدامة وعزاه للأثرم، انظر: المغني، 1/ 233. (¬7) المغني لابن قدامة، 1/ 230. (¬8) لحديث عائشة رضي الله عنها في قصة فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها: ((ثم توضئي لكل صلاة))، رواه البخاري، وسيأتي تخريجه - إن شاء الله - في الاستحاضة.

2 - خروج النجاسة من بقية البدن

أهل العلم (¬1). 2 - خروج النجاسة من بقية البدن، فإن كان بولاً أو غائطاً نقض الوضوء سواء كان قليلاً أو كثيراً، وإن كان الخارج غير البول والغائط: كالدم الكثير، والقيء الكثير، والصديد الكثير، ونحو ذلك، فقيل ينقض إذا كان كثيراً نجساً (¬2). 3 - زوال العقل بنوم أو غيره. فأما النوم فينقض المستغرق منه على الصحيح؛ لحديث صفوان بن عسال - رضي الله عنه - (¬3) وأما غيره: كالجنون، والإغماء، والسكر، وما أشبهَهُ من الأدوية المزيلة للعقل فينقض الوضوء يسيره وكثيره (¬4). 4 - مس الفرج باليد قُبُلاً كان أو دُبُراً من غير حائل؛ لحديث جابر، وبسرة بنت صفوان رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من مسّ ذكره فليتوضأ)) (¬5). ولحديث أم حبيبة وأبي أيوب رضي الله عنهما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من مسّ فرجه فليتوضأ)) (¬6)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي ¬

(¬1) المغني لابن قدامة، 1/ 230. (¬2) ذكر سماحة العلامة ابن باز هذا الناقض ضمن نواقض الوضوء في مجموع فتاواه، 3/ 294، وذكر العلامة ابن عثيمين أقوال الطرفين بأدلتها في كتاب الشرح الممتع على زاد المستقنع، 1/ 223، وانظر: المغني، 1/ 247 - 250. (¬3) أخرجه أحمد، 4/ 240، والترمذي، برقم 96، وابن ماجه، برقم 478، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 30، وتقدم تخريجه في الناقض الأول من نواقض الوضوء، وانظر: المغني، 1/ 235، والشرح الممتع، 1/ 226. (¬4) انظر: المغني لابن قدامة،1/ 234،وقال: (( ... ينقض الوضوء يسيره وكثيره إجماعاً)). (¬5) حديث بسرة أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب الوضوء من مس الذكر، برقم 181، والنسائي في كتاب الطهارة، باب الوضوء من مس الذكر، برقم 163،والترمذي في كتاب الطهارة، باب الوضوء من مس الذكر، برقم 82،وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب الوضوء من مس الذكر، برقم 479، وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل، 1/ 150،برقم 116،أما حديث جابر فأخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب الوضوء من مس الذكر، برقم 480،وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 79. (¬6) حديث أم حبيبة أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب الوضوء من مس الذكر، برقم 481، وحديث أبي أيوب برقم 482، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 79.

5 - أكل لحم الإبل

- صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه وليس بينهما ستر ولا حجاب فليتوضأ)) (¬1). وحلقة الدبر فرج؛ لأنه منفرج عن الجوف ويخرج منه ما يخرج، فمن مس حلقة الدبر بدون حائل فله حكم من مس ذكره (¬2). 5 - أكل لحم الإبل؛ لحديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه - أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: ((إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ)). قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: ((نعم فتوضأ من لحوم الإبل ... )) الحديث (¬3). 6 - الرّدَّةُ عن الإسلام أعاذنا الله والمسلمين من ذلك؛ لقوله تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬4). وقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (¬5). أما غسل الميت فالصحيح أنه لا ينقض الوضوء وهو قول أكثر أهل العلم، لكن لو أصابت يد الغاسل فرج الميت من غير حائل وجب عليه الوضوء، والواجب عليه ألا يمس فرج الميت إلا من وراء حائل. وهكذا مس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقاً سواء كان ذلك عن شهوة أو غير شهوة في أصح قولي العلماء ما لم يخرج منه شيء؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبَّل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ، أما قوله تعالى: {أَوْ لاَمَسْتُمُ ¬

(¬1) أخرجه ابن حبان كما في الموارد (رقم 210)، والدارقطني، 1/ 147، والبيهقي في السنن الكبرى في كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء من مس الفرج بظهر الكف، 1/ 133، وقال الألباني في الأحاديث الصحيحة، برقم (1235): ((إسناد ابن حبان جيد)). قلت: أما حديث طلق فقال عنه سماحة العلامة ابن باز في شرحه لبلوغ المرام: ((كان مس الذكر في أول الإسلام لا ينقض الوضوء، ثم نسخ بحديث بسرة، وقيل: نأخذ بالترجيح، فحديث بسرة أصح من حديث طلق بن علي [و] ما دل عليه حديث بسرة هو الصواب، وأن مس الذكر ينقض الوضوء)). اهـ. (¬2) انظر الشرح الممتع للعلامة ابن عثيمين، 1/ 242. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب الوضوء من لحوم الإبل، برقم 360. (¬4) سورة المائدة، الآية: 6. (¬5) سورة الزمر، الآية: 65.

8 - الأمور التي يستحب لها الوضوء:

النساء} (¬1) فالمراد به الجماع في الأصح من قولي العلماء، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما وجماعة (¬2). 8 - الأمور التي يستحب لها الوضوء: 1 - عند ذكر الله تعالى ودعائه؛ لحديث أبي موسى أنه أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بخبر أبي عامر، وأنه قال له: أقرئ النبي - صلى الله عليه وسلم - منّي السلام، وقل له: استغفر لي. فلما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بماءٍ فتوضأ منه، ثم رفع يديه ثم قال: ((اللهم اغفر لعبيد أبي عامر ... )) الحديث (¬3). 2 - الوضوء عند النوم، لحديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن)). الحديث (¬4). 3 - الوضوء عند كل حدث؛ لحديث بريدة - رضي الله عنه - قال: أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً فدعا بلالاً فقال: ((يا بلال بمَ سبقتني إلى الجنة؟ إنني دخلت الجنة البارحة فسمعت خشخشتك (¬5) أمامي؟)) فقال بلال: ((ما أذّنت قط إلا صليت ركعتين، ولا أصابني حدث قط إلا توضأت ... )) (¬6). الحديث. 4 - الوضوء عند كل صلاة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لولا أن أشقَّ على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوءٍ، ومع ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 43. (¬2) مجموع فتاوى العلامة ابن باز،3/ 394،وانظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، 1/ 231 - 236. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة أوطاس، برقم 4323، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أصحاب الشجرة أهل بيعة الرضوان - رضي الله عنهم -، برقم 2498. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب إذا بات طاهراً، برقم 6311، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، برقم 2710. (¬5) الخشخشة: حركة لها صوت كصوت السلاح: أي صوت مشيتك. (¬6) أخرجه الترمذي في كتاب المناقب، باب من مناقب عمر، برقم 3689، وأحمد، 5/ 360، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 205، وصحيح الترغيب والترهيب، 1/ 87، برقم 196، ويفتي به سماحة شيخنا ابن باز رحمه الله تعالى.

5 - الوضوء من حمل الميت

كل وضوءٍ بسواك)) (¬1). 5 - الوضوء من حمل الميت؛ لحديث أبي هريرة يرفعه: ((من غسل ميتاً فليغتسل ومن حمله فليتوضأ)) (¬2). 6 - الوضوء من القيء، لحديث معدان عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((قاء، فأفطر، فتوضأ)). الحديث (¬3). 7 - الوضوء مما مست النار؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((توضَّؤوا مما مست النار)) (¬4). ثم ثبت من حديث ابن عباس، وعمرو بن أمية، وأبي رافع - رضي الله عنهم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل من لحم ما مست النار ثم ((قام فصلى ولم يتوضأ)) (¬5)، فدل ذلك على استحباب الوضوء مما مست النار. 8 - الوضوء للجنب إذا أراد الأكل؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان جنباً فأراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه للصلاة)) (¬6). ¬

(¬1) أخرجه أحمد، (2/ 250، 400، 433، 460، 517)، وحسنه المنذري، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 86، برقم 95. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب في الغسل من غسل الميت، برقم 3161، والترمذي في كتاب الجنائز، باب ما جاء في الغسل من غسل الميت، برقم 993، وصححه الألباني في الإرواء، 1/ 173، برقم 144، وتمام المنة، ص 112. ويرى العلامة ابن باز في شرحه لبلوغ المرام أن الوضوء من حمل الميت لا يستحبّ؛ لأن الحديث ضعيف، أما الغسل من تغسيل الميت فسنة لأحاديث أخرى، منها حديث عائشة، وأسماء، وستأتي إن شاء الله تعالى. (¬3) أخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في الوضوء من القيء والرعاف، برقم 87، وأحمد، 6/ 443، وأبو داود في كتاب الصوم، باب الصائم يستقئ عامداً، برقم 2381، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 1/ 147، برقم 111، وفي تمام المنة، ص111، وانظر: التلخيص الحبير، 2/ 190، وشرح العمدة لابن تيمية، ص 108، ورجح شيخنا ابن باز الاستحباب في شرحه لبلوغ المرام. (¬4) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب الوضوء مما مست النار، برقم 353. (¬5) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق، برقم 208، ومسلم في كتاب الحيض، باب نسخ الوضوء مما مست النار، برقم 354، وقد سألت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله تعالى -: هل الوضوء مما مست النار مستحبّاً؟ فقال: ((نعم يستحب)). (¬6) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له وغسل الفرج ... ، برقم 305.

9 - الوضوء لمعاودة الجماع

9 - الوضوء لمعاودة الجماع؛ لحديث أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ)) (¬1). أما الغُسل فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يطوف على نسائه بغسل واحد (¬2). 10 - الوضوء للجنب إذا نام دون اغتسال؛ لحديث عائشة عندما سُئلت: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرقد وهو جنب؟ قالت: ((نعم ويتوضأ)) (¬3). وعن ابن عمر أن عمر رضي الله عنهما استفتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: هل ينام أحدنا وهو جنب؟ قال: ((ليتوضأ ثم لينم حتى يغتسل إذا شاء)) (¬4). قال العلامة ابن باز: وجاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه ربما اغتسل قبل أن ينام، فالأحوال ثلاثة: إحداها أن ينام من غير وضوء ولا غسل وهذه مكروه، وهو خلاف السنة. الحالة الثانية: يستنجي ويتوضأ وضوء الصلاة، وهذا لا بأس به. الحالة الثالثة: أن يتوضأ ويغتسل، وهذا هو الأكمل (¬5). ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له وغسل الفرج، برقم 308، قال سماحة العلامة ابن باز - رحمه الله - في شرحه لبلوغ المرام: ظاهر الأمر للوجوب. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له وغسل الفرج، برقم 309. (¬3) أخرجه البخاري بلفظه في كتاب الغسل، باب كينونة الجنب في البيت إذا توضأ قبل أن يغتسل، برقم 286، ومسلم في كتاب الحيض، باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له وغسل الفرج، برقم 305. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الغسل، باب نوم الجنب، برقم 287، ومسلم في كتاب الحيض، باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له وغسل الفرج، برقم 306. (¬5) شرح عمدة الأحكام لسماحة الشيخ ابن باز، مخطوط، ص 30،في مكتبتي الخاصة.

المبحث السادس: المسح على الخفين والعمائم والجبيرة

المبحث السادس: المسح على الخفين والعمائم والجبيرة أولاً: حكم المسح على الخُفَّيْن: مشروع بالكتاب، والسنة، وإجماع أهل السنة؛ لقوله تعالى: {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَين} (¬1) على قراءة الجر، أما قراءة النصب فتحمل على غسل الرجلين المكشوفتين. أما السُّنة فقد تواترت الأحاديث بذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: ((ليس في قلبي من المسح شيء فيه أربعون حديثاً عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما رفعوا إلى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وما وقفوا)) (¬3). وقال الحسن البصري رحمه الله: ((حدثني سبعون من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مسح على الخُفَّيْن)) (¬4). والأفضل في حقّ كل أحد بحسب قُدرتِهِ، فَلِلاَبس الخف أن يمسح عليه ولا ينزع خُفَّه إذا اكتملت الشروط، اقتداءً بالنَّبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم -، وَلِمَن قدماه مكشوفتان الغسل، ولا يتحرى لبسه ليمسح عليه (¬5)؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن الله يُحبُّ أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته)) (¬6). وفي حديث ابن مسعود وعائشة رضي الله عنهما: ((إن الله يُحبُّ أن تقبل رخصه كما ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 6. (¬2) الشرح الممتع على زاد المستقنع، 1/ 183، وفتح الباري، 1/ 306. (¬3) ذكره ابن قدامة في المغني، 1/ 360، وتعرف تلك الآثار بالتتبع، وقد روى أكثرها ابن أبي شيبة، 1/ 175 - 184. (¬4) ذكره ابن حجر في الفتح، 1/ 306،وعزاه لابن أبي شيبة، وذكره في التلخيص الحبير 1/ 158، وعزاه لابن المنذر، انظر: الأوسط لابن المنذر،1/ 433، و1/ 427. (¬5) الاختيارات الفقهية لابن تيمية، ص13، وانظر: زاد المعاد، 1/ 99، والمغني، 1/ 360. (¬6) أحمد في المسند، 2/ 108، والبيهقي في سننه الكبرى، 3/ 140، وابن خزيمة في صحيحه، برقم 950، 2027، والخطيب في تاريخه، 10/ 347. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 3/ 162: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح، والبزار، والطبراني في الأوسط، وإسناده حسن، وصححه الألباني في الإرواء، 3/ 9، برقم 564.

ثانيا: شروط المسح على الخفين وما في معناهما:

يحب أن تؤتى عزائمه)) (¬1). ثانياً: شروط المسح على الخفين وما في معناهما: 1 - أن يلبسهما على طهارةٍ؛ لحديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -، قال: كنت مع النَّبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فأهويت لأنزع خُفَّيْه فقال: ((دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين)) فمسح عليهما (¬2). 2 - أن يكون المسح في الحدث الأصغر؛ لحديث صفوان بن عسَّال - رضي الله عنه - قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا إذا كُنّا سفراً أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن، إلا من جنابة، ولكن من غائط، وبول، ونوم)) (¬3) فلا يجوز المسح في الجنابة ولا فيما يوجب الغسل (¬4). 3 - أن يكون المسح في الوقت المحدد شرعاً وهو يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر؛ لحديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، قال: ((جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم)) (¬5)؛ ولحديث صفوان - رضي الله عنه - المتقدم؛ ولحديث أبي بكرة - رضي الله عنه - عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - ((أنَّه رَخَّصَ للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوماً وليلة، إذا تطهر فلبس ¬

(¬1) الطبراني، وابن حبان، رقم 3568، والبيهقي في السنن الكبرى، (3/ 140)، وصححه الألباني في الإرواء، 3/ 11 - 13، والعزائم هي الفرائض. وعند مسلم من حديث جابر - رضي الله عنه -: ((عليكم برخصة الله الذي رخص لكم)) في كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية، برقم 1115. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان، برقم 206، ومسلم في كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين، برقم 274/ 79. (¬3) أخرجه أحمد، 4/ 239، والنسائي في كتاب الطهارة، باب التوقيت في المسح على الخفين للمسافر، برقم 127، والطبراني في الكبير، برقم 7351، وابن خزيمة، برقم 196، وصححاه. وحسنه الألباني في إرواء الغليل، 1/ 140، برقم 104. (¬4) انظر: فتاوى المسح على الخفين لابن عثيمين، ص8، والمغني، 1/ 561، وشرح الزركشي، 1/ 388، والشرح الممتع، 6/ 168. (¬5) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب التوقيت في المسح على الخفين، برقم 276.

4 - أن يكون الخفان أو الجوربان أو العمامة طاهرة

خُفَّيْه أن يمسح عليهما)) (¬1). وهذه المدة على الصحيح تبتدئ من أول مرة مسح بعد الحدث (¬2)، وتنتهي بأربع وعشرين ساعة بالنسبة للمقيم، واثنتين وسبعين ساعة بالنسبة للمسافر (¬3). 4 - أن يكون الخُفَّان أو الجوربان أو العمامة طاهرة (¬4)؛ فإن كانت نجسة؛ فإنه لا يجوز المسح عليها، والطاهر ضد النجس والمتنجّس، والنجس: نجس العين كما لو كانت الخفاف من جلد حمار. والمتنجّس كما لو كانت من جلد بعير لكن أصابتها نجاسة، إلا أن المتنجس إذا طهر جاز المسح عليه والصلاة فيه؛ لحديث أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلّي بأصحابه إذ خلع نعليه، فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته قال: ((ما حملكم على إلقائكم نعالكم))؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذراً))، وقال: ((إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه [بالأرض] وليصلّ فيهما)) (¬5). ¬

(¬1) ابن خزيمة، 1/ 96، وابن حبان (موارد)، برقم 184، والدارقطني، وانظر: التلخيص الحبير،1/ 157. (¬2) الفتاوى الإسلامية، 1/ 236، وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، 5/ 243، وشرح العمدة لابن تيمية، ص556، وفتاوى المسح على الخفين لابن عثيمين، ص8، وفتاوى ابن عثيمين، 4/ 186، وإرشاد أولي البصائر والألباب للسعدي، ص14، والشرح الممتع لابن عثيمين، 1/ 187، وشرح عمدة الأحكام لابن باز، ص22، مخطوط، وانظر: تمام النصح للألباني، فقد نقل آثاراً تنص على أن المسح يبدأ من المسح بعد الحدث ص 89 - 92، وشرح بلوغ المرام لسماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز، حديث رقم 69. (¬3) المغني لابن قدامة، 1/ 369، وشرح العمدة في الفقه لابن تيمية، ص 256، وفتاوى المسح على الخفين لابن عثيمين، ص 18. (¬4) انظر: الفتاوى الإسلامية، 1/ 235، والشرح الممتع، 1/ 188. (¬5) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الصلاة في النعل، برقم 650،وأحمد،3/ 20، وما بين المعقوفين من رواية الإمام أحمد، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم 605، وفي الإرواء، برقم 284، وتقدم تخريجه في المبحث الثاني: أنواع النجاسات.

5 - أن يكون ساترا لمحل الفرض، وأن يكون صفيقا لا يصف البشرة

وهذا يدل على أنه لا يجوز أن يصلَّى فيما فيه نجاسة، ولأن النجس إذا مسح عليه بالماء تلوث بالنجاسة؛ فلا يصح المسح عليه (¬1). 5 - أن يكون ساتراً لمحل الفرض، وأن يكون صفيقاً لا يصف البشرة (¬2)، ويُعفى عن الخروق اليسيرة، وقد رجح القول بهذا الشرط العلامة عبد العزيز ابن باز رحمه الله تعالى (¬3). 6 - أن يكون مباحاً لا مغصوباً، ولا حريراً لرجل، ولا مسروقاً، فإن المحرَّم نوعان: محرّم لكسبه كالمغصوب والمسروق، ومحرّم لعينه: كالحرير للرجل، وكذا اتخاذ ما فيه صور لذوات الأرواح، فلا يجوز أن يمسح على هذين النوعين؛ لأن المسح على الخفين رخصة، فلا تستباح به المعصية؛ ولأن القول بالجواز مقتضاه إقرار هذا الإنسان على لبس هذا المحرم، والمحرم يجب إنكاره (¬4). 7 - أن لا ينزع بعد المسح قبل انقضاء المدة؛ فإن خلع خفيه أو ما في معناهما بعد المسح عليهما أعاد الوضوء مع غسل الرّجلين (¬5). ورجح هذا القول العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز، وقال: هو قول الجمهور، وهو الصواب (¬6). ¬

(¬1) انظر: الشرح الممتع على زاد المستقنع، 1/ 188، وفتاوى المسح على الخفين لابن عثيمين، ص 7. (¬2) انظر: المغني لابن قدامة، 1/ 372، 373، وشرح العمدة في الفقه لابن تيمية، ص 250، ومنار السبيل، 1/ 30، وشرح الزركشي، 1/ 391، والشرح الممتع على زاد المستقنع، 1/ 90. (¬3) الفتاوى الإسلامية، 1/ 235، وشرح عمدة الأحكام للمقدسي لسماحته، ص 21، مخطوط، وفتاوى اللجنة الدائمة، 5/ 238، 243، 246، والفتاوى الإسلامية، 1/ 234. (¬4) الشرح الممتع، 1/ 189، والمغني لابن قدامة، 1/ 373، وشرح الزركشي، 1/ 396، ومنار السبيل، 1/ 30، ويفتي به سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى. (¬5) المغني لابن قدامة، 1/ 367، وشرح العمدة في الفقه [كتاب الطهارة] لابن تيمية، ص 257، وانظر: الشرح الممتع لزاد المستقنع، 1/ 215. (¬6) انظر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، 5/ 251 - 252، وشرح بلوغ المرام لسماحة الشيخ ابن باز، مخطوط.

ثالثا: مبطلات المسح:

وهناك بعض الشروط ذكرها بعض أهل العلم ليس عليها دليل، أو تدخل فيما سبق (¬1). ثالثاً: مُبطلات المسح: 1 - إذا حدث ما يوجب الغسل كالجنابة بطل المسح ولا بد من غسل (¬2). 2 - إذا خلع الخفين أو ما في معناهما بعد المسح عليهما بطل وضوؤه على القول الراجح كما تقدم (¬3). 3 - إذا انقضت المدة المعتبرة شرعاً بطل المسح (¬4). ورجح سماحة الإمام العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله تعالى أن انقضاء المدة يبطل المسح لمفهوم أحاديث التوقيت، فإذا انقضت المدة خلع الخفين وغسل الرجلين، وخلع العمامة ومسح الرأس (¬5). رابعاً: كيفية المسح على الخفين والجوربين والعمائم: يمسح على ظاهر الخفين أو الجوربين؛ لحديث علي - رضي الله عنه - قال: ((لو كان الدين بالرأي؛ لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظاهر خفيه)) (¬6)؛ ولحديث المغيرة بن شعبة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كان يمسح على الخفين)) وقال: ((على ظهر ¬

(¬1) انظر: منار السبيل، 1/ 30، والسلسبيل في معرفة الدليل، 1/ 142، وهي: إمكان المشي بهما عرفاً، وثبوتهما بنفسهما، وألا يكون واسعاً يرى منه محل الفرض، وانظر: شرح الزركشي، 1/ 395 - 396. (¬2) لحديث صفوان بن عسال، أخرجه أحمد، 4/ 239، وابن خزيمة، برقم 196، والنسائي، برقم 127، والطبراني في الكبير، برقم 7351، وتقدم تخريجه في المبحث السادس: المسح على الخفين. (¬3) لما تقدم في الشرط السابع. (¬4) انظر: شرح العمدة في الفقه، كتاب الطهارة، لابن تيمية، ص 257، والمغني لابن قدامة، 1/ 366. (¬5) ذكر ذلك سماحة الشيخ في شرحه لبلوغ المرام، وكان يفتي به كثيراً. (¬6) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب كيف المسح، برقم 162، وصححه العلامة ابن باز، والألباني في صحيح أبي داود، 1/ 33، وانظر: إرواء الغليل، برقم 103.

أما المسح على العمائم وخمار المرأة على الصحيح فهو على صفتين:

الخفين)) (¬1)، قال ابن قدامة رحمه الله: ((روى الخلال بإسناده عن المغيرة بن شعبة فذكر وضوء النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثم توضأ ومسح على الخفين، فوضع يده اليمنى على خفه الأيمن، ووضع يده اليسرى على خفه الأيسر، ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة حتى كأني أنظر إلى أثر أصابعه على الخفين)) (¬2). قال ابن عقيل: سنة المسح هكذا ((أن يمسح خفيه بيديه اليمنى لليمنى، واليسرى لليسرى))، وقال أحمد: ((كيفما فعلت فهو جائز باليد الواحدة أو باليدين)) (¬3). والمسح على الجوربين كالمسح على الخفين تماماً؛ لحديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: ((توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومسح على الجوربين والنعلين)) (¬4). وذكر ابن قدامة أنه إذا مسح على الجوربين والنعلين جميعاً فإنه بعد المسح لا يخلع النعلين (¬5). أما المسح على العمائم وخمار المرأة على الصحيح فهو على صفتين: الصفة الأولى: المسح على العمامة المحنَّكة والخمار المحنَّك. الصفة الثانية: المسح على الناصية والتكميل على العمامة أو الخمار (¬6). ويشترط للعمامة والخمار ما يشترط للخفين على الصحيح، كما رجح ذلك ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب كيف المسح، برقم 161، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 33. (¬2) ذكره في المغني، 1/ 377، وعزاه للخلال بإسناده. (¬3) المغني، 1/ 378، وانظر: شرح العمدة، ص372، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي، 1/ 403، وزاد: قال في البلغة: ((ويسن تقديم اليمين)). (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب المسح على الجوربين، برقم 159، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 33. (¬5) المغني لابن قدامة، 1/ 375، وشرح العمدة لابن تيمية، ص251، وزاد المعاد، 1/ 199، والاختيارات الفقهية لابن تيمية، ص 14. (¬6) أخرجه البخاري، برقم 204، 205، وقد تقدم في فروض الوضوء وأركانه.

خامسا: المسح على الجبائر:

سماحة العلامة ابن باز رحمه الله تعالى (¬1). خامساً: المسح على الجبائر: الأحاديث التي وردت في الجبائر قال جماعة من أهل العلم: إنها ضعيفة (¬2)، ولكن ذكر العلامة ابن باز رحمه الله أن أحاديث الجبائر مع أحاديث المسح على الخفين تدل على شرعية المسح على الجبائر؛ لأن المسح على الخفين للتيسير، فالمسح على الجبائر أولى بالشرعية؛ ولكونه ضرورياً لم يشرع فيه التوقيت (¬3)، ويفارق مسح الجبيرة مسح الخف من وجوه على النحو الآتي: 1 - لا يجوز المسح عليها إلا عند الضرر بنزعها، والخف خلاف ذلك. 2 - يجب استيعابها بالمسح إلا ما زاد على محل الفرض في الوضوء؛ لأنه لا ضرر في تعميمها به بخلاف الخف فإنه يشق تعميمه بالمسح، فيجزئ فيه مسح بعضه كما وردت به السنة (¬4). 3 - يمسح على الجبيرة من غير توقيت؛ لأن مسحها لضرورة فتقدّر بقدرها. 4 - يمسح عليها في الحدث الأصغر والأكبر بخلاف الخف؛ فإنه لا يمسح عليه إلا في الأصغر. 5 - لا يشترط تقدم الطهارة على شدّها على القول الراجح بخلاف الخفّ (¬5). 6 - الجبيرة لا تختص بعضو معين والخف يختص بالرّجل (¬6). ¬

(¬1) وانظر المغني لابن قدامة، 1/ 383. (¬2) منها حديث علي بن أبي طالب، وحديث ابن عباس، وحديث جابر، انظر: بلوغ المرام، من حديث 145 - 147. (¬3) شرح بلوغ المرام للعلامة ابن باز، حديث 145 - 147، مخطوط. (¬4) قال ابن تيمية رحمه الله: وهو مذهب الفقهاء قاطبة، انظر: فتاوى ابن تيمية،21/ 178 - 182. (¬5) المغني، 1/ 356، وفتاوى ابن تيمية، 21/ 176 - 179. وانظر: الأسئلة والأجوبة الفقهية للسلمان، 1/ 31، فقد زاد بعض الفروق. (¬6) الشرح الممتع، 1/ 204.

سادسا: كيفية المسح على الجبائر:

سادساً: كيفية المسح على الجبائر: إذا وجد جرح في أعضاء الطهارة فله مراتب: المرتبة الأولى: أن يكون مكشوفاً ولا يضره الغسل، فيجب غسله. المرتبة الثانية: أن يكون مكشوفاً ويضره الغسل والمسح لا يضره، فيجب مسحه. المرتبة الثالثة: أن يكون مكشوفاً ويضره الغَسلُ والمسح، فحينئذ يشد عليه جبيرة ويمسح عليها، فإن عجز فهنا يتيمم له. المرتبة الرابعة: أن يكون مستوراً بجبس، أو لزقة، أو جبيرة، أو شبه ذلك ففي هذه الحال يمسح على الساتر، ويغنيه عن الغَسل (¬1). والصواب أنه إذا مسح على العضو يكفي ويغني عن التيمم، فلا يجمع بين المسح والتيمم إلا إذا كان هناك عضو آخر لم يمسح عليه (¬2). ¬

(¬1) فتاوى المسح على الخفين لابن عثيمين، ص 25. (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، 5/ 248، والشرح الممتع، 1/ 202.

المبحث السابع: الغسل

المبحث السابع: الغسل أولاً: مُوجبات الغُسل: 1 - خروج المني دفقاً بلذة؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: ((إنما الماء من الماء)) (¬1)؛ ولحديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رأيت المذي فاغسل ذكرك وتَوَضَّأْ وُضوءَك للصَّلاة، فإذا فضخت (¬2) الماء فاغتسل)) (¬3)؛ ولحديث أمّ سلمة أم المؤمنين وأنس، وعائشة أم المؤمنين - رضي الله عنهم - أن أم سُليم امرأة أبي طلحة رضي الله عنها جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحي من الحقّ، فهل على المرأة مِنْ غُسلٍ إذا احتلمت؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم إذا رأت الماء)) (¬4). فعُلِمَ أن المني إذا خرج من نائم وجب عليه الغسل مطلقاً سواء كان دفقاً بلذَّةٍ أو بدون لذَّة؛ لأنَّ النَّائم قد لا يحسُّ به، فإذا احتلم الرجل أو المرأة ثم استيقظ فرأى الماء فعليه الغسل، فإن استيقظ ولم ير الماء فلا غسل عليه، قال ابن المنذر: ((أجمع على هذا كل من أحفظ عنه من أهل العلم)) (¬5). والنائم إذا استيقظ من نومه فوجد بللاً فلا يخلو من ثلاث حالات: الأولى: أن يتيقن أنه مني ففي هذه الحالة يجب عليه أن يغتسل سواء ذكر احتلاماً أم لم يذكر؛ ولهذا عندما رأى عمر - رضي الله عنه - في ثوبه احتلاماً وقد صلَّى بالمسلمين الفجر، اغتسل وغسل ثوبه وصلَّى (¬6). فقد أعاد الصلاة ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب إنما الماء من الماء، برقم 343. (¬2) فضخ الماء: دفقه وخروجه على وجه الشدة. (¬3) أخرجه أبو داود، في كتاب الطهارة، باب في المذي، برقم 206، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 40، برقم 190، وفي إرواء الغليل، 1/ 162. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الغسل، باب إذا احتلمت المرأة، برقم 282، ومسلم في كتاب الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها، برقم 310 - 313. (¬5) المغني، 1/ 266، وانظر: الشرح الممتع، 1/ 279. (¬6) المغني، 1/ 269، والأثر رواه البيهقي، 1/ 170، وانظر: المغني أيضاً، 1/ 270.

الحالة الثانية: أن يتيقن أنه ليس بمني

من أحدث نومة نامها في ذلك الثوب. الحالة الثانية: أن يتيقن أنَّه ليس بمني ففي هذه الحالة لا يجب عليه الغسل لكن يجب عليه أن يغسل ما أصابه؛ لأن حكمه حكم البول (¬1). الحالة الثالثة: أن يجهل هل هو مني أم لا (¬2)،وهذه الحالة لا تخلو من أمرين: الأمر الأول: أن يذكر أنه قد لاعب أهله أو فكر في الجماع، أو نظر إليهم بشهوةٍ؛ فإنه يجعله مذياً؛ لأنّه يخرج بعد التفكير في الجماع في الغالب بدون إحساس، وليس عليه غسل، وإنما يتوضأ وضوءه للصلاة بعد غسل ذكره وأنثييه، وما أصاب ثيابه. الأمر الثاني: أن لا يسبقه تفكير في الجماع ولا ملاعبة لأهله، ففيه قولان للعلماء: القول الأول: يجب أن يغتسل؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يجد البللَ ولا يذكر احتلاماً قال: ((يغتسل))، وعن الرجل يرى أنه قد احتلم ولا يجد البلل؟ قال: ((لا غسل عليه)) (¬3). فالأولى أن يغتسل لموافقة هذا الخبر، وإزالة الشكّ، ويكون ذلك احتياطاً (¬4). القول الثاني: لا يجب عليه أن يغتسل؛ لأن الأصل الطهارة ولا تزول بالشك بل لا بد من اليقين (¬5). 2 - التقاءُ الختانين؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا ¬

(¬1) الشرح الممتع، 1/ 280. (¬2) المغني، 1/ 270. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الرجل يجد البلة في منامه، برقم 236، والترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء فيمن يستيقظ فيرى بللاً ولا يذكر احتلاماً، برقم 113، وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب من احتلم ولم ير بللاً، برقم 612، وأحمد في المسند، 6/ 256، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 46، برقم 216. (¬4) المغني لابن قدامة، 1/ 270، والشرح الممتع، 1/ 280. (¬5) المغني، 1/ 270،والشرح الممتع، 1/ 280،وشرح الزركشي على مختصر الخرقي، 1/ 277.

3 - إسلام الكافر سواء كان أصليا أو مرتدا

جلس بين شُعَبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل)) (¬1)؛ ولحديث عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا جلس بين شعبها الأربع ومسَّ الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل)) (¬2). ويدل على الموجب الأول والثاني قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ} (¬3). 3 - إسلام الكافر سواء كان أصليّاً أو مرتدّاً؛ لحديث قيس بن عاصم - رضي الله عنه - قال: أتيت النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، أريد الإسلام فأمرني أن أغتسل بماء وسدر (¬4)؛ لأنه طهَّر باطنه من نجس الشرك فمن الحكمة أن يطهر ظاهره بالغسل. وقال بعض العلماء: لا يجب على الكافر الغسل إذا أسلم وإنما هو مستحب؛ لأنه لم يرد عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عام مثل: من أسلم فليغتسل، وقد أسلم كثير من الصحابة ولم ينقل أنه أمرهم بالغسل، ولو كان واجباً لكان مشهوراً لحاجة الناس إليه. ورُدّ على ذلك أن القول بالوجوب أقوى؛ لأنَّ أمْرَ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - لواحدٍ مِنَ الأمَّة أمْرٌ للأمَّة جميعاً. وقال آخرون: إن أتى في كُفْرِهِ بما يوجب الغسل وجب عليه الغسل، وإن لم يأت بموجب فلا يجب عليه الغسل (¬5). قال العلامة ابن باز رحمه الله تعالى: ((الغسل للإسلام سنة وليس بواجب؛ لأن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر الجمَّ الغفير بالغسل)) (¬6). وقال ابن القيم ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الغسل، باب إذا التقى الختانان، برقم 291، ومسلم في كتاب الحيض، باب نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، برقم 348. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، برقم 349. (¬3) سورة المائدة، الآية: 6. (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الرجل يسلم فيؤمر بالغسل، برقم 355، والنسائي في كتاب الطهارة، باب ذكر ما يوجب الغسل وما لا يوجبه، غسل الكافر إذا أسلم، برقم 188، والترمذي في كتاب الجمعة، باب ما ذكر في الاغتسال عندما يسلم الرجل، برقم 605، وأحمد، 5/ 61، وقال الترمذي: هذا حديث حسن. وصححه الألباني في الإرواء، 1/ 163. (¬5) الشرح الممتع على زاد المستقنع، 1/ 284 - 285، والمغني لابن قدامة، 1/ 274 - 276. (¬6) شرح بلوغ المرام للعلامة ابن باز، حديث رقم 121، وهو مخطوط.

4 - موت المسلم غير شهيد المعركة

رحمه الله تعالى: ((وقد صحّ أمر النَّبي - صلى الله عليه وسلم - به، وأصح الأقوال وجوبه على من أجنب حال كفره ومن لم يجنب)) (¬1). 4 - موت المسلم غير شهيد المعركة؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، قال فيمن وقصته ناقته وهو محرم بعرفة: ((اغسلوه بماء وسدر وكَفّنُوه في ثَوْبَيه)) (¬2)؛ ولحديث أم عطية رضي الله عنها قالت: دخل علينا النَّبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن نغسل ابنته فقال: ((اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك)) (¬3). 5 - الحيض، وانقطاع الحيض شرطٌ لصحة الغسل فلو اغتسلت قبل أن تطهر لم يصح؛ لأن من شرط صحة الاغتسال الطهارة؛ لقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النساء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهّرِينَ} (¬4)؛ ولحديث عائشة رضي الله عنها أن فاطمة بنت أبي حُبَيْشٍ كانت تستحاض، فسألت النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ذلك عرق وليست الحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي)) (¬5). 6 - النفاس، وانقطاع دم النفاس شرط لصحة الاغتسال؛ فإن النفاس كالحيض سواء؛ لأن دم النفاس هو دم الحيض، وإنما كان في مدة الحمل ينصرف إلى غذاء الولد مع السر، فحين خرج الولد خرج الدم ¬

(¬1) زاد المعاد في فقه قصة قدوم وفد دوس، 3/ 627. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب الحنوط للميت، برقم 1266، ومسلم في كتاب الحج، باب ما يفعل بالمحرم إذا مات، برقم 1206. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب غسل الميت ووضوئه بالماء والسدر، برقم 1253، ومسلم في كتاب الجنائز، باب في غسل الميت، برقم 939. (¬4) سورة البقرة، الآية: 222. (¬5) أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب إقبال المحيض وإدباره، برقم 320، ومسلم في كتاب الحيض، باب المستحاضة وغسلها وصلاتها، برقم333.

ثانيا: ما يمنع منه الجنب:

لعدم مصرفه، وسمّي نفاساً (¬1)، ويكون دم النفاس الخارج مع الولادة أو بعدها، أو قبلها بيوم أو يومين أو ثلاثة ومعه الطلق (¬2)، ومما يدلُّ على أن دم النفاس هو دم الحيض قوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة رضي الله عنها لما حاضت: ((مالكِ أنفست))؟ (¬3). وأجمع العلماء على وجوب الغسل بالنّفاس كالحيض (¬4). ثانياً: ما يُمنع منه الجنب: يُمنع الجنب من خمسة أمور: 1 - الصلاة؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ} (¬5)؛ ولحديث أبي هريرة، وحديث علي، وحديث ابن عمر - رضي الله عنهم - (¬6). 2 - الطواف بالبيت الحرام؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الطواف بالبيت صلاة .. )) (¬7). 3 - مسّ المصحف؛ لحديث عمرو بن حزم، وحكيم بن حزام، وابن عمر - رضي الله عنهم -: ((لا يمسّ القرآن إلا طاهر)) (¬8). 4 - قراءة القرآن الكريم؛ لحديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: ((كان ¬

(¬1) المغني لابن قدامة، 1/ 377، وانظر: شرح الزركشي، 1/ 289. (¬2) الشرح الممتع على زاد المستقنع، 1/ 287 و441. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب الأمر بالنفساء إذا نفسن، برقم 294، ومسلم في كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران، برقم 1211/ 199. (¬4) انظر: الشرح الممتع، 1/ 288. (¬5) سورة النساء، الآية: 43. (¬6) أخرج حديث أبي هريرة البخاري برقم 135،ومسلم برقم 225.وقد تقدم في المبحث الخامس. وأخرج حديث علي أبو داود، برقم 61، والترمذي برقم 3، وقد تقدم في المبحث الخامس. وأخرج حديث ابن عمر مسلم، برقم 224، وقد تقدم في المبحث الخامس. (¬7) أخرجه النسائي برقم 2920،والترمذي برقم 960،وقد تقدم في المبحث الخامس. (¬8) أخرجه مالك في كتاب القرآن من موطئه، برقم 1،والدارقطني برقم 431 - 433، وقد تقدم تخريجه في المبحث الخامس.

5 - المكث في المسجد

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقْرِئُنا القرآن على كل حال ما لم يكن جنباً)) (¬1). وبلفظ: ((كان يخرج من الخلاء فيقرئنا القرآن ويأكل معنا اللحم ولم يكن يحجبه - أو قال - يحجزه عن القرآن شيء سوى الجنابة))؛ ولحديثه - رضي الله عنه - أنه توضأ ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، ثم قرأ شيئاً من القرآن، ثم قال: ((هذا لمن ليس بجنب، فأما الجنب فلا، ولا آية)) (¬2). 5 - المكث في المسجد؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ} (¬3)؛ ولحديث عائشة رضي الله عنها ترفعه: ((وجهوا هذه البيوت عن المسجد، فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب)) (¬4). أما مرور الجنب واجتيازه المسجد فلا حرج فيه؛ لنص الآية: {وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ}، وكذلك مرور الحائض والنفساء إذا تحفظت ولم تخش تلويث المسجد؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ناوليني الخُمْرَة (¬5) من المسجد))، فقلت: إني حائض، فقال: ((تناوليها ¬

(¬1) أخرجه الترمذي بلفظه في كتاب الطهارة، باب ما جاء في الرجل يقرأ القرآن على كل حال ما لم يكن جنباً، برقم 146، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب في الجنب يقرأ القرآن، برقم 229، والنسائي في كتاب الطهارة، باب حجب الجنب من قراءة القرآن، برقم 265، وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في قراءة القرآن على غير طهارة، برقم 594، وأحمد، 1/ 184 وغيرهم. وقال الحافظ في التلخيص الحبير، 1/ 139: ((صححه ابن السكن وعبد الحق والبغوي))، وقال ابن باز في شرحه لبلوغ المرام، حديث رقم 124: حديث حسن وله شواهد. وحسنه الأرنؤوط في جامع الأصول، 4/ 304، وانظر: فتح الباري، 1/ 348، وشرح عمدة الفقه لابن تيمية، 1/ 386. (¬2) أحمد في المسند، برقم 882، وصحح إسناده أحمد شاكر، وقال العلامة ابن باز - رحمه الله - في الفتاوى الإسلامية: ((إسناد جيد))، 1/ 239، وانظر: الفتاوى الإسلامية، 1/ 222أيضاً. (¬3) سورة النساء، الآية: 43. (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الجنب يدخل المسجد، برقم 232، قال ابن حجر في التلخيص الحبير: ((قال أحمد: ما أرى به بأساً، وقد صححه ابن خزيمة وحسنه ابن القطان))، وقال ابن باز في شرحه لبلوغ المرام لحديث رقم 132: ((سنده لا بأس به))، وحسنه الأرنؤوط في جامع الأصول، 11/ 205. (¬5) الخمرة: السجادة.

فإن الحيضة ليست في يدك)) (¬1)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد فقال: ((يا عائشة ناوليني الثوب)) فقالت: إني حائض، فقال: ((حيضتك ليست في يدك)) (¬2)؛ ولحديث ميمونة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل على إحدانا وهي حائض فيضع رأسه في حجرها فيقرأ القرآن، ثم تقوم إحدانا بِخُمرته فتضعها في المسجد وهي حائض)) (¬3). قال العلامة ابن باز رحمه الله تعالى: ((والصحابة كانوا يمرون في المسجد؛ لعلمهم - رضي الله عنهم - بهذا الاستثناء، أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب)) (¬4)، فهذا في حقّ مَنْ يجلس في المسجد، وأما ما رواه زيد بن أسلم أن بعض أصحاب النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، كانوا إذا توضؤوا جلسوا في المسجد (¬5)، فهذا احتج به من قال بالجواز كأحمد وإسحاق رحمهما الله وجماعة. والقول الثاني إنه لا يجلس في المسجد ولو توضأ لعموم الآية: {وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ}، والوضوء لا يخرجه من كونه جنباً؛ ولعموم الحديث: ((إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب)). وهذا أظهر وأقوى، وفعل من جلس من الصحابة يحمل على أنه خفي عليه الدليل الدال على أنه يمنع الجنب من الجلوس في المسجد، والأصل الأخذ بالدليل: {وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله وطهارة سؤرها ... ، برقم 298. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله وطهارة سؤرها ... ، برقم 299. (¬3) أخرجه الحميدي، برقم 310، وأحمد، 6/ 331، 334، والنسائي في كتاب الطهارة، باب بسط الحائض الخمرة في المسجد، برقم 272، وفي كتاب الحيض والاستحاضة، باب بسط الحائض الخمرة في المسجد، برقم 383. (¬4) أخرجه أبو داود، برقم 232، وتقدم تخريجه في: ما يمنع منه الجنب. (¬5) رواه سعيد بن منصور. وحنبل بن إسحاق كما في المنتقى للمجد ابن تيمية، 1/ 141 - 142، وشرح العمدة لابن تيمية، 1/ 391، وفي زيد بن أسلم كلام انظره في: حاشية المنتقى، 1/ 142.

ثالثا: شروط الغسل:

تَغْتَسِلُواْ} وزيد بن أسلم وإن روى له مسلم، ففي القلب منه شيء إذا تفرد بالحديث)) (¬1). ثالثاً: شروط الغسل: شروط الغسل ثمانية: النية (¬2)، والإسلام، والعقل، والتمييز، والماء الطهور المباح، وإزالة ما يمنع وصوله إلى البشرة، وانقطاع موجب الغسل (¬3). رابعاً: صفة الغُسل الكامل وكيفيته: صفة الغسل الكامل المشتمل على الفروض، والواجبات والمستحبات على النحو الآتي: 1 - ينوي الغُسل الكامل لرفع الحدث الأكبر والأصغر بقلبه؛ لحديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)) (¬4). 2 - يسمي الله فيقول: ((بسم الله))؛لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬5). 3 - يبدأ فيغسل كفيه ثلاثاً، لحديث عائشة وميمونة رضي الله عنهما (¬6). 4 - يغسل فرجه بشماله، ويزيل ما به من أذىً؛ لحديث عائشة وميمونة رضي الله عنهما (¬7). 5 - يضرب بشماله الأرض ويمسحها بالتراب الطاهر ويدلكها دلكاً ¬

(¬1) قاله رحمه الله في تعليقه على المنتقى للمجد ابن تيمية، حديث رقم 396، مسجل في مكتبتي الخاصة، وانظر: الشرح الممتع، 1/ 294. (¬2) نقل ابن قاسم في حاشية الروض المربع أنه يجب استصحاب حكمها، بحيث لا ينوي قطعها حتى تتم الطهارة، 1/ 198، فينظر هل هذا شرط أم واجب؟. (¬3) حاشية الروض لا بن قاسم، 1/ 189 و193 - 194، ومنار السبيل، 1/ 39. (¬4) أخرجه البخاري، برقم 1، ومسلم، برقم 1907، وقد تقدم في صفة الوضوء الكامل وكيفته. (¬5) أخرجه أبو داود، برقم 101، وابن ماجه، برقم 398،399، والترمذي، برقم 25، وقد تقدم في صفة الوضوء. (¬6) أخرجه البخاري في كتاب الغسل، باب الوضوء قبل الغسل، برقم 248، ومسلم في كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة، برقم 316 و317. (¬7) أخرجه البخاري في كتاب الغسل، باب الغسل مرة واحدة، برقم 257، ومسلم في كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة، برقم 316 و317.

6 - يتوضأ وضوءا كاملا كما يتوضأ للصلاة

جيداً، ويغسلها؛ لحديث ميمونة وعائشة رضي الله عنهما (¬1) أو يدلكها بالحائط ويغسلها؛ لحديث ميمونة رضي الله عنها (¬2)، أو يغسلها بالماء والصابون. 6 - يتوضأ وضوءاً كاملاً كما يتوضأ للصلاة (¬3)؛لحديث عائشة رضي الله عنها (¬4)،وإن شاء توضأ وضوءه للصلاة وأخر رجليه إلى نهاية الغسل؛ حديث ميمونة رضي الله عنها (¬5). 7 - يدخل أصابعه في الماء، ثم يخلل شعره حتى يروي بشرته، ثم يصب على رأسه ثلاث حفنات بيديه؛ لحديث ميمونة وعائشة رضي الله عنهما (¬6) يبدأ بشق رأسه الأيمن ثم الأيسر ثم الوسط؛ لحديث عائشة رضي الله عنها (¬7).وليس على المرأة نقض شعر رأسها لغسل الجنابة؛ لحديث أم سلمة رضي الله عنها (¬8). يستحب أن تنقضه لغسل الحيض؛ لحديث عائشة رضي الله عنها (¬9). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الغسل، باب من أفرغ بيمينه على شماله في الغسل، برقم 266، ومسلم في كتبا الحيض، باب صفة غسل الجنابة، برقم 317. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الغسل، باب من توضأ من الجنابة ثم غسل سائر جسده، برقم 274، ومسلم في كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة، برقم 317. (¬3) انظر صفة الوضوء الكامل ص 45. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الغسل، باب الوضوء قبل الغسل، برقم 248، ومسلم في كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة، برقم 316. (¬5) أخرجه البخاري في كتاب الغسل، باب الوضوء قبل الغسل، برقم 249. (¬6) أخرجه البخاري في كتاب الغسل، باب الوضوء قبل الغسل، برقم 248، ومسلم في كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة، برقم 316 و317. (¬7) أخرجه البخاري في كتاب الغسل، باب من بدأ بالحلاب أو الطيب عند الغسل، برقم 258، ومسلم في كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة، برقم 318. وحديث جابر - رضي الله عنه - أخرجه البخاري في كتاب الغسل، باب من أفاض على رأسه ثلاثاً، برقم 256، ومسلم في كتاب الحيض، باب استحباب إفاضة الماء على الرأس وغيره ثلاثاً، برقم 329. (¬8) قالت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي فأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: ((لا، إنما يكفيك أن تحثي عليه ثلاث حثيات ثم تفيضين عليه الماء فتطهرين)). أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب حكم ضفائر المغتسلة، برقم 330. وفي رواية لمسلم 1/ 260: ((أفأنقضه للحيض والجنابة))، قال: ((لا)).الحديث. (¬9) قال - صلى الله عليه وسلم - لها عندما حاضت في الحج: ((دعي عمرتك وانقضي رأسك وامتشطي)).البخاري،1/ 418، قال العلامة ابن باز في تعليقه على منتقى الأخبار للمجد ابن تيمية،: ((يستحب للحائض أن تنقض شعرها لغسل الحيض، ولا يستحب نقضه للجنابة))، وانظر: فتح الباري، 1/ 418، والحيض والنفاس، ص 175.

8 - يفيض الماء على سائر جسده

8 - يفيض الماء على سائر جسده؛ لحديث ميمونة وعائشة رضي الله عنهما (¬1)، يبدأ بشقه الأيمن ثم الأيسر؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: ((أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعجبه التيمن في تنعله، وترجله، وطهوره، وفي شأنه كله)) (¬2). ويعتني بغسل الإبطين ومطاوي الأعضاء وأصول الفخذين؛ لحديث عائشة رضي الله عنها (¬3)، ويدلك بدنه إذا لم يصل الطهور إلى محله بدونه (¬4). 9 - يتحول فينتقل من مكانه فيغسل قدميه؛ لحديث ميمونة رضي الله عنها (¬5) والأفضل أن لا ينشّف أعضاءه في الغسل؛ لحديث ميمونة رضي الله عنها (¬6)، وينبغي له أن لا يسرف في استعمال الماء، فلا إفراط ولا تفريط (¬7)، وما تقدم هو الغسل الكامل (¬8). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الغسل، باب الوضوء قبل الغسل، برقم 248، ومسلم في كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة، برقم 316. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب التيمن في الوضوء والغسل، برقم 168، ومسلم في كتاب الطهارة، باب التيمن في الطهور وغيره، برقم 268. (¬3) وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغسل مرافغه. وهي أصول المغابن، أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الغسل من الجنابة، برقم 243، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 48. (¬4) انظر: شرح العمدة لابن تيمية،1/ 368،وذلك؛ لحديث عائشة في مسلم،1/ 260: ((ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكاً شديداً)). (¬5) أخرجه البخاري في كتاب الغسل، باب الوضوء قبل الغسل، برقم 249، ومسلم في كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة، برقم 317. قال العلامة ابن باز - رحمه الله-: يغسل رجليه في نهاية الغسل سواء غسلها قبله مع الوضوء أو لم يغسلها. (¬6) قالت: ((ثم أتيته بالمنديل فردّه و [لم ينفض به])). أخرجه البخاري في كتاب الغسل، باب المضمضة والاستنشاق من الجنابة، برقم 259، ومسلم في كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة، برقم 317، واللفظ الأول من مسلم، والثاني من البخاري. (¬7) انظر: مقدار غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - ووضوئه في سنن الوضوء. (¬8) أما الغسل المجزئ فهو أن ينوي، ويسمي، ويتمضمض ويستنشق، ويعم جميع جسده بالماء. انظر الشرح الممتع،1/ 304 و297 - 300، وشرح العمدة، 1/ 365. قال ابن تيمية رحمه الله في شرح العمدة، 1/ 307: ((الغسل قسمان: غسل مجزئ، وغسل كامل ... والكامل هو اغتسال الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو يشتمل على إحدى عشرة خصلة: النية، والتسمية، ويغسل يديه ثلاثاً، ويغسل فرجه، ويدلك يده، ويتوضأ، ويخلل أصول شعر رأسه ولحيته بالماء، ويفيض على رأسه ثلاث حثيات، ويفيض الماء على سائر جسده، ويدلك بدنه، ويبدأ بشقه الأيمن، وينتقل من مكانه فيغسل قدميه)).

خامسا: الأغسال المستحبة:

خامساً: الأغسال المستحبة: الأغسال المستحبة على النحو الآتي: 1 - غسل يوم الجمعة؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم)) (¬1). وحديثه - رضي الله عنه - يرفعه: ((الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يستن، وأن يمس طيباً إن وجد)) (¬2). وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه: ((حقٌّ لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام، يغسل رأسه وجسده)) (¬3). وحديثه - رضي الله عنه - يرفعه إلى النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من اغتسل ثم أتى الجمعة فصلى ما قدر له، ثم أنصت حتى يفرغ الإمام من خطبته، ثم يصلي معه غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام)) (¬4). وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من اغتسل يوم الجمعة، ولَبِسَ من أحسن ثيابه، ومس من طيبٍ إن كان عنده، ثم أتى الجمعة فلم يتخط رقاب الناس (¬5)، ثم صلى ما كتب الله له، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يفرغ من صلاته، كانت كفارة ما بينه وبين الجمعة قبلها [وزيادة ثلاثة أيام])) (¬6). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب فضل الغسل يوم الجمعة، برقم 879، ومسلم في كتاب الجمعة، باب وجوب غسل الجمعة على كل بالغ من الرجال، برقم 846. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب الطيب للجمعة، برقم 880، ومسلم في كتاب الجمعة، باب الطيب والسواك يوم الجمعة، برقم 846،ومعنى يستن: يستاك. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، با ب هل على من لم يشهد الجمعة غسل؟ برقم 897، ومسلم في كتاب الجمعة، باب الطيب والسواك يوم الجمعة، برقم 849. (¬4) أخرجه مسلم في كتاب الجمعة، باب فضل من استمع وأنصت في الجمعة، برقم 857. (¬5) وعند ابن خزيمة من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه -: ((ولم يفرق بين اثنين))، رقم 1763. (¬6) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الغسل يوم الجمعة، برقم 343، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 70، والزيادة من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

وعن أوس بن أوس الثقفي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،يقول: ((من غسل يوم الجمعة، واغتسل، ثم بكَّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع، ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة، أجر صيامها وقيامها)) (¬1). وعن سمرة - رضي الله عنه - يرفعه: ((من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فهو أفضل)) (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ((من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام ومن مس الحصى فقد لغا)) (¬3). وقد اختلف أهل العلم هل غسل الجمعة واجب أم مستحب؟ ورجح سماحة العلامة ابن باز أن غسلَ الجمعة سنة مؤكدة، وينبغي للمسلم أن يحافظ عليه خروجاً من خلاف من قال بالوجوب، وأقوال العلماء في غسلِ الجمعة ثلاثة: منهم من قال بالوجوب مطلقاً وهذا قول قوي، ومنهم من قال: بأنه سنة مؤكدة مطلقاً، ومنهم من فصَّل فقال: غسل يوم الجمعة واجب على أصحاب الأعمال الشاقة؛ لما يحصل لهم من بعض التعب والعرق، ومستحب في حق غيرهم، وهذا قول ضعيف، والصواب أن غسل الجمعة سنة مؤكدة، أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((غسل الجمعة واجب على كل محتلم))، فمعناه عند أكثر أهل العلم متأكد كما تقول العرب: ((العدة دين وحق عليَّ واجب)). ويدل على هذا المعنى اكتفاؤه - صلى الله عليه وسلم - بالأمر بالوضوء في بعض الأحاديث .. وهكذا الطيب والاستياك، ولبس الحسن من الثياب، والتبكير ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الغسل يوم الجمعة، برقم 345، والنسائي في كتاب الجمعة، باب فضل غسل يوم الجمعة، برقم 1379، والترمذي في كتاب الجمعة، باب ما جاء في فضل الغسل يوم الجمعة، برقم 496. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة، برقم 354، والترمذي في كتاب الجمعة، باب ما جاء في الوضوء يوم الجمعة، برقم 497، والنسائي في كتاب الجمعة، باب الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة، برقم 1378،وقال الترمذي: ((حديث حسن)). (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الجمعة، باب فضل من استمع وأنصت في الخطبة، برقم 857/ 27.

2 - غسل الإحرام

إلى الجمعة، كله من السنن المرغَّب فيها، وليس شيء منها واجباً (¬1). 2 - غسل الإحرام؛ لحديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه - أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - ((تجرَّد لإهلاله واغتسل)) (¬2). 3 - الاغتسال عند دخول مكة؛ لأن ابن عمر - رضي الله عنه - كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى حتى يصبح، ويغتسل، ويَذْكُرُ ذلك عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3). 4 - الاغتسال لكل جماع؛ لحديث أبي رافع ((أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - طاف ذات يوم على نسائه يغتسل عند هذه وعند هذه))، قال: فقلت: يا رسول الله، ألا تجعله غسلاً واحداً؟ قال: ((هذا أزكى وأطيب)) (¬4). 5 - الاغتسال من غسل الميت؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه: ((من غسَّل الميت فليغتسل)) (¬5)؛ ولحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغتسل من أربع: من الجنابة، ويوم الجمعة، ومن الحجامة، ومن غسل الميت)) (¬6). ويدل على عدم الوجوب أن أسماء بنت عميس - ¬

(¬1) هذا مقتبس من كلام شيخنا العلامة ابن باز. انظر: الفتاوى الإسلامية، 1/ 419، وقال رحمه الله بعض هذا الكلام في تعليقه على بلوغ المرام، حديث رقم120 و123، وتعليقه على منتقى الأخبار للمجد، الأحاديث 400 - 407، وهو مسجل في مكتبتي الخاصة. (¬2) أخرجه الدارمي في كتاب المناسك، باب الاغتسال في الإحرام، برقم 1801، والترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء في الاغتسال عند الإحرام، برقم 830، وابن خزيمة برقم 2595، والحاكم، وصححه ووافقه الذهبي، 1/ 447، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 1/ 250، وانظر: إرواء الغليل، برقم 149. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب دخول مكة نهاراً أو ليلاً، برقم 1574، ومسلم في كتاب الحج، باب استحباب دخول مكة من الثنية العليا والخروج منها من الثنية السفلى، برقم 1259. (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب الوضوء لمن أراد أن يعود، برقم 219، وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب فيمن يغتسل عند كل واحدة غسلاً، برقم 590، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 43، وآداب الزفاف، ص 32. (¬5) أخرجه أحمد، 2/ 280، 415، 433 و472، وأبو داود في كتاب الجنائز، باب في الغسل من غسل الميت، برقم 3161، والترمذي في كتاب الجنائز، باب ما جاء في الغسل من غسل الميت، برقم 993، قال عبد القادر الأرنؤوط في جامع الأصول، 7/ 335: ((وهو حديث حسن بطرقه وشواهده)).وانظر: إرواء الغليل، برقم 144. (¬6) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب الغسل من غسل الميت، برقم 3160، وقال الحافظ في بلوغ المرام: ((وصححه ابن خزيمة))، وقال سماحة الشيخ ابن باز: ((إسناده لا بأس به على شرط مسلم))، وانظر: جامع الأصول بتحقيق الأرنؤوط، 7/ 337.

6 - الاغتسال من دفن المشرك

امرأة أبي بكر - غسلت أبا بكر - رضي الله عنه - حين توفي، ثم خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين، فقالت: إني صائمة وهذا يوم شديد البرد، فهل عليَّ من غسل؟ فقالوا: ((لا)) (¬1). وبيّن العلامة ابن باز رحمه الله أن هذا يدل على أن الغسل من غسل الميت معلوم عند الصحابة؛ ولكنه سنة (¬2). 6 - الاغتسال من دفن المشرك؛ لحديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه أتى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أبا طالب مات، فقال: ((اذهب فواره))، قال: إنه مات مشركاً. قال: ((اذهب فواره)) فلما واريته رجعت إليه، فقال لي: ((اغتسل)) (¬3). 7 - الاغتسال للمستحاضة لكل صلاة (¬4)، أو عند الجمع بين الصلاتين؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة رضي الله عنها استحيضت في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمرها بالغسل لكل صلاة)) (¬5). وفي حديث حمنة بنت جحش رضي الله عنها أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: ((سآمرك بأمرين أيهما فعلت أجزأ عنك من الآخر، وإن قويت عليهما فأنت أعلم)). ثم قال في آخر الحديث: ((وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين الظهر والعصر، وتؤخرين المغرب وتعجلين العشاء، ثم تغتسلين وتجمعين ¬

(¬1) أخرجه مالك في الموطأ في كتاب الجنائز، باب غسل الميت، برقم 3، وحسّن إسناده عبد القادر الأرنؤوط في جامع الأصول، 7/ 338. (¬2) قال ذلك في تعليقه على منتقى الأخبار، حديث رقم 412، وانظر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، 5/ 318. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب الرجل يموت له قرابة مشرك، برقم 3214، والنسائي في كتاب الطهارة، باب الغسل من مواراة المشرك، برقم 190، وفي كتاب الجنائز، باب مواراة المشرك برقم 2004، قال عبد القادر الأرنؤوط في تخريج جامع الأصول، 7/ 337: ((وهو حديث صحيح))، وانظر: التلخيص الحبير، 2/ 114، وصحيح النسائي، برقم 184، وقال ابن باز: إذا صح الحديث فالغسل من دفن المشرك سنة. قلت: وقد صححه من تقدم ذكرهم. (¬4) انظر الشرح الممتع 1/ 441. (¬5) أبو داود، كتاب الطهارة، باب من روى أن المستحاضة تغتسل لكل صلاة، برقم 292، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 58، برقم 274، وانظر: صحيح البخاري، الحديث رقم 327.

8 - الاغتسال من الإغماء

بين الصلاتين فافعلي، وتغتسلين مع الفجر فافعلي، وصومي إن قدرت على ذلك)). قال - صلى الله عليه وسلم -: ((وهذا أعجب الأمرين إليَّ)) (¬1). والواجب على المستحاضة هو الغسل عندما تخرج من عادة الحيض، أما بعد ذلك فيستحب لها الغسل كما تقدم، ويجب عليها أن تتوضأ في وقت كل صلاة، أما الغسل فمندوب كما تقدم (¬2). وهذا ما يفتي به شيخنا العلامة ابن باز رحمه الله تعالى. 8 - الاغتسال من الإغماء؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ثقل النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أصلَّى الناس))؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك، قال: ((ضعوا لي ماء في المخضب)) (¬3) قالت: ففعلنا فاغتسل، فذهب لينوء (¬4) فأُغمي عليه، ثم أفاق، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أصلَّى الناس))؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله. قال: ((ضعوا لي ماء في المخضب)) فقعد فاغتسل ... (¬5). فعل ذلك ثلاث مرات وهو مثقل بالمرض، فدل ذلك على استحبابه (¬6). 9 - الاغتسال من الحجامة؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغتسل من أربع: من الجنابة، ويوم الجمعة، ومن الحجامة، ومن ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب من قال: إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة، برقم 287، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 57، والإرواء، 1/ 202. (¬2) فعن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فأمرها أن تغتسل، فقال: ((هذا عرق))، فكانت تغتسل لكل صلاة، أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب عرق المستحاضة، برقم 327. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا، إنما ذلك عرق وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، ثم صلي))، قال: وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت. أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب غسل الدم، برقم 228،ومسلم في كتاب الحيض، باب المستحاضة وغسلها وصلاتها، برقم 333. (¬3) قيل: هو إناء صغير تغسل فيه الثياب. (¬4) أي: لينهض. (¬5) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب إنما جعل الإمام ليؤتم به، برقم 687،ومسلم في كتاب الصلاة، باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما من يصلي بالناس، برقم418. (¬6) انظر: نيل الأوطار للشوكاني، 1/ 366.

10 - غسل الكافر إذا أسلم عند من يقول باستحبابه

غسل الميت)) (¬1). 10 - غسل الكافر إذا أسلم عند من يقول باستحبابه، ومنهم من قال بالوجوب؛ لحديث قيس بن عاصم - رضي الله عنه -، قال: أتيت النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أريد الإسلام، فأمرني أن أغتسل بماء وسدر (¬2). ورجح سماحة العلامة ابن باز أن غسله سنة (¬3). 11 - غسل العيدين؛ قال العلماء لم يرد في ذلك حديث صحيح عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - (¬4). قال العلامة الألباني: وأحسن ما يستدل به على استحباب الاغتسال للعيدين: ما روى البيهقي من طريق الشافعي عن زاذان قال: سأل رجل عليّاً عن الغسل؟ قال: ((اغتسل كل يوم إن شئت)). فقال: لا، الغسل الذي هو الغسل؟ قال: ((يوم الجمعة، ويوم عرفة (¬5)، ويوم النحر، ويوم الفطر)) (¬6). وعن سعيد بن المسيب أنه قال: ((سنة الفطر ثلاث: المشي إلى المصلى، والأكل قبل الخروج، والاغتسال)) (¬7)، وثبت أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ((كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يَغدُوَ إلى المصلى)) (¬8). 12 - غسل يوم عرفة (¬9). ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، وصححه ابن خزيمة، وتقدم تخريجه. (¬2) أخرجه أبو داود، برقم 355،والنسائي، برقم 188،والترمذي، برقم 605،وتقدم في المبحث السابع: الغسل. (¬3) سمعته منه أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 121. (¬4) سمعت ذلك من شيخنا ابن باز مرات. (¬5) أي يوم عرفة للحاج. (¬6) قال في إرواء الغليل، 1/ 177: وسنده صحيح؛ أي موقوف على علي - رضي الله عنه -. (¬7) قال الألباني: رواه الفريابي، وإسناده صحيح. انظر: إرواء الغليل، 3/ 104. (¬8) أخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب العيدين، باب العمل في غسل العيدين والنداء فيهما والإقامة، برقم 2. وانظر آثاراً نقلت في وقفات للصائمين للشيخ سلمان ابن فهد، ص 97. (¬9) تقدم دليله في الذي قبله.

المبحث الثامن: التيمم

المبحث الثامن: التيمم التيمم في اللغة: القصد، وفي الشرع: التعبد لله تعالى بقصد الصعيد الطَّيّب لمسح الوجه واليدين به بنية رفع الحدث لمن فقد الماء أو عجز عن استعماله (¬1). أولاً: حكمه: مشروع بالكتاب، والسنة، والإجماع، أما الكتاب؛ فلقوله تعالى: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مّنكُم مّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النساء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مّنْهُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬2). وأما السنة؛ فلأحاديث كثيرة، منها حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: كنا في سفر مع النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى بالناس، فلما [انصرف] من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصلّ مع القوم، قال: ((ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم))؟ قال: يا نبي الله أصابتني جنابة ولا ماء، قال: ((عليك بالصعيد فإنّه يكفيك)) (¬3). وأما الإجماع: فأجمع أهل العلم على مشروعية التيمم في الجملة (¬4). والمسلمون لهم طهارتان: طهارة بالماء، وطهارة بالتيمم لمن لم يجد ¬

(¬1) انظر: شرح العمدة لابن تيمية، 1/ 411، وفتح الباري، 1/ 431، والمغني لابن قدامة، 1/ 310، وشرح الزركشي، 1/ 324، والشرح الممتع، 1/ 313. (¬2) سورة المائدة، الآية: 6، وانظر: سورة النساء، الآية: 43. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب التيمم، باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء، برقم 344، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، برقم 1682، ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي ... )) الحديث، وفيه: ((جعلت لي الأرضُ مسجداً وطهوراً، فأيّما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلّ)). أخرجه البخاري في كتاب التيمم، باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء، برقم 335، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، برقم 521. (¬4) انظر المغني لابن قدامة،1/ 310،وشرح الزركشي، 1/ 324، وشرح العمدة لابن تيمية، 1/ 411.

ثانيا: من يجوز له التيمم؟

الماء أو عجز عن استعماله، فمن وجد الماء وقدر على استعماله وجب عليه أن يتطهر به، ومن تعذر عليه استعماله أو لم يجده قام مقامه التيمم وهو رافع إلى وجود الماء على الصحيح، فيجب لما تجب له الطهارة بالماء، ويستحب لما تستحب له الطهارة بالماء، والصواب أنَّ المسلم إذا عجز عن الماء أو لم يجده تيمم في أي وقت شاء، وأجزأه حتى يجد الماء، أو يأتي بناقض من نواقض الوضوء، أو موجب من موجبات الغسل، ويجزئ التيمم الواحد عن جميع الأحداث الكبرى والصغرى إذا نواها (¬1). ثانياً: من يجوز له التيمم؟ يجوز التيمم ويشرع لمن حصل له ناقض من نواقض الوضوء، أو موجب من موجبات الغسل في الحضر أو السفر إذا وُجد سبب من الأسباب الآتية: 1 - إذا لم يجد الماء؛ لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيّبًا} (¬2)؛ولحديث عمران بن حصين - رضي الله عنه -: ((عليك بالصعيد فإنه يكفيك)) (¬3). 2 - إذا لم يجد من الماء ما يكفيه في وضوئه أو غسله فإنه يتوضأ بما وجد، أو يغتسل إذا كان عليه جنابة ثم يتيمم للأعضاء التي لم يصل إليها الماء؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬4)؛ ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) (¬5). 3 - إذا كان الماء شديد البرودة، ويحصل له ضرر باستعماله، بشرط أن ¬

(¬1) انظر: الشرح الممتع، 1/ 314 و321، وفتاوى ابن تيمية، 21/ 346 - 360، ورجح ذلك كله العلامة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز في شرحه لبلوغ المرام، حديث رقم 636 - 148،وتعليقه على منتقى الأخبار للمجد ابن تيمية، ويفتي بذلك كثيراً، وانظر: زاد المعاد،1/ 200،وفتاوى اللجنة، 5/ 344، و349 و355. (¬2) سورة المائدة، الآية: 6. (¬3) أخرجه البخاري، برقم 344،ومسلم، برقم 682،وقد تقدم تخريجه. (¬4) سورة التغابن، الآية: 16. (¬5) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام، باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،برقم 7288،ومسلم في كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، برقم 1337،وانظر: المغني،1/ 314،وشرح العمدة، 1/ 433 - 438.

4 - إذا كان به جراحة أو مرض إذا استعمل الماء زاد المرض أو تأخر الشفاء

يعجز عن تسخينه؛ لحديث عمروبن العاص - رضي الله عنه - قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فلما قدمنا ذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب))؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله - عز وجل - يقول: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (¬1) فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل شيئًا)) (¬2). 4 - إذا كان به جراحة أو مرض إذا استعمل الماء زاد المرض أو تأخر الشفاء؛ لحديث جابر بن عبد الله، وابن عباس - رضي الله عنه -،أن رجلاً أصابه جرح في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم احتلم، فسأل أصحابه هل له رخصة في التيمم؟ فقالوا له: لا، فاغتسل فمات، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العِيّ السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ... )) (¬3). 5 - إذا حال بينه وبين الماء عدو، أو حريق، أو لصوص، وخاف على نفسه، أو ماله، أو عرضه، أو كان مريضاً لا يقدر على الحركة ولا يجد ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 29، وانظر: الشرح الممتع، 1/ 318. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمم، برقم 334، والدارقطني في كتاب الطهارة، باب التيمم، برقم 670، والحاكم وغيرهم، وحسن إسناده الأرنؤوط في جامع الأصول، قال: وله شاهد عند الطبراني من حديث ابن عباس وأبي أمامة. وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 68. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في المجروح يتيمم، برقم 336 و337، وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب في المجروح تصيبه الجنابة فيخاف على نفسه إن اغتسل، برقم 572، وابن حبان (موارد)، برقم 201، والحاكم، 1/ 165 و1/ 178، وحسنه الألباني في تمام المنة، ص131، ونقل عن ابن السكن تصحيحه، وحسنه الأرنؤوط لشواهده في جامع الأصول، 7/ 265 - 266، ومال سماحة العلامة ابن باز - رحمه الله تعالى - إلى أن هذه الطرق كلها ضعيفة؛ ولكن تعتضد بالمسح على الخفين، فإذا كان المسح على الخفين من باب التيسير، فإنه من باب أولى أن يمسح على الجبائر، وأن يكون التيمم لمن عجز عن استعمال الماء لجراحة مشروعاً. وانظر: صحيح سنن أبي داود، برقم 325، و326.

6 - إذا خاف العطش والهلاك حبس الماء وتيمم

من يناوله الماء فهو كالعادم (¬1). 6 - إذا خاف العطش والهلاك حبس الماء وتيمم، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المسافر إذا كان معه ماء وخشي العطش أنه يبقي ماءه للشرب ويتيمم (¬2). والخلاصة: أن التيمم يشرع إذا تعذر استعمال الماء: إما لعدمه وإما لحصول الضرر باستعماله (¬3). ثالثاً: كيفية التيمم وصفته: 1 - ينوي؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الأعمال بالنيات)) (¬4).ومحلها القلب فلا يتلفظ بها. 2 - يسمي الله فيقول: ((بسم الله)) (¬5). 3 - يضرب بكفيه الصعيد الطيّب من الأرض ضربة واحدة؛ ثم يمسح جميع وجهه بكفيه، ثم يمسح جميع الكفين بعضهما ببعض يمسح بالشمال على اليمين وظاهر كفيه وباطنهما: من أطراف الأصابع إلى مفصل الكف من الذراع، والمفصل الذي يلي الكف داخل في المسح (¬6)؛ لحديث عمار - رضي الله عنه - قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تمرَّغ الدابة ثم أتيت النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له فقال: ((إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا))، ثم ضرب بكفيه الأرض [ضربة واحدة] ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه (¬7). وفي ¬

(¬1) المغني لابن قدامة، 1/ 315 و316، وشرح العمدة لابن تيمية، 1/ 430. (¬2) المغني لابن قدامة، 1/ 343، وشرح العمدة لابن تيمية، 1/ 428. (¬3) انظر: الشرح الممتع، 1/ 321، وشرح العمدة لابن تيمية، 1/ 422، وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، 5/ 331. (¬4) أخرجه البخاري، برقم 1، ومسلم، برقم 1907، وقد تقدم تخريجه في صفة الوضوء. (¬5) أخرجه أبو داود، برقم 101، وابن ماجه، برقم 398، 399، والترمذي، برقم 25، وقد تقدم تخريجه في صفة الوضوء. (¬6) انظر: الشرح الممتع على زاد المستقنع، 1/ 447 - 350، وفتاوى اللجنة الدائمة، 5/ 354. (¬7) أخرجه البخاري في كتاب التيمم، باب المتيمم هل ينفخ فيهما، برقم 338، ومسلم في كتاب الحيض، باب التيمم، برقم 368، وما بين المعقوفين في لفظ مسلم.

رابعا: نواقض التيمم ومبطلاته:

لفظ لمسلم: ((وضرب بيده إلى الأرض فنفض يديه فمسح وجهه وكفيه)) (¬1)، وفي لفظ: ((إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا: ثم ضرب بيديه إلى الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه)) (¬2)، فإذا كان الغبار كثيراً في الكفين نفخ فيهما أو نفضهما (¬3). رابعاً: نواقض التيمم ومبطلاته: 1 - ينقض التيمم ويبطله ما ينقض الوضوء؛ لأن التيمم بالصعيد الطيّب قام مقام الماء فينقض الطهارة بالتيمم ما ينقض الطهارة بالماء، فإذا تيمم عن الحدث الأصغر ثم بال أو حصل له ناقض من نواقض الوضوء بطل تيممه؛ لأن البدل له حكم المبدل. وكذا التيمم عن الحدث الأكبر يبطل بموجبات الغسل (¬4). 2 - وينقض التيمم وجود الماء، فإذا تيمم لعدم الماء بطل بوجوده؛ لحديث أبي ذر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الصعيد الطيّب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك خير)) (¬5). أما إذا تيمم لمرض يمنعه من استعمال الماء لم يبطل التيمم بوجود الماء، ولكن يبطل بالقدرة على استعمال الماء (¬6). ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب التيمم، برقم 368/ 111. (¬2) البخاري، برقم 347، ومسلم، برقم 110 - (368). (¬3) ويفتي بذلك العلامة ابن باز رحمه الله تعالى. (¬4) انظر: المغني لابن قدامة، 1/ 30، والشرح الممتع على زاد المستقنع، 1/ 341، والأسئلة والأجوبة الفقهية للسلمان، 1/ 47. (¬5) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب الجنب يتيمم، برقم 332 و333، والترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في التيمم للجنب إذا لم يجد الماء، برقم 124، والنسائي في كتاب الطهارة، باب الصلوات بتيمم واحد، برقم 321، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 67، وفي الإرواء، برقم 153، وذكره الحافظ في بلوغ المرام، برقم 142، وعزاه إلى البزار عن أبي هريرة، وانظر: التلخيص الحبير، 1/ 154. (¬6) انظر: الشرح الممتع على زاد المستقنع، 1/ 341.

خامسا: فاقد الطهورين: الماء والتراب:

خامساً: فاقد الطهورين: الماء والتراب: إذا لم يجد المسلم الماء ولا التراب، ولم يستطع الحصول على ذلك، أو وجدهما ولكن عجز عن الوضوء والتيمم؛ فإنه يصلي على حسب حاله كالمربوط الذي لا يستطيع الوضوء ولا التيمم؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت (¬1)، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناساً من أصحابه في طلبها فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء، فلما أتوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، شكوا ذلك إليه فنزلت آية التيمم، فقال أسيد بن حضير: جزاكِ الله خيراً، فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجاً وجعل للمسلمين فيه بركة (¬2). فيجب على المسلم أن يتطهر بالماء فإن عجز عن استعماله لمرض أو غيره تيمم بتراب طاهر، فإن عجز عن ذلك سقطت الطهارة، وصلى على حسب حاله (¬3). قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬4). وقال سبحانه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬5). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) (¬6). سادساً: من تيمم وصلى ثم وجد الماء في الوقت: إذا فقد المسلم الماء ثم تيمم وصلى ثم وجد الماء أو قدر على استعماله بعد الفراغ من الصلاة؛ فإنه لا يعيد الصلاة، ولو كان الوقت باقياً، وهكذا لو فقد الماء والتراب أو عجز عن ذلك ثم وجده بعد أن صلى؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: خرج رجلان في سفر، ¬

(¬1) هلكت: ضاعت. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب التيمم، باب إذا لم يجد ماءً ولا تراباً، برقم 336، ومسلم في كتاب الحيض، باب التيمم، برقم 367/ 109، واللفظ لمسلم. (¬3) انظر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، 5/ 346. (¬4) سورة التغابن، الآية: 16. (¬5) سورة الحج، الآية: 78. (¬6) أخرجه البخاري، برقم 7288، ومسلم، برقم 1337، وقد تقدم تخريجه.

فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيداً طيباً فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء ولم يعدِ الآخر، ثم أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد: ((أصبت السنة وأجزأتك صلاتك)). وقال للذي توضأ وأعاد: ((لك الأجر مرتين)) (¬1). فدل ذلك على أن الذي لم يعد الوضوء والصلاة أصاب السنة؛ لأنه فعل ما قدر عليه، أما الآخر فاجتهد وأعاد فله أجر صلاته الأولى والأجر الثاني على اجتهاده في إعادة الصلاة، لكن المقصود هو إصابة السنة (¬2). ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في المتيمم يجد الماء بعد ما يصلي في الوقت، برقم 338، والنسائي في كتاب الغسل والتيمم، باب التيمم لمن يجد الماء بعد الصلاة، برقم 431، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 92، وصحيح أبي داود، 1/ 69. (¬2) قال ذلك العلامة ابن باز - رحمه الله تعالى - في شرحه لهذا الحديث في بلوغ المرام، وفي المنتقى للمجد ابن تيمية.

المبحث التاسع: الحيض والنفاس والاستحاضة والسلس

المبحث التاسع: الحيض والنفاس والاستحاضة والسلس المطلب الأول: الحيض أولاً: تعريفه: الحيض في اللغة: السيلان، يقال: حاض الوادي إذا سال. وهو مصدر: حاضت المرأة تحيض حيضاً ومحاضاً ومحيضاً وتحيّضاً، فهي حائض وحائضة من حوائض وحُيّض؛ إذا سال دمها (¬1). وشرعاً: دم طبيعة وجبلّة يخرج من قعر الرحم، يعتاد أنثى إذا بلغت في أوقات معلومة (¬2). ثانياً: حكمته: خلق الله دم الحيض وكتبه على بنات آدم لحكمة غذاء الولد وتربيته، فالولد يخلقه الله من ماء الرجل والمرأة، ثم يغذّيه في الرحم بدم الحيض عن طريق السر؛ ولهذا لا تحيض الحامل في الغالب، فإذا وضعت، خرج ما فضل عن غذاء الولد من ذلك الدم، ثم يقلبه الله تعالى بحكمته لبناً يتغذَّى به الطفل عن طريق الثدي؛ ولهذا لا تحيض المرضع في الغالب، فإذا خلت المرأة من حملٍ ورضاعٍ بقي ذلك الدم في محله ثم يخرج في الغالب في كل شهر ستة أيام أو سبعة، وقد يزيد على ذلك ويقل، ويطول ويقصر، على حسب ما ركبه الله تعالى في الطباع، والله أعلم (¬3). ثالثاً: لون دم الحيض يأتي على ألوان أربعة كالآتي: 1 - السواد؛ لحديث فاطمة بنت أبي حُبيش رضي الله عنها أنها كانت تستحاض فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كان دم الحيض فإنه أسودُ يُعرف، فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي، فإنما هو ¬

(¬1) القاموس المحيط، فصل الحاء باب الضاد. (¬2) انظر: المغني لابن قدامة، 1/ 386، وشرح الزركشي، 1/ 405. وشرح العمدة لابن تيمية، 1/ 457، والروض المربع بحاشية ابن قاسم، 1/ 370، والحيض والاستحاضة لراوية بنت أحمد، ص 17 - 46. (¬3) المغني لابن قدامة، 1/ 386،وشرح الزركشي،1/ 405،وشرح العمدة،1/ 457.

2 - الحمرة

عرق)) (¬1). 2 - الحمرة؛ لأنها أصل لون الدم (¬2). 3 - الصفرة: وهي الماء الذي تراه المرأة كالصديد يعلوه اصفرار (¬3). 4 - الكدرة: وهي التوسط بين البياض والسواد كالماء الوسخ، ولونه ينحو نحو السواد (¬4)؛لحديث علقمة بن أبي علقمة عن أمه مولاة عائشة رضي الله عنها، قالت: كان النساء يبعثن إلى عائشة أم المؤمنين بالدّرَجة (¬5) فيها الكُرسف (¬6) فيه الصفرة من دم الحيض يسألنها عن الصلاة، فتقول لهن: لا تَعْجَلْنَ حتى ترين القصة البيضاء (¬7) تريد بذلك الطهر من الحيضة (¬8). والصفرة والكدرة لا تكون حيضاً إلا في أيام الحيض أما بعد انقضاء أيام العادة فلا تعد حيضاً ولو تكرر ذلك؛ لحديث أمّ عطية رضي الله عنها قالت: ((كنا لا نعد الكُدرة والصفرة [بعد الطهر] شيئاً)) (¬9). فدل ذلك بمنطوقه على ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب من قال إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة، برقم 286، والنسائي في كتاب الطهارة، باب ذكر الاغتسال من الحيض، برقم 201،وصححه الألباني في الإرواء، 1/ 223. (¬2) انظر: الحيض والنفاس والاستحاضة لراوية بنت أحمد، ص37 وص48. (¬3) انظر: فتح الباري، 1/ 426. (¬4) انظر: المعجم الوسيط، 2/ 779، وفقه السنة لسيد سابق، 1/ 83. (¬5) الدّرجَة: جمع: دُرْج: وهو كالسفط الصغير، تضع فيه المرأة خِفَّ متاعها وطيبها. انظر: النهاية في غريب الحديث، 2/ 111، وفتح الباري، 1/ 420. (¬6) الكرسف: القطن. (¬7) القصة البيضاء: هو أن تخرج القطنة أو الخرقة التي تتحشي بها المرأة كأنها قصة بيضاء لا يخالطها صفرة، وقيل: هي شيء كالخيط الأبيض يخرج بعد انقطاع الدم كله. النهاية في غريب الحديث،4/ 71. (¬8) أخرجه الإمام مالك في كتاب الطهارة، باب طهر الحائض، برقم 97، والبخاري معلقاً في كتاب الحيض، باب إقبال المحيض وإدباره (1/ 420 فتح)، والدارمي، 1/ 214، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 1/ 218. (¬9) أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب الصفرة والكدرة في غير أيام الحيض، برقم 326، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب في المرأة ترى الكدرة والصفرة بعد الطهر، برقم 307،والحاكم، وغيرهم، وصححه الألباني في الإرواء،1/ 219،وانظر: المغني،1/ 413،وما بين المعقوفين لغير البخاري.

رابعا: زمن الحيض ومدته

أن الصفرة والكدرة بعد الطهر لا تعد شيئاً وإنما هي مثل البول تنقض الوضوء، ودل بمفهومه على أن الصفرة والكدرة قبل الطهر تعد حيضاً بشرط أن تكون في أيام عادة الحيض، ورجح ذلك العلامة شيخنا ابن باز رحمه الله تعالى. رابعاً: زمن الحيض ومدته، اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في السن الذي يأتي الحيض فيه المرأة، وفي الحيض ومقدار زمنه (¬1) كالتالي: 1 - السن الذي تحيض فيه الصغيرة: ليس فيه تحديد من السنة الصحيحة للسن الذي تحيض فيه المرأة؛ لكن في الغالب أنه يكون ما بين اثنتي عشرة سنة إلى خمسين سنة وربما حاضت المرأة قبل ذلك أو بعده بحسب حالتها وجوّها وبيئتها. وقد اختلف العلماء في تحديد السن الذي يأتي فيه الحيض بحيث لا تحيض الأنثى قبله ولا بعده، وأن ما يأتيها قبله أو بعده فهو دم فساد لا حيض. قال الدارمي بعد أن ذكر الاختلافات: ((كل هذا عندي خطأ؛ لأن المرجع في جميع ذلك إلى الوجود (¬2)، فأي قدر وجد في أي حال وسن وجب جعله حيضاً)) (¬3)، إذا صلح أن يكون حيضاً، فمتى رأت المرأة الدم المعروف عند النساء أنه حيض فهو حيض (¬4). 2 - مدة الحيض ومقدار زمنه، لقد اختلف العلماء في أقل مدة الحيض وأكثره، وفي أقل مدة الطهر بين الحيضتين وأكثره (¬5)، فقالت طائفة: ليس لأقل الحيض ولا لأكثره حد بالأيام، وقيل: أقله يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يوماً (¬6). ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أنه لا حد لأقل الحيض ¬

(¬1) الحيض والنفاس والاستحاضة، ص62،و49 - 62،وانظر: الدماء الطبيعية لابن عثيمين، الفصل الأول. (¬2) أي وجود دم الحيض. (¬3) نقله عن الدارمي العلامة ابن عثيمين في رسالة في الدماء الطبيعية، في الفصل الأول. (¬4) انظر: الشرح الممتع، 1/ 402،وفتاوى ابن تيمية، 19/ 237،والمختارات الجلية للسعدي، ص32. (¬5) انظر: الحيض والنفاس، ص96 و105، وص78 - 105. (¬6) ورجح شيخنا عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله تعالى - أن أكثر الحيض خمسة عشر يوماً، وهو قول الجمهور.

خامسا: أحكام الحيض:

ولا لأكثره، ولا لأقل الطهر بين الحيضتين ولا لأكثره، قال: والعلماء منهم من يحد أكثره وأقله ثم يختلفون في التحديد، ومنهم من يحد أكثره دون أقله، والقول الثالث أصح: أنه لا حدّ لأقله ولا لأكثره. ثم قرر أن كل ما رأته المرأة عادة مستمرة فهو حيض، وإن قُدّر أنه أقل من يوم استمر بها على ذلك فهو حيض، وإن قُدّر أن أكثره سبعة عشر استمر بها على ذلك فهو حيض، وأما إذا استمر الدم بها دائماً، فهذا قد عُلم أنه ليس بحيض (¬1). خامساً: أحكام الحيض: 1 - ما يمنع الحيض: يمنع الحيض ثمانية أشياء على الصحيح: الأول: الصلاة: فالحيض يمنع الصلاة وجوباً وفعلاً؛ لحديث فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها: أنها كانت تستحاض فسألت النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ذلك عرق وليست بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي)) (¬2). ولا تفعل الصلاة قضاء بعد الطهر؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((كنا نحيض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة)) (¬3). لكن عند جمهور العلماء: كمالك، والشافعي، وأحمد، أن المرأة إذا طهرت في وقت العصر - قبل غروب الشمس - صلت الظهر والعصر، وإذا طهرت في وقت العشاء - قبل طلوع الفجر - صلت المغرب والعشاء، ¬

(¬1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام، 19/ 237. قلت: وقد كان يفتي العلامة الجهبذ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله تعالى - بأن المرأة لا تتجاوز خمسة عشر يوماً، وما زاد على ذلك فهو دم فساد، والله أعلم. وانظر: المغني لابن قدامة، 1/ 388، وفتح الباري، 1/ 425. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب إقبال المحيض وإدباره، برقم 320، ومسلم في كتاب الحيض، باب المستحاضة وغسلها وصلاتها، برقم 333. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب لا تقضي الحائض الصلاة، برقم 321، ومسلم في كتاب الحيض، باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة، برقم 335.

أما إذا أدركت المرأة وقت الصلاة

جاء ذلك عن عبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة، وعبد الله بن عباس - رضي الله عنهم - (¬1)، ولأن وقت الثانية وقت للأولى حال العذر، فإذا أدركه المعذور لزمه فرضها كما يلزمها فرض الثانية (¬2). قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: عامة التابعين يقولون بهذا القول إلا الحسن وحده (¬3). وإذا طهرت المرأة في وقت الفجر - قبل طلوع الشمس بمقدار ركعة - صلت الفجر وحده؛ لأنها أدركت الصلاة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)) (¬4). أما إذا أدركت المرأة وقت الصلاة ثم حاضت قبل أن تصلي، فقد اختلف أهل العلم هل تقضي أو لا تقضي؟ على قولين: القول الأول: يجب عليها القضاء وهو قول الجمهور (¬5)، ولكنهم اختلفوا في مقدار الوقت الذي إذا أدركته وجب عليها القضاء إلى عدة أقوال: فقيل: إذا أدركت من الوقت قدر تكبيرة ثم حاضت وجب عليها القضاء (¬6). وقيل: إذا أدركت من الوقت قدر ركعة لأنه إدراك تعلق به إدراك الصلاة فلم يكن بأقل من ركعة كإدراك الجمعة (¬7). ¬

(¬1) السنن الكبرى للبهيقي،1/ 386 - 387،وذكر هذه الآثار المجد ابن تيمية في المنتقى، رقم 491، و492،وعزاها إلى سنن سعيد بن منصور، واعتمد ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى،21/ 434، وكان يفتي بذلك مفتي عام السعودية العلامة عبد العزيز ابن باز رحمه الله تعالى. وانظر: المغني، 2/ 46. (¬2) انظر: المغني لابن قدامة، 2/ 47. (¬3) المغني، 2/ 46. (¬4) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك تلك الصلاة، برقم 608، 609. وانظر: الاختيارات الفقهية لابن تيمية، ص 34. (¬5) الحنابلة، والشافعية، والمالكية. انظر: بداية المجتهد في نهاية المقتصد، 1/ 73، والحيض والنفاس، ص 286 - 288. (¬6) وهو قول للحنابلة، والشافعية. انظر: المغني لابن قدامة، 2/ 11،والحيض والنفاس، ص286 - 288. (¬7) وهو قول للشافعي، انظر: المغني، 2/ 47.

القول الثاني: لا يجب على المرأة قضاء الصلاة مطلقا

وقيل: إذا أدركت من الوقت ما يتسع لفعل الصلاة فيه فتمكنت من الصلاة قبل حصول العذر فلم تصلّ فحينئذ تبقى الصلاة في ذمتها حتى تطهر ثم تصلي (¬1). وقيل: إذا أدركت من الوقت قدر خمس ركعات (¬2). وقيل: إذا أدركت الوقت ثم تضيّق بحيث لا تستطيع أداء الصلاة كاملة في آخره ثم حصل المانع وجب عليها القضاء بعد الطهر (¬3). القول الثاني: لا يجب على المرأة قضاء الصلاة مطلقاً سواء حاضت في أول الوقت أو في آخره؛ لأن الله جعل للصلاة وقتاً محدداً أوله وآخره، وصح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى في أول الوقت وفي آخره، فصح أن المؤخر لها إلى آخر وقتها ليس عاصياً. وهذا قولٌ للأحناف ومذهب الظاهرية (¬4). ¬

(¬1) وهو قول للحنابلة والشافعية. نظر: المغني لابن قدامة، 2/ 12،و47،والحيض والنفاس، ص 286 - 289. (¬2) وهو منسوب إلى الإمام مالك، انظر: المغني، 2/ 46، 47. (¬3) وهو قول للحنفية، والحنابلة، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الذي كان يفتي به سماحة الإمام العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله تعالى، انظر: المغني، 2/ 11، 46 - 47، والاختيارات الفقهية لابن تيمية، ص 34، والحيض والنفاس، ص286، و288. (¬4) انظر: الحيض والنفاس، ص288، والمحلى لا بن حزم، 2/ 175. وبداية المجتهد في نهاية المقتصد، 1/ 73. واختار العلامة محمد بن صالح العثيمين أن المرأة إذا حاضت بعد دخول الوقت، أو طهرت في آخر الوقت، لا تجب عليها الصلاة إلا إذا أدركت من وقتها مقدار ركعة كاملة؛ سواء أدركت ذلك من أول الوقت - كامرأة حاضت بعد غروب الشمس بمقدار ركعة كاملة، فيجب عليها إذا طهرت قضاء صلاة المغرب؛ لأنها أدركت من وقتها قدر ركعة قبل أن تحيض - أو أدركت مقدار ركعة كاملة من آخر الوقت - كامرأة طهرت من الحيض قبل طلوع الشمس بمقدار ركعة كاملة - فيجب عليها إذا اغتسلت قضاء صلاة الفجر؛ لأنها أدركت من وقتها جزءاً يتسع لركعة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة))؛ البخاري مع الفتح، 1/ 57، برقم 580، ومسلم 1/ 423، برقم 607. ولحديث عائشة، وابن عباس، وأبي هريرة - رضي الله عنهم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)). مسلم، 1/ 424، برقم 608، 609. ومفهومه أن من أدرك من الوقت أقل من ركعة لم يكن مدركاً للصلاة. انظر: رسالة في الدماء الطبيعية لابن عثيمين ضمن فتاواه، 4/ 309، وهو قول للشافعي، انظر: المغني، 1/ 47، وبداية المجتهد في نهاية المقتصد، 1/ 73.

والراجح والصواب من هذه الأقوال

والراجح والصواب من هذه الأقوال إن شاء الله تعالى: أن المرأة إذا أدركت وقت الصلاة، ثم لم تصلّ حتى تضيّق الوقت - بحيث لا تستطيع الصلاة كاملة في آخره - ثم حاضت قبل أن تصلي وجب عليها أن تقضي هذه الصلاة بعد أن تطهر؛ لأنها فرطت في الصلاة، وهذا الذي يفتي به سماحة الإمام العلامة عبد العزيز ابن باز رحمه الله تعالى، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (¬1). الثاني: الصوم، والحيض يمنع الصوم وجوباً لا فعلاً بل يبقى في الذمة حتى تقضيه؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أليس إذا حاضت لم تصلّ ولم تصم)) (¬2)؛ ولحديث عائشة رضي الله عنها: ((كنا نحيض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة)) (¬3). وهذا من رحمة الله تعالى؛ فإن الصلاة تكثر في أوقات كثيرة، في كل شهر في الغالب ستة أيام أو سبعة، ويكون في هذه الأيام ثلاثون صلاة أو خمس وثلاثون صلاة، أي:102 ركعة إذا كانت ستة أيام، وإذا كانت سبعة أيام 119 ركعة. وقضاء هذه الصلوات فيه مشقة عظيمة، فمن رحمة الله تعالى أنه لم يوجب قضاء الصلاة على الحائض والنفساء، وأما الصوم فأمره يسير؛ فإنه لا يتكرر إلا مرة واحدة في السنة في شهر رمضان، فقضاء ستة أيام أو سبعة في الغالب لا مشقة فيه ولا تعب؛ فلهذا وجب القضاء للصوم وأسقطت الصلاة، فالحمد لله على تيسيره وإحسانه. الثالث: الطواف بالبيت الحرام، فلا يجوز للحائض أن تطوف بالبيت حتى تطهر؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الطواف بالبيت صلاة)) (¬4)؛ ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة رضي الله عنها لَمّا ¬

(¬1) الاختيارات الفقهية لا بن تيمية رحمه الله، ص34. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم، برقم 304. (¬3) أخرجه البخاري، برقم 321، ومسلم، برقم 335، وقد تقدم تخريجه في أحكام الحيض. (¬4) أخرجه النسائي، برقم 2920،والترمذي، برقم 960،وقد تقدم تخريجه في المبحث الخامس: الوضوء.

الرابع: مس المصحف

حاضت: ((افعلي ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري)) (¬1). لكن إذا كان الحيض بعد طواف الإفاضة سقط عنها طواف الوداع؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: ((أُمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خُفّفَ عن المرأة الحائض)) (¬2). الرابع: مس المصحف؛ فلا يجوز للحائض والنفساء مس المصحف على الصحيح؛ لحديث عمرو بن حزم، وحكيم بن حزام، وابن عمر - رضي الله عنهم -: ((لا يمس القرآن إلا طاهر)) (¬3). أما قراءة القرآن للحائض والنفساء فمنع منها جمع من أهل العلم؛ لِمَا رُوِيَ: ((لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن)) (¬4). والصواب أن هذا الخبر ضعيف لا يحتج به، وأنه يجوز للحائض والنفساء أن تقرأ القرآن؛ لأن هذا الخبر ضعيف؛ ولأن قياس الحائض والنفساء على الجنب ليس بظاهر؛ ولأن الجنب وقته يسير وفي إمكانه أن يغتسل في الحال؛ لأن مدته لا تطول، وإن عجز عن الماء تيمم وصلى وقرأ، أما الحائض والنفساء فليس الأمر بيديهما وإنما هو بيد الله - عز وجل -، ويحتاج ذلك إلى وقت طويل وربما نسيت ما حفظت من القرآن، وربما احتاجت إلى التدريس للبنات أو النساء؛ ولأن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة رضي الله عنها عندما حاضت وهي محرمة: ((افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي ¬

(¬1) أخرجه البخاري، برقم 305،ومسلم، برقم 1211/ 120،وقد تقدم تخريجه في المبحث الخامس: الوضوء. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض، برقم 1328. (¬3) أخرجه مالك في كتاب القرآن من موطئه، برقم 1، والدارقطني في سننه، برقم 431 - 433، وقد تقدم في المبحث الخامس. (¬4) أخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في الجنب والحائض أنهما لا يقرآن القرآن، برقم 131، وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في قراءة القرآن على غير طهارة، برقم 595، وضعفه الألباني في إرواء الغليل، 1/ 206، برقم 192، وضعفه العلامة ابن باز رحمه الله تعالى في تعليقه على بلوغ المرام، ومنتقى الأخبار، وفي الفتاوى الإسلامية، 1/ 239.

الخامس: الجلوس في المسجد واللبث فيه

بالبيت حتى تطهري)) (¬1). ومن أفضل أعمال الحاج قراءة القرآن ولم يقل لها لا تقرئي القرآن، وقد أباح لها أعمال الحاج كلها فدل ذلك كله على أن الصواب جواز قراءة الحائض والنفساء القرآن عن ظهر قلب بدون مس للمصحف (¬2). الخامس: الجلوس في المسجد واللبث فيه؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: (( ... فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب)) (¬3).أما المرور إذا تحفظت ولم تخش تلويث المسجد فلا حرج، لعموم قوله تعالى: {إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} (¬4)؛ ولحديث عائشة رضي الله عنها: ((إن حيضتك ليست في يدك)) (¬5). وحديث ميمونة في وضع الخمرة في المسجد (¬6)؛ وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ((حيضتك ليست في يدك)) (¬7). السادس: الوطء في الفرج، يحرم وطء الحائض والنفساء؛ قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النساء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهّرِينَ} (¬8)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬

(¬1) أخرجه البخاري، برقم 305،ومسلم، برقم 1211/ 120،وقد تقدم في المبحث الخامس: الوضوء. (¬2) وانظر في ذلك ما رجحه العلامة ابن باز في الفتاوى الإسلامية، 1/ 239، وفي شرحه لبلوغ المرام على حديث رقم 124، ورقم 149، و159، وانظر: حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - للألباني، ص69، وانظر: كلاماً جيداً في حكم قراءة القرآن للحائض، وأن الراجح جوازه بالأدلة، وأن الصواب أنها لا تمس المصحف، وأنه قول الأئمة الأربعة، الحيض والنفاس، ص225، و270. (¬3) أخرجه أبو داود، برقم 232، وقد تقدم في ما يمنع منه الجنب، في الغسل في المبحث السابع. (¬4) سورة النساء، الآية: 43. (¬5) أخرجه مسلم، برقم 299، وقد تقدم في المبحث السابع: الغسل. (¬6) أخرجه الحميدي، برقم 310، وأحمد، 6/ 331، 334، والنسائي، برقم 272، و383، وقد تقدم في ما يمنع منه الجنب. (¬7) أخرجه مسلم، برقم 299، وقد تقدم في المبحث السابع: الغسل. وانظر: الحيض والنفاس لراوية. (¬8) سورة البقرة، الآية: 222.

السابع: الطلاق

((من أتى حائضاً، أو امرأة في دبرها، أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)) (¬1). وإذا انقطع دم الحيض والنفاس فلا يجوز وطؤها حتى تغتسل، لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ} (¬2). وإذا واقع الحائض أو النفساء فعليه التوبة، وأن يتصدق بدينار أو نصف دينار؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال: ((يتصدق بدينار أو بنصف دينار)) (¬3). وهو مخير بين هاتين الصدقتين على الصحيح والدينار اليوم يساوي 7/ 4 من الجنيه السعودي ونصفه يساوي 7/ 2 من الجنيه نفسه، فإذا تصدق بأربعة أسباع الجنيه أو سُبعي الجنيه السعودي مع التوبة والاستغفار كفاه (¬4) وقد وزنه بعضهم فكان الدينار 4.25غرام ونصف الدينار 2.13 (¬5). السابع: الطلاق، فالحيض يمنع سنة الطلاق، فمن طلق امرأته وهي حائض كان طلاقاً محرماً وكان مبتدعاً بذلك (¬6)؛ لقوله تعالى: {فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬7) يعني طاهراً من غير جماع؛ ولحديث ابن عمر ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الطب، باب في الكهان، برقم 3904، والترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في كراهية إتيان الحائض، برقم 135، وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب النهي عن إتيان الحائض، برقم 639، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 739، وصحيح سنن الترمذي، 1/ 44، وفي صحيح سنن ابن ماجه،1/ 105،والإرواء، برقم 2006،وفي آداب الزفاف، ص 31. (¬2) سورة البقرة، الآية: 222. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب إتيان الحائض، برقم 264، وفي كتاب النكاح، باب في كفارة من أتى حائضاً، برقم 2168، والترمذي في كتاب الطهارة باب ما جاء في الكفارة في ذلك، برقم 136، 137، والنسائي في كتاب الطهارة، باب ما يجب على من أتى حليلته في حال حيضتها بعد علمه بنهي الله - عز وجل - عن وطئها، برقم 288، وفي كتاب الحيض، برقم 368، وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب في كفارة من أتى حائضاً، برقم 640، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 1/ 217، برقم 197. (¬4) من ترجيح سماحة شيخنا عبد العزيز ابن باز - رحمه الله تعالى - في شرحه لبلوغ المرام، والمنتقى للمجد ابن تيمية، وانظر: الفتاوى الإسلامية، 1/ 238. (¬5) الحيض والنفاس، ص 553. (¬6) شرح العمدة في الفقه لابن تيمية،1/ 471، والمغني، 1/ 416 - 420. (¬7) سورة الطلاق، الآية: 1.

الثامن: الاعتداد بالأشهر

رضي الله عنهما: ((مُرْهُ فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء)) (¬1). الثامن: الاعتداد بالأشهر، فالحيض يمنع الاعتداد بالأشهر إذا حصلت الفرقة في الحياة ويجب الاعتداد بالحيض نفسه؛ لقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} (¬2). وقوله تعالى: {وَاللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} (¬3). فدل ذلك على أن المرأة التي تحيض تعتد بالحيض، وأن الآيسة التي لا تحيض والصغيرة التي لم تحض تعتد بالأشهر، فأما المتوفى عنها زوجها فعدتها أربعة أشهر وعشر، سواء كانت صغيرة أو آيسة، أو ممن تحيض؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (¬4). فعم في هذه الآية جميع المتوفَّى عنهن (¬5)، لقوله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬6). ومن أحكام الحيض أنه يوجب الغسل، ويوجب البلوغ (¬7). ثانياً: ما يباح مع الحائض والنفساء: يباح مع الحائض والنفساء ستة أشياء: الأول: المباشرة فيما دون الفرج لحديث أنس - رضي الله عنه - أن اليهود كانوا إذا ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء} برقم 5251، ومسلم في كتاب الطلاق، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها، برقم 1471. (¬2) سورة البقرة، الآية: 228. (¬3) سورة الطلاق. الآية: 4. (¬4) سورة البقرة، الآية: 234. (¬5) شرح العمدة في الفقه لابن تيمية، 1/ 472. (¬6) سورة الطلاق، الآية: 4. (¬7) شرح العمدة في الفقه لابن تيمية، 1/ 472.

الحالة الأولى: الجماع

حاضت فيهم المرأة لم يؤاكلوها ولم يخالطوها في البيوت، فسأل أصحاب النَّبي - صلى الله عليه وسلم - النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى ... } (¬1) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اصنعوا كل شيء إلا النكاح)) (¬2)؛ ولحديث عائشة رضي الله عنها في مضاجعة الحائض (¬3)؛ وحديث عم حرام بن حكيم أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال: ((ما فوق الإزار)) (¬4). وذكر سماحة شيخنا العلامة عبد العزيز ابن باز رحمه الله تعالى، أن الحائض يحرم جماعها (¬5) ولكن لا حرج في الاستمتاع بها فيما فوق السرة وتحت الركبة وهذا هو المعبر عنه بما فوق الإزار، أما ما تحت الإزار فاختلف العلماء في ذلك هل يجوز أو لا يجوز، والأصح أنه يجوز، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((اصنعوا كل شيء إلا النكاح)). فعلى هذا يكون للحائض ثلاث حالات: الحالة الأولى: الجماع وهذا محرم بالإجماع حتى تطهر. الحالة الثانية: الاستمتاع بها فوق الإزار وهذا حلال بالإجماع. الحالة الثالثة: ما تحت الإزار وهو ما بين السرة والركبة، وهذا محل خلاف، والأرجح أنه يجوز، ولكن الأفضل تركه احتياطاً وحمىً وبعداً عن المحرم (¬6). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 222. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله وطهارة سؤرها، برقم 302. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب مباشرة الحائض، برقم 302، ومسلم في كتاب الحيض، باب مباشرة الحائض فوق الإزار، برقم 293. (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في المذي، برقم 212، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 42، برقم 197. (¬5) نقل ابن تيمية في الفتاوى، 21/ 624: ((اتفاق الأئمة على تحريم وطء الحائض)). (¬6) ذكر ذلك أثناء شرحه لمنتقى الأخبار للمجد، وانظر: الحيض والنفاس ص 321 - 370، والمغني لابن قدامة، 1/ 414.

الثاني: الأكل والشرب معها

وعن ميمونة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يباشر نساءه فوق الإزار وهن حيَّض)) (¬1). الثاني: الأكل والشرب معها؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((كنت أشرب وأنا حائض ثم أناوله النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، فيضع فاه على موضع في فيشرب)). وكانت رضي الله عنها ((تتعرق العرق - وهو العظم الذي عليه بقية من اللحم - ثم تناوله النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فيضع فاه على موضع فيها)) (¬2)؛ ولحديث: ((إن حيضتك ليست في يدك)) (¬3). الثالث: إباحة بل استحباب خروج الحائض في العيدين إلى المصلى وشهود الخطبة والخير ودعوة المسلمين؛ لحديث أم عطية رضي الله عنها قالت: ((أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نخرج في العيدين العواتق (¬4) والحيض، وذوات الخدور (¬5)، فأما الحيَّض فيعتزلن مصلى المسلمين - وفي لفظ - فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين)) (¬6). الرابع: جواز قراءة الرجل وهو في حجر امرأته وهي حائض؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كان يتكئ في حجري وأنا حائض ثم يقرأ القرآن)) (¬7). ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب مباشرة الحائض فوق الإزار، برقم 294. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله وطهارة سؤرها، برقم 300، والمعنى: يضع فمه على موضع فمها. (¬3) أخرجه مسلم، برقم 299، وقد تقدم في المبحث السابع: الغسل. (¬4) الجارية البالغة، وقيل هي التي قاربت البلوغ، وقيل هي ما بين أن تبلغ إلى أن تعنس ما لم تتزوج، والتعنيس: طول المقام في بيت أبيها بلا زوج حتى تطعن في السن. (¬5) ذوات الخدور: جمع خِدْر: والخدور البيوت، وقيل: الخِدر: ستر يكون في ناحية البيت تقعد البكر وراءه. انظر: شرح النووي، وفتح الباري، 1/ 424، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير. (¬6) أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب شهود الحائض العيدين ودعوة المسلمين ويعتزلن المصلى، برقم 324، ومسلم في كتاب صلاة العيدين، باب ذكر إباحة خروج النساء في العيدين إلى المصلى وشهود الخطبة مفارقات للرجال، برقم 890، واللفظ من روايات مسلم. (¬7) أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب قراءة الرجل في حجر امرأته وهي حائض، برقم 297، ومسلم في كتاب الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله وطهارة سؤرها، برقم 301.

الخامس: غسل الحائض رأس زوجها وترجيله

الخامس: غسل الحائض رأس زوجها وترجيله؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((كنت أُرجّل رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا حائض)) (¬1). السادس: تعمل جميع العبادات ما عدا ما تقدم، فتذكر الله - عز وجل - بأنواع الأذكار المشروعة، والأدعية المأثورة، وإذا أرادت الحج أو العمرة فلا حرج ولكنها تُحرِم وتعمل ما يعمل الحاج أو المعتمر إلا الطواف بالبيت حتى تطهر؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: ((افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري)) (¬2). ثالثا: علامة الطهر: للطهر علامتان هما: العلامة الأولى: القصة البيضاء: وهي ماء أبيض يعقب الحيض، وقيل: هو شيء كالخيط الأبيض يخرج بعد انقطاع الدم كله؛ لقول عائشة رضي الله عنها: ((لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء)) (¬3). وقيل هي: أن تخرج القطنة التي تحتشي بها المرأة كأنها قصة بيضاء لا يخالطها صفرة (¬4). العلامة الثانية: الجفوف: وهي أن تدخل المرأة القطنة أو الخرقة في فرجها فتخرجها جافة لا شيء عليها أو ترى عليها القصة البيضاء، فإن لم ترَ القصة البيضاء تكتفي برؤية الجفوف (¬5). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب غسل الحائض رأس زوجها وترجيله، برقم 295، ومسلم في كتاب الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله وطهارة سؤرها، برقم 297. (¬2) أخرجه البخاري، برقم 305،ومسلم، برقم 1211/ 120،وقد تقدم في المبحث الخامس: الوضوء. (¬3) أخرجه مالك برقم 97، والبخاري معلقاً (1/ 420 فتح)، وقد تخريجه. (¬4) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، 4/ 71، والحيض والنفاس لراوية بنت أحمد، ص 534. (¬5) الحيض والنفاس والاستحاضة لراوية، ص 534،ومنهاج المسلم، ص 189،والشرح الممتع، 1/ 433.

المطلب الثاني: النفاس

المطلب الثاني: النفاس أولاً: تعريفه لغة: النفاس في اللغة بالكسر: ولادة المرأة، فإذا وضعت فهي نفساء (¬1). وشرعاً: دم يرخيه الرحم بسبب الولادة إما معها أو قبلها بيوم أو يومين أو ثلاثة مع الطلق، أو بعدها إلى مدة معلومة (¬2). ثانياً: الفرق بين دم النفاس ودم الحيض: دم النفاس هو نفسه دم الحيض المحتقن في الرحم الفاضل من رزق الولد، فلما خرج الولد تنفست الرحم فخرج بخروجه (¬3). ثالثاً: أحكام النفاس: حكم النفاس كحكم الحيض فيما يحل، ويحرم، ويجب، ويسقط عنها ما يسقط عن الحائض؛ لأن النفاس حيض مجتمع احتبس لأجل الحمل، فحكمه سواء بسواء إلا في الأمور الآتية: 1 - العدة، فالنفاس لا يعتبر من العدة إذا طلقت المرأة بعد ولادتها، والحيض يعتبر؛ لأنه إن كان الطلاق قبل وضع الحمل انقضت العدة بوضعه لا بالنفاس، وإن كان الطلاق بعد الوضع انتظرت رجوع الحيض وجلست ثلاث حيض. 2 - مدة الإيلاء يحسب منها مدة الحيض، ولا يحسب منها مدة النفاس. 3 - البلوغ يحصل بالحيض، ولا يحصل بالنفاس؛ لأن البلوغ يسبق النفاس، فقد حصل بالإنزال ثم الحمل. 4 - دم الحيض يأتي في أوقات معلومة من الشهر، ودم النفاس عقب ¬

(¬1) انظر: لسان العرب، باب السين فصل النون، والقاموس المحيط، فصل النون، باب السين. (¬2) انظر: الحيض والنفاس والاستحاضة، لراوية بنت أحمد، ص 446، وص 467، والدماء الطبيعية للشيخ محمد بن صالح العثيمين، ص 39. (¬3) شرح العمدة لابن تيمية، 1/ 516.

رابعا: أقل النفاس وأكثره

الولد، أو قبله بيوم أو يومين أو ثلاثة مع الطلق (¬1). رابعاً: أقل النفاس وأكثره: الصواب أن النفاس لا حد لأقله، أما أكثره فهو على الصحيح أربعون يوماً إلا أن ترى الطهر قبل ذلك فإنها تغتسل وتصلي؛ لحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: ((كانت النفساء على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقعد بعد نفاسها أربعين يوماً)) (¬2).قال الترمذي: ((وقد أجمع العلماء من أصحاب النَّبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين ومن بعدهم على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوماً إلا أن ترى الطهر قبل ذلك فإنها تغتسل وتصلي، وإذا رأت الدم بعد الأربعين فإن أكثر أهل العلم قالوا لا تدع الصلاة بعد الأربعين وهو قول أكثر الفقهاء)) (¬3).وهذا هو الصواب إن شاء الله تعالى (¬4). المطلب الثالث: الاستحاضة أولاً: تعريف الاستحاضة: الاستحاضة: استفعال من الحيض: وهي دم غالب ليس بالحيض (¬5). والاستحاضة شرعاً: سيلان الدم واستمراره في غير زمن الحيض من مرض وفساد من عرق فمه في أدنى الرحم يقال له: العاذل (¬6). ¬

(¬1) انظر هذه الفروق في: الحيض والنفاس والاستحاضة لراوية، ص 447، و478، والدماء الطبيعية للعلامة ابن عثيمين، ص 40، والشرح الممتع، 1/ 450 - 453، و454، ورجح أن طلاق النفساء ليس بحرام، 1/ 453. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب ما جاء في وقت النفساء، برقم 311، والترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في كم تمكث النفساء، برقم 139، وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب النفساء كم تجلس، برقم 648، وغيرهم، وحسنه الألباني في الإرواء، 1/ 222، و1/ 226، وفي صحيح أبي داود، 1/ 62. (¬3) الترمذي، 1/ 258. (¬4) وهذا هو الذي كان يفتي به شيخنا عبد العزيز بن عبد الله ابن باز، انظر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء،5/ 415،والفتاوى الإسلامية،1/ 238. (¬5) المصباح المنير، 1/ 159. (¬6) انظر: فتح الباري، 1/ 409. والحيض والنفاس لراوية بنت أحمد، ص 483 - 488، ورسالة في الدماء الطبيعية لابن عثيمين، الفصل الخامس.

ثانيا: الفرق بين دم الاستحاضة والحيض

ثانياً: الفرق بين دم الاستحاضة والحيض: هناك فروق بين دم الاستحاضة والحيض يعرفها غالب النساء ومنها: 1 - دم الحيض أسود غليظ له رائحة كريهة منتنة، أما دم الاستحاضة فيتميز عنه بأنه دم رقيق أحمر لا رائحة له. 2 - دم الحيض يخرج من أقصى الرحم، ودم الاستحاضة يخرج من أدنى الرحم من عرق يقال له: العاذل، فهو دمُ عِرْقٍ لا دم رحم. 3 - دم الحيض دم صحة وطبيعة يخرج في أوقات معلومة، ودم الاستحاضة دم علة ومرض وفساد ليس له أوقات معلومة (¬1). ثالثا: أحوال المستحاضة: المستحاضة لها ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن تكون مدة الحيض معروفة لها قبل الاستحاضة، وفي هذه الحالة تعتبر هذه المدة المعروفة هي مدة الحيض، وتثبت لها أحكام الحيض والباقي الزائد استحاضة تثبت لها أحكام المستحاضة؛ لحديث أم سلمة رضي الله عنها في قصة فاطمة بنت أبي حبيش أن امرأة كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستفتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((لتنظر عدة الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خلّفت ذلك فلتغتسل ثم لتستثفر بثوب ثم لتصلّ [فيه])) (¬2). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قالت فاطمة بنت أبي حبيش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، إني لا ¬

(¬1) الحيض والنفاس والاستحاضة، ص 487. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في المرأة تستحاض ومن قال: تدع الصلاة في عدة الأيام التي كانت تحيض، برقم 274، والنسائي في كتاب الطهارة، باب ذكر الاغتسال من الحيض، برقم 208، وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في المستحاضة التي قد عدت أيام أقرائها قبل أن يستمر بها الدم، برقم 623، وغيرهم، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 52.

الحالة الثانية: أن لا يكون لها عادة، بحيث لا يكون لها حيض معلوم قبل الاستحاضة

أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما ذلك عرق وليس بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي [ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت])) (¬1). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: استفتت أم حبيبة بنت جحش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لها: ((امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي وصلي)) (¬2). فعلى هذا تجلس المستحاضة التي لها حيض معلوم قدر عادتها من كل شهر، ثم تغتسل وتصلي ثم تتوضأ لوقت كل صلاة، وتصلي ما شاءت من الفرض والنفل إلى دخول وقت الصلاة الأخرى. الحالة الثانية: أن لا يكون لها عادة، بحيث لا يكون لها حيض معلوم قبل الاستحاضة، ولكنها تستطيع تمييز دم الحيض عن دم الفساد، فيكون حيضها ما تميز بسواد أو غلظة أو رائحة تثبت له أحكام الحيض، وما عداه تثبت له أحكام الاستحاضة؛ لحديث فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها أنها كانت تستحاض، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يُعرَف فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي فإنما هو عِرْق)) (¬3). الحالة الثالثة: أن لا يكون لها أيام حيض معلومة، ولا يكون لها تمييز صالح، إما لأنها بلغت مستحاضة ولا تستطيع التمييز، أو نسيت واضطرب عليها الأمر، فهذه تعمل بغالب عادة النساء ستة أيام أو سبعة على حسب عادة قريباتها كأمها وأختها أو خالتها أو عمتها، فتختار ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري في كتاب الوضوء، باب غسل الدم، برقم 228، ومسلم في كتاب الحيض، باب المستحاضة وغسلها وصلاتها، برقم 333، وما بين المعقوفين للبخاري، وحذفها مسلم. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب المستحاضة وغسلها وصلاتها، برقم 334. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب من قال إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة، برقم 286، والنسائي في كتاب الطهارة، باب الفرق بين دم الحيض والاستحاضة، برقم 215، 216، والحاكم، وغيرهم، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود،1/ 55،برقم 263،وصحيح النسائي، برقم 350، وإرواء الغليل، 1/ 223، برقم 204.

رابعا: أحكام الاستحاضة:

الأقرب من ذلك ستة أيام أو سبعة من كل شهر تبتدئ من أول المدة التي رأت فيها الدم وما عدا ذلك يكون استحاضة؛ لحديث حمنة بنت جحش رضي الله عنها أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، قال لها: (( ... إنما هذه رَكضة من رَكضات الشيطان فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهُرت واستنقأت فصلّي ثلاثاً وعشرين ليلة أو أربعاً وعشرين ليلة وأيامها وصومي فإن ذلك يجزيك، وكذلك فافعلي كل شهر كما تحيض النساء وكما يطهرن ميقات حيضهن وطهرهن)) (¬1). فعلى هذا تمت أحوال المستحاضة: مستحاضة لها عادة تعمل بعادتها، ومستحاضة ليس لها عادة ولكن تميز بين الدمين فتعمل بالتمييز، ومستحاضة ليس لها عادة ولا تمييز فتعمل بحديث حمنة ستة أيام أو سبعة (¬2). رابعاً: أحكام الاستحاضة: المستحاضة حكمها حكم الطاهرات في الصلاة، والصيام، والاعتكاف، ومس المصحف، والقراءة، والمكث في المسجد، ووجوب العبادات الواجبة على الطاهرات، وتحل لزوجها (¬3) ولا فرق بينها وبين الطاهرات إلا فيما يلي: ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب من قال إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة، برقم 287، والترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في المستحاضة أنها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد، برقم 128، وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في البكر إذا ابتدأت مستحاضة أو كان لها أيام حيض فنسيتها، برقم 627، وغيرهم، وحسنه الألباني في إرواء الغليل، 1/ 202، برقم 188، وفي صحيح أبي داود، برقم 267،وفي صحيح الترمذي، برقم 110،وصحيح ابن ماجه، برقم 510. (¬2) انظر: الحيض والنفاس والاستحاضة، لراوية بنت أحمد، ص489 - 534، والدماء الطبيعية للعلامة ابن عثيمين، الفصل الخامس، ومنار السبيل، 1/ 59. (¬3) لقول ابن عباس: تغتسل وتصلي ولو ساعة ويأتيها زوجها إذا صلت، الصلاة أعظم. انظر: البخاري مع الفتح في جماع المستحاضة بعد غسلها من الحيض، 1/ 428 قبل الحديث رقم 231، وصحيح سنن أبي داود، برقم 302 و304.

1 - لا يجب عليها الغسل لوقت من الأوقات إلا مرة واحدة

1 - لا يجب عليها الغسل لوقت من الأوقات إلا مرة واحدة حينما ينقطع حيضها؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - لأم حبيبة بنت جحش: ((امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي وصلي)) (¬1). ثم بعد ذلك تتوضأ لوقت كل صلاة. 2 - وجوب الوضوء عليها لوقت كل صلاة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث فاطمة بنت أبي حبيش: ((ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت)) (¬2). فلا تتوضأ للصلاة المؤقتة إلا بعد دخول وقتها، وتصلي بذلك الوضوء - ما لم يأت ناقض آخر غير الدم - ما شاءت من الصلاة الفرض والنفل حتى يخرج وقت الصلاة. 3 - إذا أرادت الوضوء فإنها تغسل أثر الدم، فتغسل فرجها وتعصب عليه خرقة، أو تتحفظ بقطن يمسك الدم؛ لحديث حمنة رضي الله عنها، أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: ((أنعت لك الكرسف؛ فإنه يذهب الدم)).قالت: هو أكثر من ذلك. قال: ((فاتخذي ثوباً)).قالت: هو أكثر من ذلك، إنما أثج ثجاً. قال: ((فتلجمي)) (¬3). وفي حديث فاطمة بنت أبي حبيش: ((فلتغتسل ثم لتستثفر بثوب ثم لتصلّ)) (¬4) ولا يضرها ما خرج بعد ذلك؛ لأنها اتقت الله ما استطاعت؛ ولحديث فاطمة بنت أبي حبيش: ((وتوضئي لكل صلاة، وإن قطر الدم على الحصير)) (¬5). ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب المستحاضة وغسلها وصلاتها، برقم 334/ 66. (¬2) البخاري، برقم 227، ومسلم، برقم 333 ولكنه حذف هذه الزيادة، وتقدم تخريجه في الحالة الأولى من أحوال الاستحاضة. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب من قال إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة، برقم 287، والترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في المستحاضة أنها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد، برقم 128، وابن ماجه في كتاب الطهارة، باب ما جاء في البكر إذا ابتدأت مستحاضة، برقم 627، وغيرهم، وانظر: صحيح سنن أبي داود، 1/ 52، وصحيح سنن ابن ماجه، 1/ 103، وإرواء الغليل، برقم 188. (¬4) أخرجه أبو داود، برقم 274، والنسائي، برقم 208، وابن ماجه، برقم 623، وقد تقدم في المطلب الثالث: الاستحاضة. (¬5) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في المستحاضة التي قد عدت أيام أقرائها قبل أن يستمر بها الدم، برقم 624،وانظر: صحيح ابن ماجه،1/ 102،وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((اعتكفت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من أزواجه فكانت ترى الدم والصفرة والطست تحتها وهي تصلي)). البخاري مع الفتح، 1/ 411، برقم 310.

4 - الجمع الصوري، فيجوز للمستحاضة الجمع الصوري

4 - الجمع الصوري، فيجوز للمستحاضة الجمع الصوري؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - لحمنه بنت جحش: (( ... فإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين: الظهر والعصر، وتؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي، وتغتسلين مع الفجر، فافعلي ... )) الحديث (¬1)، وإن جمعت بين المغرب والعشاء في وقت إحداهما - جمع تقديم أو تأخير - فلا حرج؛ لأنها مريضة (¬2). والله المستعان (¬3). خامساً: استحاضة الحامل أو حيضها: الغالب الكثير أن المرأة إذا حملت انقطع دم الحيض عنها، لكن إذا حصل لها دم أثناء الحمل فقد اختلف أهل العلم هل هو دم حيض أو دم فساد، فقيل بأنه دم فساد؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تستبرئ بحيضة)) (¬4). ونقل ابن قدامة أنه قول جمهور التابعين، وحمل قول من قال بأنه حيض على ما تراه الحامل قبل ولادتها بيوم أو يومين أو ثلاثة مع الطلق، فهذا يلحق بالنفاس (¬5). وقيل بأنه دم حيض؛ لأن أصل الدم هو دم الحيض، ورجح سماحة شيخنا عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله القول الأول، وهو أن الحامل لا تحيض ودمها دم فساد كالاستحاضة (¬6). ¬

(¬1) أخرجه أبو داود برقم 287، والترمذي، برقم 128، وابن ماجه، برقم 627، وحسنه الألباني في إرواء الغليل،1/ 202،برقم 188،وقد تقدم في أحكام الاستحاضة. (¬2) كان يفتي بذلك سماحة العلامة مفتي عام المملكة العربية السعودية عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله تعالى. (¬3) انظر: الحيض والنفاس والاستحاضة، ص 535 - 548،والمغني لابن قدامة،1/ 449. (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب النكاح، باب في وطء السبايا، برقم 2157، والدرامي في كتاب الطلاق، باب في استبراء الأمة، برقم 2300، وصححه الألباني في الإرواء، 1/ 200، برقم 187. (¬5) المغني، 1/ 443 - 444. (¬6) انظر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء،5/ 392،وشرح العمدة لابن تيمية،1/ 514، وشرح الزركشي، 1/ 450، وانظر: للفائدة ما ذهب إليه العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى في الدماء الطبيعية في آخر الفصل الثاني، والشرح الممتع، 1/ 403 - 405.

المطلب الرابع: أحكام السلس

المطلب الرابع: أحكام السلس 1 - المصاب المبتلى بسلس البول المستمر الذي لا ينقطع، عليه أن يغسل ما أصاب الثوب أو البدن، ويغسل فرجه بعد دخول وقت كل صلاة، وعليه أن يتحفظ فيشد على مخرج البول ما يمنع وصوله إلى البدن، أو الثوب، أو البقعة، أو المسجد، ثم يتوضأ. 2 - وصاحب الريح المستمرة التي لا تنقطع حكمه حكم صاحب السلس. 3 - وصاحب المذي المستمر الذي لا ينقطع، ينضح ما أصاب ثوبه ويغسل فرجه، وأنثييه (¬1) بعد دخول الوقت ثم يتوضأ كل واحد من هؤلاء الثلاثة لوقت كل صلاة كالمستحاضة تماماً، ويصلي بذلك الوضوء الفرائض والنوافل، ولا يضره ما خرج بعد ذلك سواء كان قبل الصلاة أو أثناءها إلى أن يخرج وقت الصلاة كله. وعلى صاحب سلس البول أن يخصص ثوباً طاهراً للصلاة إذا لم يشق عليه ذلك؛ لأن البول نجس، فإن شق عليه ذلك عُفي عنه؛ لما في إزالته من المشقة والحرج، وقد قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬2). وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬3) وقال تعالى: {لاَ يُكَلّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (¬4). وقال تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬5). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) (¬6). أما صلاة الجمعة فيتوضأ كل واحد ¬

(¬1) أُنثييه: خصيتيه. (¬2) سورة التغابن، الآية: 16. (¬3) سورة الحج، الآية: 78. (¬4) سورة البقرة: الآية: 286. (¬5) سورة البقرة، الآية: 185. (¬6) أخرجه البخاري، برقم 7288، ومسلم، برقم 1337، وقد تقدم في المبحث الثامن: في التيمم.

من هؤلاء قبل دخول الخطيب في الوقت الذي يمكنهم من سماع الخطبة وأداء الصلاة (¬1) وعلى كل واحد من هؤلاء أن يسأل الله العافية ويبحث عن العلاج المشروع ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. والله أسأل أن يعافينا وجميع المسلمين والمسلمات من كل سوءٍ ومكروه. ¬

(¬1) انظر: المغني لابن قدامة، 1/ 421، وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، 5/ 406 - 414، والفتاوى الإسلامية، 1/ 192.

المبحث العاشر: مفهوم الصلاة

المبحث العاشر: مفهوم الصلاة الصلاة لغة: الدعاء، قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِم بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬1). أي ادع لهم، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان صائمًا فليصلّ، وإن كان مفطرًا فليطعم)) (¬2).أي فليدع بالبركة والخير والمغفرة (¬3). والصلاة من الله حسن الثناء، ومن الملائكة الدعاء، قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلّمُوا تَسْلِيمًا} (¬4). قال أبو العالية: ((صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة: الدعاء)) (¬5). وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ((يصلون: يُبَرّكون)) (¬6). وقيل: إن صلاة الله الرحمة، وصلاة الملائكة الاستغفار. والصواب القول الأول (¬7). قال الله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مّن رَّبّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمهْتَدُونَ} (¬8). أي عليهم ثناء من الله ورحمة (¬9)، فعطف الرحمة على الصلوات والعطف يقتضي المغايرة (¬10). فالصلاة من الله الثناء، ومن المخلوقين: الملائكة، والإنس، والجن: القيام، والركوع، والسجود، والدعاء، والتسبيح، والصلاة من الطير والهوام: ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 103. (¬2) أخرجه مسلم، كتاب النكاح، باب الأمر بإجابة الداعي إلى الدعوة، 2/ 1054، برقم 1431. (¬3) انظر: النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير، باب الصاد مع اللام، 3/ 50، ولسان العرب لابن منظور، باب اللام، فصل الصاد، 14/ 464، والتعريفات للجرجاني، ص174، وانظر المغني لابن قدامة، 3/ 5. وشرح العمدة لابن تيمية، 2/ 27 - 31. (¬4) سورة الأحزاب، الآية: 56. (¬5) البخاري معلقًا مجزومًا به، قبل الحديث رقم 4797. (¬6) البخاري معلقًا مجزومًا به، قبل الحديث رقم 4797. (¬7) انظر: تفسر القرآن العظيم لابن كثير ص1076، والشرح الممتع لابن عثيمين، 3/ 228 - 229. (¬8) سورة البقرة، الآية: 157. (¬9) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير ص135. (¬10) الشرح الممتع لابن عثيمين، 3/ 228، وسمعت هذا المعنى من الإمام عبد العزيز ابن باز أثناء تقريره على الروض المربع، 2/ 35.

التسبيح (¬1). والصلاة في الشرع: عبادة لله ذات أقوال وأفعال معلومة مخصوصة، مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم، وسميت صلاة لاشتمالها على الدعاء (¬2). فالصلاة كانت اسمًا لكل دعاء، فصارت اسمًا لدعاء مخصوص، أو كانت اسمًا لدعاء، فنقلت إلى الصلاة الشرعية لما بينها وبين الدعاء من المناسبة، والأمر في ذلك متقارب، فإذا أطلق اسم الصلاة في الشرع لم يفهم منه إلا الصلاة المشروعة (¬3). فالصلاة كلها دعاء: دعاء مسألة: وهو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع، أو كشف ضر، وطلب الحاجات من الله وحده بلسان المقال. ودعاء عبادة: وهو طلب الثواب بالأعمال الصالحة: من القيام، والقعود، والركوع، والسجود، فمن فعل هذه العبادات فقد دعا ربه، وطلبه بلسان الحال أن يغفر له، فتبين بذلك أن الصلاة كلها دعاء مسألة، ودعاء عبادة؛ لاشتمالها على ذلك كله (¬4). ¬

(¬1) انظر: لسان العرب لابن منظور، باب الياء، فصل الصاد، 14/ 465. (¬2) انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 5، والشرح الكبير، 3/ 5، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، 3/ 5، والتعريفات للجرجاني، ص174. (¬3) انظر: شرح العمدة لشيخ الإسلام ابن تيمية، 2/ 30 - 31. (¬4) انظر: شروط الدعاء وموانع الإجابة، للمؤلف، ص 10 - 11، وفتح المجيد لشرح كتاب التوحيد، ص 180، والقول المفيد على كتاب التوحيد، للعلامة محمد بن صالح العثيمين، 1/ 117. وسمعت هذا المعنى من الإمام ابن باز أثناء تقريره على الروض المربع، 1/ 410.

المبحث الحادي عشر: حكم الصلاة

المبحث الحادي عشر: حكم الصلاة الصلاة واجبة: بالكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، على كل مسلم بالغ عاقل، إلا الحائض والنفساء، أما الكتاب فقول الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيّمَةِ} (¬1). وقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} (¬2). وأما السنَّة؛ فلحديث معاذ - رضي الله عنه - حينما بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن وقال له: ((وأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة)) (¬3)؛ ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت)) (¬4). وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن لم يضيّع منهن شيئًا استخفافًا بحقّهنّ، كان له عند الله عهدًا أن يدخله الجنة ... )) الحديث (¬5). والآيات والأحاديث في فرضية الصلاة كثيرة. وأما الإجماع، فقد أجمعت الأمة على وجوب خمس صلوات في ¬

(¬1) سورة البينة، الآية: 5. (¬2) سورة النساء، الآية: 103. (¬3) أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة، برقم 1395، ومسلم، الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين 1/ 50. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، باب دعاؤكم إيمانكم، برقم 8، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أركان الإسلام، برقم 16. (¬5) أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب فيمن لم يوتر، 2/ 62، برقم 1420، وصححه الألباني - رحمه الله - في صحيح سنن أبي داود 1/ 266، 1/ 86.

اليوم والليلة (¬1). ولا تجب على الحائض والنفساء، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((أليست إذا حاضت لم تصلّ ولم تصم)) (¬2). ¬

(¬1) المغني لابن قدامة 3/ 6. (¬2) البخاري، كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم، 1/ 144، عن أبي سعيد - رضي الله عنه -، وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عند مسلم في كتاب الإيمان ((وتمكث الليالي ما تصلي، وتفطر رمضان فهذا نقص الدين)).

المبحث الثاني عشر: منزلة الصلاة في الإسلام

المبحث الثاني عشر: منزلة الصلاة في الإسلام الصلاة لها منزلة عظيمة في الإسلام، ومما يدل على أهميتها وعظم منزلتها ما يأتي: 1 - الصلاة عماد الدين الذي لا يقوم إلا به، ففي حديث معاذ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((رأس الأمر الإسلام، وعمودُه الصلاةُ، وذروةُ سنامِه الجهادُ)) (¬1). وإذا سقط العمود سقط ما بني عليه. 2 - أول ما يحاسب عليه العبد من عمله، فصلاح عمله وفساده بصلاح صلاته وفسادها، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة: الصلاة، فإن صلحت صلح سائرُ عمله، وإن فسدت فسد سائرُ عمله)). وفي رواية: ((أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة ينظر في صلاته، فإن صلحت فقد أفلح، [وفي رواية: وأنجح]، وإن فسدت فقد خاب وخسر)) (¬2). وعن تميم الداري - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته، فإن كان أتمها كتبت له تامة، وإن لم يكن أتمها قال الله - عز وجل - لملائكته: انظروا هل تجدون لعبدي من تطوع فتكملون بها فريضته، ثم الزكاة كذلك، ثم تُؤخذ الأعمال على حسب ذلك)) (¬3). ¬

(¬1) الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة، 5/ 11، برقم 2616، وقال: ((حديث حسن صحيح))،وأخرجه ابن ماجه، كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة، 2/ 1314، وأحمد، 5/ 231، وحسنه الألباني في إرواء الغليل، 2/ 138. (¬2) أخرجه الطبراني في الأوسط، 1/ 409 [مجمع البحرين] برقم 532، ورقم 533، وقال العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة: ((وبالجملة فالحديث صحيح بمجموع طرقه والله أعلم)) 3/ 346. (¬3) أبو داود، كتاب الصلاة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كل صلاة لا يتمها صاحبها تُتًمُّ من تطوعه) 1/ 228، برقم 864، ومن حديث أبي هريرة برقم 866، وابن ماجه، من حديث أبي هريرة في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في أول ما يحاسب به العبد: الصلاة، 1/ 458، برقم 1425، وأحمد، 4/ 65، 103، 5/ 377، وصححه الألباني في صحيح الجامع،2/ 353.

3 - آخر ما يفقد من الدين

3 - آخر ما يُفقد من الدين، فإذا ذهب آخر الدين لم يبق شيء منه، فعن أبي أمامة مرفوعًا: ((لتُنقضن عُرَى الإسلام عُروة عُروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضًا الحكم، وآخرهن الصلاة)) (¬1). وفي رواية من طريق آخر: ((أول ما يرفع من الناس الأمانة، وآخر ما يبقى الصلاة، ورب مصلٍّ لا خير فيه)) (¬2). وعن أنس - رضي الله عنه - مرفوعاً: ((أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخره الصلاة)) (¬3). 4 - آخر وصية أوصى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته، فعن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: كان من آخر وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم))،حتى جعل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يلجلجها في صدره وما يفيض بها لسانه)) (¬4). 5 - مدح الله القائمين بها ومن أمر بها أهله، فقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا* وَكَانَ يَأْمُرُ ¬

(¬1) أحمد، 5/ 251، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 1/ 229. (¬2) أخرجه الطبراني في الصغير [مجمع البحرين]، 7/ 263، برقم 4425، وضعفه المحقق عبد القدوس بن محمد نذير عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وله شاهد عن زيد بن ثابت أخرجه الحكيم الترمذي ((أول ما يرفع من الناس الأمانة وآخر ما يبقى من دينهم الصلاة، ورب مصلٍّ لا خلاق له عند الله تعالى))، وذكره الألباني في صحيح الجامع وحسنه، 2/ 353. (¬3) أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق، ص 28، وتمام الرازي في الفوائد (ق 31/ 2)، والضياء في المختارة، 1/ 495، وأخرجه الطبراني في الكبير، برقم 7182 من حديث شداد بن أوس - رضي الله عنه - بدون ذكر الصلاة، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 4/ 319، برقم 1739، وقال بعد أن ذكر شواهده وطرقه: ((والحديث صحيح على كل حال، فإن له شواهد كثيرة ذكرت بعضها في الروض النضير، تحت الحديث رقم 726)). (¬4) أحمد، 6/ 290، 311، 321، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 7/ 238.

6 - ذم الله المضيعين لها والمتكاسلين عنها

أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيًّا} (¬1). 6 - ذم الله المضيعين لها والمتكاسلين عنها، قال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (¬2). وقال - عز وجل -: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً} (¬3). 7 - أعظم أركان الإسلام ودعائمه العظام بعد الشهادتين، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)) (¬4). 8 - مما يدل على عظم شأنها أن الله لم يفرضها في الأرض بواسطة جبريل، وإنما فرضها بدون واسطة ليلة الإسراء فوق سبع سموات. 9 - فرضت خمسين صلاة، وهذا يدل على محبة الله لها، ثم خفف الله - عز وجل - عن عباده، ففرضها خمس صلوات في اليوم والليلة، فهي خمسون في الميزان، وخمس في العمل، وهذا يدل على عظم مكانتها (¬5). 10 - افتتح الله أعمال المفلحين بالصلاة واختتمها بها، وهذا يؤكد أهميتها، قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ*الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ*وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ*وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ*إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ*فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ*وَالَّذِينَ هُمْ ¬

(¬1) سورة مريم، الآيتان: 54 - 55. (¬2) سورة مريم، الآية: 59. (¬3) سورة النساء، الآية: 142. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بني الإسلام على خمس)) 1/ 92، برقم 8، ومسلم، كتاب الإيمان، باب أركان الإسلام ودعائمه العظام 1/ 45، برقم 16. (¬5) متفق عليه من حديث أنس - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب التوحيد، باب ما جاء في قوله - عز وجل -: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً}، برقم 7517، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفرض الصلوات، برقم 162.

11 - أمر الله النبي محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه أن يأمروا بها أهليهم

لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ*وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (¬1). 11 - أمر الله النبي محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه أن يأمروا بها أهليهم، فقال الله - عز وجل -: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (¬2). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرّقوا بينهم في المضاجع)) (¬3). 12 - أُمِرَ النائم والناسي بقضاء الصلاة، وهذا يؤكد أهميتها، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من نسي صلاةً فليصلّها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك)). وفي رواية لمسلم: ((من نسي صلاةً أو نام عنها، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها)) (¬4). وأُلحق بالنائم المُغمى عليه ثلاثة أيام فأقل، وقد رُوي ذلك عن عمار، وعمران بن حصين، وسمرة بن جندب - رضي الله عنهم - (¬5). أما إن كانت المدة أكثر من ذلك فلا قضاء؛ لأن المُغمى عليه مدة طويلة أكثر من ثلاثة أيام يشبه المجنون بجامع زوال العقل، والله أعلم (¬6). ¬

(¬1) سورة المؤمنون، الآيات: 1 - 9. (¬2) سورة طه، الآية: 132. (¬3) أبو داود، كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة، 1/ 133، برقم 495، وأحمد، 2/ 180، 187، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 2/ 7، 1/ 266. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها 1/ 166، برقم 597، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، 1/ 477، برقم 684. (¬5) انظر: الشرح الكبير لابن قدامة، 3/ 8، والمغني، 2/ 50 - 52. (¬6) انظر: مجموع فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز، جمع الدكتور عبد الله الطيار، والشيخ أحمد بن عبد العزيز ابن باز، 2/ 457.

المبحث الثالث عشر: خصائص الصلاة في الإسلام

المبحث الثالث عشر: خصائص الصلاة في الإسلام (¬1) الصلاة لها شأن انفردت به على سائر الأعمال الصالحة، منها: 1 - سمى الله الصلاة إيمانًا بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (¬2).يعني صلاتكم إلى بيت المقدس؛ لأن الصلاة تصدّقُ عَمَلهُ وقَوْلَهُ. 2 - خصها بالذكر تمييزًا لها من بين شرائع الإسلام، قال الله تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} (¬3)، وتلاوته اتباعه والعمل بما فيه من جميع شرائع الدين، ثم قال: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ}، فخصها بالذكر تمييزًا لها، وقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ} (¬4). خصها بالذكر مع دخولها في جميع الخيرات، وغير ذلك كثير. 3 - قُرِنَت في القرآن الكريم بكثير من العبادات، ومن ذلك قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ} (¬5). وقال: {فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ} (¬6). وقال: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبّ الْعَالَمِينَ} (¬7)، وغير ذلك كثير. 4 - أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يصطبر عليها، فقال: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ} (¬8) مع أنه - صلى الله عليه وسلم - مأمور ¬

(¬1) انظر: شرح العمدة لابن تيمية، 2/ 87 - 91. (¬2) سورة البقرة، الآية: 143. (¬3) سورة العنكبوت، الآية: 45. (¬4) سورة الأنبياء، الآية: 73. (¬5) سورة البقرة، الآية: 43. (¬6) سورة الكوثر، الآية: 2. (¬7) سورة الأنعام، الآية: 162. (¬8) سورة طه، الآية: 132.

5 - أوجبها الله على كل حال

بالاصطبار على جميع العبادات؛ لقوله تعالى: {وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} (¬1). 5 - أوجبها الله على كل حال، ولم يعذر بها مريضًا، ولا خائفًا، ولا مسافرًا، ولا غير ذلك؛ بل وقع التخفيف تارة في شروطها، وتارة في عددها، وتارة في أفعالها، ولم تسقط مع ثبات العقل. 6 - اشترط الله لها أكمل الأحوال: من الطهارة، والزينة باللباس، واستقبال القبلة مما لم يشترط في غيرها. 7 - استعمل فيها جميع أعضاء الإنسان: من القلب، واللسان، والجوارح، وليس ذلك لغيرها. 8 - نهى أن يشتغل فيها بغيرها، حتى بالخطرة، واللفظة، والفكرة. 9 - هي دين الله الذي يدين به أهل السموات والأرض، وهي مفتاح شرائع الأنبياء، ولم يُبْعَث نبيٌّ إلا بالصلاة. 10 - قُرنت بالتصديق بقوله: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى*وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} (¬2)، وخصائص الصلاة كثيرة جدًّا لا تقاس بغيرها (¬3). ¬

(¬1) سورة مريم، الآية: 65. (¬2) سورة القيامة، الآيتان: 31 - 32. (¬3) انظر: شرح العمدة لشيخ الإسلام ابن تيمية، 2/ 87 - 91، والشرح الممتع لابن عثيمين،2/ 87.

المبحث الرابع عشر: حكم تارك الصلاة

المبحث الرابع عشر: حكم تارك الصلاة ترك الصلاة المفروضة كفر، فمن تركها جاحدًا لوجوبها كفر كفرًا أكبر بإجماع أهل العلم، ولو صلَّى (¬1)،أما من ترك الصلاة بالكلّيّة، وهو يعتقد وجوبها ولا يجحدها، فإنه يكفر، والصحيح من أقوال أهل العلم أن كفره أكبر يخرج من الإسلام؛ لأدلة كثيرة منها على سبيل الاختصار ما يأتي: 1 - قال الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ*خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} (¬2). وهذا يدل على أن تارك الصلاة مع الكفار والمنافقين الذين تبقى ظهورهم إذا سجد المسلمون قائمة، ولو كانوا من المسلمين لأُذِنَ لهم بالسجود كما أُذِنَ للمسلمين. 2ـ وقال - سبحانه وتعالى -: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ*إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ*فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ*عَنِ الْمُجْرِمِينَ*مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ*قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلّينَ*وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ*وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ*وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ الدّينِ} (¬3). فتارك الصلاة من المجرمين السالكين في سقر، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} (¬4). 3 - وقال الله - عز وجل -: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ وَنُفَصّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (¬5).فعلق أخوَّتهم للمؤمنين بفعل الصلاة. ¬

(¬1) انظر: تحفة الإخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام، لسماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز ص73 (¬2) سورة القلم، الآيتان: 42 - 43. (¬3) سورة المدثر، الآيات: 38 - 46. (¬4) سورة القمر، الآيتان: 47 - 48. (¬5) سورة التوبة، الآية: 11.

4 - عن جابر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)) (¬1). 5 - وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)) (¬2). 6 - وعن عبد الله بن شقيق - رضي الله عنه - قال: ((كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة)) (¬3). 7 - وقد حكى إجماع الصحابة على كفر تارك الصلاة غير واحد من أهل العلم (¬4). 8 - وذكر الإمام ابن تيمية أن تارك الصلاة يكفر الكفر الأكبر لعشرة وجوه (¬5). 9 - وأورد الإمام ابن القيم - رحمه الله - أكثر من اثنين وعشرين دليلاً على كفر تارك الصلاة الكفر الأكبر (¬6). والصواب الذي لا شك فيه، أن تارك الصلاة مطلقًا كافر لهذه الأدلة الصريحة (¬7). 10 - قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: ((وقد دلّ على كفر تارك الصلاة: الكتاب والسنة، وإجماع الصحابة)) (¬8). ¬

(¬1) مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة،1/ 86،برقم 76. (¬2) أخرجه الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، 1/ 14،برقم 2621، والنسائي، كتاب الصلاة، باب الحكم في تارك الصلاة، 1/ 231،وابن ماجه، كتاب الإقامة، باب ما جاء فيمن ترك الصلاة، برقم 1079،والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 1/ 6، 7. (¬3) الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، 1/ 14، برقم 2622. (¬4) انظر: المحلى لابن حزم، 2/ 242، 243، وكتاب الصلاة لابن القيم، ص26، والشرح الممتع على زاد المستقنع، لابن عثيمين، 2/ 28. (¬5) انظر: شرح العمدة، لابن تيمية 2/ 81 - 94. (¬6) انظر: كتاب الصلاة لابن القيم ص17 - 26. فقد ذكر عشرة أدلة من القرآن واثني عشر دليلاً من السنة وإجماع الصحابة. (¬7) سمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز قدس الله روحه وغفر له يُكفّر تارك الصلاة ولو تركها في بعض الأوقات، ولو لم يجحد وجوبها. وانظر: تحفة الإخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام، له رحمه الله ص72. (¬8) كتاب الصلاة، ص 17.

المبحث الخامس عشر: فضل الصلاة

المبحث الخامس عشر: فضل الصلاة 1ـ تنهى عن الفحشاء والمنكر؛ قال الله تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (¬1). 2 - أفضل الأعمال بعد الشهادتين؛ لحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:أي العمل أفضل؟ قال: ((الصلاة لوقتها)) قال: قلت: ثم أيّ؟ قال: ((برّ الوالدين)) قال: قلت: ثم أيّ؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) (¬2). 3 - تغسل الخطايا؛ لحديث جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل الصلوات الخمس كمثل نهرٍ غمرٍ على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات)) (¬3). 4 - تكفّر السيئات؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر)) (¬4). 5 - نور لصاحبها في الدنيا والآخرة؛ لحديث عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر الصلاة يومًا فقال: ((من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور، ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون، وفرعون، وهامان، ¬

(¬1) سورة العنكبوت، الآية: 45. (¬2) متفق عليه: البخاري، تاب التوحيد، باب وسمى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة عملاً، 8/ 265،برقم 7534، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال،1/ 89،برقم 85. (¬3) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا وترفع به الدرجات، 1/ 463، برقم 668. (¬4) مسلم، كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر، 1/ 209، برقم 233.

6 - يرفع الله بها الدرجات، ويحط الخطايا

وأبيّ بن خلف)) (¬1). وفي حديث أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه -: ((الصلاة نور)) (¬2)؛ ولحديث بريدة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((بشر المشَّائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)) (¬3). 6 - يرفع الله بها الدرجات، ويحط الخطايا؛ لحديث ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال له: ((عليك بكثرة السجود، فإنك لا تسجد لله سجدةً إلا رفعك الله بها درجة، وحطَّ عنك بها خطيئة)) (¬4). 7 - من أعظم أسباب دخول الجنة برفقة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لحديث ربيعة بن كعب الأسلمي - رضي الله عنه - قال: كنت أبيت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: ((سَلْ)) فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: ((أو غير ذلك؟)) قلت: هو ذاك، قال: ((فأعني على نفسك بكثرة السجود)) (¬5). 8 - المشي إليها تكتب به الحسنات وترفع الدرجات وتحط الخطايا؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من تطهَّر في بيته، ثم مشى إلى بيت من بيوت الله؛ ليقضي فريضة من فرائض الله، كانت خَطْوَتاه إحداهما تحطُّ خطيئة، والأخرى ترفع درجة)) (¬6). ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد في المسند، 2/ 169، والدارمي،2/ 301، وقال الإمام المنذري في الترغيب والترهيب، 1/ 440: ((رواه أحمد بإسناد جيد)). (¬2) مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، 1/ 203، برقم 223. (¬3) أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما جاء في المشي إلى الصلاة، برقم 561، والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في فضل العشاء والفجر في الجماعة، برقم 223، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح لشواهده الكثيرة، 1/ 224. (¬4) أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب فضل السجود والحث عليه،1/ 253،برقم 488. (¬5) مسلم، كتاب الصلاة، باب فضل السجود والحث عليه، 1/ 253، برقم 489. (¬6) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا وترفع به الدرجات، 1/ 462، برقم 666.

9 - تعد الضيافة في الجنة بها كلما غدا إليها المسلم أو راح

وفي الحديث الآخر: ((إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد، لم يرفع قدمه اليمنى إلا كتب الله - عز وجل - له حسنة، ولم يضع قدمه اليسرى إلا حط الله - عز وجل - عنه سيئة .. )) (¬1). 9 - تُعدُّ الضيافة في الجنة بها كلما غدا إليها المسلم أو راح؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من غدا إلى المسجد أو راح، أعد الله له في الجنة نُزُلاً كُلَّما غدا أو راح)) (¬2). والنزل ما يهيأ للضيف عند قدومه. 10 - يغفر الله بها الذنوب فيما بينها وبين الصلاة التي تليها؛ لحديث عثمان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يتوضأ رجل مسلم فيحسن الوضوء، فيصلي صلاة إلا غفر الله له ما بينه وبين الصلاة التي تليها)) (¬3). 11 - تكفر ما قبلها من الذنوب؛ لحديث عثمان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها، وخشوعها، وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم يأتِ كبيرة، وذلك الدهر كلّه)) (¬4). 12 - تُصلّي الملائكة على صاحبها ما دام في مُصلاّه، وهو في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعًا وعشرين درجةً. وذلك أن أحدهم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد، لا ينهزه إلا الصلاة، لا يريد إلا الصلاة، فلم يخطُ خطْوَة إلا رُفِعَ ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما جاء في الهدي في المشي إلى الصلاة، برقم 563. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب فضل من غدا إلى المسجد أو راح، 1/ 182، برقم 662. ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا وترفع به الدرجات، 1/ 463، برقم 669. (¬3) مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء والصلاة عقبه، 1/ 206، برقم 227. (¬4) مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء والصلاة عقبه، 1/ 206، برقم 228.

13 - انتظارها رباط في سبيل الله

له بها درجةً، وحُطَّ عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد، فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة تحبسه، والملائكة يُصلُّون على أحدكم مادام في مجلسه الذي صلى فيه، يقولون: اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم تب عليه، ما لم يؤذِ فيه، ما لم يحدث فيه)) (¬1). 13 - انتظارها رباط في سبيل الله؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات))؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)) (¬2). 14 - أجر من خرج إليها كأجر الحاج المحرم؛ لحديث أبي أمامة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من خرج من بيته متطهرًا إلى صلاة مكتوبة، فأجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى تسبيح الضحى (¬3) لا ينصبه (¬4) إلا إياه، فأجره كأجر المعتمر، وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتابٌ في عليين)) (¬5). 15 - من سُبِق بها وهو من أهلها فله مثل أجر من حضرها؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من توضأ فأحسن الوضوء، ثم راح فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله - عز وجل - مثل أجر من صلاها وحضرها، لا ينقص ذلك من أجرهم شيئًا)) (¬6). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب البيوع، باب ما ذكر في الأسواق، برقم 2119، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة وانتظار الصلاة، 1/ 459، برقم 649. (¬2) مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره، برقم 251. (¬3) تسبيح الضحى: صلاة الضحى، وكل صلاة يتطوع بها فهي تسبيحٌ وسُبْحة. الترغيب والترهيب للمنذري، 1/ 292. (¬4) لا ينصبه: لا يتعبه إلا ذلك، والنَّصبُ: التعب، الترغيب والترهيب للمنذري،2/ 292. (¬5) أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما جاء في فضل المشي إلى الصلاة، برقم 558، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود،1/ 111،وفي صحيح الترغيب،1/ 127. (¬6) أبو داود، كتاب الصلاة، باب في من خرج يريد الصلاة فسبق بها، برقم 564، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 113.

16 - إذا تطهر وخرج إليها فهو في صلاة حتى يرجع

16 - إذا تطهر وخرج إليها فهو في صلاة حتى يرجع، ويكتب له ذهابه ورجوعه؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا توضأ أحدكم في بيته، ثم أتى المسجد، كان في صلاة حتى يرجع، فلا يقل: هكذا)) وشبك بين أصابعه (¬1)، وعنه - رضي الله عنه - يرفعه: ((من حين يخرج أحدكم من منزله إلى مسجدي، فرِجْلٌ تكتُبُ حسنة ورِجلٌ تحطُّ سيئة حتى يرجع)) (¬2). ¬

(¬1) ابن خزيمة في صحيحه، 1/ 229، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 1/ 206، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 118. (¬2) ابن حبان في صحيحه، برقم 1620، والنسائي 2/ 42، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 1/ 217، وصححه الألباني في صحيح الترغيب، 1/ 121، وقال: ((وهو كما قالا)) يعني الحاكم والذهبي. وانظر: أحاديث أخرى صحيحة تدل على أن من تطهر في بيته ثم ذهب إلى المسجد فهو في صلاة حتى يرجع إلى منزله. صحيح الترغيب والترهيب للألباني، 1/ 121.

المبحث السادس عشر: الأذان والإقامة

المبحث السادس عشر: الأذان والإقامة أولاً: مفهوم الأذان والإقامة، وحكمهما: 1 - الأذان في اللغة: الإعلام بالشيء، قال الله تعالى: {وَأَذَانٌ مّنَ الله وَرَسُولِهِ} (¬1) أي إعلام. وقوله: {آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} (¬2) أي أعلمتكم فاستوينا في العلم (¬3). والأذان في الشرع: الإعلام بوقت الصلاة بألفاظ معلومة مخصوصة مشروعة (¬4)، وسُمّي بذلك؛ لأن المؤذن يعلم الناس بمواقيت الصلاة، ويُسمَّى النداء؛ لأن المؤذن ينادي الناس ويدعوهم إلى الصلاة (¬5)، قال الله تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} (¬6) وقال سبحانه: {إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجمعة فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله} (¬7). 2ـ الإقامة في اللغة: مصدر أقام، من إقامة الشيء إذا جعله مستقيمًا. 3ـ الأذان والإقامة فرضا كفاية على الرجال دون النساء للصلوات الخمس المكتوبة، وصلاة الجمعة خامسة يومها، فهما مشروعان بالكتاب، لقول الله تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} (¬8)، وقوله - سبحانه وتعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجمعة فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله} (¬9).وبالسنة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 3. (¬2) سورة الأنبياء، الآية: 109. (¬3) انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، باب الهمزة مع الذال،1/ 34،والمغني لابن قدامة،2/ 53 (¬4) انظر: المغني لابن قدامة،2/ 53،والتعريفات للجرجاني، ص37،وسبل السلام للصنعاني،2/ 55. (¬5) شرح العمدة لابن تيمية، 2/ 95. (¬6) سورة المائدة، الآية: 58. (¬7) سورة الجمعة، الآية: 9. (¬8) سورة المائدة، الآية: 58. (¬9) سورة الجمعة، الآية: 9.

ثانيا: فضائل الأذان:

حديث مالك بن الحويرث: ((فإذا حضرت الصلاة فليؤذّن لكم أحدكم وليؤمَّكم أكبركم)) (¬1). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أحدكم)) يدل على أن الأذان فرض كفاية (¬2). قال ابن تيمية - رحمه الله -: ((وفي السنة المتواترة أنه كان يُنادى للصلوات الخمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبإجماع الأمة وعملها المتواتر خلفًا عن سلف)) (¬3). والصواب أن الأذان يجب على الرجال: في الحضر، والسفر، وعلى المنفرد، وللصلوات المؤدَّاة والمقْضيّة، وعلى الأحرار والعبيد (¬4). ثانيًا: فضائل الأذان: ثبت في فضائل الأذان والمؤذنين نصوص كثيرة، منها الفضائل الآتية: 1 - المنادي من الدعاة إلى الله، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (¬5). 2 - المؤذّنون أطول أعناقًا يوم القيامة؛ لحديث معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((المؤذنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة)) (¬6). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب من قال: ليؤذن في السفر مؤذن واحد، برقم 628، ومسلم، كتاب المساجد، باب من أحق بالإمامة، برقم 674. (¬2) قال الحافظ ابن حجر: ((واختلف في السنة التي فرض فيها، فالراجح أن ذلك كان في السنة الأولى [أي من الهجرة] وقيل: بل كان في السنة الثانية)).فتح الباري،2/ 78. (¬3) شرح العمدة لابن تيمية، 2/ 96، وانظر: فتاوى ابن تيمية، 22/ 64. (¬4) ورجح سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله -: أن الأذان فرض على الرجال، سواء كانوا أحرارًا أو عبيدًا، أو واحدًا، أو مسافرين. سمعته منه أثناء تعليقه على شرح الروض المربع، 1/ 430، بتاريخ 30/ 11/1418هـ، وانظر: المختارات الجلية للسعدي، ص37، وفتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم، 2/ 224، والشرح الممتع للشيخ محمد بن صالح العثيمين، 2/ 41. (¬5) سورة فصلت، الآية: 33. (¬6) أخرجه مسلم، في كتاب الصلاة، باب فضل الأذان وهروب الشيطان عند سماعه، برقم 387.

3 - يطرد الشيطان

3 - يطرد الشيطان؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا نُودي للصلاة أدبر الشيطان له ضُراط حتى لا يسمع التأذينَ، فإذا قُضِيَ النداءُ أقبل حتى إذا ثُوّب للصلاة أدبَرَ، حتى إذا قُضِيَ التَّثْويبُ (¬1) أقبلَ حتى يَخطُرُ بين المرء ونفسه، يقول له: اذكر كذا واذكر كذا لما لم يكن يذكر من قبل، حتى يظلَّ الرجلُ لا يدري كم صلى)) (¬2). 4 - لو يعلم الناس ما في النداء لاستهموا عليه؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لو يعلمُ الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير (¬3) لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة (¬4) والصبح لأتوهما ولو حبوًا)) (¬5). 5 - لا يسمع صوت المؤذّن شيء إلا شهد له، قال أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - لعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة الأنصاري: ((إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء؛ فإنه لا يسمعُ مدى صوت المؤذّن جنٌّ ولا إنسٌ، ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة، قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (¬6). 6 - يُغفر للمؤذن مدى صوته وله مثل أجر من صلى معه؛ لحديث البراء بن عازب رضي الله عنهما أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله وملائكته يصلون على الصف المقدَّم، والمؤذنُ يغفرُ له بمدّ صوته، ويصدقه من سمعه ¬

(¬1) التثويب: الإقامة. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب فضل التأذين، برقم 608، ومسلم، كتاب الصلاة، باب فضل الأذان وهروب الشيطان عند سماعه، برقم 389. (¬3) التهجير: التبكير إلى الصلاة. (¬4) العتمة: صلاة العشاء. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب الاستهام في الأذان، برقم 615، ومسلم، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها، برقم 437. (¬6) البخاري، كتاب الأذان، باب رفع الصوت بالنداء، برقم 609.

7 - دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - له بالمغفرة

من رطبٍ ويابسٍ وله مثلُ أجر من صلى معه)) (¬1). 7 - دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - له بالمغفرة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الإمام ضامنٌ (¬2) والمؤذن مؤتمن (¬3)، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين)) (¬4). 8 - الأذان تُغفر به الذنوب ويُدخِل الجنة؛ لحديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((يعجب ربكم من راعي غنمٍ في رأس شظيَّة (¬5) بجبل يؤذن بالصلاة ويصلي، فيقول الله - عز وجل -: انظروا إلى عبدي هذا يؤذنُ ويقيمُ يخاف مني، فقد غفرتُ لعبدي وأدخلته الجنة)) (¬6). 9 - من أذَّن اثنتي عشرة سنة وجبت له الجنة؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أذَّن ثنتَي عشرةَ سنةً وجبتْ له الجنة، وكُتِبَ لهُ بِكُلّ أذانٍ ستونَ حَسَنةً، وبِكُلّ إقامةٍ ثلاثونَ حسنةً)) (¬7). ¬

(¬1) النسائي، كتاب الأذان، باب رفع الصوت بالأذان، 2/ 13، برقم 646، وأحمد، 4/ 284، وقال المنذري في الترغيب والترهيب، 1/ 243: ((رواه أحمد والنسائي بإسناد حسن جيد)). وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 99. (¬2) ضامن: الضمان هنا الحفظ والرعاية؛ لأنه يحفظ على القوم صلاتهم، وصلاتهم في عهدته. انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، باب الضاد مع الميم، 3/ 103. (¬3) مؤتمن: أمين الناس على صلاتهم وصيامهم. انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، باب الهمزة مع الميم، 1/ 71. (¬4) أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يجب على المؤذن من تعاهد الوقت، 1/ 143، برقم 517، والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء أن الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن، 1/ 402، برقم 207، وابن خزيمة برقم 528، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 100، وله شاهد من حديث عائشة رضي الله عنها عند ابن حبان بسند صحيح، برقم 1669. (¬5) الشظية: القطعة تنقطع من الجبل ولم تنفصل منه. انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، باب الشين مع الظاء، 1/ 71. (¬6) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الأذان في السفر، 2/ 4، برقم 1203، والنسائي، كتاب الأذان، باب الأذان لمن يصلي وحده، 2/ 20، برقم 666، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب،1/ 102، وسلسلة الأحاديث الصحيحة، رقم 41. (¬7) ابن ماجه، كتاب الأذان والسنة فيها، باب فضل الأذان وثواب المؤذنين، برقم 723،والحاكم في المستدرك، 1/ 205،واللفظ له، وقال: صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي، وقال المنذري في الترغيب والترهيب،1/ 111: ((وهو كما قال)).وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 42، وفي صحيح ابن ماجه،1/ 226.

10 - المؤذن خيار عباد الله

10 - المؤذّن خيار عباد الله؛ لحديث ابن أبي أوفى - رضي الله عنه -: أن النبي قال: ((إن خيار عباد الله الذين يراعون الشمس والقمر والنجوم لذكر الله)) (¬1). 11 - المؤذّن إذا أذَّن وأقام صلى خلفه من جنود الله ما لا يُرى طرفاه؛ لحديث سلمان الفارسي - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كان الرجل بأرض قِيّ (¬2)، فحانت الصلاة، فليتوضأ، فإن لم يجد ماءً فليتيمّم، فإن أقام صلى معه ملكاه، وإن أذن وأقام صلى خلفه من جنود الله ما لا يُرى طرفاه)) (¬3). ثالثًا: صفة الأذان والإقامة: الأذان الذي استمر عليه بلال بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو ما ثبت من حديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه، وصفته: ((الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسولُ الله، أشهد أن محمدًا رسولُ الله، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، حيَّ على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله))، والإقامة في هذا الحديث: ((الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسولُ الله، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، قد قامت الصلاةُ، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله)) (¬4). ¬

(¬1) الطبراني في الكبير واللفظ له كما قاله المنذري في الترغيب والترهيب، قال: والبزار، والحاكم، 1/ 51، وقال: ((إسناده صحيح))، وقال الألباني في صحيح الترغيب، 1/ 217: (( ... في تصحيح الحاكم نظر من وجوه بينتها في الصحيحة، 3400))، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 1/ 227: ((رواه الطبراني في الكبير، والبزار، ورجاله موثقون، لكنه معلول))، وحسنه الألباني لغيره في صحيح الترغيب، 1/ 217. (¬2) القِيّ: بكسر القاف وتشديد الياء: هي الأرض القفر [الترغيب للمنذري]. (¬3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، 10/ 510، 511، والطبراني في المعجم الكبير، 8/ 305، برقم 6120، وابن أبي شيبة في مصنفه، 1/ 219، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 219. (¬4) أخرجه أحمد، 4/ 42 - 43، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب كيف الأذان، 1/ 135، برقم 499، والترمذي مختصرًا، كتاب الصلاة، باب ما جاء في بدء الأذان، 1/ 358، برقم 189، وابن خزيمة في صحيحه، 1/ 193، برقم 371،وابن ماجه، كتاب الأذان، باب بدء الأذان،1/ 232،برقم 706.

ويقول في أذان الفجر بعد حي على الفلاح: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم

ويقول في أذان الفجر بعد حي على الفلاح: ((الصلاةُ خيرٌ مِنَ النوم، الصلاةُ خيرٌ من النوم)) (¬1)؛ ولحديث أنس - رضي الله عنه - قال: ((من السنة إذا قال المؤذن في الفجر: حيّ على الفلاح، قال: الصلاة خير من النوم)) (¬2)، فيكون أذان بلال بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة جملة، والإقامة إحدى عشرة جملة، ومما يؤكد ذلك حديث أنس - رضي الله عنه - قال: ((أُمِرَ بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة، إلا الإقامة)) (¬3)، والمعنى يأتي بالأذان مثنى مثنى، أو أربعًا أربعًا، فالكل يصدق عليه أنه شفع، وهذا إجمال بينه حديث عبد الله بن زيد، وحديث أبي محذورة، فشفع التكبير في أوله أن يأتي به أربعًا أربعًا، وشفع غيره أن يأتي به مرتين مرتين، وهذا بالنظر إلى الأغلب، وإلا فإن كلمة التوحيد في آخر الأذان، وفي آخر الإقامة مفردة بالاتفاق، والتكبير في الإقامة وتر بالنسبة إلى التكبير الرباعي في الأذان، وكذلك يكرر التكبير في آخر الإقامة، ويكرر لفظ الإقامة وتفرد بقية الألفاظ (¬4).وإن أذن وأقام بما في حديث أبي محذورة فلا بأس (¬5). ¬

(¬1) أخرجه النسائي من حديث أبي محذورة، في كتاب الأذان، باب الأذان في السفر، 2/ 7، برقم 633، وابن خزيمة في صحيحه، 1/ 200، برقم 385. (¬2) أخرجه ابن خزيمة، 1/ 202، برقم 386. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب: الأذان مثنى مثنى، برقم 605، ومسلم، كتاب الصلاة، باب الأمر بشفع الأذان وإيتار الإقامة، 1/برقم 378. (¬4) انظر: فتح الباري لابن حجر، 2/ 83، وسبل السلام للصنعاني 2/ 65. (¬5) وصفة الأذان في حديث أبي محذورة فيه الترجيع، وهو أن يقول: ((الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسولُ الله، أشهد أن محمدًا رسولُ الله يخفض بها صوته، ثم يرفع صوته: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله))، ويكمل كما في حديث عبد الله بن زيد. أحمد في المسند، 3/ 409، 6/ 401، وأبو داود برقم 502،والنسائي، برقم 631،والترمذي، برقم 192، وابن ماجه، برقم 709، ورواه مسلم، برقم 379 لكن بتثنية التكبير في أوله. والإقامة في حديث أبي محذورة - رضي الله عنه - بتربيع التكبير، والباقي مثنى: ((الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله)). النسائي، برقم 633،فيكون أذان أبي محذورة تسع عشرة كلمة، وإقامته سبع عشرة كلمة، كما رواه النسائي، برقم 630.قال ابن تيمية - رحمه الله-: ((وإذا كان ذلك كذلك، فالصواب مذهب أهل الحديث ومن وافقهم، وهو تسويغ كل ما ثبت من ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يكرهون شيئًا من ذلك، إذ تنوع صفة الأذان والإقامة كتنوع صفة القراءات والتشهدات)). الفتاوى، 22/ 66، وسمعت سماحة شيخنا عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: إن الأفضل أذان بلال وإقامته بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والصواب أن هذا من خلاف التنوع كالتحيات والاستفتاحات. سمعته أثناء شرحه للحديث رقم 93 من بلوغ المرام، وانظر: مجموع فتاواه، 10/ 434، 337، 366.

رابعا: آداب المؤذن:

رابعًا: آداب المؤذن: ويكون المؤذن متطهرًا (¬1)، ويتمهل في ألفاظ الأذان، ويسرع في الإقامة، ويكون ذلك جزمًا (¬2)، ويؤذن على موضعٍ عالٍ، قائمًا، مستقبل القبلة؛ لفعل بلال - رضي الله عنه - (¬3)، ويجعل أصبعيه في أذنيه؛ لحديث أبي جحيفة - رضي الله عنه -،قال: ((رأيت بلالاً يؤذن، أتتبع فاه، هاهنا وهاهنا، وإصبعاه في أذنيه)) (¬4)،ويلوي عنقه فيلتفت يمينًا لحيَّ على الصلاة، وشمالاً لحيَّ على الفلاح؛ لحديث أبي جحيفة - رضي الله عنه - قال: ((رأيت بلالاً خرج إلى الأبطح فأذَّنَ، فلما بلغ حيَّ على الصلاة حيَّ على الفلاح لوى عُنُقه يمينًا وشمالاً ولم يستدر)) (¬5). ¬

(¬1) وهذا هو الأفضل، انظر: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي، 3/ 75. (¬2) والمعنى تقطيع الكلمات بالوقف على كل جملة، فيحصل الجزم والسكون بالوقف. انظر: المرجع السابق، 3/ 72. (¬3) لأن بلالاً - رضي الله عنه - ((كان يؤذن على سطح امرأة من بني النجار، بيتها من أطول بيت حول المسجد)). أبو داود، كتاب الصلاة، باب الأذان فوق المنارة، برقم 519، وحسنه الألباني بطرقه في إرواء الغليل، 1/ 246، وذكر الألباني أنه ثبت استقبال القبلة من الملك الذي رآه عبد الله بن زيد الأنصاري، انظر: إرواء الغليل، 1/ 250، برقم 232، وانظر: سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب كيف الأذان، برقم 507. (¬4) أحمد في المسند، 4/ 308، والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في إدخال الإصبع في الأذن عند الأذان، برقم 197، وابن ماجه، كتاب الأذان، باب السنة في الأذان، برقم 711. (¬5) أبو داود، كتاب الصلاة، باب المؤذن يستدير في أذانه، برقم 520، وأصل حديث أبي جحيفة متفق عليه: البخاري، برقم 634، ومسلم، برقم 503.

ويؤذن في أول الوقت

ويؤذّن في أول الوقت؛ لقول جابر بن سمرة - رضي الله عنه -: ((كان بلال لا يؤخر الأذان عن الوقت، وربما أخَّر الإقامة شيئًا)) (¬1)،ومن السنة أن يكون المؤذن قوي الصوت؛ لحديث عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - يرفعه: ((فقمْ مع بلالٍ فألقِ عليه ما رأيتَ فليؤذّن به؛ فإنه أندى صوتًا منك)) (¬2). ويستحب أن يكون صوت المؤذن حسنًا (¬3)؛ لحديث أبي محذورة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعجبَه صوتُهُ، فعلَّمَهُ الأذان (¬4)، والأفضل أن يكون عالمًا بالوقت بنفسه؛ ليتمكن من الأذان في أوَّل الوقت؛ ولأنه قد يتعذّر عليه من يخبره بالوقت، ولكن لا حرج في أذان الأعمى إذا كان له من يخبره بدخول الوقت؛ لأن ابن أمّ مكتوم - رضي الله عنه - كان رجلاً أعمى لا يؤذن حتى يقال: ((أصبحت أصبحت)) (¬5)، ويجب أن يكون المؤذن أمينًا؛ لقوله تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} (¬6)؛ ولحديث ابن أبي محذورة عن أبيه عن جده: ((أُمناءُ المسلمين على صلاتهم وسحورهم: المؤذنون)) (¬7)؛ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه: ((والمؤذن مؤتمن)) (¬8)، وينبغي للمؤذن أن يبتغي بأذانه وجه الله تعالى؛ لحديث عثمان بن أبي العاص - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله، اجعلني إمام قومي، فقال: ((أنت إمامُهُم واقتدِ بأضعفهم، واتَّخِذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، في كتاب الأذان، باب السنة في الأذان، برقم 713، وأحمد بنحوه في المسند، 5/ 91، وحسنه الألباني في إرواء الغليل، 1/ 243. (¬2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب كيف الأذان، برقم 499، وابن ماجه، كتاب الأذان، باب بدء الأذان، برقم 706، وحسنه الألباني في إرواء الغليل، 1/ 265. (¬3) انظر: سبل السلام للصنعاني، 2/ 70. (¬4) ابن خزيمة في صحيحه، 1/ 195، برقم 377. (¬5) متفق عليه من حديث ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم: البخاري، كتاب الأذان، باب أذان الأعمى إذا كان له من يخبره، برقم 617، ومسلم، كتاب الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بأذان الفجر، برقم 1092. (¬6) سورة القصص، الآية: 26. (¬7) البيهقي 1/ 426،وحسنه الألباني لشاهده عن الحسن، في إرواء الغليل،1/ 239. (¬8) أبو داود، برقم 517، والترمذي، برقم 207، وتقدم تخريجه.

خامسا: الأذان المشروع قبل الفجر وحكمه:

أجرًا)) (¬1). وأما إعطاء المؤذن من بيت مال المسلمين فلا حرج فيه؛ لأن بيت المال إنما وضع لمصالح المسلمين، والأذان والإقامة من مصالح المسلمين (¬2). خامسًا: الأذان المشروع قبل الفجر وحكمه: الأذان الأول قبل الفجر مشروع؛ ليرجع القائم ويوقظ النائم، فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يمنعن أحَدَكُم أو أحدًا منكم أذانُ بلال من سحورِهِ؛ فإنه يؤذن أو ينادي بليلٍ، ليَرْجِعَ قائمَكُم وليُنبّه نائمَكم)) (¬3). قال الإمام النووي - رحمه الله -: ((فلفظة: قائمكم منصوبة مفعول يرجع ... ومعناه أنه إنما يؤذن بليل ليعلمكم بأن الفجر ليس ببعيد؛ فيرد القائم المتهجد إلى راحته، لينام غفوةً ليصبح نشيطًا، أو يوتر إن لم يكن أوتر، أو يتأهب للصبح إن احتاج إلى طهارةٍ أخرى، أو نحو ذلك من مصالحه المترتبة على علمه بقرب الصبح، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ويوقظ نائمكم)): أي ليتأهب للصبح أيضًا، بفعل ما أراد من تهجد قليل، أو إيتار إن لم يكن أوتر، أو سحور إن أراد الصوم، أو اغتسالٍ أو وضوءٍ، أو غير ذلك مما يحتاج إليه قبل الفجر)) (¬4). ولابد - على الصحيح - أن يكون هناك من يؤذن إذا طلع الفجر، والأفضل أن يكون المؤذن الثاني غير المؤذن الأول، والأفضل أن يكون الوقت بين الأذانين يسيرًا؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب أخذ الأجر على التأذين، برقم 531، والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في كراهية أن يأخذ المؤذن على الأذان أجرًا، برقم 209، والنسائي، كتاب الأذان، باب اتخاذ المؤذن الذي لا يأخذ على أذانه أجرًا، برقم 672، وابن ماجه، كتاب الأذان، باب السنة في الأذان، برقم 714، وأحمد، 4/ 21، 217، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 5/ 315، برقم 1492. (¬2) انظر: المغني لابن قدامة، 2/ 70، ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 132، والشرح الممتع لابن عثيمين، 2/ 44. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب الأذان قبل الفجر، برقم 621، ومسلم، كتاب الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، برقم 1093. (¬4) شرح النووي على صحيح مسلم، 7/ 211.

والصواب أن يقول المؤذن

لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤذنان: بلالٌ وابن أمّ مكتوم الأعمى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن بلالاً يؤذّن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذّن ابنُ أمّ مكتوم)). قال: ولم يكن بين أذانهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا)) (¬1). فالسنة أن يكون الأذان الأول قريبًا من الفجر (¬2). والصواب أن يقول المؤذن: الصلاة خير من النوم بعد قوله: حيَّ على الفلاح في الأذان الأخير، أما رواية أبي محذورة - رضي الله عنه - التي فيها: ((الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم في الأولى من الصبح)) (¬3)، فالأذان الأول هنا هو أذان الصبح الواجب، والأذان الثاني: الإقامة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة))،قال في الثالثة: ((لمن شاء)) (¬4). وسمعت سماحة العلامة الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله وقدَّس روحه - يقول: ((والصلاة خير من النوم، ذكر ابن رسلان وجماعة أنها في الأذان الأول أخذًا برواية الأذان الأول عند أبي محذورة، والصواب أنها تقال في الأذان الأخير الشرعي المعتمد الواجب؛ لأنه هو الأذان المطلق للصلاة التي هي واجبة وهي خير من النوم، وهذا الأذان الأول بالنسبة للإقامة، والإقامة هي الأذان الثاني)) (¬5). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الصوم، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال))، برقم 1918، 1919، ومسلم، كتاب الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، برقم 1092. (¬2) قال سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في فتاويه، 2/ 126: ((فتبين أنه لا ينبغي أن يؤذن الأول إلا بوقت قريب من طلوع الفجر .. . فإذا كان نصف ساعة، أو ثلث كان أنفع فيما أظن)). (¬3) النسائي، كتاب الأذان، باب الأذان في السفر، برقم 633. (¬4) متفق عليه من حديث عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب الأذان، باب بين كل أذانين صلاة لمن شاء، برقم 627، ومسلم، كتاب الصلاة، باب بين كل أذانين صلاة، برقم 838. (¬5) سمعته من سماحته - قدّس الله روحه ونوّر ضريحه - أثناء شرحه لبلوغ المرام لابن حجر، على الحديث رقم 191، وانظر: الشرح الممتع لابن عثيمين، 2/ 57، ومجموع فتاوى ومقالات متنوعة، لابن باز، 10/ 341 - 345.

سادسا: شروط المؤذن والأذان:

سادسًا: شروط المؤذن والأذان: الأذان له شروط تتعلق به، وشروط تتعلق بالمؤذن على النحو الآتي: 1 - أن يكون الأذان مرتبًا، وهو أن يبدأ بالتكبير ثم التشهد، ثم الحيعلة، ثم التكبير، ثم كلمة التوحيد، فلو نكس الأذان أو الإقامة لم يجزِ؛ لأن الأذان عبادة ثبتت على هذا الترتيب، فيجب أن تفعل كما وردت؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ)) (¬1). 2 - أن يكون متواليًا، بحيث لا يفصل بعضه عن بعض بزمن طويل، وأما لو أصابه عطاس فإنه يبني على ما سبق؛ لأنه انفصل بدون اختياره. 3 - أن يكون بعد دخول وقت الصلاة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم)) (¬2)، أما الأذان قبل الفجر فليس لصلاة الصبح، وإنما هو لإيقاظ النائم، وإرجاع القائم. 4 - أن لا يكون فيه لحن يغيّر ويحيل المعنى، وهو مخالفة القواعد العربية، فلو قال: ((الله أكبار))، فهذا لا يصح لأنه تغير المعنى (¬3)، وهذا يقال له: ((مَلْحونًا))، أما ما يقال له: ((مُلَحنًا)) فمكروه (¬4). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، برقم 2697، ومسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، برقم 718. (¬2) متفق عليه: البخاري برقم 628، ومسلم، برقم 674، وتقدم تخريجه. (¬3) انظر: الشرح الممتع للعلامة ابن عثيمين 2/ 69، 60، 61، 62، واللحن ينقسم إلى قسمين: قسم لا يصح معه الأذان، وهو الذي يتغير به المعنى، فلو قال: ((الله أكبار))، فهذا يحيل المعنى؛ لأن ((أكبار)) جمع كَبَر، وهو الطبل، مثل أسباب جمع سبب. وقسم يصح معه الأذان مع الكراهة، وهو الذي لا يتغير به المعنى، مثل: ((اللهَ أكبر)) بالفتح ومثل ((حيًّا على الصلاة)).انظر: الشرح الممتع للعلامة محمد العثيمين، 2/ 69 و60 - 62. (¬4) الملحن: المطرب به: أي يؤذن على سبيل التطريب به، كأنما يجر ألفاظ أغنية؛ فإنه يجزئ لكنه يكره. انظر: الشرح الممتع، 2/ 62، وقال سماحة العلامة محمد بن إبراهيم - رحمه الله -: ((ثم التمديد الزائد عن المطلوب في الأذان ما ينبغي؛ فإن أحال المعنى فإنه يبطل الأذان، حروف المد إذا أعطيت أكثر من اللازم فلا ينبغي، حتى الحركات إذا مدت إن أحالت المعنى لم يصح، وإلا كره)).الفتاوى والرسائل له، 2/ 125، ويقال: ((لحن في قراءته وأذانه: إذا طرب وغرد، وهو تقطيع الصوت وترديده، وأصله خفة تصيب المرء من شدة الفرح، أو من شدة التحزين، من الإطراب أو الطربة، واللحن في القرآن والأذان التطويل فيما يقصر، والتقصير فيما يطول)). انظر: حاشية الروض المربع لابن قاسم، 1/ 447.

5 - رفع الصوت بالأذان

5 - رفع الصوت بالأذان؛ لأن المؤذن لو خفض صوته بحيث لا يسمع إلا نفسه فقط لم يحصل المقصود من شرعية الأذان؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فليؤذّن لكم أحدكم)) (¬1)، وهذا يشير إلى رفع الصوت ليسمع الآخرين؛ فيحصل السماع المقصود بالإعلام، ما لم يؤذن لحاضر فبقدر ما يسمعه، ولكن لو رفع صوته كان أفضل؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - يرفعه: (( .. فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذَّنْتَ فارفع صوتك بالنداء؛ فإنه لا يسمع مدى صوتِ المؤذن جنٌّ ولا إنسٌّ، ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة)) (¬2). 6 - أن يكون الأذان على العدد الذي جاءت به السنة بلا زيادة ولا نقص؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) (¬3). 7 - أن يكون الأذان من واحدٍ، فلا يصح من اثنين، فلو أذن واحد بعض الأذان وكمله آخر لم يصح. 8 - أن يكون الأذان بنية من المؤذن؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الأعمال بالنيات)) (¬4). 9 - أن يكون المؤذن مسلمًا، فلو أذن الكافر لم يصح؛ لأنه من غير أهل العبادات. 10 - أن يكون المؤذن مميزًا، وهو من بلغ سبع سنين إلى البلوغ، وهو الذي يفهم الخطاب ويرد الجواب، ولو طلب منه شيء أحضره. ¬

(¬1) متفق عليه، وتقدم تخريجه. (¬2) البخاري، برقم 609، وتقدم تخريجه. (¬3) متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها: البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، برقم 2697، ومسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ومحدثات الأمور، برقم 1718، واللفظ له. (¬4) متفق عليه من حديث عمر - رضي الله عنه -:البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، برقم 1، ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: إنما الأعمال بالنية، برقم 1907.

11 - أن يكون عاقلا

11 - أن يكون عاقلاً، فلا يصح الأذان من مجنون. 12 - أن يكون ذكَرًا، فلا يعتدُّ بأذان الأنثى؛ لقول ابن عمر رضي الله عنهما: ((ليس على النساء أذان ولا إقامة)) (¬1). فليست المرأة من أهل الأذان؛ ولأنه يشرع فيه رفع الصوت، وليست من أهل ذلك (¬2). 13 - أن يكون عدلاً، ولو في الظاهر؛ لأن الأذان عبادة، وهو أفضل من الإقامة على الصحيح؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصف المؤذنين بالأمانة، والفاسق غير أمين؛ لما جاء في الحديث: ((أمناء الناس على صلاتهم وسحورهم المؤذنون)) (¬3). قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: ((وفي إجزاء الأذان من الفاسق روايتان، أقواهما عدمه؛ لمخالفته أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما ترتيب الفاسق مؤذنًا فلا ينبغي أن يجوَّز قولاً واحدًا)) (¬4). أما مستور الحال فيصح أذانه، وسمعت سماحة الإمام العلامة عبد العزيز ابن باز - قدَّس الله روحه - يقول: ((لا يعتد بأذان الفاسق، والحلّيق فاسق فسقًا ظاهرًا وليس مستورًا، نسأل الله العافية، وينبغي أن يجعل غيره)) (¬5). فكلمة عدل: تضمنت أن يكون المؤذن: مسلمًا، عاقلاً، ذكرًا، واحدًا، عدلاً، مميزًا (¬6). سابعًا: مشروعية الأذان والإقامة للجمع وقضاء الفوائت: 1 - من جمع بين الظهر والعصر، أو المغرب والعشاء في السفر أو في الحضر عند المطر أو المرض، فإنه يؤذن للأولى ويقيم لكل فريضة؛ لحديث جابر - رضي الله عنه - في جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - في عرفة: أنه ((أذن ثم أقام فصلى ¬

(¬1) رواه البيهقي 1/ 408. (¬2) انظر: منار السبيل، لابن ضويان، 1/ 63، والشرح الممتع لابن عثيمين، 2/ 61. (¬3) البيهقي، 1/ 426، وتقدم تخريجه. (¬4) الاختيارات الفقهية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص57. (¬5) سمعته منه رحمه الله أثناء شرحه للروض المربع، فجر الأحد، 10/ 11/1418هـ. (¬6) انظر: الشرح الممتع، لابن عثيمين، 2/ 62.

2 - من قضى فوائت فإنه يؤذن مرة واحدة، ويقيم لكل فريضة

الظهر، ثم أقام فصلى العصر))، وكذلك ((أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين)) (¬1). فأذن للصلاتين أذانًا واحدًا؛ لأن وقت المجموعتين صار وقتًا واحدًا، ولم يكتف بإقامة واحدة؛ لأن لكل صلاة إقامة، فصار الجامع يؤذن مرة واحدة، ويقيم لكل صلاة. 2 - من قضى فوائت فإنه يؤذن مرة واحدة، ويقيم لكل فريضة، لحديث أبي قتادة - رضي الله عنه - الطويل في ((نوم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في السفر عن صلاة الفجر، ولم يستيقظوا إلا بعد طلوع الشمس، فانتقلوا من مكانهم، ثم أذن بلال بالصلاة فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين، ثم صلى الغداة فصنع كما كان يصنع كل يوم)) (¬2). ويدل على الإقامة لهذه الصلاة أيضًا حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((وأمر بلالاً فأقام الصلاة، فصلى بهم الصبح، فلما قضى الصلاة قال: ((من نسي الصلاة فليصلّها إذا ذكرها، فإن الله قال: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} (¬3). ومما يدل على ذلك ما فعله - صلى الله عليه وسلم - حينما شغله الأحزاب عن الصلاة (¬4). وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله وجعل الفردوس مأواه - يقول عن حديث قتادة في قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الفجر حينما ناموا عنها: ((هذا يدل على أن من نام عن صلاةٍ أو نسيها صلاها كما يصليها في وقتها: من أذانها، وإقامتها، وراتبتها، ومن السنة أن ينتقل من المكان الذي نام فيه، لفعله - صلى الله عليه وسلم -، وكذا يقضي الجهرية جهرية والسرية سرية)) (¬5). ¬

(¬1) صحيح مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 1218. (¬2) صحيح مسلم، كتاب المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة، برقم 681. (¬3) صحيح مسلم، كتاب المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة، برقم 680،والآية من سورة طه:14. (¬4) انظر: إرواء الغليل للألباني وكلامه على حديث غزوة الأحزاب، 1/ 257. (¬5) سمعته من سماحته - رحمه الله - أثناء شرحه للحديث رقم 202 من بلوغ المرام.

ثامنا: أنواع إجابة النداء:

ثامنًا: أنواع إجابة النداء: يُسنُّ لمن سمع المؤذن والمقيم أن يتابعه سرًّا بقوله، فيقول مثله، إلا في الحيعلتين فيقول: ((لا حول ولا قوة إلا بالله))، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويقول الأذكار المشروعة بعد الأذان، ولا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرع لأمته في الذكر عند الأذان وبعده خمسة أنواع (¬1) على النحو الآتي: النوع الأول: يقول السامع مثل ما يقول المؤذن إلا في لفظ: ((حي على الصلاة، وحي على الفلاح))، فيقول: ((لا حول ولا قوة إلا بالله))؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذّن)) (¬2). وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبرُ، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، ثم قال: حيَّ على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر الله أكبر، قال: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله، من قلبه دخل الجنة)) (¬3). النوع الثاني: يقول عقب تشهد المؤذن (¬4): وأنا أشهد أن لا إله إلا ¬

(¬1) قال الإمام ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد في هدي خير العباد، 2/ 391: ((وأما هديه - صلى الله عليه وسلم - في الذكر عند الأذان فشرع لأمته منه خمسة أنواع ... )) ثم ذكر هذه الأنواع الآتية. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب ما يقول إذا سمع المؤذن، برقم 611، ومسلم، كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يسأل الله له الوسيلة، برقم 383. (¬3) مسلم، كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، برقم 385. (¬4) انظر: صحيح ابن خزيمة، 1/ 220، ومجموع فتاوى ابن عثيمين، 12/ 194، وهكذا سمعته من شيخنا ابن باز غير مرة، أن المجيب يقول هذا الذكر بعد قول المؤذن الشهادتين.

النوع الثالث: يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد فراغه من إجابة المؤذن

الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، رضيت بالله ربًّا، وبمحمدٍ رسولاً، وبالإسلام دينًا، فعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من قال حين يسمع المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، رضيت بالله ربًّا، وبمحمد رسولاً، وبالإسلام دينًا، غُفِرَ له ذنبُهُ)). وفي رواية: ((من قال حين يسمع المؤذن وأنا أشهد ... )) (¬1). النوع الثالث: يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد فراغه من إجابة المؤذن؛ لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلُّوا علي؛ فإنه من صلَّى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلةٌ في الجنة لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة)) (¬2). النوع الرابع: يقول بعد صلاته على النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ثبت في حديث جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من قال حين يسمع النداء: اللهم ربَّ هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آتِ محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته حلَّت له شفاعتي يوم القيامة)) (¬3). وثبت عند البيهقي زيادة: ((إنك لا تخلف الميعاد)) (¬4). النوع الخامس: يدعو لنفسه بعد ذلك، ويسأل الله من فضله؛ فإنه يستجاب له، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الدعوة لا ترد بين ¬

(¬1) مسلم، كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن، برقم 386. (¬2) مسلم، كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن، برقم 384. (¬3) البخاري، كتاب الأذان، باب الدعاء عند النداء، برقم 614. (¬4) سنن البيهقي، 1/ 410، وحسن إسناده الإمام ابن باز في تحفة الأخيار، ص38، وفي مجموع الفتاوى له، 29/ 305.

تاسعا: فضائل إجابة المؤذن

الأذان والإقامة فادعوا)) (¬1). وسمعت شيخنا الإمام العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله وقدس روحه - يقول: ((هذه الأنواع تقال كلها مرة واحدة مجموعة مع كل أذان)) (¬2). تاسعاً: فضائل إجابة المؤذن فضائل إجابة المؤذن بالقول كثيرة، منها الفضائل الآتية: 1 - مجيب المؤذن من الشهداء على الخير؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - يرفعه، وفيه: (( ... لا يسمع مدى صوت المؤذن جنٌّ ولا إنسٌ، ولا شيءٌ إلا شهد له يوم القيامة)) (¬3). 2 - مجيب المؤذن من قلبه يدخله الله الجنة؛ لحديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وفيه أن من قال مثل ما يقول المؤذن، فإذا قال المؤذن: لا إله إلا الله، قال: (( ... لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة)) (¬4). 3 - إجابة المؤذن يغفر الله بها الذنوب؛ لحديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: أن من قال عقب تشهد المؤذن: ((وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً، وبمحمد رسولاً، وبالإسلام ديناً غُفِر له ذنبه)) (¬5). 4 - من أجاب المؤذن ثم صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الله عليه بهذه الصلاة عشر ¬

(¬1) أحمد في المسند، بلفظه،3/ 225،وأبو داود، في كتاب الصلاة بابٌ في الدعاء بين الأذان والإقامة، برقم 521،بلفظ: ((لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة))،والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء أن الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة، برقم 212،وفي كتاب الدعوات، باب في العفو والعافية، رقم 3594،وصححه الألباني في إرواء الغليل،1/ 262. (¬2) سمعته أثناء شرحه لزاد المعاد: فصل في هديه - صلى الله عليه وسلم - في الأذان وأذكاره، 2/ 391. (¬3) البخاري، كتاب الأذان، باب رفع الصوت بالنداء، برقم 609. (¬4) مسلم، برقم 385، وتقدم تخريجه. (¬5) مسلم، برقم 386، وتقدم تخريجه.

5 - من سأل الله تعالى الوسيلة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الأذان، حلت له شفاعته، ووجبت له، ونالته

صلوات؛ لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلُّوا عليَّ؛ فإنه من صلَّى عليَّ صلاة صلَّى الله عليه بها عشراً ... )) (¬1)، فصلاة الله على النبي: ثناؤه عليه عند الملائكة، قال أبو العالية: ((صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة: الدعاء)) (¬2). فعلى هذا من صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة واحدة ذكره الله باسمه، وأثنى عليه عند الملائكة عشر مرات؛ لأن الصلاة من الله الثناء. فهذا فضل عظيم، ومن تركه حرمه، والله المستعان. 5 - من سأل الله تعالى الوسيلة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الأذان، حلت له شفاعته، ووجبت له، ونالته (¬3)؛ لحديث عبد الله بن عمرو المذكور آنفاً، وفيه: ((ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة)) (¬4). 6 - من سأل الله تعالى للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أن يبعثه مقاماً محموداً وجبت له شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لحديث جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من قال حين يسمع النداء: اللهم ربَّ هذه الدَّعوة التامّة والصلاة القائمة آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة)) (¬5). 7 - ثواب من قال مثل ما يقول المؤذن يقيناً، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: كُنَّا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقام بلال ينادي، فلما سكت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من قال هذا يقيناً دخل الجنة)) (¬6). ¬

(¬1) مسلم، برقم 384، وتقدم تخريجه. (¬2) البخاري، معلقاً مجزوماً به، كتاب التفسير، سورة الأحزاب، باب قوله: {إِنَّ الله وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ} قبل الحديث رقم 4797. (¬3) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 328. (¬4) مسلم، برقم 384، وتقدم تخريجه. (¬5) البخاري، برقم 614، وتقدم تخريجه. (¬6) النسائي، كتاب الأذان، باب القول مثل ما يقول المؤذن [و] ثواب ذلك، برقم 673، وحسنه الألباني في صحيح سنن النسائي، 1/ 221، وصححه في صحيح الترغيب، 1/ 218.

8 - إجابة دعوة مجيب المؤذن

8 - إجابة دعوة مجيب المؤذن؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رجلاً قال: يا رسول الله إن المؤذنين يفضلوننا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قل كما يقولون، فإذا انتهيت فسل تُعطه)) (¬1). 9 - لا يردُّ الدعاء عند النداء، وتفتح أبواب السماء؛ لحديث سهل بن سعد - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ساعتان تفتح فيهما أبواب السماء، وقلما تُردُّ على داعٍ دعوته: عند حضور النداء (¬2)، والصف في سبيل الله))، وفي لفظ، قال: ((ثنتان لا تُرَدَّان - أو قلّما تُرَدَّان-: الدعاء عند النداء، وعند البأس حين يُلحم بعضهم بعضاً)) (¬3). 10 - الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة؛ لحديث أنس - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الدعوة لا ترد بين الأذان والإقامة، فادعوا))، وفي لفظ أبي داود: ((لا يردُّ الدعاء بين الأذان والإقامة)) (¬4). 11 - مجيب المؤذّن متَّبعٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه السنة العظيمة، ممتثل لأمره، يُرجى له الهداية، ويرجى أن يدخل في قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} (¬5). 12 - مجيب المؤذن يرجو الله واليوم الآخر، ويذكر الله كثيراً؛ لأنه اتخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - أسوةً له، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقول إذا سمع المؤذن، برقم 524، وقال العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 157: ((حسن صحيح)). (¬2) قال الألباني في صحيح الترغيب، 1/ 225: ((هذا اللفظ ((النداء)) هو الذي تشهد له الأحاديث الأخرى ... دون لفظ ((حين تقام الصلاة)) ... وهذا الحين ليس وقتاً للدعاء، وإنما لتسوية الصفوف ... )). (¬3) أبو داود باللفظ الثاني، كتاب الجهاد، باب الدعاء عند اللقاء، برقم 2540، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 108، وابن خزيمة، 1/ 219، برقم 419، والحاكم، 1/ 198، 2/ 113، والبيهقي، 1/ 410، و3/ 360، والطبراني في الكبير، 6/ 5756، وصححه الألباني أيضاً لغيره، في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 224. (¬4) أبو داود، برقم 521، والترمذي، برقم 212، ورقم 3594، وتقدم تخريجه. (¬5) سورة النور، الآية: 54.

13 - فضل الله تعالى ورحمته على عباده

حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرا} (¬1). 13 - فضل الله تعالى ورحمته على عباده؛ فالأذان عبادة جليلة، ولن يدركها ويدرك فضلها كل أحد، فعوّض من لم يؤذن بالإجابة؛ ليحصل على أجر الإجابة (¬2). عاشراً: فوائد إجابة النداء فوائد إجابة المؤذن بالقول كثيرة لا تحصر، ولكن منها الفوائد الآتية: 1 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن))، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((قوله: ((ما يقول)) قال الكرماني: قال: ((ما يقول)) ولم يقل مثل ما قال؛ ليشعر بأنه يجيبه بعد كل كلمة، مثل كلمتها))، ثم قال: ((قلت والصريح في ذلك ما رواه النسائي من حديث أم حبيبة: ((أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول كما يقول المؤذن حتى يسكت)) (¬3) ((فلو لم يجاوبه حتى فرغ استحب له التدارك إن لم يطل الفصل)) (¬4). 2 - ما دل عليهّ حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وفيه: (( ... ثم قال: ((حي على الصلاة قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله)) (¬5)، وحديث عثمان، وفيه أنه لما قال المؤذن: حي على الصلاة، قال عثمان - رضي الله عنه -: لا حول ولا قوة إلا بالله، وقال: هكذا سمعنا نبيكم - صلى الله عليه وسلم - يقول)) (¬6)، وهذان الحديثان يدلان على أنه ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية: 56. (¬2) توضيح الأحكام من بلوغ المرام، للبسام، 1/ 421. (¬3) فتح الباري، لابن حجر، 2/ 91. والحديث أخرجه أحمد، 6/ 326، وابن ماجه، برقم 719، وابن خزيمة، 1/ 215، برقم 412، وقال محققو المسند، 44/ 350، برقم 26767: ((صحيح لغيره، وهذا إسناد ضعيف ... )). (¬4) قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري، 2/ 91: ((قاله النووي في شرح المهذب، بحثاً)). (¬5) مسلم، برقم 385، وتقدم تخريجه. (¬6) البخاري، كتاب الأذان، باب ما يقول إذا سمع المنادي، برقم 613.

يستثنى من القول مثل ما يقول المؤذن: ((حيّ على الصلاة، وحيّ على الفلاح))، فيقول بدلهما: ((لا حول ولا قوة إلا بالله)) (¬1)، قال الإمام النووي رحمه الله: ((حديث أبي سعيد: ((إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن)) عام مخصوص؛ لحديث عمر: أنه يقول في الحيعلتين: ((لا حول ولا قوة إلا بالله)) (¬2). قال الإمام ابن الملقن رحمه الله: ((والمناسبة في جواب الحيعلة بالحوقلة: أن الحيعلة دعاء، فلو قالها السامع لكان الناس كلهم دعاة، فمن يبقى المجيب؟ فحسن من السامع الحوقلة؛ لأنها تفويض محض إلى الله - سبحانه وتعالى -)) (¬3). 3 - دل حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أن المشروع للمسلم أن يقول بعد تشهد المؤذن مثل قول المؤذن: فإذا قال المؤذن: ((أشهد أن لا إله إلا الله))؛ فإن المتابع للمؤذن يقول: ((أشهد أن لا إله إلا الله)) يكررها مرتين مثل قول المؤذن، فإذا قال: ((أشهد أن محمداً رسول الله)) قال المجيب: ((أشهد أن محمداً رسول الله)) يكررها مرتين مثل قول المؤذن)) (¬4). ودلّ حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: أن مجيب المؤذن يقول بعد انتهائه من إجابة المؤذن عند الشهادتين، يقول بعد ذلك: ((وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً، وبمحمد رسولاً، وبالإسلام ديناً ... )) (¬5). وقد ذُكِرَ موضع هذا الذكر، وأنه بعد الشهادتين: في رواية ابن خزيمة في صحيحه، وفيه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من سمع المؤذن يَتَشَهَّد ... ))، ¬

(¬1) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 2/ 91. (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 329،وانظر: الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، لابن الملقن، 2/ 471. (¬3) الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، لابن الملقن، 2/ 471. (¬4) مسلم، برقم 385، وتقدم تخريجه. (¬5) مسلم، برقم 386.

وفيه: (( ... فقال: ((أشهد أن لا إله إلا الله ... )) الحديث (¬1)، وهكذا سمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقرر أن قول هذا الذكر بعد انتهاء المؤذن من الشهادتين، وكذا رجحه العلامة محمد بن صالح العثيمين (¬2). 4 - ظاهر حديث جابر - رضي الله عنه -: ((من قال حين يسمع النداء: اللهمَّ ربَّ هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته حلّت له شفاعتي يوم القيامة)) (¬3): أنه يقول هذا الذكر حال سماع الأذان، ولا يتقيد بفراغه، ولكن قد بين المراد من حديث جابر، حديث عبد الله بن عمرو؛ فإنه قال فيه: ((إذا سمعت المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ؛ فإنه من صلَّى عليّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة)) (¬4). فدل هذا الحديث أن حديث جابر: ((اللهم رب هذه الدعوة التامة ... )) يقال بعد الفراغ من الأذان بعد الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((وقد بين حديث عبد الله بن عمرو المراد، وأن الحين محمول على ما بعد الفراغ ... )) (¬5). 5 - إجابة المؤذن تدل على عظيم الرغبة في الفوز بالفلاح، فإن معنى: ((حيَّ على الصلاة، حي على الفلاح)) معنى عظيم، قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: ((ومعنى حيَّ على كذا: أي تعالوا إليه، والفلاح: الفوز، والنجاة، وإصابة الخير، قالوا: وليس في كلام العرب كلمة أجمع للخير ¬

(¬1) صحيح ابن خزيمة، 1/ 220. (¬2) انظر: مجموع فتاوى ابن عثيمين، 12/ 194. (¬3) البخاري، برقم 614، وتقدم تخريجه. (¬4) مسلم، برقم 384، وتقدم تخريجه. (¬5) فتح الباري، لابن حجر، 2/ 94، وشرح النووي، 4/ 329.

من لفظة الفلاح ... فمعنى حيَّ على الفلاح: أي تعالوا إلى سبب الفوز، والبقاء في الجنة، والخلود في النعيم ... )) (¬1). 6 - إجابة المؤذن، بـ: ((لا حول ولا قوة إلا بالله)) فيها الالتجاء إلى الله تعالى، واعتماد القلب عليه، فلا حول ولا قوة للعبد إلا به سبحانه، قال الإمام النووي رحمه الله: ((قال أبو الهيثم: الحول الحركة، أي لا حركة ولا استطاعة، إلا بمشيئة الله ... وقيل: لا حول في دفع شر، ولا قوة في تحصيل خير إلا بالله، وقيل: لا حول عن معصيته إلا بعصمته، ولا قوة على طاعته إلا بمعونته، وحكى هذا عن ابن مسعود - رضي الله عنه -)) (¬2). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((وقال الطيبي: معنى الحيعلتين: هلُمَّ بوجهك وسريرتك إلى الهدى عاجلاً، والفوز بالنعيم آجلاً، فناسب أن يقول هذا أمر عظيم لا أستطيع مع ضعفي القيام به إلا إذا وفقني الله بحوله وقوّته)) (¬3). 7 - الوسيلة: المنزلة عند الملك (¬4)، وهي منزلة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنة، من سألها للنبي - صلى الله عليه وسلم - حلت له الشفاعة، أي وجبت له، وقيل: نالته الشفاعة (¬5)، والوسيلة: ما يتقرب به إلى الكبير، وتطلق على المنزلة العليَّة، ويقال: توسلت: تقربت، والواصل إلى تلك المنزلة قريب من الله، وهي عَلَمٌ على أعلى منزلة في الجنة، وهي منزلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وداره، وهي أقرب أمكنة الجنة إلى عرش الرحمن - سبحانه وتعالى - (¬6). ¬

(¬1) شرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 328 - 329. (¬2) المصدر السابق، 4/ 328 - 329. (¬3) فتح الباري، لابن حجر، 2/ 92. (¬4) شرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 328. (¬5) المصدر السابق، 4/ 328. (¬6) فتح الباري، لابن حجر، 2/ 95، والروض المربع، 1/ 457، وحاشية ابن قاسم على الروض المربع، 1/ 457.

8 - الأعمال يشترط لها القصد والإخلاص، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (( ... ثم قال: لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة)) (¬1). 9 - ((الدعوة التامة)):دعوة التوحيد، كقوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقّ} (¬2)، وقيل: لدعوة التوحيد تامة؛ لأن الشّرْكَ نقصٌ، أو التامة: التي لا يدخلها تغيير ولا تبديل، بل هي باقية إلى يوم النشور، أو لأنها هي التي تستحق صفة التمام، وما سواها فمعرَّضٌ للفساد، وقال ابن التين: وصفت لأن فيها أتم القول: ((لا إله إلا الله))، وقال الطيبي: من أوله [أي الأذان] إلى قوله: ((محمد رسول الله)) هي الدعوة التامة (¬3)، وقيل: الدعوة التامة: هي الأذان، والتامة: أي الكاملة السالمة من كل نقص يتطرق إليها؛ لكمالها وعظم موقعها؛ لاشتمالها على تعظيم الله وتوحيده، والشهادة بالرسالة والدعوة إلى الخير (¬4). 10 - ((الصلاة القائمة)): الحيعلة: هي الصلاة القائمة في قوله: {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ}، ويحتمل أن يكون المراد بالصلاة الدعاء، وبالقائمة: الدائمة، مِنْ قام على الشيء إذا داوم عليه، وعلى هذا فقوله: ((والصلاة القائمة)): بيان للدعوة التامة، ويحتمل أن يكون المراد بالصلاة: الصلاة المعهودة المدعو إليها حينئذ، وهو أظهر (¬5). وقيل: الصلاة القائمة: التي ستقوم وتُفْعَل بصفاتها (¬6). 11 - الفضيلة: المرتبة الزائدة على سائر الخلائق، ويحتمل أن تكون منزلة أخرى، أو تفسيراً للوسيلة (¬7). وأما ما يقوله بعض الناس: ((والدرجة الرفيعة)) فيما يقال بعد ذكر ¬

(¬1) شرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 329. (¬2) سورة الرعد، الآية: 14. (¬3) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 2/ 95. (¬4) انظر: الروض المربع، 1/ 457، والشرح الممتع، لابن عثيمين، 2/ 79. (¬5) فتح الباري، لابن حجر، 2/ 95. (¬6) الروض المربع، 1/ 457. (¬7) نقله ابن قاسم في حاشيته على الروض المربع، 1/ 458.

الحادي عشر: أحكام إجابة المؤذن

الفضيلة فقال السخاوي: ((وأما الدرجة الرفيعة فيما يقال بعد الأذان، فلم أره في شيء من الروايات)) (¬1). 12 - مقاماً محموداً: أي يُحمد القائم فيه، أي: ابعثه يوم القيامة فأقمه مقاماً محموداً، ونكّره للتعظيم، مقاماً محموداً بكل لسان، وقوله: ((الذي وعدته)) [زاد في رواية البيهقي: ((إنك لا تخلف الميعاد))، والمراد بذلك قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} (¬2) وأطلق عليه الوعد؛ لأن عسى من الله واقع كما صح عن ابن عيينة وغيره (¬3). ومقاماً محموداً: هي الشفاعة العظمى في موقف القيامة؛ لأنه يحمَدُهُ فيه الأولون والآخرون، ثم يدعو، لتعجيل الحساب والراحة من طول الموقف في المحشر، وهذه الشفاعة خاصة به - صلى الله عليه وسلم - (¬4). 13 - قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((الأذكار الزائدة على الحيعلة يشترك السامع والمؤذن في ثوابها، وأما الحيعلة فمقصودها الدعاء إلى الصلاة، وذلك يحصل من المؤذن، فعوّض السامع عما يفوته من ثواب الحيعلة بثواب الحوقلة، ولقائلٍ أن يقول: يحصل للمجيب الثواب لامتثاله الأمر، ويمكن أن يزداد استيقاظاً وإسراعاً إلى القيام إلى الصلاة، إذا تكرر على سمعه الدعاء إليها من المؤذن، ومن نفسه)) (¬5). الحادي عشر: أحكام إجابة المؤذن أحكام إجابة المؤذن بالقول كثيرة، وهي على النحو الآتي: 1 - إجابة المؤذن مستحبة بإجماع أهل العلم، قال الإمام ابن قدامة ¬

(¬1) المصدر السابق، 1/ 458. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 79. (¬3) فتح الباري، لابن حجر، 2/ 95. (¬4) الروض المربع، 1/ 458. (¬5) فتح الباري، لابن حجر، 2/ 91.

رحمه الله: ((لا أعلم خلافاً بين أهل العلم في استحباب ذلك)) (¬1)، فعلى هذا يستحب لمن سمع المؤذن أن يقول مثل ما يقول إلا في الحيعلتين فيقول: ((لا حول ولا قوة إلا بالله)) (¬2). وهذا الاستحباب قول جمهور أهل العلم (¬3). وقال جماعة من أهل العلم بوجوب القول مثل ما يقول المؤذن وإجابته؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن)) (¬4)؛ ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي ... )) (¬5). قال الإمام القرطبي رحمه الله: ((حكى الطحاوي: أنه اختُلِفَ في حكمه، فقيل: واجب، وقيل: مندوب إليه، وهو الذي عليه الجمهور ... )) (¬6). وقال الإمام النووي رحمه الله: ((وهل هذا القول مثل قول المؤذن واجب على من سمعه في غير الصلاة أم مندوب؟ فيه خلاف حكاه الطحاوي، الصحيح الذي عليه الجمهور أنه مندوب ... )) (¬7). وقال العلامة الحافظ عمر بن علي، الشافعي، المعروف بابن الملقن: ((هذا الأمر للندب، وقيل: للوجوب، حكاه الخطابي، والجمهور على الأول)) (¬8). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرحه لحديث أبي سعيد: ((إذا ¬

(¬1) المغني، لابن قدامة، 2/ 85، وانظر: المقنع، والشرح الكبير، والإنصاف، 2/ 105. (¬2) انظر: المغني، 2/ 85، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، 2/ 105. (¬3) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 330، وفتح الباري، لابن حجر، 2/ 93، والمفهم لما أشكل من تلخيص مسلم، 2/ 11. (¬4) متفق عليه، من حديث أبي سعيد: البخاري، برقم 611، ومسلم، برقم 383، وتقدم تخريجه. (¬5) مسلم، من حديث عبد الله بن عمرو، برقم 384، وتقدم تخريجه. (¬6) المفهم، 2/ 11. (¬7) شرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 330، وطبعة دار التراث، 4/ 88. (¬8) الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، لابن الملقن، 2/ 470.

سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول)): ((واستدل به على وجوب إجابة المؤذن، حكاه الطحاوي عن قومٍ من السلف، وبه قال أبو حنيفة، وأهل الظاهر، وابن وهب، واستُدِلَّ للجمهور بحديثٍ أخرجه مسلم وغيره: ((أنه - صلى الله عليه وسلم - سمع مؤذناً، فلمَّا كبَّر قال: ((على الفطرة))، فلما تشهَّد قال: ((خرجت من النار)) (¬1)، فلما قال عليه الصلاة والسلام غير ما قال المؤذن علمنا أن ذلك للاستحباب، وتُعُقّب بأنه ليس في الحديث أنه لم يقل مثل ما قال، فيجوز أن يكون قاله ولم ينقله الراوي اكتفاء بالعادة ونقل القول الزائد، وبأنه يحتمل أن يكون ذلك وقع قبل صدور الأمر، ... قيل: ويحتمل أن الرجل لم يقصد الأذان، لكن يردّ هذا الأخير أن في بعض طرقه أنه حضرته الصلاة)) (¬2). وقال الحافظ في موضع آخر: (( ... لفظ الأمر في رواية مسلم (¬3) تمسَّك به من يدَّعي الوجوب، وبه قال الحنفية، وابن وهب من المالكية، وخالف الطحاوي أصحابه فوافق الجمهور)) (¬4). والأقرب - والله تعالى أعلم - أن إجابة المؤذن، والقول مثل ما يقول سنة مؤكدة ينبغي لكل مسلم سمعه أن يجيبه إلا لمانعٍ يعذر به؛ ولهذا قال شيخ الإسلام والمسلمين ابن تيمية رحمه الله تعالى: (( ... ولا ينبغي لأحد أن يدع إجابة المؤذن ... فإن السنة لمن سمع المؤذن أن يقول مثل ما يقول، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويقول: ((اللهم رب هذه الدعوة التامة ... )) إلى آخره، ثم يدعو)) (¬5). ¬

(¬1) مسلم، كتاب الصلاة، باب الإمساك عن الإغارة على قوم في دار الكفر إذا سُمِع فيهم الأذان، برقم 382. (¬2) فتح الباري، لابن حجر،2/ 93،وانظر: المحلَّى، لابن حزم،3/ 148،ونيل الأوطار، للشوكاني، 1/ 550. (¬3) يعني قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عمرو بن العاص: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلُّوا عليَّ ... )) [مسلم، برقم 384]. (¬4) فتح الباري، لابن حجر، 2/ 95، وانظر: الشرح الممتع، لابن عثيمين رحمه الله، 2/ 75. (¬5) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 23/ 129.

2 - إجابة المؤذن سنة قولية كما تقدم

وقال سماحة شيخنا ابن باز رحمه الله: ((إجابة المؤذن والدعاء بعده سنة في حق جميع من سمعه من المسلمين: المؤذن، والمستمع، من الرجال والنساء، والحاضرة، والبادية)) (¬1). 2 - إجابة المؤذن سنة قولية كما تقدم، وهي سنة فعلية كذلك، فعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لحديث علقمة بن وقاص قال: إني عند معاوية، إذ أذن مؤذنه، فقال معاوية [- رضي الله عنه -] كما قال المؤذن، حتى إذا قال: حيَّ على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلما قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وقال بعد ذلك ما قال المؤذن، ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول مثل ذلك)) (¬2). وعن أبي أمامة بن سهل قال: سمعت معاوية - رضي الله عنه - يقول: سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسمع المؤذن فقال مثل ما قال)) (¬3)، وعند الإمام البخاري رحمه الله: أن عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: أذن المؤذن وعثمان جالس على المنبر، فأجاب المؤذن، فلما قضى المؤذن التأذين، قال: يا أيها الناس إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذا المجلس حين أذن المؤذن يقول ما سمعتم مني من مقالتي ... ))، وفي رواية: أنه قال مثل ما قال المؤذن إلى قوله: ((أشهد أن محمداً رسول الله))؛ وفي رواية: أنه لما قال: ((حيّ على الصلاة))، قال: ((لا حول ولا قوة إلا بالله))، وقال: هكذا سمعنا نبيكم - صلى الله عليه وسلم - يقول)) (¬4). فإجابة المؤذن سنة قولية وفعلية، فلا ينبغي للمسلم أن يترك هذه السنة العظيمة. ¬

(¬1) مجموع فتاوى ابن باز، 10/ 336. (¬2) النسائي، كتاب الأذان، باب القول إذا قال المؤذن: حي على الصلاة، حي على الفلاح، برقم 676، وحسنه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 222. (¬3) النسائي، كتاب الأذان، باب القول مثل ما يتشهَّد المؤذن، برقم 675، وحسن إسناده الألباني في صحيح النسائي، 1/ 222. (¬4) البخاري بنحوه، كتاب الأذان، باب ما يقول إذا سمع المنادي، برقم 612، 613، وكتاب الجمعة، باب يجيب الإمام على المنبر إذا سمع النداء، برقم 914.

3 - حرص السلف على اتباع السنة في إجابة المؤذن اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -

3 - حرص السلف على اتباع السنة في إجابة المؤذن اقتداءً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وامتثالاً لأمره، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((ومما لوحظت فيه المناسبة ما نقل عبد الرزاق عن ابن جريج، قال: حُدّثت أن الناس كانوا ينصتون للمؤذن إنصاتهم للقراءة، فلا يقول شيئاً إلا قالوا مثله، حتى إذا قال: حيَّ على الصلاة، قالوا: ((لا حول ولا قوة إلا بالله ... )) (¬1). 4 - استحباب قول سامع المؤذن مثل ما يقول إلا في الحيعلتين، فإنه يقول: ((لا حول ولا قوة إلا بالله)) (¬2). 5 - استحباب الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد فراغه من متابعة المؤذن، ثم يقول: اللهم رب هذه الدعوة التامة (¬3). 6 - استحباب سؤال الله الوسيلة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد قول: ((اللهم رب هذه الدعوة التامة)) (¬4). 7 - يستحب أن يقول السامع كل كلمة بعد فراغ المؤذن منها، ولا ينتظر فراغه من كل الأذان (¬5). قال الإمام ابن الملقن رحمه الله: ((يستحب أن يتابع عقب كلّ كلمة لا معها، ولا يتأخّر عنها عملاً بظاهر فاء التعقيب المذكورة في الحديث، هذا مذهبنا)) (¬6). 8 - استحباب قول السامع بعد الشهادتين: ((وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً، وبمحمد ¬

(¬1) فتح الباري، لابن حجر، 2/ 92. (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 329. (¬3) المرجع السابق، 4/ 329، ومجموع فتاوى ابن باز، 10/ 335، 336، 362، 365. (¬4) شرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 329. (¬5) المرجع السابق، 4/ 329. (¬6) الإعلام، لابن الملقن، 2/ 471.

9 - يستحب لمن رغب غيره في خير أن يذكر له شيئا من دلائله

رسولاً، وبالإسلام ديناً)) (¬1). 9 - يستحب لمن رغّب غيره في خير أن يذكر له شيئاً من دلائله؛ لينشطه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً ... )) إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (( ... فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة)) (¬2). 10 - يستحب إجابة المؤذن لكل من سمعه، قال الإمام النووي رحمه الله: ((واعلم أنه يستحب إجابة المؤذن بالقول مثل قوله كل من سمعه: من متطهّرٍ، ومحدثٍ، وجنبٍ، وحائضٍ، وغيرهم، ممن لا مانع له، من الإجابة، فمن أسباب المنع: أن يكون في الخلاء، أو جماع أهله، أو نحوهما، ومنها أن يكون في صلاة: فريضة أو نافلة، ... فإذا سلم أتى بمثله)) (¬3). 11 - ظاهر اختصاص الإجابة بمن يسمع، حتى لو رأى المؤذن على المنارة مثلاً في الوقت، وعلم أنه يؤذن، لكن لم يسمع أذانه؛ لِبُعْدٍ، أو صَمَمٍ، لا تشرع له المتابعة (¬4). 12 - الظاهر من قوله في الحديث: ((فقولوا)) التعبد بالقول، وعدم كفاية إمرار المجاوبة على القلب، فلا بد من القول باللسان، ولا يلزم المجيب أن يرفع صوته، أما المؤذن فيحتاج إلى رفع الصوت للإعلام، بخلاف السامع فليس مقصوده إلا الذكر)) (¬5). 13 - إذا سمع الأذان وهو في قراءة، أو تسبيح، قطع ما هو فيه، وأتى بمتابعة المؤذن؛ لأنه يفوت، والقراءة لا تفوت (¬6)، وبين شيخنا ابن باز ¬

(¬1) شرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 329. (¬2) المرجع السابق، 4/ 329. (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 330. (¬4) فتح الباري، لابن حجر، 2/ 91، وقال: ((قاله النووي في شرح المهذب)). (¬5) نيل الأوطار، للشوكاني، 1/ 550. (¬6) شرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 330، والمقنع مع الإنصاف والشرح الكبير، 3/ 111، والمغني لابن قدامة، 2/ 88.

14 - يستحب متابعة المؤذن في الإقامة

رحمه الله: أن الترديد مع المؤذن أولى من الاستمرار في قراءة القرآن؛ لامتثال قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول)) (¬1). 14 - يستحب متابعة المؤذن في الإقامة (¬2)، قال العلامة ابن باز رحمه الله: ((يستحب أن يجاب المقيم كما يجاب المؤذن، ويقول عند قول المقيم: ((قد قامت الصلاة)) مثله: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة؛ لعموم الأحاديث المذكورة، وغيرها، وأما ما يروى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال عند الإقامة: ((أقامها الله وأدامها)) (¬3)، فهو حديث ضعيف لا يعتمد عليه (¬4)، وأذكار الأذان تشرع بعد الأذان والإقامة معاً؛ لأنهما كلاهما أذان؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة)) (¬5) (¬6). 15 - يستحب إذا قال المؤذن في أذان الفجر: الصلاة خير من النوم، أن يقول السامع مثله: ((الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم))؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول)) متفق عليه؛ ولعموم الأحاديث المذكورة وغيرها (¬7)؛ ((ولأن قول: ((صدقت وبَرَرْتَ)) إنما جاء في حديث ضعيف، فإن قيل: تركتم حي على الصلاة [وحي على الفلاح] إلى لا حول ولا قوة إلا بالله: قيل: ذلك ثبت فيه الدليل، وهذا لم يثبت)) (¬8) (¬9). ¬

(¬1) مجموع فتاوى ابن باز، 10/ 357، والحديث تقدم تخريجه. (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم،4/ 330،والإعلام بفوائد عمدة الأحكام، لابن الملقن،2/ 475. (¬3) أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقول إذا سمع الإقامة، برقم 528، وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود، ص 46، وفي إرواء الغليل، برقم 241. (¬4) مجموع فتاوى ابن باز، 10/ 365، 29/ 142، 149. (¬5) البخاري، كتاب الأذان، باب كم بين الأذان والإقامة؟ ومن ينتظر إقامة الصلاة، برقم 624، وباب بين كل أذانين صلاة لمن شاء، برقم 627. (¬6) مجموع فتاوى ابن باز، 10/ 365. (¬7) مجموع فتاوى ابن باز، 10/ 344، 29/ 145. (¬8) قاله العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ، مفتي السعودية سابقاً، في فتاويه، 2/ 134. (¬9) قال الإمام ابن الملقن في الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، 2/ 473: ((ظاهره أيضاً: أنه يجيب في التثويب مثل قوله، لكن صحح النووي في كتبه أنه يجيبه: بـ ((صدقت وبررت))، ولم يذكر له وجهاً، وقال بعض الفقهاء: إن فيه خبراً، وبحثت عنه دهراً، فلم أره)). [قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير، 1/ 211: (( ... لا أصل لما ذكره في الصلاة خير من النوم)) أي لا أصل لـ ((لصدقتَ وبَرَرْتَ)) التي قيل: إن المجيب للمؤذن يقولها عند سماعه للصلاة خير من النوم))، وانظر: إرواء الغليل، للألباني، 1/ 259.

16 - يستحب إذا دخل المسجد فسمع المؤذن: أن ينتظر ويجيب المؤذن

وأما إجابة المؤذن والمقيم أنفسهما، فسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول: ((هذا القول لا وجه له، ولا دليل عليه، فقد قاله ويكفي، وليس له إجابة نفسه)) (¬1). قلت: يستحب للمؤذّن والمقيم أن يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الانتهاء من الأذان، ثم يقول: ((اللهم رب هذه الدعوة التامة ... إلى آخره؛ لعموم الأدلة، والله تعالى أعلم. 16 - يستحب إذا دخل المسجد فسمع المؤذن: أن ينتظر ويجيب المؤذن، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((وإن دخل المسجد فسمع المؤذن استحب له انتظاره؛ ليفرغ ويقول مثل ما يقول، جمعاً بين الفضلين)) (¬2)، وقال المرداوي في الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف: ((فائدة: لو دخل المسجد والمؤذن قد شرع في الأذان لم يأتِ بتحية المسجد ولا بغيرها حتى يفرغ، جزم به في التلخيص، والبلغة، وابن تميم، وقال: نص عليه، وقدمه في الفروع)) (¬3). وقال العلامة ابن مفلح في الفروع: ((ولا يركع داخل المسجد التحية قبل فراغه ... )) (¬4). ¬

(¬1) سمعته أثناء تقريره على الروض المربع، 1/ 456. (¬2) المغني لابن قدامة، 2/ 89. (¬3) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، 3/ 108. (¬4) وتمامه: ((وقيل: لا بأس، ولعل المراد غير أذان الجمعة؛ لأن سماع الخطبة أهم)). [كتاب الفروع لابن مفلح، 2/ 30، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للمرداوي، 3/ 109.

17 - إجابة المؤذن والترديد معه في المذياع سنة

وبين شيخنا ابن باز رحمه الله: أنه يستحب إذا دخل المسجد والمؤذن يؤذن أن يجيب المؤذن، ثم يصلي تحية المسجد، جمعاً بين العبادتين، وتحصيلاً للأجرين)) (¬1). وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يُرجّح: أن المسلم إذا دخل المسجد يوم الجمعة فأذن المؤذن، فإنه ينتظر ويتابع المؤذن، ثم يصلّي ركعتين خفيفتين، وبين أن استماع خطبة الجمعة واجب، ولكن لا يؤثر، فإن الداخل إذا تابع المؤذن ثم صلى ركعتين خفيفتين، لا يفوته شيء؛ لأن الخطيب يبدأ بمقدمة للخطبة، فسَيُدْرِكُ الخطبة (¬2). 17 - إجابة المؤذن والترديد معه في المذْيَاع سنة، إذا كان الأذان في وقت الصلاة، قاله شيخنا ابن باز رحمه الله (¬3). وأفتى العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: أن الأذان في المذياع أو التلفاز يجاب إذا كان الأذان في وقت الصلاة؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول)) (¬4) إلا أن الفقهاء رحمهم الله قالوا: إذا كان قد أدَّى الصلاة التي يؤذن لها فلا يجيب (¬5). 18 - لا بأس أن يُسمع مجيب المؤذن من حوله؛ ليقتدي به (¬6). 19 - إجابة مؤذنٍ ثانٍ وثالثٍ مستحبة، إذا كان الأذان مشروعاً، قال العلامة ابن مفلح رحمه الله: ((فظاهر كلامهم: يجيب مؤذناً ثانياً فأكثر، ومرادهم حيث يستحب)) (¬7) (¬8). ¬

(¬1) مجموع فتاوى ابن باز، 29/ 145. (¬2) وانظر أيضاً: مجموع فتاوى ابن عثيمين، 12/ 194. (¬3) مجموع فتاوى ابن باز، 10/ 335. (¬4) مسلم، برقم 384، وتقدم تخريجه. (¬5) مجموع فتاوى ابن عثيمين، 12/ 196. (¬6) مجموع فتاوى ابن باز، 10/ 335. (¬7) كتاب الفروع، لابن مفلح، 2/ 26. (¬8) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري، 2/ 92: (( ... وحكوا أيضاً خلافاً هل يجيب في الترجيع أولاً؟))، وقال ابن الملقن في الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، 2/ 473: ((ظاهر الحديث حكايته في الترجيع، ولا نَقْلَ في ذلك عندنا، والوجه استحبابه إن سمعه ... )).

وقال المرداوي رحمه الله: (( ... إجابة مؤذنٍ ثانٍ وثالثٍ، وهو صحيح، قال في ((القواعد الأصولية)): ظاهر كلام أصحابنا يستحب ذلك، قال في الفروع: ومرادهم حيث يستحب، قال الشيخ تقي الدين: محلّ ذلك إذا كان الأذان مشروعاً)) (¬1). وقال العلامة منصور البهوتي صاحب الروض المربع: ((ويسن لسامعه: أي المؤذن أو المقيم ولو أن السامع امرأة، أو سمعه ثانياً وثالثاً حيث سُنّ متابعته سراً، بمثل ما يقول، ولو في طواف أو قراءة، ويقضيه المصلّ، والمتخلَّي)) (¬2). قال العلامة ابن قاسم في حاشيته على الروض المربع على قول صاحب الروض: ((حيث سن))، أي حيث كان الأذان مشروعاً، قال في المبدع: ظاهر كلامهم أنه يجيب ثانياً وثالثاً حيث سن، واختاره الشيخ [أي شيخ الإسلام ابن تيمية] لكن لو سمع المؤذن وأجابه، وصلى في جماعته لم يجب الثاني؛ لأنه غير مدعو بهذا الأذان، وإجابة الأول أفضل، إلا أذاني الفجر فهما سواء)) (¬3). وقال الحافظ ابن حجر: (( ... وقال ابن عبد السلام: يجيب كل واحد بإجابة لتعدد السبب، وإجابة الأول أفضل، إلا في الصبح والجمعة فإنهما سواء؛ لأنهما مشروعان)) (¬4). وقال الإمام ابن الملقن رحمه الله: ((ظاهره استحباب متابعة كل مؤذن، ¬

(¬1) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف مع المقنع والشرح الكبير، 3/ 107 - 108. (¬2) الروض المربع مع حاشية ابن القاسم، 1/ 453. (¬3) حاشية ابن قاسم على الروض المربع، 1/ 453 - 454. (¬4) فتح الباري، لابن حجر، 2/ 92.

وأنه لا يختصّ بأول مؤذن ... )) (¬1). وسمعت شيخنا ابن باز أثناء تقريره على كلام صاحب الروض في هذا الموضع يقول: ((يُسنُّ لمن سمع الأذان أن يقول مثل ما يقول المؤذن، ولو كان فيه أذان ثانٍ وثالث، إذا كان مشروعاً، فالسنة أن يجيبه، ويقول المشروع، ولو كان يقرأ، فيقطع القراءة ويجيبه، وإن قضى المصلي بعد السلام، والمتخلّي بعد قضاء الحاجة فلا حرج، كما ذكر المؤلف؛ لفضل ذلك العظيم، حتى لو كان في الشريط أو الراديو، إذا كان ذلك في الوقت، أما إذا لم يكن في الوقت فلا)) (¬2). وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: ((قول المؤلف: ((يسن لسامعه)) يشمل: الذكر، والأنثى، ويشمل النداء الأول والنداء والثاني، بحيث لو كان المؤذنون يختلفون، نقول: يجيب الأول ويجيب الثاني؛ لعموم الحديث، ثم هو ذكر يثاب الإنسان عليه، ولكن لو صلى ثم سمع مؤذناً بعد الصلاة فظاهر الحديث أنه يجيب لعمومه، وقال بعض أهل العلم: إنه لا يجيب؛ لأنه غير مدعوٍّ بهذا الأذان فلا يتابعه، قالوا: ونجيب عن الحديث بأن المعروف في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن المؤذن واحد، ولا يمكن أن يؤذن آخر بعد أن تؤدَّى الصلاة، فيحمل الحديث على المعهود في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه لا تكرار في الأذان، ولكن لو أخذ أحد بعموم الحديث، وقال: إنه ذكر، وما دام الحديث عاماً، فلا مانع من أن أذكر الله - عز وجل -[فهو على خير])) (¬3). ¬

(¬1) الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، 2/ 473، وتمام كلامه: (( ... والمسألة خلافية في مذهب مالك، ولا نُقل فيها عندنا، لكن قال الرافعي في كتاب سماه: ((الإيجاز بأخطار الحجاز على ما حكاه بعضهم منه: خطَر لي أنه إذا سمع المؤذن وأجابه، وصلى في جماعة فلا يجب الثاني؛ لأنه غير مدعو به، وهو حسن، لكن بخدشه إعادة الصلاة جماعة، ويؤخذ منه أن من لم يصلّ أجاب لأنه مدعو به)). (¬2) سمعته أثناء تقريره على الروض المربع،1/ 453، وذلك في درس فجر الأربعاء،13/ 11/ 1418هـ. (¬3) الشرح الممتع على زاد المستقنع، 2/ 74، ومجموع الفتاوى لابن عثيمين أيضاً، 12/ 193، وما بين المعقوفين من فتاويه، 12/ 194.

20 - إذا لم يسمع إلا بعض الأذان

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((ويجيب مؤذناً ثانياً فأكثر حيث يستحب ذلك، كما كان المؤذنان يؤذنان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما المؤذنون الذين يؤذنون مع المؤذن الراتب يوم الجمعة (¬1) في مثل صحن المسجد فليس أذانهم مشروعاً باتفاق الأئمة، بل ذلك بدعة منكرة)) (¬2) (¬3). 20 - إذا لم يسمع إلا بعض الأذان، قال العلامة محمد بن إبراهيم: ((إذا أدرك بعض الأذان فالمُرَجَّح عند كثير من الأصحاب أنه يبدأ بأوله حتى ¬

(¬1) يقصد في عهده رحمه الله، وإلا فهذا ليس معروفاً في وقتنا الحاضر ولله الحمد. (¬2) الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص 60. (¬3) ومن الغرائب أن شيخ الإسلام رحمه الله في هذه الاختيارات، ص 60 قال: ((ويستحب أن يجيب المؤذن ويقول مثل ما يقول ولو في الصلاة))، وهذا مذهب الظاهرية، قال في المحلَّى، 3/ 148: ((ومن سمع المؤذن فليقل كما يقول المؤذن، سواء بسواء من أول الأذان إلى آخره، وسواء كان في غير صلاة، أو في صلاة فرضٍ أو نافلة، حاشا قول المؤذن: حي على الصلاة، حيَّ على الفلاح ... )). وقال المرادوي في الإنصاف: ((وأما المصلي إذا سمع المؤذن فلا يستحب له أن يجيب ولو كانت الصلاة نفلاً، بل يقضيه إذا سلم، وقال الشيخ تقي الدين: يستحب أن يجيبه، ويقول مثل ما يقول ولو في الصلاة، انتهى. فإن أجابه فيها بطلت بالحيعلة فقط مطلقاً على الصحيح من المذهب، وقال أبو المعالي: إن لم يعلم أنها دعاء إلى الصلاة ففيه روايتان أيضاً، وقال: تبطل الصلاة بغير الحيعلة أيضاً إن نوى الأذان، لا إن نوى الذكر، وأما المتخلي فلا يجيب على الصحيح من المذهب، لكن إذا خرج أجابه، وقال الشيخ تقي الدين: يجيبه في الخلاء، وتقدم ذلك في باب الاستنجاء)) [وانظر أيضاً: فتح الباري، لابن حجر، 2/ 92]. فإنه قال: ((واستدل به على جواز إجابة المؤذن في الصلاة عملاً بظاهر الأمر؛ ولأن المجيب لا يقصد المخاطبة، وقيل: يؤخر الإجابة حتى يفرغ؛ لأن في الصلاة شغلاً، وقيل: يجيب إلا في الحيعلتين؛ لأنهما كالخطاب للآدميين، والباقي من ذكر الله، فلا يمنع، لكن قد يقال: من يبدل الحيعلة بالحوقلة لا يمنع؛ لأنها من ذكر الله، قاله ابن دقيق العيد ... والمشهور في المذهب كراهة الإجابة في الصلاة؛ بل يؤخرها حتى يفرغ، وكذا في حالة الجماع والخلاء، لكن إن أجاب بالحيعلة بطلت، كذا أطلقه كثير منهم، ونصّ الشافعي في الأم على عدم فساد الصلاة بذلك)). وقال الإمام الشوكاني: ((قيل: والقول بكراهة الإجابة في الصلاة يحتاج إلى دليل ولا دليل، ولا يخفى أن حديث: ((إن في الصلاة لشغلاً)) [البخاري، برقم 1216، ومسلم، برقم 538] دليل على الكراهة، ويؤيده امتناع النبي - صلى الله عليه وسلم - من إجابة السلام فيها، وهو أهم من الإجابة للمؤذن)) [نيل الأوطار، 1/ 550]. وانظر أيضاً: الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، لابن الملقن، 2/ 472، وشرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 330.

21 - إجابة النداء سنة قولية وفعلية مؤكدة، عمل بها: الصحابة

يدركه، والقول الآخر أنه لا يجيب إلا ما سمع، وأنه يفوت لفوات محله، ولعل هذا أرجح ... )) (¬1). 21 - إجابة النداء سنة قولية وفعلية مؤكدة، عمل بها: الصحابة، والتابعون، والأخيار من أهل العلم والإيمان، وعمل بها العلماء الراسخون في العلم، وحثُّوا الناس ورغَّبوهم فيها، خاصة في حلقاتهم ودروسهم العلمية، فإذا أذَّن المؤذّن أوقفوا الدروس، وتابعوا الأذان، وأمروا من لم يتابع المؤذن أن يتابعه، فينصتون كما ينصتون لقراءة القرآن، إلا أنهم يجيبون النداء بالأذكار المشروعة سراً بقدر ما يسمع الإنسان نفسه ومن حوله. وكان شيخنا الإمام العامل بالسنة ابن باز رحمه الله إذا أذَّن المؤذّن أنصت وتابع الأذان، وأمر من لم ينصت بمتابعة المؤذن، ولا أحصي ما رأيت من مواقفه في تطبيقه لهذه السُّنّة: سواء كان ذلك في الدروس العلمية، أو في المحاضرات والندوات، أو في الجلسات العامة في بيته أو في غيره، وقد رأيته في دروسه إذا شرع المؤذن في الأذان أوقف الدرس، وأرخى رأسه، وتابع الأذان، وكذلك جميع من يحضر مجلسه من تلاميذه وغيرهم يقتدون به، وينصتون كأن على رؤوسهم الطير، ويجيبون المؤذن. الثاني عشر: حكم الخروج من المسجد بعد الأذان: يَحْرُمُ خروج من وجبت عليه الصلاة بعد الأذان في الوقت من مسجدٍ بلا عذر أو نية رجوع؛ لقول أبي هريرة - رضي الله عنه - لرجل خرج بعد الأذان من المسجد: ((أما هذا فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -)) (¬2). قال الترمذي: ((وعلى هذا العمل عند ¬

(¬1) فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، مفتي المملكة العربية السعودية سابقاً، ورئيس القضاة والشؤون الإسلامية، 2/ 134. ثم قال: ((ومن قال إنه يبدأ بأوله فإن أقام دليلاً ترجح قوله، وإلا فظاهر ((إذا سمعتم)) يتعلق بما سمع)). 2/ 134. (¬2) أخرجه مسلم، في كتاب المساجد، باب النهي عن الخروج من المسجد إذا أذن المؤذن، برقم 655.

الثالث عشر: كم بين الأذان والإقامة:

أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن بعدهم، أن لا يخرج أحد من المسجد بعد الأذان إلا من عذر، أو يكون على غير وضوء، أو أمرٌ لابد منه)) (¬1). الثالث عشر: كم بين الأذان والإقامة: الأذان شُرِعَ للإعلام بدخول وقت الصلاة، فلابد من تقدير وقت يتسع للتأهب للصلاة وحضورها، وإلا لضاعت فائدة النداء، وحصل تفويت صلاة الجماعة على كثير من المريدين لها؛ لأن من كان على طعامه، أو شرابه، أو قضاء حاجته، أو غير متوضئ حال النداء إذا استمر على هذه الأمور أو قام يتوضأ فاتته الجماعة أو بعضها بسبب التعجيل وعدم الفصل بين الأذان والإقامة، لا سيما إذا كان مسكنه بعيدًا من مسجد الجماعة، وقد ترجم الإمام البخاري - رحمه الله -: ((بابٌ: كم بين الأذان والإقامة))؟ ولكن لم يثبت التقدير عنده (¬2)، فذكر حديث عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة))، ثم قال في الثالثة: ((لمن شاء)) (¬3). والأذانان هنا: الأذان والإقامة، ولا شك أن التمهل بين الأذان والإقامة من المعاونة على البر والتقوى المندوب إليها (¬4)، وقد جاء من حديث عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - ما يدل على الانتظار بين الأذان والإقامة، وفيه: ((رأيت رجلاً كأنّ عليه ثوبين أخضرين فقام على المسجد فأذن، ثم قعد قعدة ثم قام فقال مثلها إلا أنه يقول: قد قامت الصلاة))، وفي رواية: ((أن الملك علَّمه الأذان، ثم استأخر عنه غير بعيد، ثم علّمه الإقامة)) (¬5). وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((لا يعجل بالإقامة حتى يأمر بها الإمام، ويكون ذلك ربع ساعة أو ثلث ¬

(¬1) سنن الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في كراهية الخروج من المسجد بعد الأذان، تحت الحديث رقم 204. (¬2) انظر: سبل السلام للصنعاني، 2/ 89، ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 62. (¬3) البخاري، كتاب الأذان، باب كم بين الأذان والإقامة ومن ينتظر إقامة الصلاة، برقم 624. (¬4) انظر: نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 62. (¬5) أبو داود، كتاب الصلاة، باب كيف الأذان، برقم 506، وبرقم 499، وصححهما الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 98، 102، برقم 499، 506.

ساعة أو نحو ذلك، وإذا تأخر الإمام تأخرًا بيّنًا جاز أن يتقدم بعض الحاضرين فيصلي بالناس)) (¬1). والإمام أملك بالإقامة فلا يقيم المؤذن إلا بعد إشارته، والمؤذن أملك بالأذان؛ لأن وقته موكول إليه؛ ولأنه أمين عليه (¬2)،وسمعت العلامة عبد العزيز ابن باز - رحمه الله - يقول: ((الإمام هو المسؤول عن الإقامة، والمؤذن هو المسؤول عن الأذان، والحديث وإن كان ضعيفًا لكن يتأيد بقول علي، ويتأيد الجميع بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه كان - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يأمر بالإقامة، والعمدة على هذا لا على الحديث الضعيف)) (¬3). ¬

(¬1) سمعته منه أثناء شرحه للروض المربع في جامع الإمام تركي بن عبد الله - رحمه الله - يوم الأربعاء 6/ 11/1418هـ، 1/ 451. (¬2) انظر: سبل السلام للصنعاني، 2/ 95. (¬3) سمعته من سماحته - رحمه الله - أثناء شرحه لحديث رقم 216، 217 من بلوغ المرام.

المبحث السابع عشر: شروط الصلاة

المبحث السابع عشر: شروط الصّلاة الشرط في اللغة: العلامة، ومنه قول الله تعالى: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} (¬1). واصطلاحًا: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم (¬2) لذاته (¬3)، وشروط الصلاة تجب لها قبلها إلا النية، فالأفضل مقارنتها لتكبيرة الإحرام، وتستمر الشروط حتى نهاية الصلاة، وبهذا فارقت الأركان التي تنتهي شيئاً فشيئاً؛ والإركان تتركب منها ماهية الصلاة، والشرط مع المشروط كالصفة مع الموصوف (¬4). وشروط الصلاة تسعة على النحو الآتي: الشرط الأول: الإسلام، وضدُّه الكفر، والكافر عمله مردود، ولو عمل أي عمل؛ لقول الله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} (¬5). وقوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} (¬6). الشرط الثاني: العقل، وضده الجنون، والمجنون مرفوع عنه القلم حتى يفيق؛ لحديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((رُفِعَ القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم)) (¬7). ¬

(¬1) سورة محمد، الآية: 18. (¬2) الفوائد الجلية في المباحث الفرضية، للإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز ص12. (¬3) مثل: الوضوء للصلاة يلزم من عدمه عدم صحة الصلاة؛ لأنه شرط لصحة الصلاة، ولا يلزم من وجوده وجود الصلاة؛ فلو توضأ إنسان فلا يلزمه أن يصلي، انظر: الشرح الممتع لابن عثيمين،2/ 85. (¬4) حاشية الروض المربع، 1/ 460، و2/ 122، وتوضيح الأحكام للبسام، 1/ 437، والشرح الممتع، 2/ 87. (¬5) سورة التوبة، الآية: 17. (¬6) سورة الفرقان، الآية: 23. (¬7) أبو داود، كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حدًّا، برقم 4401، 4402، وابن ماجه، كتاب الطلاق، باب طلاق المعتوه والصغير والنائم، برقم 2041، 2042، والترمذي كتاب الحدود، باب ما جاء فيمن لا يجب عليه الحد، برقم 1423، وغيرهم، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 2/ 4 من حديث عائشة، وعلي وأبي قتادة - رضي الله عنهم -.

الشرط الثالث: التمييز

الشرط الثالث: التمييز، وضده الصغر، وحدّه سبع سنين، ثم يُؤمر بالصلاة؛ لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرّقوا بينهم في المضاجع)) (¬1).وهذه الشروط الثلاثة لكل عبادة، إلا الزكاة، فإنها تخرج من مال المجنون والصغير، وكذا الحج يصح من الصغير (¬2). الشرط الرابع: رفع الحدث، وهو الوضوء للحدث الأصغر، والغسل للحدث الأكبر؛ لقول الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مَّنكُم مّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النساء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مّنْهُ مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬3)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ)) (¬4)؛ولحديث عبد الله بن عمر رضي ... الله عنهما يرفعه: ((لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول)) (¬5)؛ ولحديث علي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، برقم 495، وأحمد، 2/ 180، وتقدم تخريجه. (¬2) انظر: الشرح الممتع لابن عثيمين، 2/ 87. (¬3) سورة المائدة، الآية: 6. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الوضوء، باب ما جاء في الوضوء، برقم 135، ومسلم، كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة، برقم 225. (¬5) مسلم، كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة، برقم 224.

الشرط الخامس: إزالة النجاسة من ثلاث: من البدن، والثوب، والبقعة

التسليم)) (¬1). الشرط الخامس: إزالة النجاسة من ثلاث: من البدن، والثوب، والبقعة. أما إزالة النجاسة من البدن؛ فلأحاديث الاستنجاء، والاستجمار، وغسل المذي، فإنها تدل على وجوب الطهارة من النجاسة؛ لأن الاستنجاء والاستجمار وغسل المذي من البدن تطهير للبدن الذي أصابته نجاسة، ومن ذلك حديث أنس - رضي الله عنه - قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة (¬2) من ماء، وعنزة (¬3)، فيستنجي بالماء)) (¬4)؛ ولحديث المقداد في قصة علي رضي الله عنهما في المذي، وفيه: ((فليغسل ذكره وأنثييه)) (¬5)؛ ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبرين فقال: ((إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة)) (¬6). وأما إزالة النجاسة من الثوب؛ فلحديث أسماء رضي الله عنها قالت: جاءت امرأةٌ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب كيف تصنع؟ قال: ((تحتّه، ثم تقرصه بالماء، وتنضحه وتصلي فيه)) (¬7)؛ ولأحاديث غسل بول الجارية ونضح بول الغلام ما لم يطعم، فعن علي - رضي الله عنه - يرفعه: ((بول الغلام ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الطهارة، باب فرض الوضوء، برقم 61،والترمذي، كتاب الطهارة، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور، برقم3،وصححه الألباني في إرواء الغليل،2/ 8. (¬2) الإداوة: الإناء الصغير. (¬3) العنزة: الحربة الصغيرة. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الوضوء، باب الاستنجاء بالماء، برقم 150، ومسلم، كتاب الطهارة، باب الاستنجاء بالماء من التبرز، برقم 271. (¬5) أبو داود، كتاب الطهارة، باب في المذي، برقم 208،وغيره، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 41،وأصله في صحيح البخاري، كتاب الغسل، باب غسل المذي والوضوء منه، برقم 269. (¬6) متفق عليه: البخاري، كتاب الوضوء، بابٌ: من الكبائر أن لا يستتر من بوله، برقم 216، ومسلم، كتاب الطهارة، باب الدليل على نجاسة البول، برقم 292. (¬7) متفق عليه: البخاري، كتاب الوضوء، باب غسل الدم، برقم 227، ومسلم، كتاب الطهارة، باب نجاسة الدم وكيفية غسله، برقم 291.

الشرط السادس: ستر العورة مع القدرة بشيء لا يصف البشرة

يُنضح وبول الجارية يُغسل)) (¬1). وهذا ما لم يطعما، فإذا طعما غسلا جميعًا (¬2). وأما إزالة النجاسة من البقعة؛ فلحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((دعوه وهَرِيقوا على بوله سجلاً من ماء، أو ذنوبًا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)) (¬3). الشرط السادس: ستر العورة مع القدرة بشيء لا يصف البشرة، أجمع أهل العلم على فساد صلاة من صلى عريانًا وهو يقدر على ستر عورته (¬4)، وعورة الرجل من السرة إلى الركبة، والمرأة كلها عورة إلا وجهها في الصلاة (¬5)، لقول الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (¬6)؛ ولحديث عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار)) (¬7). وعن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، إني رجل أصيد، أفأصلي في القميص الواحد؟ قال: ((نعم وازرره ¬

(¬1) أحمد، 1/ 76، وأبو داود بنحوه، في كتاب الطهارة، باب بول الصبي يصيب الثوب، برقم 378، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 1/ 188. (¬2) أبو داود، كتاب الطهارة، باب بول الصبي يصيب الثوب، برقم 378، 379، وسنن الترمذي، باب ما جاء في نضح بول الغلام قبل أن يطعم، برقم 71، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 1/ 188، وأصله في البخاري برقم 222، ومسلم برقم 286. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الوضوء، باب صب الماء على البول في المسجد، برقم 220، ومسلم، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره، برقم 284. (¬4) انظر: فتاوى ابن تيمية، 22/ 116. (¬5) ومن أهل العلم من قال: الأمة كالرجل عورتها من السرة إلى الركبة، ومنهم من قال: كالحرة كلها عورة إلا وجهها في الصلاة، وسمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز أثناء تقريره على شروط الصلاة لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب يقول: ((والأحوط أن تستتر كالحرة خروجًا من الخلاف لعموم الأدلة في ستر عورة المرأة)). (¬6) سورة الأعراف، الآية: 31. (¬7) أبو داود، كتاب الصلاة، باب المرأة تصلي بغير خمار، برقم 641، والترمذي، وابن ماجه، كتاب الطهارة، باب إذا حاضت الجارية لم تصلّ إلا بخمار، برقم 655، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 1/ 214.

ولو بشوكة)) (¬1). وعن أم سلمة رضي الله عنها أنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - تصلي المرأة في درع وخمار ليس عليها إزار؟ قال: ((إذا كان الدّرعُ (¬2) سابغًا (¬3) يغطي ظهور قدميها)) (¬4). قال الإمام عبد العزيزبن عبد الله ابن باز -رحمه الله-: ((الواجب على المرأة الحرة المكلفة ستر جميع بدنها في الصلاة ما عدا الوجه والكفين؛ لأنها عورة كلها، فإن صلت وقد بدا شيء من عورتها: كالساق، والقدم، والرأس أو بعضه لم تصح َّصلاتها)) (¬5). وسمعته مراتٍ كثيرة يقول في حكم ستر الكفين في الصلاة: ((الأفضل للمرأة أن تستر كفيها في الصلاة خروجًا من الخلاف، فإن لم تفعل فصلاتها صحيحة)). وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يرفعه: ((وإذا أنكح أحدكم عبده أو أجيره فلا ينظرن إلى شيء من عورته، فإنما أسفل من سرته إلى ركبته من عورته)) (¬6). وعن أبي الأحوص عن عبد الله - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((المرأةُ عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان)) (¬7). ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الرجل يصلي في قميص واحد، برقم 632، والنسائي، كتاب القبلة، باب الصلاة في قميص واحد، برقم 766، وحسنه الألباني في إرواء الغليل، 1/ 295. (¬2) الدرع: القميص. (¬3) سابغًا: واسعًا. (¬4) أخرجه أبو داود، في كتاب الصلاة، باب في كم تصلي المرأة، برقم 640، قال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام: ((وصحح الأئمة وقفه)). وقال الإمام الصنعاني: ((وله حكم الرفع وإن كان موقوفًا إذ الأقرب أنه لا مسرح للاجتهاد في ذلك)). انظر: سبل السلام، 2/ 109، وقد أخرجه أبو داود موقوفًا بلفظ: ((عن محمد بن زيد بن قنفذ عن أمه أنها سألت أم سلمة ماذا تصلي فيه المرأة من الثياب؛ فقالت: ((تصلي في الخمار والدرع السابغ الذي يغيب ظهور قدميها)) رقم 639، وأخرجه مالك في الموطأ موقوفًا، 1/ 142، برقم 36. (¬5) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، 10/ 409. (¬6) أحمد، 2/ 187، بلفظه، وأبو داود بنحوه، في كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة، برقم 495،والبيهقي، 3/ 84، وحسنه الألباني في إرواء الغليل، 1/ 302. (¬7) الترمذي، كتاب الرضاع، بابٌ: حدثنا محمد بن بشار، برقم 1173، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 1/ 303.

الشرط السابع: دخول الوقت

ولا بد من ستر العاتقين للرجل أو أحدهما عند القدرة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شيء)) (¬1). فظاهر الحديث يدل على لزوم ستر العاتقين جميعًا عند القدرة، فإن عجز فلا شيء عليه؛ لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬2). ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في الثوب الواحد: ((فإن كان واسعًا فالتحف به وإن كان ضيقًا فاتزر به)) (¬3). قال سماحة العلامة عبد العزيز ابن باز - رحمه الله -: ((أما مع القدرة على ستر العاتقين أو أحدهما فالواجب عليه سترهما أو أحدهما في أصح قولي العلماء، فإن ترك ذلك لم تصح صلاته؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شيء)) (¬4). والله ولي التوفيق)) (¬5). الشرط السابع: دخول الوقت؛ لقول الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} (¬6) أي مفروضًا في الأوقات؛ ولقوله سبحانه: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشمس إِلَى غَسَقِ الليل وَقُرْآنَ الفجر إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُودًا} (¬7)، وهذه الآية دخل فيها أوقات الصلوات الخمس، فقوله تعالى: {لِدُلُوكِ الشمس} زوالها عن كبد السماء إلى جهة الغرب، وهو بداية دخول وقت صلاة الظهر، ويدخل في ذلك العصر، وقوله: {إِلَى ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، بابٌ: إذا صلى في الثوب الواحد فليجعل على عاتقيه، برقم 359، ومسلم، كتاب الصلاة، باب الصلاة في ثوب واحد وصفة لبسه، برقم 516. (¬2) سورة التغابن، الآية: 16. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، بابٌ: إذا كان الثوب ضيقًا، برقم 361، ومسلم، كتاب الزهد، باب حديث جابر الطويل، برقم 3010. (¬4) متفق عليه: البخاري، برقم 359، ومسلم، برقم 3010، وتقدم تخريجه. (¬5) مجموع الفتاوى، جمع الدكتور عبد الله بن محمد الطيار، ((الطهارة والصلاة))،ص18. (¬6) سورة النساء، الآية: 103. (¬7) سورة الإسراء، الآية: 87.

أما أوقات الصلوات الخمس تفصيلا فعلى النحو الآتي:

غَسَقِ الليل} أي: بداية ظلمة الليل، وقيل: غروب الشمس. وأخذ منه دخول وقت: صلاة المغرب وصلاة العشاء، {وَقُرْآنَ الفجر} يعني صلاة الفجر، ففي هذه الآية إشارة مجملة إلى أوقات الصلوات الخمس (¬1). أما أوقات الصلوات الخمس تفصيلاً فعلى النحو الآتي: 1 - وقت الظهر من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله؛ بعد فيء الظل؛ لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((وقت الظهر إذا زالت الشمس، وكان ظلُّ الرجلِ كطوله، ما لم يحضر وقت العصر)) (¬2)؛ ولحديث جابر - رضي الله عنه - في إمامة جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلوات الخمس في يومين، فجاءه في اليوم الأول فقال: ((قم فصلّه، فصلى الظهر حين زالت الشمس)) ثم جاءه من الغد للظهر فقال: ((قم فصله، فصلى الظهر حين صار ظل كل شيء مثله)) ثم قال له في اليوم الثاني: ((ما بين هاتين الصلاتين وقت)) (¬3). ويسن الإبراد بصلاة الظهر في وقت الحر، لكن لا يخرجها عن وقتها؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إذا اشتد الحرُّ فأبردُوا بالصلاة، فإن شدّة الحرّ من فيح جنهم)) (¬4).وسمعت سماحة الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((السنة تأخير صلاة الظهر في وقت الحر، سفرًا وحضرًا، لكن لو ¬

(¬1) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 10/ 512 - 519، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير، ص792، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص416. (¬2) مسلم، كتاب المساجد، باب أوقات الصلوات الخمس، برقم 612. (¬3) أحمد في المسند، 3/ 330، والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في مواقيت الصلاة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 150، وحسنه، وقال: قال محمد [يعني الإمام البخاري]: ((أصح شيء في المواقيت حديث جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -)) 1/ 282، وأخرجه النسائي، في كتاب الصلاة، باب آخر وقت العصر، برقم 513، والدارقطني، 1/ 257 برقم 3، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 1/ 195، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 1/ 271، وأصل إمامة جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلوات الخمس، في صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب أوقات الصلوات الخمس، برقم 610. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب الإبراد بالظهر في شدة الحر، برقم 533، ومسلم، كتاب المساجد، باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر، برقم 615.

الحال الأولى في صلاة العشاء إذا تأخر الناس حتى يجتمعوا

اعتاد الناس التبكير للمشقة عليهم بكر بالصلاة؛ لأن التأخير يشق عليهم)) (¬1)،أما في غير وقت اشتداد الحر فالأفضل أن تصلى الصلاة في أول وقتها؛ لحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أفضل؟ قال: ((الصلاة في أول وقتها)) (¬2)، وسمعت العلامة الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((أي في أول وقتها بعد دخوله، ولو صليت في أثنائه أو في آخره فلا حرج، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يصلي في أول الوقت، ويحافظ عليه إلا في حالين: الحال الأولى في صلاة العشاء إذا تأخر الناس حتى يجتمعوا. الحال الثانية في الظهر إذا اشتد الحر، وكان في المغرب أكثر تبكيرًا، وكان الصحابة يصلون ركعتين قبلها، أما بقية الأوقات فهي أوسع وقتًا من المغرب)) (¬3). 2 - وقت العصر من خروج وقت الظهر، أي إذا صار ظل كل شيء مثله دخل وقت صلاة العصر إلى أن تصفرَّ الشمس، أو إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه، وهو مقارب لاصفرار الشمس، لكن اصفرار الشمس أوسع، وهو الذي استقر عليه التوقيت، ويجب أن تقدم الصلاة قبل الاصفرار؛ لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: ((ووقت العصر ما لم تصفرَّ الشمس)) (¬4)؛ ولحديث جابر - رضي الله عنه - في إمامة جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((قم فصلّه، فصلى العصر حين صار ظلُّ كل شيء مثله)) ثم جاء في اليوم الثاني فقال: ((قم ¬

(¬1) سمعته من سماحته أثناء شرحه لبلوغ المرام لابن حجر، الحديث رقم 171 وذلك في الجامع الكبير بالرياض، قبل عام 1404هـ. (¬2) أخرجه الحاكم واللفظ له، وصححه ووافقه الذهبي، 1/ 189، والترمذي بنحوه، في كتاب الصلاة، باب ما جاء في الوقت الأول من الفضل، برقم 170، 173 وحسنه، وأصله متفق عليه: البخاري، في كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل الصلاة لوقتها، برقم 527، ولفظه: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أيُّ العمل أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها))، قال: ثم أي؟ قال: ((بر الوالدين))، قال: ثم أيّ؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)). قال حدثني بهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو استزدته لزادني)). أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، برقم 85. (¬3) سمعته من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 183 من بلوغ المرام. (¬4) مسلم، برقم 612، وتقدم تخريجه.

3 - وقت صلاة المغرب من غروب الشمس إلى غروب الشفق الأحمر

فصله، فصلى العصر حين صار ظلُّ كل شيء مثليه)) (¬1). وهذا وقت الاختيار من ظل كل شيء مثله إلى اصفرار الشمس، أما وقت الضرورة فإذا اصفرت الشمس إلى غروب الشمس؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)) (¬2)،وإذا كان متعمدًا فقد أدرك الوقت مع الإثم؛ لقوله- عليه الصلاة والسلام -: ((تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقرها أربعًا لا يذكر الله فيها إلا قليلاً)) (¬3).أما إذا كان ناسيًا أو نائمًا فقد أدركها في الوقت وصلاها أداءً (¬4). 3 - وقت صلاة المغرب من غروب الشمس إلى غروب الشفق الأحمر؛ لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: ((ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق)) (¬5)، لكن الأفضل أن تُصلَّى في أول الوقت؛ لحديث جابر - رضي الله عنه - في إمامة جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ((جاءه المغرب فقال: قم فصلّه فصلى المغرب حين وجبت الشمس)) ثم جاءه في اليوم الثاني المغرب وقتًا واحدًا لم يزل عنه (¬6)؛ ولحديث رافع بن خديج - رضي الله عنه - قال: ((كنا نصلي ¬

(¬1) أخرجه أحمد،3/ 330،والترمذي، برقم 150،والنسائي، برقم 513،وتقدم تخريجه. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب المواقيت، باب من أدرك من الفجر ركعة، برقم 579، ومسلم، كتاب المساجد، باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك تلك الصلاة، برقم 607. (¬3) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التبكير بالعصر، برقم 622. (¬4) سمعت ذلك من شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز أثناء شرحه لبلوغ المرام، حديث رقم 73، وأثناء تقريره على الروض المربع، 1/ 471، وانظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للإمام ابن باز، 10/ 384. (¬5) أخرجه مسلم، برقم 612، وتقدم تخريجه. (¬6) أحمد، 3/ 330، والترمذي، برقم 150، والنسائي، برقم 513، وتقدم تخريجه.

المغرب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فينصرف أحدنا وإنه ليُبصرُ مواقع نبله)) (¬1). وسمعت سماحة العلامة الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول عن هذا الحديث إنه: ((يدل على أن التبكير بالمغرب هو السنة المستقرة، لكن هذا لا يدل على أنَّ وقت المغرب وقتٌ واحد، بل آخر وقت المغرب هو غروب الشفق الأحمر)) (¬2). والسنة أن يصلي بعد الأذان ركعتين ثم تقام صلاة المغرب؛ لحديث عبد الله بن مغفل المزني - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((صلّوا قبل صلاة المغرب)) قال في الثالثة: ((لمن شاء)) كراهية أن يتخذها الناس سنة (¬3). [أي طريقة واجبة مألوفة لا يتخلفون عنها] (¬4). وفي رواية: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى قبل المغرب ركعتين)) (¬5). وفي حديث أنس - رضي الله عنه -: ((وكنا نصلي على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب)) (¬6). وقال - رضي الله عنه -: ((كنا في المدينة، فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري، فركعوا ركعتين، ركعتين حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليهما)) (¬7). وهذا يدل أن هذه السنة ثبتت بالقول والفعل، والتقرير. وهذه الأحاديث تدلّ على أن السنة التبكير بصلاة المغرب بعد صلاة ركعتين عقب الأذان، وأن الوقت بين الأذان والإقامة قليل. ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب وقت المغرب، برقم 559، ومسلم، باب بيان أنّ أوّل وقت المغرب عند غروب الشمس، برقم 637. (¬2) سمعته من سماحته أثناء شرحه للحديث رقم 383 من بلوغ المرام. (¬3) البخاري، كتاب التهجد، باب الصلاة قبل المغرب، برقم 1183، 7368. (¬4) انظر: سبل السلام للصنعاني، 3/ 14، وسمعت هذا المعنى من الإمام ابن باز أثناء تقريره على بلوغ المرام حديث رقم 383. (¬5) صحيح ابن حبان [الإحسان] 3/ 59، برقم 1586. (¬6) صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب ركعتين قبل صلاة المغرب، برقم 836. (¬7) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب كم بين الأذان والإقامة، برقم 625، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب ركعتين قبل صلاة المغرب، برقم 837.

4ـ وقت صلاة العشاء من غروب الشفق الأحمر إلى نصف الليل الأوسط

4ـ وقت صلاة العشاء من غروب الشفق الأحمر إلى نصف الليل الأوسط، ووقت الضرورة إلى طلوع الفجر، لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: ((ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط)) (¬1)؛ ولحديث جابر - رضي الله عنه - في إمامة جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه: ((جاءه العشاء فقال: قم فصلّه فصلى العشاء حين غاب الشفق)) ثم في اليوم الثاني: ((جاءه حين ذهب نصف الليل فصلى العشاء)) (¬2). أما بعد نصف الليل إلى طلوع الفجر فوقت ضرورة لمن نسي أو نام؛ لحديث أبي قتادة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أَمَا إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصلّ الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى، فمن فعل ذلك فليصلّها حين ينتبه لها)) (¬3). والأفضل في وقت صلاة العشاء التأخير ما لم يخرج وقتها، إذا لم يكن مشقة، فإذا كانوا جماعة في سفر، أو بادية، أو قرية فتأخير صلاة العشاء أفضل، إذا رأوا ذلك ما لم يشقّ على أحد، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: أعتم النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة حتى ذهب عامّةُ الليل، وحتى نام أهل المسجد، ثم خرج فصلى فقال: ((إنه لوقتُها لولا أن أشق على أمتي)) (¬4). وهذا دليل على أن آخر وقت العشاء أفضله (¬5)، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يراعي الأخف على الأمة، فعن جابر - رضي الله عنه - قال: ((والعشاء أحيانًا وأحيانًا، إذا رآهم اجتمعوا عجَّل، وإذا رآهم أبطؤوا أخّر)) (¬6)؛ ولأهمية المحافظة على وقت صلاة العشاء كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكره النوم قبلها، ففي حديث أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه -: ((وكان يستحب أن يؤخر من العشاء التي تدعونها العتمة، وكان يكره ¬

(¬1) مسلم، برقم: 612، وتقدم تخريجه. (¬2) أحمد، 3/ 330، والترمذي، برقم 150، والنسائي، برقم 513، وتقدم تخريجه. (¬3) مسلم، كتاب المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، برقم 311. (¬4) مسلم، كتاب المساجد، باب وقت العشاء وتأخيرها، برقم 638. (¬5) انظر، سبل السلام للصنعاني، 2/ 18. (¬6) متفق عليه: البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت المغرب، برقم 560، ومسلم، كتاب المساجد، باب استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها، برقم 646.

5 - وقت صلاة الفجر من طلوع الفجر الأبيض الصادق

النوم قبلها، والحديث بعدها)) (¬1). وسمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((كره النوم قبل صلاة العشاء لأنه قد يفوّت صلاة العشاء، وكره الحديث بعدها؛ لأن السمر قد يفوّت عليه صلاة الفجر)) (¬2). 5 - وقت صلاة الفجر من طلوع الفجر الأبيض الصادق، وهو الفجر الثاني إلى نهاية الظلمة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصليها بغلس، ويمتد وقت الاختيار إلى طلوع الشمس (¬3)؛ لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: ((ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس)) (¬4). ومما يؤكد التبكير بالفجر وصلاتها بغلس حديث جابر - رضي الله عنه - في إمامة جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: ((ثم جاءه الفجر فقال: قم فصلّه، فصلى الفجر حين برق الفجر أو قد سطع الفجر)) ((ثم جاءه [من الغد] حين أسفر جدًّا ثم قال له: قم فصلّه، فصلى الفجر، ثم قال: ما بين هذين وقت)) (¬5). وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتعجَّل بصلاة الفجر، ولا يؤخرها عن الوقت المختار، ففي حديث أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه -: ((وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه، ويقرأ بالستين إلى المائة)) (¬6). وفي حديث جابر - رضي الله عنه -: ((والصبح كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلّيها بغلس)) (¬7). وسمعت سماحة العلامة الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((الغلس هو الفجر الواضح الذي به غلس من ظلمة آخر الليل)) (¬8). أما حديث رافع بن خديج - رضي الله عنه - الذي ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت العصر، برقم 547، ومسلم، كتاب المساجد، باب استحباب التبكير بالصبح، برقم 647. (¬2) سمعته منه أثناء شرحه لحديث رقم 166 من بلوغ المرام. (¬3) هكذا سمعته من سماحة الإمام ابن باز، وهو في مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، 10/ 385. (¬4) مسلم، برقم 612، وتقدم تخريجه. (¬5) أحمد، 3/ 330، والترمذي، برقم 150، والنسائي، برقم 513، وتقدم تخريجه. (¬6) متفق عليه: البخاري، برقم 547، ومسلم، برقم 647 وتقدم تخريجه. (¬7) متفق عليه: البخاري، برقم 560، ومسلم، برقم: 646، وتقدم تخريجه. (¬8) سمعته منه أثناء شرحه لحديث رقم 167 من بلوغ المرام.

قال فيه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أصبحوا بالصبح فإنه أعظم لأجوركم، أو أعظم للأجر)). ولفظ الترمذي: ((أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر)) (¬1). ونقل الترمذي - رحمه الله - عن الشافعي، وأحمد، وإسحاق أن معنى الإسفار أن يتضح الفجر فلا يشك فيه)) (¬2). وسمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((المراد لا تعجلوا حتى يتضح الصبح حتى لا يخاطر بالصلاة)) (¬3). وتدرك الصلاة أداءً في الوقت بإدراك ركعة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)) (¬4). وسمعت سماحة العلامة الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((ويأثم إذا كان متعمدًا)) (¬5). ولا تجزئ الصلاة قبل الوقت، ويحرم تأخيرها عن وقتها المختار؛ لمفهوم أحاديث مواقيت الصلاة، ولقول الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} (¬6). ويجب فورًا قضاء الفوائت مرتبة ولو كثرت، لقول الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} (¬7). ولحديث أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من نسي صلاة فليصلّها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك)) وفي لفظ لمسلم: ((من نسي صلاة أو نام عنها ... )) (¬8)؛ ولحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب وقت الصبح، برقم 424، وابن ماجه، كتاب الصلاة، أبواب مواقيت الصلاة، برقم 672، والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء بالإسفار بالفجر، برقم 154، والنسائي، كتاب الصلاة، باب الإسفار، برقم 548، 549، وصححه الترمذي. (¬2) الترمذي، 1/ 291. (¬3) سمعته من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 172 من بلوغ المرام. (¬4) متفق عليه: البخاري برقم 579، ومسلم، برقم 607، وتقدم تخريجه. (¬5) سمعته من سماحته أثناء شرحه للروض المربع، 1/ 480. (¬6) سورة النساء، الآية: 103. (¬7) سورة طه، الآية: 14. (¬8) متفق عليه: البخاري برقم 597، ومسلم برقم 684، وتقدم تخريجه.

أما الحائض فلا قضاء عليها إلا في حالتين:

عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جاء يوم الخندق بعدما غربت الشمس، فجعل يسب كفار قريش، قال: يا رسول الله ماكدت أصلي صلاة العصر حتى كادت الشمس تغرب، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((والله ما صليتها)) فقمنا إلى بطحان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها، فصلى العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب (¬1). وأُلحق بالنائم المغمى عليه ثلاثة أيام فأقل، وقد روي ذلك عن عمار، وعمران بن حصين، وسمرة بن جندب - رضي الله عنهم - (¬2). وقيل: يقضي المغمى عليه ولو طالت المدة، وقيل: إن أغمي عليه خمس صلوات قضاها وإلا فلا، وقيل: لا يلزمه قضاء الصلاة إلا أن يفيق في جزء من وقتها، والصواب ما اختاره شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمة الله عليه - وهو أن المغمى عليه يقضي الصلاة إذا كان الإغماء ثلاثة أيام فأقل؛ لأنه يلحق بالنائم، أما إذا كانت المدة أكثر من ذلك فلا قضاء عليه؛ لأن المغمى عليه مدة طويلة أكثر من ثلاثة أيام يشبه المجنون بجامع زوال العقل (¬3). أما الحائض فلا قضاء عليها إلا في حالتين: الحالة الأولى: إذا طهرت قبل غروب الشمس صلت الظهر والعصر، وإذا طهرت قبل طلوع الفجر صلت المغرب والعشاء، جاء ذلك عن عبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة، وعبد الله بن عباس - رضي الله عنهم - (¬4)؛ ولأن وقت الثانية وقت للأولى حال العذر، فإذا أدركه المعذور لزمه فرضها، كما يلزمه فرض الثانية (¬5)، وقال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -: ((عامة ¬

(¬1) البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب من صلى بالناس جماعة بعد ذهاب الوقت برقم 596. (¬2) انظر: المغني لابن قدامة، 2/ 50 - 52، والشرح الكبير، 3/ 8. (¬3) انظر: مجموع فتاوى سماحة الشيخ ابن باز، جمع الطيار، 2/ 457. (¬4) السنن الكبرى للبيهقي، 1/ 386، 387، وذكر هذه الآثار المجد ابن تيمية في المنتقى، رقم 91، 92 وعزاها إلى سنن سعيد بن منصور. (¬5) انظر: المغني لابن قدامة، 2/ 47.

الحالة الثانية: إذا أدركت المرأة وقت الصلاة ثم حاضت قبل أن تصلي

التابعين يقولون بهذا القول إلا الحسن وحده)) (¬1) وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - (¬2)، وصوّبه الإمام شيخنا عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - وأفتى به حتى مات - قدس الله روحه ونوّر ضريحه - (¬3). الحالة الثانية: إذا أدركت المرأة وقت الصلاة ثم حاضت قبل أن تصلي، فقد اختلف أهل العلم هل تقضي أم لا؟ والصواب أن المرأة إذا أدركت وقت الصلاة ثم لم تصلّ حتى تضيَّق الوقت- بحيث لا تستطيع الصلاة كاملة في آخره-، ثم حاضت قبل أن تصلي، وجب عليها أن تقضي هذه الصلاة بعد أن تطهر؛ لأنها فرَّطت في الصلاة، وهذا الذي يفتي به سماحة الإمام شيخنا عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - (¬4). وإذا كان وقت الصلاة الحاضرة يخشى خروجه صلى الحاضرة حتى لا تكون فائتة، ثم يصلي الفائتة (¬5). ويقضي الصلوات الفائتة على حالها الذي فاتت عليه: من عدد ركعاتها، أو سرّيتها، وجهريتها؛ لحديث أبي قتادة - رضي الله عنه - الطويل في نوم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عن صلاة الفجر في السفر، وفيه: ((ثم أذَّن بلال بالصلاة، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين، ثم صلى الغداة، فصنع كما كان يصنع كل يوم)) (¬6). ويدل الحديث أيضًا على أن من فاتته صلاة واحدة صلى سنَّتها معها. ¬

(¬1) انظر: المرجع السابق 2/ 46. (¬2) انظر: فتاوى ابن تيمية، 21/ 434. (¬3) انظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، جمع الشويعر، 10/ 216 - 217. (¬4) انظر: المغني لابن قدامة،2/ 11، 46، 47،والاختيارات الفقهية لابن تيمية ص34. (¬5) سمعته من الإمام عبد العزيز ابن باز أثناء شرحه للروض المربع، 1/ 490. (¬6) صحيح مسلم، برقم 681، وتقدم تخريجه.

الشرط الثامن: استقبال القبلة

الشرط الثامن: استقبال القبلة، لقول الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} (¬1). واستقبال جهة البيت الحرام شرط لصحة الصلاة؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للمسيء في صلاته: ((إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر)) (¬2)؛ ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما في أهل قباء لما حُوّلت القبلة، قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آتٍ فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أُنزل عليه الليلة قرآنٌ، وقد أُمر أن يستقبل الكعبة، فاستقْبَلُوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة)) (¬3)؛ ولحديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: ((صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحو بيت المقدس ستة عشر شهرًا [أو سبعة عشر شهرًا] ثم صرفنا نحو الكعبة)) (¬4). ومن تمكن من رؤية الكعبة وجب عليه استقبال عينها فإن حال بينه وبينها حائل، أو كان بعيدًا عنها استقبل جهتها، وتحرَّى لذلك قدر الإمكان، ولا يضر الانحراف اليسير؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بين المشرق والمغرب قبلة)) (¬5). وسمعت سماحة الإمام، شيخنا عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول عن هذا الحديث: ((صحيح، وهذا يؤيد عدم التكلف في الجهة، وأنه متى صلى إلى الجهة ولو انحرف عنها قليلاً هكذا أو هكذا فلا يضره ذلك، ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 144. (¬2) متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - البخاري، كتاب الأذان، باب أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يتم ركوعه بالإعادة برقم 793،ومسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، برقم 397. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان، برقم 403، ومسلم، كتاب المساجد، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة، برقم 526. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان، رقم 399، ومسلم، كتاب المساجد، باب تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، برقم 525. (¬5) الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء أن ما بين المشرق والمغرب قبلة، برقم 342، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلوات، باب القبلة، برقم 1011. وصححه الألباني في إرواء الغليل، 1/ 324.

الحالة الأولى: إذا اجتهد في استقبال القبلة طاقته ثم صلى فأخطأ

فجهته التي صلى إليها هي القبلة، وهكذا قضاء الحاجة، يشرّق أو يغرّب أو يشمّل أو يجنّب على حسب جهته التي تخالف القبلة)) (¬1). قال - عليه الصلاة والسلام - في ذلك: ((إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن شرّقوا أو غرّبوا)) (¬2). ويسقط استقبال القبلة في الأحوال الآتية: الحالة الأولى: إذا اجتهد في استقبال القبلة طاقته ثم صلى فأخطأ؛ لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬3)؛ ولقوله تعالى: {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (¬4)؛ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما في صلاة أهل قباء إلى الشام، فأُخْبروا أن الله قد أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - باستقبال المسجد الحرام، فاستقبلوا الكعبة وهم في صلاتهم)) (¬5). والشاهد في الحديث أنهم بنوا على ما صلوا، ولم يقطعوا الصلاة، بل استداروا إلى الكعبة. وقد رُوِيَ عن عامر بن ربيعة - رضي الله عنه - أنه قال: ((كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة مظلمة فأشكلت علينا القبلة، فصلينا، فلما طلعت الشمس إذا نحن صلينا لغير القبلة، فنزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله})) (¬6). وسمعت الإمام عبد العزيز ابن باز - رحمه الله - يقول عن هذا الحديث: ((ضعيف عند أهل العلم، ولكن معناه صحيح، ويعضده عموم الأدلة والأصول المتبعة في الشريعة: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ}. والواجب على المسافر إذا حضرت الصلاة أن يجتهد ويتحرّى القبلة ثم يصلي حسب اجتهاده فإن ظهر بعد ذلك أنه صلى إلى غير القبلة أجزأته صلاته؛ لأنه أدَّى ¬

(¬1) سمعته من سماحته أثناء شرحه لحديث 226 من بلوغ المرام. (¬2) متفق عليه من حديث أبي أيوب - رضي الله عنه -:البخاري، كتاب الصلاة، باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق، برقم 394،ومسلم، كتاب الطهارة، باب الاستطابة، برقم264. (¬3) سورة التغابن، الآية: 16. (¬4) سورة البقرة، الآية: 286. (¬5) متفق عليه: البخاري برقم 403، ومسلم، برقم 526، وتقدم تخريجه بلفظه. (¬6) الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب: ومن سورة البقرة، برقم 2957وضعفه، ولكن ذكر له العلامة الألباني طرقًا وشواهد عند الحاكم،1/ 206،والبيهقي، 2/ 10، وغيرهما، ثم حسنه في إرواء الغليل، 1/ 223، والآية 115 من سورة البقرة.

الحالة الثانية: عند العجز

ما عليه)) (¬1). والمجتهد يتعرَّف إلى جهة القبلة: بالمحاريب في المساجد، أو بالبوصلة، أو يسأل إن وجد من يدله، أو بأي وسيلة يستطيعها. الحالة الثانية: عند العجز، كالأعمى الذي لا يجد من يوجهه، وعجز عن معرفة القبلة، والمريض الذي لا يستطيع الحركة، وليس عنده من يوجهه، والمأسور المربوط إلى غير القبلة، فقبلة هؤلاء هي الجهة التي يقدرون عليها، لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬2)؛ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه)) (¬3). الحالة الثالثة: عند اشتداد الخوف على النفس أو المال، فيستقبل الخائف الجهة التي يقدر عليها؛ لقول الله تعالى: {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا} (¬4)؛ ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) (¬5). الحالة الرابعة: صلاة النفل على الراحلة؛ لحديث عامر بن ربيعة - رضي الله عنه - قال: ((رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلّي على راحتله حيث توجهت به)) (¬6). زاد البخاري: ((ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع ذلك في الصلاة المكتوبة)) (¬7). وعن جابر - رضي الله عنه - قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلّي على راحلته حيث توجهت، فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة)) (¬8). وقد جاء في هذا ¬

(¬1) سمعته من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 225 من بلوغ المرام. (¬2) سورة التغابن، الآية: 16. (¬3) مسلم، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، برقم 1337. (¬4) سورة البقرة، الآية: 239. (¬5) مسلم، برقم 1337، وتقدم تخريجه في الحاشية التي قبل السابقة. (¬6) متفق عليه: البخاري، كتاب التقصير، باب صلاة التطوع على الدواب وحيثما توجهت، برقم 1093، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت، برقم 701. (¬7) صحيح البخاري برقم 1097. (¬8) البخاري، كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان، برقم 400.

الشرط التاسع: النية ومحلها القلب، والتلفظ بها بدعة

المعنى أحاديث أخرى، عن ابن عمر (¬1)، وأنس (¬2) - رضي الله عنهم -. وعن أنس - رضي الله عنه - ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سافر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة فكبّر، ثم صلى حيث وَجَّهَهُ ركابه)) (¬3). وسمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول عن هذا الحديث: ((هذا ظاهره خلاف الأحاديث الصحيحة في الصحيحين، فليس فيها ذكر استقبال القبلة عند الإحرام، وهذه الزيادة تكون مقيدة، ويكون هذا على سبيل الاستحباب إذا تيسر الاستقبال عند الإحرام فهذا حسن جمعًا بين النصوص، فإذا لم يفعله فالصلاة صحيحة عملاً بالأحاديث الصحيحة)) (¬4). الشرط التاسع: النية ومحلها القلب، والتلفظ بها بدعة، وهي لغة القصد، وهو عزم القلب على الشيء، وشرعًا: العزم على فعل العبادة تقربًا إلى الله تعالى؛ لحديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إنما الأعمال بالنيات)) (¬5). والنية نيتان: نية للمعمول له: وهي الإخلاص لله تعالى، ونية للعمل: وهي تمييز العبادات بعضها عن بعض وقصدها ونيتها، فينوي تلك العبادة المعينة (¬6). وزمن النية: أول العبادة، أو قبلها، بيسير، والأفضل قرنها بالتكبير خروجًا من خلاف من شرط ذلك (¬7)، وسمعت سماحة الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((ينوي مع التحريمة، وهذا ¬

(¬1) حديث ابن عمر في صحيح مسلم برقم 700. (¬2) وحديث أنس في صحيح مسلم برقم 702. (¬3) أبو داود، كتاب صلاة السفر، باب التطوع على الراحلة والوتر، برقم 1225، وحسنه الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام. (¬4) سمعته من سماحته أثناء شرحه للحديث رقم 228 من بلوغ المرام. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، برقم 1، ومسلم، كتاب الجهاد، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: إنما الأعمال بالنية، برقم 1907. (¬6) انظر: بهجة قلوب الأبرار للسعدي، ص7. (¬7) انظر منار السبيل، للشيخ العلامة إبراهيم الضويان، 1/ 79.

هو الأفضل وإن تقدمت يسيرًا فلا بأس)) (¬1). ويشترط مع نية الصلاة تعيين ما يصليه بقلبه: من ظهر، أو عصر، أو جمعة، أو وتر، أو راتبة، لتتميز عن غيرها، وتجزئه نية الصلاة إذا كانت نافلة مطلقًا (¬2). ولا شك أن الصلاة عبادة عظيمة يشترط لها: الإخلاص لله - عز وجل - والمتابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذان شرطان لكل عبادة. أما الإخلاص؛ فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الأعمال بالنيات)) (¬3). وأما المتابعة؛ فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) (¬4). وفي رواية لمسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) (¬5). ¬

(¬1) سمعته من سماحته أثناء شرحه للروض المربع، وذلك يوم الأربعاء،10/ 6/1419هـ. (¬2) انظر: منار السبيل، للعلامة إبراهيم بن محمد الضويان، 1/ 79. (¬3) متفق عليه، البخاري، برقم 1، ومسلم، برقم 1907، وتقدم تخريجه. (¬4) متفق عليه، البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، برقم 2697، ومسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، برقم 1718. (¬5) مسلم، برقم 1718.

المبحث الثامن عشر: صفة الصلاة

المبحث الثامن عشر: صفة الصلاة صفة الصلاة الكاملة من كل وجهٍ: هي أن يصلي المسلم كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلّي؛ لحديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( ... صلوا كما رأيتموني أصلي)) (¬1). ومن أحب أن يصلي كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلّي فليصلّ على النحو الآتي: 1 - يسبغ الوضوء وهو أن يتوضأ كما أمره الله - عز وجل - عملاً بقوله - سبحانه وتعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مَّنكُم مّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النساء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مّنْهُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬2)؛ ولحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول)) (¬3)، فيجب على المسلم العناية بالطهارة، قبل دخول الصلاة (¬4). 2 - يتوجه إلى القبلة، وهي الكعبة، لقول الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} (¬5)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة المسيء صلاته: ((إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة ... )) (¬6). ¬

(¬1) البخاري، كتاب الأذان، باب الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة، برقم 631. (¬2) سورة المائدة، الآية: 6. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه برقم 224، وتقدم تخريجه في طهور المسلم. (¬4) انظر: طهور المسلم للمؤلف ص63. (¬5) سورة البقرة، الآية: 144. (¬6) متفق عليه: البخاري، برقم 793، ومسلم بلفظه، برقم 397، وتقدم تخريجه في طهور المسلم.

3 ـ يجعل له سترة يصلي إليها إن كان إماما أو منفردا

3 ـ يجعل له سترة يصلّي إليها إن كان إمامًا أو منفردًا؛ لحديث سبرة بن معبدٍ الجهني قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليستترْ أحدُكم في الصلاة ولو بسهمٍ)) (¬1)؛ولحديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قام أحدُكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل مؤخرة الرَّحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل فإنه يقطع صلاته: الحمار، والمرأة، والكلب الأسود)) (¬2). ويتأكد الدّنوُّ من السترة والصلاة إليها؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إذا صلى أحدُكم فليصلّ إلى سترةٍ، وليدنُ منها)) (¬3)؛ ولحديث سهل - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا صلَّى أحدكم إلى سُترةٍ فليدنُ منها؛ لا يقطع الشيطان عليه صلاته)) (¬4)، ويجعل بينه وبين سترته قدر ممر الشاة، أو قدر مكان السجود، ولا يزيد على قدر ثلاثة أذرع، وكذلك بين الصفوف؛ لحديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قال: ((كان بين مصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين الجدار ممر الشاة)) (¬5). وإذا أراد أحد أن يمر بين يديه ردّه، ودافعه؛ فإن لم يمتنع دافعه بقوة؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعْه، فإن أبى فليقاتلْه؛ فإنما هو شيطان)) (¬6).وفي رواية لمسلم: ((فإن ¬

(¬1) أخرجه الحاكم،1/ 252، بنحوه، والطبراني في الكبير، 7/ 114 بلفظه، برقم 6539، وأحمد، 3/ 404 بلفظ: ((إذا صلى أحدكم فليستتر لصلاته ولو بسهم))،وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد، 2/ 58، وقال: ((رجال أحمد رجال الصحيح))، وسمعت سماحة العلامة ابن باز - رحمه الله - يقول في تعليقه على بلوغ المرام، الحديث رقم 244: ((دل هذا الحديث على تأكد السترة ولو بسهم)). (¬2) مسلم، كتاب الصلاة، باب قدر ما يستر المصلي، برقم 510. (¬3) أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يؤمر المصلي أن يدرأ عن الممر بين يديه، برقم 698، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 135: ((حسن صحيح))، وسمعت العلامة ابن باز - رحمه الله - يقول في تعليقه على حديث 244 من بلوغ المرام: ((إسناده جيد، وهو يدل على تأكد السترة والدّنوّ منها)). (¬4) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الدنو من السترة، برقم 695، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 203. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب قدر كم ينبغي أن يكون بين المصلي والسترة برقم 496، ومسلم، كتاب الصلاة، باب دنو المصلي من السترة، برقم 508، وانظر: سبل السلام للصنعاني، /145. (¬6) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، بابٌ: يردُّ المصلي من مرَّ بين يديه، برقم 509، ومسلم، كتاب الصلاة، باب منع المار بين يدي المصلي، برقم 505.

4 - يكبر تكبيرة الإحرام، قائما، قاصدا بقلبه فعل الصلاة التي يريدها

معه القرين)) (¬1). ولا يجوز المرور بين يدي المصلي؛ لحديث أبي جُهيم - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو يعلمُ المارُّ بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرًا له من أن يمرَّ بين يديه)) قال أبو النضر أحد الرواة: لا أدري قال: أربعين يومًا، أو شهرًا، أو سنة (¬2). وسترة الإمام سترة لمن خلفه؛ لحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وفيه: أنه أقبل راكبًا على حمارٍ أتانٍ، وهو يومئذ قد ناهز الاحتلام، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم بمنى في حجة الوداع يصلي بالناس إلى غير جدار، فسار ابن عباس على حماره بين يدي بعض الصف الأول، ثم نزل عنه فصف مع الناس وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينكر ذلك عليه أحد (¬3). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله يقول: ((هذا يدل على أن المأمومين سترتهم سترة إمامهم، فلا يضرهم من مرّ من أمامهم إذا كان لإمامهم سترة)) (¬4). 4 - يكبّر تكبيرة الإحرام، قائمًا، قاصدًا بقلبه فعل الصلاة التي يريدها: من فريضة أو نافلة؛ تقربًا لله تعالى، قائلاً: الله أكبر، ناظرًا ببصره إلى محل سجوده، رافعًا يديه مضمومتي الأصابع، ممدودة إلى حذو منكبيه، أو إلى حيال أذنيه؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث المسيء صلاته: ((إذا قمت إلى الصلاة فكبر)) (¬5)، ولقول الله تعالى: {وَقُومُواْ لله قَانِتِينَ} (¬6)؛ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) مسلم في الكتاب والباب السابقين، برقم 506، وسمعت سماحة العلامة ابن باز أثناء شرحه لبلوغ المرام، حديث رقم 248، يقول: ((وهذا يدل على أنه يشرع للمصلي إذا مر أحد بينه وبين سترته أن يرده، وظاهر النصوص الأخرى أن يردّه مطلقًا سواء كان له سترة أم لا، إلا إذا كان بعيدًا، ويردّ المار بالأسهل فالأسهل كما يردُّ الصائل)). (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب إثم المار بين يدي المصلي، برقم 510، ومسلم، كتاب الصلاة، باب منع المار بين يدي المصلي، برقم 507. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب: سترة الإمام سترة من خلفه، برقم 493، وألفاظه من هذا ومن رقم 1857، 4412، ومسلم، كتاب الصلاة، باب سترة المصلي، برقم 504. (¬4) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري على الحديث رقم 493، في جامع سارة بالرياض، بتاريخ 10/ 6/1419هـ. (¬5) متفق عليه: البخاري، برقم 793، ومسلم، برقم 397، وتقدم تخريجه. (¬6) سورة البقرة، الآية: 238.

الوجه الأول: جاء ما يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه ثم كبر

لعمران بن حصين - رضي الله عنه -: ((صلّ قائمًا، فإن لم تستطعْ فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جَنْبٍ)) (¬1)؛ ولحديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إنما الأعمال بالنيات)) (¬2)،ولا ينطق بلسانه بالنية؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينطق بها، ولا أصحابه - رضي الله عنهم - (¬3)؛ ولحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبّر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع، ولا يفعله حين يرفع رأسه من السجود. وفي لفظ: ((وإذا قام من الركعتين رفع يديه)) (¬4)، وفي حديث مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا كبر رفع يديه حتى يُحاذيَ بهما أذنيه، وإذا ركع رفع يديه حتى يحاذيَ بهما أذنيه، وإذا رفع رأسه من الركوع فقال: ((سمع الله لمن حمده))، فعل مثل ذلك، وفي لفظ لمسلم: ((حتى يحاذي بهما فروع أذنيه)) (¬5). والأحاديث الواردة في ابتداء رفع اليدين جاءت على وجوهٍ ثلاثة: الوجه الأول: جاء ما يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه ثم كبّر، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام للصلاة رفع يديه حتى تكونا حذو منكبيه، ثم كبر)) (¬6)؛ ولحديث أبي حُميد الساعدي - رضي الله عنه - يحدّث به في عشرة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيه: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يرفع يديه حتى يُحاذيَ بهما منكبيه ثم يُكبّر)) (¬7). الوجه الثاني: جاء ما يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كبر ثم رفع يديه، فعن أبي قلابة أنه ((رأى ¬

(¬1) البخاري، كتاب تقصير الصلاة، بابٌ: إذا لم يطق قاعدًا صلى على جنب، برقم 1117. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم1، ومسلم، برقم 1907، وتقدم تخريجه. (¬3) انظر: مجموع فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز، 11/ 8. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء، برقم 735، ورقم 739، ومسلم، كتاب الصلاة، برقم 390. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب رفع اليدين إذا كبر وإذا ركع، وإذا رفع، برقم 737، ومسلم واللفظ له، في كتاب الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام والركوع، وفي الرفع من الركوع، وأنه لا يفعله إذا رفع من السجود، برقم 391. (¬6) مسلم، كتاب الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين، برقم 390. (¬7) أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب سنة الجلوس في التشهد برقم 828، واللفظ لأبي داود، برقم 730.

الوجه الثالث: جاء ما يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه مع التكبير، وانتهى منه مع انتهائه

مالك بن الحويرث إذا صلى كبَّر ثم رفع يديه ... وحدَّث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل هكذا)) (¬1). الوجه الثالث: جاء ما يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه مع التكبير، وانتهى منه مع انتهائه، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - افتتح التكبير في الصلاة، فرفع يديه حين كبّر حتى جعلهما حَذْوَ منكبيه)) (¬2). فمن فعل صفة من هذه الصفات فقد أصاب السنة (¬3). وأما النظر إلى موضع السجود، ومطأطأة الرأس، ورمي البصر نحو الأرض؛ فلما رواه البيهقي والحاكم، وشهد له حديث عشرة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬4). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم، أو لتُخْطَفَنَّ أبصارُهم)) (¬5). 5 - يضع يديه على صدره بعد أن ينزلهما من الرفع، اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد؛ لحديث وائل بن حُجْر قال: ((صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده اليمنى على اليسرى على صدره)) (¬6)، وفي لفظ: ((ثم ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب رفع اليدين إذا كبر، برقم 737، ومسلم واللفظ له، كتاب الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين، برقم 391. (¬2) البخاري، كتاب الأذان، باب إلى أين يرفع يديه، برقم 738، ومسلم، كتاب الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام، برقم 390. (¬3) انظر: فتح الباري لابن حجر، 2/ 218، وسبل السلام للصنعاني،2/ 217، والشرح الممتع لابن عثيمين،3/ 39. (¬4) انظر: السنن الكبرى للبيهقي، 2/ 283،5/ 158، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 1/ 479، وأحمد، 2/ 293، وصحح الألباني ما جاء في هذه الصفة في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ص80. (¬5) مسلم، كتاب الصلاة، باب النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة، برقم 429. (¬6) أخرجه ابن خزيمة، في صحيحه، 1/ 243، برقم 479، والحديث جاء من طرق أخرى بمعناه، وله شواهد. انظر: صحيح ابن خزيمة، 1/ 243، وصفة الصلاة للألباني، ص79، وسمعت سماحة العلامة ابن باز - رحمه الله - أثناء تقريره على الحديث رقم 293 من بلوغ المرام يقول: ((وهكذا رواه أحمد عن قبيصة عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضع يديه على صدره، وإسناده حسن)).

6 - يستفتح الصلاة بدعاء الاستفتاح

وضع يده اليمنى على ظهر كفّه اليسرى والرُّسغ والساعد)) (¬1)، وهذا يَعمُّ القيام بعد الرفع من الركوع؛ لحديث وائل - رضي الله عنه - في لفظ آخر، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((إذا كان قائمًا في الصلاة قبض بيمينه على شماله)) (¬2)، وهذا الحديث فيه صفة القبض، والأحاديث الأخرى فيها صفة وضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر، قال العلامة ابن عثيمين - رحمه الله -: ((إذن هاتان صفتان: الأولى قبض، والثانية وضع)) (¬3)، وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: ((كان الناس يؤمرون أن يضع الرَّجُلُ يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة)). قال أبو حازم: لا أعلمه إلا ينمي ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -)) (¬4)، وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((وهذا يحتمل أن يكون نوعًا ثانيًا، ويحتمل أن يكون المراد مثل حديث وائل)) (¬5). 6 - يستفتح الصلاة بدعاء الاستفتاح وهو أنواع، يأتي بواحد منها ولا يجمع بينها، ولكن ينوّع لكل صلاة، ومنها: أ- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذا كبر في الصلاة سكت هُنيَّة (¬6) قبل أن يقرأ، فقلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي! أرأيتَ سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: ((أقول: اللهم باعِدْ بيني وبين خَطايايَ كما باعَدْتَ بين المشرق والمغرب، اللهم نَقّني من خَطايايَ كما يُنقَّى الثوبُ الأبيضُ من الدَّنس، اللهم اغْسلْني من خَطايايَ ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب رفع اليدين في الصلاة، برقم 727، والنسائي، كتاب الافتتاح، باب موضع اليمين من الشمال في الصلاة، برقم 889، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 2/ 68 - 69، وصفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ص79. (¬2) النسائي، كتاب الافتتاح، باب وضع اليمنى على الشمال في الصلاة، برقم 887، وصحح إسناده الألباني في صحيح سنن النسائي، 1/ 193. (¬3) الشرح الممتع على زاد المستقنع، 3/ 44. (¬4) البخاري، كتاب الأذان، باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة، برقم 740. (¬5) سمعته من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 293 من بلوغ المرام. (¬6) هنيَّة: أي وقت لطيف قصير، أو ساعة لطيفة. فتح الباري لابن حجر، مقدمة فتح الباري، ص202.

بالثلج والماء والبَرَدِ)) (¬1). ب - وإن شاء قال: ((سبحانك اللهم وبحمدك (¬2)، وتبارك اسمك، وتعالى جدُّك، ولا إلهَ غيرُك)) (¬3). ج - وإن شاء قال ما ثبت عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا قام إلى الصلاة (¬4) قال: ((وجهت وجهي للذي فطر السموات ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب ما يقول بعد التكبير، برقم 743، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة، برقم 598. (¬2) سبحانك اللهم وبحمدك: أي سبحانك اللهم وبحمدك سبحتك، والجد هنا: العظمة))، شرح النووي،4/ 355، وقيل: أسبحك حال كوني متلبسًا بحمدك. انظر: سبل السلام للصنعاني، 2/ 224، وسمعت شيخنا ابن باز يقول أثناء تقريره على الروض المربع، 2/ 22: ((يعني بحمدي لك، وثنائي عليك سبحتك: أي نزَّهْتك)). (¬3) مسلم، كتاب الصلاة، باب حجة من قال: لا يجهر بالبسملة، برقم 399، وأخرجه عبد الرزاق في المصنف، برقم 2555 - 2557،وابن أبي شيبة،1/ 230، 2/ 536، وابن خزيمة، برقم 471، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي،1/ 235.قال ابن تيمية: ((وقد ثبت عن عمر بن الخطاب أنه كان يجهر بـ ((سبحانك اللهم وبحمدك .. )) ويعلمه الناس، فلولا أن هذا من السنن المشروعة لم يكن يفعله .. ويقرّه المسلمون عليه)).انظر: قاعدة في أنواع الاستفتاح، ص31،وزاد المعاد لابن القيم،1/ 202 - 206.واختار الإمام أحمد الاستفتاح بحديث عمر؛ لعشرة أوجه ذكرها ابن القيم في زاد المعاد،1/ 205.وسمعت سماحة الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله أثناء شرحه للروض المربع،2/ 23 يقول: ((وهو حديث ثابت من طرق عن جماعة من الصحابة)) قلت: جاءت روايات أن أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعائشة، وأنساً، وأبا سعيد، وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم - رووه، واستفتح به عمر وأبو بكر وعثمان. انظر: المنتقى لأبي البركات عبد السلام بن تيمية مع نيل الأوطار،1/ 756. (¬4) وفي رواية ابن خزيمة، 1/ 236، برقم 464 بلفظ: ((كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة كبّر ويقول .. )) وقال شعيب وعبد القادر الأرناؤوط في تحقيقهما لزاد المعاد،1/ 203: ((وإسناده صحيح)). وزاد ابن حبان هذه الزيادة أيضًا، 5/ 70، برقم 1772، ولفظه: ((كان إذا ابتدأ الصلاة المكتوبة قال: وجهت وجهي)). وقال الحافظ ابن حجر في الفتح، 2/ 230: ((وهو عند مسلم من حديث علي لكنه قيّده بصلاة الليل، وأخرجه الشافعي [في المسند 1/ 72 - 73]، وابن خزيمة، وغيرهما بلفظ: ((إذا صلى المكتوبة واعتمده الشافعي في الأم)) ا. هـ وتعقب الإمام عبد العزيز ابن باز - رحمه الله - كلام ابن حجر في نقله أن مسلمًا قيَّده بصلاة الليل فقال: ((هذا وهْمٌ من الشارح رحمه الله وليس في رواية مسلم تقييده بصلاة الليل فتنبه، والله أعلم)) الفتح،2/ 230. وقال الصنعاني - رحمه الله - في سبل السلام، 2/ 223 على كلام ابن حجر - رحمه الله -: ((لم نجده في مسلم هذا الذي ذكره المصنف من أنه كان يقوله في صلاة الليل، وإنما ساق حديث علي - رضي الله عنه - هذا في قيام الليل)).

والأرض حنيفًا مسلمًا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونُسُكي، ومحياي، ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعًا، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك، وسعديك، والخير كله بيديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك)) (¬1). وإن شاء قال ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأنواع الأخرى في الاستفتاح (¬2). ¬

(¬1) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعائه بالليل، برقم 771. (¬2) وذكر ابن تيمية - رحمه الله - في كتاب: ((قاعدة في أنواع الاستفتاح)) ص31: ((أن الاستفتاح لا يختص بـ ((سبحانك اللهم))، و ((وجهت وجهي)) وغيرهما؛ بل يستفتح بكل ما روي، لكن فضل بعض الأنواع على بعض يكون بدليل آخر)).وسمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - أثناء شرحه لبلوغ المرام لابن حجر على الحديث رقم 287 يقول: ((وواحد من أدعية الاستفتاح يكفي، ولا يجمع بين دعاءين، وما صح في صلاة النافلة يصح في الفريضة، لكن ما كان فيه طول فالأولى أن يكون في صلاة الليل)). وهناك أدعية للاستفتاح إضافة إلى ما تقدم منها: 4 - عن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - قال: سألت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: بأي شيء كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته: ((اللهم ربَّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)). مسلم، برقم 771. 5 - عن أنس - رضي الله عنه - أن رجلاً جاء فدخل الصف وقد حفزه النفس، فقال: ((الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه)) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( .. لقد رأيت اثني عشر ملكًا يبتدرونها أيهم يرفعها)) مسلم، برقم 600. 6 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بينما نحن نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ قال رجل من القوم: ((الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً)) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( .. عجبت لها فتحت لها أبواب السماء)) مسلم، برقم 601. 7 - عن عاصم بن حميد قال: سألت عائشة رضي الله عنها بم كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستفتح قيام الليل؟ قالت: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحدٌ قبلك، كان إذا قام: ((كبّر عشرًا، وحمد عشرًا، وسبَّح عشرًا، وهلَّل عشرًا، واستغفر عشرًا، وقال: اللهم اغفر لي، واهدني، وارزقني، وعافني، أعوذ بالله من ضيق المقام يوم القيامة)). أبو داود، برقم 766، والنسائي، برقم 1617، وأحمد، 6/ 143، وصححه الألباني في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ص89، وصحيح سنن أبي داود، 1/ 146. 8 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يتهجد قال: ((اللهم لك الحمد، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيّم السموات والأرض ومن فيهن [ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن] [ولك الحمد لك ملك السموات والأرض ومن فيهن] [ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض] [ولك الحمد] [أنت الحقُّ، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك الحق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - حق، والساعة حق] [اللهم لك أسلمت، وعليك توكلت، وبك آمنت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدَّمتُ، وما أخَّرْتُ، وما أسررْتُ، وما أعلنتُ] [أنت المقدّم، وأنت المؤخّر، لا إله إلا أنت] [أنت إلهي لا إله إلا أنت]، البخاري، برقم 6317، 7385، 7442، 7499، ومسلم مختصرًا بنحوه، برقم 769. وغير ذلك من أنواع الاستفتاح، انظر: زاد المعاد لابن القيم، 1/ 202 - 207.

7 - يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

7 - يقول: ((أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)) لقول الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (¬1)، أو يقول: ((أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه (¬2)، ونفخه (¬3)، ونفثه (¬4))) (¬5). 8 - يقول: ((بسم الله الرحمن الرحيم، سرًّا؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: ((صلَّيْتُ خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فلم يجهروا ببسم الله الرحمن الرحيم)) (¬6)، والبسملة آية مستقلة (¬7). ¬

(¬1) سورة النحل، الآية: 98. (¬2) همزه: المؤتَة: نوع من الجنون. (¬3) نفخه: الكبر. (¬4) نفثه: الشعر المذموم. (¬5) أخرجه أحمد، 3/ 50، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب من رأى الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك، برقم 775، والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما يقول عند افتتاح الصلاة، برقم 242، وحسّنه: عبد القادر وشعيب الأرناؤوط في تخريج زاد المعاد، 1/ 204، وحسّنه الألباني في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ص90، وانظر أيضًا: مسند أحمد، 4/ 80، 85، وسنن أبي داود، برقم 764، وابن ماجه، برقم 807، وابن حبان، برقم 443، والحاكم، 1/ 235. (¬6) أحمد في المسند، 3/ 264، والنسائي، كتاب الافتتاح، باب ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، برقم 907، واللفظ له، وابن خزيمة في صحيحه، 1/ 249، برقم 495، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 1/ 197. (¬7) سمعت الإمام عبد العزيز ابن باز أثناء شرحه لحديث رقم 297 - 300 من بلوغ المرام يقول: ((والبسملة آية مستقلة ليست من الفاتحة ولا من غيرها، أنزلها الله فصلاً بين السور، إلا أنها بعض آية من سورة النمل، وهذا هو الأرجح، أما بالنسبة للآية السابعة من الفاتحة عند المحققين فهي {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالّينَ}.

9 - يقرأ الفاتحة الحمد لله رب العالمين

9 - يقرأ الفاتحة {الْحَمْدُ للهِ رَبّ الْعَالَمِينَ* الرحمن الرَّحِيمِ* مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ* إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ* اهدِنَا الصّرَاطَ المُستَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالّينَ}؛ لحديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)) (¬1). وقراءة الفاتحة تجب على كل مصلٍّ، ويدخل في ذلك المأموم في الصلاة الجهرية والسرية؛ لرواية حديث عبادة - رضي الله عنه - السابق، يرفعه: ((لعلكم تقرؤون خلف إمامكم)) قلنا: نعم، هذًّا يا رسول الله:، قال: ((لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب؛ فإنه لا صلاةَ لمن لم يقرأْ بها)) (¬2). وعن محمد بن أبي عائشة عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لعلكم تقرؤون والإمام يقرأ))؟ قالوا: إنا لنفعل، قال: ((لا، إلا أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب)) (¬3)،وتسقط الفاتحة عن مسبوقٍ أدرك الإمام راكعًا، لحديث أبي بكرة - رضي الله عنه - أنه انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((زادك الله حرصًا ولا تَعُدْ)) (¬4). ولم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بقضاء الركعة التي أدرك ركوعها دون قراءتها، ولو كانت الركعة غير صحيحة لأمره - صلى الله عليه وسلم - بإعادتها. ¬

(¬1) متفق عليه، البخاري، كتاب الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر، وما يجهر فيها وما يخافت، برقم 756، ومسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، برقم 394. (¬2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب، برقم 823، والترمذي، كتاب الصلاة، باب القراءة خلف الإمام، برقم 311،وأحمد،5/ 322، وابن حبان في الإحسان،3/ 137، برقم 1782،قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير: ((وصححه أبو داود والدارقطني والترمذي، وابن حبان والحاكم والبيهقي،1/ 231)). (¬3) أحمد في المسند، 5/ 410،قال ابن حجر في التلخيص الحبير، 1/ 231: ((إسناده حسن)). (¬4) البخاري، كتاب الأذان، بابٌ: إذا ركع دون الصف، برقم 783.

10 - يقول بعد الانتهاء من قراءة الفاتحة: آمين

وتسقط عن المأموم مع السهو والجهل (¬1). 10 - يقول بعد الانتهاء من قراءة الفاتحة: ((آمين)) يجهر بها في الجهرية، ويُسرُّ في السّرية، [ومعناها: اللهم استجب]؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من قراءة أمّ القرآن رفع صوته وقال: ((آمين)) (¬2)؛ ولحديثه - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا أمَّن الإمام فأمّنوا؛ فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه)) (¬3)؛ ولحديثه - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقولوا: مين؛ فإنه من وافق قوله قول الملائكة غُفر له ما تقدَّم من ذنبه)) (¬4). ومن لم يستطعْ قراءة الفاتحة وعجز عنها قرأ غيرها مما تيسَّر من القرآن، فإن لم يكن عنده شيء قال: ((سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم))؛ لحديث عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئًا، فعلّمْني ما يجزئني منه، فقال: ((قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)) (¬5). ¬

(¬1) سمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله أثناء تقريره على شروط الصلاة وأركانها للإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يذكر أن الفاتحة ركن في الصلاة في حق الإمام والمنفرد، أما المأموم فهي واجبة في حقه تسقط مع السهو والجهل، وإذا سبقه الإمام فوجده راكعًا، لحديث أبي بكرة ولم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بقضاء الركعة. (¬2) الدارقطني في سننه، وحسّنه،1/ 311،والحاكم في المستدرك،1/ 223، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، ورواه البيهقي وقال: حسن صحيح، 2/ 57. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب جهر الإمام بالتأمين، برقم 780، ومسلم، كتاب الصلاة، باب التسميع والتحميد والتأمين، برقم 410. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب جهر المأمومين بالتأمين برقم 782، ومسلم، كتاب الصلاة، باب التسميع والتحميد، برقم 410. (¬5) أحمد في المسند، 4/ 353، 356، 382، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يجزئ الأمي والأعجمي من القراءة، برقم 832، والنسائي، كتاب الافتتاح، باب ما يجزئ من القراءة لمن لا يحسن القرآن، برقم 924، وابن حبان، برقم 1805 - 1807، وصححه، والدارقطني وصححه، 1/ 313، والحاكم، 1/ 241، وصححه ووافقه الذهبي.

11ـ يقرأ سورة بعد الفاتحة، أو ما تيسر من القرآن

11ـ يقرأ سورة بعد الفاتحة، أو ما تيسر من القرآن في ركعتي الصبح، والجمعة، وفي الركعتين الأوليين: من صلاة الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، وفي جميع ركعات النفل؛ لحديث أبي قتادة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين يُطوّل في الأولى ويُقصّر في الثانية، ويُسمعُ الآية أحيانًا، وكان يقرأ في العصر بفاتحة الكتاب وسورتين، وكان يُطوّل في الأولى، وكان يُطوّل في الركعة الأولى من صلاة الصبح ويُقصّر في الثانية)) (¬1). وفي لفظ: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الركعتين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة سورة، ويسمعنا الآية أحيانًا)) (¬2)، وأما صلاة الظهر خاصة فقد ثبت ما يدل على أنه ربما قرأ في الركعتين الأخريين زيادة مع سورة الفاتحة، فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: ((كنا نحزر (¬3) قيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظهر والعصر، فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر قراءة {الم، تَنزِيلُ} السجدة، وحزرنا قيامه في الأخريين قدر النصف من ذلك، وحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه من الأخريين من الظهر، وفي الأخريين على النصف من ذلك)). وفي لفظ: ((كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية [في كل ركعة] أو قال: نصف ذلك، وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر قراءة خمس عشرة آية، وفي الأخريين قدر نصف ذلك)) (¬4).وهذا الحديث يدل على أنه ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب القراءة في الظهر، برقم 759، واللفظ له، ومسلم، كتاب الصلاة، باب القراءة في الظهر والعصر، برقم 451. (¬2) البخاري، كتاب الأذان، باب القراءة في صلاة العصر، برقم 762. (¬3) نحزر: نقدر. انظر: المصباح المنير للفيومي، 1/ 133. (¬4) أخرجه مسلم، في كتاب الصلاة، باب القراءة في الظهر والعصر، برقم 452، وأحمد، 3/ 85، وما بين المعقوفين من مسند أحمد، 3/ 85.

- صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ أحيانًا بزيادة على الفاتحة في الركعتين الأخريين من الظهر (¬1). وعن سليمان بن يسار عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ما رأيت رجلاً أشبه صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فلان لإمام كان بالمدينة، قال سليمان بن يسار: فصليت خلفه فكان يطيل الأوليين من الظهر ويخفف الأخريين، ويخفف العصر، ويقرأ في الأوليين من المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في الأوليين من العشاء من وسط المفصل، ويقرأ في الغداة بطوال المفصل)) (¬2)، وربما طول النبي - صلى الله عليه وسلم - القراءة في صلاة الظهر أكثر مما تقدَّمَ؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: ((لقد كانت صلاة الظهر تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يتوضأ، ثم يأتي ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الركعة الأولى مما يُطوّلُها)) (¬3)، وثبت من حديث أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((كان يصلي الصبح وينصرف الرجل فيعرف جليسه، وكان يقرأ في الركعتين أو إحداهما ما بين الستين إلى المائة)) (¬4)، وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز -رحمه الله- يقول في القراءة في الصلوات الخمس: ((الأفضل في الفجر من طوال المفصل (¬5)، وفي الظهر والعصر والعشاء من أواسطه، وفي المغرب من قصاره؛ لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأغلب، ولا بأس أن يقرأ من قصاره في الصبح في السفر ¬

(¬1) انظر: نيل الأوطار للشوكاني، 1/ 802. (¬2) النسائي بنحوه، كتاب الافتتاح، باب القراءة في المغرب بقصار المفصل، برقم 983، وأحمد واللفظ له، 2/ 329،وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في فتح الباري وبلوغ المرام، انظر: نيل الأوطار، 1/ 813، وصحح إسناده الإمام ابن باز أثناء شرح الروض المربع، 2/ 34، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 1/ 212، برقم 939. (¬3) مسلم، كتاب الصلاة، باب القراءة في الظهر والعصر، برقم 454. (¬4) متفق عليه: البخاري، برقم 547، ومسلم، برقم 647، وتقدم تخريجه. (¬5) حزب المفصل من سورة ق إلى سورة الناس، وطواله من ق إلى عم، وأواسطه منها إلى الضحى، والقصار إلى الآخر: انظر: حاشية الروض المربع لابن القاسم،2/ 34، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير، قال في سورة ق: ((هي أول الحزب المفصل على الصحيح وقيل: من الحجرات، 4/ 221.

والمرض، لكن الأفضل ما تقدم؛ لحديث سليمان ابن يسار عن أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -)) (¬2). وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله - في قراءته - صلى الله عليه وسلم - بعد الفاتحة: ((فإذا فرغ من الفاتحة أخذ في سورة غيرها، وكان يطيلها تارة، ويخففها لعارض من سفر أو غيره، ويتوسط فيها غالبًا)) (¬3). قلت: الأفضل في ذلك مراعاة فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في جميع الأوقات، والأحوال، والأزمان (¬4). ¬

(¬1) النسائي، برقم 983، وأحمد، 2/ 329، وتقدم تخريجه. (¬2) سمعته منه أثناء شرحه على الروض المربع، 2/ 34. (¬3) زاد المعاد في هدي خير العباد، 1/ 209. (¬4) فقد ثبت غير ما تقدم على النحو الآتي: 1 - قرأ في صلاة المغرب بالمرسلات [البخاري، برقم 763، 4429، ومسلم، برقم 462] والأعراف [البخاري، برقم 764] والطور [البخاري، برقم 765، 3050، 4023، 4854، ومسلم، برقم 463] والدخان [النسائي، برقم 988،قال الأرناؤوط في تحقيقه لزاد المعاد،1/ 211: ((ورجاله ثقات وسنده حسن] وقرأ بقصار المفصل [النسائي، برقم 983،وذكر الألباني أن الطبراني في الكبير أخرج بإسناد صحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ بالأنفال في الركعتين [صفة الصلاة، ص115]. 2 - وأما في العشاء، فنقل أبو هريرة: إذا السماء انشقت [البخاري، برقم 766 - 768] والتين والزيتون من حديث البراء [البخاري، برقم 767، 769، ومسلم، برقم 464] ووقت لمعاذ بسبح اسم ربك الأعلى، واقرأ باسم ربك، والليل إذا يغشى، والشمس وضحاها، والضحى، ونحو ذلك [مسلم، برقم 465]. 3 - وأما في الفجر فكان يقرأ في الركعتين أو إحداهما ما بين الستين إلى المائة [البخاري، برقم 547، ومسلم، 647] وتقدم تخريجه، وقرأ المؤمنون [البخاري، كتاب الأذان، باب الجمع بين سورتين في ركعة، والقراءة بالخواتيم، وبسورة قبل سورة، وبأول سورة، ومسلم، برقم 455] وقرأ بسورة ق والقرآن المجيد [مسلم، برقم 457 - 458] وبسورة التكوير [مسلم، برقم 456] وبسورة الروم [أحمد، 3/ 472، والنسائي، 2/ 156، وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره: ((وهذا إسناد حسن ومتن حسن)) وحسنه الأرناؤوط في تحقيقه لزاد المعاد، 1/ 209] وقرأ بسورة إذا زلزلت في الركعتين كلتيهما [أبو داود، برقم 816، وحسّنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 154].وقرأ بسورة الطور في صلاة الصبح عند طواف الوداع لحجة الوداع [البخاري ... تعليقًا].وقرأ بالمعوذتين [أخرجه النسائي من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه -،برقم 952،وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، برقم 912]،وقرأ بالواقعة ونحوها من السور [صحيح ابن خزيمة، 1/ 265،برقم 531،وصحح إسناده الألباني في صفة الصلاة، ص106].وكان يقرأ في فجر الجمعة: الم تنزيل السجدة، وهل أتى على الإنسان [البخاري، برقم 891،ومسلم، برقم 879]. 4 - أما في صلاة الظهر فكان يُطوّلُها أحيانًا لما تقدم فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يتوضأ ثم يدرك الركعة الأولى [مسلم، 454 وتقدم] وأحيانًا يقرأ بقدر قراءة ((ألم* تنزيل)) السجدة في الركعتين الأوليين، وفي الركعتين الأخريين قدر النصف من ذلك، وأحياناً يقرأ في الركعتين الأوليين بقدر ثلاثين آية في كل ركعة، والركعتين الأخريين بقدر خمس عشرة آية في كل ركعة [مسلم، برقم 452، وأحمد، 3/ 85]، وقرأ الليل إذا يغشى [مسلم، برقم 459]، وسبح اسم ربك الأعلى [مسلم، برقم 460]، وكان يقرأ بالسماء والطارق، والسماء ذات البروج، ونحوهما من السور [أبو داود، برقم 805، والترمذي، برقم 307، والنسائي، 2/ 166، برقم 979، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 212، برقم 935] وفي صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقون [مسلم، برقم 879]، أو بسبح والغاشية [مسلم، برقم 878]، أو بالجمعة والغاشية [مسلم، برقم 63 (878)]. 5 - أما صلاة العصر فقد تقدم أنه قرأ في الأوليين بقدر نصف ((ألم* تنزيل)) السجدة، وفي لفظ أنه قرأ بقدر خمس عشرة آية في كل ركعة [مسلم، برقم 452، وأحمد، 3/ 85. وتقدم] وكان يقرأ بالسماء والطارق، والسماء ذات البروج ونحوهما من السور [أبو داود، برقم 805 والترمذي، برقم 307، والنسائي، برقم 979، وتقدم] وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله - ((والعصر فعلى النصف من قراءة الظهر إذا طالت وبقدها إذا قصرت)) [زاد المعاد، 1/ 210]. 6 - أما الأعياد فكان - صلى الله عليه وسلم - يقرأ فيها بـ ((ق)) و ((اقتربت)) [مسلم، برقم 891]، أو بسبح والغاشية [مسلم، برقم 878]، فهذه سنته - صلى الله عليه وسلم -، ومع ذلك فقد أمر بالتخفيف؛ لأن في الناس: [((الصغير، والكبير، والضعيف، والمريض، وذا الحاجة))] [مسلم، برقم 466] ((فإذا صلى وحده فليصلّ كيف شاء)) [مسلم، برقم 467] وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لأدخل في الصلاة أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأخفف من شدة وجدِ أمه)) [مسلم، برقم 470]، فالتخفيف أمر نسبي يرجع إلى ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وواظب عليه لا إلى شهوة المأمومين، وهديه الذي كان واظب عليه هو الحاكم على كل ما تنازع فيه المتنازعون، ويدل عليه ما رواه النسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بالتخفيف ويؤمُّنا بالصافات)) [النسائي، 2/ 95، برقم 826]، وصححه الأرناؤوط في تحقيق زاد المعاد، 1/ 214، قال ابن القيم - رحمه الله -: ((فالقراءة بالصافات من التخفيف الذي أمر به والله أعلم)) 1/ 214. ((وكان يُطوّل الأوليين ويقصر الأخريين من كل صلاة)) [البخاري، 770، ومسلم، 453]. عن السعدي عن أبيه أو عن عمه قال: رمقتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته، فكان يتمكن في ركوعه وسجوده قدر ما يقول: ((سبحان الله وبحمده ثلاثاً)). أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب مقدار الركوع والسجود، برقم 885، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 250. وعن سعيد بن جبير قال: سمعت أنس بن مالك يقول: ما صليت وراء أحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا الفتى - يعني عمر بن عبد العزيز - قال: فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات، وفي سجوده عشر تسبيحات. سنن أبي داود، برقم 896، والنسائي، برقم 1135، 2/ 224، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود، ص 72. وأحمد، برقم 1261، 20/ 100، وضعفه المحققون، لكن قول أنس: ((ما رأيت أحداً أشبه صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا الغلام - يعني عمر بن عبد العزيز)) روي بأسانيد يرتقي بعضها إلى الصحة. قاله المحققون لمسند أحمد، 20/ 100، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 322 ((ما صليت وراء إمام أشبه صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إمامكم هذا)) قال زيد بن أسلم، وكان عمر بن عبد العزيز يتم الركوع والسجود، ويخفف القيام والقعود.

12ـ إذا فرغ من القراءة كلها سكت سكتة

12ـ إذا فرغ من القراءة كلها سكت سكتة بقدر ما يترادُّ إليه نَفَسُه حتى لا يصل القراءة بالركوع، بخلاف السكتة الأولى قبل قراءة الفاتحة؛ فإنه يقرأ فيها دعاء الاستفتاح فتكون بقدره؛ لحديث الحسن عن سمرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((أنه كان يسكت سكتتين: إذا استفتح الصلاة وإذا فرغ من القراءة كلها)) (¬1). قال الترمذي: ((وهو قول غير واحد من أهل العلم يستحبون للإمام أن يسكت بعدما يفتتح الصلاة، وبعد الفراغ من القراءة وبه يقول أحمد وإسحاق وأصحابنا)) (¬2). 13 - يركع مكبرًا رافعًا يديه إلى حذو منكبيه، أو أذنيه، جاعلاً رأسه حيال ظهره، واضعًا يديه على ركبتيه، مفرقًا أصابع يديه؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} (¬3)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة المسيء صلاته وفيه: ((ثم اركع حتى تطمئنَّ راكعًا)) (¬4)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب السكتة عند الافتتاح، برقم 778، والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في السكتتين في الصلاة، برقم 251، وحسنه، وأحمد في المسند، 5/ 23، وقال الترمذي: قال محمد: قال علي بن عبد الله: ((حديث الحسن عن سمرة حديث صحيح وقد سمع منه)) 1/ 342، وقال الإمام ابن القيم بعد أن ذكر الخلاف في موضع السكتتين هل أحدهما بعد ولا الضالين أم أنها بعد الفراغ من القراءة كلها، أم أنها ثلاث سكتات؟ قال: ((وقد صح حديث السكتتين من رواية سمرة، وأبي بن كعب، وعمران بن حصين)) زاد المعاد، 1/ 208، وقال أحمد محمد شاكر في تحقيقه لسنن الترمذي، 1/ 143: ((وفي سماع الحسن عن سمرة خلاف طويل قديم والصحيح أنه سمع منه كما رجَّحه ابن المديني، والبخاري، والترمذي، والحاكم وغيرهم)). (¬2) انظر: فتاوى ابن تيمية 22/ 338 وقال: ((لا يُسْتَحَبُّ إلا سكتتان)) وذكر أن الأولى للاستفتاح، والثانية عند الفراغ من القراءة للاستراحة والفصل بينها وبين الركوع، وأما السكوت عقب الفاتحة فلا يَسْتَحبّه أحمد والجمهور. وذكر الإمام ابن باز في مجموع فتاويه،11/ 84 أن الثابت سكتتان: الأولى تسمى سكتة الاستفتاح، والثانية عند آخر القراءة قبل الركوع، وأما الثالثة بعد الفاتحة فالحديث فيها ضعيف فالأفضل تركها. (¬3) سورة الحج، الآية: 77. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها، برقم 757، ومسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، برقم 397.

قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع)) (¬1)، وفي لفظ: ((إنه كان يصلي بهم فيكبر كلما خفض ورفع فإذا انصرف قال: إني لأشبهكم صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (¬2)؛ ولحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع ... )) (¬3)،وفي حديث مالك بن الحويرث - رضي الله عنه -: ((كان إذا كبر رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه وإذا ركع رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه)) (¬4)؛ ولحديث عائشة رضي الله عنها: ((وكان إذا ركع لم يشخص رأسه (¬5) ولم يصوّبه ولكن بين ذلك)) (¬6)؛ ولحديث أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه - أنه قال لنفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا كنت أحفظكم لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رأيته إذا كبر جعل يديه حذو منكبيه، وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه [وفرج بين أصابعه] ثم هصر (¬7) ظهره ... )) (¬8). وفي لفظ: ((ثم ركع فوضع يديه على ركبتيه، كأنه قابضٌ عليهما، ووتَّر (¬9) يديه ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب التكبير إذا قام من السجود، برقم 789، ومسلم، كتاب الصلاة، باب إثبات التكبير في كل خفض ورفع إلا رفعه من الركوع فيقول فيه: ((سمع الله لمن حمده)) برقم 392. (¬2) البخاري، برقم 785، ومسلم، برقم 392، وتقدم تخريجه. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم 735، ومسلم، برقم 390، وتقدم تخريجه. (¬4) متفق عليه: البخاري، برقم 737، ومسلم، برقم 391، وتقدم تخريجه. (¬5) لم يشخص رأسه: الإشخاص هو الرفع، ولم يصوّبه: أي لم يخفضه خفضًا بليغًا ولكن بين ذلك: أي بين الرفع والخفض. (¬6) مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يجمع صفة الصلاة وما يفتتح به ويختم به، وصفة الركوع والاعتدال منه ... برقم 498. (¬7) هصر ظهره: أي ثناه إلى الأرض، النهاية، 5/ 264. (¬8) البخاري، كتاب الأذان، باب سنة الجلوس في التشهد، برقم 828، وما بين المعقوفين لأبي داود في سننه، كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة، برقم 731 ورقم 730 وفي أوله عن محمد بن عمرو بن عطاء قال سمعت أبا حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصححهما الألباني في صحيح سنن أبي داود،1/ 141. (¬9) ووتَّر يديه: أي عوّجهما من التوتير وهو جعل الوَتَر على القوس، فتجافى عن جنبيه: أي نحَّى مرفقيه عن جنبيه حتى كأن يديه على الوتر وجنبه كالقوس. عون المعبود،2/ 429.

14 - يقول في الركوع: سبحان ربي العظيم

فتجافى عن جنبيه .. )) (¬1).وفي حديث رفاعة بن رافع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وإذا ركعت فضع راحتيك على ركبتيك وامدد ظهرك)) (¬2)،وعن وابصة بن معبد - رضي الله عنه - قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي، فكان إذا ركع سوَّى ظهره حتى لو صُبَّ عليه الماء لاستقرّ)) (¬3). ويطمئن في ركوعه؛ لقول حذيفة - رضي الله عنه - لرجلٍ رآه لا يتمُّ الركوع والسجود، فقال له: ((ما صلَّيتَ، ولو مُتَّ مُتَّ على غير الفطرة التي فطر الله [عليها] محمدًا - صلى الله عليه وسلم -)) (¬4)، وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: ((كان ركوع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسجوده، وقعوده بين السجدتين، وإذا رفع رأسه من الركوع ما خلا القيام والقعود قريبًا من السواء)) (¬5). 14 - يقول في الركوع: ((سبحان ربي العظيم)) والأفضل [ثلاثًا]؛ لحديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان يقول في ركوعه: ((سبحان ربي العظيم)) وفي سجوده ((سبحان ربي الأعلى)) (¬6)، وفي رواية: ((سبحان ربي العظيم)) ثلاث مرات، وإذا سجد قال: ((سبحان ربي ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة، برقم 734، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 141. ورواه الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء أنه يجافي يديه عن جنبيه في الركوع، برقم 260، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 83. (¬2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، برقم 859، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، برقم 765، 1/ 162. (¬3) سنن ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، برقم 872،وله شاهد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد،2/ 123،وعزاه للطبراني في الكبير وأبي يعلى وقال رجاله موثقون. (¬4) البخاري، كتاب الأذان، باب إذا لم يتم الركوع، برقم 791، ورواه برقم 389، و808، وما بين المعقوفين للكشميهني كما في فتح الباري، 2/ 275. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، بابٌ: وحد إتمام الركوع والاعتدال فيه والطمأنينة، برقم 792، وباب المكث بين السجدتين، برقم 820،ورواه برقم 801، و820،ومسلم، كتاب الصلاة، باب اعتدال أركان الصلاة وتخفيفهما في تمام برقم 471. (¬6) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، برقم 772، وأبو داود بلفظه في كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، برقم 871.

الأعلى)) ثلاث مرات (¬1)، وإن شاء زاد على ذلك ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن ذلك ما يأتي: أولاً: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: ((سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي)) يتأوَّل القرآن (¬2). ثانيًا: وقالت رضي الله عنها: كان - صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه وسجوده: ((سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، ربُّ الملائكة والروح)) (¬3). ثالثًا: وعن عوف بن مالك الأشجعي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه: ((سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة))، ثم سجد بقدر قيامه، ثم قال في سجوده مثل ذلك (¬4). رابعًا: وفي حديث علي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ركع قال: ((اللهم لك ركعتُ، وبك آمنتُ، ولك أسلمتُ، خشع لك سمعي وبصري ومُخّي وعظمي وعَصَبي)) (¬5). ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قراءة القرآن في الركوع والسجود فقال: ((ألا وإني نُهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا، وأما الركوع فعظّموا فيه الرب - عز وجل -، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقَمِنٌ (¬6) أن يُستجاب لكم)) (¬7). ¬

(¬1) ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، برقم 888، وصحح الألباني هذه الزيادة لشواهدها الكثيرة عن جماعة من الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلاً وقولاً. انظر: إرواء الغليل،2/ 39 - 40، وصفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - للألباني، ص136، وصحيح سنن ابن ماجه، 1/ 147. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب الدعاء في الركوع، برقم 794، 817، ومسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم 484. (¬3) مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم 487. (¬4) أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، برقم 883، والنسائي، كتاب الإمامة، باب نوع آخر من الذكر في الركوع، برقم 1049، وصححه الألباني، في صحيح سنن أبي داود، 1/ 166. (¬5) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل، برقم 771. (¬6) قمن: أي حقيق وجدير. (¬7) مسلم، كتاب الصلاة، باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، برقم 479.

15 - يرفع رأسه من الركوع

15 - يرفع رأسه من الركوع (¬1) رافعًا يديه حذو منكبيه أو أذنيه (¬2) قائلاً: سمع الله لمن حمده - إذا كان إمامًا أو منفردًا - ويقولان بعد قيامهما: ((ربنا ولك الحمد))؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: ((سمع الله لمن حمده)) قال: ((اللهم ربنا ولك الحمد)) (¬3). أما إن كان مأمومًا فإنه يقول عند الرفع: ((ربنا ولك الحمد))؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربَّنا لك الحمد؛ فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)) (¬4). وقوله: ((اللهم ربَّنا لك الحمد)) ثبت لها أربعة أنواع: النوع الأول: ((ربنا لك الحمد)) لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -:كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركوع، ثم يقول وهو قائم: ((ربنا لك الحمد)) (¬5). النوع الثاني: ((ربنا ولك الحمد))؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إنما جُعل الإمام ليُؤتمَّ به، فإذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد)) (¬6). ¬

(¬1) لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث المسيء صلاته: ((ثم ارفع حتى تعدل قائمًا)) البخاري، برقم 757، ومسلم، برقم 1397. (¬2) لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما البخاري، برقم 735،ومسلم، برقم 390، ولحديث مالك بن الحويرث - رضي الله عنه -،البخاري، برقم 737،ومسلم، برقم 391،وتقدم تخريجهما. (¬3) البخاري، كتاب الأذان، باب ما يقول الإمام ومن خلفه إذا رفع رأسه من الركوع، برقم 795. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب فضل اللهم ربنا لك الحمد، برقم 796، ومسلم، كتاب الصلاة، باب التسميع والتحميد والتأمين، برقم 409. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب التكبير إذا قام من السجود، برقم 789، ومسلم، كتاب الصلاة، باب إثبات التكبير في كل خفض ورفع في الصلاة إلا رفعه من الركوع، برقم 392. (¬6) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة، برقم 732، ومسلم، كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، برقم 411.

النوع الثالث: ((اللهم ربَّنا لك الحمد))؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربَّنا لك الحمد، فإنه من وافق قولُه قولَ الملائكة غُفر له ما تقدَّم من ذنبه)) (¬1). النوع الرابع: ((اللهم ربَّنا ولك الحمد))؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: سمع الله لمن حمده، قال: ((اللهم ربنا ولك الحمد)) (¬2)، فالأفضل أن يقول هذا تارة، وهذا تارة، وهذا تارة، وهذا تارة؛ لثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -،والأفضل للإمام والمنفرد والمأموم أن يزيدوا بعد ((ربنا ولك الحمد)) فيقولوا: ((حمدًا كثيرًا طيبًا مُباركًا فيه)) (¬3) ((ملء السموات، وملء الأرض، [وما بينهما] وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحقّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)) ((اللهم طهّرْني بالثلج، والبَرَدِ، والماء البارد، اللهم طهّرْني من الذنوب والخطايا كما يُنَقَّى الثوبُ الأبيضُ من الوسخ (¬4))) (¬5) ((لربي الحمد)) يكررها؛ لحديث حذيفة - رضي الله عنه - يرفعه: ((ثم رفع رأسه من الركوع فكان قيامه نحوًا من ركوعه يقول: (لربي الحمد)) (¬6). والأفضل للإمام والمنفرد والمأموم أن يضع كل منهم يده اليمنى على ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 796، ومسلم، برقم 409، وتقدم تخريجه. (¬2) البخاري، برقم 95، وتقدم تخريجه. (¬3) لحديث رفاعة بن رافع - رضي الله عنه - قال: كنا يومًا نصلي وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده، قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فلما انصرف قال من المتكلم؟ قال: أنا. قال: ((رأيت بضعة وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيهم يكتبها أول)) البخاري، كتاب الأذان، بابٌ حدثنا معاذ بن فضالة، برقم 799. (¬4) وفي لفظ: ((من الدرن))، وفي لفظ: ((من الدنس)). (¬5) لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض. الحديث أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع، برقم 477 وقوله ((وما بينهما)) زيادة لابن عباس رضي الله عنهما في صحيح مسلم، برقم 478. (¬6) أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، برقم 874، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 166.

16ـ يسجد مكبرا، واضعا ركبتيه قبل يديه إذا تيسر ذلك

اليسرى على صدره بعد الرفع من الركوع كما فعل في قيامه قبل الركوع؛ لحديث وائل - رضي الله عنه - قال: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان قائمًا في الصلاة قبض بيمينه على شماله)) (¬1). ويطمئنُّ في قيامه بعد الرفع من الركوع، فعن ثابت عن أنس - رضي الله عنه - قال: إني لا آلو أن أصلّيَ بكم كما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بنا، قال: فكان أنس يصنع شيئًا لا أراكم تصنعونه، كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائمًا، حتى يقول القائل قد نسي، وإذا رفع رأسه من السجدة مكث حتى يقول القائل قد نسي (¬2). ويقول في هذا الركن الأذكارَ المشروعةَ سوى ما تقدم إذا شاء (¬3). 16ـ يسجد مُكبّرًا، واضعًا ركبتيه قبل يديه إذا تيسر ذلك فإن شقَّ عليه قدّم يديه قبل ركبتيه، لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬4)؛ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة المسيء صلاته: ((ثم اسجدْ حتى تطمئنَّ ساجدًا)) (¬5)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وفيه: ((ثم يُكبّر حين يهوي ساجدًا)) (¬6)؛ ولحديث وائل بن حُجْرٍ - رضي الله عنه - قال: ((رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه)) (¬7). ويستقبل بأصابع يديه ورجليه ¬

(¬1) النسائي، برقم 887 وتقدم تخريجه. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب المكث بين السجدتين، برقم 821، ومسلم، كتاب الصلاة، باب اعتدال أركان الصلاة وتخفيفها في تمام برقم 472. (¬3) هناك أذكار أخرى لم تذكر، انظر: صحيح مسلم، برقم 176 برواياته، وسنن أبي داود، برقم 874، وصفة الصلاة للألباني، ص141 - 144. (¬4) سورة الحج، الآية: 77. (¬5) البخاري، برقم 757، وتقدم تخريجه. (¬6) متفق عليه: البخاري، برقم 789، ومسلم، برقم 392، وتقدم تخريجه. (¬7) أبو داود، كتاب الصلاة، باب كيف يضع ركبتيه قبل يديه، برقم 838، و839، والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في وضع الركبتين قبل اليدين، برقم 268، والنسائي، كتاب الافتتاح، باب أول ما يصل من الإنسان في سجوده، برقم 1089، وسنن ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، برقم 882، وابن خزيمة، برقم 626، والحاكم، 1/ 226، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: ((هذا هو الصحيح الذي رواه شريك عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر ... )) وأما حديث أبي هريرة يرفعه: ((إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه)) [رواه أبو داود، برقم 840، والنسائي، برقم 1091، والترمذي، برقم 269، وأحمد، 2/ 381]، فالحديث والله أعلم قد وقع فيه وَهْم من بعض الرواة؛ فإن أوله يخالف آخره؛ فإنه إذا وضع يديه قبل ركبتيه فقد برك كما يبرك البعير؛ فإن البعير إنما يضع يديه أولاً)) زاد المعاد، 1/ 223 - 231، وسمعت الإمام العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - أثناء شرحه لبلوغ المرام، الحديث رقم 330 يقول: ((كثر الكلام في هذا والأرجح ما قاله ابن القيم، وهو تقديم الركبتين؛ لحديث وائل بن حجر ويتأيد بأول حديث أبي هريرة، فلو قدم يديه لوافق البعير، ولعله وقع وَهْم فقال الراوي: وليضع يديه قبل ركبتيه، وأن أصله: وليضع ركبتيه قبل يديه وهذا هو أظهر وأقرب ... وهو من باب السنن وعليه كثير من الصحابة، وهو قول الأكثرين)). واختار هذا القول العلامة ابن عثيمين في الشرح الممتع، 3/ 154 - 159، وانظر: فتاوى ابن تيمية،22/ 449.

القبلة؛ لحديث أبي حُمَيد الساعدي - رضي الله عنه - وفيه: ((فإذا سجد وضع يديه غير مفترشٍ ولا قابضهما، واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة)) (¬1)، ويضمُّ أصابعَ يديه ويمدّها؛ لحديث علقمة بن واثلة عن أبيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سجد ضمّ أصابعه (¬2)؛ ولحديث وائل - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((كان إذا ركع فرَّج بين أصابعه وإذا سجد ضمّ أصابعه)) (¬3)؛ ولحديث أبي حُميد، وفيه: ((واستقبل بأطراف أصابعه القبلة)) (¬4)، ويفتح أصابع رجليه؛ لحديث أبي حميد وفيه: ((ثم جافى عضدَيْه عن جنبيه وفتح أصابع رجليه)) (¬5)، ويكون سجوده على أعضائه السبعة: الجبهة مع الأنف، واليدين، والركبتين، وبطون أصابع الرجلين؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة - وأشار بيده على أنفه ¬

(¬1) البخاري، كتاب الأذان، باب سنة الجلوس في التشهد، برقم 828. (¬2) صحيح ابن خزيمة، كتاب الصلاة، باب ضم أصابع اليدين في السجود، برقم 642. (¬3) أخرجه الحاكم، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، 1/ 224. (¬4) صحيح ابن خزيمة، كتاب الصلاة، باب استقبال أطراف أصابع اليدين من القبلة في السجود، برقم 643. (¬5) ابن خزيمة في صحيحه، كتاب الصلاة، باب فتح أصابع الرجلين في السجود والاستقبال بأطرافهن القبلة، برقم 651، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة، برقم 730.

- واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين، ولا نكفُت الثياب والشعر)) وفي لفظ لمسلم: ((ولا أكفّ ثوبًا ولا شعرًا)) (¬1)، ويجافي عضديه عن جنبيه؛ لحديث عبد الله بن مالك بن بُحينة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((كان إذا صلَّى فرَّج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه)) (¬2) ويجافي بطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه، ويفرّج بين فخذيه، لحديث أبي حميد - رضي الله عنه - وفيه: ((وإذا سجد فرَّج بين فخذيه، غير حامل بطنه على شيء من فخذيه)) (¬3)، ويجعل كفيه حذو منكبيه؛ لحديث أبي حُميد - رضي الله عنه - وفيه: ((ثم سجد فأمكن أنفه وجبهته، ونحَّى يديه عن جنبيه ووضع كفيه حذو منكبيه)) (¬4) أو يجعلهما حذو أذنيه؛ لحديث وائل بن حجر - رضي الله عنه - وفيه: ((ثم سجد فجعل كفيه بحذاء أذنيه)) (¬5)، وهو مثل حديث البراء عندما سئل: أين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يضع وجهه إذا سجد؟ فقال: ((بين كفيه)) (¬6)، ويرفع ذراعيه عن الأرض؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اعتدلوا في السجود، ولا يبسُطْ أحدُكم ذراعيه انبساطَ الكلب)) (¬7)؛ ولحديث البراء ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب السجود على الأنف، برقم 812، ومسلم، كتاب الصلاة، باب أعضاء السجود والنهي عن كف الشعر والثوب وعقص الرأس في الصلاة، برقم 490. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، بابٌ: يبدي ضبعيه ويجافي في السجود، برقم 807، مسلم، كتاب الصلاة، باب الاعتدال في السجود، ووضع الكفين على الأرض ورفع المرفقين عن الجنبين، ورفع البطن عن الفخذين في السجود، برقم 495. (¬3) أبو داود، كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة، برقم 735. (¬4) أبو داود، كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة، برقم 734، والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في السجود على الجبهة والأنف، برقم 270،وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 242. (¬5) النسائي، كتاب الافتتاح، باب موضع اليمين من الشمال في الصلاة، برقم 889، صححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 194. (¬6) الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء أين يضع الرجل وجهه إذا سجد، برقم 271، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 86. (¬7) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب لا يفترش ذراعيه في السجود، برقم 822، ومسلم، كتاب الصلاة، باب الاعتدال في السجود، برقم 493.

17ـ يقول في السجود: سبحان ربي الأعلى

- رضي الله عنه - يرفعه: ((إذا سَجَدْتَ فضَعْ كفيك وارفعْ مرفقيك)) (¬1). ويضم قدميه؛ لحديث عائشة رضي الله عنها وفيه: ((فوجدته ساجدًا راصًّا عقبيه مستقبلاً بأطراف أصابعه القبلة)) (¬2)، وينصبهما؛ لحديث عائشة رضي الله عنها وفيه: ((فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدمه [وفي نسخة قدميه] وهو في المسجد، وهما منصوبتان)) (¬3). 17ـ يقول في السجود: ((سبحان ربي الأعلى)) والأفضل ثلاثًا؛ لحديث حذيفة - رضي الله عنه - (¬4) وإن شاء زاد على ذلك ما ثبت في الأحاديث الأخرى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن ذلك ما يأتي: أولاً: ((سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي)) لحديث عائشة رضي الله عنها (¬5). ثانيًا: ((سُبُّوحٌ، قُدُّوسٌ، ربُّ الملائكة والروح))؛ لحديث عائشة رضي الله عنها (¬6). ثالثًا: ((سبحان ذي الجبروت، والملكوت، والكبرياء، والعظمة)) (¬7). رابعًا: ((اللهم لك سجدتُ، وبك آمنتُ، ولك أسلمتُ، سجد وجهي للذي خلقه وصوَّره، وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين))؛ لحديث علي - رضي الله عنه - (¬8). خامسًا: ((اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من ¬

(¬1) مسلم، كتاب الصلاة، باب الاعتدال في السجود ووضع الكفين على الأرض ورفع المرفقين عن الجنبين ورفع البطن عن الفخذين في السجود، برقم 494. (¬2) صحيح ابن خزيمة، برقم 654،والبيهقي، 2/ 116، قال المحقق: إسناده صحيح. (¬3) مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم 486. (¬4) مسلم، برقم 772 وابن ماجه، برقم 888، وتقدم تخريجه. (¬5) متفق عليه: البخاري، برقم 794، ومسلم، برقم 484، وتقدم تخريجه. (¬6) مسلم، برقم 487، وتقدم تخريجه. (¬7) أبو داود، برقم 883، والنسائي، برقم 1049، وتقدم تخريجه. (¬8) مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، برقم 771.

سادسا: اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، وأوله وآخره، وعلانيته وسره

عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك))؛لحديث عائشة رضي الله عنها (¬1). سادسًا: ((اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقّه وجلّه، وأوّله وآخره، وعلانيته وسرّه))؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول ذلك في سجوده (¬2). ويكثر من الدعاء في السجود، ويسأل ربه من خير الدنيا والآخرة، سواء كانت الصلاة فرضًا أو نفلاً؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء)) (¬3)؛ ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما وفيه: ((أما الركوع فعظموا فيه الرب - عز وجل -، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمِنٌ أن يُستجاب لكم)) (¬4). 18 - يرفع رأسه من السجود مكبّرًا، ويعتدل جالسًا؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة المسيء صلاته، وفيه: ((ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا)) (¬5)؛ ولحديثه - رضي الله عنه - وفيه: ((ثم يكبر حين يرفع رأسه من السجود)) (¬6)، ويفرش قدمه اليسرى ويجلس عليها، وينصب اليمنى ويستقبل بأصابعه القبلة؛ لحديث عائشة رضي الله عنها وفيه: ((وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى)) (¬7)؛ ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((من سنة الصلاة أن تنصب القدم اليمنى واستقباله بأصابعه القبلة، والجلوس على اليسرى)) (¬8)، ويضع ¬

(¬1) مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم 486. (¬2) مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم 483. (¬3) مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم 482. (¬4) مسلم، برقم 479، وتقدم تخريجه. (¬5) البخاري، برقم 757، وتقدم تخريجه. (¬6) متفق عليه: البخاري، برقم 789، و803، ومسلم، برقم 396، وتقدم تخريجه. (¬7) مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يجمع صفة الصلاة، برقم 498. (¬8) النسائي، كتاب الافتتاح، باب الاستقبال بأطراف أصابع القدم القبلة عند القعود للتشهد، برقم 1158، وأبو داود في الصلاة، باب كيف الجلوس في التشهد، برقم 958، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 2/ 23.

أولا: الكف اليمنى على الفخذ اليمنى واليسرى على اليسرى

يديه على فخذيه؛ لحديث عبد الله بن الزبير عن أبيه رضي الله عنهما يرفعه، وفيه: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قعد يدعو، وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى)) (¬1)،أو يضع كفيه على ركبتيه؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يرفعه: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه)) (¬2)، أو يضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى ويلقم كفه اليسرى ركبته))؛ لحديث عبد الله بن الزبير عن أبيه رضي الله عنهما (¬3)، فعلى هذا حصل ثلاث صفات لوضع الكفين هي: أولاً: الكف اليمنى على الفخذ اليمنى واليسرى على اليسرى. ثانيًا: الكف اليمنى على الركبة اليمنى واليسرى على اليسرى. ثالثًا: الكف اليمنى على الفخذ اليمنى واليسرى على الفخذ اليسرى ويلقم كفه اليسرى ركبته (¬4). أما كيفية: وضع الكفين؛ فإنه يبسط يده اليسرى؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما يرفعه، وفيه: ((ويده اليسرى على ركبته باسطها عليها)) (¬5)، ويضع ذراعيه على فخذيه؛ لحديث وائل بن حجر - رضي الله عنه - يرفعه، وفيه: ((وضع ¬

(¬1) مسلم، كتاب المساجد، باب صفة الجلوس في الصلاة وكيفية وضع اليدين على الفخذين، برقم 113 - (579). (¬2) مسلم، كتاب المساجد، باب صفة الجلوس في الصلاة وكيفية وضع اليدين على الفخذين، برقم 114 - (580). (¬3) مسلم، برقم 113 - 579، وتقدم تخريجه في الحاشية التي قبل السابقة. (¬4) وسمعت سماحة الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه وضعهما على فخذيه، ووضعهما على ركبتيه، ووضعهما على فخذيه وأطراف أصابعه على ركبتيه)) سمعته منه أثناء شرحه للروض المربع بالجامع الكبير في فجر الأحد 3/ 8/1419هـ. (¬5) النسائي، كتاب السهو، باب بسط اليسرى على الركبة، برقم 1269، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 272.

ذراعيه على فخذيه)) (¬1)، أما اليد اليمنى فيقبض منها الخنصر والبنصر ويحلّق الإبهام مع الوسطى، ويجعل حد مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى؛ لحديث وائل بن حجر - رضي الله عنه - يرفعه، وفيه: ((فاستقبل القبلة فكبر فرفع يديه حتى حاذتا أذنيه، ثم أخذ شماله بيمينه، فلما أراد أن يركع رفعهما مثل ذلك ووضع يديه على ركبتيه، فلما رفع رأسه من الركوع رفعهما مثل ذلك، فلما سجد وضع رأسه بذلك المنزل من يديه، ثم جلس فافترش رجله اليسرى ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى وحدّ مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، وقبض اثنتين وحلَّق حلقة - ورأيته يقول: هكذا - وأشار بشر بالسبابة من اليمنى وحلق الإبهام والوسطى)) (¬2)، وهذا اختيار الإمام ابن القيم-رحمه الله- (¬3) أن المصلي يفعل هذه الصفة بين السجدتين (¬4). ¬

(¬1) النسائي، كتاب السهو، باب موضع الذراعين، برقم 1264، وصحح إسناده الألباني في صحيح سنن النسائي، 1/ 270. (¬2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب رفع اليدين في الصلاة، برقم 726،ورقم 957، والنسائي، كتاب السهو، باب موضع المرفقين، برقم 1265،وأحمد في المسند،4/ 318، وابن حبان ((موارد)) برقم 485،وابن خزيمة في صحيحه،1/ 354،برقم 714، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود،1/ 140 و180،وصحيح سنن النسائي،1/ 270،وأخرجه أيضًا ابن ماجه، تاب إقامة الصلاة والسنة فيها، برقم 912. (¬3) زاد المعاد، 1/ 238. (¬4) قال العلامة ابن عثيمين - رحمه الله -: ((ولم يرد في السنة لا في حديث صحيح ولا ضعيف ولا حسن أن اليد اليمنى تكون مبسوطة على الرجل اليمنى، وإنما ورد أنها تقبض: يقبض الخنصر والبنصر ويحلق الإبهام مع الوسطى ... إذا جلس في الصلاة [مسلم برقم 580]، وفي بعض الألفاظ إذا جلس في التشهد [مسلم، برقم 580]، وكلاهما في صحيح مسلم، فنحن إذا أخذنا كلمة ((إذا جلس في الصلاة)) قلنا: هذا عام في جميع الجلسات، وقوله: ((إذا جلس في التشهد)) في بعض الألفاظ لا يدل على التخصيص؛ لأن لدينا قاعدة ذكرها الأصوليون، وممن كان يذكرها دائمًا الشوكاني في نيل الأوطار، والشنقيطي في أضواء البيان: أنه إذا ذكر بعض أفراد العام بحكم يطابق العام فإن ذلك لا يدل على التخصيص، إنما التخصيص أن يذكر بعض أفراد العام بحكم يخالف العام)) الشرح الممتع، 3/ 178. قلت: وسمعت الإمام عبد العزيز ابن باز يذكر أن السبابة يحركها عند الدعاء فقط أما في غير الدعاء فلا يحركها، وبين السجدتين يبسطها ولا يشير، أما رواية أنه كان يشير بين السجدتين فالأقرب والله أعلم أنها وَهْم؛ لأن الأحاديث الصحيحة أنه كان يضعها على فخذه أو على ركبته ممدودة، ولو أنه أشار بين السجدتين لحديث وائل لا حرج، لكن الأقرب عندي أنه وَهْم؛ لأن الأحاديث الصحيحة فيها البسط في التشهد، أما بين السجدتين فيبسطها أيضًا ولا يشير أما في التشهد فيبسطها ويشير، وفي النسائي حديث فيه بعض الضعف أنه كان يبسطها لكن بانحناءٍ قليل والأمر في هذا سهل)) سمعته منه - رحمه الله - أثناء شرحه لبلوغ المرام، الحديث رقم 282.

19 - يقول بين السجدتين: رب اغفر لي، رب اغفر لي

19 - يقول بين السجدتين: ((ربّ اغفرْ لي، ربّ اغفر لي))؛ لحديث حذيفة - رضي الله عنه - يرفعه: ((وكان يقعد بين السجدتين نحوًا من سجوده وكان يقول: ((ربّ اغفر لي رب اغفر لي)) (¬1). وإن شاء زاد على ذلك فقال: ((اللهم اغفر لي، وارحمني [وعافني، واهدني] واجبرني، وارزقني، وارفعني))؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول بين السجدتين: ((اللهم اغفر لي، وارحمني، وعافني، واهدني، وارزقني)) (¬2)، ولفظ ابن ماجه: ((ربّ اغفر لي وارحمني، واجبرني، وارزقني، وارفعني)) (¬3). وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يطيل هذا الركن بقدر السجود (¬4)؛ لحديث البراء - رضي الله عنه - قال: ((كان ركوع النبي - صلى الله عليه وسلم - وسجوده، وبين السجدتين، وإذا رفع رأسه من الركوع، ما خلا القيام والقعود قريبًا من السواء)) (¬5). 20 - يسجد السجدة الثانية مكبّرًا، ويفعل فيها كما فعل في السجدة الأولى؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في حديث المسيء صلاته: ((ثم اسجد حتى تَطمئنَّ ساجدًا، ثم ارفع حتى تَطمئنَّ جالسًا، ثم اسجدْ حتى تَطمئنَّ ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، برقم 874، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما يقول بين السجدتين، برقم 897، وصححه الألباني في إرواء الغليل، برقم 335، وصحيح سنن ابن ماجه، 1/ 148. (¬2) سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب الدعاء بين السجدتين، برقم 850. (¬3) سنن ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب ما يقول بين السجدتين، برقم 897، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود،1/ 160،وصحيح سنن ابن ماجه،1/ 148. (¬4) انظر: زاد المعاد لابن القيم، 1/ 239. (¬5) متفق عليه: البخاري، برقم 792، ومسلم، برقم 471، وتقدم تخريجه.

21 - يرفع رأسه مكبرا، ويجلس جلسة خفيفة تسمى جلسة الاستراحة

ساجدًا، ثم افعلْ ذلك في صلاتك كلها)) (¬1)؛ ولحديثه - رضي الله عنه - وفيه: ((ثم يُكبّر حين يَهوي ساجدًا، ثم يكبر حين يرفع رأسه من السجود، ثم يُكبّر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها، حتى يقضيها، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس)) (¬2). 21 - يرفع رأسه مُكبّرًا، ويجلس جلسة خفيفة تسمى جلسة الاستراحة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة المسيء صلاته وفيه: ((ثم اسجدْ حتى تطمئنَّ ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها))، قال أبو أسامة في الأخير: ((حتى تستوي قائمًا)) (¬3)؛ ولحديثه الآخر، وفيه: ((ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس)) (¬4)، أما جلسة الاستراحة؛ فلحديث مالك بن الحويرث - رضي الله عنه -: ((أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلّي فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستويَ قاعدًا)) (¬5)، وجاءت جلسة الاستراحة في لفظ آخر من حديث مالك: ((أنه صلى بأصحابه، فكان يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض في الركعة الأولى)) (¬6). وقد ذكرت هذه القعدة في بعض ألفاظ رواية حديث المسيء صلاته، ولفظها: ((ثم اسجدْ حتى تطمئنَّ ساجدًا، ثم ارفعْ حتى تطمئنَّ جالسًا، ثم اسجدْ حتى تطمئنَّ ساجدًا، ثم ارفعْ حتى تطمئنَّ جالسًا، ثم افعلْ ذلك في صلاتك ¬

(¬1) البخاري، برقم 793، وتقدم تخريجه. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 789، ومسلم، برقم 396، وتقدم تخريجه. (¬3) البخاري، برقم 6251،وتقدم تخريجه، وقد جاء لفظ الحديث عند القيام من السجدة الثانية في رواية أخرى: ((ثم ارفع حتى تستوي قائمًا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها)) البخاري، برقم 6667. (¬4) متفق عليه: البخاري، برقم 789، ومسلم، برقم 396، وتقدم تخريجه. (¬5) البخاري، كتاب الأذان، باب من استوى قاعدًا في وتر من صلاته ثم نهض، برقم 823، وفي لفظ للبخاري: ((وإذا رفع رأسه من السجدة الثانية جلس واعتمد على الأرض ثم قام)) برقم 824. (¬6) البخاري، كتاب الأذان، من صلى بالناس وهو لا يريد إلا أن يعلمهم صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنته، برقم 677.

22 - ينهض على صدور قدميه وركبتيه مكبرا قائما إلى الركعة الثانية

كلها)) (¬1)، وجاءت هذه الجلسة من حديث أبي حُميد وفيه: ((ثم يهوي إلى الأرض فيجافي يديه عن جنبيه، ثم يرفع رأسه ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها ويفتح أصابع رجليه إذا سجد، ثم يسجد، ثم يقول: الله أكبر، ويرفع رأسه ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها حتى يرجع كل عظم إلى موضعه (¬2)، ثم يصنع في الأخرى مثل ذلك)) (¬3). 22 - ينهض على صدور قدميه وركبتيه مكبّرًا قائمًا إلى الركعة الثانية، معتمدًا على فخذيه إن تيسر له ذلك؛ لحديث وائل وفيه: ((وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه)) (¬4)، وإن شقَّ عليه اعتمد على الأرض؛ لحديث مالك بن الحويرث، وفيه: ((وإذا رفع رأسه من السجدة الثانية جلس واعتمد على الأرض ثم قام)) (¬5). 23 - يصلي الركعة الثانية كالأولى؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - للمسيء صلاته: ((ثم افعلْ ذلك ¬

(¬1) البخاري، برقم 625، وتقدم تخريجه. (¬2) وسمعت الإمام العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - أثناء شرحه لبلوغ المرام، الحديث رقم 323، يقول: ((تنازع الناس في هذا، قوم قالوا محمولة على أنه لما ثقل، أو لأسباب أخرى كالمرض. وقال آخرون بل هي سنة؛ لأن الحديث صحيح ولا وجه للعدول عنه، وهذا أظهر؛ لأن الأصل فيما يخبر به عنه - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة سنة من سنن الصلاة، فلا يقيد، فتقييدها بالثقل أو المرض يحتاج إلى دليل. وهناك حجة ثانية لجلسة الاستراحة وهو ما ثبت عند أحمد وأبي داود وغيرهما بإسناد جيد عن أبي حميد الساعدي أنه ذكر صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا في عشرة من الصحابة وذكر جلسة الاستراحة فلما فرغ صدقوه، فهذه الجلسة ثبتت عن اثني عشر إن كان أبو حميد الحادي عشر، وإذا كان هو العاشر فثبتت عن أحد عشر صحابيًّا مع رواية مالك بن الحويرث، وصفة هذه الجلسة: هي جلسة خفيفة مثل الجلسة بين السجدتين، ليس فيها ذكر ولا دعاء)). قلت: وقد جاءت هذه الجلسة عن صحابي آخر وهو أبو هريرة - رضي الله عنه - في بعض روايات البخاري لحديث المسيء صلاته، برقم 625، وتقدم تخريجه، وانظر: سبل السلام للصنعاني، 2/ 292. (¬3) أبو داود، كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة، برقم 730،وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 140، وجلسة الاستراحة عند القيام للركعة الثانية والرابعة. (¬4) أبو داود، برقم 838، والترمذي، برقم 268، والنسائي، برقم 1089، وابن ماجه، برقم 882 وغيرهم، وتقدم تخريجه. (¬5) البخاري، برقم 824، وتقدم تخريجه.

الأمر الأول: تكبيرة الإحرام، فلا يكبر تكبيرة الإحرام

في صلاتك كلها)) (¬1) إلا في خمسة أمور: الأمر الأول: تكبيرة الإحرام، فلا يكبر تكبيرة الإحرام؛ لأنها للدخول في الصلاة. الأمر الثاني: السكوت فلا يسكت في الركعة الثانية؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نهض للركعة الثانية استفتح القراءة بـ {الْحَمْدُ للهِ رَبّ الْعَالَمِينَ} ولم يسكت)) (¬2). الأمر الثالث: الاستفتاح، فلا يستفتح في الركعة الثانية؛ لأن الاستفتاح تفتتح به الصلاة بعد تكبيرة الإحرام؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نهض للركعة الثانية استفتح القراءة بـ ((الحمد لله رب العالمين)) (¬3). الأمر الرابع: لا يُطوّلها كالأولى؛ بل تكون أقصر من الأولى في كل صلاة؛ لحديث أبي قتادة - رضي الله عنه - وفيه: ((يُطوّل في الأولى ويُقصّر في الثانية)) (¬4). وكان - صلى الله عليه وسلم - يُطوّل الأوليين ويُقصّر الأخريين من كل صلاة (¬5). الأمر الخامس: لا يجدد النية؛ للاكتفاء باستصحابها؛ لأنه لو نوى الدخول بنية جديدة في الركعة الثانية لبطلت الركعة الأولى لقطعه استصحاب النية (¬6).أما التعوذ فقيل: يشرع في كل ركعة؛ لأنه حال بين القراءتين أذكار وأفعال فيستعيذ بالله من الشيطان الرجيم في كل ركعة؛ ولقول الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (¬7)، وهذا هو الأفضل (¬8)، وقيل: تختص الاستعاذة بالركعة الأولى؛ لأن الصلاة جملة ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 793، ومسلم، برقم 397، وتقدم تخريجه. (¬2) مسلم، كتاب المساجد، باب ما يقول بين تكبيرة الإحرام والقراءة، برقم 599. (¬3) مسلم، برقم 599، وتقدم تخريجه في الحاشية السابقة. (¬4) مسلم، كتاب الصلاة، باب الجهر بالقراءة في الصبح، برقم 451. (¬5) متفق عليه: البخاري، برقم 770، ومسلم، برقم 453. (¬6) انظر: حاشية الروض المربع، للعلامة عبد الرحمن القاسم، 2/ 62، والشرح الممتع للعلامة ابن عثيمين، 3/ 196. (¬7) سورة النحل، الآية: 98. (¬8) واختار هذا القول شيخ الإسلام في الاختيارات الفقهية، ص50 فقال: ((ويستحب التعوذ أول كل قراءة))، وسمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - أثناء شرحه للروض المربع، 2/ 62، فجر الأحد 3/ 8/1419هـ في الجامع الكبير في مدينة الرياض، يقول: ((الأفضل أن يتعوذ في كل ركعة هذا هو الأفضل لعموم الأدلة، وإن اكتفى بالتعوذ في الأولى فلا حرج، والأفضل أن يتعوذ في كل ركعة حتى لو تعوذ في الأولى))، وقال العلامة المرداوي في الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف: ((قلت: وهو الأصح دليلاً)) 3/ 530،وقال النووي في المجموع 3/ 530: ((والأصح في مذهبنا استحبابه)).

وأما البسملة فتستحب في كل ركعة؛ لأنها تستفتح بها السورة

واحدة لم يتخلل القراءتين فيها سكوت، بل ذكر، فالقراءة فيها كلها كالقراءة الواحدة فيكفي فيها استعاذة واحدة (¬1) إلا إذا لم يستعذ في الركعة الأولى فيتعوذ في الثانية (¬2). وأما البسملة فتستحب في كل ركعة؛ لأنها تستفتح بها السورة (¬3). 24 - إذا كانت الصلاة ثنائية: أي ركعتين: كصلاة الفجر، والجمعة، والعيدين، جلس للتشهد بعد فراغه من السجدة الثانية من الركعة الثانية، ناصبًا رجله اليمنى، مفترشًا رجله اليسرى؛ لحديث أبي حُميد - رضي الله عنه - يرفعه وفيه: ((وإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى)) (¬4)،وصفة جلوسه في هذا كجلوسه بين السجدتين سواء (¬5)،فيضع يده اليسرى على فخذه اليسرى أو ركبته اليسرى، ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويقبض أصابع اليمنى كلها إلا السبابة فيشير بها إلى التوحيد؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابعه كلها وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام، ووضع ¬

(¬1) قال الإمام ابن القيم في زاد المعاد: ((الاكتفاء باستعاذة واحدة أظهر)) 1/ 242، وانظر: المغني لابن قدامة، 2/ 216. (¬2) انظر: المقنع والشرح الكبير، لابن قدامة،3/ 530،والشرح الممتع لابن عثيمين، 3/ 196. (¬3) انظر: حاشية الروض لابن قاسم، 2/ 62. (¬4) البخاري، برقم 828، تقدم تخريجه. (¬5) زاد المعاد، 1/ 242.

كفه اليسرى على فخذه اليسرى)) (¬1)،أو يُحَلّق الإبهام والوسطى، ويقبض الخنصر والبنصر، ويشير بالسبابة؛ لحديث وائل بن حجر - رضي الله عنه - قال: ((رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حلَّق الإبهام والوسطى ورفع التي تليها يدعو بها في التشهد)) (¬2)، أو يعقد ثلاثًا وخمسين ويشير بالسبابة، وصفتها أن يجعل الإبهام مفتوحة تحت المسبحة، وهي أن يجعل الإبهام في أصل الوسطى أو يعطف الإبهام إلى أصلها (¬3) لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قعد في التشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى (¬4) وعقد ثلاثًا وخمسين (¬5)، وأشار ¬

(¬1) مسلم، كتاب المساجد، باب صفة الجلوس في الصلاة، وكيفية وضع اليدين على الفخذين، برقم 116 - (580)، و114 - (580). (¬2) ابن ماجه، برقم 912، وتقدم تخريجه. (¬3) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 86، وسبل السلام للصنعاني، 2/ 308، 310، والتلخيص الحبير لابن حجر، 1/ 262. (¬4) وسمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((جاء في هذا عدة روايات: 1ـ تارة يضع يديه على فخذيه. 2ـ وتارة يضعهما على ركبتيه. 3 - وتارة يضع يديه على فخذيه وأطراف الأصابع على ركبتيه. وأما ما يتعلق باليمنى فجاء فيها ما في حديث ابن عمر. وجاء فيها ما في حديث وائل، وهو أنه يعقد الإبهام والوسطى ويشير بالسبابة ويقبض الخنصر والبنصر، وخلاصة ما جاء في ذلك ثلاث صور: 1 - تارة يقبض الأصابع كلها ويشير بالسبابة. 2 - وتارة يحلق الإبهام والوسطى ويقبض الخنصر والبنصر ويشير بالسبابة. 3 - وتارة يعقد ثلاثًا وخمسين ويشير بالسبابة، وقيل في هذه الصفة: إنه يجعل طرف الإبهام في أصل الوسطى، والإشارة بالإصبع إشارة إلى التوحيد، والأقرب أنه كان يفعل هذا تارة وهذا تارة، وهذا تارة: أي صفة قبض اليد والإشارة بالسبابة)) سمعته من سماحته - رحمه الله - أثناء شرحه لبلوغ المرام الحديث رقم 332. (¬5) وقيل في صفة ثلاثة وخمسين أقوال يفسر بعضها بعضًا، فقال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير: ((وصورتها أن يجعل الإبهام معترضة تحت المسبحة)) 1/ 262، وقال الإمام النووي: ((واعلم أن قوله: عقد ثلاثًا وخمسين شرطه عند أهل الحساب أن يضع طرف الخنصر على البنصر، وليس ذلك مرادًا هاهنا، بل المراد أن يضع الخنصر على الراحة ويكون على الصورة التي يسميها أهل الحساب تسعة وخمسين والله أعلم)). شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 86، ومراده ((بسط الخنصر إلى أصل الإبهام مما يلي الكف وبسط البنصر فوقها، وبسط الوسطى فوقها، وعطف الإبهام إلى أصلها)) انظر: سبل السلام، 2/ 301. وقال الإمام الصنعاني نقلاً عن ابن حجر في التلخيص: ((صورتها أن يجعل الإبهام مفتوحة تحت المسبحة)) هكذا نقل ولعلها في نسخة فنقلها الصنعاني، وقد تقدم كلام الحافظ آنفًا، انظر: سبل السلام، 2/ 308، أما ما ذكر الصنعاني، 2/ 310 في طريقة العرب في الحساب لهذه الصورة فهي: عقد الخنصر والبنصر والوسطى وعطف الإبهام إلى أصلها)) 2/ 310، وسمعت سماحة الإمام ابن باز يقول أثناء شرحه لبلوغ المرام، الحديث رقم 332: ((وقيل في هذه الصفة: إنه يجعل طرف الإبهام في أصل الوسطى)).

النوع الأول: قبض الأصابع كلها والإشارة بالسبابة

بالسبابة)) (¬1) فظهر ثلاثة أنواع لليد اليمنى: النوع الأول: قبض الأصابع كلها والإشارة بالسبابة. النوع الثاني: تحليق الإبهام والوسطى وقبض الخنصر والبنصر والإشارة بالسبابة. النوع الثالث: عقد ثلاثًا وخمسين والإشارة بالسبابة، وكلها صحيحة، وينظر أثناء جلوسه إلى إشارة سبابته؛ لحديث عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه -: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قعد في التشهد وضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى وأشار بالسبابة، لا يجاوز بصره إشارته)) (¬2)؛ ولحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وفيه: ((فوضع يده اليمنى على فخذه اليمنى وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام في القبلة، ورمى ببصره إليها أو نحوها، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع)) (¬3). ويشير بالسبابة عند ذكر الله - عز وجل - حال الدعاء موجهة إلى القبلة، هذا هو السنة (¬4) يحركها إلى القبلة عند ذكر الله تعالى يدعو ¬

(¬1) مسلم، كتاب المساجد، باب صفة الجلوس في الصلاة وكيفية وضع اليدين على الفخذين، برقم 115 - ((580)). (¬2) النسائي، كتاب السهو، باب موضع البنصر عند الإشارة وتحريك السبابة، برقم 1275، وقال الألباني في صحيح سنن النسائي: ((حسن صحيح)) 1/ 272. (¬3) النسائي، كتاب الافتتاح، باب موضع البصر في التشهد، برقم 1660، وقال الألباني في صحيح سنن النسائي: حسن صحيح، 1/ 250. (¬4) قال الإمام النووي: ((والسنة أن لا يجاوز بصره إشارته، وفيه حديث صحيح في سنن أبي داود، ويشير بها موجهة إلى القبلة، وينوي بالإشارة التوحيد والإخلاص والله أعلم))،شرح النووي على صحيح مسلم، /85.

بها (¬1)، ولا يحركها في غير ذكر الله والدعاء، بل تبقى منصوبة (¬2)، ويدل على تحريكها عند الدعاء حديث وائل بن حجر - رضي الله عنه - وفيه: ((ثم قعد وافترش رجله اليسرى ووضع كفه اليسرى على فخذه وركبته اليسرى، وجعل حدَّ مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، ثم قبض اثنتين من أصابعه وحلَّق حلقة، ثم رفع إصبعه فرأيته يحركها يدعو بها)) (¬3)،ودلَّ على عدم تحريكها دائمًا حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يشير بإصبعه إذا دعا ولا يحرّكها)) (¬4)، فالجمع بين الحديثين سهل: فنفي التحريك يراد به التحريك الدائم، وإثبات التحريك يراد به التحريك عند الدعاء (¬5)، ¬

(¬1) اختلف العلماء في موضع الإشارة بالسبابة، فقيل: 1 - يحركها عند ذكر الله فقط. 2 - وقيل: عند ذكر الله وذكر رسوله - صلى الله عليه وسلم -. 3 - وقيل: يشير بها في جميع التشهد أي يحركها تحريكًا دائمًا. 4 - وقيل: يشير عند ((إلا الله)). والصواب أنه يشير بها عند الدعاء وذكر الله فقط، وتبقى منصوبة فيما عدا ذلك. انظر: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، 3/ 535 - 536، ونيل الأوطار للشوكاني،2/ 66 - 68، وسبل السلام، 2/ 308 - 309، وشرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 85، والمغني لابن قدامة، 2/ 119، والشرح الكبير لابن قدامة، 3/ 532، والشرح الممتع لابن عثيمين، 3/ 200 - 202. (¬2) وسمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - أثناء شرحه للروض المربع، 2/ 64، في فجر الأحد 3/ 8/1419هـ يرجح: ((أن السبابة لا يحركها عند الإشارة وإنما تبقى منصوبة، إلا عند الدعاء فيحركها، ثم قال: والصواب أنها تحرك عند الدعاء، أما غير الدعاء فلا يحركها وإنما يشير بها)). (¬3) النسائي، كتاب الافتتاح، باب موضع اليمين من الشمال في الصلاة، برقم 890، وكتاب السهو باب قبض الاثنتين من أصابع اليد اليمنى، وعقد الوسطى والإبهام منها وتحريك الأصبع، برقم 1268، وصححه الألباني، في صحيح النسائي، 1/ 194، و1/ 271، وفي صحيح سنن أبي داود، 1/ 140، 180، وقد أخرجه أيضًا أبو داود، برقم 957، وأحمد 4/ 318، وتقدم تخريجه. (¬4) النسائي، كتاب السهو، باب بسط اليسرى على الركبة، برقم 1270، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب الإشارة في التشهد، برقم 989، وصححه النووي في المجموع 3/ 454، وقال الأرنؤوط في حاشية زاد المعاد، 1/ 238: ((وسنده صحيح)). (¬5) وبهذا جمع البيهقي في السنن الكبرى، 2/ 132، وانظر: سبل السلام، 2/ 309، والشرح الممتع للعلامة محمد بن صالح العثيمين، 3/ 202.

25 - يقرأ التشهد في هذا الجلوس

وتكون الإشارة بالسباحة من اليد اليمنى، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإشارة بإصبع واحدة، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلاً كان يدعو بإصبعيه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أحّدْ، أحّدْ)) (¬1) وعن سعد قال: مرَّ عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أدعو بأصابعيَّ، فقال: ((أحّدْ، أحّدْ)) وأشار بالسبابة (¬2)، والحكمة في الإشارة بالسباحة إلى أن المعبود - سبحانه وتعالى - واحد، وينوي بالإشارة التوحيد والإخلاص فيه، فيكون جامعًا في التوحيد بين القول، والفعل، والاعتقاد (¬3)، فعلى ما تقدم يشير بالسباحة عند ذكر الله يدعو بها (¬4). 25 - يقرأ التشهد في هذا الجلوس، فيقول: ((التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله [وحده لا شريك له] وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله)) (¬5)، وهذا أصح ما ثبت في ¬

(¬1) الترمذي، كتاب الدعوات، بابٌ: حدثنا محمد بن بشار، برقم 3557، وقال: ((هذا حديث حسن صحيح غريب)) والنسائي، كتاب السهو، باب النهي عن الإشارة بإصبعين وبأي إصبع يشير، برقم 1272 وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 1/ 272. (¬2) النسائي، كتاب السهو، باب النهي عن الإشارة بإصبعين وبأي إصبع يشير، برقم 1273، وصححه الألباني، في صحيح سنن النسائي، 1/ 272. (¬3) انظر: نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 68، وسبل السلام للصنعاني، 2/ 309. (¬4) واختلف العلماء في معنى كلمة ذكر الله فقيل: عند ذكر الجلالة، وعلى هذا فإذا قال: ((التحيات لله)) يشير ((السلام عليك أيها النبي ورحمة الله)) يشير، ((السلام علينا وعلى عباد الله)) يشير، ((أشهد أن لا إله إلا الله)) يشير، فهذه أربع مرات في التشهد الأول، ((اللهم صلّ)) يشير، ((اللهم بارك)) يشير، ((أعوذ بالله من عذاب جهنم)) يشير، وقيل: يشير بها عند الدعاء، فكلما دعوت حركت إشارة إلى علو المدعو - سبحانه وتعالى -، وعلى هذا فإذا قال: ((السلام عليك أيها النبي)) يشير؛ لأن السلام خبر بمعنى الدعاء، ((السلام علينا)) يشير، ((اللهم صلّ على محمد)) يشير، ((اللهم بارك على محمد)) يشير، ((أعوذ بالله من عذاب جهنم)) يشير، ((ومن عذاب القبر)) يشير، ((ومن فتنة المحيا والممات)) يشير، ((ومن فتنة المسيح الدجال)) يشير، وكلما دعا يشير. انظر: الشرح الممتع لابن عثيمين،3/ 201 - 202،قلت: والظاهر والله أعلم أنه يشير عند لفظ الجلالة، وعند الضمير الذي يعود عليه، وعند الدعاء إشارة إلى علو المدعو سبحانه. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب التشهد في الآخرة، برقم 831، ورقم 835، ومسلم، كتاب الصلاة، باب التشهد في الصلاة، برقم 402 عن ابن مسعود - رضي الله عنه - ولفظه عند البخاري قال: ((كنا إذا كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على جبريل وميكائيل، السلام على فلان وفلان، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين؛ فإنكم إذا قلتم ذلك أصابت كل عبد لله صالح في السماء والأرض، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو)). هذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم: ((ثم ليتخير من المسألة ما شاء)) أما زيادة ((وحده لا شريك له)) فهي للنسائي في السنن، برقم 1168.

التشهد (¬1) ثم يقول: ((اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد)) (¬2)، وهذا أكمل ما ثبت في الصلاة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، ويستعيذ بالله ¬

(¬1) وإن شاء المصلي أن ينوع في التشهد فقد جاء له عدة صيغ منها: 1 - حديث عبد الله بن مسعود السابق وهو أصح ما ورد. 2 - حديث ابن عباس رضي الله عنهما ولفظه: ((التحيات المباركات، الصلوات، الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله)) مسلم برقم 403. 3 - حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - ولفظه: ((التحيات الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله)) مسلم برقم 404. وزاد النسائي برقم 1173، وأبو داود برقم 971، ((وحده لا شريك له)). 4 - حديث ابن عمر رضي الله عنهما ولفظه: مثل حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. أبو داود، برقم 971، وصححه الألباني، 1/ 182، إلا أنه قال: زدت فيها ((وبركاته)) وقال: ((زدت فيها وحده لا شريك له)). 5 - حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ولفظه: ((التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات لله، الصلوات لله، السلام عليك ... )) كتشهد ابن مسعود. مالك، برقم 53، والبيهقي، 2/ 144، والدارقطني، 1/ 351، وعبد الرزاق، برقم 3067، وقال الزيلعي في نصب الراية، 1/ 422: ((وهذا إسناد صحيح)) وهو موقوف له حكم الرفع، وبأي تشهد يتشهد مما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاز، ولكن أصحها وأفضلها ما رواه عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - انظر: المغني لابن قدامة، 2/ 221 - 222. وانظر: صفة الصلاة للألباني، ص172 - 177. (¬2) البخاري، كتاب الأنبياء، بابٌ: حدثنا موسى بن إسماعيل، برقم 3370. (¬3) الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءت في روايات على أنواع منها: 1 - حديث كعب بن عجرة - رضي الله عنه - قال سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: يا رسول الله كيف الصلاة عليكم أهل البيت؛ فإن الله قد علمنا كيف نسلم؟ قال: ((قولوا: اللهم صلّ على محمد ... وذكر حديث كعب السابق في كتاب الأنبياء في صحيح البخاري برقم 3370. 2 - وحديث كعب بن عجرة الآخر، قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج علينا فقلنا: يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد)). البخاري، برقم 4797، ورقم 6357، ومسلم، برقم 406. 3 - حديث أبي مسعود الأنصاري، وفيه: أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله فكيف نصلي عليك؟ فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قولوا: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم)). مسلم، برقم 405. 4 - حديث أبي حُميد الساعدي - رضي الله عنه - أنهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صلّ على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد)) البخاري، برقم 3369، ورقم 6360، ومسلم، برقم 407، واللفظ له. 5 - حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قلنا يا رسول الله هذا السلام عليك فكيف نصلي؟ قال: ((قولوا: اللهم صلّ على محمد عبدك ورسولك، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم)) البخاري، برقم 6358. 6 - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قلنا: يا رسول الله، كيف نصلي عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت [وباركت] على إبراهيم وآل إبراهيم [في العالمين] إنك حميد مجيد)). النسائي في عمل اليوم والليلة، برقم 47، وعزاه ابن القيم في جلاء الأفهام، ص44 إلى محمد بن إسحاق السراج، ثم قال: إسناده صحيح على شرط الشيخين. وما بين المعقوفين للسراج، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 1/ 159.

من أربع: فيقول: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال))؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا تشهد أحدُكم فليستعِذْ بالله من أربعٍ، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم .. الحديث)). ولفظ مسلم: ((إذا فرغ أحدُكم من التشهد الآخر، فليتعوَّذْ بالله من أربعٍ: من عذاب جهنم ... الحديث)) (¬1)، ويدعو بما شاء، ومن ذلك ما يلي: أولاً: عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو في الصلاة: ((اللهم ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب التعوذ من عذاب القبر، برقم 1377، بلفظ: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال)).ومسلم، بلفظه، في كتاب المساجد، باب ما يستعاذ منه في الصلاة، برقم 588.

إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثَم والمغرَم)) قالت: فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم يا رسول الله! فقال: ((إن الرجل إذا غرم حدَّث فكذَب ووعدَ فأخلَف)) (¬1). ثانيًا: ((اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم))؛ لحديث أبي بكر - رضي الله عنه - أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: علمني دعاءً أدعو به في صلاتي، قال: ((قل اللهم ... )) الحديث (¬2). وفي رواية لمسلم: ((علمني دعاءً أدعو به في صلاتي وفي بيتي)) (¬3). ثالثًا: ((اللهم اغفر لي ما قدَّمْتُ، وما أخَّرتُ، وما أسررْتُ، وما أعلنتُ، وما أنت أعلمُ به مني، أنت المقدّم، وأنت المؤخّر، لا إله إلا أنت))؛ لحديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وفيه: ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: ((اللهم اغفر لي ... )) الحديث (¬4). رابعًا: ((اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك [من] أن أُردّ إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر))؛ لحديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أنه كان يعلّم بنيه هؤلاء الكلمات كما يعلم الغلمان الكتابة ويقول: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوذ منهن دبر الصلاة)) (¬5). وفي رواية: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا هؤلاء ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب الدعاء قبل السلام، برقم 832، ومسلم، كتاب المساجد، باب ما يستعاذ منه في الصلاة، برقم 589. (¬2) متفق عليه، البخاري، كتاب الأذان، باب الدعاء قبل السلام، برقم 834، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب الدعوات والتعوذات، برقم 2705. (¬3) مسلم، برقم 48 - ((2705)). (¬4) مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم 771. (¬5) البخاري، كتاب الجهاد، باب ما يُتعوذ من الجبن، برقم 2822، ورقم 6365، 6374، 6390.

الكلمات كما تُعلَّم الكتابةُ)) (¬1). خامسًا: ((اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك)) لحديث معاذ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيده، وقال: ((يا معاذ، والله إني لأحبك، والله إني لأحبك)) فقال: ((أوصيك يا معاذ، لا تَدَعَنَّ دُبُرَ كلّ صلاةٍ تقول: اللهم أعني ... )) الحديث (¬2). سادسًا: ((اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار))؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجلٍ: ((ما تقول في الصلاة؟)) قال: أتشهد، ثم أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، أما والله ما أُحسنُ دندنَتَك، ولا دندنةَ مُعاذ، قال: ((حولها نُدندِنُ)) (¬3). سابعًا: ((اللهم إني أسألك يا الله بأنك الواحد، الأحد، الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، أن تغفر لي ذنوبي إنك أنت الغفور الرحيم))؛لحديث مِحْجَن بن الأدرع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد، فإذا هو برجل قد قضى صلاته، وهو يتشهد، ويقول: ((اللهم إني أسألك يا الله .. )) وفي آخره فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قد غفر له)) ثلاثًا (¬4). ثامنًا: ((اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم إني أسألك ... ]؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) البخاري، كتاب الدعوات، باب التعوذ من فتنة الدنيا، برقم 6390. (¬2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الاستغفار، برقم 1522، والنسائي كتاب السهو، باب نوع آخر من الدعاء، برقم 1303، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 184. (¬3) ابن ماجه، كتاب الدعاء، باب الجوامع من الدعاء، برقم 3847،وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 328، و1/ 150. ورواه أبو داود، في كتاب الصلاة، باب في تخفيف الصلاة، برقم 792. (¬4) النسائي، كتاب السهو، باب الدعاء بعد الذكر، برقم 1301، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقول بعد التشهد، برقم 985،وأحمد، 4/ 338،وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 280، وصحيح أبي داود، 1/ 185.

جالسًا، ورجل يصلي، ثم دعا: ((اللهم إني أسألك بأن لك الحمد ... )) الحديث وفي آخره، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دُعيَ به أجاب، وإذا سُئلَ به أَعطَى)) (¬1). تاسعًا: ((اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد، الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد))؛ لحديث بريدة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يقول: ((اللهم إني أسألك ... )) الحديث، وفي آخره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعيَ به أجاب، وإذا سُئلَ به أعطى)) (¬2). عاشرًا: ((اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرًا لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الرضى والغضب، وأسألك القصد في الغنى والفقر، وأسألك نعيمًا لا ينفدُ، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك بَرْدَ العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مُضرَّة ولا فتنة مُضلَّة، اللهم زيّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هداةً مهتدين))؛ لحديث عمار - رضي الله عنه - أنه صلى بأصحابه فأوجز في صلاته، فقال له بعض القوم: لقد خففت أو أوجزت الصلاة، فقال: أمَّا على ذلك فقد دعوت فيها بدعوات سمعتهن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ذكر هذه الدعوات (¬3). ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الوتر، باب الدعاء، برقم 1495،وابن ماجه كتاب الدعاء، باب اسم الله الأعظم، برقم 3858،والبخاري، في الأدب المفرد، برقم 705،وصححه الألباني في صحيح أبي داود،1/ 279، وأخرجه أحمد في المسند،3/ 158، 3/ 245،والطبراني ي الكبير، برقم 4722 وذكر الألباني أنه وجد في رواية في آخره: ((أسألك الجنة وأعوذ بك من النار)) فلتراجع، انظر: صفة الصلاة له، ص204. (¬2) أبو داود، كتاب الوتر، باب الدعاء برقم 1493، والترمذي، كتاب الدعوات، باب جامع الدعوات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - برقم 3475،وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب اسم الله الأعظم، برقم 3857، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه،2/ 239. (¬3) النسائي، كتاب السهو، باب نوع آخر، برقم 1306، وأحمد، 4/ 364، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 1/ 281.

26 - ثم يسلم عن يمينه وشماله

ويدعو بما يشاء من خير الدنيا والآخرة، وإذا دعا لوالديه أو غيرهما من المسلمين فلا بأس، سواء كانت الصلاة فريضة أو نافلة، لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن مسعود - رضي الله عنه - لَمَّا علمه التشهد: ((ثم ليتخيّرْ من الدعاء أعجبه إليه فيدعو)) وفي لفظ: ((ثم ليتخيّرْ من المسألة ما شاء)) (¬1)، وهذا يعمّ جميع ما ينفع في الدنيا والآخرة (¬2). 26 - ثم يسلّم عن يمينه وشماله قائلاً: ((السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله))؛ لحديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: كنا إذا صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلنا: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((علام تُومئون بأيديكم كأنها أذناب خيلٍ شُمُسٍ، إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه ثم يسلم على أخيه، من على يمينه وشماله)) (¬3)،وعن أبي معمر أن أميرًا كان بمكة يُسلّمُ تسليمتين، فقال عبد الله: أنَّى عَلِقَها؟ (¬4) قال الحكم في حديثه: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعله)) (¬5)،وعن عامر بن سعد عن أبيه قال: ((كنت أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسلّم عن يمينه وعن يساره حتى أرى بياض خده)) (¬6)، وينصرف عن يمينه وعن شماله لا حرج في شيء من ذلك (¬7). 27 - إن كانت الصلاة ثلاثية: كصلاة المغرب، أو رباعية: كالظهر، والعصر، ¬

(¬1) البخاري، برقم 831، 835، ومسلم، برقم 402، وتقدم تخريجه. (¬2) انظر: كيفية صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، للإمام ابن باز، ص18. (¬3) مسلم، كتاب الصلاة، باب الأمر بالسكون في الصلاة والنهي عن الإشارة باليد ورفعها عند السلام، برقم 431. (¬4) أنى علقها: أي من أين حصل على هذه السنة، وظفر بها فكأنه تعجب. (¬5) مسلم، كتاب المساجد، باب السلام للتحليل من الصلاة عند فراغها وكيفيته، برقم 581. (¬6) مسلم، كتاب المساجد، الباب السابق، برقم 582، قال الصنعاني - رحمه الله - في سبل السلام: ((وحديث التسليمتين رواه خمسة عشر من الصحابة ... كلها بدون زيادة وبركاته إلا في رواية وائل، ورواية عن ابن مسعود)) فقال المحقق: ((بل ضعف ذلك، ثم ذكر تسعة وعشرين صحابيًّا، وخرج رواياتهم)) سبل السلام، 2/ 330. (¬7) البخاري، برقم 852، ومسلم، برقم 707، 708.

والعشاء، اكتفى بالتشهد الأول والأفضل أن يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1) كما تقدّم آنفًا، ثم ينهض على صدور قدميه وعلى ركبتيه معتمدًا على فخذيه مكبرًا رافعًا يديه حذو أذنيه أو منكبيه؛ لحديث وائل - رضي الله عنه -، وفيه: ((وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه)) (¬2)؛ ولحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وفيه: ((وإذا قام من الركعتين رفع يديه)) (¬3)؛ ولحديث أبي حُميد الساعدي - رضي الله عنه - وفيه: ((ثم إذا قام من الركعتين كبَّر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه كما كبر عند افتتاح الصلاة ثم يصنع ذلك في بقية صلاته)) (¬4)، ويضع يديه على صدره؛ لحديث وائل بن حجر - رضي الله عنه - وفيه: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان قائمًا في الصلاة قبض يمينه على شماله)) (¬5)، ويقرأ الفاتحة سرًّا فقط، وإن قرأ في الثالثة والرابعة من الظهر زيادة على الفاتحة في بعض الأحيان فلا بأس؛ لحديث أبي سعيد - رضي الله عنه - (¬6). ويصلي الثالثة من المغرب، والثالثة والرابعة من الظهر والعصر والعشاء كالركعة الثانية كما تقدّم، ¬

(¬1) الأفضل أن يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأول؛ لعموم الأدلة، وكان الشعبي لا يرى بأسًا أن يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه، وكذلك قال الشافعي، انظر: المغني لابن قدامة، 2/ 223، وقال المرداوي في الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، 3/ 540 ((واختار ابن هبيرة زيادة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، واختاره الآجري، وزاد وعلى آله))، وسمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يوم الأحد 3/ 8/1419هـ أثناء شرحه للروض المربع، 2/ 70، 73، يقول: ((والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأول أفضل وهي آكد في الثاني لعموم الأدلة)). وسمعته مرة يستدل على استحباب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بآخر حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - في التشهد: ((ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه)) ((ثم ليتخير من المسألة ما شاء))، ولكن لو وقف في التشهد الأول على ((وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله)) كفى والحمد لله. وانظر: زاد المعاد لابن القيم،1/ 245،وصفة الصلاة للألباني، ص177،والشرح الممتع،3/ 226،ومجموع فتاوى الإمام ابن باز، 11/ 161، 202. (¬2) أبو داود، برقم 838، والترمذي، برقم 268، والنسائي، برقم 1089، وابن ماجه، برقم 882، وغيرهم، وتقدم تخريجه. (¬3) متفق عليه واللفظ للبخاري: البخاري، برقم 739،ومسلم، برقم 390،وتقدم تخريجه. (¬4) البخاري، برقم 828، واللفظ لأبي داود، برقم 730، وتقدم تخريجه. (¬5) النسائي، برقم 887، وتقدم تخريجه. (¬6) أخرجه مسلم، برقم 452، وتقدم تخريجه.

28 - يجلس في التشهد الأخير متوركا

لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث المسيء صلاته بعد أن علَّمه الركعة الأولى: ((ثم افعل ذلك في صلاتك كلها)) (¬1). 28 - يجلس في التشهد الأخير متورّكاً (¬2)؛لحديث أبي حُميد الساعدي - رضي الله عنه - وفيه: ((فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الآخرة قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى وقعد على مقعدته)) (¬3). وفي لفظ: ((حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم أخّر رجله اليسرى وقعد متوركًا على شقه الأيسر)) قالوا: صدقت هكذا كان يصلي - صلى الله عليه وسلم - (¬4) وهذا هو الأفضل: أن يفترش في التشهد الأول (¬5)، ويتورك في الأخير (¬6) ¬

(¬1) البخاري، برقم 824، ومسلم، برقم 397، وتقدم تخريجه. (¬2) اختلف أهل العلم في موضع التورك في أي التشهدين يكون: 1 - قال قوم: يتورك في التشهد الأول والثاني، وهذا مذهب مالك - رحمه الله -. 2 - وقال قوم: يفترش اليسرى فيهما وينصب اليمنى، وهو قول أبي حنيفة - رحمه الله -. 3 - وقال قوم: يتورك في كل تشهد يليه السلام ويفترش في غيره، وهو قول الشافعي - رحمه الله -. 4 - وقال قوم: يتورك في كل صلاة فيها تشهدان في الأخير منهما، ويفترش في غير ذلك، وهو قول الإمام أحمد - رحمه الله -. انظر: زاد المعاد لابن القيم 1/ 243، وشرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 84، ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 54، والمغني لابن قدامة، 2/ 225، 226، 227، 228، وقال النووي: ((ومذهب الشافعي يفترش في الأول ويتورك في الأخير ووافق الأقوال السابقة إلا أنه لم يذكر مذهب الإمام أحمد. شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 84. (¬3) البخاري، كتاب الأذان، باب سنة الجلوس في التشهد، برقم 828. (¬4) أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب الافتتاح، رقم 730،وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 141. (¬5) قال الإمام النووي رحمه الله: ((وقد سبق اختلاف العلماء في أن الأفضل في الجلوس في التشهدين التورك أم الافتراش، فمذهب مالك وطائفة تفضيل التورك فيهما، ومذهب أبي حنيفة وطائفة تفضيل الافتراش، ومذهب الشافعي ... وطائفة يفترش في الأول ويتورك في الأخير، لحديث أبي حميد الساعدي ورفقته في صحيح البخاري، وهو صريح في الفرق بين التشهدين، قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: ((والأحاديث الواردة بتورك أو افتراش مطلقة لم يبين فيها أنه في التشهدين أو أحدهما وقد بيّنه أبو حميد ورفقته ووصفوا الافتراش في الأول والتورك في الأخير، وهذا مبين فوجب حمل ذلك المجمل عليه والله أعلم)). شرح النووي، 5/ 84. (¬6) وقيل: جاء التورك على ثلاثة أنواع هي: النوع الأول: يخرج الرجل اليسرى من الجانب الأيمن مفروشة ويجلس على مقعدته على الأرض وتكون الرجل اليمنى منصوبة؛ لحديث أبي حميد وفيه: ((وإذا جلس في الركعة الأخيرة قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى، وقعد على مقعدته)). البخاري، برقم 828، وفي رواية: ((حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم أخَّر رجله اليسرى وقعد متوركًا على شِقّه الأيسر)) أبو داود، برقم 730، ورقم 963، 964. النوع الثاني: يجلس متوركًا ويفرش القدمين جميعًا ويخرجهما من الجانب الأيمن، لحديث أبي حميد وفيه: ((فإذا كانت الرابعة أفضى بوركه اليسرى إلى الأرض وأخرج قدميه من ناحية واحدة)) أبو داود، برقم 965، ورقم 731، وابن حبان ((موارد)) برقم 491، وانظر: صحيح ابن خزيمة، 1/ 347، وابن حبان ((إحسان))، برقم 1867، والبيهقي، 2/ 128، وصححه الألباني في صفة الصلاة، ص197. النوع الثالث: يفرش قدمه اليمنى ويدخل اليسرى بين فخذ وساق الرجل اليمنى؛ لحديث عبد الله بن الزبير عن أبيه يرفعه: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه وفرش قدمه اليمنى)). مسلم، برقم 579، قال الإمام ابن القيم: ولعله كان يفعل هذا تارة، وهذا تارة، زاد المعاد، 1/ 253، وقال العلامة ابن عثيمين: ((وعلى هذا ينبغي أن يفعل الإنسان هذا مرة، وهذا مرة))، وهذا بناء على القاعدة: أن العبادات الواردة على وجوه متنوعة ينبغي أن تفعل على جميع الوجوه الواردة؛ لأن هذا أبلغ في الاتباع، من الاقتصار على شيء واحد، انظر: الشرح الممتع، 3/ 300، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 22/ 335 - 337، والمغني لابن قدامة، 2/ 227 - 228، وصفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - للألباني، ص997، ونيل الأوطار، 2/ 54 - 55.

29 - يقرأ التشهد مع الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -

لفعله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). 29 - يقرأ التشهد مع الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -،والدعاء بما يحب بعد الثالثة من المغرب، وبعد الرابعة من الظهر والعصر، والعشاء، كما تقدم تفصيلاً (¬2). 30 - يُسلّم عن يمينه وشماله، قائلاً: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله (¬3). ¬

(¬1) وسمعت الإمام عبد العزيز ابن باز - رحمه الله - أثناء شرحه للروض المربع، 2/ 82 في يوم الأحد 10/ 8/1419هـ يقول: ((السنة التورك في التشهد الأخير وينصب اليمنى، والتشهد الأول يفرش اليسرى وينصب اليمنى)). (¬2) وتقدم تخريج الأدلة. (¬3) وتقدم تخريج الأدلة.

31 - يقول الأذكار المشروعة بعد السلام من الصلاة

31 - يقول الأذكار المشروعة بعد السلام من الصلاة على النحو الآتي: أولاً: ((أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام))؛ لحديث ثوبان - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثًا، وقال: ((اللهم أنت السلام ... )) الحديث (¬1). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سلّم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: ((اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام)) (¬2)، ومقصودها رضي الله عنها: لم يقعد مستقبل القبلة إلا مقدار هذا الدعاء ثم يستقبل الناس بوجهه؛ ولحديث سمرة - رضي الله عنه -: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه)) (¬3). ثانيًا: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)) ثلاث مرات؛ لحديث المغيرة - رضي الله عنه - ولفظه: عن ورَّاد كاتب المغيرة بن شعبة: أن معاوية كتب إلى المغيرة: أن اكتب إليّ بحديث سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فكتب إليه المغيرةُ: إني سمعته يقول عند انصرافه من الصلاة: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)) [ثلاث مرات] قال: وكان ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، ومنعٍ وهات، وعقوق الأمهات، ووأد البنات)) (¬4). ¬

(¬1) مسلم، كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم 591. (¬2) مسلم، في الكتاب والباب السابقين، برقم 592. (¬3) البخاري، كتاب الأذان، باب يستقبل الإمام الناس إذا سلّم، برقم 845. (¬4) البخاري، بلفظه، في كتاب الرقاق، باب ما يكره من قيل وقال، برقم 6473، وزيادة: ((ثلاث مرات)) في طبعة دار السلام، وطبعة دار الفكر، وفي نسخة البخاري المطبوعة مع إرشاد الساري، للقسطلاني، ونسخة البخاري المطبوعة مع عمدة القاري للعيني، وليست هذه الزيادة في الطبعة السلفية المطبوعة مع فتح الباري، وسمعت الإمام العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - أثناء شرحه للبخاري، الحديث رقم 6473، وشرحه للروض المربع، 2/ 85 يقول: ((وفي رواية عبد بن حميد في مسنده ثلاث مرات)) ثم قال: ((وليست في الصحيح وإنما هي لعبد بن حميد بإسناد جيد، [وقال مرة] لا بأس به. والحديث رواه مسلم أيضًا بدون هذه الزيادة، برقم 593.

ثالثًا: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد [يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير] (¬1) وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا مُعطيَ لما منعتَ [ولا رادّ لما قضيتَ] (¬2) ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدُّ))؛لحديث المغيرة - رضي الله عنه - فعن ورَّاد مولى المغيرة بن شعبة قال: كتب المغيرة إلى معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه -:أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول دبر كل صلاة إذا سلم: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له ... )) الحديث (¬3). رابعًا: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون))؛ لحديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه كان يقولها في دبر كل صلاة حين يسلم ... ثم قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهلّل بهن دبر كل صلاة)) (¬4). خامسًا: ((سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر (ثلاثًا وثلاثين) لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير))؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من سبَّحَ الله دُبُرَ كلّ صلاةٍ ثلاثًا وثلاثين، وحمد الله ثلاثًا وثلاثين، وكبّر الله ثلاثًا وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه ولو كانت مثل زَبَدِ البَحْرِ)) (¬5). ¬

(¬1) هذه الزيادة بين المعقوفين للطبراني في المعجم الكبير، 20/ 392، برقم 926، قال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، 10/ 103 ((ورواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح)). (¬2) هذه الزيادة بين المعقوفين، لعبد بن حميد في مسنده، ص150 - 151،رقم 391،وانظر نيل الأوطار، 2/ 100.وسمعت الإمام ابن باز - رحمه الله - يقول: ((ثبتت هذه الزيادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -)). (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء، برقم 6330، ومسلم، كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم 593. (¬4) مسلم، كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم 594. (¬5) مسلم، كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم 597.

النوع الأول: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ثلاثا وثلاثين

والتسبيح والتحميد، والتكبير وَرَدَ على عدة أنواع ينبغي للمسلم أن ينوع بينها إذا شاء، فيقول هذا في صلاة، ويقول الآخر في صلاة أخرى؛ لأن في ذلك فوائد منها: اتباع السنة، وإحياء السنة، وحضور القلب (¬1)، ومن هذه الأنواع في التسبيح، والتحميد، والتكبير، ما يأتي: النوع الأول: ((سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ثلاثًا وثلاثين، ويختم بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)) فتكون مائة؛ لحديث أبي هريرة السابق (¬2). النوع الثاني: ((سبحان الله، ثلاثًا وثلاثين، والحمد لله ثلاثًا وثلاثين، والله أكبر أربعًا وثلاثين)) فتكون مائة؛ لحديث كعب بن عجرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مُعقّبات (¬3) لا يخيب قائلُهن أو فاعلُهن دُبرَ كلّ صلاةٍ مكتوبةٍ: ثلاثًا وثلاثين تسبيحة، وثلاثًا وثلاثين تحميدة، وأربعًا وثلاثين تكبيرة)) (¬4). النوع الثالث: ((سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ثلاثًا وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون))؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ذهب أهل الدثور (¬5) من الأموال بالدرجات العلا، والنعيم المقيم [فقال: ((وما ذاك))؟ قالوا:] يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل أموال يحجون بها، ويعتمرون، ويجاهدون، ويتصدقون فقال [((أفلا أُعلّمكم شيئًا تُدركون به من سبقكم، وتَسبقون به مَنْ بَعْدكم، ولا يكون أحدٌ أفضلَ منكم إلا من صنع مثلَ ما صنعتم))؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((تُسبّحون، وتُكبّرون، وتّحْمَدون في دُبُرِ ¬

(¬1) انظر: الشرح الممتع على زاد المستقنع، لابن عثيمين، 3/ 37، 300، 309، وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 22/ 35 - 37، والاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص85. (¬2) مسلم، برقم 597، وتقدم تخريجه. (¬3) مُعقبّات: أي تسبيحات تُفعل أعقاب الصلوات، أو سُمّيت مُعقّبات: لأنها تُفعل مرةً بعد أخرى. (¬4) مسلم، كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم 596. (¬5) الدثور: الأموال الكثيرة.

النوع الرابع: سبحان الله عشر مرات والحمد لله عشر مرات والله أكبر عشر مرات

كلّ صلاةٍ ثلاثًا وثلاثين مرة)) فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء))] (¬1). النوع الرابع: ((سبحان الله)) عشر مرات ((والحمد لله)) عشر مرات)) والله أكبر ((عشر مرات))؛ لحديث عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خصلتان لا يُحصيهما رجل مسلم إلا دخل الجنة، وهما يَسيرٌ ومن يعمل بهما قليل)) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الصلوات الخمس، يُسبح أحدكم في دبر كل صلاة عشرًا، ويحمد عشرًا، ويُكبر عشرًا، فهي خمسون ومائة في اللسان (¬2) وألف وخمسمائة في الميزان)) (¬3) فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعقدهن بيده، ((وإذا أوى أحدُكم إلى فراشه أو مضجعه، سبّح ثلاثًا وثلاثين، وحمد ثلاثًا وثلاثين، وكبّر أربعًا وثلاثين، فهي مائة على اللسان، وألف في الميزان)) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فأيّكم يعمل في كل يوم وليلة ألفين وخمسمائة سيئة))؟ قيل: يا رسول الله وكيف لا نحصيهما؟ فقال: ((إن الشيطان يأتي أحدَكم وهو في صلاته، فيقول: اذكرْ كذا، اذكرْ كذا، ويأتيه عند منامه، فينيمه)) وفي لفظ ابن ماجه ((فلا يزال ينوّمه حتى ينام)) (¬4). ¬

(¬1) متفق عليه، البخاري، كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة، برقم 843، ورقم 595، ومسلم، كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم 595، وما بين المعقوفات من ألفاظ مسلم. (¬2) وذلك أن جميع الصلوات الخمس مائة وخمسون. نيل الأوطار، 2/ 102، وعمل اليوم والليلة للنسائي، 153. (¬3) وذلك لأن الحسنة بعشر أمثالها، 2/ 102. (¬4) أخرجه النسائي، في كتاب السهو، باب عدد التسبيح بعد التسليم، برقم 1348، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب ما يقال بعد التسليم، برقم 926، وأبو داود، كتاب الأدب، باب التسبيح عند النوم، برقم 5065،والترمذي في كتاب الدعوات، برقم 3410،وقال: حديث حسن صحيح، وأحمد، 2/ 502، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي،1/ 290،وصحيح ابن ماجه، 1/ 152،وله شاهد من حديث أنس عند النسائي، برقم 299،والترمذي، برقم 481،وأحمد، 3/ 120، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، 1/ 255، وحسنه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 279.

النوع الخامس: يسبح إحدى عشرة، ويحمد إحدى عشرة، ويكبر إحدى عشرة

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه وفيه: ((تُسبّحون في دُبُرِ كل صلاة عشرًا، وتَحْمَدون عشرًا، وتُكبّرون عشرًا)) (¬1). النوع الخامس: ((يُسبّح إحدى عشرة، ويَحْمَدُ إحدى عشرة، ويُكبّر إحدى عشرة)) (¬2)؛ لحديث أبي هريرة في فقراء المهاجرين، ففي رواية من روايات هذا الحديث عن سهيل عن أبيه، يقول سهيل: ((إحدى عشرة إحدى عشرة، فجميع ذلك كله ثلاثة وثلاثون)) (¬3). النوع السادس: ((سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)) يقول ذلك كله خمسًا وعشرين مرة؛ لحديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه -،وثبت عن ابن عمر يرفعه أيضًا رضي الله عنهما (¬4). سادسًا: يقرأ آية الكرسي: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} إلى آخرها؛ لحديث أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ قرأ آية الكرسي دُبُرَ كلّ صلاةٍ مكتوبةٍ لم يمنعْه من دخول الجنة إلا الموتُ)). وزاد الطبراني: و {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} (¬5). ¬

(¬1) البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء بعد الصلاة، برقم 6329. (¬2) اختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في الاختيارات الفقهية، ص85، وانظر: زاد المعاد، لابن القيم، 1/ 300. (¬3) مسلم، كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وصفته، برقم 43 - 595، وينظر: زاد المعاد لابن القيم، 1/ 299، ونيل الأوطار، 2/ 101. (¬4) النسائي، كتاب السهو، باب نوع آخر من عدد التسبيح، برقم 1350، 1351، والترمذي، كتاب الدعوات، باب منه، برقم 3413، وقال: هذا حديث صحيح، وابن خزيمة، برقم 752، وأحمد، 5/ 184، والدارمي، 1/ 312، والطبراني، برقم 4898، وابن حبان، برقم 2017، والنسائي في عمل اليوم والليلة، برقم 157، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 1/ 253، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 191. (¬5) النسائي في عمل اليوم والليلة، برقم 100، وابن السني في عمل اليوم والليلة، برقم 121، والطبراني في الكبير، 1/ 114، برقم 7532، وصححه ابن حبان، وقال المنذري في الترغيب والترهيب، 2/ 261: ((رواه النسائي والطبراني بأسانيد أحدها صحيح))،وقال الهيثمي في مجمع الزوائد،0/ 102: ((رواه الطبراني في الكبير والأوسط بأسانيد وأحدها جيد)).وصححه الألباني في صحيح الجامع، 5/ 339،وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة،2/ 697،برقم 972،وانظر: حاشية زاد المعاد، 1/ 305.

سابعًا: يقرأ المعوذات الثلاث: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الفلق}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الناس} دبر كل صلاة، لحديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: ((أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقرأ بالمعوذات دُبُرَ كلّ صلاة)) (¬1). ثامنًا: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت [بيده الخير] (¬2) وهو على كل شيء قدير)) عشر مرات عقب صلاة الفجر وعقب صلاة المغرب؛ لحديث أبي ذر، ومعاذ، وأبي عياش الزرقي، وأبي أيوب، وعبد الرحمن بن غنم الأشعري، وأبي الدرداء، وأبي أمامة، وعمارة بن شبيب السبائي - رضي الله عنهم - (¬3). ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب: في الاستغفار، برقم 1523، والنسائي، كتاب السهو، باب الأمر بقراءة المعوذات بعد التسليم من الصلاة، برقم 1336، والترمذي، كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في المعوذتين، برقم 2903، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 284، وصحيح الترمذي، 2/ 8. (¬2) انظر: كشف الأستار للبزار، 4/ 25 برقم 3106. (¬3) 1 - أما حديث أبي ذر، فأخرجه الترمذي، كتاب الدعوات، باب: حدثنا قتيبة، برقم 3474، وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح، وأحمد، 5/ 420، وقال المحشى على زاد المعاد: ((بسند صحيح))، 1/ 301، والنسائي في عمل اليوم والليلة، برقم 127. 2 - وأما حديث عبد الرحمن بن غنم الأشعري، فأخرجه أحمد، 4/ 227، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 191. 3 - وأما حديث أبي أيوب فأخرجه أحمد، 5/ 414، 415، 420، والنسائي في عمل اليوم والليلة، برقم 24،وابن حبان في صحيحه، برقم 2023،وصححه الألباني في صحيح الترغيب، 1/ 190. 4 - وأما حديث أبي عياش الزرقي، فأخرجه أحمد، 4/ 60، وأبو داود، كتاب الأدب، باب في التسبيح عند النوم، برقم 5077، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب ما يدعو به الرجل إذا أصبح وإذا أمسى، برقم 3867. 5 - وأما حديث معاذ، فأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة، برقم 126، وابن السني في عمل اليوم والليلة، برقم 139، والطبراني في كتاب الدعاء، رقم 705. 6 - وأما حديث عمارة بن شبيب السبائي، فأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة، برقم 577، و578، والترمذي، كتاب الدعوات، باب حدثنا محمد بن حميد، برقم 3534، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 190. 7 - وأما حديث أبي أمامة، فرواه الطبراني وقال عنه المنذري في الترغيب والترهيب، 1/ 375: ((رواه الطبراني في الأوسط بإسناد جيد))، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 10/ 111: ((رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجال الأوسط ثقات))، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب، 1/ 191. 8 - وأما حديث أبي الدرداء، فذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، 10/ 111، وعزاه للطبراني في الكبير والأوسط، وقال المحشّي على الترغيب والترهيب للمنذري، 1/ 75: حسن بشواهده.

ومجموع ما في أحاديثهم - رضي الله عنهم - أن من قالها بعد صلاة المغرب أو صلاة الصبح عشر مرات، بعث الله له مسلحة يحرسونه من الشيطان حتى يصبح، ومن حين يصبح حتى يمسي، ورفع له عشر درجات، وكان في حرزٍ من كل مكروه يومه ذلك، وكتب الله له بها عشر حسنات موجبات، ومحا عنه عشر سيئات موبقات، وكانت له كعدل عشر رقبات مؤمنات، ولم ينبغِ لذنب أن يدركه في ذلك اليوم إلا الشرك بالله)) وكان من أفضل الناس عملاً إلا رجلاً يفضله بقول أفضل مما قال. تاسعًا: اللهم إني أسألك علمًا نافعًا، ورزقًا طيبًا، وعملاً مُتَقَبَّلاً)) بعد السلام من صلاة الفجر؛ لحديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول إذا صلى الصبح حين يسلم: ((اللهم إني أسألك علمًا نافعًا ... )) الحديث (¬1). عاشرًا: ((ربّ قني عذابك يوم تبعث عبادك))؛لحديث البراء - رضي الله عنه - قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحببنا أن نكون عن يمينه، يقبل علينا بوجهه، قال: فسمعته يقول: ((ربّ قني عذابك يوم تبعث عبادك أو تجمع عبادك)) (¬2). الحادي عشر: رفع الصوت بالذكر عند انصراف الناس من الفريضة سنة؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتكبير)) (¬3)، وفي لفظ للبخاري: ((أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -)) (¬4). قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: ((فكان المراد أن رفع الصوت بالذكر: أي ¬

(¬1) ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، برقم 925، وأحمد، 6/ 305، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه،1/ 152،وانظر: مجمع الزوائد،10/ 111. (¬2) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب يمين الإمام، برقم 709. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة، برقم 842، ومسلم واللفظ له، كتاب المساجد، باب الذكر بعد الصلاة، برقم 583. (¬4) متفق عليه: البخاري في الكتاب والباب السابقين، برقم 841، ومسلم، كتاب المساجد، باب الذكر بعد الصلاة، برقم 583.

32 - يصلي السنن الرواتب

التكبير، وكأنهم كانوا يبدؤون بالتكبير بعد الصلاة قبل التسبيح والتحميد)) (¬1)، وقد فسَّر ذلك ووضَّحه ما جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن أبا صالح قال: ((الله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، حتى تبلغ من جميعهن ثلاثًا وثلاثين (¬2)، فبدأ بالتكبير. 32 - يصلي السنن الرواتب؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يدع أربعًا قبل الظهر وركعتين قبل الغداة)) (¬3)؛ولحديث أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من صلَّى اثنتي عشرةَ ركعةً في يوم وليلة بُنِيَ له بهنَّ بيتٌ في الجنة))،وفي لفظ: ((ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعًا غير فريضة إلا بنى الله له بيتًا في الجنة، أو إلا بُنيَ له بيتٌ في الجنة)) (¬4)، وزاد الترمذي في تفسيرها: ((أربعًا قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر صلاة الغداة (¬5)؛ ولحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((حفظت من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل صلاة الصبح))، وفي رواية ((وركعتين بعد الجمعة في بيته)) (¬6). فالرواتب عشر، كما قال ابن عمر رضي الله عنهما أو اثنتي عشرة، كما قالت أم حبيبة وعائشة رضي الله عنهما وسمعت شيخنا الإمام العلامة ابن باز - رحمه الله ¬

(¬1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 2/ 326، وسمعت سماحة الإمام ابن باز يقول في هذا الموضع: ((بالتكبير)) يعني مع ((سبحان الله)). (¬2) مسلم، كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة، برقم 595. (¬3) البخاري، كتاب التهجد، باب الركعتين قبل الظهر برقم 1182. (¬4) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب فضل السنن الرواتب قبل الفرائض وبعدهن وبيان عددهن، برقم 728. (¬5) الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء فيمن صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة من السنة وماله فيه من الفضل، برقم 415. (¬6) متفق عليه: البخاري كتاب التهجد، باب الركعتين قبل الظهر، برقم 118، ورقم 937، و1165، و1172، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب فضل السنن الرواتب، برقم 729.

- يذكر أن من أخذ بحديث ابن عمر قال: الرواتب عشر، ومن أخذ بحديث عائشة قال: اثنتي عشرة، ويؤيد حديث عائشة ما رواه الترمذي في تفسيرها، ويدل عليه حديث أم حبيبة في فضل هذه الرواتب، ويحتمل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان تارة يصلي ثنتي عشرة، كما في حديث أم حبيبة وعائشة، وتارة يصلي عشرًا، كما في حديث ابن عمر، فإذا نشط المسلم صلى ثنتي عشرة، وإذا كان هناك شاغل صلى عشرًا، وكلها رواتب، والكمال والتمام أن يصلي كما في حديث عائشة وأم حبيبة (¬1). وإن أراد المسلم أن يحافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار؛ لحديث أم حبيبة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر، وأربع بعدها حرمه الله على النار)) (¬2). وإن أراد المسلم أن يصلي أربعًا قبل العصر رحمه الله؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رحم الله امرءًا صلى أربعًا قبل العصر)) (¬3). ¬

(¬1) سمعته من سماحته - رحمه الله - أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 374. (¬2) أحمد في المسند، 6/ 326، وأبو داود، كتاب التطوع، باب الأربع قبل الظهر وبعدها، برقم 1269، والترمذي، كتاب الصلاة باب منه، برقم 427، وحسنه، والنسائي، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب الاختلاف على إسماعيل بن أبي خالد، برقم 1814، وابن ماجه، قبل الظهر أربعًا وبعدها أربعًا، برقم 1160، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 1/ 191، وسمعت الإمام العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز يقول في تقريره على بلوغ المرام الحديث رقم 381: ((هذا الحديث إسناده جيد، والذي حافظ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - هو ما في حديث ابن عمر وعائشة - رضي الله عنهم -)). قلت: وقد رأيته يصلي أربعًا قبل الظهر وأربعًا بعدها جالسًا في آخر حياته - رحمه الله - (¬3) أحمد في المسند، 2/ 117، وأبو داود كتاب التطوع، باب الصلاة قبل العصر برقم 1271، والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في الأربع قبل العصر، برقم 430، وحسنه، وابن خزيمة في صحيحه، برقم 1193 وغيرهم، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 237، وسمعت الإمام العلامة ابن باز أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 382 يقول: ((جيد لا بأس بإسناده، وهو يدل على مشروعية صلاة قبل العصر وذلك سنة وليست من الرواتب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يواظب عليها، وجاء عنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث علي - رضي الله عنه - أنه كان يصلي ركعتين قبل العصر، وهذا يدلّ على أنه يستحب للمؤمن أن يُصلي قبل العصر ركعتين أو أربعًا)).

المبحث التاسع عشر: أركان الصلاة وواجباتها وسننها

المبحث التاسع عشر: أركان الصّلاة وواجباتها وسننها أولاً: أركان الصلاة: أفعال الصلاة وأقوالها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أركان: وهي ما لا يسقط جهلاً ولا عمدًا ولا سهوًا، وواجبات: وهي ما تبطل به عمدًا ويسقط جهلاً وسهوًا ويجبر بسجود السهو، وسنن: وهي ما لا تبطل به عمدًا ولا سهوًا. الركن في اللغة: جانب الشيء الأقوى، الذي لا يقوم ولا يتم إلا به، وسميت أركان الصلاة: تشبيهًا لها بأركان البيت الذي لا يقوم إلا بها، والركن في الاصطلاح: ماهية الشيء والذي يتركب منه ويكون جزءًا من أجزائه، ولا يوجد ذلك الشيء إلا به، وهو عبارة عن جزء الماهية: وهي الصورة (¬1). وأركان الصلاة أربعة عشر ركنًا على النحو الآتي: الأول: القيام في الفرض مع القدرة؛ لقول الله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ للهِ قَانِتِينَ} (¬2)؛ ولحديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة؟ فقال: ((صلّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطعْ فعلى جنب)) (¬3)؛ ولحديث مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((صلّوا كما رأيتموني أصلّي)) (¬4). الثاني: تكبيرة الإحرام؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث المسيء صلاته: ((إذا قمت إلى الصلاة فكبر)) (¬5)؛ ولحديث علي - رضي الله عنه - يرفعه: ((مفتاح الصلاة ¬

(¬1) انظر: حاشية الروض المربع لابن قاسم، 2/ 122. (¬2) سورة البقرة، الآية: 238. (¬3) البخاري، برقم 1117، تقدم تخريجه. (¬4) البخاري، برقم 631، وتقدم تخريجه. (¬5) متفق عليه: البخاري، برقم 793، ومسلم، برقم 397، وتقدم تخريجه.

الثالث: قراءة الفاتحة مرتبة في كل ركعة

الطّهور، وتحريمُها التكبير، وتحليلُها التسليم)) (¬1). الثالث: قراءة الفاتحة مرتبة في كل ركعة؛ لحديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا صلاةَ لمَنْ لم يقرأْ بفاتحة الكتاب)) (¬2)، وفيها إحدى عشرة تشديدة، فإن ترك حرفًا ولم يأت بما ترك لم تصحَّ صلاته. الرابع: الركوع؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (¬3)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة المسيء صلاته، وفيه: ((ثمّ اركعْ حتى تطمئنَّ راكعًا)) (¬4). الخامس: الرفع من الركوع والاعتدال قائمًا؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث المُسيء صلاته، وفيه: ((ثمّ ارفعْ حتى تعدلَ قائمًا)) (¬5). السادس: السجود على الأعضاء السبعة؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (¬6)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة المسيء صلاته، وفيه: ((ثمّ اسجدْ حتى تطمئنَّ ساجدًا)) (¬7)؛ ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أُمرتُ أن أسجدَ على سبعة أعْظُمٍ: على الجبهة - وأشار بيده على أنفه - واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين)) (¬8). السابع: الرفع من السجود؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا)) (¬9). الثامن: الجلسة بين السجدتين، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((حتى تطمئن جالسًا)) (¬10). ¬

(¬1) أبو داود، برقم 61، والترمذي، برقم 3، وتقدم تخريجه. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 756، ومسلم، برقم 394، وتقدم تخريجه. (¬3) سورة الحج، الآية: 77. (¬4) البخاري، برقم 757، وتقدم تخريجه. (¬5) البخاري، برقم 757، وتقدم تخريجه. (¬6) سورة الحج، الآية: 77. (¬7) متفق عليه: البخاري، برقم 789، ومسلم، برقم 392، وتقدم تخريجه. (¬8) متفق عليه: البخاري، برقم 812، ومسلم، برقم 490، وتقدم تخريجه. (¬9) البخاري، برقم 757، وتقدم تخريجه. (¬10) البخاري، برقم 757، وتقدم تخريجه.

التاسع: الطمأنينة في جميع الأركان

التاسع: الطمأنينة في جميع الأركان؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لَمّا علَّمَ المسيء صلاته كان يقول له في كل ركن: ((حتى تطمئنَّ)) (¬1) والطمأنينة: هي السكون بقدر الذكر الواجب، فلو لم يسكن لم يطمئن (¬2). العاشر: التشهد الأخير؛ لحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - وفيه: ((لا تقولوا: السلامُ على الله، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله ... )) (¬3). ولفظه عند النسائي: كنا نقول في الصلاة قبل أن يُفرض التشهد: السلام على الله، السلام على جبريل، وميكائيل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقولوا هكذا، فإنَّ اللهَ هو السلام، ولكن قولوا: التحياتُ لله ... )) (¬4). الحادي عشر: الجلوس للتشهد الأخير؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله جالسًا، وداوم عليه، كما تقدم في الأحاديث، وقد أمرنا - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة كصلاته، فقال: ((صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي)) (¬5). الثاني عشر: الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأخير؛ لقول الله تعالى: {إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلّمُوا تَسْلِيمًا} (¬6)؛ ولحديث كعب بن عجرة (¬7) - رضي الله عنه - وفيه: ((يا رسول الله قد علمنا كيف نُسلّمُ عليك، فكيف نُصلّي عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صلّ على محمد ... )) الحديث)) (¬8)؛ ولحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - وفيه: ((أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله، فكيف نصلي عليك؟ ¬

(¬1) البخاري، برقم 757، 789، ومسلم، برقم 392، وتقدم تخريجه. (¬2) انظر: حاشية ابن قاسم على الروض المربع، 2/ 126، والشرح الممتع، 3/ 421. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم 831، ومسلم، برقم 835، وتقدم تخريجه. (¬4) النسائي، كتاب السهو، باب إيجاب التشهد، برقم 1278. (¬5) البخاري، كتاب الأذان، باب من قال: ليؤذن في السفر مؤذن واحد، برقم 628، ورقم 6008. (¬6) سورة الأحزاب، الآية: 56. (¬7) انظر: الشرح الممتع لابن عثيمين، 3/ 424 - 425. (¬8) متفق عليه: البخاري، برقم 6357، ومسلم، برقم 406، وتقدم تخريجه.

الثالث عشر: الترتيب بين أركان الصلاة

فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قولوا: اللهمَّ صلّ على محمد ... )) الحديث (¬1). الثالث عشر: الترتيب بين أركان الصلاة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم المسيء صلاته مرتبة بـ ((ثُمَّ))، فقال: ((إذا قمت إلى الصلاة فكبّرْ، ثم اقرأْ ما تيسَّرَ معك مِنَ القرآن، ثمَّ اركعْ حتى تطمئنَّ راكعًا، ثم ارفعْ حتى تعتدلَ قائمًا، ثمَّ اسجدْ حتى تطمئنَّ ساجدًا، ثمَّ ارفعْ حتى تطمئنَّ جالسًا، ثمَّ اسجدْ حتى تطمئنَّ ساجدًا، ثمَّ ارفعْ حتى تطمئنَّ جالسًا، ثم افعلْ ذلك في صلاتك كلها)) (¬2)، وقال أبو أسامة في الأخير: ((حتى تستويَ قائمًا)) (¬3)؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - واظب على هذا الترتيب، وقال: ((صلّوا كما رأيتموني أصلّي)) (¬4). الرابع عشر: التسليمتان؛ لحديث علي - رضي الله عنه - يرفعه: ((مفتاح الصلاة الطّهور، وتحريمها التّكْبير، وتحليلُها التسليم)) (¬5)؛ولحديث عامر بن سعد عن أبيه - رضي الله عنه - قال: ((كنت أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلم عن يمينه وعن يساره حتى أرى بياض خده)) (¬6). ثانيًا: واجبات الصلاة: واجبات الصلاة ثمانية، تبطل الصلاة بتركها عمدًا، وتسقط سهوًا وجهلاً، وتجبر بسجود السهو، وهي على النحو الآتي: الأول: جميع التكبيرات غير تكبيرة الإحرام (¬7)؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - ¬

(¬1) مسلم، برقم 405، وتقدم تخريجه. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 757، 793، 6251، ومسلم، برقم 392، وتقدم تخريجه. (¬3) البخاري، برقم 6667. (¬4) البخاري، برقم 628، 6008، وتقدم تخريجه. (¬5) أبو داود، برقم 61، والترمذي، برقم 3، وتقدم تخريجه. (¬6) مسلم، برقم 582، وتقدم تخريجه. (¬7) ويستثنى ما يلي: التكبيرات الزوائد في صلاة العيد والاستسقاء، فإنها سنة. تكبيرات الجنازة، فإنها ركن. تكبيرة الركوع لمن أدرك الإمام راكعًا. فإنها سنة. انظر: الشرح الممتع لابن عثيمين، 3/ 432.

الثاني: قول: سبحان ربي العظيم في الركوع

يرفعه: ((إنما جُعلَ الإمامُ ليؤتمَّ به، فإذا كبَّر فكبروا)) (¬1)؛ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال عكرمة: رأيت رجلاً عند المقام يكبّر في كل خفض ورفع، وإذا قام وإذا وضع، فأخبرت ابن عباس رضي الله عنهما فقال: ((أوليس تلك صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا أم لك؟)) (¬2). وفي رواية: ((صليت خلف شيخ بمكةَ فكبّر ثنتين وعشرين تكبيرة، فقلت لابن عباس: إنه أحمق، فقال: ثكلتك أمك، سُنّة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -)) (¬3)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يكبّر حين يقوم، ثم يكبّر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركوع، ثم يقول وهو قائم: ربنا لك الحمد، ثم يكبر حين يهوي ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها، حتى يقضيها، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس)) (¬4). الثاني: قول: سبحان ربي العظيم في الركوع؛ لحديث حذيفة - رضي الله عنه - يرفعه: ((فكان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم)) (¬5)؛ ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وأما الركوع فعظّمُوا فيه الربَّ - عز وجل -)) (¬6). الثالث: قول: ((سمع الله لمن حمده)) للإمام والمنفرد؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه وفيه: ((ثم يقول: سمع الله لمن حمده إذا رفع صلبه من الركوع)) (¬7). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 733، ومسلم، برقم 411، وتقدم تخريجه. (¬2) البخاري، كتاب الأذان، باب إتمام التكبير في السجود، برقم 787، وانظر: سنن النسائي، 2/ 205، برقم 1083، والترمذي، برقم 253، وأحمد، 1/ 386. (¬3) البخاري، كتاب الأذان، باب التكبير إذا قام من السجود، برقم 788. (¬4) متفق عليه: البخاري، برقم 789، ومسلم، برقم 392، وتقدم تخريجه. (¬5) مسلم، برقم 772، وتقدم تخريجه. (¬6) مسلم، برقم 479، وتقدم تخريجه. (¬7) متفق عليه: البخاري، برقم 789، ومسلم، برقم 392، وتقدم تخريجه.

الرابع: قول: ربنا ولك الحمد للكل الإمام، والمنفرد، والمأموم

الرابع: قول: ربنا ولك الحمد للكل [الإمام، والمنفرد، والمأموم] أما الإمام والمنفرد؛ فلحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه وفيه: ((ثم يقول وهو قائم: ربنا ولك الحمد)) (¬1). وأما المأموم؛ فلحديث أنس - رضي الله عنه - يرفعه وفيه: ((وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد)) (¬2). الخامس: قول: سبحان ربي الأعلى في السجود؛ لحديث حذيفة يرفعه وفيه: ((ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى)) (¬3). السادس: قول: ((ربّ اغفر لي بين السجدتين))؛ لحديث حذيفة - رضي الله عنه - يرفعه وفيه: وكان يقول: ((ربّ اغفر لي، ربّ اغفر لي)) (¬4). السابع: التشهد الأول؛ لحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: علَّمَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نقول إذا جلسنا في الركعتين: التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله (¬5)؛ولحديث عبد الله بن بحينة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام في صلاة الظهر وعليه جلوس، فلما أتم صلاته سجد سجدتين يكبّر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلّم، وسجدهما الناس معه مكان ما نسي من الجلوس (¬6). الثامن: الجلوس للتشهد الأول؛ لحديث عبد الله بن بحينة السابق وفيه: ((قام في صلاة الظهر وعليه جلوس، فلما أتم صلاته سجد سجدتين يكبر في كل سجدة وهو جالس، قبل أن يسلم وسجدهما ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 789، ومسلم، برقم 392، وتقدم تخريجه. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 733، ومسلم، برقم 411، وتقدم تخريجه. (¬3) مسلم، برقم 772، وتقدم تخريجه. (¬4) أبو داود، برقم 874، وابن ماجه، برقم 897، وتقدم تخريجه. (¬5) النسائي، كتاب التطبيق، باب كيف التشهد الأول، برقم 1163، 1164، وأحمد، 1/ 437. (¬6) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب التشهد في الأولى، برقم 830، ومسلم، واللفظ له، كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له، برقم 570.

ثالثا: سنن الصلاة:

الناس معه، مكان ما نسي من الجلوس)) (¬1). ثالثًا: سنن الصلاة: وهي سنن أقوال وأفعال، ولا تبطل الصلاة بترك شيء منها عمدًا ولا سهوًا، وسنن الصلاة، هي ما عدا الشروط، والأركان، والواجبات، وهي على النحو الآتي (¬2): 1 - رفع اليدين حذو المنكبين أو الأذنين، مع تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع منه، وعند القيام من التشهد الأول؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (¬3)؛ ولحديث مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - (¬4). 2 - وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى على الصدر؛ لحديث وائل - رضي الله عنه - (¬5)؛ ولحديث سهل - رضي الله عنه - (¬6). 3 - النظر إلى موضع السجود في الصلاة؛ لحديث عشرة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬7). 4 - دعاء الاستفتاح؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬8). 5 - التعوذ بالله من الشيطان؛ للآية؛ ولحديث أبي سعيد - رضي الله عنه - (¬9). ¬

(¬1) تقدم تخريجه في الذي قبله. (¬2) من السنن قبل الدخول في الصلاة: السواك عند كل صلاة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لولا أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة)) متفق عليه: البخاري، برقم 887، ومسلم، برقم 252. ومن السنن قبل الصلاة اتخاذ سترة للإمام والمنفرد؛ لحديث أبي ذر - رضي الله عنه - يرفعه: ((إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل مؤخرة الرحل)) مسلم، برقم 510، وتقدم تخريجه. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم 735، ومسلم، برقم 390، وتقدم تخريجه. (¬4) متفق عليه: البخاري، برقم 737، ومسلم، برقم 391، وتقدم تخريجه. (¬5) أخرجه ابن خزيمة، برقم 479، وتقدم تخريجه. (¬6) البخاري، برقم 740، وتقدم تخريجه. (¬7) السنن الكبرى للبيهقي، 2/ 283، 5/ 258، والحاكم، 1/ 479، وتقدم تخريجه. (¬8) متفق عليه: البخاري، برقم 743، ومسلم، برقم 598، وتقدم تخريجه. (¬9) أبو داود، برقم 775، والترمذي، برقم 242، وتقدم تخريجه.

6 - البسملة

6 - البسملة؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - (¬1). 7 - قول آمين بعد قراءة الفاتحة، يجهر بها في الجهرية ويُسرُّ في السّرية؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬2). 8 - قراءة سورة بعد الفاتحة في الركعتين الأوليين، أو ما تيسَّرَ من القرآن؛ لحديث أبي قتادة - رضي الله عنه - (¬3). 9 - الجهر بالقراءة في الصلاة الجهرية؛ لحديث جبير بن مطعم - رضي الله عنه - (¬4)؛ ولغيره من الأحاديث (¬5). 10 - الإسرار في الصلاة السّرية؛ لحديث خباب - رضي الله عنه - وأنهم كانوا يعرفون قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الظهر والعصر، باضطراب لحيته (¬6). 11 - السكتة اللطيفة بعد الفراغ من القراءة كلها؛ لحديث الحسن عن سمرة - رضي الله عنه - (¬7). 12 - وضع اليدين مفرجتي الأصابع على الركبتين كأنه قابض عليهما؛ لحديث أبي حُميد الساعدي - رضي الله عنه - (¬8). 13 - مدّ الظَّهْر في الركوع حتى لو صب عليه الماء لاستقر، وجعل الرأس حيال الظهر؛ لحديث رفاعة بن رافع - رضي الله عنه - (¬9)؛ ولحديث وابصة بن معبد - رضي الله عنه - (¬10). 14 - مجافاة اليدين عن الجنبين في الركوع؛ لحديث أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه - (¬11). ¬

(¬1) أحمد، 3/ 264، والنسائي، برقم 907، وتقدم تخريجه. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 780، ومسلم، برقم 410، وتقدم تخريجه. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم 759، ومسلم، برقم 451، وتقدم تخريجه. (¬4) متفق عليه: البخاري، برقم 765، ومسلم، برقم 463، وتقدم تخريجه. (¬5) جاءت الأخبار الكثيرة بالجهر في صلاة الفجر والعشاء والمغرب، انظر: صحيح البخاري، من حديث رقم 763 - 774، وتقدمت. (¬6) البخاري، كتاب الأذان، باب القراءة في العصر، برقم 761. (¬7) أبو داود، برقم 778، والترمذي، برقم 251، وتقدم تخريجه. (¬8) البخاري، برقم 828، وأبو داود، برقم 731، 734، وتقدم تخريجه. (¬9) أبو داود، برقم 859، وتقدم تخريجه. (¬10) ابن ماجه، برقم 872، وتقدم تخريجه. (¬11) أبو داود، برقم 734، وتقدم تخريجه.

15 - ما زاد على التسبيحة الواحدة في الركوع والسجود

15 - ما زاد على التسبيحة الواحدة في الركوع والسجود؛ لحديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - (¬1). 16 - ما زاد على المرة الواحدة في سؤال الله المغفرة بين السجدتين؛ لحديث حذيفة - رضي الله عنه - (¬2). 17 - قول ((ملء السموات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد)) بعد قول: ربنا لك الحمد؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - (¬3). 18 - وضع الركبتين قبل اليدين في السجود، ورفع اليدين قبل الركبتين في القيام؛ لحديث وائل بن حُجر - رضي الله عنه - (¬4). 19 - ضم أصابع اليدين في السجود؛ لحديث وائل - رضي الله عنه - (¬5). 20 - تفريج أصابع الرجلين في السجود؛ لحديث أبي حُميد - رضي الله عنه - (¬6). 21 - استقبال القبلة بأطراف أصابع اليدين والرجلين في السجود؛ لحديث أبي حُميد الساعدي (¬7). 22 - مجافاة العضدين عن الجنبين في السجود؛ لحديث عبد الله بن مالك بن بُحينة - رضي الله عنه - (¬8). 23 - مجافاة البطن عن الفخذين، والفخذين عن الساقين، والتفريج بين الفخذين؛ لحديث أبي حُميد - رضي الله عنه - (¬9). 24 - وضع اليدين حذو المنكبين أو الأذنين في السجود، والسجود ¬

(¬1) مسلم، برقم 772، وابن ماجه، برقم 888، وتقدم تخريجه. (¬2) أبو داود، برقم 874، وابن ماجه، برقم 897، وتقدم تخريجه. (¬3) مسلم، برقم 477، 478، وتقدم تخريجه. (¬4) أبو داود، برقم 838، 839، والترمذي، برقم 268، وتقدم تخريجه. (¬5) الحاكم، 1/ 224، وتقدم تخريجه. (¬6) أبو داود، برقم 730، وابن خزيمة في صحيحه، برقم 651، وتقدم تخريجه. (¬7) البخاري، برقم 828، وصحيح ابن خزيمة، برقم 643، وتقدم تخريجه. (¬8) متفق عليه: البخاري برقم 807، ومسلم، برقم 495، 496، وتقدم تخريجه. (¬9) أبو داود، برقم 735، وتقدم تخريجه.

25 - ضم القدمين والعقبين ونصبهما في السجود

بينهما؛ لحديث أبي حُميد - رضي الله عنه - (¬1)، وحديث وائل - رضي الله عنه - (¬2)؛ والبراء - رضي الله عنه - (¬3). 25 - ضم القدمين والعقبين ونصبهما في السجود؛ لحديث عائشة رضي الله عنها (¬4). 26 - الإكثار من الدعاء في السجود؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬5)؛ ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما (¬6). 27 - افتراش الرجل اليسرى ونصب اليمنى في الجلوس بين السجدتين وفي التشهد الأول؛ لحديث عائشة رضي الله عنها (¬7). 28 - وضع اليد اليمنى على الفخذ اليمنى واليسرى على اليسرى إذا جلس في الصلاة، أو وضع الكفين على الركبتين، أو وضع الكف اليمنى على الفخذ اليمنى واليسرى على اليسرى ويُلْقِمُ كفّه اليسرى ركبته؛ لحديث عبد الله بن الزبير عن أبيه (¬8)؛ وحديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - (¬9). 29 - وضع الذارعين على الفخذين في التشهد، وفي الجلوس بين السجدتين؛ لحديث وائل بن حُجر - رضي الله عنه - (¬10). 30 - قبض خِنصر وبِنصر اليد اليمنى في التشهد، والتّحْليق بين الإبهام والوُسْطى، والإشارة بالسبابة وتحريكها إلى القبلة عند ذكر الله، وعند الدعاء؛ لحديث وائل بن حجر - رضي الله عنه - (¬11). 31 - جلسة الاستراحة قبل القيام إلى الركعة الثانية، والركعة الرابعة؛ لحديث ¬

(¬1) أبو داود، برقم 734، والترمذي، برقم 270، وتقدم تخريجه. (¬2) النسائي، برقم 889، وتقدم تخريجه. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم 822، ومسلم، برقم 493، وتقدم تخريجه. (¬4) مسلم، برقم 486، وصحيح ابن خزيمة، برقم 654، وتقدم تخريجه. (¬5) مسلم، برقم 482، وتقدم تخريجه. (¬6) مسلم، برقم 479، وتقدم تخريجه. (¬7) مسلم، برقم 498، وتقدم تخريجه. (¬8) مسلم، برقم 579، وتقدم تخريجه. (¬9) مسلم، برقم 580، وتقدم تخريجه. (¬10) النسائي، برقم 1264، وتقدم تخريجه. (¬11) ابن ماجه، برقم 912، وتقدم تخريجه.

32 - التورك في التشهد الثاني

مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - (¬1)؛ولحديث أبي حُميد السّاعدي - رضي الله عنه - (¬2)،وأبي هريرة - رضي الله عنه - (¬3). 32 - التورُّك في التشهد الثاني؛ لحديث أبي حُميد الساعدي - رضي الله عنه - (¬4). 33 - النظر إلى السبابة عند الإشارة بها في الجلوس؛ لحديث عبد الله بن الزبير (¬5)؛ ولحديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - (¬6). 34 - الصلاة والتبريك على محمد وآل محمد، وعلى إبراهيم وآل إبراهيم في التشهد الأول؛ لعموم الأدلة (¬7). 35 - الدعاء والتعوُّذ من أربع بعد التشهد الثاني؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬8). 36 - الالتفات يمينًا وشمالاً في التسليمتين؛ لحديث عامر بن سعد عن أبيه - رضي الله عنه - (¬9). 37 - نيته في سلامه: الخروج من الصلاة، والسلام على الملائكة والحاضرين؛ لأدلة كثيرة (¬10)، منها حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه - وفيه: ((علامَ تؤمِئُون بأيديكم كأنها أذناب خيل شُمُسٍ، إنما يكفي أحدَكم أن يضعَ يدَه على فخذه ثم يسلّم على أخيه: من على يمينه وشماله)) (¬11). ¬

(¬1) البخاري، برقم 823، وتقدم تخريجه. (¬2) أبو داود، برقم 730، وتقدم تخريجه. (¬3) البخاري، برقم 6251، وتقدم تخريجه. (¬4) البخاري، برقم 828، وتقدم تخريجه. (¬5) النسائي، برقم 1275، وتقدم تخريجه. (¬6) النسائي، برقم 1660، وتقدم تخريجه. (¬7) انظر: الدروس المهمة للإمام ابن باز، الدرس العاشر. (¬8) متفق عليه: البخاري، برقم 1377، ومسلم، برقم 588، وتقدم تخريجه. (¬9) مسلم، برقم 582، وتقدم تخريجه. (¬10) انظر: حاشية ابن قاسم على الروض، 2/ 79، والشرح الممتع، 3/ 289. (¬11) مسلم، برقم 431، وتقدم تخريجه.

المبحث العشرون: مكروهات الصلاة ومبطلاتها

المبحث العشرون: مكروهات الصلاة ومبطلاتها أولاً: مكروهات الصلاة: ينبغي للمسلم العناية بصلاته والإقبال عليها بقلبه؛ لأنه يناجي ربه - عز وجل -؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - يرفعه وفيه: ((إن أحدَكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربَّه، أو إن ربَّه بينه وبين القِبلة، فلا يبزُقنَّ أحدُكم قِبَل قبلته ... )) (¬1)؛ ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما يرفعه وفيه: ((إذا كان أحدُكم يصلّي، فلا يبصُق قِبَل وجهه؛ فإن الله قِبَل وجهه إذا صلى)) (¬2). والصلاة لا تبطل بفعل ما يكره فيها ولكن كمال الأدب يقتضي البعد عن جميع المكروهات، ومنها: 1 - الالتفات لغير حاجة؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الالتفات في الصلاة، فقال: ((هو اختلاسٌ يختلِسُه الشيطانُ من صلاةِ أحدِكم)) (¬3)، والالتفات نوعان: النوع الأول: التفات حِسّي، وعلاجه بالسكون في الصلاة، وعدم الحركة. النوع الثاني: التفات معنوي بالقلب، وهذا علاجه صعب شاقٌّ، إلا على من يسَّره الله عليه، ولكن من أعظم العلاج استحضار عظمة الله، والوقوف بين يديه، والاستعاذة بالله من الشيطان، والتفل عن اليسار ثلاثًا؛ لحديث عثمان بن أبي العاص أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يُلَبّسُها عليّ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ذاك شيطان يقال له: خنزبٌ فإذا أحْسَسْتَه فتعوذْ بالله منه، واتفلْ عن يسارك ثلاثًا)) قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني (¬4). 2 - رفع البصر إلى السماء؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

(¬1) البخاري، كتاب الصلاة، باب حك البزاق باليد من المسجد، برقم 405. (¬2) البخاري، كتاب الصلاة، باب حك البزاق باليد من المسجد، برقم 406. (¬3) البخاري، كتاب الأذان، باب الالتفات في الصلاة، برقم 751، 3291. (¬4) مسلم، كتاب السلام، باب التعوذ من شيطان الوسوسة في الصلاة، برقم 2203.

3 - افتراش الذراعين في السجود

((ما بالُ أقوامٍ يرفعون أبصارَهم إلى السماء في صلاتهم))؟ فاشتدَّ قوله في ذلك حتى قال: ((لينتهُنَّ عن ذلك أو لتُخَطَفَنَّ أبصارُهم)) (¬1). 3 - افتراش الذراعين في السجود؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اعتدِلوا في السجود، ولا يبسطُ أحدُكم ذراعيه انبساطَ الكلب)) (¬2). 4 - التخصر؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي الرجل مختصِرًا)) (¬3)؛ ولقول عائشة رضي الله عنها ((أنها كانت تكره أن يجعل المصلي يدَه في خاصرته، وتقول: إن اليهود تفعله)) (¬4). 5 - النظر إلى ما يلهي ويشغل؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في خميصة (¬5) لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف قال: ((اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جَهْمٍ، وائتوني بأنجبانية (¬6) أبي جَهْم؛ فإنها ألهتني آنفًا عن صلاتي)) (¬7). 6 - الصلاة إلى ما يشغل ويُلهي؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: كان قرام (¬8) لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أميطي عنا قرامك؛ فإنه لا تزال تصاويرُه تعرِض [لي] في صلاتي)) (¬9). ¬

(¬1) البخاري، كتاب الأذان، باب رفع البصر إلى السماء في الصلاة، برقم 750. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 822، ومسلم، برقم 493، وتقدم تخريجه. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب العمل في الصلاة، باب الخصر في الصلاة، برقم 1220، ومسلم، كتاب المساجد، باب كراهة الاختصار في الصلاة، برقم 545. (¬4) البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، برقم 3458. (¬5) الخميصة: كساء له أعلام. شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 47. (¬6) أنجبانية: كساء غليظ لا علم له. شرح النووي، 5/ 47. (¬7) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب إذا صلى في ثوب له أعلام، ونظر إلى علمها، برقم 373، ومسلم، كتاب المساجد، باب كراهة الصلاة في ثوب له أعلام، برقم 556. (¬8) القرام: ستر رقيق من صوف، ذو ألوان. فتح الباري، 1/ 484. (¬9) البخاري، كتاب الصلاة، باب إن صلى في ثوب مُصلَّب أو تصاوير، هل تفسد صلاته وما ينهى عن ذلك، برقم 374، 5959، وما بين المعقوفين من رواية في كتاب اللباس، باب كراهية الصلاة في التصاوير، برقم 5959.

7 - الإقعاء المذموم

7 - الإقعاء المذموم؛ لحديث عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: ((وكان ينهى عن عقبة الشيطان)) (¬1)، هذا الإقعاء المكروه وهو: أن يلصق أليتيه بالأرض، وينصب ساقيه، ويضع يديه على الأرض كما يقعي الكلب وغيره من السباع، وهذا الإقعاء على هذه الصفة مكروه باتفاق العلماء (¬2). وقد جاء نوع آخر في جواز الإقعاء بل سنيته، فعن طاوس، قال: قلنا لابن عباس في الإقعاء على القدمين فقال: ((هي السنة)) فقلنا له: إنا لنراه جفاءً بالرجل، فقال ابن عباس: ((بل هي سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم -)) (¬3)، وقد ذكر النووي - رحمه الله - أن العلماء اختلفوا اختلافًا كثيرًا في الإقعاء وتفسيره، ثم قال: ((والصواب الذي لا معدل عنه أن الإقعاء نوعان: أحدهما: أن يلصق أليتيه بالأرض وينصب ساقيه ويضع يديه على الأرض، كإقعاء الكلب ... ... وهذا النوع هو المكروه الذي ورد فيه النهين، والنوع الثاني: أن يجعل أليتيه على عقبيه بين السجدتين، وهذا هو مراد ابن عباس بقوله: ((سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم -)) (¬4) فظهر أن الإقعاء الذي اختار ابن عباس وغيره من العبادلة أنه من السنة: هو وضع الأليتين على العقبين بين السجدتين والركبتين على الأرض (¬5) وهناك نوع ثالث للإقعاء وهو أن ¬

(¬1) مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يجمع صفة الصلاة، برقم 498. (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 458، 461. (¬3) مسلم، كتاب الصلاة، باب جواز الإقعاء على العقبين، برقم 536. (¬4) شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 22. (¬5) نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 59، وسبل السلام للصنعاني، 2/ 232، وتحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، 2/ 157 - 161. وسمعت الإمام عبد العزيز ابن باز - رحمه الله - يقول: ((الإقعاء المكروه وهو أن ينصب فخذيه وساقيه ويعتمد على يديه، كالكلب، أما كونه يجلس على عقبيه فهذا سنة كما قال ابن عباس رضي الله عنهما لكن الافتراش أفضل)). سمعته أثناء شرحه لبلوغ المرام، حديث رقم 289، وشرحه للروض المربع، 2/ 89.

8 - عبث المصلي بجوارحه

يفرش قدميه فيجعل ظهورهما نحو الأرض ويجلس (¬1) على عقبيه (¬2). 8 - عبث المصلي بجوارحه، أو مكانه لغير حاجة؛ لحديث معيقيب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الرجل يسوّي التراب حيث يسجد، قال: ((إن كنت فاعلاً فواحدة)) (¬3). 9 - تشبيك الأصابع، وفرقعتها في الصلاة؛ لحديث كعب بن عُجرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا توضأ أحدُكم فأحسنَ وضوءَه، ثم خرج عامدًا إلى المسجد فلا يشبكن بين أصابعه؛ فإنه في صلاة)) (¬4). فمن كان في الصلاة فهو أولى بالنهي (¬5)؛ ولقول ابن عمر رضي الله عنهما في الذي يصلي وهو مشبك بين يديه: ((تلك صلاة المغضوب عليهم)) (¬6). والتشبيك بين الأصابع يكره أثناء الذهاب إلى الصلاة، وفي أثناء الصلاة، أما بعد الصلاة فلا بأس به (¬7)؛لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه وفيه: ((صلى بنا ركعتين ثم سلم فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه ... الحديث)) (¬8). ¬

(¬1) وسمعت الإمام ابن باز رحمه الله أثناء شرحه للروض المربع،2/ 89 يقول: ((وهذه لا بأس بها سواء نصبها أو جلس عليهما، والإقعاء المكروه هو نصب ساقيه وفخذيه ويعتمد على يديه كالكلب)). (¬2) انظر: حاشية ابن قاسم على الروض المربع، 2/ 89، والشرح الممتع لابن عثيمين، 3/ 317. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب العمل في الصلاة، باب مسح الحصى في الصلاة برقم 1207، ومسلم، كتاب المساجد، باب كراهة مسح الحصى وتسوية التراب في الصلاة، برقم 546. (¬4) الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في كراهية التشبيك بين الأصابع في الصلاة، برقم 387، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي،1/ 121. (¬5) انظر: الشرح الممتع لابن عثيمين، 3/ 324. (¬6) أبو داود، كتاب الصلاة، باب كراهة الاعتماد على اليد في الصلاة، برقم 993، وصححه الألباني في الإرواء، برقم 380، وفي صحيح سنن أبي داود، 1/ 186. (¬7) وسمعت الإمام ابن باز - رحمه الله - أثناء شرحه للروض المربع، 2/ 93 يقول: ((التشبيك في الصلاة وعند الذهاب إليها جاء من طرق، أما التشبيك بعد الصلاة فلا بأس به)). (¬8) متفق عليه: البخاري واللفظ له، كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، برقم 482، ومسلم، كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة، برقم 573، وسمعت شيخنا الإمام ابن باز يقول في تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 478 - 482: ((والتشبيك لا بأس به بعد الصلاة، أما قبل الصلاة وفي الصلاة فلا يشبك)) وذلك بتاريخ 10/ 6/1419هـ.

10 - الصلاة بحضرة الطعام

10 - الصلاة بحضرة الطعام؛ لحديث عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إذا وضع العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤا بالعشاء)) (¬1)؛ ولحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كان أحدكم على الطعام فلا يعجل حتى يقضي حاجته منه وإن أقيمت الصلاة)) (¬2). ويشترط لذلك ثلاثة شروط: أولاً: أن يكون الطعام حاضرًا، والثاني: أن تكون نفس المصلي تتوق إليه، فإذا كان شبعان لا يلتفت إليه فليصلّ ولا كراهية، والثالث: أن يكون قادرًا على تناوله حسًّا وشرعًا: فالحس كأن يكون الطعام حارًّا لا يستطيع تناوله، والشرع كأن يكون المسلم صائمًا ممنوعًا من الطعام شرعًا، فلا كراهة في الصلاة حينئذٍ (¬3). 11 - مدافعة الأخبثين [البول والغائط] في الصلاة؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا صلاة بحضرة الطعام ولا هو يدافعه الأخبثان)) (¬4). 12 - بصاق المصلي أمامه أو عن يمينه في الصلاة؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه، ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب: إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة، برقم 671، ومسلم، كتاب المساجد، باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله في الحال، برقم 558. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب: إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة، برقم 674، ومسلم، كتاب المساجد، باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله في الحال، برقم 559. (¬3) الشرح الممتع لابن عثيمين، 3/ 328، 330. (¬4) مسلم، كتاب المساجد، باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله في الحال وكراهة الصلاة مع مدافعة الحدث، برقم 560.

أو إن ربه بينه وبين القبلة فلا يبزقن أحدكم قِبَلَ قبلته، ولكن عن يساره أو تحت قدمه)) ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه ثم رد بعضه على بعض فقال: ((أو يفعل هكذا)) (¬1)؛ ولحديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى نخامة في جدار المسجد، فتناول حصاة فحكها، ثم قال: ((إذا تنخم أحدكم فلا يتنخم قبل وجهه، ولا عن يمينه، وليبصق عن يساره، أو تحت قدمه اليسرى)) (¬2). وفي لفظ للبخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه فإنما يناجي الله مادام في مصلاه، ولا عن يمينه؛ فإن عن يمينه ملكًا، وليبصق عن يساره، أو تحت قدمه فيدفنها)) (¬3). وقد جزم الإمام النووي - رحمه الله - بالمنع من البزاق قِبَل القبلة وعن اليمين مطلقًا سواء كان داخل الصلاة أو خارجها، وسواء كان في المسجد أو غيره؛ لأحاديث دلت على العموم (¬4). أما إذا كان المصلي في المسجد فيتعين عليه أن لا يبصق مطلقًا إلا في ثوبه أو في منديل؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها)) (¬5). وعن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((عرضت علَّي أعمال أمتي: حَسنُها، ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب حك البزاق باليد من المسجد، برقم 405، ومسلم، كتاب المساجد: باب النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها، والنهي عن بصاق المصلي بين يديه وعن يمينه، برقم 551. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، بابٌ: لا يبصق عن يمينه في الصلاة، برقم 410، 411، 408، 409، ومسلم، كتاب المساجد، باب النهي عن البصاق في المسجد، برقم 548. (¬3) البخاري، برقم 416، تقدم تخريجه في الذي قبله. (¬4) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 39، والأحاديث التي دلت على العموم في الصلاة وفي غيرها وفي المسجد وغيره. انظرها في صحيح ابن خزيمة، 2/ 62، برقم 925، و2/ 278، برقم 1313، و1314، و3/ 83، برقم 1663، وصحيح ابن حبان [الإحسان]، 3/ 77،برقم 1636،و3/ 78،برقم 1637،وسنن أبي داود، برقم 3824، والبيهقي، 3/ 76.وانظر: سبل السلام للصنعاني، 3/ 170. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب كفارة البزاق في المسجد، برقم 415، ومسلم، كتاب المساجد، باب النهي عن البصاق في المسجد، برقم 552.

13 - كف الشعر أو الثوب في الصلاة

وسَيئُها فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدتُ في مساوئ أعمالها النخاعة تكون في المسجد ولا تدفن)) (¬1). 13 - كف الشعر أو الثوب في الصلاة؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((أُمرت أن أسجد على سبعة أعظُمٍ ولا أكفَّ ثوبًا ولا شعرًا)) (¬2). 14 - عقص الرأس في الصلاة؛ لحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه رأى عبد الله بن الحارث يصلي ورأسه معقوص (¬3) من ورائه، فقام فجعل يحلّه، فلما انصرف أقبل إلى ابن عباس فقال: مالك ورأسي؟ فقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنما مثل هذا مثل الذي يصلي وهو مكتوف)) (¬4). 15 - تغطية الفم في الصلاة. 16 - السدل في الصلاة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نهى عن السدل (¬5) في الصلاة وأن يغطي الرجل فاه)) (¬6). 17 - تخصيص مكان من المسجد للصلاة فيه دائمًا لغير الإمام؛ لحديث عبد الحميد بن سلمة عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نهى عن نقرة ¬

(¬1) مسلم، كتاب المساجد، باب النهي عن البصاق في المسجد، برقم 553. (¬2) متفق عليه: البخاري برقم 812، ومسلم، برقم 490، وتقدم تخريجه. (¬3) معقوص: المعقوص هو نحو من المضفور، وأصل العقص: اللي وإدخال أطراف الشعر في أصوله، النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، 1/ 275، والمصباح المنير للفيومي، 2/ 422. (¬4) مسلم، كتاب الصلاة، باب أعضاء السجود، والنهي عن كف الشعر، والثوب، وعقص الرأس في الصلاة، برقم 492. (¬5) السدل: وهو أن يلتحف بثوبه ويدخل يديه من داخل، فيركع ويسجد وهو كذلك، وقيل: هو أن يضع وسط الإزار على رأسه ويرسل طرفيه عن يمينه وشماله من غير أن يجعلهما على كتفيه. النهاية لابن الأثير، 2/ 355، والمصباح المنير، 1/ 271. (¬6) أبو داود، كتاب الصلاة، باب السدل في الصلاة، برقم 643، بلفظه، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها باب ما يكره في الصلاة، برقم 966، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 126، وصحيح ابن ماجه، 1/ 159.

18 - الاعتماد على اليد في الجلوس في الصلاة

الغراب، وعن فرشة السبع، وأن يوطن الرجل مقامه في الصلاة كما يوطن البعير)) (¬1). 18 - الاعتماد على اليد في الجلوس في الصلاة؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يده)) (¬2). 19 - التثاؤب في الصلاة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((التثاؤب من الشيطان فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع)) (¬3)؛ ولحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فيه، فإن الشيطان يدخل))، وفي لفظ: ((إذا تثاءب أحدكم في الصلاة فليكظم ما استطاع؛ فإن الشيطان يدخل)) (¬4)، وسمعت الإمام عبد العزيز ابن باز - رحمه الله - يقول: ((والمشروع هنا ثلاثة أمور: 1 - يكظم ما استطاع. 2 - يضع يده على فيه. 3 - لا يقل: ها حتى لا يضحك منه الشيطان)) (¬5). 20 - الركوع قبل أن يصل إلى الصف؛ لحديث أبي بكرة، أنه انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((زادك الله حرصًا ولا تعد)) (¬6). ¬

(¬1) أحمد، 5/ 446 - 447، والحاكم عن عبد الرحمن بن شبل، وصححه ووافقه الذهبي، 1/ 229، وحسنه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 360، وفي صحيح أبي داود، 1/ 224، وفي صحيح ابن ماجه، برقم 1429. (¬2) سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب كراهية الاعتماد على اليد في الصلاة، برقم 992، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 186. (¬3) مسلم، كتاب الزهد، باب تشميت العاطس وكراهة التثاؤب، برقم 2994. (¬4) مسلم، كتاب الزهد، باب تشميت العاطس، وكراهة التثاؤب، برقم 2995. (¬5) سمعته من سماحته أثناء شرحه لبلوغ المرام، حديث رقم 261. (¬6) البخاري، كتاب الأذان، باب: إذا ركع دون الصف، برقم 783.

21 - الصلاة في المسجد لمن أكل البصل والثوم أو الكراث

21 - الصلاة في المسجد لمن أكل البصل والثوم أو الكراث؛ لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أكل ثومًا أو بصلاً فلْيَعْتَزِلْنَا، أو ليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته)).وفي لفظ لمسلم: ((فإن الملائكة تتأذَّى مما يتأذَّى منه الإنس)). وفي لفظ لمسلم: ((من أكل البصل والثوم والكراث، فلا يقربن مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذَّى مما يتأذَّى منه بنو آدم)) (¬1). 22 - صلاة النفل عند مغالبة النوم؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم؛ فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه)) (¬2)، ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه: ((إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدرِ ما يقول، فليضطجع)) (¬3). ثانيًا: مبطلات الصلاة: تبطل الصلاة ويجب إعادتها بقول أو فعل مما يأتي: 1 - الكلام العمد مع الذكر؛ لحديث زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: ((كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة، حتى نزلت: {قُومُواْ للهِ قَانِتِينَ} (¬4) فأُمرنا بالسكوت ونُهينا عن الكلام)) (¬5)؛ولحديث معاوية بن الحكم - رضي الله عنه - وفيه: ((إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب ما جاء في الثوم النيئ والبصل والكراث، برقم 855، ومسلم، كتاب المساجد، باب نهي من أكل ثومًا أو بصلاً، أو كراثًا، برقم 564، ومن رقم 561 - 567. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الوضوء، باب الوضوء من النوم، برقم 212، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك، برقم 786. (¬3) مسلم، الكتاب السابق، برقم 787. (¬4) سورة البقرة، الآية: 238. (¬5) مسلم، كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحته، برقم 539.

2 - الضحك بصوت يسمعه المصلي أو غيره، وهو ما يعبر عنه بالقهقهة

الناس، إنما هو التسبيح والتكبير، وقراءة القرآن)) (¬1)؛ ولحديث عبد الله - رضي الله عنه - قال: كنا نسلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة، فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا (¬2) فقلنا: يا رسول الله كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا، فقال: ((إن في الصلاة شغلاً)) (¬3). قال ابن المنذر - رحمه الله -: ((وأجمعوا على أن من تكلم في صلاته عامدًا وهو لا يريد إصلاح شيء من أمرها، أن صلاته فاسدة)) (¬4). 2 - الضحك بصوت يسمعه المصلي أو غيره، وهو ما يعبر عنه بالقهقهة، قال ابن المنذر - رحمه الله -: ((وأجمعوا على أن الضحك يفسد الصلاة)) (¬5). 3 - الأكل. 4 - الشرب، قال ابن المنذر - رحمه الله -: ((وأجمعوا على أن من أكل أو شرب في صلاته الفرض عامدًا أن عليه الإعادة)) (¬6). 5 - انكشاف العورة عمدًا؛ لأن من شروط الصلاة ستر العورة، فإذا عدم الشرط عمدًا بدون عذر بطل المشروط، وهو هنا الصلاة (¬7). 6 - الانحراف الكثير عن جهة القبلة؛ لأن استقبال القبلة شرط من شروط الصلاة. 7 - العبث الكثير المتوالي لغير ضرورة. ¬

(¬1) مسلم، الكتاب والباب المشار إليهما آنفًا، برقم 537. (¬2) ولكن يرد المصلي على المسلم بالإشارة، انظر: صحيح مسلم برقم 540. (¬3) مسلم، كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة برقم 538. (¬4) الإجماع، ص43، برقم 66. (¬5) المرجع السابق، ص43، برقم 62. (¬6) الإجماع، ص43. (¬7) انظر: الدروس المهمة للإمام ابن باز - رحمه الله - الدرس الحادي عشر وحاشيتها للطويان، ص151، وحاشيتها للفائز، ص49.

8 - انتقاض الطهارة

8 - انتقاض الطهارة؛ لأنها شرط من شروط الصلاة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه وفيه: ((لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ)) (¬1)؛ ولحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يرفعه وفيه: ((لا تقبل صلاة بغير طهور)) (¬2)، وكذلك إذا ترك المصلي ركنًا من أركان الصلاة عمدًا، أو شرطًا من شروطها عمدًا، لغير عذر شرعي، وكذلك من تعمد ترك شيء من واجباتها بغير عذر. ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 135، ومسلم، برقم 225، وتقدم تخريجه. (¬2) مسلم، برقم 224، وتقدم تخريجه.

المبحث الحادي والعشرون: الخشوع في الصلاة

المبحث الحادي والعشرون: الخشوع في الصلاة أولاً: مفهوم الخشوع: لغة واصطلاحاً: 1 - الخشوع لغة: قال ابن فارس رحمه الله: ((خشع: الخاء والشين والعين أصلٌ واحدٌ، يدل على التَّطامُن، يقال: خشع إذا تطامن وطأطأ رأسه، ويخشع خشوعاً، وهو قريب المعنى من الخضوع، إلا أن الخضوع في البدن ... والخشوع في الصوت والبصر، قال الله تعالى: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} (¬1)، قال ابن دريد: الخاشع: المستكين والراكع ... )) (¬2). 2 - الخشوع اصطلاحاً: قال الجرجاني رحمه الله: ((الخشوع ... في اصطلاح أهل الحقيقة ... الانقياد للحق، وقيل: هو الخوف الدائم في القلب، قيل من علامات الخشوع: أن العبد إذا غضب أو خُولف أو رُدَّ عليه استقبل ذلك بالقبول)) (¬3). وقال الإمام ابن القيم رحمه اللَّه: ((الخشوع: قيام القلب بين يدي الرب بالخُضُوع والذُّلّ ... )) (¬4). وقال العلامة السعدي رحمه الله: ((الخوف، والخشية، والخضوع، والإخبات، والوَجَل: معانيها متقاربة، فالخوف يمنع العبد من محارم الله، وتشاركه الخشية في ذلك، وتزيد أنَّ خوفه مقرون بمعرفة الله، وأما الخضوع، والإخبات، والوجل، فإنها تنشأ عن الخوف، والخشية، ¬

(¬1) سورة القلم، الآية: 43. (¬2) معجم المقاييس في اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس، المتوفى سنة 395هـ، تحقيق شهاب الدين أبو عمرو، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى 1415هـ، كتاب الخاء، باب الخاء والشين ... ، ص 316. (¬3) التعريفات للجرجاني، فصل الشين، ص132. (¬4) مدارج السالكين، 1/ 521.

ثانيا: الفرق بين خشوع الإيمان وخشوع النفاق

فيخضع العبد لله، ويخبت إلى ربه منيباً إليه بقلبه، ويحدث له الوجل، وأما الخشوع، فهو حضور القلب وقت تلبّسه بطاعة الله، وسكون ظاهره وباطنه، فهذا خشوع خاص، وأما الخشوع الدائم الذي هو وصف خواصّ المؤمنين، فينشأ من كمال معرفة العبد بربه، ومراقبته، فيستولي ذلك على القلب كما تستولي المحبة)) (¬1). والتعريف المختار: الخشوع: لين القلب، وخضوعه، ورقته، وسكونه، وحضوره وقت تَلبُّسه بطاعة الله، فتتبعه جميع الجوارح والأعضاء ظاهراً وباطناً؛ لأنها تابعة للقلب، وهو أميرها، وهي جنوده، والله تعالى أعلم. ثانياً: الفرق بين خشوع الإيمان وخشوع النفاق إذا ظهرت آثار الخشوع على الجوارح، ولم يكن في القلب شيء منه، فهذا خشوع النفاق؛ ولهذا قال حذيفة - رضي الله عنه -: ((إياكم وخشوع النفاق، فقيل له: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعاً، والقلب ليس بخاشع)) (¬2). قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: ((والفرق بين خشوع الإيمان وخشوع النفاق، أن خشوع الإيمان هو خشوع القلب لله بالتعظيم، والإجلال، والوقار، والمهابة، والحياء، فينكسر القلب لله كسرة ملتئمة من الوجل، والخجل، والحب، والحياء، وشهود نعم الله وجناياته هو، فيخشع القلب لا محالة، فيتبعه خشوع الجوارح. ¬

(¬1) تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن، ص 361 - 362، دار عالم الكتب، 1424هـ إشراف وتوزيع وزارة الشئون الإسلامية، المملكة العربية السعودية. (¬2) ذكره ابن القيم في مدارج السالكين، 1/ 521، وابن رجب في كتاب الخشوع في الصلاة، ص 13، وأخرجه الديلمي، في مسند الفردوس، 2/ 204، برقم 3007، وابن عدي، في الكامل في الضعفاء، 3/ 455، ترجمة رقم871.

وأما خشوع النفاق، فيبدو على الجوارح تصنُّعاً وتكلُّفاً، والقلب غير خاشع، وكان بعض الصحابة يقول: أعوذ بالله من خشوع النفاق، قيل له: وما خشوع النفاق؟ قال: أن يُرى الجسد خاشعاً، والقلب غير خاشع، فالخاشع لله عبد قد خمدت نيران شهوته، وسكن دخانها عن صدره، فانجلى الصدر، وأشرق فيه نور العظمة، فماتت شهوات النفس للخوف والوقار الذي حُشِيَ به، وخمدت الجوارح، وتوقّر القلب، واطمأنّ إلى الله وذكره بالسكينة التي نزلت عليه من ربه، فصار مُخبِتاً له، والمخبت (¬1) المطمئنّ، فإن الخبت من الأرض ما اطمأنّ (¬2) فاستنقع فيه الماء. فكذلك القلب المخبت قد خشع واطمأن (¬3) كالبقعة المطمئنة من الأرض التي يجري إليها الماء فيستقر فيها، وعلامته أن يسجد بين يدي ربه - إجلالاً، وذُلاًّ، وانكساراً بين يديه - سجدة، لا يرفع رأسه عنها حتى يلقاه ... فهذا خشوع الإيمان. وأما التماوت، وخشوع النفاق، فهو حال عبد تكلَّف إسكان الجوارح تَصنُّعاً، ومراعاة، ونفسه في الباطن شابة طرية ذات شهوات، وإرادات، فهو يتخشع (¬4) في الظاهر، وحية الوادي، وأسد الغابة رابض بين جنبيه ينتظر الفريسة)) (¬5). ¬

(¬1) انظر: مفردات غريب القرآن للراغب، ص 141. (¬2) وفي مخطوطة: (ما تطامن). (¬3) وفي بعض المخطوطات: (ما تطامن). (¬4) وفي مخطوطة: (متخشع). (¬5) كتاب الروح لابن القيم، تحقيق د. بسام علي سلامة العموش، الطبعة الأولى 1406هـ، نشر دار ابن تيمية، المملكة العربية السعودية، الرياض، 2/ 694 - 695.

ثالثا: الخشوع لله في الصلاة علم نافع وعمل صالح

ثالثاً: الخشوع لله في الصلاة علم نافع وعمل صالح الخشوع علم نافع، وهو عمل صالح من أعمال القلوب، ويتبعها عمل الجوارح، للأحاديث الآتية: 1 - عن جبير بن نفير، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: ((كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: ((هَذَا أَوَانُ يُخْتَلَسُ الْعِلْمُ مِنَ النَّاسِ، حَتَّى لَا يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ)) فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ - رضي الله عنه -: كَيْفَ يُخْتَلَسُ مِنَّا، وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ؟! فَوَاللَّهِ لَنَقْرَأَنَّهُ وَلَنُقْرِئَنَّهُ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا! فَقَالَ: ((ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ (¬1) يَا زِيَادُ! إِنْ كُنْتُ لَأَعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَمَاذَا تُغْنِي عَنْهُمْ؟)). قَالَ جُبَيْرٌ: فَلَقِيتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، فَقُلْتُ: أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، قَالَ: صَدَقَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، إِنْ شِئْتَ لَأُحَدّثَنَّكَ بِأَوَّلِ عِلْمٍ يُرْفَعُ مِنْ النَّاسِ: الْخُشُوعُ؛ يُوشِكُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَ الجَامِعِ فَلَا تَرَى فِيهِ رَجُلًا خَاشِعًا)) (¬2). 2 - عن شداد بن أوس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أوَّلُ ما يُرْفَعُ مِنَ النّاسِ الخُشُوعُ)) (¬3). ¬

(¬1) ثكلتك أمك: أي فقدتك، وأصله الدعاء بالموت، ثم يستعمل في التعجب. انظر: تحفة الأحوذي للمباركفوري، 7/ 413. (¬2) أخرجه الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في ذهاب العلم، برقم 2653، وقال: ((هذا حديث حسن غريب))، والدرامي، 1/ 75، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 3/ 59، وأخرجه أيضاً أحمد في المسند من حديث جبير، عن عوف بن مالك، وساق الحديث بنحوه، برقم 23990، والنسائي في الكبرى، برقم 5878، وابن حبان، برقم 4572، ورقم 6720. (¬3) الطبراني في الكبير، برقم 7183 مرفوعاً، قال الهيثمي في مجمع الزوائد، 2/ 136: (( .. وفيه عمران بن داوود القطان ضعفه ابن معين، والنسائي، ووثقه أحمد، وابن حبان)) وقد جاء موقوفاً على شداد عند أحمد، برقم 23990، وصححه محققو المسند، وأخرج هذا الموقوف النسائي في الكبرى، برقم 5878،وابن حبان، برقم 4572،ورقم 6720، وله شاهد عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -،قال: ((أول شيء يرفع من هذه الأمة الخشوع حتى لا ترى فيها خاشعاً)) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، 2/ 136، وقال: ((رواه الطبراني في الكبير، وإسناده حسن)). ثم حديث شداد لا يقال بالرأي والاجتهاد، فله حكم الرفع.

3 - عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في دعائه: (( ... اللَّهُمَّ إِنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا)) (¬1). وقلب لا يخشع: علمه لا ينفع، وصوته لا يسمع، ودعاؤه لا يرفع (¬2). قال الإمام ابن رجب رحمه الله: ((فالعلم النافع هو ما باشر القلوب فأوجب لها السكينة، والخشية، والإخبات لله، والتواضع، والانكسار، وإذا لم يباشر القلب ذلك من العلم، وإنما كان على اللسان، فهو حجة الله على ابن آدم يقوم على صاحبه، وغيره كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن أقواماً يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب يرسخ فيه نفع صاحبه. وقال الحسن رحمه الله: العلم علمان: علم باللسان، وعلم بالقلب، فعلم القلب هو العلم النافع، وعلم اللسان حجة الله على ابن آدم)) (¬3). وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (¬4)، وقال - عز وجل -: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ ¬

(¬1) مسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب في الأدعية، برقم 2722. (¬2) الخشوع في الصلاة لابن رجب، ص 19. (¬3) الخشوع في الصلاة لابن رجب ص 16. وذكره ابن الجوزي في العلل المتناهية، 1/ 83 مرفوعاً، وقال هذا حديث لا يصح، وضعفه الألباني في تخريج كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص 24. (¬4) سورة فاطر، الآية: 28.

رابعا: فضائل الخشوع لله تعالى في الصلاة

الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (¬1). ووصف اللَّه العلماء من أهل الكتاب قبلنا بالخشوع، فقال سبحانه: {قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (¬2)، وقوله سبحانه في وصف هؤلاء الذين أوتوا العلم، ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً: مدحٌ لمن أوجب له سماع كتاب الخشوع لله - عز وجل - في قلبه)) (¬3). رابعاً: فضائل الخشوع لله تعالى في الصلاة ثبت في الخشوع في الصلاة فضائل كثيرة، منها الفضائل الآتية: 1 - من فرَّغ قلبه لله تعالى في صلاته انصرف من خطيئته كيوم ولدته أمه؛ لحديث عمرو بن عبسة السُّلمي - رضي الله عنه - الطويل، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال بعد أن ذكر فضائل الوضوء: (( .... فَإِنْ هُوَ قَامَ فَصَلَّى فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَمَجَّدَهُ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وَفَرَّغَ قَلْبَهُ لِلَّهِ إِلاَّ انْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ .. )) وذكر عمرو بن عبسة - رضي الله عنه - أنه سمع هذا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من سبع مرات (¬4). 2 - من صلى ركعتين لا يُحَدّث فيهما نفسَه غفر الله له ما تقدم من ذنبه؛ لحديث عثمان - رضي الله عنه -، أنه حين توضأ وضوءاً كاملاً قال: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي ¬

(¬1) سورة الزمر، الآية: 9. (¬2) سورة الإسراء، الآيات: 107 - 109. (¬3) الخشوع في الصلاة لابن رجب، ص17. (¬4) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب إسلام عمرو بن عبسة، برقم 832، وهذا الحديث فيه فوائد كثيرة، فليراجعه من شاء.

3 - من صلى صلاة مكتوبة فأحسن خشوعها كانت كفارة

هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لاَ يُحَدّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غَفَرَ اللَهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)) (¬1). 3 - من صلَّى صلاةً مكتوبةً فأحسن خشوعها كانت كفّارةً لما قبلها من الذنوب؛ لحديث عثمان - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ((مَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا، وَخُشُوعَهَا، وَرُكُوعَهَا إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنْ الذُّنُوبِ، مَا لَمْ يأْتِ كَبِيرَةً، وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ)) (¬2). 4 - من صَلَّى ركعتين مقبلاً عليهما بقلبه ووجهه وجبت له الجنة؛ لحديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه -، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلّي رَكْعَتَيْنِ، مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ إِلاَّ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ)) (¬3). 5 - الفوز والنجاح والسعادة في الدنيا والآخرة للخاشعين في صلاتهم، قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ *الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (¬4). والخشوع في الصلاة: هو حضور القلب بين يدي الله تعالى، مستحضراً لقربه، فيسكن لذلك قلبه، وتطمئن نفسه، وتسكن حركاته، ويقلُّ التفاته، متأدّباً بين يدي ربه، مستحضراً جميع ما يقوله ويفعله في صلاته من أول صلاته إلى آخرها، فتنتفي بذلك الوساوس والأفكار الرديئة، وهذا روح الصلاة، والمقصود منها، وهو الذي يكتب للعبد، ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الوضوء، باب المضمضة في الوضوء، برقم 164، ومسلم كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، برقم 246. (¬2) مسلم، كتاب الطهارة باب فضل الوضوء والصلاة عقبة، برقم 228. (¬3) مسلم كتاب الطهارة، باب الذكر المستحب عقب الوضوء، برقم 234. (¬4) سورة المؤمنون، الآيتان: 1 - 2.

6 - المغفرة والأجر العظيم للخاشعين

فالصلاة التي لا خشوع فيها، ولا حضور قلب، وإن كانت مجزئة مثاباً عليها، فإن الثواب على حسب ما يعقل القلب منها (¬1). 6 - المغفرة والأجر العظيم للخاشعين، لقول الله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (¬2). وقال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدّقِينَ وَالْمُتَصَدّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (¬3). 7 - الخاشعون والخاضعون لله مُبشَّرون بكل خير في الدنيا والآخرة؛ لقول الله تعالى: {وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشّرِ الْمُخْبِتِينَ} (¬4). قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: ((الخبت: المطمئن من الأرض ... ثم استعمل الإخباتُ استعمال اللين والتواضع، قال الله تعالى: {وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬5). ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنّان، للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ص 547. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 199. (¬3) سورة الأحزاب، الآية: 35. (¬4) سورة الحج، الآية: 34. (¬5) سورة هود، الآية: 23.

وقال تعالى: {وَبَشّرِ الْمُخْبِتِينَ} (¬1)، أي المتواضعين، نحو: {الَّذِينَ عِنْدَ رَبّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} (¬2)، وقوله تعالى: {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} (¬3) أي تلين وتخشع، والإخبات هنا قريب من الهبوط في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (¬4). وقال ابن منظور رحمه الله: ((الخبت ما طمأن من الأرض واتَّسع ... {وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبّهِمْ} (¬5) أي تواضعوا، وقال الفرّاء: أي تخشَّعوا لربهم ... وأخبت لله: خشع، وأخبت: تواضع، وكلاهما من الخبت، وفي التنزيل العزيز: {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} (¬6) فسَّره ثعلب بأنه التواضع، وفي حديث الدعاء: ((وَاجْعَلْنِي لَكَ مُخْبِتَاً)) (¬7) أي خاشعاً مطيعاً، والإخبات: الخشوع والتواضع (¬8). وقال ابن الأثير رحمه الله: ((وَاجْعَلْنِي لَكَ مُخْبِتَاً)) (¬9) أي خاشعاً ¬

(¬1) سورة الحج، الآية: 34. (¬2) سورة الأعراف، الآية:206. (¬3) سورة الحج، الآية: 54. (¬4) سورة البقرة، الآية: 74. (¬5) سورة هود، الآية: 23. (¬6) سورة الحج، الآية: 54. (¬7) جزء من حديث أخرجه أحمد، 1/ 127، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل إذا سلَّم، برقم 1510، 1511، والترمذي، كتاب الدعوات، بابٌ في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 3551، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، برقم 3830، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، 1/ 519، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 414، وفي صحيح الترمذي، 3/ 178. (¬8) لسان العرب، باب التاء، فصل الخاء، 2/ 27. (¬9) أحمد، 1/ 127، وأبو داود، برقم 1510، 1511، وابن ماجه، 3830، وتقدم تخريجه قبل الذي قبله.

8 - الخشوع والتواضع لله من أعظم أسباب دخول الجنة

مطيعاً، والإخبات: الخشوع والتواضع، وقد أخبت لله: يخبت .. وأصلها من الخبت المطمئن من الأرض)) (¬1). وذكر الإمام ابن القيم رحمه الله هذه المعاني السابقة، ثم قال: ((والخبت في أصل اللغة: المكان المنخفض من الأرض ... ))، ثم قال: ((وقال إبراهيم النخعي: المصلُّون المخلصون، وقال الكلبي: هم الرقيقة قلوبهم .. وهذه الأقوال تدور على معنيين. التواضع، والسكون إلى الله - عز وجل - ... )) (¬2). 8 - الخشوع والتواضع لله من أعظم أسباب دخول الجنة، والنجاة من النار؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬3). 9 - الخشوع لله تعالى يورث هداية الله تعالى وتثبيته؛ لقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬4). قال العلامة السعدي رحمه الله: (({فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} أي تخشع، وتخضع، وتسلّم لحكمته، وهذا من هدايته إياهم {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا} بسبب إيمانهم {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} علم بالحق، وعمل بمقتضاه، فيثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وهذا النوع من تثبيت الله لعبده)) (¬5). ¬

(¬1) النهاية في غريب الحديث والأثر، مادة ((خبت)) 2/ 4. (¬2) مدارج السالكين، 2/ 3، وانظر: تفسير ابن كثير، ص 898. (¬3) سورة هود، الآية: 23. (¬4) سورة الحج، الآية: 54. (¬5) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص542.

10 - أفضل الناس أخشعهم لله تعالى

10 - أفضل الناس أخشعهم لله تعالى، فالخشوع لله تعالى إذا كان بسبب معرفة الله بأسمائه وصفاته، وأفعاله، والرغبة فيما عنده، والخشية من عقابه، ومبْنيٌّ على حبه، وخوفه مع رجائه، فهذا كلُّه يجعل العبد أفضل الناس؛ ولهذا قال سفيان رحمه الله تعالى: ((أجهل الناس من ترك ما يعلم، وأعلم الناس من عمل بما يعلم، وأفضل الناس أخشعهم لله)) (¬1). وقال سفيان أيضاً: ((يراد للعلم: الحفظ، والعمل، والاستماع، والإنصات، والنشر)) (¬2). وقال سفيان أيضاً رحمه الله: ((كان يُقال: العلماء ثلاثة: عالم بالله يخشى الله ليس بعالم بأمر الله، وعالمٌ بالله، عالم بأمر الله، يخشى الله، فذاك العالم الكامل، وعالم بأمر الله، ليس بعالم بالله، لا يخشى الله، فذلك العالم الفاجر)) (¬3). وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول: ((هذه الكلمات ينبغي أن تنقل)) (¬4). 11 - مَنْ أتمَّ الصَّلوات الخمس بخشوع كان له على الله عهد أن يغفر له؛ لحديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال ... أَشْهَدُ أَنّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ((خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى، مَنْ أَحْسَنَ وُضُوءَهُنَّ، وَصَلاَّهُنَّ لِوَقْتِهِنَّ، وَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ، وَخُشُوعَهُنَّ، كَانَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَيْسَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ ¬

(¬1) أخرجه الدارمي، 1/ 81، برقم 337. (¬2) أخرجه الدارمي، 1/ 81، برقم 337. (¬3) سنن الدارمي: 1/ 86، برقم 369. (¬4) سمعته أثناء تقريره على سنن الدارمي، الحديث رقم 369.

12 - مدح الله تعالى الخاشعين في طاعته ووصفهم له بالعلم

لَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ)) (¬1). 12 - مدح الله تعالى الخاشعين في طاعته ووصفهم له بالعلم؛ لقوله تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (¬2)، والقنوت هنا هو الخشوع في الطاعة؛ ولهذا قال العلامة السعدي رحمه الله تعالى: (( ... القنوت يرد في القرآن على قسمين: قنوت عام، كقوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} (¬3) أي الكل عبيد خاضعون لربوبيّته، وتدبيره، والنوع الثاني: وهو الأكثر في القرآن: القنوت الخاص، وهو دوام الطاعة لله على وجه الخشوع، مثل قوله تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} (¬4)، وقوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬5)، وقوله: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ وَاسْجُدِي} (¬6)، وقوله: {وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} (¬7)، ونحوها)) (¬8). وقد قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: ((القنوت لزوم الطاعة مع الخضوع، وفُسّرَ بكل واحد منهما في قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب المحافظة على وقت الصلوات، برقم 425، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 125. (¬2) سورة الزمر: الآية 9. (¬3) سورة الروم، الآية: 26. (¬4) سورة الزمر، الآية: 9. (¬5) سورة البقرة، الآية: 238. (¬6) سورة آل عمران، الآية: 43. (¬7) سورة الأحزاب، الآية: 35. (¬8) تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن، ص 311،وانظر: المرجع نفسه ص 362.

قَانِتِينَ} (¬1)، وقوله: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} (¬2) قيل: خاضعون، وقيل: طائعون، وقيل: ساكتون، ولم يُعْنَ به كل السكوت، وإنما عُنِيَ به ما قال عليه الصلاة السلام: ((إِنْ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ، إِنَمَّا هُوَ التَّسْبِيحُ، وَالتَّكْبِيرُ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ)) (¬3)، وعلى هذا قيل: أي الصلاة أفضل؟ قال: ((طُولُ القُنُوتِ)) (¬4) أي الاشتغال بالعبادة، ورفض كل ما سواه، وقال الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا} (¬5)، وقال: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} (¬6)، وقال: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} (¬7)، وقال: {اقْنُتِي لِرَبّكِ} (¬8)، وقال: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} (¬9)، وقال: {وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} (¬10)، وقال - عز وجل -: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ} (¬11) (¬12). والقنوت في الحديث يُروَى بمعانٍ متعددةٍ، فيطلق على: الخشوع، والطاعة، والصلاة، والدعاء، والعبادة، والقيام، وطول القيام، والسكوت، ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 238. (¬2) سورة الروم، الآية: 26. (¬3) مسلم، كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة، وما نسخ من إباحته، برقم 537. (¬4) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب أفضل الصلاة طول القنوت، برقم 756. (¬5) سورة النحل، الآية: 120. (¬6) سورة التحريم، الآية: 12. (¬7) سورة الزمر، الآية: 9. (¬8) سورة آل عمران، الآية: 43. (¬9) سورة الأحزاب، الآية: 31. (¬10) سورة الأحزاب، الآية: 35. (¬11) سورة النساء، الآية: 34. (¬12) مفردات ألفاظ القرآن، ص 684.

13 - أثنى الله - عز وجل - على من يوجل قلبه لذكر الله بأنه يخافه ويخشاه

والسكون، وإقامة الطاعة، والخضوع (¬1). 13 - أثنى الله - عز وجل - على من يوجل قلبه لذكر الله بأنه يخافه ويخشاه، ووصفه بالإيمان الكامل، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (¬2)، وقوله تعالى: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُوا لَا تَوْجَلْ} (¬3)، وقوله تعالى: {وَبَشّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (¬4)، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} (¬5). ووجل القلب: الوجل: استشعار الخوف، يقال: وَجِلَ يَوْجَلُ وَجَلاً، فهو وَجِل (¬6). قال ابن كثير رحمه الله: (({وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}: فرقت: أي فزعت وخافت، وهذه صفة المؤمن ... الذي إذا ذكر الله وجل قلبه: أي خاف منه، ففعل أوامره، وترك زواجره)) (¬7). وقال السعدي رحمه الله: ((أي خافت ورهبت فأوجبت لهم خشية الله تعالى الانكفاف عن المحارم، فإن خوف الله تعالى أكبر علاماته أن ¬

(¬1) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب القاف مع النون، 4/ 111، ومشارق الأنوار على الصحاح والآثار للقاضي عياض، حرف القاف مع سائر الحروف، 2/ 162، وهدي الساري مقدمة فتح الباري لابن حجر، ص 176. (¬2) سورة الأنفال، للآية: 2. (¬3) سورة الحجر، الآيتان: 52 - 53. (¬4) سورة الحج، الآية: 34 - 35. (¬5) سورة المؤمنون، الآية: 60. (¬6) مفردات ألفاظ القرآن للأصفهاني، ص 855. (¬7) تفسير القرآن العظيم، ص566.

14 - وصف الله من يقشعر جلده عند قراءة القرآن بالخشية لله تعالى

يحجز صاحبه عن الذنوب)) (¬1)، وقال رحمه الله: ((الخوف، والخشية، والخضوع، والإخبات، والوجل معانيها متقاربة، فالخوف يمنع العبد من محارم الله، وتشاركه الخشية في ذلك، وتزيد أن خوفه مقرون بمعرفة الله، وأما الخضوع، والإخبات، والوجل، فإنها تنشأ عن الخوف، والخشية، فيخضع العبد لله، ويخبت إلى ربه منيباً إليه بقلبه، ويحدث له الوجل، وأما الخشوع: فهو حضور القلب وقت تلبّسه بطاعة الله، وسكون ظاهره وباطنه، فهذا خشوع خاص، وأما الخشوع الدائم الذي هو وصف خوّاص المؤمنين، فينشأ من كمال معرفة العبد ربه، ومراقبته، فيستولي ذلك على القلب، كما تستولي المحبة)) (¬2). 14 - وصف الله من يقشعر جلده عند قراءة القرآن بالخشية لله تعالى؛ لقوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (¬3)، فحصل لهم قشعريرة الجلد، ثم لين القلب والجلد. قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: (({تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} (¬4) أي يعلوها قشعريرة)) (¬5). وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: ((هذه صفة الأبرار عند سماع كلام الجبار، المهيمن العزيز الغفار؛ لما يفهمونه من الوعد والوعيد، والتخويف والتهديد، تقشعر منه جلودهم من الخشية والخوف، {ثُمَّ ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن، ص 315. (¬2) تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن، ص 361 - 362. (¬3) سورة الزمر، الآية: 23. (¬4) سورة الزمر، الآية: 23. (¬5) مفردات ألفاظ القرآن، ص 671.

خامسا: الفرق بين الخشوع والوجل والقنوت والسكينة والإخبات والطمأنينة

تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} كما يرجون ويؤملون من رحمته ولطفه ... )) (¬1). وقال العلامة السعدي رحمه الله: (({تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} لما فيه من التخويف والترهيب المزعج {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أي عند ذكر الرجاء والترغيب، فهو تارة يرغبهم لعمل الخير، وتارة يرهبهم من عمل الشر)) (¬2). خامساً: الفرق بين الخشوع والوجل والقنوت والسكينة والإخبات والطمأنينة الفرق بين هذه الأمور على النحو الآتي: 1 - الخشوع: لين القلب وخضوعه، ورقته، وسكونه، وحضوره وقت تلبُّسه بالطاعة، فتتبعه جميع الجوارح والأعضاء: ظاهراً وباطناً؛ لأنها تابعة للقلب، وهو أميرها، وهي جنوده، والله تعالى أعلم (¬3). 2 - الوجل: الخوف الموجب لخشية الله تعالى، وأكبر علاماته: أن يقوم صاحبه بفعل أوامر الله، وترك نواهيه رغبة فيما عنده من الثواب، وخوفاً مما عنده من العقاب، والله تعالى أعلم (¬4). 3 - القنوت: القنوت يرد في القرآن على قسمين: القسم الأول: قنوت عام لجميع المخلوقات، كقوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} (¬5)، والمعنى: الكل عبيد خاضعون لربوبيَّته، وتدبيره - سبحانه وتعالى -، لا معبود بحق سواه. ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم، ص 1153. (¬2) تيسير الكريم الرحمن، ص 723. (¬3) تقدم ذكر المراجع لهذا المعنى في: مفهوم الخشوع اصطلاحاً. (¬4) تقدم ذكر المراجع لهذه المعاني في: فضائل الخشوع، البند رقم 13. (¬5) سورة الروم، الآية: 26.

القسم الثاني، وهو الأكثر في القرآن الكريم: القنوت الخاص

القسم الثاني، وهو الأكثر في القرآن الكريم: القنوت الخاص: وهو دوام الطاعة لله على وجه الخشوع، مثل قوله تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} (¬1)، ونحو ذلك (¬2)، والقنوت أيضاً يرد لعشرة معانٍ أخرى، تقدم ذكرها بالتفصيل (¬3). 4 - السكينة: قيل: السكينة: المهابة والرَّزانة والوقار (¬4). وقيل: ما يجده القلب من الطمأنينة ... وهي نور في القلب يسكن إلى شاهده، ويطمئن وهو مبادئ عين اليقين (¬5). وقيل: السكينة: الطمأنينة (¬6)، وتأتي السكينة بمعنى: الوقار، والتَّأنّي في الحركة والسير: ((السكينةَ، السكينةَ)) أي الزموا السكينة (¬7)، وفي حديث الخروج إلى الصلاة: ((فليأتِ وعليه السكينة)) (¬8). وقال العلامة السعدي رحمه الله: ((والسكينة ما يجعله الله في القلوب وقت القلاقل، والزلازل، والمفظعات، مما يثبّتها، ويسكّنها، ¬

(¬1) سورة الزمر، الآية: 9. (¬2) تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن، ص 311، وص 362. (¬3) تقدم ذكر ذلك بالأدلة في: فضائل الخشوع، البند رقم 12. (¬4) انظر: المصباح المنير، للفيومي، 1/ 283، ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس، ص 486. (¬5) التعريفات للجرجاني، فصل الكاف، ص 159. (¬6) القاموس المحيط، ص 1556. (¬7) رواه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 1218, (¬8) أخرجه الإمام أحمد، 18/ 8، برقم 9022، والطبراني في معجمه الأوسط، 1/ 296، حديث رقم: 983، وصححه الألباني في الثمر المستطاب، ص 233.

5 - الإخبات

ويجعلها مطمئنة، وهي من نعم الله العظيمة على العباد)) (¬1)، وهي: ((الثبات والطمأنينة، والسكون المُثَبّتَة للفؤاد)) (¬2). ومن السكينة: سكينة الخشوع عند القيام بالعبادة لله تعالى، وهو الوقار، والخشوع الذي يحصل لصاحب مقام الإحسان. ولما كان الإيمان موجباً للخشوع، وداعياً إليه، قال الله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ} (¬3) دعاهم من مقام الإيمان إلى مقام الإحسان، يعني: أما آن لهم أن يصلوا إلى الإحسان بالإيمان؟ وتحقيق ذلك بخشوعهم لذكره الذي أنزله إليهم؟)) (¬4). 5 - الإخبات: التواضع والخشوع، واللين، والسكون (¬5). وهو من أول مقامات الطمأنينة: كالسكينة، واليقين، والثقة بالله تعالى، ونحوها، فالإخبات مقدماتها، ومبدؤها، والإخبات أول مقام يتخلَّص فيه العبد من التردُّد، الذي هو نوع غفلة وإعراض (¬6). 6 - الطمأنينة: قال الله تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (¬7)، وقال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن، ص 333. (¬2) المرجع السابق، ص 338. (¬3) سورة الحديد، الآية: 16. (¬4) مدارج السالكين لابن القيم، 2/ 509 - 510. (¬5) تقدم ذكر مراجع هذه المعاني في: فضائل الخشوع، البند رقم 7. (¬6) انظر التفصيل في: مدارج السالكين لابن القيم، 2/ 3 - 8. (¬7) سورة الرعد، الآية: 28.

جَنَّتِي} (¬1). (الطمأنينة) سكون القلب إلى الشيء، وعدم اضطرابه وقلقه، ومنه الأثر المعروف: ((دعْ مَا يَرِيْبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيْبُكَ فَإِنَّ الصّدْقُ طُمَأْنِينَةٌ وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ)) (¬2) أي الصدق يطمئن إليه قلب السامع، ويجد عنده سكوناً إليه، والكذب يوجب له اضطراباً وارتياباً، ومنه قول النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: ((الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ)) (¬3) أي سكن إليه وزال عنه اضطرابه وقلقه. وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: (({الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} أي: تطيب وتركن إلى جانب الله، وتسكن عند ذكره، وترضى به مولىً ونصيرًا؛ ولهذا قال: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} أي: هو حقيق بذلك)) (¬4). وقال العلامة السعدي رحمه الله: (({الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} أي: يزول قلقها واضطرابها، وتحضرها أفراحها ولذاتها. {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} أي: حقيق بها، وحريٌّ بها أن لا تطمئنَّ لشيء سوى ذكره؛ فإنه لا شيء ألذ للقلوب، ولا أشهى، ولا أحلى من محبة خالقها، والأنس به ومعرفته)) (¬5). ¬

(¬1) سورة الفجر، الآيات: 27 - 30. (¬2) أخرجه الإمام أحمد، برقم 1724، 1724، والترمذي، برقم 2518، وقال: ((حسن صحيح))، والنسائي، برقم 5711، وابن خزيمة في صحيحه، 4/ 59، برقم 2348، والدارمي، 2/ 319، برقم 2532، وابن حبان، 2/ 498، برقم 722، والبيهقي في شعب الإيمان، 5/ 52، برقم 5747، والحاكم، 2/ 15، برقم 2169، وقال: صحيح الإسناد وأبو يعلى، 12/ 132، برقم 6762، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم 2930. (¬3) أخرجه أحمد، برقم 18001، والطبراني، 22/ 148، برقم 403، والدارمي، 2/ 320، برقم 2533، وأبو يعلى، 3/ 160، برقم 1586. وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 2881. (¬4) تفسير القرآن العظيم، ص 707. (¬5) تيسير الكريم الرحمن، ص 417 - 418.

سادسا: حكم الخشوع في الصلاة

وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((وفي قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبّكِ} (¬1) دليل على أنها لا ترجع إليه إلا إذا كانت مطمئنة، فهناك ترجع إليه، وتدخل في عباده، وتدخل جنته، وكان من دعاء بعض السلف: ((اللهم هب لي نفسا مطمئنة إليك)) (¬2). سادساً: حكم الخشوع في الصلاة الخشوع في الصلاة واجب على الصحيح للأدلة الآتية: 1 - قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (¬3). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((وهذا يقتضي ذم غير الخاشعين ... وإذا كان غير الخاشعين مذمومين دل ذلك على وجوب الخشوع ... فثبت أن الخشوع واجب في الصلاة)) (¬4). 2 - قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ*الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ*وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ*وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ*وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ*إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ*فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ*وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ*وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ*أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ*الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬5). ¬

(¬1) سورة الفجر، الآيتان: 27 - 28. (¬2) مدارج السالكين، 2/ 514، والأثر لم أجده إلا في التفسير القيم لابن القيم، 1/ 491. (¬3) سورة البقرة، الآية: 45. (¬4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 22/ 553 - 554. (¬5) سورة المؤمنون، الآيات: 1 - 10.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((وذلك يقتضي أنه لا يرثها غيرهم، وقد دلَّ هذا على وجوب هذه الخصال، إذ لو كان فيها ما يستحب لكانت جنة الفردوس تورث بدونها؛ لأن الجنة تنال بفعل الواجبات دون المستحبات؛ ولهذا لم يذكر في هذه الخصال إلا ما هو واجب، وإذا كان الخشوع في الصلاة واجباً، فالخشوع يتضمن السكينة، والتواضع جميعاً ... ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في حال ركوعه: ((اللهم لك ركعتُ، وبك آمنتُ، ولك أسلمتُ، خشع لك سمعي وبصري، ومُخّي، وعظمي، وعصبي)) (¬1)، فوصف نفسه بالخشوع في حال الركوع؛ لأن الراكع ساكن متواضع ... )) (¬2). وقد جاء في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} أقوال: فقيل: ((خائفون ساكنون))، وقيل: ((الخشوع في القلب))، وقيل: ((الخشوع: الرهبة لله))، وقيل: ((الخشوع في القلب، وأن يلين كنفه للمرء المسلم، وأن لا تلتفت في صلاتك، والخوف، وغض البصر في الصلاة، وخفضه وسكونه ضد تقليبه في الجهات، ومن ذلك خشوع الصوت (¬3). فإذا كان الخشوع في الصلاة واجباً، وهو متضمن للسكون والخشوع، فمن نقر نقر الغراب لم يخشع في سجوده، وكذلك من لم يرفع رأسه من الركوع ويستقر قبل أن ينخفض، لم يسكن؛ لأن السكون هو الطمأنينة بعينها، فمن لم يطمئن لم يسكن، ومن لم يسكن لم يخشع في ركوعه، ولا في سجوده، ومن لم يخشع كان آثماً عاصياً (¬4). ¬

(¬1) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 771. (¬2) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 22/ 554. (¬3) ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى، 22/ 554 - 558. (¬4) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، 22/ 558.

3 - مما يدل على وجوب الخشوع في الصلاة: أن الله ينصرف عن من التفت فيها لغير حاجة؛ لحديث أبي ذر - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لَا يَزَالُ اللَّهُ مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْدِ فِي صَلَاتِهِ، مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا الْتَفَتَ انْصَرَفَ عَنْهُ)) وهذا لفظ أبي داود، ولفظ النسائي وأحمد: ((لَا يَزَالُ اللَّهُ مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْدِ فِي صَلَاتِهِ، مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا صَرَفَ وَجْهَهُ انْصَرَفَ عَنْهُ)) (¬1). 4 - ومما يدل على وجوب الخشوع أيضاً: حديث الحارث الأشعري - رضي الله عنه - الطويل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: (( ... وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ، فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ .. )) هذا لفظ الترمذي، ولفظ أحمد: (( ... وَآمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ - عز وجل - يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا ... )) (¬2). 5 - ويدل على وجوب الخشوع، حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((مَا لِي أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ (¬3)، اسْكُنُوا فِي الصَّلَاةِ .. )) (¬4). ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الالتفات في الصلاة، برقم 909، والنسائي كتاب السهو، باب التشديد في الالتفات في الصلاة، برقم 1196، وأخرجه أيضاً في الكبرى، برقم 532، وأحمد في المسند، برقم 21508، وابن خزيمة، برقم 482، والحاكم، 1/ 236، والبيهقي، 2/ 282، وحسنة الألباني لغيره في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 360، برقم 554، وقال محققو مسند الإمام أحمد، 5/ 400، برقم 21508: ((صحيح لغيره، وهذا إسناد محتمل للتحسين)). (¬2) الترمذي، كتاب الأدب، باب الأمثال، برقم 2863، وأحمد، 28/ 405، برقم 17170، و29/ 335، برقم 17800، وابن خزيمة في صحيحه، برقم 1895، وغيرهم، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 3/ 144، وصححه محققو المسند، 28/ 406. (¬3) شمس: جمع شموس، مثل: رسل ورسول، وهي التي لا تستقر، بل تضرب وتتحرك بأذنابها وأرجلها. (¬4) مسلم، كتاب الصلاة، باب الأمر بالسكون في الصلاة، ... برقم 430.

سابعا: منزلة الخشوع في الصلاة

6 - ومما يدل على وجوب الخشوع في الصلاة قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلّينَ*الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} (¬1)، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((وليس السهو عنها تركها، وإلا لم يكونوا مصلين، وإنما هو السهو عن واجبها: إما عن الوقت، كما قال ابن مسعود وغيره، وإما عن الحضور والخشوع، والصواب أنه يعمّ النوعين؛ فإنه سبحانه أثبت لهم صلاة، ووصفهم بالسهو عنها، فهو السهو عن وقتها الواجب، أو عن إخلاصها، وحضورها الواجب؛ ولذلك وصفهم بالسهو، ولو كان السهو تركاً لما كان هناك رياء .. )) (¬2). سابعاً: منزلة الخشوع في الصلاة الخشوع في الصلاة بمنزلة الروح من الجسد، فإذا فُقِدَت الروح مات الجسد، فالخشوع روح الصلاة، ولبُّها. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (( ... وكذلك فَوتُ الخشوع في الصلاة، وحضور القلب فيها بين يدي الرب تبارك وتعالى، الذي هو روحها، ولبُّها، فصلاةٌ بلا خشوعٍ، ولا حضور، كبدنٍ ميّتٍ لا روح فيه، أفلا يستحي العبد أن يُهدي إلى مخلوقٍ مثله عبداً ميّتاً، أو جارية ميّتة؟ فما ظن هذا العبد أن تقع تلك الهدية ممن قصده بها: من ملكٍ، أو أميرٍ، أو غيره، فهكذا؛ سواء الصلاة الخالية عن الخشوع، وجمع الهمة على الله تعالى فيها، بمنزلة هذا العبد - أو الأمة - الميّت الذي يريد إهداءه إلى بعض الملوك؛ ولهذا لا يقبلها الله تعالى منه، وإن أسقطت الفرض في أحكام الدنيا، ولا يثيبه عليها؛ فإنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها .. )) (¬3). ¬

(¬1) سورة الماعون، الآيتان: 4 - 5. (¬2) مدارج السالكين، 1/ 527. (¬3) الوابل الصيب، ص 14 - 15.

وذكر ابن القيم رحمه الله قول من قال: إن غلب على المصلّي عدم الخشوع في الصلاة، وعدم تعقُّلِها وجب عليها إعادتها، واحتجوا: بأنها صلاة لا يُثاب عليها، ولم يُضمن له فيها الفلاح، فلم تبرأ ذمته منها ... ؛ ولأن الخشوع، والتعقُّلَ: روح الصلاة، ومقصودها، ولبُّها، فكيف يُعتدّ بصلاةٍ فقدت روحها، ولبَّها، وبقيت صورتها وظاهرها؟ وقالوا: ولو ترك العبد واجباً من واجباتها عمداً لأبطلها تركه، وغايته أن يكون بعضاً من أبعاضها، بمنزلة فوات عضو من أعضاء العبد المعتق في الكفارة، فكيف إذا عدمت روحها، ولبَّها، وصارت بمنزلة العبد الميّت، فإذا لم يعتدّ بالعبد المقطوع اليد، يعتقه تقرّباً لله تعالى في كفارة واجبة، فكيف يعتدّ بالعبد الميت .. ؟؟ وذكر بأن حجج أصحاب هذا القول قويّة ظاهرة. ولكنه رحمه الله رجّح القول الثاني الذي لا يوجب الإعادة، وإنما يفُوت المصلّي غير الخاشع الثواب بقدر ما فاته من الخشوع في صلاته، ويفوته ما يحصل من الدرجات العُلا في الآخرة، ومرافقة المقرّبين، كل هذا يفوته بفوات الحضور والخضوع، وذَكَر أن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحداً، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض، فإن أراد الإعادة لتحصل هذه الثمرات والفوائد فذاك إليه إن شاء أن يحصّلها، وإن شاء أن يفوّتها على نفسه فوَّتها، ولا نلزمه بإعادتها ولا نعاقبه على تركها، ولا نرتب عليه أحكام تارك الصلاة، وهذا أرجح القولين (¬1). وكلام ابن القيم رحمه الله هنا مختص بحضور القلب وخشوعه في الصلاة، أما من نقر الصلاة، ولم يتم ركوعها، أو سجودها، أو ترك شيئاً من شروطها، أو أركانها، أو تعمّد ترك واجب من واجباتها، فلا شكّ أن الإعادة تجب عليه. ¬

(¬1) انظر: مدارج السالكين، 1/ 525 - 530.

الالتفات المنهي عنه في الصلاة قسمان:

ومما يدل على عظم منزلة الخشوع في الصلاة: أن الله تعالى يُعرِض عن من التفت بقلبه أو ببصره؛ لحديث أبي ذر - رضي الله عنه -، يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لاَ يَزَالُ اللَّهُ - عز وجل - مُقْبِلا عَلَى الْعَبْدِ فِي صَلاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا الْتَفَتَ انْصَرَفَ عَنْهُ)) (¬1). ولحديث الحارث الأشعري يرفعه، وفيه: (( ... وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ، فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ ... )) (¬2). قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((الالتفات المنهيُّ عنه في الصلاة قسمان: أحدهما: التفات القلب عن الله - عز وجل - إلى غير الله تعالى. والثاني: التفات البصر، وكلاهما منهي عنه، ولا يزال الله مقبلاً على عبده ما دام العبد مقبلاً على صلاته، فإذا التفت بقلبه أو بصره، أعرض الله تعالى عنه ... ومثل من يلتفت في صلاته ببصره أو بقلبه مثل رجل قد استدعاه السلطان، فأوقفه بين يديه، وأقبل يناديه ويخاطبه، وهو في خلال ذلك يلتف عن السلطان يميناً وشمالاً، وقد انصرف قلبه عن السلطان، فلا يفهم ما يخاطبه به؛ لأن قلبه ليس حاضراً معه، فما ظنُّ هذا الرجل أن يفعل به السلطان، أفليس أقلّ المراتب في حقه أن ينصرف من بين يديه ممقوتاً مبعداً، قد سقط من عينيه؟ فهذا المُصلّي لا يستوي والحاضر القلب المقبل على الله تعالى في صلاته، الذي قد أشعر قلبه عظمة من هو واقف بين يديه، فامتلأ قلبه من هيبته، وذلَّ عُنُقه ¬

(¬1) أبو داود، برقم 909، وأحمد، برقم 1508، وغيرهما، وحسنه الألباني لغيره في صحيح الترغيب، 1/ 360، وتقدم تخريجه في حكم الخشوع في الصلاة. (¬2) الترمذي، برقم 2863، وأحمد، برقم 17170، وغيرهما، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 30/ 144، وتقدم تخريجه في حكم الخشوع في الصلاة.

ثامنا: حكم الوسواس في الصلاة

له، واستحيى من ربه تعالى أن يقبل على غيره، أو يلتفت عنه، وبين صلاتيهما كما قال حسان بن عطية: إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة، وإن ما بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض؛ وذلك أن أحدهما مقبل بقلبه على الله - عز وجل -، والآخر ساهٍ غافلٌ، فإذا أقبل العبد على مخلوق مثله، وبينه وبينه حجاب لم يكن إقبالاً ولا تقرّباً، فما الظن بالخالق - عز وجل -، وإذا أقبل على الخالق - عز وجل -، وبينه وبينه حجاب: الشهوات، والوساوس، والنفس مشغوفة بها، ملْأى منها، فكيف يكون ذلك إقبالاً، وقد ألهته الوساوس، والأفكار، وذهبت به كل مذهب)) (¬1). ثامناً: حكم الوسواس في الصلاة الوسواس في الصلاة يدل على عدم كمال الإيمان، وعلى عدم استحضار العبد عظمة الله، وعدم الإحسان الكامل في الصلاة؛ فإن الإحسان في الصلاة: هو أن يصلّي المُصلّي كأنه يرى الله؛ فإن لم يكن يراه فإنه يراه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما سأله جبريل - عليه السلام - بقوله: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ؛ فَقَالَ: ((أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ؛ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ؛ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)) (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((الوسواس لا يبطل الصلاة إذا كان قليلاً باتفاق أهل العلم؛ بل ينقص الأجر، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((ليس لك من صلاتك إلا ما عقلْتَ منها)) (¬3). ¬

(¬1) الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب، لابن القيم، ص 35 - 36، ببعض التصرف. وانظر: أيضاً الوابل الصيب، ص14 - 37، ومدارج السالكين، 1/ 112، و 525 - 530. (¬2) متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، برقم 50، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان، والإسلام، والإحسان، ... برقم 9، وثبت في صحيح مسلم، من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، في نفس الكتاب والباب السابقين، برقم 8. (¬3) تقدم تخريجه، في حكم الخشوع في الصلاة.

وفي السنن - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إنَّ الْعَبْدَ لَيَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاتِهِ، وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ مِنْهَا إلَّا نِصْفُهَا، إلَّا ثُلُثُهَا، إلَّا رُبُعُهَا، إلَّا خُمُسُهَا، إلَّا سُدُسُهَا، إلَّا سُبُعُهَا، إلَّا ثُمُنُهَا، إلَّا تُسْعُهَا، إلَّا عُشْرُهَا)) (¬1). ويُقال: إن النوافل شُرِعَتْ لجبر النقص الحاصل في الفرائض، كما في السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ مِنْ عَمَلِهِ الصَّلَاةُ، فَإِنْ أَكْمَلَهَا، وَإِلَّا قِيلَ: اُنْظُرُوا هَلْ لَهُ مِنْ تَطَوُّعٍ، فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ أُكْمِلَتْ بِهِ الْفَرِيضَةُ، ثُمَّ يُصْنَعُ بِسَائِرِ أَعْمَالِهِ)) (¬2)، وهذا الإكمال يتناول ما نقص مطلقاً. وأما الوسواس الذي يكون غالباً على الصلاة، فقد قال طائفة، منهم أبو عبد الله بن حامد، وأبوحامد الغزالي، وغيرهما: إنه يوجب الإعادة أيضاً لما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذّنُ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ فَإِذَا قَضَى التَّأْذِينَ أَقْبَلَ فَإِذَا ثُوّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ فَإِذَا قَضَى التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطُرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ فَيَقُولَ: اُذْكُرْ كَذَا اُذْكُرْ كَذَا لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلَ لاَ يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلّمَ)) (¬3)، وقد صحّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: الصلاة مع الوسواس مطلقاً، ولم يفرق بين القليل والكثير. ولا ريب أن الوسواس كلّما قلّ في الصلاة، كان أكمل، كما في الصحيحين من حديث عثمان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((أنَّ مَنْ تَوَضَّأَ ¬

(¬1) أبو داود، برقم 796، وحسنه الألباني، وقد تقدم تخريجه. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه، 1/ 229، برقم 864، والترمذي في سننه، 2/ 269، برقم 413، وقال: ((حسن غريب))، والنسائي في سننه، 1/ 233، برقم 466، وابن ماجه في سننه، 1/ 458، برقم 1425، جميعاً عن أبي هريرة، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 4/ 20، وفي صحيح ابن ماجه، 1/ 240. (¬3) البخاري، برقم 608، ومسلم، برقم 389، وتقدم تخريجه.

مِثْلَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُحَدّثْ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)) (¬1)، وكذلك فى الصحيح أنه قال: ((مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ يُقْبِلُ عَلَيْهِمَا بِوَجْهِهِ، وَقَلْبِهِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)) (¬2). وما زال في المصلين من هو كذلك، كما قال سعد بن معاذ - رضي الله عنه -: ((فيَّ ثلاث خصال، لو كنت في سائر أحوالي أكون فيهن: كنت أنا أنا؛ إذا كنت في الصلاة لا أُحَدّث نفسي بغير ما أنا فيه، وإذا سمعت من رسول الله حديثاً لا يقع في قلبي ريب أنه الحق، وإذا كنت في جنازة لم أُحَدّث نفسي بغير ما تقول، ويقال لها)) (¬3). وكان مسلمة بن بشار يصلي في المسجد، فانهدم طائفة منه، وقام الناس وهو في الصلاة لم يشعر (¬4). وكان عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - يسجد، فأتى المنجنيق فأخذ طائفة من ثوبه، وهو في الصلاة لا يرفع رأسه (¬5). وقالوا لعامر بن عبد القيس أتُحَدّثُ نفسك بشيء في الصلاة؟ فقال ¬

(¬1) متفق عليه، البخاري، كتاب الوضوء، باب الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، برقم 159، ومسلم، كتاب الطهارة، باب صفة الوضوء وكماله، برقم 226. (¬2) رواية مسلم، كتاب الطهارة، باب الذكر المستحب عقب الوضوء، برقم 234، على النحو الآتي: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلّي رَكْعَتَيْنِ مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ)). ولفظ المتن أقرب لرواية الإمام أحمد، برقم 17314. (¬3) رواه ابن عبد البر في الاستيعاب، 2/ 605 من حديث ابن عباس متصلاً، وفي جامع بيان العلم وفضله، 2/ 370، وابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال، 3/ 234، ورواه الطبراني في المعجم الكبير، 6/ 5/5321، وذكره الهيثمي في المجمع، 9/ 308، وقال: ((رواه الطبراني بإسنادين أحدهما عن أبي سلمة مرسلاً، والآخر عن الماجشون منقطعاً، وفي إسناده من لم أعرفه)). (¬4) ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى، 22/ 605، ولم أجده عند غيره. (¬5) ذكره أبو نعيم في طبقات المحدثين في أصبهان، برقم 17.

تاسعا: الخشوع في الصلاة من إقامتها

أو شيء أحب إليّ من الصلاة أُحَدّثُ به نفسي؟ قالوا: إنا لنحدث أنفسنا في الصلاة، فقال: أبا لجنة والحور، ونحو ذلك؟ فقالوا: لا، ولكن بأهلينا وأموالنا، فقال: لأن تختلف الأسنّة فيَّ أحبُّ إليَّ وأمثال (¬1)، هذا متعدد. تاسعاً: الخشوع في الصلاة من إقامتها لا شك أن الخشوع في الصلاة من إقامتها؛ فإن إقامة الصلاة لا يكون إلا بإقامة: شروطها، وأركانها، وواجباتها، والخشوع واجب على الصحيح؛ لأمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (¬2)، فأمرنا بإقامتها، وهو الإتيان بها: قائمة تامة القيام، والركوع، والسجود، والأذكار، وقد علّق الله سبحانه الفلاح بخشوع المُصلّي في صلاته، فمن فاته خشوع الصلاة لم يكن من أهل الفلاح، ويستحيل حصول الخشوع مع العجلة والنقر قطعاً؛ بل لا يحصل الخشوع قط إلا مع الطمأنينة، وكلما زاد طمأنينة ازداد خشوعاً، وكلما قلّ خشوعه اشتدت عجلته، حتى تصير حركة يديه بمنزلة العبث الذي لا يصحبه خشوع، ولا إقبال على العبودية، ولا معرفة حقيقة العبودية، والله سبحانه قد قال: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (¬3)، وقال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} (¬4)، وقال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} (¬5)، وقال: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (¬6)، وقال: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} (¬7)، وقال إبراهيم - عليه السلام -: {رَبّ ¬

(¬1) ذكره الغزالي في إحياء علوم الدين دون عزوه لأحد، 1/ 281، وشيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى، 22/ 605. (¬2) سورة البقرة، الآية: 43. (¬3) سورة البقرة، الآية: 43. (¬4) سورة المائدة، الآية: 55. (¬5) سورة هود، الآية: 114. (¬6) سورة النساء، الآية: 103. (¬7) سورة النساء، الآية: 162.

عاشرا: التحذير من ترك الخشوع في الصلاة

اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ} (¬1)، وقال لموسى: {فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (¬2)، فلن تكاد تجد ذكر الصلاة في موضع من التنزيل إلا مقروناً بإقامتها، فالمصلُّون في الناس قليل، ومقيم الصلاة منهم أقل القليل، كما قال عمر - رضي الله عنه -: ((الحاج قليل والركب كثير)) (¬3). فالعاملون يعملون الأعمال المأمور بها على الترويج تحلَّةَ القسم، ويقولون: يكفينا أدنى ما يقع عليه الاسم، وليتنا نأتي به، ولو علم هؤلاء أن الملائكة تصعد بصلاتهم فتعرضها على الربّ - جل جلاله - بمنزلة الهدايا التي يتقرب بها الناس إلى ملوكهم وكبرائهم، فليس من عمد إلى أفضل ما يقدر عليه، فيُزيّنه ويُحسّنه ما استطاع، ثم يتقرّب به إلى من يرجوه ويخافه، كمن يعمد إلى أسقط ما عنده وأهونه عليه، فيستريح منه، ويبعثه إلى من لا يقع عنده بموقع (¬4). عاشراً: التحذير من ترك الخشوع في الصلاة ترك الخشوع في الصلاة يسبب: ترك أركانها: وواجباتها، فلا يمكن للخاشع لله في صلاته أن ينقر صلاته، أو يترك شيئاً من أركانها أو واجباتها على أقل الأحوال؛ لأنه يستحضر عظمة الله تعالى، ويخاف عقابه، ويرجو ثوابه؛ ولهذا جاءت النصوص الثابتة بالتحذير من الأمور الآتية: 1 - قد يُصلّي المرء ستين سنة، وما قبل الله منه صلاة واحدة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلّي سِتّينَ سَنَةً، ومَا ¬

(¬1) سورة إبراهيم، الآية: 40. (¬2) سورة طه، الآية: 14. (¬3) مصنف عبد الرزاق، 5/ 19، برقم 8837. (¬4) الصلاة لابن القيم، ص 109.

2 - أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته

تُقْبَلُ لَهُ صَلاَةٌ، لَعَلَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ، وَلاَ يُتِمُّ السُّجُودَ، وَيُتِمُّ السُّجُودَ، وَلاَ يُتِمُّ الرُّكُوعَ)) (¬1). 2 - أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته؛ لحديث أبي قتادة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أَسْوَأُ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ)) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ؟ قَالَ: ((لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا))، أَوْ قَالَ: ((لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ)) (¬2). 3 - لا ينظر الله - عز وجل - إلى صلاة عبدٍ لا يُقيم صلبه بين ركوعها وسجودها؛ لحديث طلق بن علي الحنفي - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لَا يَنْظُرُ اللَّهُ - عز وجل - إِلَى صَلَاةِ عَبْدٍ لَا يُقِيمُ فِيهَا صُلْبَهُ بَيْنَ رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا)) (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: ((لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى صَلَاةِ رَجُلٍ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ بَيْنَ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ)) (¬4). 4 - من مات وهو لا يُتمّ ركوعه، وينقر في سجوده، مات على غير ملّة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لحديث أبي عبد الله الأشعري - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً لا يُتمّ ركوعه [و] ينقر في سجوده وهو يصلي، فقال رسول الله ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، 1/ 288، والأصبهاني في الترغيب والترهيب، برقم 1895، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 347، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، 6/ 81، برقم 2535. (¬2) أخرجه أحمد في المسند 37/ 319، برقم 22642، واللفظ له، وابن خزيمة، 1/ 332، برقم 663، والحاكم، 1/ 229، وابن حبان في صحيحه، برقم 1888، والبيهقي، 2/ 386، والطبراني، برقم 2347، وصححه الألباني لغيره في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 345، وصححه محققو مسند الإمام أحمد، 37/ 319. (¬3) أحمد في المسند، 26/ 211، برقم 16283، والطبراني في الكبير، برقم 8261، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 346: (حسن صحيح))، وجاء مثله من حديث علي بن شيبان في مسند أحمد، برقم 16284، وبرقم 24009/ 74. (¬4) أحمد، 16/ 466، برقم 10799، وحسنه محققو مسند أحمد، 16/ 466.

5 - قد ينصرف المصلي ولم يكتب له من صلاته إلا عشرها

- صلى الله عليه وسلم -: ((لَوْ مَاتَ هَذَا عَلَى حَالِهِ هَذِهِ، مَاتَ عَلَى غَيْرِ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -)) ثُمَّ قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: ((مَثَلُ الَّذِي لَا يُتِمُّ رُكُوعَهُ، وَيَنْقُرُ فِي سُجُودِهِ، مَثَلُ الْجَائِعِ يَأْكُلُ التَّمْرَةَ وَالتَّمْرَتَيْنِ لَا يُغْنِيَانِ عَنْهُ شَيْئًا)) (¬1). 5 - قد ينصرف المصلّي ولم يكتب له من صلاته إلا عشرها؛ لحديث عمار بن ياسر - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ وَمَا كُتِبَ لَهُ إِلَّا عُشْرُ صَلَاتِهِ، تُسْعُهَا، ثُمْنُهَا، سُبْعُهَا، سُدْسُهَا، خُمْسُهَا، رُبْعُهَا، ثُلُثُهَا، نِصْفُهَا)) (¬2). وعن أبي اليَسَر: كعب بن عمرو السلمي - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((مِنْكُمْ مَنْ يُصَلّي الصَّلَاةَ كَامِلَةً، وَمِنْكُمْ مَنْ يُصَلّي النّصْفَ، وَالثُّلُثَ، وَالرُّبُعَ))، حَتَّى بَلَغَ: ((الْعُشْرَ)) (¬3). 6 - قد يُصلّي المرء أربعين سنة، ولا يكتب له صلاة واحدة؛ لحديث حذيفة موقف عليه: أنَّهُ دَخَلَ المَسْجِدَ، فَإَذَا رَجُلٌ يُصَلّي، فَجَعَلَ لاَ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَلاَ السُّجُودَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: مُنْذُ كَمْ تُصَلّي هَذِهِ الصَّلَاةَ؟ قَالَ: مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: ((مَا صَلَّيْتَ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَوْ مِتَّ وَهَذِهِ صَلاتُكَ لَمِتَّ عَلَى غَيْرِ الفِطْرَةِ الَّتِي فُطِرَ عَلَيْهَا مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ يُعَلّمُهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُخَفّفُ فِي ¬

(¬1) الطبراني في الكبير، 4/ 115، برقم 3840، وابن خزيمة، 1/ 332، برقم 665، وأبو يعلى، برقم 7184، وحسن إسناده الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 347، وفي تعليقه على صحيح ابن خزيمة، 1/ 332. (¬2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما جاء في نُقصان الصلاة، برقم 796، وغيره، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 226، وأخرجه أيضاً النسائي في الكبرى، برقم 615. (¬3) أحمد 24/ 280، برقم 15522، والنسائي في الكبرى، برقم 616، 1/ 316، وحسنه الألباني لغيره في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 352.

7 - نقر الصلاة كنقر الغراب، أو الطائر بمنقاره من علامات النفاق الخالص

صَلاتِهِ وإنَّهُ لَيُتِمُّ الرُّكُوعَ والسُّجُودَ)) (¬1). 7 - نقر الصلاة كنقر الغراب، أو الطائر بمنقاره من علامات النفاق الخالص؛ لحديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ((تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّيْطَانِ قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا)) (¬2)، ورجَّح النووي رحمه الله: أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بين قرني شيطان)) على حقيقته، وظاهر لفظه، والمراد: أن الشيطان يحاذي الشمس عند غروبها بقرنيه، وكذا عند طلوعها؛ لأن الكفار يسجدون لها حينئذٍ فيقارنها ليكون الساجدون لها في صورة الساجدين له، ويُخيَّل لنفسه ولأعوانه أنهم إنما يسجدون له (¬3). وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: ((فَوَصَفَهُ بإضاعة الوقت بقوله: ((يرقب الشمس))، وبإضاعة الأركان، بذكره النقر، وبإضاعة حضور القلب بقوله: ((لا يذكر الله فيها إلا قليلاً)))) (¬4). 8 - بكاءُ أنس بن مالك - رضي الله عنه - على تأخير الصلاة عن وقتها وتضييعها، فعن الزهري رحمه الله قال: دَخَلْتُ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِدِمَشْقَ وَهُوَ يَبْكِي، فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: ((لَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْتُ إِلَّا هَذِهِ الصَّلَاةَ، وَهَذِهِ الصَّلَاةُ قَدْ ضُيّعَتْ)) (¬5)، ومعنى تضييعها: أي تأخيرها عن وقتها، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((وقد صحَّ أنّ الحَجَّاج ¬

(¬1) أحمد في المسند، 38/ 294، برقم 23258، والنسائي في المجتبى، برقم 1312، وفي الكبرى، برقم 611، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 421. (¬2) مسلم، كتاب المساجد استحباب التبكير بالعصر، برقم 622. (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 129. (¬4) تفسير الفاتحة، بتحقيق د. فهد بن عبد الرحمن الرومي، الطبعة الخامسة، 1409هـ، بدون ناشر. (¬5) البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب تضييع الصلاة عن وقتها برقم 530.

الحادي عشر: الصلاة بخشوع: قرة للعين وراحة للقلب

وأميره الوليد وغيرهما كانوا يؤخّرون الصلاة عن وقتها، والآثار في ذلك مشهورة)) (¬1). الحادي عشر: الصلاة بخشوع: قرّةٌ للعين وراحةٌ للقلب لا شك أن الصلاة قرة لعين النبي - صلى الله عليه وسلم -، وراحة لقلبه وروحه؛ لحلاوة مناجاته لربّه؛ ولخشوعه، وحضور قلبه بين يدي الله تعالى، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((حُبّبَ إلَيَّ: النّسَاءُ، وَالطّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ)) (¬2). وقوله ((حبب إلي النساء .. )) قيل: إنما حُبّبَ إليه النساء لينقلن عنه من أمور الشريعة ما لا يطّلع عليه الرجال، ومن أحواله ويستحيا من ذكره، وقد جعل الله له نسوة ينقلن: أحكام الحيض، والنفاس، والغسل، والعدة، وينقلن من الشرع ما يشاهدنه من أفعاله - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: حبب إليه زيادة في الابتلاء والاختبار، والتكليف، فيكون ذلك أكثر لمشاقّه، وأعظم لأجره، وقيل غير ذلك والعلم عند الله تعالى (¬3). ¬

(¬1) فتح الباري، لابن حجر، 2/ 14. (¬2) النسائي بلفظه، كتاب عشرة النساء، باب حب النساء، برقم 3940، وأحمد برقم 12293، 13057، وفي لفظ للنسائي، برقم 3939، وأحمد برقم 12294، 14037: ((حُبّبَ إليَّ من الدنيا: النساء، والطيب، وجُعِلَ قُرَّةُ عيني في الصلاة))، والحديث صححه الألباني في صحيح النسائي، 3/ 827، وسمعت شيخنا ابن باز أثناء تقريره على سنن النسائي، 7/ 61: يقول: ((لا بأس بإسناده، أما من قال: حبب إلي من دنياك ثلاث، فهذا لا يصح؛ لأن الصلاة ليست من الدنيا، أما قوله: ((حُبّبَ إليَّ من الدنيا: النساء، والطيب، وجُعلت قرّة عيني في الصلاة)) فلا إشكال فيه)). وقوله: ((حُبّب إليَّ من الدنيا .. )) قال المناوي في ((فيض القدير)) 3/ 370: ((زاد الزمخشري، والقاضي لفظ: ((ثلاث)) [أي حُبّبَ إليّ من الدنيا ثلاث]، وهو وهم، قال الحافظ العراقي في ((أماليه)): لفظ (ثلاث) ليست في شيء من كتب الحديث، وهي تفسد المعنى، وقال الزركشي: لم يرد فيه لفظ ((ثلاثة))، وزيادتها مُخِلَّة للمعنى؛ فإن الصلاة ليست من الدنيا، وقال ابن حجر في تخريج ((الكشاف)): لم يقع في شيء من طرقه [انظر: حاشية محققي مسند الإمام أحمد، 19/ 307]. (¬3) انظر: شرح السيوطي على سنن النسائي وحاشية السندي، 7/ 63 - 64.

وقوله: ((والطيب)) فكأنه حُبّبَ إليه؛ لأنه يناجي ربَّه - سبحانه وتعالى -، ويقابل جبريل، والملائكة تتأذَّى مما يتأذَّى منه بنو آدم، والعلم عند الله تعالى (¬1). قوله: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)) النبي - صلى الله عليه وسلم - يحصل له السرور العظيم، واللذة العظيمة في صلاته؛ لأنه يستحضر عظمة الله ويناجيه، ويدعوه، فيحصل له كمال المناجاة مع الرب تبارك وتعالى (¬2). قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: (( ... وقرّت عينُهُ تقرُّ: سُرَّت، قال: {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} (¬3)، وقيل لمن يُسَرُّ به: قرّة عينٍ، قال: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} (¬4) وقوله: {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} (¬5) قيل: أصله من القُرّ: أي البرد، فقرّت عينُه، قيل: معناه بردت فصحَّت، وقيل: لأن للسرور دمعة باردة قارة، وللحُزن دمعة حارة؛ ولذلك يقال لمن يُدعى عليه: أسخن الله عينه، وقيل: هو من القرار، والمعنى: أعطاه الله ما تسكن به عينه، فلا يطمح إلى غيره)) (¬6). والنبي - صلى الله عليه وسلم - مهما يحصل له من السرور العظيم، وحلاوة مناجاة الله، تحصل له الراحة فيها؛ لكمال مناجاته لربه، واستحضاره لعظمته، والوقوف بين يديه؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ((قُمْ يَا بِلالُ فَأَرِحْنَا بِالصَّلاةِ)) وفي ¬

(¬1) انظر: المرجع السابق، 7/ 63 - 64. (¬2) انظر: شرح السيوطي عن سنن النسائي، وحاشية السندي، 7/ 63 - 64، ولسان العرب لابن منظور، 5/ 87، والمصباح المنير، 2/ 497. (¬3) سورة طه، الآية: 40. (¬4) سورة القصص، الآية: 9. (¬5) سورة الفرقان، الآية: 74. (¬6) مفردات ألفاظ القرآن، ص663.

لفظ: ((يَا بِلالُ أَقِمْ الصَّلاةَ أَرِحْنَا بِهَا)) (¬1). قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (( ... الصلاة إنما تُكفّر سيئات من أدَّى حقها، وأكمل خشوعها، ووقف بين يدي الله تعالى بقلبه وقالبه، فهذا إذا انصرف منها وجد خِفّةً من نفسه، وأحسَّ بأثقال قد وضعت عنه، فوجد نشاطاً، وراحة، وروحاً، حتى يتمنَّى أنه لم يكن خرج منها؛ لأنها قُرَّة عينه، ونعيم روحه، وجنة قلبه، ومستراحه في الدنيا، فلا يزال كأنه في سجن وضيق حتى يدخل فيها، فيستريح بها، لا منها، فالمحبون يقولون: نُصلّي فنستريح بصلاتنا، كما قال إمامهم، وقدوتهم، ونبيهم - صلى الله عليه وسلم -: ((يَا بِلالُ أَرِحْنَا بِالصَّلاةِ)) (¬2)، ولم يقل: أرحنا منها، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ)) (¬3)، فمن جُعلت قرة عينه في الصلاة، كيف تقرّ عينه بدونها، وكيف يطيق الصبر عنها؟)) (¬4). وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ((والمقصود أن ما تقرَّ به العين أعلى من مجرَّد ما يحبه، فالصلاة قُرّة عيون المحبين في هذه الدنيا؛ لما فيها من مناجاة من لا تقرّ ... العيون، ولا تطمئن القلوب، ولا تسكن النفوس إلا إليه، والتنعم بذكره، والتَّذلُّلُ والخضوع له، والقرب منه، ولا سيما في حال السجود، وتلك الحال أقرب ما يكون العبد من ربه فيها، ومن هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا بلال أرحنا بالصلاة)) فأعلم بذلك أن راحته - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة، كما أخبر أن قرّة عينه فيها، فأين هذا من قول القائل: نصلي، ونستريح من الصلاة. ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الأدب، باب في صلاة العتمة، برقم 4985، و 4986، وأحمد في المسند، برقم 23154، 38/ 225، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 3/ 225. (¬2) أبو داود، برقم 4985، 4986، وأحمد 3154، وتقدم تخريجه في الذي قبله. (¬3) النسائي برقم 3940، وأحمد، برقم 12293، وصححه الألباني، وتقدم تخريجه. (¬4) الوابل الصيب، ص 51 - 52.

الثاني عشر: مشاهد الصلاة الخاشعة التي تقر بها العين

فالمحبّ راحته، وقرّة عينه في الصلاة، والغافل المعرض ليس له نصيب من ذلك؛ بل الصلاة كبيرة شاقة عليه، إذا قام فيها كأنَّه على الجمر، حتى يتخلّص منها، وأحب الصلاة إليه أعجلها، وأسرعها؛ فإنه ليس له قُرَّة عين فيها، ولا لقلبه راحة بها، والعبد إذا قرّت عينه بشيء، واستراح قلبه به، فأشقّ ما عليه مفارقته، والمتكلف الفارغ القلب من الله، والدار الآخرة المبتلى بمحبة الدنيا، أشقّ ما عليه الصلاة، وأكره ما إليه طولها، مع تفرّغه وصحته وعدم اشتغاله)) (¬1). الثاني عشر: مشاهد الصلاة الخاشعة التي تقرّ بها العين قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((ومما ينبغي أن يعلم أن الصلاة التي تقرّ بها العين، ويستريح بها القلب، هي التي تجمع ستة مشاهد)) (¬2)، وذكر هذه المشاهد رحمه الله، وهي على النحو الآتي: المشهد الأول: الإخلاص: وهو أن يكون الحامل عليها، والداعي إليها، رغبة العبد في الله، ومحبته له، وطلب مرضاته، والقرب منه، والتودُّد إليه، وامتثال أمره؛ بحيث لا يكون الباعث له عليها حظّاً من حظوظ الدنيا البتة؛ بل يأتي بها ابتغاء وجه ربه الأعلى: محبةً له، وخوفاً من عذابه، ورجاء لمغفرته، وثوابه. المشهد الثاني: مشهد الصدق والنصح: وهو أن يُفرّغ قلبه لله فيها، ويستفرغ جهده في إقباله فيها على الله، وجمع قلبه عليها، وإيقاعها على أحسن الوجوه، وأكملها ظاهراً وباطناً؛ فإن الصلاة لها ظاهر وباطن: فظاهرها الأفعال المشاهدة والأقوال المسموعة، وباطنها الخشوع والمراقبة، وتفريغ القلب لله والإقبال بكُليَّته على الله فيها بحيث لا ¬

(¬1) رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه، ص 33. (¬2) رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه، ص 34.

المشهد الثالث: مشهد المتابعة والاقتداء

يلتفت قلبه عنه إلى غيره، فهذا بمنزلة الروح لها والأفعال بمنزلة البدن، فإذا خلت من الروح كانت كبدن لا روح فيه، أفلا يستحي العبد أن يواجه سيده بمثل ذلك. المشهد الثالث: مشهد المتابعة والاقتداء: وهو أن يحرص كلّ الحرص على الاقتداء في صلاته بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ويُصلّي كما كان يُصلّي، ويعرض عما أحدث الناس في الصلاة: من الزيادة، والنقصان، والأوضاع التي لم ينقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء منها، ولا عن أحد من أصحابه، ولا يقف عند أقوال المرخّصين الذين يقفون مع أقل ما يعتقدون وجوبه، ويكون غيرهم قد نازعهم في ذلك، وأوجب ما أسقطوه، ولعل الأحاديث الثابتة، والسنة النبوية من جانبه، ولا يلتفتون إلى ذلك، ويقولون: نحن مقلّدون لمذهب فلان، وهذا لا يُخلّص عند الله، ولا يكون عذراً لمن تخلَّف عما علمه من السنة عنده، فإن الله سبحانه إنما أمر بطاعة رسوله، واتباعه وحده، ولم يأمر باتباع غيره، وإنما يطاع غيره إذا أمر بما أمر به الرسول، وكل أحد سوى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فمأخوذ من قوله ومتروك، وقد أقسم الله سبحانه بنفسه الكريمة أنا لا نؤمن حتى نحكم الرسول فيما شجر بيننا، وننقاد لحكمه، ونسلم تسليماً. المشهد الرابع: مشهد الإحسان: وهو مشهد المراقبة، وهو أن يعبد الله كأنه يراه، وهذا المشهد إنما ينشأ من كمال الإيمان بالله، وأسمائه، وصفاته، حتى كأنه يرى الله سبحانه فوق سمواته، مستوياً على عرشه، يتكلم بأمره ونهيه، ويُدبّر أمر الخليقة، فينزل الأمر من عنده، ويصعد إليه، وتُعرض أعمال العباد وأرواحهم عند الموافاة عليه، فيشهد ذلك كُلَّه بقلبه، ويشهد أسماءه وصفاته، ويشهد قيُّوماً، حيّاً، سميعاً، بصيراً، عزيزاً، حكيماً، آمراً، ناهياً، يحب ويبغض، ويرضى ويغضب، ويفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وهو فوق عرشه، لا يخفى عليه شيء من أعمال

المشهد الخامس: مشهد المنة:

العباد، ولا أقوالهم ولا بواطنهم؛ بل يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور. وحظّ العبد من القرب من الله على قدر حظّه من مقام الإحسان، وبحسبه تتفاوت الصلاة، حتى [أنَّه] يكون بين صلاة الرجلين من الفضل كما بين السماء والأرض، وقيامهما، وركوعهما، وسجودهما واحد. المشهد الخامس: مشهد المِنَّةِ: وهو أن يشهد أن المنة لله سبحانه كونه أقامه في هذا المقام، وأهَّله له، ووفَّقه لقيام قلبه وبدنه في خدمته، فلولا الله سبحانه لم يكن شيء من ذلك، كما كان الصحابة يَحْدون بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقولون: والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تَصَدَّقْنا ولا صَلَّينا قال الله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬1)، فالله سبحانه هو الذي جعل المسلم مسلماً، والمُصلّي مصلّياً كما قال الخليل - صلى الله عليه وسلم -: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} (¬2)، وقال: {رَبّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرّيَّتِي} (¬3)، فالمنّة لله وحده في أن جعل عبده قائماً بطاعته، وكان هذا من أعظم نعمه عليه، قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (¬4)، وقال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} (¬5). وهذا المشهد من أعظم المشاهد وأنفعها للعبد، وكلّما كان العبد ¬

(¬1) سورة الحجرات، الآية: 17. (¬2) سورة البقرة، الآية: 128. (¬3) سورة إبراهيم، الآية: 40. (¬4) سورة النحل، الآية: 53. (¬5) سورة الحجرات، للآية: 7.

المشهد السادس: مشهد التقصير

أعظم توحيداً، كان حظُّه من هذا المشهد أتمَّ. المشهد السادس: مشهد التقصير: وأن العبد لو اجتهد في القيام بالأمر غاية الاجتهاد، وبذل وسعه، فهو مقصّر، وحق الله سبحانه عليه أعظم، والذي ينبغي له أن يقابل به من الطاعة والعبودية والخدمة فوق ذلك بكثير، وأن عظمته وجلاله سبحانه يقتضي من العبودية ما يليق بها، وإذا كان خدم الملوك وعبيدهم يعاملونهم في خدمتهم بالإجلال لهم، والتعظيم، والاحترام، والتوقير، والحياء، والمهابة، والخشية، والنصح، بحيث يُفَرّغون قلوبهم وجوارحهم لهم، فمالك الملوك، ورب السموات والأرض، أولى أن يعامل بذلك، بل بأضعاف ذلك. وإذا شهد العبد من نفسه أنه لم يوف ربه في عبوديته حقه، ولا قريباً من حقه، علم تقصيره، ولم يسعْه مع ذلك غير الاستغفار، والاعتذار من تقصيره وتفريطه، وعدم القيام بما ينبغي له من حقه، وأنه إلى أن يغفر له العبودية، ويعفو عنه فيها أحوج منه إلى أن يطلب منه عليها ثواباً، وهو لو وفَّاها حقها كما ينبغي، لكانت مستحقّة عليه بمقتضى العبودية؛ فإن عمل العبد، وخدمته لسيده، مستحقّ عليه بحكم كونه عبده ومملوكه. ومن هنا يُفْهَم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه أبو داود، والإمام أحمد، من حديث زيد بن ثابت، وحذيفة وغيرهما: ((إِنَّ اللَّهَ لَوْ عذَّبَ أهْلَ سَمَوَاتِهِ، وأهْلَ أرْضِهِ، لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ خيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ)) (¬1) (¬2). الثالث عشر: أقسام الناس في الخشوع في الصلاة الناس يختلفون في الخشوع في الصلاة على حسب حضور قلب ¬

(¬1) مسند أحمد، 35/ 465، برقم 21589، وسنن أبي داود، كتاب السنة، باب في القدر، برقم 4701، وسنن ابن ماجه، أبواب السنة، باب في القدر، برقم 77، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، برقم 77. (¬2) رسالة ابن القيم لأحد إخوانه، ص 33 - 46.

القسم الأول: مرتبة الظالم لنفسه المفرط

كل إنسان، وغفلته، وإقباله على صلاته، وانصراف قلبه عن ربه، والعياذ بالله تعالى، والناس في الخشوع في الصلاة على أقسام خمسة على النحو الآتي: القسم الأول: مرتبة الظالم لنفسه المُفرّط: وهو الذي انتقص من وضوئها، ومواقيتها، وحدودها، وأركانها. القسم الثاني: من يحافظ على مواقيتها، وحدودها، وأركانها الظاهرة، ووضوئها، لكن قد ضيّع مجاهدة نفسه في الوسوسة، فذهب مع الوساوس والأفكار. القسم الثالث: من حافظ على حدودها، وأركانها، وجاهد نفسه في دفع الوساوس والأفكار، فهو مشغول بمجاهدة عدوّه؛ لئلا يسرق صلاته، فهو في صلاة وجهاد. القسم الرابع: من إذا قام إلى الصلاة أكمل حقوقها، وأركانها، وحدودها، واستغرق قلبه مراعاة حدودها وحقوقها؛ لئلا يضيع شيئاً منها؛ بل همه كله مصروف إلى إقامتها كما ينبغي، وإكمالها، وإتمامها قد استغرق قلبه شأن الصلاة، وعبوديّة ربه تبارك وتعالى فيها. القسم الخامس: من إذا قام إلى الصلاة قام إليها كذلك، ولكن مع هذا قد أخذ قلبه، ووضعه بين يدي ربه - عز وجل -، ناظراً بقلبه إليه، مراقباً له، ممتلئاً من محبته وعظمته، كأنه يراه ويشاهده، وقد اضمحلَّت تلك الوساوس والخطرات، وارتفعت حجبها بينه وبين ربه، فهذا بينه وبين غيره في الصلاة أفضل، وأعظم مما بين السماء والأرض، وهذا في صلاته مشغول بربه - عز وجل -، قرير العين به. فالقسم الأول معاقبٌ، والثاني محاسبٌ، والثالث مكفَّرٌ عنه، والرابع مُثابٌ، والخامس مُقَرَّبٌ من ربّه؛ لأن له نصيباً ممن جُعِلَتْ قرّة عينه في الصلاة، فمن قرّت عينه بصلاته في الدنيا، قرَّت عينه بقربه من

الرابع عشر: خشوع النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته:

ربه - عز وجل - في الآخرة، وقرّت عينه أيضاً به في الدنيا، ومن قرَّت عينه بالله، قرّت به كل عين، ومن لم تقرَّ عينه بالله تعالى، تقطَّعت نفسه على الدنيا حسرات. وإنما يقوى العبد على حضوره في الصلاة، واشتغاله فيها بربه - عز وجل - إذا قهر شهوته وهواه، وإلا فقلب قد قهرته الشهوة، وأسره الهوى، ووجد الشيطان فيه مقعداً تمكن فيه، كيف يخلص من الوساوس والأفكار؟ (¬1). الرابع عشر: خشوع النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته: النبي - صلى الله عليه وسلم -: هو أتقى الناس لربه، وأخشاهم، وأشدَّهم خشية وخشوعاً لله تعالى، ومن أعظم خشيته لله، ومحبَّته له، وإجلاله له، وتعظيمه خشوعه في صلاته، ورقّة قلبه في الصلاة، وغيرها من العبادات: أولاً: خشوعه - صلى الله عليه وسلم - في أفعال الصلاة وأقوالها: قد كان - صلى الله عليه وسلم - إذا قام في الصلاة، طأطأ رأسَه، ذكره الإِمام أحمد رحمه الله، وكان في التشهد لا يُجاوز بَصَرُهُ إشارتَه، وقد تقدّم. وكان قد جعل الله تعالى قُرّة عينه، ونعيمَه، وسرورَه، وروحَه في الصلاة. وكان يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا بِلاَلُ أرِحْنا بِالصلاَةِ)) (¬2). وكان يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاَةِ)) (¬3). ¬

(¬1) الوابل الصيب لابن القيم، ص 40 - 42 ببعض التصرف اليسير. (¬2) رواه أبو داود، في الأدب: باب صلاة العتمة، برقم 4985، و4986، وأحمد في المسند، 38/ 178، برقم 32088 عن رجل من الصحابة، وصحح إسناده الشيخ الأرناؤوط في تحقيق زاد المعاد، 1/ 265. (¬3) رواه النسائي، في عشرة النساء: باب حب النساء، 7/ 61، برقم 3940، وأحمد في المسند، 21/ 433، برقم 14037 من حديث أنس، والحاكم، 2/ 174، برقم 2676، وقال: ((صحيح على شرط مسلم))، ولفظه بتمامه: ((حُبّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ: النّسَاءُ، وَالطّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاَةِ)). وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه على زاد المعاد، 1/ 265: ((وسنده حسن)).

ومع هذا لم يكن يشغَلُه ما هو فيه من ذلك عن مراعاة أحوال المأمومين وغيرهم، مع كمال إقباله، وقربه من الله تعالى، وحضورِ قلبه بين يديه، واجتماعِه عليه. وكان يَدْخُلُ فِي الصّلَاةِ وَهُوَ يُرِيدُ إطَالَتَهَا، فَيَسْمَعُ بُكَاءَ الصّبِيّ فَيُخَفّفُهَا، وَأَرْسَلَ مَرّةً فَارِسًا طَلِيعَةً لَهُ، فَقَامَ يُصَلّي، وَجَعَلَ يَلْتَفِتُ إلَى الشّعْبِ الّذِي يَجِيءُ مِنْهُ الْفَارِسُ (¬1)، وَلَمْ يَشْغَلْهُ مَا هُوَ فِيهِ عَنْ مُرَاعَاةِ حَالِ فَارِسِهِ. وَكَذَلِكَ كَانَ يُصَلّي الْفَرْضَ وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ ابْنِ الرّبِيعِ ابْنَةَ بِنْتِهِ زَيْنَبَ عَلَى عَاتِقِهِ، إذَا قَامَ حَمَلَهَا، وَإِذَا رَكَعَ وَسَجَدَ، وَضَعَهَا (¬2). وكان يصلي فيجيء الحسنُ أو الحسين فيركبُ ظهره، فيُطيل السجدة، كَراهية أن يُلقيَه عن ظهره (¬3). ¬

(¬1) أبو داود، 1/ 254، كتاب الصلاة، باب الرخصة، برقم 916، والبيهقي في السنن الكبرى، 2/ 248، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم 850. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة، برقم 516، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز حمل الصبيان في الصلاة، برقم 543. (¬3) أخرجه أحمد، 45/ 613، برقم 27647، والنسائي، كتاب الصلاة، باب هل يجوز أن تكون سجدة أطول من سجدة،3/ 226، برقم 1141. ولفظ أحمد: ((خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي إِحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيّ الظُّهْرِ أَوْ الْعَصْرِ وَهُوَ حَامِلُ حَسَنٍ أَوْ حُسَيْنٍ فَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَوَضَعَهُ ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ فَصَلَّى فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَيْ صَلَاتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا فقَالَ إِنّي رَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا الصَّبِيُّ عَلَى ظَهَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ سَاجِدٌ فَرَجَعْتُ فِي سُجُودِي فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الصَّلَاةَ قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَيْ الصَّلَاةِ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ قَالَ: ((كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ)) قال الأرناؤوط في تحقيق زاد المعاد، 1/ 266: ((وسنده صحيح، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وفي الباب عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عند أحمد، 2/ 513، وسنده حسن))، قلت: وصححه الألباني في صفة الصلاة، ص 148.

وكان يُصلي، فتجيء عائشةُ مِن حاجتها والبابُ مُغلَق، فيمشي، فيفتح لها البابَ، ثمَّ يرجِعُ إلى الصلاة (¬1). وكان يَرُدُّ السلامَ بالإِشارة على من يُسلّم عليه وهو في الصلاة. وقال جابر: بعثني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لحاجة، ثم أدركتُهُ وهو يُصلّي، فسلمتُ عليه، فأشار إليَّ (¬2). قال أنس - رضي الله عنه -: ((كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُشير في الصلاة)) (¬3). وقال صُهيبٌ: ((مررتُ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يُصلي، فسلّمتُ عليه، فردَّ إشارةً))، قال الراوي: لا أعلمه، قال: إلا إشارة بأصبعه، وهو في ((السنن))، و ((المسند)) (¬4). ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد في المسند، 43/ 121، برقم 25972، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب العمل في الصلاة، برقم 922، والترمذي، في الصلاة، في أبواب السفر، باب [ذكر] ما يجوز من المشي والعمل في صلاة التطوع،2 /،496، برقم 601، وقال: ((هذا حديث حسن غريب))، والنسائي، كتاب السهو، باب المشي أمام القبلة خطى يسيرة، 1/ 37، برقم 1206، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، برقم 855، وحسن إسناده أيضاً الشيخ الأرناؤوط في تعليقه على المسند، 43/ 121. (¬2) صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ... ، برقم 540. وأبو داود، كتاب الصلاة، باب رد السلام في الصلاة، برقم 966، والنسائي، كتاب السهو، باب رد السلام بالإشارة في الصلاة، 3/ 6، برقم 1189، وسنن ابن ماجه، كتاب الصلاة، باب المصلي يُسلّم عليه كيف يرد، 1/ 325. (¬3) أحمد، 19/ 398، برقم 12407، وسنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب الإشارة في الصلاة، 1/ 262، برقم 943، والسنن الكبرى للبيهقي، 2/ 262. وقال الألباني في صحيح أبي داود، 4/ 101: ((إسناده صحيح على شرط الشيخين))، وقال الشيخ الأرناؤوط في زاد المعاد، 1/ 267: ((وسنده صحيح)). (¬4) أحمد، 8/ 174، برقم 4568، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب رد السلام في الصلاة، برقم 925، والترمذي، في الصلاة، باب ما جاء في الإشارة في الصلاة، 1/ 160، برقم 368، والنسائي، أبواب السهو، باب رد السلام بالإشارة في الصلاة، 3/ ص 5، برقم 1187، وابن ماجه، في أبواب إقامة الصلوات والسنة فيها، باب المصلي يسلم عليه كيف يرد، برقم 1017، وصححه الشيخ الألباني في صحيح أبي داود، برقم 860، وقال الشيخ الأرنؤوط في تحقيقه على زاد المعاد، 1/ 267: ((وسنده صحيح)).

وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ((خرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قُباء يُصلّي فيه، قال: فجاءته الأنصارُ، فسلَّموا عليه وهو في الصلاة، فقلتُ لبلال: كيف رأيتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يردُّ عليهم حين كانوا يُسلّمون عليه وهو يصلّي؟ قال: يقول: هكذا، وبسط جعفر بن عون كفه، وجعل بطنه أسفل، وجعل ظهره إلى فوق)) (¬1). وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ((لما قَدِمتُ من الحبشة أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي، فسلَّمت عليه، فأومأ برأسه)) (¬2). وكان - صلى الله عليه وسلم - يُصلي وعائشة معترِضَةٌ بينَه وبين القبلة، فإذا سجد، غَمَزَهَا بيده، فقبضت رجليها، وإذا قام بسطتهما (¬3). وكان يُصلي، فجاءه الشيطانُ ليقطع عليه صلاتَه، فأخذه، فخنقه حتى سَالَ لُعابُه عَلَى يَدِه (¬4). ¬

(¬1) سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب رد السلام في الصلاة، برقم 927، والترمذي، باب ما جاء في الإشارة في الصلاة، برقم 368، وقال: ((حسن صحيح))، وقال الأرنؤوط في تحقيق زاد المعاد، 1/ 267: ((وسنده صحيح))، ولفظ الترمذي: ((كان يشير بيده))، وصحح الألباني لفظ الترمذي في صحيح ابن خزيمة، 2/ 49. (¬2) السنن الكبرى للبيهقي، 2/ 260، وشعب الإيمان له، 11/ 263، والدارمي في سننه، 2/ 349، والمعجم الكبير للطبراني، 23/ 31، قال محقق الدارمي نقلاً عن حسين أسد: ((إسناده جيد)). (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة على الفراش، برقم 382، وفي باب التطوع خلف المرأة، برقم 513، وفي كتاب العمل في الصلاة، باب ما يجوز من العمل في الصلاة، برقم 1209، ومسلم، كتاب الصلاة، باب الاعتراض بين يدي المصلي، برقم 412، والموطأ، 1/ 17، في صلاة الليل، باب ما جاء في صلاة الليل، وأبو داود، في الصلاة، باب من قال المرأة لا تقطع الصلاة، برقم 712، والنسائي، في الطهارة، باب ترك الوضوء من مس الرجل امرأته من غير شهوة، 1/ 102، برقم 759، وأحمد في المسند، 6/ 44، و55، و148، و225، و255 من حديث عائشة رَضْيَ اللَّهُ عَنْهَا، ولفظه: ((كنت أنام بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني، فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتهما، قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح. (¬4) البخاري، كتاب العمل في الصلاة، باب ما يجوز من العمل في الصلاة، برقم 1210، وفي باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد، برقم 461، وفي كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، برقم 3284، وفي كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ} [سورة ص، الآية: 30]، برقم 3423، وفي كتاب التفسير، تفسير سورة ص، برقم 4808، ومسلم، كتاب المساجد، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة، برقم 541،، ولفظه عند البخاري: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة فقال: إن الشيطان عرض لي، فشد عليّ ليقطع عليَّ، فأمكنني الله منه فذعته، ولقد هممت أن أوثقه إلى سارية حتى تصبحوا فتنظروا إليه، فذكرت قول سليمان - عليه السلام -: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [سورة ص، الآية: 35]، فردّه الله خاسئاً، ثم قال النضر بن شميل: فذعته -بالذال أي خنقته-، وفي رواية لمسلم: ((إن عفريتاً من الجنّ جعل يَفْتِكُ عليَّ البارحة ليقطع عليّ الصلاة، وذكر الحديث ... ))، وهو من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

وكان يُصلي على المنبر ويركع عليه، فإذا جاءت السجدة، نزل القَهْقَرى، فَسَجَدَ على الأرض ثم صَعِدَ عليه (¬1). وكان يُصلي إلى جِدار، فجاءت بَهْمَةٌ تمرُّ من بين يديه، فما زال يُدارئها، حتى لَصِقَ بطنُه بالجدار، ومرّت من ورائه (¬2). يدارئها: يفاعلها، من المدارأة، وهي المدافعة. وكان يُصلّي، فجاءته جاريتانِ من بني عبد المطلب قد اقتتلتا، فأخذهما بيديه، فَنَزَعَ إحداهما من الأخرى وهو في الصلاة (¬3). ولفظ ¬

(¬1) البخاري، كتاب الجمعة، باب الخطبة على المنبر، برقم 917، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز الخطوة والخطوتين في الصلاة، برقم 544، من حديث سهل بن سعد، فقال: ((أيها الناس، إنما صنعت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي)). (¬2) أبو داود، في كتاب الصلاة، باب سترة الإمام سترة من خلفه، برقم 708، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وإسناده حسن، وفي الباب عن ابن عباس عند ابن خزيمة، برقم 827، والحاكم، 1/ 254 بلفظ: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فمرت شاة بين يديه، فساعاها إلى القبلة حتى ألزق بطنه بالقبلة))، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 3، 290. (¬3) أبو داود، كتاب الصلاة، باب من قال: الحمار لا يقطع الصلاة، برقم 716، والنسائي، في القبلة، باب ذكر ما يقطع الصلاة وما لا يقطع، برقم 754، ولفظه عن ابن عباس يحدث أنه ((مرّ بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو وغلام من بني هاشم على حمار بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنزلوا ودخلوا معه فصلوا، ولم ينصرف، فجاءت جاريتان تسعيان من بني عبد المطلب فأخذتا بركبتيه ففرع بينهما، ولم ينصرف))، وفي رواية لأبي داود، برقم 717: ((فجاءت جاريتان من بني عبد المطلب اقتتلتا فأخذهما))، قال: قال الألباني في صحيح أبي داود، 2/ 296: ((إسناده صحيح على شرط مسلم)) ..

أحمد فيه: فأخذتا بركبتي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنزع بينهما، أو فرَّق بينهما، ولم يَنْصَرِفْ (¬1). وكان يُصلّي، فمرَّ بين يديه غلام، فقال بيده هكذا، فرجع، ومرّت بين يديه جاريةٌ، فقال بيده هكذا، فمضت، فلما صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((هُنّ أَغْلَبُ)) (¬2)، ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَهُوَ فِي السّنَنِ. وَكَانَ يَنْفُخُ فِي صَلَاتِهِ، ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَهُوَ فِي السّنَنِ (¬3). قال الإمام ابن القيم: ((وَأَمّا حَدِيثُ: ((النّفْخُ فِي الصّلَاةِ كَلَامٌ))، فَلَا أَصْلَ لَهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَإِنّمَا رواه سعيد في سننه عن ابْنِ عَبّاسٍ رَضْيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ قَوْلِهِ إنْ صَحّ (¬4). وَكَانَ يَبْكِي فِي صَلَاتِهِ، وَكَانَ يَتَنَحْنَحُ فِي صَلَاتِهِ. قَالَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه -: ((كَانَ لِي مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَاعَةٌ آتِيهِ فِيهَا، فَإِذَا أَتَيْتُهُ اسْتَأْذَنْتُ فَإِنْ وَجَدْتُهُ يُصَلّي فَتَنَحْنَحَ، دَخَلْتُ، وَإِنْ وَجَدْته فَارِغًا أَذِنَ لِي))، وَلَفْظُ أَحْمَدَ: ((كَانَ لِي مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَدْخَلَانِ بِاللّيْلِ وَالنّهَارِ، وَكُنْتُ إذَا ¬

(¬1) أخرجه أحمد في المسند، 1/ 235، و250، و254، و308، و316، و341، وقال الأرناؤوط في تعليقه على زاد المعاد، 1/ 269: ((وإسناده حسن)). (¬2) ابن ماجه، كتاب الإقامة، باب ما يقطع الصلاة، برقم 948، وأحمد في المسند، 44/ 143، برقم 26523 من حديث أم سلمة، وضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجه، 1/ 71، وقال محققو المسند، 44/ 134: ((إسناده ضعيف)). (¬3) النسائي، كتاب الكسوف، باب كيف صلاة الكسوف، 3/ 154، برقم 1481، مسند أحمد، 11/ 21، برقم 6483، وحسنه الأرناؤوط في تحقيق زاد المعاد، 1/ 270، وفي مسند الإمام أحمد، 11/ 21، قال: ((حسن)). (¬4) زاد المعاد، 1/ 270.

ثانيا: رقة قلبه - صلى الله عليه وسلم - وبكاؤه في الصلاة، وفي مواطن كثيرة:

دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلّي، تَنَحْنَحَ (¬1).وَعَمِلَ بِهِ أحمد، فَكَانَ يَتَنَحْنَحُ فِي صَلَاتِهِ، وَلَا يَرَى النّحْنَحَةَ مُبْطِلَةً لِلصّلَاةِ. وَكَانَ يُصَلّي حَافِيًا تَارَةً، وَمُنْتَعِلًا أُخْرَى، كَذَلِك قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْهُ (¬2)، وَأَمَرَ بِالصّلَاةِ بِالنّعْلِ مُخَالَفَةً لِلْيَهُودِ (¬3). وَكَانَ يُصَلّي فِي الثّوْبِ الْوَاحِدِ تَارَةً، وَفِي الثّوْبَيْنِ تَارَةً، وَهُوَ أَكْثَرُ)) (¬4). ثانياً: رقة قلبه - صلى الله عليه وسلم - وبُكاؤه في الصلاة، وفي مواطن كثيرة: لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يبكي بشهيقٍ ورفع صوتٍ، كما لم يكن ضحكه قهقهة، ولكن كانت تدمع عيناه حتى تَهمُلا ويُسْمَعُ لصدره أزيز، وكان بكاؤُه تارة رحمة للميت، وتارة خوفاً على أمته وشفقة عليها، وتارة من خشية الله تعالى، وتارة عند سماع القرآن وهو بكاء اشتياقٍ ومحبةٍ ¬

(¬1) النسائي، كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف، 3/ 137، 138، برقم 1212، وأحمد في المسند، 2/ 159، و188، وهو في جملة حديث طويل عن عبد الله بن عمرو، قال: ((وقام فصنع في الركعة الثانية مثل ما صنع في الركعة الأولى من القيام والركوع والسجود والجلوس، فجعل ينفخ في آخر سجوده ... ))، وذكر الحديث، قال الأرناؤوط في تحقيق زاد المعاد، 1/ 270: ((وإسناده صحيح؛ لأن روايه عن عطاء بن السائب شعبة عند أحمد، وسفيان عند ابن خزيمة، وهما قد سمعا منه قبل الاختلاط. وذكره البخاري تعليقاً بصيغة التمريض، 3/ 67، قبل الحديث رقم 1213، كتاب العمل في الصلاة، باب ما يجوز من البصاق والنفخ في الصلاة عن عبد الله بن عمرو: ((نفخ النبي - صلى الله عليه وسلم - في سجوده في كسوف)). (¬2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الصلاة في النعل، برقم 653، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 193: ((حسن صحيح)). (¬3) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الصلاة في النعل، برقم 650، ورقم 651، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي، 2/ 432، وحسنه الأرناؤوط في تحقيق زاد المعاد، 2/ 270، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 193. (¬4) رواه أحمد في المسند، برقم 647، والنسائي، 3/ 12 في الصلاة، باب التنحنح في الصلاة، وابن خزيمة، برقم 902 من حديث عبد الله بن نجي، عن علي، قال الأرناؤوط في تحقيق زاد المعاد، 1/ 270: ((وفيه انقطاع؛ لأن عبد الله بن نجي قيل: لم يسمع عن علي، وجاء في بعض المصادر: عن عبد الله بن نجي، عن أبيه، عن علي، ونجي مجهول، لم يوثقه غير ابن حبان)).

1 - بكاؤه من خشية الله في صلاة الليل

وإجلالٍ (¬1). ومن الحالات التي بكى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يأتي: 1 - بكاؤه من خشية الله في صلاة الليل، فقال بلال: يا رسول الله لِمَ تبكي وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر، قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد نزلت عليّ الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكّر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}» (¬2) (¬3). 2 - بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة من خشية الله تعالى، فعن عبد الله بن الشخّير قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يُصلّي ولصدره أَزِيزٌ كأزيز المِرجل من البكاءِ (¬4). 3 - بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم - عند سماع القرآن، فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اقرأ عليَّ القرآن» فقلت: يا رسول الله! أقرأ عليك؛ وعليك أُنزل؟ فقال: «نعم، فإني أُحِبُّ أن أسمعه من غيري» قال ابن مسعود: فافتتحتُ سورة النساء فلما بلغت: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} (¬5)، فإذا عيناه تذرفان (¬6). ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد، لابن القيم، 1/ 183. حيث ذكر في ذلك روايات تدعم قوله، منها: البخاري، رقم، 1303، 1342، 4582، ومسلم، رقم 800، و2315، وأبو داود، رقم 1194، و3126، والنسائي، رقم 138. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 190. (¬3) ابن حبان في صحيحه، برقم 620، وقال شعيب الأرنؤوط: ((إسناده صحيح على شرط مسلم))، وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 68: ((وهذا إسناد جيد)). (¬4) أبو داود، برقم 904، وصححه الألباني في مختصر شمائل الترمذي، برقم 276. (¬5) سورة النساء، الآية: 41. (¬6) البخاري، كتاب التفسير، باب {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ}، برقم 4582، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل استماع القرآن وطلب القراءة من حافظه للاستماع والبكاء عند القراءة والتدبر، برقم 800.

4 - بكى - صلى الله عليه وسلم - في ليلة بدر وهو يصلي يناجي ربه

4 - بكى - صلى الله عليه وسلم - في ليلة بدر وهو يصلي يناجي ربه ويدعوه حتى أصبح، فعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، قال: ما كان فينا فارس يوم بدرٍ غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرةٍ يُصلّي ويبكي حتى أصبح (¬1). 5 - بكى - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف، فعن عبد الله بن عمرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: انكسفتِ الشمس يوماً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلّي، ثم سجد فلم يكد يرفع رأسه، فجعل ينفخ ويبكي، وذكر الحديث، وقال: فقام فحمد الله وأثنى عليه، وقال: «عُرِضَتْ عليَّ النار فجعلت أنفخها، فخفت أن تغشاكم» وفيه: «ربّ ألم تعدني ألا تُعذّبهم» (¬2). الخامس عشر: خشوع الصحابة - رضي الله عنهم - في صلاتهم الصحابة - رضي الله عنهم - يقتدون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في خشوعه في صلاته، ومن أمثلة ذلك الأمثلة والنماذج الآتية: 1 - خشوع أبي بكر - رضي الله عنه - في صلاته، فعن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالت: لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَاءَ بِلَالٌ يُوذِنُهُ بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ: ((مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلّ بِالنَّاسِ))، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ (¬3)، وَإِنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ لَا يُسْمِعُ النَّاسَ، فَلَوْ أَمَرْتَ عُمَرَ؟ فَقَالَ: ((مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلّ بِالنَّاسِ)) وفي رواية: أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلّ بِالنَّاسِ)) قالت ¬

(¬1) ابن خزيمة، برقم 899، 2/ 53، وأحمد 1/ 125، 2/ 222، وصحح إسناده الألباني والأعظمي في صحيح ابن خزيمة، 2/ 52. (¬2) ابن خزيمة في صحيحه، برقم 901، وقال الألباني والأعظمي: إسناده صحيح، انظر: صحيح ابن خزيمة، 2/ 53، وصححه الألباني في مختصر شمائل الترمذي برقم 278. (¬3) أسيف: شديد الحزن، والمراد: أنه رقيق القلب، إذا قرأ غلبه البكاء، فلا يقدر على القراءة [فتح الباري، 2/ 152، 165، 203].

2 - خشوع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في صلاته

عائشة: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إذَا قَامَ مَقَامَكَ لم يُسْمِعِ النَّاسَ مِنَ البُكَاء، فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلّ بِالنَّاسِ)) (¬1). وهذا فيه من الفوائد: خشوع أبي بكر في صلاته، وقراءته، وأن البكاء في الصلاة من خشية الله تعالى لا حرج فيه، لكن لا يتكلَّف ذلك، ولا يطلبه، فإذا غلبه البكاء في الصلاة بدون اختياره فلا حرج (¬2). 2 - خشوع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في صلاته، كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يصلي بالناس صلاة الفجر، فطعنه أبو لؤلؤة المجوسي، فقال عمر حين رأى نزف الدماء: قولوا لعبد الرحمن بن عوف فليصلّ بالناس، ثم غُشي على عمر - رضي الله عنه -، فحُمل فأدخلوه بيته، ثم صلَّى بالناس عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -، فأنكر الناس صوت عبد الرحمن، ولم يزل عمر - رضي الله عنه - في غشية واحدة، حتى أسفر، فلمَّا أسفر أفاق، فنظر في وجوه مَنْ حوله فقال: ((أصلَّى الناس؟)) قالوا: نعم، فقال: ((لا إسلام لمن ترك الصلاة))، ثم دعا بوضوء فتوضأ، ثم صلَّى، وجرحه ينزف دماً، ثم أمر بعد صلاته من يسأل عن من قتله؟ فأخبروه أنه طعنه أبو لؤلؤة، فقال عمر - رضي الله عنه -: ((الحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجّني عند الله بسجدة سجدها له قط)) (¬3). فكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حريصاً على صلاة المسلمين، وكان ذلك أعظم عنده من نفسه، فسأل بقول: ((أصلى الناس؟))، ثم أقبل على ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب الرجل يأتم بالإمام، ويأتم الناس بالمأموم، برقم 713، ورقم 679، ومسلم، كتاب الصلاة، باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر ... ، برقم 418. (¬2) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 379 - 386، وفتح الباري لابن حجر، 2/ 151، 164، 166، 173، 203، و 206. (¬3) ذكره ابن القيم رحمه الله عن ابن زنجويه بسنده إلى عمر - رضي الله عنه -، في كتاب الصلاة وحكم تاركها، ص 26. وانظر: مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، لابن الجوزي، ص 215 - 216.

3 - خشوع سعد بن معاذ - رضي الله عنه - في صلاته

صلاته، ثم بعد أن صلَّى سأل عن من قتله - رضي الله عنه -؟. وكان عمر - رضي الله عنه - قد رأى رجلاً طأطأ رقبته في الصلاة، فقال: ((يا صاحب الرقبة أرفع رقبتك، ليس الخشوع في الرّقاب، إنّما الخشوع في القلوب)) (¬1). 3 - خشوع سعد بن معاذ - رضي الله عنه - في صلاته، فقد ذُكِرَ أنه قال: ((فيَّ ثلاث خصال لو كنت في سائر أحوالي أكون فيهن كنت أنا أنا: إذا كنت في الصلاة لا أُحَدِّثُ نفسي بغير ما أنا فيه، وإذا سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثاً لا يقع في قلبي ريب أنه الحق، وإذا كنت في جنازة لم أُحدّث نفسي بغير ما تقول ويُقال لها)) (¬2). 4 - خشوع عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - في صلاته، قد ذُكِرَ أنه ((كان يسجد فأتى المنجنيق فأخذ طائفة من ثوبه وهو في الصلاة لا يرفع رأسه)) (¬3). وغيرهم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كثير، ولكن هذه من باب الأمثلة والله المستعان. السادس عشر: خشوع التابعين ومن بعدهم التابعون من القرون المُفضَّلة، وكذلك أتباعهم - رضي الله عنهم -، لهم مواقف في خشوعهم في صلاتهم، تدل على رغبتهم فيما عند الله تعالى، ومنها الأمثلة الآتية: ¬

(¬1) ذكره الإمام الذهبي في كتاب الكبائر دون عزو لكتاب، ص 143، وانظر مدارج السالكين لابن القيم، 1/ 521 - 252. (¬2) ذكر ذلك شيخ الإسلام بن تيمية، في مجموع الفتاوى، 22/ 605. وقد أورده ابن عبد البر بإسناده من طريق الزهري عن ابن المسيب في الاستيعاب، 1/ 182، والمزي في تهذيب الكمال بالإسناد نفسه، 3/ 418. (¬3) ذكره شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى، 22/ 605. وقد أورده أبو الشيخ الأصبهاني في طبقات المحدثين بأصبهان، ص 29.

1 - خشوع عروة بن الزبير في صلاته رحمه الله تعالى

1 - خشوع عروة بن الزبير في صلاته رحمه الله تعالى (¬1)، كان عروة يخشع في صلاته خشوعاً عظيماً، فقد ذُكِرَ عنه أنه خرج من المدينة مُتوجّهاً إلى دمشق ليجتمع بالوليد، وعندما كان في وادٍ قرب المدينة أصابه أكلة في رجله، ولم يصل إلى دمشق إلا وقد وصلت الأكلة إلى نصف ساقه، ودخل على الوليد، فجمع له الأطباء، فأجمعوا على أنه إن لم يقطعها وإلا أكلت رجله كلَّها إلى وركه، وربما ترقَّت إلى الجسد، فطابت نفسه بقطعها، وقالوا له: ألا نسقيك مُرَقّداً؟ فقال: ما ظننت أن أحداً يشرب شراباً، أو يأكل شيئاً يُذْهِبَ عقله حتى لا يعرف ربه، ولكن إن كنتم لا بد فاعلين فافعلوا ذلك وأنا في الصلاة؛ فإني لا أحسُّ بذلك، ولا أشعر به، فنشروا رجله من فوق الأكلة من المكان الحي احتياطاً حتى لا يبقى منها شيء وهو قائم يصلي، فما تألَّم ولا اضطرب، فلمَّا انصرف من الصلاة عزّاه الوليد في رجله، فقال: اللهم لك الحمد، كان لي أطراف أربعة، فأخذت واحداً، وأبقيت ثلاثة، فلئن كنت قد أخذتَ فقد أبقيت، وإن كنت قد ابتليت فَلَطَالَمَا عافيت، فلك الحمد على ما أخذت، وعلى ما عافيت، وكان قد صحبه بعض أولاده ... فمات أحبهم إليه فَعَزَّوْهُ فيه، فقال: الحمد لله كانوا سبعة، فأخذتَ منهم واحداً وأبقيتَ ستة، فلئن كنتَ قد ابتليتَ، فلطالما عافيتَ، ولئن كنتَ قد أخذتَ، فلطالما أعطيتَ، ثم رجع إلى المدينة، وما شكا ذلك إلى أحد، فلمّا دخل المدينة أتاه الناس يسلّمون عليه ويُعزُّونه في رجله وولده، فبلغه أن بعض الناس قال: إنما أصابه هذا بذنب عظيم أحدثه، ¬

(¬1) عروة بن الزبير بن العوام، التابعي الجليل أحد الفقهاء السبعة، وكان من جملة الفقهاء العشرة الذين يرجع إليهم عمر بن عبد العزيز في زمن ولايته، أمه أسماء بنت أبي بكر، وخالته عائشة، وكان رحمه الله يقرأ كل يوم ربع القرآن، ويقوم به في الليل، وكان أيام الرطب يثلم حائطه للناس، فيدخلون ويأكلون، فإذا ذهب الرطب أعاد الحائط، ولد في سنة ثلاث وعشرين بعد عمر - رضي الله عنه -، وتوفي 93هـ على المشهور، والله أعلم. [البداية والنهاية لابن كثير، 9/ 102 - 103، وانظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 4/ 421 - 438].

2 - خشوع عامر بن عبد الله بن قيس

فأنشد عروة في ذلك، والأبيات لمعن بن أوس: لعمركَ ما أهويتُ كفّي لريبةٍ ... ولا حَمَلَتني نحوَ فاحشةٍ رجلي ولاقادني سمعي ولابصري لها ... ولا دلَّني رأيي عليها ولا عقلي (¬1) 2 - خشوع عامر بن عبد الله بن قيس (¬2) في صلاته رحمه الله تعالى كان لهذا الرجل من الأخبار في الخشوع في صلاته الأخبار الكثيرة، ومنها: * قيل له: أتحدّث نفسك في الصلاة؟ قال: أحدّثها بالوقوف بين يدي الله، ومنصرفي (¬3) أيّ إلى أي الدارين. * وذكروا له بعض ما يجدونه في الصلاة من أمر الضيعة، فقال: أتجدونه؟ قالوا: نعم، قال: والله لأن تختلف الأسنّة في جوفي أحبُّ إليَّ من أن يكون هذا منّي في صلاتي (¬4). * وعندما حضرته الوفاة بكى، فقيل: ما يبكيك؟ قال: ما أبكي جزعاً من الموت، ولا حرصاً على الدنيا، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر، وقيام الليل (¬5). * وكان يُقرئ القرآن لمن يتعلَّم عنده، ثم يقوم فيصلّي إلى الظهر، ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثير، 9/ 102 - 103. (¬2) قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء، 4/ 15: ((عامر بن قيس، القدوة، الولي، الزاهد)) كان ثقة من عبّاد التابعين، قال فيه كعب الأحبار: هذا راهب هذه الأمة، قال أبو عبيد: كان عامر بن عبد الله الذي يعرف بابن عبد قيس يقرئ الناس، قيل: توفي في زمن معاوية - رضي الله عنه -، [انظر: سير أعلام النبلاء/ 4/ 19]. (¬3) سير أعلام النبلاء للذهبي، 4/ 17. (¬4) حلية الأولياء لأبي نعيم، 2/ 92. (¬5) سير أعلام النبلاء، 4/ 19، وحلية الأولياء، 2/ 88.

3 - خشوع الإمام البخاري رحمه الله

ثم يصلّي إلى العصر، ثم يُقرئ الناس إلى المغرب، ثم يُصلّي ما بين العشائين، ثم ينصرف إلى منزله فيأكل رغيفاً، وينام نومة خفيفة، ثم يقوم لصلاته، ثم يتسحَّر رغيفاً ويخرج (¬1). 3 - خشوع الإمام البخاري رحمه الله (¬2) في صلاته: قال مسبح بن سعيد: ((كان محمد بن إسماعيل يختم في رمضان كل يوم ختمة، ويقوم بعد التراويح كل ثلاث ليالٍ بختمة (¬3)، وكان رحمه الله يُصلّي ذات يوم أو ذات ليلة، فلسعه الزنبور سبع عشرة مرة، فلما قضى صلاته قال: انظروا أي شيء آذاني في صلاتي، فنظروا فإذا الزنبور قد ورّمه في سبعة عشر موضعاً، ولم يقطع صلاته (¬4). وقد قيل: إن هذه الصلاة كانت التطوع بعد صلاة الظهر، وقيل له بعد أن فرغ من صلاته: كيف لم تخرج من الصلاة أول ما لسعك؟ قال: ((كنت في سورةٍ فأحببت أن أتمَّها)) (¬5) (¬6). السابع عشر: الخشوع في قراءة القرآن في الصلاة وغيرها الخشوع في تلاوة القرآن يكون في الصلاة وخارج الصلاة، والخشوع في قراءته في الصلاة أعظم وآكد، وأهل الإيمان يتأثرون بقراءة القرآن فيخشعون لله، داخل الصلاة وخارجها، وهذا التأثير يكون على النفوس والقلوب والأرواح، وهذا التأثير جاء على أنواع على ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء، 4/ 15 - 16. (¬2) ولد الإمام البخاري رحمه الله في 13 شوال سنة 194 هـ، وتوفي رحمه الله سنة 256هـ. [انظر: سير أعلام النبلاء، 12/ 391، 468]. (¬3) سير أعلام النبلاء، 12/ 439. (¬4) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 12/ 442، وهدي الساري لابن حجر، ص 480. (¬5) سير أعلام النبلاء للذهبي، 12/ 442. (¬6) هدي الساري لابن حجر، ص 481.

النوع الأول: تأثير القرآن في القلوب والنفوس كما جاء في القرآن الكريم

النحو الآتي: النوع الأول: تأثير القرآن في القلوب والنفوس كما جاء في القرآن الكريم القرآن العظيم مُؤثّر في القلوب والنفوس والأرواح؛ لأنه كلام العليم الخبير بما يصلح هذه القلوب والنفوس في الدنيا والآخرة. والصادقون مع الله تخشع قلوبهم لذكر الله، قال - عز وجل -: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُون} (¬1). عن عامر بن عبد الله بن الزبير أن أباه أخبره أنه لم يكن بين إسلامهم وبين أن أنزلت هذه الآية يعاتبهم الله بها إلا أربع سنين (¬2). وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: ((مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} إلا أربع سنين)) (¬3). النوع الثاني: تأثير القرآن في القلوب والنفوس كما جاء ذلك في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -: وجاءت الأحاديث تدل على خشوع النبي - صلى الله عليه وسلم - وتأثُّره بقراءة القرآن الكريم ومن ذلك ما يأتي: أَمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يُقرأ عليه القرآن فبكى، فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اقرأ عليَّ القرآن))،قال: فقلت: يا رسول الله أأقرأ عليك وعليك أنزل؟ فقال: ((إني أشتهي أن أسمعه من غيري))، وفي لفظ للبخاري: ((فإني أحب أن أسمعه من غيري))، فقرأت عليه النساء ¬

(¬1) سورة الحديد، الآية: 16. (¬2) ابن ماجه، كتاب الزهد، باب الحزن والبكاء، برقم 4192، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 3/ 369. (¬3) مسلم، كتاب التفسير، باب في قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا ... }، برقم 3027.

النوع الثالث: تأثير القرآن الكريم على القلوب والأرواح

حتى إذا بلغت: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا} (¬1)، وفي لفظ للبخاري: ((فقال حسبك الآن))، فرفعت رأسي، أو غمزني رجلٌ فرفعت رأسي، فرأيت دموعه تسيل))، وفي لفظ للبخاري: ((فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان)) (¬2). النوع الثالث: تأثير القرآن الكريم على القلوب والأرواح والنفوس كما جاء في الآثار عن الصحابة - رضي الله عنهم -: ثبت عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه -:أنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالطُّور، فلمَّا بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون* أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُون * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُون} (¬3) كاد قلبي أن يطير [وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي])) (¬4).وهذا من أعظم البراهين على تأثير القرآن في القلوب. ¬

(¬1) سورة النساء الآية: 41. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب التفسير، باب {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا}، برقم 4582، وكتاب فضائل القرآن، باب من أحب أن يسمع القرآن من غيره، برقم 5049، وباب قول المقرئ للقارئ: حسبك، برقم 5050، وباب البكاء عند قراءة القرآن، برقم 5055، ورقم 5056، مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب فضل استماع القرآن، وطلب القراءة من حافظه للاستماع، والبكاء عند القراءة والتدبر، برقم 800. (¬3) سورة الطور، الآيات: 35 - 37. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب التفسير، سورة الطور، بابٌ: حدثنا عبد الله بن يوسف، برقم 4854، وما بين المعقوفين من الطرف رقم 4023 من كتاب المغازي، وأخرجه مسلم، بنحوه، كتاب الصلاة باب القراءة في الصبح، برقم 463.

الثامن عشر: درجات الخشوع في الصلاة

الثامن عشر: درجات الخشوع في الصلاة الخشوع الكامل في الصلاة: في القراءة فيها، والأدعية، والأذكار يكون على ثلاث درجات على النحو الآتي: الدرجة الأولى: قراءتها والتلفظ بها مع استحضار معانيها، وهذه الدرجة أدنى ما يُجزِئ من الخشوع الكامل، فقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بكى وهو يصلّي صلاة الليل، فقال بلال - رضي الله عنه -: يا رسول الله لِمَ تبكي، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: ((أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد نزلت علي الليلة آية، ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكَّر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (¬1))) (¬2). قال عبد الرحمن بن سليمان: سألت الأوزاعي عن أدنى ما يتعلّق المتعلّق وينجيه من هذا الويل؟ فأطرق هُنية، ثم قال: ((يقرؤهنّ وهو يعقلهنّ)) (¬3). وذلك أن من لم يعقل ما يقول، وسها بتفكيره عن معنى ما يقوله، فقد خرج من الخشوع إلى الغفلة، ومما يدلّ على ذلك حديث عثمان - رضي الله عنه -: أنه توضأ وضوءاً كاملاً ثم قال: ((رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ نحو وضوئي هذا، وقال: ((من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلّى ركعتين لا يحدّث ¬

(¬1) سورة آل عمران: الآية، 190. (¬2) ابن حبان في صحيحه، برقم 620، وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 68: ((وهذا إسناد جيد))، وتقدم تخريجه في خشوع النبي - صلى الله عليه وسلم - وبكائه في صلاة الليل. (¬3) أخرجه ابن أبي الدنيا في التفكر كما ذكر السيوطي في الدر المنثور، 2/ 409، والمناوي في الفتح السماي، 1/ 205 دون إشارة إلى كتاب ابن أبي الدنيا، وعزاها الكتاني إلى ابن أبي الدنيا في التفكر، نظم المتناثر، ص 244، وانظر: كيف تخشع في الصلاة، لمجدي أبو عريش، ص 19.

فيهما نفسه، غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه)) (¬1). وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه -: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلّي ركعتين مقبلٌ عليهما بقلبه ووجهه، إلا وجبت له الجنة)) (¬2). ويُؤكّد ذلك قول ابن عباس رَضْيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: ((ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها)) (¬3). ومما يدل على حضور القلب مع القول قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه)) (¬4)، وفيه حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في فضل إجابة المؤذن، وفيه: (( ... إذا قال المؤذن: الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر، الله أكبر ... )) إلى قوله: (( ... ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة)) (¬5)، فهذا والله تعالى أعلم: أدنى الخشوع الكامل: أن يقرأ الآيات والأذكار متفَهّماً لمعانيها، وكذلك أذكار الصلاة: كأذكار الركوع، والرفع منه، وأذكار السجود، والجلسة بين السجدتين، وغير ذلك من أذكار الصلاة، وأدنى ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 136، ومسلم، برقم 246، وتقدم تخريجه في فضائل الخشوع في الصلاة. (¬2) مسلم، برقم 234، وتقدم تخريجه في فضائل الخشوع في الصلاة. (¬3) ذكر المناوي في التيسير شرح الجامع الصغير، 1/ 793، أن حديث: ((ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل)) أن الحكيم الترمذي أخرجه في نوادر الأصول، وإسناده ضعيف، وقال العراقي في تخريج إحياء علوم الدين، 1/ 309 أنه لم يجده مرفوعاً، وذكر الألباني في السلسلة الضعيفة، 14/ 1206، برقم 6941 أن الحديث لا أصل لله مرفوعاً، وأنه صح موقوفاً عن بعض السلف، وأن هذا الصحيح الموقوف أخرجه أبو نعيم في الحلية، 7/ 61 من كلام سفيان الثوري. وأما أثر ابن عباس فهو في مدارج السالكين، 1/ 525، وعدة من كتب الإمامين ابن القيم، وابن تيمية رحمهما الله. (¬4) البخاري، كتاب العلم باب، الحرص على الحديث، برقم 99. (¬5) مسلم كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه ... ، برقم 385.

الدرجة الثانية: أن يقرأها وهو يعقلها

الخشوع في ذلك أن لا يقولها غافلاً عن معناها (¬1). الدرجة الثانية: أن يقرأها وهو يعقلها، ومتأثراً بمعانيها حال قراءتها، وهذه الدرجة تزيد عمّا قبلها بوجود التأثّر من تلك المعاني، حتى يُعرف خشوعه من صوته، ويتأثَّر به من سَمِعَه، ويحسب أنه يخشى الله فيها، فيرغب في آيات الوعد، ويرهب من آيات الوعيد. الدرجة الثالثة: أن يقرأها مُتأثّراً غاية التأثر بحقائقها تلك، وهذه الدرجة تزيد عمّا قبلها ببلوغ التأثُّر غايته، وشهود حقائق المعاني بالقلب، حتى كأنَّها رأي عين؛ وفي حديث حنظلة - رضي الله عنه - أنه قال: قلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وما ذاك؟)) قال: قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكّرنا بالجنة والنار حتى كأنَّا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج، والأولاد، والضّيعات - نسينا كثيراً- فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم، وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة)) ثلاث مرار، وفي لفظ: ((يا حنظلة ساعة وساعة، لو كانت تكونُ قلوبكم كما تكون عند الذكر لصافحتكم الملائكة حتى تسلّم عليكم في الطرق)) (¬2). ويشعر صاحب هذه الدرجة من الخشوع بتقصير، وتفريط، فيسأل الله تعالى من فضله راغباً، ويستعيذ من عذابه راهباً، يدفعه إلى ذلك تأثّره؛ ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الليل: ((إذا مرَّ بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مرَّ بتعوُّذ تعوَّذ ... )) (¬3). ¬

(¬1) انظر: كيف تخشع في الصلاة، لمجدي أبو عريش، ص 21. (¬2) مسلم، كتاب التوبة، باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة، برقم 2750. (¬3) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، برقم 773، من حديث حذيفة - رضي الله عنه -.

التاسع عشر: فوائد الخشوع في الصلاة

ومن أصحاب هذه الدرجة من قال الله عنهم: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبّهِمْ رَاجِعُونَ} (¬1)، قالت عائشة: يا رسول، أهو الذي يزني، ويسرق، ويشرب الخمر؟ قال: ((لا يا ابنة أبي بكر))، أو ((يا بنت الصديق)) ولكنه الرجل يصوم، ويتصدّق، ويُصلّي، وهو يخاف أن لا يُتقبَّل منه)) (¬2). التاسع عشر: فوائد الخشوع في الصلاة الخشوع في الصلاة له فوائد كثيرة منها الفوائد الآتية: 1 - الخشوع يجعل الصلاة محبوبة يسيرة على المصلي، قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ* الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُون} (¬3). قال العلامة السعدي رحمه الله: ((وإنها)) أي الصلاة ((لكبيرة)) أي شاقة ((إلا على الخاشعين)) فإنها سهلة عليهم، خفيفة؛ لأن الخشوع وخشية الله، ورجاء ما عنده يوجب له فعلها منشرحاً صدره؛ لترقُّبه للثواب، وخشيته من العقاب، بخلاف من لم يكن كذلك؛ فإنه لا داعي له يدعوه إليها، وإذا فعلها صارت من أثقل الأشياء عليه ... ؛ ولهذا قال: ((الَّذِينَ يَظُنُّونَ)) أي يستيقنون ((أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبّهِمْ)) فيجازيهم بأعمالهم ((وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُون)) فهذا الذي خفف عليهم العبادات، وأوجب لهم التسلّي في المصيبات، ونفّس عنهم الكربات، وزجرهم عن فعل السيئات، فهؤلاء لهم النعيم المقيم في الغرفات العاليات، وأما من لم ¬

(¬1) سورة المؤمنون، الآية: 60. (¬2) ابن ماجه، كتاب الزهد، باب التوقي في العمل، برقم 4198، والترمذي، كتاب تفسير القرآن، بابٌ ومن سورة المؤمنون، برقم 3175، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 2/ 409، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 162. (¬3) سورة البقرة، الآيتان: 45 - 46.

2 - الخشوع في الصلاة يجعلها تنهى عن الفحشاء والمنكر:

يؤمن بلقاء ربه، كانت الصلاة وغيرها من العبادات من أشق شيء عليه)) (¬1). وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر صلَّى، فعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر صلَّى)) (¬2). وعن صهيب - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما حكاه عن نبي من الأنبياء السابقين، وفيه: أن هذا النبي استشار قومه، فقالوا: أنت نبي الله نَكِلُ ذلك إليك، فَخِرْ لنا، قال ((فقام إلى صلاته)) قال: ((وكانوا يفزعون إذا فزعوا إلى الصلاة)) (¬3)، وهذا يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر [أي نزل به أمر شديد] فزع إلى الصلاة، وكان الأنبياء قبله عادتهم الاشتغال بالصلاة في الشدائد)) (¬4) (¬5). 2 - الخشوع في الصلاة يجعلها تنهى عن الفحشاء والمنكر: قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (¬6). فالله تعالى أمر بتلاوة كتابه، ومن تلاوته: اتباع ما يأمر به، والابتعاد ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص 51 - 52. (¬2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب وقت قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - من الليل، برقم 1319، وأحمد في المسند، 38/ 330، برقم 23299، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 316. (¬3) أحمد، 31/ 268، برقم: 18937، وصحح إسناده محققو المسند، 31/ 268. (¬4) انظر: حاشية محققي مسند الإمام أحمد، 31/ 268، و38/ 331. (¬5) وعن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند الكرب: ((لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله ربُّ السموات وربُّ الأرض، وربُّ العرش الكريم)) [البخاري، برقم 6346، ومسلم، برقم 2730، وعند الإمام أحمد بنحوه، 4/ 234، برقم 2411، وفي أوله: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا حزبه أمر قال: ((لا إله إلا الله ... )) الحديث، وفي آخره: (( ... ثم يدعو))، وهذا يدل على أنه يقول هذا الذكر، ثم يدعو بعده. وصحح إسناده محققو المسند، 4/ 234. (¬6) سورة العنكبوت، الآية: 45.

3 - الخشوع الكامل يجلب البكاء من خشية الله تعالى:

عما ينهى عنه، والاهتداء بهداه، وتصديق أخباره، وتدبُّر معانيه، وتلاوة ألفاظه، فإذا كان هذا معنى تلاوة الكتاب، عُلِمَ أن إقامة الدين كلّه داخلة في تلاوة كتاب الله، فيكون قوله تعالى: {وأقم الصلاة} من باب عطف الخاص على العام لفضل الصلاة، وشرفها، وآثارها الجميلة، وهي ((إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ))، ووجه ذلك أن العبد المقيم لها، المتمّم لأركانها، وشروطها، وخشوعها يستنير قلبه، ويتطهَّر فؤاده، ويزداد إيمانه، وتقوى رغبته في الخير، وتعدم رغبته في الشرّ، فبالضرورة مداومتها والمحافظة عليها على هذا الوجه تنهى عن الفحشاء والمنكر، فهذا من أعظم مقاصدها، وثمراتها (¬1). فالخشوع في الصلاة من الواجبات التي تجب لها، فحينئذٍ تنهى عن الفحشاء والمنكر: إذا قام بها العبد كاملة بما يجب لها. والله تعالى أعلم. وقد ثبت أنه قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن فلاناً يصلّي الليل كلَّه، فإذا أصبح سرق، فقال: ((سينهاه ما تقول))، أو قال: ((ستمنعه صلاته)) (¬2). فإذا صلَّى العبد المسلم الصلاة على الوجه الأكمل: بشروطها، وأركانها، وواجباتها، وخشوعها، والتدبّر في قراءتها منعته من الفحشاء والمنكر (¬3). 3 - الخشوع الكامل يجلب البكاء من خشية الله تعالى: لا شك أن الخشوع الكامل في الصلاة يجلب البكاء من خشية الله ¬

(¬1) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص 632. (¬2) أحمد في المسند، 15/ 483، برقم، 9778، والبزار (كشف الأستار)، 1/ 317، وشعب الإيمان للبيهقي، 4/ 545، قال العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة، 1/ 16: ((رواه أحمد، والبزار، والطحاوي في مشكل الآثار، 2/ 430، والبغوي في حديث علي بن الجعد، 9/ 97/ 1، وأبو بكر الكلاباذي في مفتاح معاني الآثار، 31/ 1/ 69، بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة، ص 16.

تعالى، وإذا حصل هذا العمل الصالح كان من أسباب دخول الجنة، والنجاة من النار؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لاَ يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيةِ الله حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ في الضَّرْعِ، وَلاَ يَجْتَمِعُ غُبَارٌ في سَبيلِ اللهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ)) (¬1). وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ قَطْرَتَيْنِ وَأَثَرَيْنِ: قَطْرَةٌ مِنْ دُمُوعٍ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَقَطْرَةُ دَمٍ تُهَرَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْأَثَرَانِ: فَأَثَرٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَثَرٌ فِي فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ)) (¬2). وعن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهِ: إِمَامٌ عاَدِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ في ِعِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلُمُ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يِمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ)) (¬4). والمشروع في البكاء أن يكون الباعث عليه: التفكُّر في الذنب، أو ¬

(¬1) الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في فضل البكاء من خشية الله، برقم 2311، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 528. (¬2) الترمذي، كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل المرابط، برقم 1669، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 242. (¬3) الترمذي، كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الحراسة في سبيل الله، برقم 1639، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 127، وفي مشكاة المصابيح، 2/ 1125. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الزكاة، باب الصدقة باليمين، برقم 1423، ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة، برقم 1031.

4 - الخشوع في الصلاة يعطي الصلاة معناها الحقيقي

عدد الذنوب، أو التفكُّر في تقصيره، أو خوف عذاب الله تعالى، أو الخوف من أن لا يقبل عمله؛ لفقد شرطاً من شروط صحته، أو خوف الموت قبل الاستعداد، أو توقير الله وتعظيمه، أو خوف الفتن، أو خوف عدم الثبات على الدين، أو التذلّل لله في الدعاء، أو الطَّمع في رضوان الله والجنّة، أو الشوق إلى لقاء الله تعالى، وأعظم البكاء من خشية الله في الخلوات. 4 - الخشوع في الصلاة يعطي الصلاة معناها الحقيقي، وهو التوجه والحضور بالقلب، والجسد بين يدي الله تعالى، والتقرُّب له بذلك. 5 - الخشوع في الصلاة يهوّن الوقوف على العبد يوم القيامة؛ ولهذا قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((للعبد بين يدي الله موقفان: موقف بين يديه في الصلاة، وموقف بين يديه يوم لقائه، فمن قام بحق الموقف الأول هُوّن عليه الموقف الآخر، ومن استهان بهذا الموقف، ولم يوفّه حقَّه شُدّد عليه ذلك الموقف، قال الله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا * إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} (¬1) (¬2). 6 - الخشوع في الصلاة يقرّب العبد من الله، ويستفيد منه اللذة في مناجاة الله؛ لأن اللذة تابعة للمحبَّة تقوى بقوَّتها، وتضعف بضعفها، فكلما كانت الرغبة في المحبوب والشوق إليه أقوى كانت الّلذَّة بالوصول إليه أتمّ (¬3). 7 - الخشوع الكامل يزداد به الإيمان، ويليّن القلب، ويورث الزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة، ويبعث في القلب محبة الخير، والرغبة ¬

(¬1) سورة الإنسان، الآيتان: 26 - 27. (¬2) الفوائد لابن القيم، ص 435. (¬3) انظر: المرجع السابق، ص 134.

8 - الخشوع في الصلاة يزيل الهم عن القلب، ويشرح الصدر

فيه، وكراهية الشرّ والنفور منه، وبهذا تكون الصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر. 8 - الخشوع في الصلاة يزيل الهمَّ عن القلب، ويشرح الصدر. 9 - الخشوع في الصلاة يزيد المسلم حُبَّاً في الصلاة حتى تكون أحبَّ شيء إلى النفس فتصبح قُرَّة العين، وراحة النفس، كما تقدم في الأدلة. 10 - الخشوع يفتح للعبد أبواب الفقه، والاستفادة من كلام الله تعالى، قال الله - سبحانه وتعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} (¬1). 11 - الخشوع يفتح أبواب الدعاء للعبد، فيدعو الله ويتضرَّع إليه، وكلما ازداد الخشوع كان ذلك أبلغ (¬2). 12 - الخشوع في الصلاة يجعلها شفاءً من عامة الأوجاع قبل استحكامها، قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ((قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصّبْرِ وَالصّلَاةِ وَإِنّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (¬3). وَقَالَ: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصّبْرِ وَالصّلَاةِ إِنّ اللهَ مَعَ الصّابِرِينَ} (¬4). وَقَالَ تَعَالَى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتّقْوَى} (¬5). ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية: 29. (¬2) انظر: كيف تخشع في الصلاة، لمجدي أبو عريش ص 56 - 68. (¬3) سورة البقرة، الآية: 45. (¬4) سورة البقرة، الآية: 153. (¬5) سورة طه، الآية: 132.

العشرون: الخشوع يثمر التلذذ بطعم الصلاة

وَفِي السّنَنِ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ فَزِعَ إلَى الصّلَاةِ)) (¬1). وَقَدْ ذَكَرَ الإِمامُ ابنُ القَيّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ عُمُومَ ((الِاسْتِشْفَاءِ بِالصّلَاةِ مِنْ عَامّةِ الْأَوْجَاعِ قَبْلَ اسْتِحْكَامِهَا)) (¬2). وَالصّلَاةُ مُجْلِبَةٌ لِلرّزْقِ، حَافِظَةٌ لِلصّحّةِ، دَافِعَةٌ لِلْأَذَى، مُطْرِدَةٌ لِلْأَدْوَاءِ، مُقَوّيَةٌ لِلْقَلْبِ، مُبَيّضَةٌ لِلْوَجْهِ، مُفْرِحَةٌ لِلنّفْسِ، مُذْهِبَةٌ لِلْكَسَلِ، مُنَشّطَةٌ لِلْجَوَارِحِ، مُمِدّةٌ لِلْقُوَى، شَارِحَةٌ لِلصّدْرِ، مُغَذّيَةٌ لِلرّوحِ، مُنَوّرَةٌ لِلْقَلْبِ، حَافِظَةٌ لِلنّعْمَةِ، دَافِعَةٌ لِلنّقْمَةِ، جَالِبَةٌ لِلْبَرَكَةِ، مُبْعِدَةٌ مِنْ الشّيْطَانِ، مُقَرّبَةٌ مِنْ الرّحْمَنِ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَلَهَا تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي حِفْظِ صِحّةِ الْبَدَنِ وَالْقَلْبِ، وَقُوَاهُمَا، وَدَفْعِ الْمَوَادّ الرّدِيئَةِ عَنْهُمَا، وَمَا اُبْتُلِيَ رَجُلَانِ بِعَاهَةٍ، أَوْ دَاءٍ، أَوْ مِحْنَةٍ، أَوْ بَلِيّةٍ، إلّا كَانَ حَظّ الْمُصَلّي مِنْهُمَا أَقَلّ، وَعَاقِبَتُهُ أَسْلَمَ. وَلِلصّلَاةِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي دَفْعِ شُرُورِ الدّنْيَا، وَلَا سِيّمَا إذَا أُعْطِيَتْ حَقّهَا مِنْ التكميل ظاهراً وباطناً، فما استُدْفِعَتْ شرورُ الدُّنيا والآخرة، ولا استُجْلِبَت مصالِحُهُمَا بمثل الصلاة، وسِرُّ ذلك أنَّ الصلاة صِلةٌ باللهِ - عز وجل -، وَعَلَى قَدْرِ صِلَةِ الْعَبْدِ بِرَبّهِ - عز وجل - تُفْتَحُ عَلَيْهِ مِن الْخَيْرَاتِ أَبْوَابُهَا، وَتُقْطَعُ عَنْهُ مِن الشّرُورِ أَسْبَابُهَا، وَتُفِيضُ عَلَيْهِ مَوَادّ التّوْفِيقِ مِنْ رَبّهِ - عز وجل -، وَالْعَافِيَةُ، وَالصّحّةُ، وَالْغَنِيمَةُ، وَالْغِنَى، وَالرّاحَةُ وَالنّعِيمُ، وَالْأَفْرَاحُ وَالْمَسَرّاتُ، كُلّهَا مُحْضَرَةٌ لَدَيْهِ وَمُسَارِعَةٌ إلَيْهِ)) (¬3). العشرون: الخشوع يثمر التلذذ بطعم الصلاة لا شك أن للصلاة طعماً؛ لأنها من أعظم العبادات، والعبادة لله ¬

(¬1) أبو داود، برقم 1319، وأحمد، برقم 23299، وحسّنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 316، وتقدم تخريجه. (¬2) زاد المعاد، 4/ 231 - 232، وانظر: زاد المعاد، 4/ 180 وما بعدها. (¬3) زاد المعاد، 4/ 231 - 232.

الحادي والعشرون: الأسباب التي تزيل الغفلة وتجلب الخشوع في الصلاة

تعالى يتلذَذ بها المسلم الصادق مع الله تعالى؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا)) (¬1). ومما يدل على التلذُّذ بالعبادة قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: ((ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاوَةَ الإِيمانِ: مَنْ كَانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمّا سِواهُما، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلاّ للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ في الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ كَما يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ في النَّارِ)) (¬2). وفي رواية للإمام أحمد عن أبي رزين العقلي: (( ... فَإِذَا كُنْتَ كَذَلِكَ فَقَدْ دَخَلَ حُبُّ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِكَ كَمَا دَخَلَ حُبُّ الْمَاءِ لِلظَّمْآنِ فِي الْيَوْمِ الْقَائِظِ)) (¬3). فمن وفقه الله تعالى لذلك ذاق طعم الإيمان، ووجد حلاوته، فيستلذُّ الطاعة، ويتحمَّل المشاق في رضى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). الحادي والعشرون: الأسباب التي تزيل الغفلة وتجلب الخشوع في الصلاة يجب ترك الأسباب التي تزيل الخشوع في الصلاة، أو تضعفه، والعمل بالأسباب التي تجلبه وتقوّيه، وهي كثيرة، منها الأسباب الآتية: السبب الأول: معرفة الله تعالى: بأسمائه، وصفاته، وألوهيَّته، وربوبيَّته، ¬

(¬1) مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، فهو مؤمن وإن ارتكب المعاصي والكبائر، برقم 34، من حديث العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه -. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان، برقم 16، ومسلم، كتاب الإيمان باب بيان خصالٍ من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، برقم 43. (¬3) أحمد في المسند، 4/ 11، وفي المسند المحقق، 16/ 114، برقم 16194، ولكن قال محققو المسند، 26/ 114: ((إسناده ضعيف لانقطاعه: سليمان بن موسى، وهو الأشدق، لم يدرك أحداً من الصحابة فيما قاله الترمذي في العلل، 1/ 53 - 54 نقلاً عن البخاري، وبقية رجاله ثقات)). قلت: تغني عنه الأحاديث الصحيحة. (¬4) عقيدة المسلم، 1/ 69، للمؤلف.

فيجب على العبد أن يعلم أن الله تعالى له الأسماء الحسنى، والصفات العُلا؛ فيثبت لله ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من غير تعطيل، ولا تحريف، ولا تكْيف، ولا تمثيل، وينفي عنه ما نفاه عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأن الله تعالى هو: الخالق المالك لكل شيء، المدبّر له، لا معطي لما منع، ولا مانع لما أعطى، ولا مذلَّ لمن أعزَّ، ولا معزَّ لمن أذلَّ، ولا خافض لمن رفع، ولا رافع لمن خفض، ومن هذه صفاته وأسماؤه وأفعاله، فهو المستحقُّ للعبادة وحده، لا شريك له، ولا معبود بحقٍّ سواه، ولا ربَّ غيره، فيجب على العبد أن يعبد هذا الربَّ الكريم كأنه يراه؛ فإن لم يكن يراه فإنه يراه، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن معرفة الله نوعان: النوع الأول: معرفة إقرار، وهي التي اشترك فيها الناس: البرُّ والفاجر، والمطيع والعاصي. النوع الثاني: معرفة توجب الحياء منه، والمحبة له، وتعلّق القلب به، والشوق إلى لقائه، وخشيته، والإنابة إليه، والأُنس به، والفرار من الخلق إليه، وهذه هي المعرفة الخاصة، والناس يتفاوتون فيها؛ ولهذه المعرفة بابان واسعان: الباب الأول: التفكُّر والتأمُّل في آيات القرآن كلّها، والفهم الخاص عن الله تعالى، ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. الباب الثاني: التفكُّر في آيات الله المشهودة، وتأمل حكمته فيها، وقدرته، ولطفه، وإحسانه، وعدله، وقيامه بالقسط على خلقه، وجماع ذلك: الفقه في معاني أسمائه الحسنى، وجلالها، وكمالها، وتفرُّدِهِ بذلك، وتعلُّقها بالخلق والأمر، فيكون فقيهاً في أوامره، ونواهيه، فقيهاً في قضائه وقدره، فقيهاً في أسمائه وصفاته، فقيهاً في الحكم الديني الشرعي، والحكم الكوني القدري، و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ

السبب الثاني: علاج قسوة القلب، ومرضه، وغفلته

وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (¬1))) (¬2). السبب الثاني: علاج قسوة القلب، ومرضه، وغفلته؛ فإن هذه الأمراض من أعظم الأسباب في عدم الخشوع في الصلاة؛ لأن القلب إذا صلح صلحت الأعمال، والأحوال، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أَلَا وَإِنَّ فِي اَلْجَسَدِ مُضْغَةً, إِذَا صَلَحَتْ, صَلَحَ اَلْجَسَدُ كُلُّهُ, وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ اَلْجَسَدُ كُلُّهُ, أَلَا وَهِيَ اَلْقَلْبُ)) (¬3). - وقد ذمَّ الله أصحاب القلوب القاسية، وأقساها قلوب اليهود، قال الله تعالى عنهم وعن قلوبهم: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (¬4). - وقد حذَّر الله المؤمنين من قسوة القلوب فقال - سبحانه وتعالى -: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (¬5). - وذمَّ الله تعالى ذمَّاً عاماً لكلّ من قسا قلبه، وأثبت له الويل والهلاك، ¬

(¬1) سورة الحديد، الآية: 21. (¬2) الفوائد لابن القيم، ص378 - 379، بتصرف. (¬3) مسلم، كتاب المساقاة والمزارعة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، برقم 1599. (¬4) سورة البقرة، الآية 74. (¬5) سورة الحديد، الآيتان: 16 - 17.

فقال: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (¬1). ولا شك أن علاج قسوة القلوب يكون بالنظر إلى أسباب القساوة ثم إزالتها، ويكون ذلك على النحو الآتي: 1 - الوفاء بالعهد مع الله تعالى في القيام بالواجبات التي أوجبها تعالى، والابتعاد عن المحرَّمات التي حرّمها على عباده، وكذلك الوفاء بالعهد مع المخلوقين، قال الله تعالى في سبب قساوة قلوب اليهود: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكّرُوا بِهِ} (¬2). 2 - كثرة ذكر الله تعالى بالقلب مع اللسان، من أعظم أسباب سلامة القلوب من القسوة والأمراض المعنوية؛ فإن من أسباب قسوة القلوب كثرة الكلام بغير ذكر الله تعالى؛ لحديث عبد الله بن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُكْثِرُوا الكَلاَمَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، فإنَّ كَثْرَةَ الكَلامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعالى قَسْوَةٌ للْقَلْبِ، وَإنَّ أبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ تَعالى القَلْبُ القَاسِي)) (¬3). قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (( ... وَلَا رَيْبَ أَنَّ القَلْبَ يَصْدَأُ كَمَا يَصْدَأُ النُّحَاسُ، وَالفِضَّةُ، وَغَيْرُهُمَا، وَجَلَاؤُهُ بِالذّكْرِ، فَإِنَّهُ يَجْلُوهُ حَتَّى يَدَعَهُ كَالمِرْآةِ البَيضَاءِ؛ فَإِذَا تَرَكَ الذّكْرَ صَدِئَ، فَإِذَا ذَكَرَ جَلَاهُ، وَصَدَأُ القَلْبِ بِأَمْرَيْنِ: بِالغَفْلَةِ وَالذَّنْبِ، وَجَلَاؤُهُ بِشَيْئَيْنِ: بِالاسْتِغْفَارِ وَالذّكْرِ)) (¬4). ¬

(¬1) سورة الزمر، الآية: 22. (¬2) سورة المائدة، الآية: 13. (¬3) الترمذي، كتاب الزهد، بابٌ: منه، برقم 2411، وقال: ((حسن غريب))، وحسّن إسناده عبد القادر الأرنؤوط في تحقيقه للأذكار للنووي، ص285. (¬4) الوابل الصيب، ص82.

الدعاء نوع من أنواع الذكر؛ فإن الذكر ثلاثة أنواع:

وقد بين الله - عز وجل -: أن بذكره تطمئن القلوب، فقال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (¬1). وأعظم الذكر: القرآن الكريم، قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (¬2). ومن ذِكْر الله تعالى الدعاء؛ فإن الدعاء لغة: الطلب والابتهال: يُقال: دعوتُ الله أدعوه دعاءً: ابتهلت إليه بالسؤال ورغبت فيما عنده من الخير (¬3) ودعا الله: طلب منه الخير ورجاه منه، ودعا لفلان: طلب الخير له، ودعا على فلان: طلب له الشر (¬4). والدعاء: سؤال العبد ربه على وجه الابتهال، وقد يطلق على التقديس والتحميد ونحوهما (¬5). فالدعاء نوعٌ من أنواع الذكر؛ فإن الذكر ثلاثة أنواع: النوع الأول: ذكر أسماء الله وصفاته ومعانيها والثناء على الله بها، وتوحيد الله بها وتنزيهه عما لا يليق به. وهو نوعان أيضاً: أإنشاء الثناء عليه بها من الذاكر وهذا النوع هو المذكور في الأحاديث نحو: ((سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)). ¬

(¬1) سورة الرعد الآية: 28. (¬2) سورة الزمر، الآية: 23. (¬3) المصباح المنير 1/ 194. (¬4) المعجم الوسيط1/ 268. (¬5) القاموس الفقهي لغة واصطلاحاً ص 131.

ب الخبر عن الرب تعالى بأحكام أسمائه وصفاته نحو قولك: الله - عز وجل - على كل شيء قدير، وهو أفرح بتوبة عبده من الفاقد لراحلته، وهو يسمع أصوات عباده، ويرى حركاتهم، ولا تخفى عليه خافية من أعمالهم، وهو أرحم بهم من أمهاتهم وآبائهم. النوع الثاني: ذكر الأمر، والنهي، والحلال والحرام، وأحكامه فيعمل بالأمر ويترك النهي، ويُحرّمُ الحرامَ ويُحلُّ الحلالَ، وهو نوعان أيضاً: أذكره بذلك إخباراً عنه بأنه أمر بكذا ونهى عن كذا، وأحب كذا، وسخط كذا، ورضي كذا. ب ذكره عند أمره فيبادر إليه ويعمل به، وعند نهيه فيهرب منه ويتركه. النوع الثالث: ذكر الآلاء والنعماء والإحسان، وهذا أيضاً من أجَلّ أنواع الذكر، فهذه خمسة أنواع. وهي تكون ثلاثة أنواع أيضاً: أ- ذكرٌ يتواطأ عليه القلب واللسان، وهو أعلاها. ب- ذكرٌ بالقلب وحده، وهو في الدرجة الثانية. ج- ذكرٌ باللسان المجرد، وهو في الدرجة الثالثة (¬1). ومفهوم الذكر: هو التخلص من الغفلة والنسيان، والغفلة: هي تركٌ باختيار الإنسان، والنسيان تركٌ بغير اختياره. والذكر على ثلاث درجات: 1 - الذكر الظاهر: ثناءً على الله تعالى كقول: ((سبحان الله والحمدلله ولا إله إلا الله والله أكبر)). أو ذكر دعاء: نحو: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا ¬

(¬1) مدارج السالكين لابن القيم، 2/ 430، و1/ 23، والوابل الصيب لابن القيم، ص 178 - 181.

لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬1). ونحو قوله: ((يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث)). ونحو ذلك. أو ذكر رعاية: مثل قول القائل: الله معي، الله ينظر إليَّ، الله شاهدي، ونحو ذلك مما يستعمل لتقوية الحضور مع الله، وفيه رعاية لمصلحة القلب، ولحفظ الأدب مع الله والتحرز من الغفلة، والاعتصام بالله من الشيطان وشر النفس. والأذكار النبوية تجمع الأنواع الثلاثة، فإنها تضمنت الثناء على الله، والتعرض للدعاء والسؤال، والتصريح به. وهي متضمنة لكمال الرعاية، ومصلحة القلب، والتحرز من الغفلات، والاعتصام من الوساوس والشيطان. 2 - الذكر الخفي: وهو الذكر بمجرد القلب والتخلص من الغفلة، والنسيان، والحجب الحائلة بين القلب وبين الرب سبحانه، وملازمة الحضور بالقلب مع الله كأنه يراه. 3 - الذكر الحقيقي: وهو ذكر الله تعالى للعبد (¬2): {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} (¬3). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ِشِبْراً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً)) (¬4). ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 23. (¬2) مدارج السالكين، 2/ 434 - 435. (¬3) سورة البقرة، الآية: 152. (¬4) متفق عليه: البخاري واللفظ له، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}، برقم 7405، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب كتاب الذكر والدعاء والتوبة ... ، برقم 2675، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

3 - ترك الذنوب والتوبة منها؛ فإن كثرة الذنوب من أعظم أسباب قساوة القلوب، والحذر منها والابتعاد عنها من أعظم أسباب السلامة، قال الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬1)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا (¬2) كَالْكُوزِ مُجَخّيًا (¬3) لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ)) (¬4). قال الإمام ابن المبارك رحمه الله: رأيتُ الذنوب تُميت القلوب ... ويُورث الذُّلُّ إدمانها وترك الذنوب حياة القلوب ... وخير لنفسك عصيانها (¬5) قال عبد الله بن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: ((إن للحسنة: ضياءً في الوجه، ونوراً في القلب، وسعةً في الرزق، وقوةً في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإنّ للسيئة: سواداً في الوجه، وظلمة في القلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضةً في قلوب الخلق)) (¬6). وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله: أن القلب يفسد بأمور: التعلق ¬

(¬1) سورة المطففين، الآية: 14. (¬2) أسود مربادّ: شبه البياض في سواد، [شرح النووي، 2/ 532]. (¬3) الكوز مجخيا: منكوساً، نكس حتى لا يعلق به خير ولا حكمة [شرح النووي، 2/ 531]. (¬4) مسلم، كتاب الإيمان، باب رفع الأمانة والإيمان من بعض القلوب وعرض الفتن على القلوب، برقم 144. (¬5) ديوان عبد الله بن المبارك، ص 26، وشعب الإيمان للبيهقي، 5/ 464، وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، 1/ 327، وحلية الأولياء لأبي نعيم، 8/ 279. (¬6) الجواب الكافي لابن القيم، ص105 - 106.

بغير الله تعالى، وركوب بحر التمني، وكثرة النوم، وكثرة الطعام، والمفسد منه نوعان: أكل الحرام، والإسراف (¬1). وقال رحمه الله: ((قسوة القلب من أربعة أشياء إذا جاوزت قدر الحاجة: الأكل، والنوم، والكلام، والمخالطة)) (¬2). 4 - ترك كثرة الضحك والقهقهة؛ فإن كثرة ذلك تميت القلب؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ يَأْخُذُ عَنّي هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ فَيَعْمَلُ بِهِنَّ أَوْ يُعَلّمُ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ؟))، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - فَقُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَأَخَذَ بِيَدِي، فَعَدَّ خَمْسًا، وَقَالَ: ((اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا، وَلَا تُكْثِرِ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ)) (¬3). 5 - كثرة ذكر الموت؛ فإن الغفلة عن الموت وطول الأمل مما يُقسي القلب؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أكثروا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ)) (¬4) يعني الموت، وفي لفظ لابن حبان: ((أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ، فَمَا ذَكَرَهُ عَبْدٌ قَطُّ وَهُوَ فِي ضِيقٍ إِلَّا وَسَّعَه عَلَيْهِ، وَلَا ذَكَرَهْ فِي سَعَةٍ إِلَّا ضيَّقَهُ عَلَيْهِ)) (¬5). وَفِي لفظ لابن حبان أيضاً: «كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) الفوائد الإيمانية من كتب ابن القيم، ص37،41. (¬2) فوائد الفوائد مرتبة مبوبة، لابن القيم ص262، تخريج علي بن حسن عبد الحميد. (¬3) الترمذي، كتاب الزهد، باب من اتقى المحارم فهو أعبد الناس، برقم 2305، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 930، وفي صحيح سنن الترمذي، 2/ 526. (¬4) الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في ذكر الموت، برقم 2307، والنسائي، كتاب الجنائز، باب كثرة ذكر الموت، برقم 1823، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له، برقم 4258، وابن حبان بلفظ: ((أكثروا ذكر هاذم اللذات الموت))، برقم 2992، وقال الألباني في صحيح سنن النسائي وفي غيره، 2/ 6: ((حسن صحيح)). (¬5) صحيح ابن حبان، برقم 2993، وحسنه الألباني في إرواء الغليل، 3/ 145.

يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: ((أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَاذِمِ اللَّذَّات)) (¬1)، فَالْمَوت يقطع اللذات ويزيلها، والحديث دليل على أنه لا ينبغي أن يغفل عن ذكر أعظم المواعظ! وهو الموت، قال الإمام الصنعاني رحمه الله: ((وقد ذكر في آخر الحديث فائدة الذكر بقوله: ((فَإِنّكُمْ لاَ تَذْكُرُونَهُ فِي كَثِيرٍ إلاّ قَلّلهُ، وَلاَ فِي قَليلٍ إلاّ كَثَّرَهُ)) (¬2). وعن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قال: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ((أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا)) قَالَ: فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ (¬3)؟ قَالَ: ((أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا، وَأَحْسَنُهُمُ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَادًا، أُولَئِكَ الأَكْيَاسُ)) (¬4). 6 - إطعام المسكين ومسح رأس اليتيم؛ فإن من أسباب قسوة القلوب ترك الإحسان إلى اليتامى والمساكين؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَسْوَةَ قَلْبِهِ فَقَالَ لَهُ: ((إِنْ أَرَدْتَ تَلْيِينَ قَلْبِكَ فَأَطْعِمْ الْمِسْكِينَ وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ)) (¬5). 7 - زيارة القبور والتفكر في حال أهلها ومصيرهم؛ لأن الغفلة عن ذلك من أسباب قسوة القلب؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: زَارَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَبْرَ أُمّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: ((اسْتَأْذَنْتُ رَبّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ ¬

(¬1) صحيح ابن حبان، برقم 2995، وحسنه شعيب الأرنؤوط في تحقيقه لصحيح ابن حبان. (¬2) سبل السلام، للصنعاني، 3/ 302، وهذا الخبر أخرجه الطبراني في الأوسط، بلفظ: ((أكثروا ذكر هاذم اللذات - يعني الموت - فإنه ما كان في كثير إلا قلّلَهُ، ولا قليل إلا جزأه)) [مجمع البحرين، 8/ 206، برقم 5076]، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 10/ 309: ((إسناده حسن)). (¬3) أكيس: أعقل [النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، 4/ 217]. (¬4) ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له، برقم 4259، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه، 2/ 419، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1384. (¬5) أحمد في المسند، 2/ 263، و2/ 387، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير، برقم 1410، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، 2/ 533.

لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لِي، فَزُورُوا الْقُبُورَ، فَإِنَّهَا تُذَكّرُ الْمَوْتَ)) (¬1). وعن بريدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا)) [زاد الترمذي]: ((فَإِنَّهَا تُذَكّرُ الآخِرَةَ))، وفي لفظ أبي داود: ((فَإِنَّ فِي زِيَارَتِهَا تَذْكِرَة)) (¬2). وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنّي نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا، فَإِنَّ فِيهَا عِبْرَةً [وَلاَ تَقُولُوا مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ])) (¬3). وعن أنس - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُرُوهَا؛ فإنَّهَا تُرِقُّ الْقَلْبَ، وَتُدْمِعُ الْعَيْنَ، وَتُذَكّرُ الآخِرَةَ، َ وَلَا تَقُولُوا هَجْرًا)) (¬4) (¬5). وعن هانئ مولى عثمان - رضي الله عنه - قال: كَانَ عُثْمَانُ - رضي الله عنه - إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ بَكَى حتَّى يَبَلَّ لِحْيَتَهُ، فَقيلَ لَهُ: تُذْكَرُ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلاَ تَبْكِي، وَتَبْكِي مِنْ هَذَا؟! فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: «إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنَازِلِ الآخِرَةِ، فَمَنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَمَنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ». قَالَ: وَقَالَ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلاَّ وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ (¬6) مِنْهُ)) (¬7). ¬

(¬1) مسلم، كتاب الجنائز، باب استئذان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه - عز وجل - في زيارة قبر أمه، برقم 108 - (976). (¬2) مسلم، كتاب الجنائز، باب استئذان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه - عز وجل - في زيارة أمه، برقم 106 - (977)، والترمذي، برقم 1054، والنسائي بنحوه، برقم 2031، وأبو داود، برقم 3237. (¬3) أحمد، 3/ 38، 63، 66، والحاكم، 1/ 374، والبيهقي، 4/ 77، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال الألباني في أحكام الجنائز، ص288: ((وهو كما قالا)). (¬4) الهجر: الفحش، والكلام الباطل، النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، 5/ 245. (¬5) أحمد، 3/ 237، 250، والحاكم، 1/ 376، 375، وحسنه الألباني في أحكام الجنائز، ص229. (¬6) أفظع: أشد، وأشنع. شرح السندي على سنن ابن ماجه، 4/ 500. (¬7) الترمذي، كتاب الزهد، باب حدثنا هناد، برقم 2308، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر القبر والبلى، واللفظ له، برقم 4267، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 527.

8 - النظر في ديار الهالكين، والاعتبار بمنازل الغابرين؛ فإن الغفلة عن التَّفَكُّرِ في ذلك من أسباب قسوة القلب؛ ولهذا كان ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا إذا أراد أن يتعاهد قلبه يأتي الخربة فيقف على بابها، وينادي بصوت حزين، فيقول: ((أين أهلك؟))، ثم يرجع إلى نفسه، فيقول: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (¬1). قال الله - عز وجل -: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ} (¬2). 9 - الاستفادة في علاج القلوب من حِكَمِ الحكماء؛ فإن ذلك مما يوقظ القلوب؛ لما جعل الله تعالى على ألسنتهم من الحِكَمِ: * قَالَ إبْرَاهِيمُ الْخَوَّاصُ رحمه الله تعالى: ((دَوَاءُ الْقُلُوبِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالتَّدَبُّرِ، وَخَلَاءُ الْبَطْنِ، وَقِيَامُ اللَّيْلِ، وَالتَّضَرُّعُ عِنْدَ السَّحَرِ، وَمُجَالَسَةُ الصَّالِحِينَ)) (¬3). * ونُقل عن لقمان الحكيم، أنه قال لابنه: ((جمعت لك حكمتي في ست كلمات: اعمل للدنيا بمقدار بقائك فيها، واعمل للآخرة بمقدار بقائك فيها، واعمل لله بقدر حاجتك له، واعمل من المعصية بمقدار ما تطيق من العقوبة، ولا تسأل إلا من لا يحتاج إلى أحد، وإذا أردت أن تعصي الله فاعصه في مكان لا يراك فيه)) (¬4). ¬

(¬1) سورة القصص، الآية: 88. (¬2) سورة السجدة، الآية: 26. (¬3) الخشوع في الصلاة، لابن رجب، ص35. (¬4) الخشوع في الصلاة لابن رجب، ص35.

السبب الثالث: الابتعاد عن الوسوسة

* وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى في موعظته حين سألوه عن قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (¬1)، وإنَّا ندعوه فلم يستجب لنا، فقال: ((عرفتم الله فلم تطيعوه، وقرأتم القرآن فلم تعملوا به، وعرفتم الشيطان فوافقتموه، وادّعيتم حبّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتركتم سنته، وادّعيتم حبّ الجنة ولم تعملوا لها، وادّعيتم خوف النار ولم تنتهوا عن الذنوب، وقلتم إن الموت حق ولم تستعدوا له، واشتغلتم بعيوب غيركم ولم تنظروا إلى عيوبكم، وتأكلون رزق الله ولا تشكرون، وتدفنون أمواتكم ولا تعتبرون)) (¬2). السبب الثالث: الابتعاد عن الوسوسة؛ فإنها أعظم موانع الخشوع في الصلاة، فإذا نجا العبد من هذا المرض الخطير فقد نجا من شرور كثيرة: * والوسواس: الشيطان، قال الله - عز وجل -: {مِنْ شَرّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} (¬3). والوسوسة: حديث النفس والشيطان، بما لا نفع فيه ولا خير (¬4). وقال ابن الأثير: الوسوسة: هي حديث النفس والأفكار، ورجل مُوَسْوَسٌ: إذا غلبت عليه الوسوسة، وقد وسوست إليه نفسه، وسوسةً، وَوسْوَاساً ... ، والوسواس ... اسم للشيطان، ووسوسَ: إذا تكلم بكلام ¬

(¬1) سورة غافر، الآية: 60. (¬2) الخشوع في الصلاة، لابن رجب ص35 - 36. (¬3) سورة الناس، الآية: 4. (¬4) القاموس المحيط، للفيروز أبادي، باب السين فصل الواو، ص478.

* أسباب الوسوسة:

لم يُبيّنهُ)) (¬1). وفي الحديث (( ... الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ ... )) (¬2). والفرق بين الشك والوسوسة: أن الشك: هو التَّردُّدُ في الوقوع وعدمه، فهو مستوي الطرفين، وهو اعتقاد أن تقاوم تساويهما لا مزية لأحدهما على الآخر، وأما الوسوسة فهي كما تقدم: حديث النفس والشيطان لا تنبي على أصل، بخلاف الشك، فإنه يبنى على أصل (¬3). * أسباب الوسوسة: 1 - قِلَّةُ العلم الشرعي: أي بالكتاب والسنة، وما عليه الصحابة وأتباعهم - رضي الله عنهم -. 2 - ضعف الإيمان؛ لأن الشيطان يتسلّط على أهل المعاصي، بخلاف قويٌّ الإيمان. 3 - الاسترسال مع الأفكار؛ فإن هذا الاسترسال يجعل للشيطان مدخلاً عليه. 4 - الغفلة عن ذكر الله تعالى؛ فإن الذكر يطرد الشيطان ووساوسه. 5 - ضعف العقل؛ فإن صاحب العقل الكامل المؤمن ينجو من الوسوسة بفضل الله تعالى. 6 - عدم مخالطة أهل العلم والإيمان الكامل. 7 - عدم اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن الشيطان يدخل من هذا المدخل. وهذه الأسباب لها أدلة كثيرة لا يتسع المقام لذكرها (¬4). ¬

(¬1) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، 5/ 186. (¬2) أبو داود، كتاب الأدب، بابٌ في الوسوسة، برقم 5112، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 3/ 256. (¬3) انظر: بغية المسترشدين، لعبد الرحمن بن محمد بن حسين بن عمر باعلوي، ص5. (¬4) انظر: تحفة المؤمنين في ذم الوسوسة وعلاج الموسوسين؛ لعبد الله بن سليمان العتيق، [مذكرة، ص5_7].

* مظاهر الوسوسة عند الموسوسين:

* مظاهر الوسوسة عند الموسوسين: 1_ التأخر في حال الاستنجاء، أو الوضوء والاغتسال، وهذه أغلب حالات الوسواس. 2_ تكرار الوضوء، أو الطهارة، أو الصلاة، والإسراف في ماء الطهارة، وإعادة هذه العبادات؛ لأنه يظن أنها فاسدة. 3_ تكرير الحرف في ألفاظ القراءة، أو أذكار الصلاة وغيرها، كما ذكر ابن قدامة رحمه الله في ذم الموسوسين، وابن القيم في إغاثة اللهفان رحمه الله. 4 - إبدال الملابس؛ لأنه يتوهَّم أنه أصابها نجاسة. 5_ وسوستهم في العقيدة، وقد حذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ))، وفي لفظ لمسلم: ((لَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يُقَالَ: هَذَا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ))، وفي رواية لمسلم: ((يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟ مَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ؟ فَيَقُولُ: اللَّهُ))، ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِهِ وَزَادَ: ((وَرُسُلِهِ)) (¬1). وعن زُمَيْلٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقُلْتُ: مَا شَيءٌ أَجِدُهُ فِي صَدْرِي؟ قَالَ: مَا هُوَ؟ قُلْتُ: وَاللَّهِ مَا أَتَكَلَّمُ بِهِ! قَالَ: فَقَالَ لِي أَشَيْءٌ مِنْ شَكٍّ؟ قَالَ وَضَحِكَ. قَالَ: مَا نَجَا مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ ... )) الخبر، وفي آخره قال ابن عباس: ((إِذَا وَجَدْتَ فِي نَفْسِكَ شَيْئًا فَقُلْ: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، برقم 3276، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها، برقم 134.

وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلّ شَيءٍ عَلِيمٌ} (¬1) (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: ((جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلُوهُ: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ. قَالَ: ((أوَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ)). قَالُوا نَعَمْ. قَالَ: ((ذَاكَ صَرِيحُ الإِيمَانِ))، وفي لفظ: ((تِلْكَ مَحْضُ الإِيمَانِ)) (¬3). وقوله: ((ذاك صريح الإيمان)) معناه: أن صريح الإيمان هو الذي يمنعكم من قبول ما يلقيه الشيطان في أنفسكم، والتصديق به حتى يصير ذلك وسوسة (¬4). وعن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَحَدَنَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ، يُعَرّضُ بِالشَّيْءِ؛ لَأَنْ يَكُونَ حُمَمَةً أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، فَقَالَ: ((اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ))، وفي لفظ: ((رَدَّ أَمْرَهُ)) (¬5). والوسوسة خطيرة على المسلم، وقد ذكر الوسوسة وأحكامها، وأخطارها العلماء رحمهم الله تعالى، ومن أعظم من فصَّل في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في: ((مجموع الفتاوى)) (¬6)، وتلميذه الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه: ((إغاثة اللهفان من مصائد ¬

(¬1) سورة الحديد، الآية: 3. (¬2) أبو داود، كتاب الأدب، باب في الوسوسة، برقم 5110، وحسن إسناده الألباني في صحيح سنن أبي داود، 3/ 256. (¬3) مسلم، كتاب الإيمان، باب الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجده، برقم 132. (¬4) انظر: معالم السنن للخطابي، 4/ 136. (¬5) أبو داود، برقم 5112، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 3/ 256، وتقدم تخريجه في تعريف الوسوسة. (¬6) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام، 22/ 603 - 613.

وعلاج الوسوسة على النحو الآتي:

الشيطان)) (¬1). وعلاج الوسوسة على النحو الآتي: 1 - طلب العلم الشرعي. 2 - تقوية الإيمان بالطاعات والنوافل. 3 - مداومة ذكر الله تعالى على كل حال؛ فهي حصن حصين من الوسوسة، ومن كلّ شرٍّ. 4 - مجالسة الصاحين، ومخالطة الناس الذين يستفيد منهم. 5 - معرفة أن الحق هو ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 6 - الاعتراف بأن الوسوسة من أبطل الباطل. 7 - الاستعاذة بالله من الشيطان كما ثبت في الأدلة. 8 - لا يطيل الجلوس والمكث في الحمام أو الخلاء فوق حاجته؛ لأن في ذلك كشفاً للعورة بلا حاجة؛ ولأن الحشوش والمراحيض مأوى الشياطين، والنفوس الخبيثة (¬2). 9 - ينضح فرجه وسراويله بالماء؛ ليدفع عن نفسه الوسوسة؛ لحديث الحكم بن سفيان قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بال توضأ وينتضح)) (¬3). 10 - إذا تَيَقَّنَ الطهارة ثم شَكَّ في الحدث فله أن يصلّي بطهارته؛ لأنه على طهارة، وإذا تَيَقَّنَ الحدث ثم شَكَّ هل تطهَّر أم لا فليس له أن يصلي إلا بعد الطهارة؛ وإذا شكَّ بعد الانتهاء من العبادة، فلا يلتفت إليه، إلا إذا تيقن يقيناً لا شك فيه، وإذا كثرت الشكوك فلا يلتفت إليها (¬4). ¬

(¬1) انظر: إغاثة اللهفان لابن القيم، 1/ 126 - 163. (¬2) انظر: آداب قضاء الحاجة من هذا الكتاب، ص30. (¬3) أبو داود، كتاب الطهارة، باب في الانتضاح، برقم 166، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 34. (¬4) انظر: ص45 [الحاشية]، وص395،وانظر: بحث مفيد، في ذم الوسوسة وعلاج الموسوسين، لعبد الله بن سليمان العقيل ص1 - 30 [مذكرة].

السبب الرابع: متابعة المؤذن من الأمور التي تجلب الخشوع في الصلاة:

السبب الرابع: متابعة المؤذن من الأمور التي تجلب الخشوع في الصلاة: لا شك أن متابعة المؤذن والقول مثل ما يقول تكون من أسباب جلب الخشوع في الصلاة؛ لأن إجابة المؤذن، بـ: ((لا حول ولا قوة إلا بالله)) فيها الالتجاء إلى الله تعالى، واعتماد القلب عليه، فلا حول ولا قوة للعبد إلا به سبحانه، قال الإمام النووي رحمه الله: ((قال أبو الهيثم: الحول الحركة، أي لا حركة ولا استطاعة، إلا بمشيئة الله ... وقيل: لا حول في دفع شرٍّ، ولا قوّة في تحصيل خير إلا بالله، وقيل: لا حول عن معصيته إلا بعصمته، ولا قوّة على طاعته إلا بمعونته، وحكي هذا عن ابن مسعود - رضي الله عنه -)) (¬1). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((وقال الطيبي: معنى الحيعلتين: هلُمَّ بوجهك وسريرتك إلى الهدى عاجلاً، والفوز بالنعيم آجلاً، فناسب أن يقول هذا أمر عظيم لا أستطيع مع ضعفي القيام به إلا إذا وفقني الله بحوله وقوّته)) (¬2). فيُسنُّ لمن سمع المؤذن والمقيم أن يتابعه سرًّا بقوله، فيقول مثله، إلا في الحيعلتين فيقول: ((لا حول ولا قوة إلا بالله))، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويقول الأذكار المشروعة بعد الأذان، ولا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرع لأمته في الذكر عند الأذان وبعده خمسة أنواع (¬3). السبب الخامس: العمل بآداب المشي إلى الصلاة من أعظم ما يجلب الخشوع: إذا عمل المسلم بالآداب المشروعة في المشي إلى الصلاة؛ فإن ذلك ¬

(¬1) اشرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 328 - 329. (¬2) فتح الباري، لابن حجر، 2/ 92. (¬3) قال الإمام ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد في هدي خير العباد، 2/ 391: ((وأما هديه - صلى الله عليه وسلم - في الذكر عند الأذان فشرع لأمته منه خمسة أنواع ... )) ثم ذكر هذه الأنواع. وانظر مشروعية متابعة المؤذن في هذا الكتاب بالتفصيل: المبحث السادس عشر: الأذان والإقامة.

السبب السادس: عدم الالتفات لغير حاجة

يكون من أسباب التوفيق للخشوع في الصلاة (¬1). السبب السادس: عدم الالتفات لغير حاجة. والالتفات نوعان: النوع الأول: التفات حِسّي، وعلاجه بالسكون في الصلاة، وعدم الحركة. النوع الثاني: التفات معنوي بالقلب، وهذا علاجه صعب شاقٌّ، إلا على من يسَّره الله عليه، ولكن من أعظم العلاج استحضار عظمة الله، والوقوف بين يديه، والاستعاذة بالله من الشيطان، والتفل عن اليسار ثلاثًا؛ لحديث عثمان بن أبي العاص أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يُلَبّسُها عليّ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ذاك شيطان يقال له: خنزبٌ فإذا أحْسَسْتَه فتعوذْ بالله منه، واتفلْ عن يسارك ثلاثًا)) قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني. السبب السابع: عدم رفع البصر إلى السماء. السبب الثامن: عدم افتراش الذراعين في السجود. السبب التاسع: عدم التخصر. السبب العاشر: عدم النظر إلى ما يُلهي ويُشغل. السبب الحادي عشر: عدم الصلاة إلى ما يشغل ويُلهي. السبب الثاني عشر: عدم الإقعاء المذموم. السبب الثالث عشر: عدم عبث المصلي بجوارحه. السبب الرابع عشر: عدم تشبيك الأصابع، وفرقعتها في الصلاة. السبب الخامس عشر: عدم الصلاة بحضرة الطعام. ¬

(¬1) انظر هذه الآداب في هذا الكتاب: المبحث الرابع والعشرون: صلاة الجماعة، البند السادس، فقد ذكرت هناك ستة عشر أدباً بأدلتها.

السبب السادس عشر: عدم مدافعة الأخبثين (البول والغائط)

السبب السادس عشر: عدم مدافعة الأخبثين [البول والغائط] في الصلاة. السبب السابع عشر: عدم بصاق المصلي أمامه أو عن يمينه في الصلاة. السبب الثامن عشر: عدم كف الشعر أو الثوب في الصلاة. السبب التاسع عشر: عدم عقص الرأس في الصلاة. السبب العشرون: عدم تغطية الفم في الصلاة. السبب الحادي والعشرون: عدم السدل في الصلاة. السبب الثاني والعشرون: عدم تخصيص مكان من المسجد للصلاة فيه دائمًا لغير الإمام. السبب الثالث والعشرون: عدم الاعتماد على اليد في الجلوس في الصلاة. السبب الرابع والعشرون: عدم التثاؤب في الصلاة. السبب الخامس والعشرون: عدم الركوع قبل أن يصل إلى الصف. السبب السادس والعشرون: عدم الصلاة في المسجد لمن أكل البصل أوالثوم ونحوهما. السبب السابع والعشرون: عدم صلاة النفل عند مغالبة النوم. السبب الثامن والعشرون: الصلاة إلى سترة والدنوّ منها (¬1). السبب التاسع والعشرون: وضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر (¬2). السبب الثلاثون: الإشارة بالسبابة وتحريكها في الدعاء في التشهد: الإشارة بالسبابة تجلب الخشوع، وفيها إغاظة للشيطان (¬3). ¬

(¬1) وقد ذكرت الأدلة على هذه الأسباب في مكروهات الصلاة في المبحث العشرين، البند الأول، حيث ذكرت واحداً وعشرين عملاً تكره في الصلاة. (¬2) انظر الأدلة على ذلك أيضاً في: المبحث الثامن عشر: صفة الصلاة من هذا الكتاب. (¬3) انظر الأدلة على ذلك: هذا الكتاب، المبحث الثامن عشر: صفة الصلاة.

السبب الحادي والثلاثون: النظر إلى موضع السجود، وإلى السبابة

السبب الحادي والثلاثون: النظر إلى موضع السجود، وإلى السبابة: النظر إلى موضع السجود وإلى السبابة أثناء التشهد يعين على الخشوع في الصلاة؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك، فالسنة أن ينظر المصلي موضع سجوده، فقد ذُكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كَانَ إذا صَلّى طَأْطَأَ رَأْسَهُ وَرَمَى بِبَصَرِهِ نحْوَ الأَرْضِ)) (¬1). و ((عندما دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْكَعْبَةَ مَا خَلَّفَ بَصَرُهُ مَوْضِعَ سُجُودِهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا)) (¬2). وأما في الجلوس في التشهد فينظر إلى سبابة يده اليمنى، ولا يجاز بصره ذلك؛ لحديث عبد الله بن الزبير رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس في التشهد وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، واليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بالسبابة ولم يجاز بصره إشارته)) (¬3)؛ ولحديث عبد الله بن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنه وضع يده اليمنى على فخذه، وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام إلى القبلة، ورمى ببصره إليها، أو نحوها، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع)) (¬4). السبب الثاني والثلاثون: العلم بأنه يدعو الله ويخاطبه وأن الله يرَدّ عليه ويُجيبه: المسلم يخاطب ربه تعالى في صلاته، والله تعالى يجيبه؛ فإذا عَلِمَ ¬

(¬1) البيهقي في السنن الكبرى، 2/ 283، وصححه الألباني في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ص80، قال الألباني في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ص80: ((وللحديث ... شاهد من حديث عشرة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -)). (¬2) الحاكم في المستدرك، 1/ 479. وقال: ((هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه))، وصححه الألباني في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ص80. (¬3) أحمد بلفظه، 4/ 3، برقم 16100، وابن خزيمة، 1/ 355، برقم 718، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب الإشارة في التشهد، برقم 990، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 276: ((حسن صحيح)). (¬4) ابن خزيمة، برقم 719، 1/ 356، وقال المحقق لصحيح ابن خزيمة: محمد مصطفى الأعظمي ((إسناده صحيح)).

السبب الثالث والثلاثون: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم:

ذلك، فإنه يخشع في صلاته، ويُقْبِلُ بقلبه إلى ربه - سبحانه وتعالى -؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ}، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ}، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالّينَ}، قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَل)) (¬1). وهذا حديث قدسي عظيم جليل، لو استحضره كل مصلٍّ لحصل له الخشوع الكامل في صلاته. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الظُّهْرَ، فَلَمَّا سَلَّمَ، نَادَى رَجُلاً كَانَ فِي آخِرِ الصُّفُوفِ، فَقَالَ: ((يَا فُلاَنُ، أَلاَ تَتَّقِي اللهَ، أَلاَ تَنْظُرُ كَيْفَ تُصَلّي، إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلّي، إِنَّمَا يَقُومُ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلْيَنْظُرُ كَيْفَ يُنَاجِيهِ)) (¬2). السبب الثالث والثلاثون: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم: الشيطان عدوٌّ لنا، ومن عداوته قيامه بالوسوسة للمُصلّي؛ كي يذهب خشوعه، ويلبّس عليه صلاته. والوسواس يعرض لكل من توجه إلى الله تعالى بذكر أو بغيره، لا بد له من ذلك، فينبغي للعبد أن يثبت ويصبر، ويلازم ما هو فيه من الذكر، والصلاة، ولا يضجر؛ فإنه بملازمة ذلك ينصرف عنه كيد ¬

(¬1) مسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة ... برقم 395. (¬2) مستدرك الحاكم، 1/ 236، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 2202.

الشيطان: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} (¬1). وكلما أراد العبد تَوجُّهاً إلى الله تعالى بقلبه، جاء من الوسوسة أمور أخرى؛ فإن الشيطان بمنزلة قاطع الطريق، كلما أراد العبد السير إلى الله تعالى، أراد قطع الطريق عليه؛ ولهذا قيل لبعض السلف: ((إن اليهود والنصارى يقولون: لا نوسوس، قال: صدقوا، وما يصنع الشيطان بالبيت الخرب)) (¬2). وقد تقدم قول الإمام ابن القيم رحمه الله في أقسام القلوب الثلاثة فقال: ((وقد مُثّل ذلك بمثالٍ حسن، وهو ثلاثة بيوت: بيت للملك فيه كنوزه، وذخائره، وجواهره، وبيت للعبد فيه كنوز العبد، وذخائره، وجواهره، وليس جواهر الملك، وذخائره، وبيت خالٍ، صفر، لا شيء فيه، فجاء اللصّ يسرق من أحد البيوت، فمن أيّها يسرق؟)) (¬3). والعبد إذا قام في الصلاة، غار الشيطان منه؛ فإنه قد قام في أعظم مقام، وأقربه، وأغيظه للشيطان، وأشده عليه، فهو يحرص، ويجتهد كل الاجتهاد أن لا يقيمه فيه؛ بل لا يزال به يَعِدُه، ويمنّيه، وينسيه، ويجلب عليه بخيله ورجله، حتى يهوّن عليه شأن الصلاة، فيتهاون بها فيتركها، فإن عجز عن ذلك منه، وعصاه العبد، وقام في ذلك المقام، أقبل عدو الله تعالى حتى يخطر بينه وبين نفسه، ويحول بينه وبين قلبه، فيذكّره في الصلاة ما لم يكن يذكر قبل دخوله فيها، حتى ربما كان قد نسي الشيء، والحاجة، وأيس منها، فيُذكّره إيَّاها في الصلاة؛ ليشغل قلبه بها، ويأخذه عن الله - عز وجل -، فيقوم فيها بلا قلب، فلا ينال من إقبال الله تعالى، وكرامته، ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 76. (¬2) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية،22/ 608،وسبق تخريج الأثر في المبحث الثامن: حكم الوسواس في الصلاة. (¬3) الوابل الصيب، ص: 43، وتقدم.

وقربه ما يناله المقبل على ربه - عز وجل - الحاضر بقلبه في صلاته، فينصرف من صلاته، مثلما دخل فيها بخطاياه، وذنوبه، وأثقاله، لم تُخَفَّفْ عنه بالصلاة، فإن الصلاة إنما تكفّر سيئات من أدَّى حقَّها، وأكمل خشوعها، ووقف بين يدي الله تعالى بقلبه وقالبه (¬1). ولمواجهة كيد الشيطان، وإذهاب وسوسته، أرشدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى العلاج الآتي: عن أَبِي الْعَاصِ - رضي الله عنه - قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي، يَلْبّسُهَا عَلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خَنْزَبٌ، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْهُ، وَاتْفِلْ عَلَى يَسَارِكَ ثَلَاثًا))، قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللَّهُ عَنّي (¬2). ومن كيد الشيطان للمُصلّي: ما أخبرنا عنه - صلى الله عليه وسلم -، وعن علاجه فقال: ((إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلّي جَاءَ الشَّيْطَانُ فَلَبَّسَ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى، فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ)) (¬3). ومن كيده كذلك ما أخبرنا عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَوَجَدَ حَرَكَةً فِي دُبُرِهِ أَحْدَثَ أَوْ لَمْ يُحْدِثْ فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ فَلَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا)) (¬4). بل إن كيده ليبلغ مبلغاً عجيباً كما يوضحه هذا الحديث، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن الرجل يخيّل إليه في صلاته أنه أحدث ولم ¬

(¬1) الوابل الصيب لابن القيم، ص: 36 - 37. (¬2) مسلم، كتاب السلام، باب التعوذ من شيطان الوسوسة في الصلاة، برقم 2203. (¬3) البخاري، كتاب السهو، باب السهو في الفرض والتطوع، برقم 1232، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، برقم 389. (¬4) البخاري، كتاب الوضوء، باب من لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن، برقم 137، ومسلم، كتاب الحيض، باب الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك، برقم 361، وأبو داود واللفظ له، كتاب الطهارة، باب إذا شك في الحدث، برقم 177.

السبب الرابع والثلاثون: تدبر القرآن في الصلاة يجلب الخشوع:

يُحدِث، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ وَهُوَ فِي صَلاَتِهِ حَتَّى يَفْتَحَ مَقْعَدَتَهُ، فَيُخَيّلُ إِلَيْهِ أنَّهُ أَحْدَثَ، وَلَمْ يُحْدِثْ، فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلاَ يَنْصَرِفَنْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتَ ذَلِكَ بأذنه، أَوْ يَجِدَ رِيحَ ذَلِكَ بِأَنْفِهِ)) (¬1). السبب الرابع والثلاثون: تدبّر القرآن في الصلاة يجلب الخشوع: لا شك أن تدبُّر القرآن الكريم في الصلاة يجلب الخشوع، ويطرد الغفلة، وهو العلاج الأعظم للقلوب، والحث على التدبر جاء على أنواع كثيرة، منها الأنواع الآتية: النوع الأول: حض القرآن الكريم على التدبر: 1 - قال الله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (¬2)، فقد أمر الله تعالى بتدبر كتابه، وهو التأمُّل في معانيه، وتحديد الفكر فيه، وفي مبادئه وعواقبه، ولوازم ذلك؛ فإنَّ تدبر كتاب الله مفتاحٌ للعلوم والمعارف، وبه يُستنتج كل خير، وتُستخرج كل العلوم، وبه يزداد الإيمان في القلب، وترسخ شجرته؛ فإنه يُعرّف بالرب المعبود وماله من صفات الكمال، وما ينزَّه عنه من صفات النقص، ويُعرّف الطريق الموصل إليه، وصفة أهلها، ومالهم عند القدوم عليه، ويعرّف العدو الذي هو العدو على الحقيقة والطريق الموصلة إلى العذاب، وصفة أهلها، وما لهم عند وجود أسباب العقاب، وكلما ازداد العبد تأملاً فيه ازداد: علماً، وعملاً, وبصيرة (¬3). ¬

(¬1) الطبراني في المعجم الكبير، 11/ 222، برقم 11556، وأخرجه أيضًا البزار، كما في كشف الأستار، 1/ 147، برقم 281، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 1/ 242: ((رجاله رجال الصحيح)). (¬2) سورة النساء، الآية: 82. (¬3) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص189 - 190.

النوع الثاني: حض النبي - صلى الله عليه وسلم - على تدبر القرآن:

2 - قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب} (¬1)،فهذا الكتاب فيه خيرٌ كثيرٌ، وعِلْم غزير، فيه كل هدى من ضلالة، وشفاء من كل داء، ونور يُستضاء به في الظلمات، وكل حكم يحتاج إليه المكلَّفون، وهذا كله من بركته والحكمة من إنزاله؛ ليتدبر الناس آياته، وفي هذه الآية: الحثُّ على تدبر القرآن، وأنه من أفضل الأعمال، ومن فضائل التدبر: أنَّ العَبْدَ يصل به إلى درجة اليقين، والعلم بأن القرآن كلام الله تعالى؛ لأنه يراه يصدق بعضه بعضاً ... (¬2). 3 - قال الله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (¬3)، فَهلاَّ يتدبر هؤلاء المعرضون لكتاب الله ويتأمَّلونه حق التأمُّل؛ فإنهم لو تَدَبَّروه لدلَّهم على كل خير ولحذَّرهم من كل شر، ولملأ قلوبهم من الإيمان، وأفئدتهم من الإيقان؛ ولأوصلهم إلى المطالب العالية، والمواهب الغالية ... {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} أي قد أُغْلِقَ على ما فيها من الشر، وأقفلت فلا يدخلها خير أبداً، هذا هو الواقع ... (¬4). النوع الثاني: حض النبي - صلى الله عليه وسلم - على تدبر القرآن: ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ترغيب في القرآن، وبيان فضائله، وبيان فضائل حافظ القرآن، يستفاد منه الحث على تدبر القرآن. وقد جاء تدبر القرآن من فعله - صلى الله عليه وسلم - أيضاً في أحاديث كثيرة ومنها: 1 - حديث حذيفة - رضي الله عنه -، قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فافتتح البقرة، ¬

(¬1) سورة ص، الآية: 29. (¬2) تيسير الكريم الرحمن للسعدي، ص190وَص712. (¬3) سورة محمد، الآية: 24 - 26. (¬4) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص788.

النوع الثالث: حث الصحابة - رضي الله عنه - على تدبر القرآن:

فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى يصلي، فقلت: يُصلّي بها في ركعة، فمضَى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسّلاً، إذا مرَّ بآية تسبيح سبَّح، وإذا مرَّ بسؤالٍ سأل، وإذا مرَّ بتعوّذ تعوّذ ... )) (¬1). 2 - حديث عوف بن مالك - رضي الله عنه -،قال: قمت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة فقرأ سورة البقرة، لا يَمُرُّ بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوذ ... )) (¬2). 3 - عن أبي جحيفة - رضي الله عنه -، قال: قالوا: يا رسول الله نراك قد شبت قال: ((قد شيَّبتني هود وأخواتها)) (¬3)، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال أبو بكر: يا رسول الله قد شبت قال: ((شيَّبتني: هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كوّرت)) (¬4). وهذا يدل على كمال تدبره - صلى الله عليه وسلم - للقرآن حق التدبر. 4 - حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((زيّنوا القرآن بأصواتكم)) (¬5). النوع الثالث: حث الصحابة - رضي الله عنه - على تدبر القرآن: 1 - قال أمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه -: ((لو طَهُرَتْ قلوبكم ما شبعتم من كلام ¬

(¬1) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، برقم772. (¬2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، برقم 873، واللفظ له، والنسائي، كتاب التطبيق، باب نوع آخر من الذكر في الركوع، برقم 1048، وصححه الألباني في صحيح أبي داود،1/ 247،وفي صحيح النسائي، 1/ 342. (¬3) الترمذي، في الشمائل المحمدية، برقم 42، وصححه الألباني في مختصر الشمائل، ص40. (¬4) الترمذي، في الشمائل المحمدية، برقم 41، وصححه الألباني في مختصر الشمائل، ص40. (¬5) أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب استحباب الترتيل في القراءة، برقم 1468، والنسائي، كتاب الصلاة، باب تزيين القرآن بالصوت، برقم 1016، وصححه الألباني في صحيح أبي داود،1/ 404.

النوع الرابع: حث العلماء على تدبر القرآن وتعظيمهم لذلك:

ربكم)) (¬1). 2 - وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ((من أحب القرآن فهو يحب الله ورسوله)) (¬2). 3 - وقال خبَّاب بن الأرتّ - رضي الله عنه -: ((تقرَّبْ إلى الله ما استطعت واعلم أنك لن تتقرب بشيء أحبّ إليه من كلامه)) (¬3). 4 - وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ((من أراد العلم، فليقرأ القرآن؛ فإن فيه علم الأولّين والآخرين)) (¬4). 5 - وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما: ((إنَّ من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبَّرونها بالليل، ويتفقَّدونها في النهار)) (¬5). النوع الرابع: حث العلماء على تدبر القرآن وتعظيمهم لذلك: لا شك أن من أحبَّ القرآن تدبَّره، وأقبل على التلذّذ بتلاوته، وهذا دليل على محبته للمتكلّم به سبحانه؛ ولهذا قال أبو عبيدٍ رحمه الله: ((لا يسأل عبدٌ نفسه إلا بالقرآن، فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله ورسوله)) (¬6). وقد تكلم العلماء رحمهم الله تعالى في الحث على تدبر القرآن العظيم، ومن أبرز من حث على ذلك من الأئمة ابن القيم رحمه الله في كتبه، فقد ذكر رحمه الله: أنّ تدبر القرآن مع الخشوع عند قراءته هو المقصود والمطلوب، فبه تنشرح ¬

(¬1) رواه الإمام أحمد في زوائد الزهد، ص128. (¬2) رواه الطبراني في المعجم الكبير، برقم 8658،وقال الهيثمي في مجمع الزوائد،7/ 165: ((رجاله ثقات)). (¬3) رواه الحاكم، وصححه ووافقه الذهبي، 2/ 441. (¬4) مصنف بن أبي شيبة، 10/ 485، والمعجم الكبير للطبراني، 9/ 136، وشعب الإيمان للبيهقي، 2/ 332. (¬5) التبيان للنووي، ص 28. (¬6) مسند ابن الجعد، برقم 1956.

الصدور، وتستنير القلوب، قال رحمه الله: ((إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته، وسماعه، وألقِ سمعك، واحْضُر حضور من يخاطبه به من تكلم به، منه إليه، فتمام التأثير موقوف على: مؤثر مقتضٍ، ومحلٍ قابلٍ، وشرطٍ لحصول الأثر، وانتفاء المانع الذي يمنع منه، وقد تضمن ذلك كله قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيد})) (¬1). فقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى} إشارة إلى ما تقدم من أول السورة إلى ها هنا، وهذا هو المؤثر. وقوله: {لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} القلب الحي، وهذا هو المحل القابل، كما قال الله تعالى: {لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا} (¬2). وقوله تعالى: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} أي وجّه سمعه وأصغى حاسة سمعه إلى ما يقال له، وهذا شرط التأثر بالكلام. وقوله تعالى: {وَهُوَ شَهِيد} أي شاهد القلب حاضر غير غائب، واستمع كتاب الله، وشاهد القلب والفهم ليس بغافل ولا ساهٍ، وهذا إشارة إلى المانع من حصول التأثير، وهو سهو القلب وغيبته عما يقال له، والنظر فيه، وتأمله. فإذا حصل المؤثر: وهو القرآن، والمحل القابل: وهو القلب الحي، ووجد الشرط: وهو الإصغاء، وانتفى المانع: وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه إلى شيء آخر حصل الأثر، وهو: الانتفاع، والتذكر (¬3). ¬

(¬1) سورة ق، الآية: 37. (¬2) سورة يس، الآية: 70. (¬3) انظر: الفوائد لابن القيم، ص5، ص6، ص156، وانظر: فوائد في تدبر القرآن، في تفسير السعدي، 2/ 112وَ 7/ 70.

فلا بد من تدبر القرآن، وتعقّله، والتفكر في معانيه؛ لأن الله - عز وجل - أمر بذلك. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((القرآن حياة القلوب، وشفاء لما في الصدور ... فبا لجملة فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر، والتفكر ... وهذا الذي يورث المحبة، والشوق، والخوف، والرجاء، والإنابة، والتوكل، والرضا، والتفويض، والشكر، والصبر، وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله. وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة التي بها فساد القلب وهلاكه فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها))؛ فإن العبد إذا قرأه بالتدبر حتى مرَّ بآية وهو محتاج إليها في شفاء قلبه كررها ولو مائة مرة، ولو ليلة، فقراءة آية بتفكُّرٍ وتفهُّمٍ خير من قراءة ختمةٍ بغير تَدَبُّرٍ وتفَهُّمٍ، وأنفع للقلب، وأدعى إلى حصول الإيمان، وذوق حلاوة الإيمان والقرآن، وهذه كانت عادة السلف يردّد أحدهم الآية إلى الصباح، وقد تقدم أنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قام بآية يُردّدُها إلى الصباح وهي قوله تعالى: {إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} (¬1). وقد أخبر الله تعالى في القرآن: أن أهل العلم هم الذين ينتفعون بالقرآن، فقال تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُون} (¬2)،وفي القرآن الكريم بضعة وأربعون مثلاً (¬3)، وقد كان بعض السلف الصالح، وهو عمرو بن مرة: إذا مرَّ بِمَثَلٍ من أمثال القرآن ولم يفهمه ¬

(¬1) انظر: مفتاح دار السعادة، 1/ 553 - 554، والآية من سورة المائدة، آية: 118. (¬2) سورة العنكبوت، الآية: 43. (¬3) أعلام الموقعين، لابن القيم، 1/ 163 - 211، جمع رحمه الله جميع الأمثال في القرآن هناك، وانظر: مفتاح دار السعادة لابن القيم، 1/ 226.

يبكي ويقول: ((لست من العالمين)) (¬1)،ولابد لمن تدبر القرآن أن يجاهد بقلبه وفكره؛ لينال هذا العلم العظيم، وقد قال يحيى بن أبي كثير: ((لا يُنال العلم براحة الجسم)) (¬2)، ولا ينال العلم إلا بهجر اللذات وتطليق الراحة، ولا ينال درجة وراثة النبوة مع الراحة (¬3). ولا شك أن التأمل في القرآن هو: تحديد ناظر القلب إلى معانيه وجمع الفكر على تبصره، وتَعقُّله، وهو المقصود بإنزاله، لا مجرد تلاوته بلا فهم، قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب} (¬4)،وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} (¬5). وينبغي للإنسان أن يبتعد عن مفسدات القلب الخمسة التي تحول بينه وبين التدبر، وتحول بينه وبين كل خير، وهي: التمنّي، وخلطة الناس، والتعلق بغير الله تعالى، وكثرة الطعام أو المحرمات، وكثرة النوم؛ فإنها مفسدات للقلوب (¬6). والتدبر للقرآن والعمل به هو المقصود من إنزاله. ولهذا قيل: ذهاب الإسلام على يدي أربعة أصناف من الناس: صنف لا يعملون بما يعلمون، وصنف يعملون بما لا يعلمون، وصنف لا يعملون ولا ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة، لابن القيم، 1/ 226. (¬2) صحيح مسلم، برقم 175 - (612) .. (¬3) ابن القيم، في مفتاح دار السعادة، 1/ 446. (¬4) سورة ص، الآية: 29. (¬5) سورة الزخرف، الآية: 3. (¬6) انظر: مدارج السالكين لابن القيم، 1/ 451 - 459.

السبب الخامس والثلاثون: تحسين القراءة بالقرآن وترتيله

يعلمون، وصنف يمنعون الناس من التعلم (¬1). وليحذر المسلم من هجر القرآن؛ فإن هجرهُ خمسة أنواع: النوع الأول: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه. النوع الثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به. النوع الثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه. النوع الرابع: هجر تدبُّره وتفهّمه، ومعرفة ما أراد المتكلم به منه. النوع الخامس: هجر الاستشفاء به والتداوي به من جميع أمراض القلوب، والأجساد ... وكل هذا داخل في قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (¬2)، وإن كان بعض الهجر أهون من بعض (¬3). السبب الخامس والثلاثون: تحسين القراءة بالقرآن وترتيله: مما يجلب الخشوع في الصلاة تحسين القراءة بالقرآن، والترنم بذلك، وترتيله، ومن الأفضل والأكمل أن يستاك عند قراءة القرآن؛ لحديث علي - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن العبد إذا تسوَّك ثم قام يصلي قام الملك خلفه فيستمع لقراءته، فيدنو منه - أو كلمة نحوها - حتى يضع فاه على فيه، فما يخرج من فيه شيء من القرآن إلا صار في جوف الملك، فطهّروا أفواهكم للقرآن)) (¬4). ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة، لابن القيم، 1/ 490. (¬2) سورة الفرقان، الآية: 30. (¬3) انظر: الفوائد لابن القيم، ص5، ص6، ص156، وتفسير السعدي، 2/ 112، و 7/ 80. (¬4) أخرجه البزار، ص60 وقال: لا نعلمه عن علي بأصح من هذا الإسناد، قال الألباني: ((قلت: وإسناده جيد، رجاله رجال البخاري، وفي الفضل كلام لا يضر، وقال المنذري في الترغييب والترهيب: رواه البزار بإسناد جيد لا بأس به، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 91، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة، 3/ 314، برقم 1213.

أولا: يحسن صوته بقراءة القرآن الكريم

وعن علي - رضي الله عنه - قال: ((إن أفواهكم طرق القرآن فطيّبوها بالسواك)) (¬1). والقارئ للقرآن إذا تأدَّب بآدابه حصل له الخشوع في صلاته، وقراءته، ومن هذه الآداب الآداب الآتية: أولاً: يُحسّن صوته بقراءة القرآن الكريم، ويترنَّم به؛ للأحاديث الآتية: 1 - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما أَذِنَ (¬2) الله لشيءٍ ما أذِنَ لنبيّ أن يتغنَّى (¬3) بالقرآن))، ولفظ مسلم: ((ما أذِنَ الله لشيء ما أذِنَ لنبيّ حَسَن الصوت يتغنّى بالقرآن))، وفي لفظ لمسلم: ((ما أذِنَ الله لشيءٍ ما أذِنَ لنبيٍّ يتغنَّى بالقرآن يجهر به)) (¬4). 2 - حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال له: ((يا أبا موسى لقد أوتيت مزماراً من مزامير (¬5) آل داود))، وفي لفظٍ لمسلم: ((لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة؟ لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود)) (¬6). ¬

(¬1) ابن ماجه، كتاب الطهارة وسننها، باب السواك، برقم 291، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 53، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1213. (¬2) ما أذن الله: ما استمع الله لشيء ما استمع لنبي يتغنى بالقرآن. [شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 325، وجامع الأصول لابن الأثير، 2/ 485]. (¬3) يتغنى بالقرآن: يحسن صوته به، يجهر به. [شرح النووي، 6/ 326]. قال الحافظ ابن حجر في الفتح، 7/ 71: ((والمعروف عند العرب: أن التغني الترجيع بالصوت)). (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب من لم يتغنَّ بالقرآن، برقم 5053، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، برقم 792. (¬5) مزمار: قال النووي رحمه الله: ((المراد بالمزمار هنا: الصوت الحسن، وأصل الزمر الغناء، وآل داود: هو داود نفسه، وآل فلان قد يطلق على نفسه، وكان داود حسن الصوت جداً)). [شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 328]. (¬6) متفق عليه: البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب حسن الصوت بالقراءة للقرآن، برقم 5048، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، برقم 793.

3 - حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((زيّنوا القرآن بأصواتكم)) (¬1). قال الإمام النووي رحمه الله: ((قال القاضي: أجمع العلماء على استحباب تحسين الصوت بالقراءة، وترتيلها، قال أبو عبيد: والأحاديث في ذلك محمولة على التحزين والتشويق)) (¬2) (¬3). 4 - حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن)) (¬4). 5 - حديث أبي لبابة، قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن))، فقيل لابن أبي مليكة: يا أبا محمد أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت؟ قال: يحسّن ما استطاع (¬5). ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب استحباب الترتيل في القراءة، برقم 1468، والنسائي، كتاب الصلاة، باب تزيين القرآن بالصوت، برقم 1016،وصححه الألباني في صحيح أبي داود،1/ 404. (¬2) قال: (( ... واختلفوا في القراءة بالألحان: فكرهها مالك والجمهور؛ لخروجها عما جاء القرآن له من الخشوع، والتفهُّم، وأباحها أبو حنيفة وجماعة من السلف؛ للأحاديث؛ ولأن ذلك سبب للرقة وإثارة الخشية، وإقبال النفوس على استماعه، قلت [القائل النووي] قال الشافعي في موضع: أكره القراءة بالألحان، وقال في موضع: لا أكرهها، قال أصحابنا: ليس له فيها خلاف وإنما هو اختلاف حالين: فحيث كرهها: أراد إذا مطَّط وأخرج الكلام عن موضعه، أو مدَّ غير ممدود، وإدغام ما لا يجوز إدغامه، ونحو ذلك، وحيث أباحها: إذا لم يكن فيها تغيير لموضوع الكلام، والله أعلم)). [شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 328] وانظر: فتح الباري لابن حجر، 7/ 72. (¬3) شرح النووي، 6/ 328. (¬4) أبو داود، كتاب الصلاة، باب استحباب الترتيل في القراءة، برقم 1469، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 404. (¬5) أبو داود، كتاب الصلاة، باب استحباب الترتيل في القراءة، برقم 1471، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 405: ((حسن صحيح)).

ثانيا: يرتل القرآن ترتيلا

وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يقول: ((والتغنّي بالقرآن: يجهر به ويُحسّن به صوته حتى يستفيد هو ويستفيد الناس، فالمؤمن يجاهد نفسه يخشع ويُخشّع من حوله، ((ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن))،وهذا يدل على الوعيد لمن لم يتغن بالقرآن، وهو مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من غشنا فليس منّا)) فيه الوعيد الشديد لمن لم يتغنَّ بالقرآن؛ لأن الله أنزل القرآن للتدبر والعمل {ليدّبروا آياته} ولم يقل: ليقرؤوا، فقليل بتدبر خير من كثير بلا تدبر)) (¬1). 6 - حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ: {وَالتّينِ وَالزَّيْتُون} في العشاء، وما سمعت أحداً أحسن صوتاً منه، أو قراءةً))، وفي لفظ عن عديٍّ، قال: سمعت البراء يُحدّث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان في سفر فصلَّى العشاء الآخرة فقرأ في إحدى الركعتين: {وَالتّينِ وَالزَّيْتُون})) (¬2) (¬3). ثانياً: يُرتّل القرآن ترتيلاً؛ لقول الله تعالى: {وَرَتّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} (¬4). والترتيل مصدر رتّل الكلام: أحسن تأليفه. وهو في الاصطلاح: قراءة القرآن على مُكثٍ، وتفهّمٍ من غير عجلةٍ، وهو الذي نزل به القرآن. فيقرأ القرآن: بِتَلَبُّثٍ في قراءتِهِ، وتمهّلٍ فيها، ويفصل الحرف عن ¬

(¬1) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 5023. (¬2) سورة التين، الآية: 1. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب الجهر في العشاء، برقم 767، وفي باب القراءة في العشاء، برقم 769، وفي كتاب التفسير، باب حدثنا حجاج، برقم 4952، وفي كتاب التوحيد، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، وزينوا لقرآن بأصواتكم))، برقم 7546، ومسلم، كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء برقم 464. (¬4) سورة المزمل، الآية 40.

الحرف الذي بعده، وفي ذلك عون على تدبُّرِ القرآن وتفهُّمِهِ، ومرتبة الترتيل أفضل مراتب القراءة. وعن أنس - رضي الله عنه -، قال قتادة: سألت أنس بن مالك عن قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: كان يمدُّ مداًّ: ثم قرأ: {بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيم} يمدّ ((بسم الله))، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم (¬1) (¬2). وعن أم سلمة رضي الله عنها أنها ذكرت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيم * الْحَمْدُ لله رَبّ الْعَالَمِين * الرَّحْمنِ الرَّحِيم * مَلِكِ يَوْمِ الدّين. يُقطّع قراءته آية آية. قال أبو داود: ((سمعت أحمد يقول: ((القراءة القديمة مالك يوم الدين))، ولفظ الترمذي: ((الْحَمْدُ لله رَبّ الْعَالَمِين))، ثم يقف ((الرَّحْمنِ الرَّحِيم)) ثم يقف ... )) (¬3). وعن عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح يُرجّع)) (¬4)، وقال: لولا أن يجتمع الناس ¬

(¬1) قال ابن حجر في فتح الباري، 9/ 91: ((المدّ عند القراءة على ضربين: أصلي وهو إشباع الحرف الذي بعده: ألف، أو واو، أو ياء، وغير أصلي، وهو ما إذا أعقب الحرف الذي هذه صفته همزة: وهو متصل ومنفصل، فالمتصل ما كان من نفس الكلمة، والمنفصل ما كان بكلمة أخرى، فالأول يؤتى فيه: بالألف، والواو، والياء ممكنات من غير زيادة، والثاني يزاد في تمكين الألف والواو، والياء، زيادة على المد الذي لا يمكن النطق بها إلا به من غير إسراف، والمذهب الأعدل أنه يمدَّ كل حرف منها ضعفي ما كان يمد أولاً، وقد يزاد على ذلك قليلاً، وما فرط فيه فهو غير محمود، والمراد من الترجمة الضرب الأول)). قلت: الضرب الأول: المد الطبيعي الأصلي ضابطه في المد يمد حركتين كل حركة بمقدار قبض الإصبع أو بسطها، والضرب الثاني المد غير الأصلي وهو نوعان: متصل يمد أربع حركات ومنفصل: يمد أربع حركات كذلك ويجوز قصره فيمد حركتين. (¬2) البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب مدّ القراءة، برقم 5045، 5046. (¬3) أبو داود، كتاب الحروف والقراءات، برقم 4001، والترمذي، كتاب القراءة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب في فاتحة الكتاب، برقم 2927، وأحمد، 6/ 302، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 493، وصحيح سنن الترمذي، 3/ 169. (¬4) الترجيع: هو تقارب ضروب الحركات في القراءة، وأصله الترديد، وترجيع الصوت ترديده في الحلق، وقد فسره، لفظ معاوية بن قرة (آاْ أ) قال الحافظ في الفتح: ((بهمزة مفتوحة بعدها ألف ساكنة ثم همزة أخرى))، وقيل: يحتمل أن هذا حصل من هز الناقة، وقيل: يحتمل أنه أشبع المد في موضعه فحدث ذلك. قال الحافظ ابن حجر: ((وقد ثبت الترجيع في غير هذا الموضع فأخرج الترمذي في الشمائل، والنسائي، وابن ماجه، وابن أبي داود واللفظ له من حديث أم هانئ قالت: كنت أسمع صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ وأنا نائمة على فراشي يرجّع القرآن))،والذي يظهر أن في الترجيع قدراً زائداً على الترتيل، فعند ابن أبي داود من طريق أبي إسحاق عن علقمة قال: ((بتُّ مع عبد الله بن مسعود، فنام ثم قام، فكان يقرأ قراءة الرجل في مسجد حيه لا يرفع صوته ويسمع من حوله ويرتل ولا يرجع))،وقيل: ((معنى الترجيع تحسين التلاوة لا ترجيع الغناء؛ لأن القراءة بترجيع الغناء تنافي الخشوع الذي هو مقصود التلاوة)) [فتح الباري لابن حجر،9/ 92]. ولكن رأى شيخنا ابن باز في قول معاوية بن قرة (آاْآ) أن هذا الظاهر فيه أنه وهم من بعض الرواة في تفسير الترجيع؛ لأن هذه الأحرف لا تدل على معنى، والمقصود من ترديد القراءة الفائدة والخشوع، فالترجيع: هو ترديد القراءة))، وقال رحمه الله: ((معنى ترجيع القراءة: أي ترديد القراءة {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا. إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا. إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} للخشوع والتدبر وهذا هو معنى الترجيع في القراءة، وكان - صلى الله عليه وسلم - يسرد القراءة إلا في بعض الأحوال، وقد قام ليلة بآية: {إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} فالترجيع سنة عند الحاجة فقط)). [سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 4281.

حولي لرجَّعت كما رجَّع))، وفي لفظ للبخاري: ((رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ وهو على ناقته أو جمله، وهي تسير به وهو يقرأ سورة الفتح أو من سورة الفتح قراءة ليّنة يقرأ وهو يرجع))، وفي رواية: (( ... ثم قرأ معاوية [بن قرة] يحكي قراءة ابن مغفل، وقال: لولا أن يجتمع الناس عليكم، لرجَّعت كما رجع ابن مغفل يحكي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت لمعاوية كيف كان ترجيعه؟ قال: آآ آثلاث مرات)) (¬1)، وفي الحديث ملازمة النبي - صلى الله عليه وسلم - للعبادة؛ لأنه حالة ركوبه الناقة وهو يسير لم يترك العبادة بالتلاوة، وفي جهره بذلك إرشاد إلى أن الجهر بالعبادة قد يكون في بعض المواضع ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب المغازي، باب ركز النبي - صلى الله عليه وسلم - الراية يوم الفتح، برقم 4281، وكتاب فضائل القرآن، باب الترجيع، برقم 5047، ورقم 7540، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب ذكر قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - سورة الفتح يوم فتح مكة، برقم 794.

أفضل من الإسرار، وهو عند التعليم وإيقاظ الغافل ونحو ذلك (¬1). وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رجلاً قرأ المفصل في ركعة، فقال له: ((هذّاً كهذّ الشعر؟ لقد عرفت النظائر التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرن بينهن، فذكر عشرين سورة من المفصل: سورتين من آل حم في كل ركعة (¬2)، وفي لفظ: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأهن اثنتين اثنتين في كل ركعة))، وقال: ((عشرون سورة من أول المفصل على تأليف ابن مسعود آخرهن من الحواميم ((حم)) الدخان، و ((عم يتساءلون)) (¬3)، وفي لفظ لمسلم: ((عشرون سورة في عشر ركعات من المفصل في تأليف عبد الله)) (¬4)، وفي لفظ لمسلم: (( ... هذاً كهذ الشعر، إن أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع، وإنَّ أفضل الصلاة: الركوع والسجود، إني لأعلم النظائر التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرن بينهن)) (¬5). فيستحب للقارئ التالي لكتاب الله تعالى أن يرتل وهذا هو الأفضل أن يرتّل، ولا بأس بالسرعة التي ليس فيها إخلال باللفظ: بإسقاط بعض الحروف، أو إدغام ما لا يصح إدغامه، وهذه قراءة الحدر: وهو إدراج القراءة وسرعتها، ولابد فيه من مراعاة أحكام التجويد: من المدّ، والتشديد، والقطع، والوصل؛ وليحذر فيه من بتر حرف المد، وذهاب الغنة. ¬

(¬1) فتح الباري لابن حجر، 9/ 92. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الآذان، باب الجمع بين السورتين في ركعة والقراءة بالخواتيم، وبسورة قبل سورة، وبأول سورة، برقم 775، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب ترتيل القرآن واجتناب الهذّ، برقم 275 - (722). (¬3) البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن، برقم 4996، ورقم 5053. (¬4) مسلم، برقم 276 - (722)، وتقدم. (¬5) مسلم، برقم275 - (722) وتقدم.

ثالثا: إذا مر بآية رحمة سأل الله من فضله

فإن حصل إخلال باللفظ في هذه القراءة فهي حرام؛ لأنها تغيير للقرآن (¬1). ثالثاً: إذا مرَّ بآية رحمة سأل الله من فضله، وإذا مر بآية عذاب استعاذ بالله تعالى، وإذا مرّ بآية فيها سؤال سأل وهذا في النوافل لا في الفرائض؛ لحديث حذيفة - رضي الله عنه -، قال صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت يركع عند المائة، ثم مضى يُصلّي، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلاً، إذا مرَّ بآية تسبيح سبح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مرّ بتعوذ تعوّذ ... )) (¬2). رابعاً: يجهر بالقرآن ما لم يتأذَّ أحد بصوته: دلت الأحاديث في تحسين الصوت بالقرآن، وفي الترتيل والترنيم بالقرآن، والتغنّي به على استحباب رفع الصوت والجهر بالقرآن، كما دلت أحاديث أخرى على الحث على الإسرار بالقرآن؛ فكانت الأحاديث في ذلك على نوعين: النوع الأول: استحباب الجهر برفع الصوت بالقرآن: جاء في هذا النوع من الأحاديث المذكورة آنفاً في الأمر بتزيين الصوت بالقرآن وتحسينه، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنَّى بالقرآن يجهر به)) (¬3)، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي موسى: ((لقد رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة؟ لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود)) (¬4)،وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((زينوا القرآن بأصواتكم)) (¬5).وغير ذلك مما تقدم في ¬

(¬1) انظر: مجالس شهر رمضان، للعثيمين، ص153. (¬2) مسلم، برقم 772، وتقدم تخريجه في التدبر للقرآن. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم 5053، ومسلم، برقم 792، وتقدم في الأدب الثامن: تحسين الصوت بالقرآن. (¬4) متفق عليه: البخاري برقم 5048، ومسلم، برقم 793. وتقدم في الأدب الثامن. (¬5) أبو داود، برقم 468، والنسائي، برقم 1016، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 404، وتقدم في الأدب الثامن.

النوع الثاني: الجهر بالقراءة وإخفاؤها:

الترغيب في تحسين الصوت بالقراءة، وعن أبي موسى - رضي الله عنه -،قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لأعرف أصوات رُفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل وإن كنت لم أرَ منازلهم حين نزلوا بالنهار ... )) (¬1). وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول: ((كان لهم أصوات حسنة بالقرآن - رضي الله عنهم -)) (¬2). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أبطأتُ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة بعد العشاء، ثم جئتُ فقال: ((أين كنتِ؟))، قلت: كنت أستمع قراءة رجل من أصحابك لم أسمع مثل قراءته وصوته من أحدٍ، قالت: فقام وقمت معه حتى استمع له، ثم التفت إليَّ فقال: ((هذا سالم مولى أبي حذيفة، الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا)) (¬3). وعن جابر - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن من أحسن الناس صوتاً بالقرآن الذي إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله)) (¬4). وفي إثبات الجهر بالقرآن أحاديث كثيرة. النوع الثاني: الجهر بالقراءة وإخفاؤها: جاء في ذلك أحاديث منها حديث عقبة بن عامر الجهني - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمُسِرُّ بالقرآن كالمسر بالصدقة)) (¬5). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، برقم 4232، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأشعريين - رضي الله عنهم -، برقم 2499. (¬2) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 4232. (¬3) ابن ماجه، كتاب إقامة الصلوات، بابٌ في حسن الصوت بالقرآن، برقم 1338، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 398. (¬4) ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، بابٌ في حسن الصوت بالقرآن، برقم 1339، وصححه الألباني، في صحيح ابن ماجه، 1/ 398. (¬5) أبو داود، كتاب الصلاة، باب في رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل، برقم 1333، والترمذي، كتاب ثواب القرآن، باب حدثنا محمود بن غيلان، برقم 2919، والنسائي، كتاب الزكاة، باب المسر بالصدقة، برقم 2561،وصححه الألباني، في صحيح سنن أبي داود، 1/ 365، وفي صحيح سنن الترمذي،3/ 166،وفي غيرهما.

وعن أبي سعيد - رضي الله عنه -، قال: اعتكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر وقال: ((ألا إن كُلَّكم مناجٍ ربَّه فلا يؤذينَّ بعضكم بعضاً ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة))،أو قال: ((في الصلاة)) (¬1). فعلى هذا دلت الأحاديث على النوعين: فجاءت الأحاديث في النوع الأول باستحباب رفع الصوت بالقراءة، والآثار في ذلك عن الصحابة والتابعين: من أقوالهم، وأفعالهم أكثر من أن تُحصر، وأشهر من أن تُذكر (¬2). وجاء في النوع الثاني أحاديث وآثار تدل على استحباب الإسرار وخفض الصوت بالقراءة. والجمع بين هذين النوعين: أن القارئ إذا خاف الرياء، أو السمعة، أو يتأذَّى مصلون، أو نيام بجهره، أو خاف إعجاباً، أو يلبَّس على من يقرأ أو غير ذلك من أنواع القبائح فالإسرار بالقراءة والإخفاء بها أفضل. أما من لم يخفْ شيئاً من ذلك فالجهر بالقراءة له أفضل، ويستحب له ذلك؛ لأن العمل في الجهر أكثر؛ ولأن فائدته تتعدَّى للسامعين؛ ولأنه يوقظ قلب القارئ، ويجمع همه إلى الفكر، ويصرف سمعه إلى التدبر، ويطرد النوم ويزيد في النشاط، ويطرد الشيطان، فإن كانت القراءة بحضور من يستمع إليه، تأكد استحباب الجهر (¬3). ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب في رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل، برقم 1332. (¬2) انظر: التبيان للإمام النووي، ص86. (¬3) انظر: التبيان في آداب حملة القرآن، للنووي، ص2 - 87، وآداب تلاوة القرآن وتأليفه للحافظ جلال الدين السيوطي المتوفى 911هـ، المطبوع مع أخلاق حملة القرآن لمحمد بن الحسين الآجري، المتوفى، 360هـ، ص110.

السبب السادس والثلاثون: سجود التلاوة في الصلاة:

قلت: ويدل على هذا الجمع حديث عبد الله بن أبي قيس رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها أنه سألها في حديث طويل، وفيه أنه سألها عن قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ... فقلت: كيف كانت قراءته: أكان يسر بالقراءة أم يجهر؟ قالت: ((كل ذلك قد كان يفعل: قد كان ربما أسر، وربما جهر))، قال: فقلت: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعةً ... )) (¬1). وعن أبي قتادة - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر: ((يا أبا بكر مررت بك وأنت تصلّي تخفض صوتك؟))، قال: قد أسمعت من ناجيتُ يا رسول الله!، قال: ((ارفع قليلاً))، وقال لعمر: ((مررت بك وأنت تصلّي رافعاً صوتك؟))، قال: يا رسول الله أُوقظ الوسنان (¬2)، وأطرد الشيطان! قال: ((اخفض قليلاً)) (¬3). السبب السادس والثلاثون: سجود التلاوة في الصلاة: مما يجلب الخشوع في الصلاة سجود التلاوة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويله [وفي رواية يا ويلي] أُمر ابن آدم بالسجود ¬

(¬1) الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في قراءة الليل، برقم 449، وفي كتاب ثواب القرآن، باب ما جاء كيف كانت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 2924، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب في وتر النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 1437، والنسائي، صلاة الليل، باب كيف القراءة بالليل، برقم 1662، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 395، وفي صحيح سنن الترمذي، 3/ 168، وفي غيرهما. وانظر: أحاديث في الباب: صحيح سنن أبي داود، برقم 1327 - 1333. (¬2) الوسنان: النائم الذي ليس بمستغرق في نومه. [النهاية، 5/ 186]. (¬3) أبو داود، كتاب الصلاة، باب رفع الصوت بالقراءة في الصلاة، برقم 1329، والترمذي كتاب الصلاة، باب ما جاء في القراءة بالليل، برقم 447، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 1/ 254، وفي صحيح سنن أبي داود، 1/ 364.

السبب السابع والثلاثون: المحافظة على سنن الصلاة: القولية والفعلية:

فسجد فله الجنة، وأُمرت بالسجود فأبيت فلي النار)) (¬1)، وهذا الحديث فيه الحث على سجود التلاوة والترغيب فيه. السبب السابع والثلاثون: المحافظة على سنن الصلاة: القولية والفعلية: لا شك أن العمل بسنن الصلاة القولية والفعلية يجلب الخشوع في الصلاة، ويزيد ثوابها، ويرفع درجات صاحبها في الدنيا والآخرة، وهي سنن أقوال وأفعال، ولا تبطل الصلاة بترك شيء منها عمدًا ولا سهوًا، وسنن الصلاة، هي ما عدا الشروط، والأركان، والواجبات (¬2) (¬3). السبب الثامن والثلاثون: ذكر الموت في الصلاة: لا شك أن من دخل في صلاته وهو يذكر الموت، ويخشى أن تكون هذه الصلاة هي أخر صلاةٍ يصلّيها، فإنه سيخشع في صلاته؛ ولهذا أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك؛ فعن أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: عِظْنِي وَأَوْجِزْ؟ فَقَالَ: ((إِذَا قُمْتَ فِي صَلَاتِكَ فَصَلّ صَلَاةَ مُوَدّعٍ، وَلَا تَكَلَّمْ بِكَلَامٍ تَعْتَذِرُ مِنْهُ غَدًا، وَأجْمِعِ الْيَأسَ مِمَّا فِي أيدِي النَّاسِ))، وهذا لفظ أحمد، ولفظ ابن ماجه: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ! اللَّهِ عَلّمْنِي وَأَوْجِزْ، قَالَ: ((إِذَا قُمْتَ فِي صَلَاتِكَ فَصَلّ صَلَاةَ مُوَدّعٍ، وَلَا تَكَلَّمْ بِكَلَامٍ تَعْتَذِرُ مِنْهُ، وَأَجْمِعِ الْيَأْسَ عَمَّا فِي أَيْدِي ¬

(¬1) مسلم، كتاب الإيمان، باب إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة، برقم 81. (¬2) من السنن قبل الدخول في الصلاة: السواك عند كل صلاة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لولا أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة)) متفق عليه: البخاري، برقم 887، ومسلم، برقم 252. ومن السنن قبل الصلاة اتخاذ سترة للإمام والمنفرد؛ لحديث أبي ذر - رضي الله عنه - يرفعه: ((إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل مؤخرة الرحل)) مسلم، برقم 510، وتقدم تخريجه. (¬3) وقد ذكرت ثلاثاً وثلاثين سُنة في هذا الكتاب، في المبحث التاسع عشر في أركان الصلاة وواجباتها وسننها: البند الثالث.

السبب التاسع والثلاثون: الحذر من الغفلة:

النَّاسِ)) (¬1). وعن أنس - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اذْكُر المَوْتَ في صَلاَتِكَ؛ فإِنَّ الرَّجُلَ إذا ذَكَرَ المَوْتَ في صَلاَتِهِ لَحَرِيٌّ أنْ يُحْسِنَ صلاتَهُ، وَصَلّ صلاةَ رَجُلٍ لا يَظُنُّ أنَّهُ يُصَلّي صلاةً غَيْرَها، وإِيَّاكَ وكُلَّ أمْرٍ يُعْتَذَرُ مِنْهُ)) (¬2). السبب التاسع والثلاثون: الحذر من الغفلة: لا شك أن من أسباب الخشوع في الصلاة الحذر من الغفلة؛ فإن الغفلة من أسباب الخذلان والهلاك في الدنيا والآخرة؛ والغفلة: تركٌ باختيار الغافل، وأما النسيان فهو: تركٌ بغير اختيار الإنسان، والسلامة منهما بالذكر، وهو التخلّص من الغفلة والنسيان (¬3)؛ ولعظم خطر الغفلة نهى الله تعالى رسوله عنها فقال: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} (¬4)، والغافلون هم الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم؛ فإنهم حُرِموا خير الدنيا والآخرة، وأعرضوا عن من كلّ السعادة والفوز بذكره، وعبوديَّته، وأقبلوا على من كلّ الشقاوة والخيبة في الاشتغال به (¬5). ومن أعظم خطر الغفلة أن من غفل عن الله عاقبه بأن يُغفله عن ذكره، ويجعله يتبع هواه، ويكون أمره ضائعاً معطلاً (¬6)، قال الله تعالى: ¬

(¬1) أحمد، 5/ 412، وفي المحقق، 38/ 484، برقم 23498، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب الحكمة، برقم 4171، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه، 3/ 364، وفي سلسة الأحاديث الصحيحة، برقم 401. (¬2) أخرجه الديلمي في مسند الفردوس، 1/ 26/2، كما قاله الألباني، وحسنه الألباني في سلسة الأحاديث الصحيحة في المجلد السادس، القسم الثاني، 6/ 820، برقم 2839، وفي المجلد الثالث، ص 408، برقم 1421. (¬3) أنظر: مدارج السالكين، لابن القيم، 2/ 434، وكتاب الغفلة للمؤلف، ص8. (¬4) سورة الأعراف، الآيتان: 205. (¬5) تيسير الكريم الرحمن للسعدي، ص314. (¬6) انظر: كتاب الغفلة للمؤلف، ص15.

السبب الأربعون: الاستجابة لله ولرسوله مع العلم أن الله يحول الله بين المرء وقلبه:

{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (¬1)، وأكثر الناس يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، ويغفلون عن الله والدار الآخرة، قال الله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (¬2). السبب الأربعون: الاستجابة لله ولرسوله مع العلم أن الله يحول الله بين المرء وقلبه: لا شك أن من أسباب الخشوع في الصلاة الاستجابة لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - مع الخوف من أي يحول الله بين العبد وقلبه، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (¬3)، فالله تعالى يأمر عباده المؤمنين بالاستجابة له ولرسوله، والانقياد والمبادرة إلى ذلك، والاجتناب لما نهى عنه الله ورسوله، والدعوة إلى ذلك؛ لأن حياة القلب والروح بعبوديته تعالى، ولزوم طاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ ولهذا حذّر عن عدم الاستجابة لله ولرسوله فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} فإياكم أن تردُّوا أمر الله أول ما يأتيكم، فيحال بينكم وبينه إذا أردتموه بعد ذلك، وتختلف قلوبكم؛ فإن الله يحول بين المرء وقلبه، يقلّب القلوب حيث شاء، ويصرّفها كيف شاء (¬4). فينبغي للعبد أن يسأل الله أن يصرّف قلبه على طاعته؛ لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ))، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللَّهُمَّ مُصَرّفَ الْقُلُوبِ صَرّفْ قُلُوبَنَا ¬

(¬1) سورة الكهف، الآية: 28. (¬2) سورة الروم، الآيتان: 6 - 7. (¬3) سورة الأنفال، الآية: 24. (¬4) أنظر: تيسير الكريم الرحمن للسعدي، ص318.

السبب الحادي والأربعون: سؤال الله تعالى الخشوع في الصلاة:

عَلَى طَاعَتِكَ)) (¬1). وفي حديث أمّ سلمة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما يكون عندها- كَانَ أَكْثَرُ دُعَائِهِ: ((يَا مُقَلّبَ الْقُلُوبِ ثَبّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)) قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لأَكْثَر دُعَائِكَ: يَا مُقَلّبَ الْقُلُوبِ ثَبّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ؟ قَالَ: ((يَا أُمَّ سَلَمَةَ إِنَّهُ لَيْسَ آدَمِيٌّ إِلَّا وَقَلْبُهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ، فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَزَاغَ))، فَتَلَا مُعَاذٌ: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} (¬2). السبب الحادي والأربعون: سؤال الله تعالى الخشوع في الصلاة: من الأسباب العظيمة التي تجلب الخشوع في الصلاة أن يسأل العبد ربه، ويتضرع إليه بسؤاله التوفيق للخشوع الذي يحبه اللَّه سبحانه في الصلاة، قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (¬3)، وقال - عز وجل -: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (¬4). وعن أبي سعيد - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ، وَلاَ قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلاَّ أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلاَثٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلِهَا))، قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ؟ قَالَ: ((اللَّهُ أَكْثَرُ)) (¬5). ¬

(¬1) مسلم، كتاب القدر، باب تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء، برقم 2654. (¬2) الترمذي بلفظة كتاب الدعوات، باب دعاء يا مقلب القلوب، برقم 3522، وحسنه، وأحمد، 4/ 182، والحاكم، 1/ 525، 528،وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع، 6/ 309، وفي صحيح الترمذي، 3/ 171. (¬3) سورة البقرة، الآية: 186. (¬4) سورة غافر، الآية: 60. (¬5) البخاري في الأدب المفرد، برقم 710، والحاكم، 1/ 493، وأحمد، 3/ 18، والترمذي، بنحوه، في كتاب الدعوات، بابٌ في انتظار الفرج، برقم 3575، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 467.

السبب الثاني والأربعون: العلم بأن العبد ليس له من صلاته إلا ما عقل منها:

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ)) (¬1). السبب الثاني والأربعون: العلم بأن العبد ليس له من صلاته إلا ما عقل منها: من الأسباب التي تُعينُ على الخشوع في الصلاة: أن يعلم العبد المسلم أنه ليس له من صلاته إلا ما أقبل عليه بقلبه؛ لحديث عمّار بن ياسر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ وَمَا كُتِبَ لَهُ إِلَّا عُشْرُ صَلَاتِهِ، تُسْعُهَا، ثُمْنُهَا، سُبْعُهَا، سُدْسُهَا، خُمْسُهَا، رُبْعُهَا، ثُلُثُهَا، نِصْفُهَا)) (¬2). وعن كعب بن عمرو السلمي - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مِنْكُمْ مَنْ يُصَلّي الصَّلَاةَ كَامِلَةً، وَمِنْكُمْ مَنْ يُصَلّي النّصْفَ، وَالثُّلُثَ، وَالرُّبُعَ، حَتَّى بَلَغَ الْعُشْرَ)) (¬3). وقال ابن عباس: ((ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها)) (¬4). السبب الثالث والأربعون: معرفة خشوع النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته: مما يُعين على الخشوع في الصلاة ويجلبه معرفة ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الخشوع في الصلاة؛ وقد كانت الصلاة قرّة عينه، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((حُبّبَ إِلَيَّ النّسَاءُ، وَالطّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي ¬

(¬1) الترمذي، كتاب الدعوات، باب رقم2، برقم 3373، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 384. (¬2) أبو داود، برقم 796، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 226، وتقدم تخريجه في التحذير من ترك الخشوع في الصلاة. (¬3) أحمد، 24/ 280، برقم 15522، والنسائي في الكبرى، برقم 616، 1/ 316، وحسنه الألباني لغيره، في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 352. (¬4) تقدم تخريجه، في حكم الخشوع في الصلاة.

السبب الرابع والأربعون: معرفة خشوع الصحابة والتابعين وأتباعهم رحمهم الله:

فِي الصَّلَاةِ)) (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لبلال: ((قُمْ يَا بِلالُ فَأَرِحْنَا بِالصَّلاَةِ))، وفي لفظ: ((يَا بِلاَلُ أَقِمِ الصَّلاةَ أَرِحْنَا بِهَا)) (¬2). وقد كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا قام في الصلاة طأطأ رأسه، ورمى ببصره نحو الأرض موضع السجود، وكان في التشهد لا يجاوز بصره إشارته، هكذا ذُكِرَ عنه - صلى الله عليه وسلم - (¬3) (¬4). السبب الرابع والأربعون: معرفة خشوع الصحابة والتابعين وأتباعهم رحمهم الله: المتأمل بتفكّرٍ في خشوع السلف الصالح في صلاتهم يزيده ذلك خشوعاً؛ لما يرى ويعلم من خشوعهم العظيم الذي يدل على إحسانهم في صلاتهم، وأنهم يعبدون الله كأنهم يرونه، وهذه هي الدرجة العظمى من الإحسان في العبادة. فهذا أبو بكر - رضي الله عنه - يبكي في صلاته كما ذكرت عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا (¬5). وهذا عمر الفاروق يُقتل وهو يُصلّي، ثم أغمي عليه، وعندما أفاق قال: ((هل صلَّى الناس؟))، فسأل: عن الصلاة قبل أن يسأل عمن قتله؟ (¬6). وذاك سعد بن معاذ إذا صلى لا يحدث نفسه بغير ما هو فيه من صلاته (¬7). ¬

(¬1) النسائي، برقم 3940، وأحمد، برقم 12293، 13057، وتقدم تخريجه في: ((الصلاة بخشوع قرة للعين وراحة للقلب)). (¬2) أبو داود، برقم 4985، 4986، وأحمد في المسند، برقم 23154، وتقدم تخريجه في المبحث العاشر. (¬3) تقدم تخريجه في النظر إلى موضع السجود، وإلى السبابة في التشهد، في السبب الثالث والثلاثين. (¬4) وانظر: خشوع النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته من هذا الكتاب، ص 297. (¬5) انظر: صحيح البخاري، برقم 713، 679، ومسلم، برقم 418، وتقدم تخريجه في المبحث الخامس عشر. (¬6) انظر: كتاب الصلاة لابن القيم، ص26 وتقدم تخريجه في المبحث الخامس عشر. (¬7) انظر: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 22/ 605، وتقدم في المبحث الخامس عشر.

السبب الخامس والأربعون: العلم بما ثبت في التحذير من ترك الخشوع، وما ثبت من الترغيب في الخشوع:

وهذا التابعي الجليل عروة بن الزبير يأمر الأطباء بقطع رجله في الصلاة؛ لأنه لا يشعر بذلك؛ لتعلق قلبه بالله ومناجاته (¬1). وهذا الإمام البخاري يلسعه الزنبور في سبعة عشر موضعاً من جسده تحت ثوبه ولم ينصرف من صلاته، ولم ينظر حتى سلَّم من صلاته (¬2)، وغير ذلك كثير (¬3). فمن نظر في خشوع السلف الصالح في صلاتهم جلب له ذلك الخشوع إن كان قلبه سليماً. السبب الخامس والأربعون: العلم بما ثبت في التحذير من ترك الخشوع، وما ثبت من الترغيب في الخشوع: مما يُعين على الخشوع معرفة ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من التحذير من ترك الخشوع في الصلاة وسرقتها، والعلم بما ثبت من فضائل الخشوع وفوائده، ومن ذلك على سبيل الإيجاز والاختصار ما يأتي: أولاً: ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إخباره بأن أشدّ الناس سرقة الذي يسرق صلاته، فلا يتم ركوعها ولا سجودها (¬4)، وأن الله لا ينظر إلى صلاة عبدٍ لا يُقيم فيها صلبه بين ركوعه وسجوده (¬5)، وإن مات وهو لا يُتمّ ركوعه، وينقر في سجوده مات على غير ملة محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬6)، وقد يُصلّي المرء ستين سنة وما قَبِلَ اللَّهُ منه صلاة واحدة؛ لعله يتم الركوع ولا يتم ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية لابن كثير، 9/ 102 - 103، وتقدم في المبحث الخامس عشر. (¬2) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 12/ 442، ومقدمة فتح الباري لابن حجر، ص480. (¬3) وقد ذكرت نماذج كثيرة من خشوع السلف الصالح في هذا الكتاب، ص 305، والله الموفق. (¬4) أحمد، برقم 22642، وابن خزيمة، برقم 663 وتقدم تخريجه في: التحذير من ترك الخشوع في الصلاة. (¬5) أحمد، برقم 16283، وغيره، وتقدم تخريجه في: التحذير من ترك الخشوع في الصلاة. (¬6) الطبراني في الكبير، برقم 3840، وابن خزيمة، برقم 665، وتقدم تخريجه في: التحذير من ترك الخشوع في الصلاة.

السبب السادس والأربعون: فهم وتدبر معاني أفعال الصلاة يجلب الخشوع فيها:

السجود، ويتم السجود ولا يتم الركوع (¬1). ثانياً: الخشوع في الصلاة له فضائل عظيمة، فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن من صلى ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدم من ذنبه (¬2)، وأن من أحسن الوضوء ثم صلَّى ركعتين مقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة (¬3)، وجاء في القرآن الكريم أن الفوز والفلاح، والسعادة في الدنيا والآخرة للخاشعين في صلاتهم (¬4)، وغير ذلك من الفضائل والفوائد العظيمة (¬5). السبب السادس والأربعون: فهمُ وتدبُّر معاني أفعال الصلاة يجلب الخشوع فيها: لا شك أن من تدبَّر معاني أفعال الصلاة خشع في صلاته، ومن ذلك تدبّر الأفعال الآتية: أولاً: فهم وَتّدّبُّر معنى القيام في الصلاة، فقد قال الله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬6)، فإذا انتصب العبد قائماً لله في صلاته بين يديه سبحانه فليشاهد بقلبه قيُّوميته تعالى (¬7)، ويذكر أنه إذا أحسن هذا الوقوف في الصلاة في الدنيا سهُل عليه الوقوف أمام الله يوم القيامة، وإذا استهان بهذا الوقوف، ولم يُوفّه حقه شُدّد عليه الوقوف يوم القيامة (¬8)، ومن مقتضى هذا القيام أن يقبل على لله بقلبه وجسده، فلا ¬

(¬1) الأصبهاني في الترغيب والترهيب، برقم 1895، وتقدم تخريجه. (¬2) البخاري، برقم 136، ومسلم، برقم 246، وتقدم تخريجه. (¬3) مسلم، برقم 234، وتقدم تخريجه. (¬4) انظر: سورة المؤمنون: 1 - 2. (¬5) انظر: فضائل الخشوع في الصلاة. (¬6) سورة البقرة، الآية: 238. (¬7) انظر: كتاب الصلاة لابن القيم، ص117. (¬8) الفوائد لابن القيم، ص435.

يلتفت: لا بقلبه، ولا ببصره، ولا جسده (¬1). ثانياً: فهم وتدبر معنى رفع الأيدي في الصلاة حذو المنكبين أو حذو الأذنين في أربعة مواضع: إذا كبّر تكبيرة الإحرام، وإذا كبّر للركوع، وإذا رفع من الركوع، وإذا قام من الركعتين - أي من التشهد الأول - يرفعهما كما صنع عند الافتتاح، وهذا هو السنة. والحكمة في ذلك: اتبّاع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويضاف إلى ذلك من الحكم: أن رفع اليدين في تكبيرة الإحرام فيه الإشارة إلى رفع حجاب الغفلة بينك وبين الله، وفي غير تكبيرة الإحرام إعظاماً لله. وقال بعضهم: إنها استسلام لله وانقياد له تعالى، كالأسير المستسلم. وقال بعضهم: نفي الكبرياء عن غير الله. وقال بعضهم: زينة للصلاة، وعلى كل حال: فهو اتبّاع للسنة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2)؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبّر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع، ولا يفعله حين يرفع رأسه من السجود. وفي لفظ: ((وإذا قام من الركعتين رفع يديه)) (¬3)، وفي حديث مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا كبر رفع يديه حتى يُحاذيَ بهما أذنيه، وإذا ركع رفع يديه حتى يحاذيَ بهما أذنيه، وإذا رفع رأسه من الركوع فقال: ((سمع الله لمن حمده))، فعل مثل ذلك، وفي لفظ لمسلم: ((حتى يحاذي بهما فروع أذنيه)) (¬4). ¬

(¬1) انظر: الخشوع في الصلاة، لابن رجب، ص22. (¬2) انظر: كتاب الصلاة لابن القيم، وزاد المعاد، وتوضيح الأحكام من بلوغ المرام، للبسام، 2/ 28، والشرح الممتع لابن عثيمين، 3/ 34، وحاشية الروض المربع، لابن قاسم، 2/ 11. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء، برقم 735، ورقم 739، ومسلم، كتاب الصلاة، برقم 390. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب رفع اليدين إذا كبر وإذا ركع، وإذا رفع، برقم 737، ومسلم واللفظ له، في كتاب الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام والركوع، وفي الرفع من الركوع، وأنه لا يفعله إذا رفع من السجود، برقم 391.

والأحاديث الواردة في ابتداء رفع اليدين جاءت على وجوهٍ ثلاثة: الوجه الأول: جاء ما يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه ثم كبّر، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام للصلاة رفع يديه حتى تكونا حذو منكبيه، ثم كبر)) (¬1)؛ ولحديث أبي حُميد الساعدي - رضي الله عنه - يحدّث به في عشرة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيه: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يرفع يديه حتى يُحاذيَ بهما منكبيه ثم يُكبّر)) (¬2). الوجه الثاني: جاء ما يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كبر ثم رفع يديه، فعن أبي قلابة أنه ((رأى مالك بن الحويرث إذا صلى كبَّر ثم رفع يديه ... وحدَّث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل هكذا)) (¬3). الوجه الثالث: جاء ما يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه مع التكبير، وانتهى منه مع انتهائه، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - افتتح التكبير في الصلاة، فرفع يديه حين كبّر حتى جعلهما حَذْوَ منكبيه)) (¬4). فمن فعل صفة من هذه الصفات فقد أصاب السنة (¬5). وإن نوَّع بين هذه الصفات الثلاث، فتارة يفعل هذا، وتارة هذا، وتارة هذا، فلا بأس، وهذا يعين على الخشوع في الصلاة، والعلم عند الله تعالى. ¬

(¬1) مسلم، كتاب الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين، برقم 390. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب سنة الجلوس في التشهد برقم 828، واللفظ لأبي داود، برقم 730. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب رفع اليدين إذا كبر، برقم 737، ومسلم واللفظ له، كتاب الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين، برقم 391. (¬4) البخاري، كتاب الأذان، باب إلى أين يرفع يديه، برقم 738، ومسلم، كتاب الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام، برقم 390. (¬5) انظر: فتح الباري لابن حجر، 2/ 218، وسبل السلام للصنعاني،2/ 217، والشرح الممتع لابن عثيمين،3/ 39.

ثالثاً: فهم وتدبّر معنى وضع اليدين على الصدر في حال القيام في الصلاة: اليد اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرُّسغ والساعد، وهذا فيه إظهار الذُّل، والانكسار، والخشوع لله تعالى، وقد ذُكِرَ عن الإمام أحمد رحمه الله أنه سُئل عن المراد بذلك فقال: ((هو ذُلٌّ بين يدي عزيز)) (¬1). رابعاً: فهم وتدبّر معنى الركوع؛ فإنه يدل على الذُّل بظاهر الجسد؛ ولهذا كانت العرب تأنف منه ولا تفعله، وقد قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} (¬2)، وتمام الخضوع في الركوع أن يخضع القلب لله، ويذلُّ له، فيتمّ بذلك خضوع العبد بباطنه وظاهره لله - عز وجل - (¬3). قال العلامة الأصفهاني رحمه الله: ((الركوع: الانحناء، فتارة يستعمل في الهيئة المخصوصة في الصلاة كما هي، وتارة في التواضع والتذلل: إما في العبادة، وإما في غيرها)) (¬4). خامساً: فهم وتدبّر معنى السجود؛ فإنه أعظم ما يظهر فيه ذلّ العبد لربّه تعالى، حيث جعل العبد أشرف أعضائه وأعزّها عليه، وأعلاها عليه، حقيقة أوضع ما يمكنه، فيضعه في التراب مُتعفّراً، ويتبع ذلك انكسار القلب، وتواضعه, وخشوعه لله - عز وجل -؛ ولهذا كان جزاء المؤمن إذا فعل ذلك أن يقرّبه الله - عز وجل - إليه؛ فإن ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء)) (¬5)، كما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. والسجود أيضاً مما كان يأنفه المشركون المستكبرون عن عبادة الله - عز وجل -، وكان بعضهم يقول: أكره أن أسجد فتعلوني استي، وبعضهم يأخذ ¬

(¬1) الخشوع في الصلاة لابن رجب، ص21. (¬2) سورة المرسلات، الآية: 48. (¬3) انظر: الخشوع في الصلاة لابن رجب ص25. (¬4) مفردات ألفاظ القرآن، ص364. (¬5) مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع أو السجود، برقم 482.

السبب السابع والأربعون: فهم وتدبر معاني أقوال الصلاة:

كفاً من حصىً فيرفعه إلى جبهته، ويكتفي بذلك عن السجود، وإبليس إنما طرده الله لمّا استكبر عن السجود، لمن أمره الله بالسجود له (¬1). قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: ((السجود: أصله التطامن والتذلّل، وجُعل ذلك عبارة عن التذلّل لله وعبادته. وهو عام في الإنسان، والحيوان، والجمادات، وذلك ضربان: سجود باختيار، وليس ذلك إلا للإنسان، وبه يستحق الثواب. وسجود تسخير وهو: للإنسان، والحيوان، والنبات)) (¬2). وسجود التسخير يعم كل شيء {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} (¬3). وغير ذلك من فهم وتدبر معاني أفعال الصلاة: كالجلوس بين السجدتين، والجلوس في التشهد واضعاً يديه على ركبتيه، كل ذلك يدل على الخضوع والتذلل لله تعالى. السبب السابع والأربعون: فهم وتدبُّر معاني أقوال الصلاة: لا شك أن من تدبَّر معاني أقوال الصلاة خشع قلبه في صلاته، ومن ذلك على سبيل الاختصار تدبر المعاني الآتية: أولاً: فهم وتدبّر معنى تكبيرة الإحرام: الله أكبر: ((الله أكبر)) أي: الله تعالى أكبر من كل شيء: في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وحُذِف المفضل عليه ليتناول اللفظ كل شيء، فتكبيره سبحانه جامع لإثبات كل كمال له، وتنزيهه عن كل نقص وعيب، وإفراده وتخصيصه بذلك، وتعظيمه وإجلاله. وأكبر من أن يُذكر بغير المدح والتمجيد والثناء الحسن. ¬

(¬1) انظر: الخشوع في الصلاة لابن رجب، ص26. (¬2) مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني، ص396. (¬3) سورة النحل، الآية: 49.

ثانيا: فهم وتدبر معاني دعاء الاستفتاح في الصلاة

وحكمة الاستفتاح بها: ليستحضر المصلّي عظمة من يقف بين يديه، فيخشع له، ويستحيي أن يشتغل بغيره؛ ولهذا أجمع العلماء على أنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها وحضر قلبه، قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (¬1)، والخشوع إنما يحصل لمن استحضر عظمة ملك الملوك، وأنه يناجيه، ويخشى أن يردها عليه، فيفرّغ قلبه لها، ويشتغل بها عمَّا عداها، ويؤثرها على ما سواها، فتكون راحته وقرة عينه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فَي الصَّلاَةِ)) (¬2). فإذا استشعر العبد بقلبه أن الله أكبر من كلّ ما يخطر بالبال استحيا منه أن يُشغل قلبه في الصلاة بغيره، فلا يكون موفياً لمعنى ((الله أكبر))، ولا مؤدّياً لحق هذا اللفظ، فقبيح بالمُصلّي أن يقول بلسانه: ((الله أكبر))، وقد امتلأ قلبه بغير الله، فلو قضى حق هذا اللفظ لدخل وانصرف بأنواع التحف والخيرات (¬3). ثانياً: فهم وتدبُّر معاني دعاء الاستفتاح في الصلاة ثالثاً: فهم وتدبّر معاني الاستعاذة: رابعاً: فهم وتدبُّر معنى البسملة: خامساً: فهم وتدبُّر معاني الفاتحة أُمّ القرآن: سادساً: فَهْمُ وتدبُّر معاني أذكار الركوع: سابعاً: فَهْمُ وَتدبُّر معاني أذكار الرفع من الركوع: ثامناً: فَهْمُ وَتدبُّر معاني أذكار السجود: ¬

(¬1) سورة المؤمنون، الآيتان: 1 - 2. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، 3/ 285، برقم 14037، والنسائي في سننه، كتاب عشرة النساء، باب حب النساء، 7/ 61، برقم 3940، من حديث أنس - رضي الله عنه -. (¬3) انظر: حاشية الروض المربع، 2/ 11.

تاسعا: فهم وتدبر معاني الأذكار في الجلسة بين السجدتين

تاسعاً: فَهْمُ وتدبُّر معاني الأذكار في الجلسة بين السجدتين (¬1): عاشراً: فهم وتدبُّر أذكار سجود التلاوة: 1 - ((سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، {تَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ})) (¬2). قوله: ((للذي خلقه وشق سمعه وبصره)) تخصيص بعد تعميم؛ أي: فتحهما وأعطاهما الإدراك. قوله: ((بحوله)) أي: بتحويله وصرفه الآفات عنها. قوله: ((وقوَّته)) أي: قدرته بالثبات والإعانة عليهما. 2 - ((اللَّهُمَّ اكتُبْ لي بها عِندَك أجرًا، وَضَعْ عَنّي بِها وِزْرًا، وَاجْعَلْهَا لي عِنْدَكَ ذُخْرًا، وَتَقَبَّلْهَا مِنّي كَمَا تَقَبَّلْتَهَا مِنْ عَبْدِكَ دَاوُدَ)) (¬3). قوله: ((وِزْرَاً)) أي: ذنباً. قوله: ((ذخراً)) أي: كنزاً، وقيل: أجراً؛ وكرر لأن مقام الدعاء يناسب الإطناب، وقيل: الأول طلب كتابة الأجر، وهذا طلب بقائه سالماً من محبط أو مبطل. قوله: ((كما تقبَّلْتها من عبدك داود)) حين {خَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} (¬4). والصواب: أن السجدات في القرآن خمس عشرة سجدة؛ لأن سورة الحج ¬

(¬1) وقد ذكرت جميع هذه المعاني بالشرح والتفصيل في: السبب السابع والأربعين: فهم وتدبّر معاني أقوال الصلاة، فليراجعه من شاء. (¬2) الترمذي، 2/ 474، أبواب الوتر، باب ما يقول في سجود القرآن، برقم 580، أحمد، 6/ 30، برقم 25821، والحاكم، وصححه ووافقه الذهبي، 1/ 220، والزيادة له. [والآية رقم 14 من سورة المؤمنون]. (¬3) الترمذي، أبواب الوتر، باب ما يقول في سجود القرآن، 2/ 473، برقم 579، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 1/ 219. (¬4) سورة ص، الآية: 24.

الحادي عشر: فهم وتدبر معاني التشهد

فيها سجدتان؛ لحديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، فُضّلت سورة الحج بسجدتين؟ قال: ((نعم، ومن لم يسجدْهما فلا يقرأْهما)) (¬1). والصواب: أن سجود التلاوة لا يشترط له ما يشترط لصلاة النفل: من الطهارة عن الحدث والنجس، وستر العورة، واستقبال القبلة، ولكن يُستحب ذلك وهو الأفضل، كما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وتلميذه ابن القيم، والشيخ ابن باز، وابن عثيمين رحمهم الله تعالى، أما الجنب فلا يقرأ شيئاً من القرآن حتى يتطهَّر (¬2)؛ ولهذا كان ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، مع شدة اتباعه للسنة ((ينزل عن راحلته فيهريق الماء ثم يركب فيقرأ السجدة فيسجد)) (¬3)]. الحادي عشر: فهم وتدبر معاني التشهد. الثاني عشر: فهم وتدبر معاني الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثالث عشر: فهم وتدبُّر معاني الاستعاذة والدعاء قبل السلام من الصلاة. الرابع عشر: فهم وتدبر معاني الأذكار بعد السلام من الصلاة (¬4). السبب الثامن والأربعون: التنويع في الاستفتاح، والقراءة، والأذكار في الصلاة: المصلّي إذا حافظ على السنة في قراءة الاستفتاحات في الصلاة بأنواعها: فيقرأ هذا النوع تارة، والنوع الآخر تارة أخرى، والثالث تارة ثالثة، ¬

(¬1) أبو داود، برقم 1402، والترمذي، أبواب الوتر، باب ما يقول في سجود القرآن، برقم 578، وحسَّنه الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود، 1/ 388، وفي صحيح سنن الترمذي، 1/ 319. (¬2) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام، 23/ 165 - 170، وتهذيب السنن لابن القيم، 14/ 53 - 56، ومجموع فتاوى ابن باز، 11/ 406 - 415، والشرح الممتع على زاد المستقنع لابن عثيمين، 4/ 126، وتمام المنة في التعليق على فقه السنة للألباني، ص 270. (¬3) البخاري بصيغة الجزم، في كتاب سجود القرآن، باب سجود المسلمين مع المشركين. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري، 2/ 645: ((وأخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح)). (¬4) وقد ذكرت جميع هذه المعاني بالشرح والتفصيل في: السبب السابع والأربعين: فهم وتدبر معاني أقوال الصلاة، فليراجع.

وقد سبق أن ذكرت منها في فهم وتدبر معاني الاستفتاح ثمانية أنواع، فإذا حافظ المسلم على هذه الأنواع منوّعاً لها في صلواته حصل على الخشوع، وعلى ثواب العمل بالسنة، وعلى حفظ هذه الاستفتاحات (¬1). وكذلك ينوّع في قراءته للقرآن في الصلاة، فيلتزم السنة فيما يقرأ في الفجر، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء كما جاءت به السنة، وكذلك قراءة سورة السجدة والإنسان في فجر الجمعة، وقراءة سورة سبح والغاشية في صلاة الجمعة تارة، والجمعة والمنافقون تارة أخرى، والجمعة والغاشية تارة ثالثة، كما ثبتت السنة بذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وكذلك تنويع أذكار الرفع من الركوع بعد قوله: ((سمع الله لمن حمده))، فتارة يقول: ((ربنا لك الحمد))، وتارة يقول: ((ربنا ولك الحمد))، وتارة يقول: ((اللهم ربنا لك الحمد))، وتارة يقول: ((اللهم ربنا ولك الحمد)) (¬3). وكذلك تنويع الأذكار أدبار الصلوات كما جاءت بذلك سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد ذكرت في فهم وتدبر الأذكار بعد السلام من الصلاة أنواع التسبيح، وأنها قد جاءت على ستة أنواع، فيقول المسلم كل نوع في دبر صلاة من صلواته (¬4). وكذلك ينوّع في قراءة التشهد، فإنه جاء في السنة على أنواع (¬5). وأيضاً الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءت على أنواع (¬6). ¬

(¬1) انظر: تخريج هذه الاستفتاحات في: المبحث الثامن عشر: صفة الصلاة، ص 184. (¬2) انظر: تخريج هذه القراءة في المبحث الثامن عشر: صفة الصلاة، ص 192. (¬3) انظر: تخريج هذه الأذكار في المبحث الثامن عشر: صفة الصلاة. (¬4) انظر تخريج هذه الأذكار في المبحث الثامن عشر: صفة الصلاة. (¬5) انظر تخريج هذه الأذكار في المبحث الثامن عشر: صفة الصلاة. (¬6) انظر تخريج هذه الأذكار في المبحث الثامن عشر: صفة الصلاة.

السبب التاسع والأربعون: الاجتهاد في الدعاء في مواضعه في الصلاة:

فإذا فعل المسلم ذلك حصل له الخشوع في صلاته بتوفيق الله تعالى. السبب التاسع والأربعون: الاجتهاد في الدعاء في مواضعه في الصلاة: الدعاء مناجاةٌ لله تعالى، فإذا اجتهد العبد في الدعاء، والتذلُّل لله فيه، والإلحاح، والطلب منه تعالى؛ فإن هذا مما يزيد العبد محبة لربّه، وخشوعاً، وتذلُّلاً، ورغبة فيما عنده، ورهبة من عذابه، والدعاء في الحقيقة عبادة عظيمة لله تعالى؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الدعاء هو العبادة، قال ربّكم: ((ادعوني أستجب لكم)) (¬1)، وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من لم يسأل الله يغضب عليه)) (¬2). وقد شرع الله تعالى الدعاء في الصلاة في مواضع ومواطن أثناء أداء المسلم للصلاة، ومن أعظم هذه المواضع: الدعاء في السجود، فينبغي أن يجتهد المسلم في الدعاء في السجود؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء)) (¬3)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (( ... وأما الركوع فعظموا فيه الربّ [- عز وجل -]، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن (¬4) أن يستجاب لكم)) (¬5). فحرِيٌّ بالمسلم أن يجتهد في الدعاء في السجود، وقد شرع النبي ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الوتر، باب الدعاء، برقم 1481، والترمذي كتاب تفسير القرآن، باب ومن تفسير سورة البقرة، برقم 2959، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب فضل الدعاء، برقم 3828، وصححه الألباني في صحيح الجامع، 3/ 150، وفي صحيح ابن ماجه، 2/ 324. (¬2) الترمذي، كتاب الدعوات، باب من لم يسأل الله يغضب عليه، برقم 3373، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب فضل الدعاء، برقم 3827، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 1283، وفي صحيح ابن ماجه، 2/ 1354. (¬3) مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال والركوع والسجود، برقم 482. (¬4) قمنٌ: حقيقٌ وجديرٌ أن يستجاب لكم. (¬5) مسلم، كتاب الصلاة، باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، برقم 479.

- صلى الله عليه وسلم - أدعية كثيرة للدعاء في السجود (¬1)، وأذكار الركوع، والدعاء بها (¬2)، وأذكار الرفع من الركوع، وبعد الاعتدال منه (¬3)، وأذكار الجلسة بين السجدتين (¬4)، والدعاء قبل السلام بعد التشهد الأخير (¬5). فينبغي للمسلم أن يجتهد في ذلك، ويقتدي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، ويدعو الله وهو موقن بالإجابة، ويجمع بين الخوف من الله تعالى ورجائه، مع المحبة لله تعالى. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: ((القلب في سيره إلى الله بمنزلة الطائر: فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سَلِمَ الرأس والجناحان فالطائرُ يطير جيداً، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فُقِدَ الجناحان: فهو عرضة لكل صائد وكاسر، ولكن السلف استحبوا أن يقوّي في الصحة جناح الخوف، وعند الخروج من الدنيا يقوّي جناح الرجاء على جناح الخوف)). وقال بعض السلف: ((أكمل الأحوال: اعتدال الرجاء والخوف، وغلبة الحب، فالمحبة هي المركب، والرجاء حادٍ، والخوف سائق، والله الموصل بمنّه وكرمه)) (¬6). قال الله - عز وجل -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ ¬

(¬1) انظر: أدعية كثيرة صحيحة في: الدعاء في السجود، في المبحث الثامن عشر: صفة الصلاة. (¬2) انظر: أدعية الركوع، في المبحث الثامن عشر: صفة الصلاة. (¬3) انظر: أدعية الرفع من الركوع، في المبحث الثامن عشر: صفة الصلاة. (¬4) انظر: أدعية الجلسة بين السجدتين، في المبحث الثامن عشر: صفة الصلاة. (¬5) انظر: الدعاء قبل السلام، في المبحث الثامن عشر: صفة الصلاة. (¬6) مدارج السالكين، لابن القيم، 1/ 517، وانظر: 1/ 520، من المرجع نفسه.

السبب الخمسون: إحسان الطهور وإكماله:

أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} (¬1). فابتغاء الوسيلة إليه: طلب القرب منه: بالعبوديَّة، والمحبة، فقد ذكر مقامات الإيمان الثلاثة التي عليها بناؤه: الحب، والخوف، والرجاء (¬2). ومع ذلك ينبغي أن يكون المسلم قبل دعائه متطهّراً من الذنوب بالتوبة، ويكون زاهداً ورعاً: وقد ذكر ابن القيم رحمه الله عن شيخ الإسلام ابن تيمية حقيقة الزهد والورع فقال: ((الزهد: ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع: ترك ما تخاف ضرره في الآخرة)) (¬3). السبب الخمسون: إحسان الطهور وإكماله: لا شك: أن إحسان الطهارة: من الوضوء، والغسل على الوجه الأكمل يعين على الخشوع في الصلاة، وقد حذَّر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من النقص في ذلك، وتَرْك استيعاب غسل الأعضاء في الوضوء، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: أسبغوا الوضوء، فإن أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ويل للأعقاب من النار))، ولفظ مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً لم يغسل عقبه، فقال: ((ويل للأعقاب من النار))، وفي لفظ لمسلم: أسبغوا الوضوء، فإني سمعت أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ويل للعراقيب من النار)) (¬4). وعن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى الصبح، فقرأ الروم فالْتَبَسَ عليه، فلما صلَّى قال: ((ما بال أقوام يصلُّون معنا لا يحسنون ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 57. (¬2) مدارج السالكين، لابن القيم، 2/ 35. (¬3) المرجع السابق، 2/ 10. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الوضوء، باب غسل الأعقاب، برقم 165، مسلم، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل الرجلين بكاملهما، برقم 242، وقد جاء عند مسلم أيضاً بنحوه عن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، برقم 240، وعن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، برقم 241، وفيه قصة في السفر.

الطُّهورَ، فإنما يَلْبِسُ علينا القرآن أولئك)) (¬1)، وفي لفظ لأحمد من حديث أبي روح الكلاعي: ((إنما يلبّسُ علينا الشيطان القراءة من أجل أقوامٍ يأتون الصلاة بغير وضوء، فإذا أتيتم الصلاة فأحسنوا الوضوء))، وفي لفظ: ((صلى الصبح فقرأ فيها الروم، فأوهم ... ))، وفي لفظ له: (( ... أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الصبح، فقرأ بالروم فتردَّد في آية، فلما انصرف قال: ((إنه يلْبِسُ علينا القرآن: أن أقواماً منكم معنا لا يُحسنون الوُضُوءَ، فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء)) (¬2)، وأورده ابن كثير في تفسيره في آخر سورة الروم، ثم قال: ((وهذا إسناد حسن، ومتن حسن، وفيه سرٌّ عجيب، ونبأ غريب، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - تأثر بنقصان وضوء من ائتمَّ به، فدلّ ذلك على أن صلاة المأموم متعلقة بصلاة الإمام)) (¬3). وقال الإمام ابن كثير رحمه الله في موضع آخر: ((فدلَّ هذا على أن إكمال الطهارة يُسهّلُ القيام في العبادة، ويُعين على إتمامها، وإكمالها، والقيام بمشروعاتها)) (¬4). وقال السندي رحمه الله تعالى عن الحديث المذكور: ((وفيه تأثير الصحبة، وأن الأكملين في أكمل الأحوال يظهر فيهم أدنى أثر، والله تعالى أعلم)) (¬5). ومما تقدم يتضح: أن النقص في الطهارة يؤثر على المُصلّي، ويتعدَّى تأثيره إلى الإمام إذا كان ذلك المُقصّر في الوضوء يصلّي في ¬

(¬1) النسائي، كتاب الافتتاح، باب القراءة في الصبح بالروم، برقم 947، وحسنه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 315. (¬2) أحمد، 25/ 208، برقم 15872، وبرقم 15873، ورقم 15874، و 38/ 169، برقم 23072، وبرقم 23125، وحسنه محققو المسند، 25/ 211، وفي 38/ 169، 206. (¬3) تفسير القرآن العظيم، ونقله عنه محققو المسند، 25/ 210. (¬4) تفسير القرآن العظيم، 7/ 289 عند تفسير الآية 108 من سورة التوبة. (¬5) حاشية السندي على سنن النسائي، 2/ 157.

السبب الحادي والخمسون: المحافظة على صفة الصلاة الكاملة الخاشعة من كل وجه:

جماعة، والله المستعان (¬1). السبب الحادي والخمسون: المحافظة على صفة الصلاة الكاملة الخاشعة من كل وجه: أعظم الأسباب الجالبة للخشوع في الصلاة: أن يصلّي المسلم الصلاة الكاملة من كل وجهٍ، وذلك: بإكمال شروطها قبل الدخول فيها، والقيام بإكمال أركانها، وواجباتها، وخشوعها، وسننها، والابتعاد عن مبطلاتها، ومكروهاتها. وصفة الصلاة الكاملة من كل وجهٍ: أن يصلي المسلم كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلّي؛ لحديث مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( ... صلوا كما رأيتموني أصلي)) (¬2). فينبغي للمسلم أن يصلّي الصلاة بخشوع كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي (¬3). السبب الثاني والخمسون: المحافظة على الأذكار أدبار الصلوات المفروضة: لا شك أن مما يُعين على تثبيت الخشوع في القلب المحافظة على الأذكار المشروعة أدبار الصلوات المفروضة، وفيها من الفوائد مع ما يحصل بسبب ذلك من تثبيت الخشوع في القلب: أن المُصلّي يستغفر ربه عمَّا حصل من التقصير في صلاته، وعما حصل من الخلل في الخشوع، ولا شك أن الأذكار بعد الصلاة مما يجبر النقص فيها، وقد شرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذكاراً ودعواتٍ أدبار الصلوات المفروضة (¬4). السبب الثالث والخمسون: المحافظة على السنن الرواتب قبل الفريضة وبعدها: المحافظة على أداء السنن الرواتب التي قبل الصلاة يوقظ القلب ¬

(¬1) انظر: الخشوع في الصلاة، لمحمد لطفي الصباغ، ص57. (¬2) البخاري، كتاب الأذان، باب الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة، برقم 631. (¬3) وقد بينت صفة الصلاة الكاملة الخاشعة في هذا الكتاب في المبحث الثامن عشر فلتراجع. (¬4) وقد ذكرت هذه الأذكار في هذا الكتاب في آخر المبحث الثامن عشر: صفة الصلاة، في البند رقم 31.

السَّلِيم، ويهيئه للخشوع في الفريضة، والمحافظة على السنن الرواتب التي بعد الصلاة يجبر نقصها، ويجبر ما حصل من الخلل في خشوعها، وقد شرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الرواتب (¬1). ¬

(¬1) وقد ذكرت السنن الرواتب بأدلتها في هذا الكتاب، في المبحث الثالث والعشرين: صلاة التطوع، ثامناً، في القسم الأول من أقسام صلاة التطوع.

المبحث الثاني والعشرون: سجود السهو

المبحث الثاني والعشرون: سجود السّهو سجود السهو لما يُبْطِلُ عمدُهُ الصلاة واجب؛ لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - به سواء كان فعلاً أو تركًا من جنس الصلاة (¬1). وقد كان سهو النبي - صلى الله عليه وسلم - من تمام نعمة الله - عز وجل - على أمته، وإكمال دينهم؛ ليقتدوا به - صلى الله عليه وسلم - فيما يشرعه لهم عند السهو؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان ينسى فيترتب على سهوه أحكام شرعية تجري على سهو أمته إلى يوم القيامة (¬2)، فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه شرع لأمته في سجود السهو أحكامًا منها: أولاً: حُفِظَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في السهو أشياء منها: 1 - سلم النبي - صلى الله عليه وسلم - من اثنتين، ثم أتمّ ما بقي وسجد بعد السلام؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة ذي اليدين، قال: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشي (¬3) ركعتين ثم سلم، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه، وخرج سَرَعانُ الناس فقالوا: أَقُصِرت الصلاة؟ ورجل يدعوه النبي - صلى الله عليه وسلم - ذا اليدين، فقال: يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال: ((لم أنس ولم تقصر)) قال: بلى، فصلى ركعتين ثم سلم، ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر، ثم وضع رأسه فكبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه فكبر ثم سلم)) (¬4). 2 - سلم - صلى الله عليه وسلم - من ثلاث، فأتم الركعة الباقية ثم سجد سجود السهو بعد ¬

(¬1) انظر: المغني لابن قدامة، 2/ 433،وفتاوى ابن تيمية، 23/ 26 - 35، والشرح الممتع، 3/ 531. (¬2) انظر: زاد المعاد، لابن القيم، 1/ 186. (¬3) الظهر والعصر، وفي صحيح البخاري قول بعض الرواة: ((وأكثر ظني أنها العصر))،برقم 1229، وفي رواية لمسلم ((صلاة العصر))، برقم 573، وقد جمع بينهما بأنها تعددت القصة، سبل السلام للصنعاني، 2/ 350. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب السهو، باب يكبر في سجدتي السهو، برقم 1229، ومسلم، كتاب المساجد، ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة، برقم 573.

3 - قام - صلى الله عليه وسلم - في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر

السلام؛ لحديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى العصر فسلم في ثلاث ركعات، ثم دخل منزله، فقام إليه رجل يقال له: الخِربَاقُ، وكان في يديه طولٌ فقال: يا رسول الله، فذكر له صنيعه، وخرج غضبان يجرُّ رداءه حتى انتهى إلى الناس فقال: ((أصدق هذا؟)) قالوا: نعم، فصلى ركعة ثم سجد سجدتين ثم سلم. وفي رواية: ((فصلى الركعة التي كان ترك ثم سلم، ثم سجد سجدتي السهو ثم سلم)) (¬1). 3 - قام - صلى الله عليه وسلم - في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر ولم يجلس للتشهد، حتى قضى صلاته، ثم سجد سجود السهو قبل السلام؛ لحديث عبد الله بن بحينة - رضي الله عنه - ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم الظهر فقام في الركعتين الأُوليين لم يجلس فقام الناس معه حتى إذا قضى صلاته، وانتظر الناس تسليمه كبر وهو جالس فسجد سجدتين قبل أن يسلم، ثم سلم)) (¬2). 4 - صلَّى الظهر خمسًا فَنُبّهَ، فثنى رجليه واستقبل القبلة فسجد سجدتين ثم سلم؛ لحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر خمسًا، فقيل له: أزيد في الصلاة؟ فقال: ((وما ذاك))؟ قالوا: صليت خمسًا، فسجد سجدتين بعدما سلم (¬3). 5 - أما الشك فلم يعرض له - صلى الله عليه وسلم -، وقد أمر فيه بأمرين على حسب نوعيه: أ - أمر - صلى الله عليه وسلم - من رجع إلى التحري وهو أكثر الوهم أو الظن الغالب القوي بالبناء على غالب الظن، ثم السجود للسهو بعد السلام؛ لحديث ¬

(¬1) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة، برقم 574. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب من لم ير التشهد الأول واجبًا، برقم 829، وكتاب السهو، باب ما جاء في السهو إذا قام من ركعتي الفريضة، برقم 1224، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، برقم 570. (¬3) متفق عليه: أصله في صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان، برقم 401، ولفظه من كتاب السهو، باب: إذا صلى خمسًا، برقم 1226، 7249، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، برقم 572.

ب - أمر - صلى الله عليه وسلم - من شك ورجع إلى اليقين - وهو الأقل - بالبناء على اليقين

عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما سلم قيل له: يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء؟ قال: ((وما ذاك)) قالوا: صليت كذا وكذا، فثنى رجليه واستقبل القبلة وسجد سجدتين ثم سلم، فلما أقبل علينا بوجهه قال: ((إنه لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحرَّ الصواب فليتم عليه، ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين)). وفي رواية لمسلم: ((فليتحرَّ أقربَ ذلك إلى الصواب)) (¬1). ب - أمر - صلى الله عليه وسلم - من شك ورجع إلى اليقين - وهو الأقل - بالبناء على اليقين، وطرح الشك ثم السجود للسهو قبل السلام (¬2)؛ لحديث أبي سعيد - رضي الله عنه - يرفعه: ((إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدْرِ كمْ صلَّى ثلاثًا أم أربعًا؟ فليطرحِ الشكَّ، وليبنِ على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسًا شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتمامًا لأربع كانتا ترغيمًا للشيطان)) (¬3). قال الإمام أحمد - رحمه الله -: ((يحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسة أشياء: سلم من اثنتين فسجد، وسلم من ثلاث فسجد، وفي الزيادة والنقصان، وقام من اثنتين ولم يتشهد)) (¬4). وقال الخطابي - رحمه الله -: ((والمعتمد عند أهل العلم هذه الأحاديث الخمسة)) (¬5)، قال الإمام ابن قدامة - رحمه الله -: ((يعني حديثي ابن مسعود، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وابن بحينة)) (¬6). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 401، ومسلم، برقم 572، وتقدم تخريجه في الذي قبله. (¬2) انظر: زاد المعاد لابن القيم، 1/ 291 - 292. (¬3) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، برقم571. (¬4) المغني لابن قدامة، 2/ 403. (¬5) معالم السنن للخطابي، 1/ 469. (¬6) المغني، 2/ 403، والشرح الكبير، 4/ 5.

ثانيا: سجود السهو قبل السلام في مواضع وبعده في مواضع:

ثانيًا: سجود السهو قبل السلام في مواضع وبعده في مواضع: ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد للسهو قبل السلام في مواضع، وبعده في مواضع (¬1).فما سجد فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل السلام أو أمر به، يُسجد فيه قبله، كسجود السهو لمن ترك التشهد الأول، وسجود السهو لمن شك وبنى على اليقين، وما سجد فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد السلام أو أمر به، يُسجد فيه بعده: كسجود السهو لمن سلم قبل تمام الصلاة، أو ذُكّر بالزيادة في صلاته بعد السلام، أو شك وبنى على غالب ظنه، كما دلّت عليه الأحاديث في أوّل المبحث، والأمر في ذلك واسع، فيجوز السجود قبل السلام وبعده (¬2) لكن الأفضل أن يكون السجود قبل السلام إلا في حالتين: الحالة الأولى: إذا سلم عن نقص أو ذُكّر بالزيادة بعد السلام، اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك؛ لحديث أبي هريرة (¬3) وعمران بن حصين (¬4) وعبد الله بن مسعود (¬5) - رضي الله عنهم -. الحالة الثانية: إذا شك ولكنه بنى على غالب ظنه؛ لحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - (¬6) واختار هذا الإمام ابن باز - رحمه الله - (¬7). والمسألة خلافية عند أهل العلم لكن هذا هو الأفضل (¬8). ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد لابن القيم، 1/ 289. (¬2) انظر: زاد المعاد، لابن القيم، 1/ 290، وسبل السلام للصنعاني، 2/ 369 - 371، ومجموع فتاوى ابن تيمية، 23/ 36، ومجموع فتاوى الإمام ابن باز، جمع الطيار، كتاب الصلاة، ص184، وجمع الشويعر، 11/ 267. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم 1229، ومسلم، برقم 573، وتقدم تخريجه. (¬4) مسلم، برقم 574، وتقدم تخريجه. (¬5) متفق عليه: البخاري، برقم 401، ومسلم، برقم 572. (¬6) متفق عليه: البخاري، برقم 401، ومسلم، برقم 572، وتقدم تخريجه. (¬7) انظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للإمام ابن باز، 11/ 267. (¬8) اختلف العلماء - رحمهم الله - في موضع سجود السهو على أقوال: 1 - مذهب الإمام الشافعي: سجود السهو كله قبل السلام. 2 - مذهب الإمام أبي حنيفة: كله بعد السلام. 3 - مذهب الإمام مالك: السجود للزيادة بعد السلام، وللنقص قبله. 4 - مذهب الإمام أحمد: السجود قبل السلام إلا في موضعين: إذا سلم عن نقص، أو بنى على غالب ظنه فيكون بعد السلام. فهذا فيه استعمال كل حديث كما ورد، وما لم يرد فيه شيء يسجد قبل السلام. انظر: المغني، لابن قدامة، 2/ 415، وفتاوى ابن تيمية، 23/ 17 - 26، وزاد المعاد، لابن القيم، 1/ 289، وسبل السلام، للصنعاني، 2/ 369 - 371، ونيل الأوطار، للشوكاني، وذكر تسعة أقوال، 2/ 321 - 324، واختار الإمام ابن تيمية: أن الأظهر: التفريق بين الزيادة والنقص، وبين الشك مع التحري، والشك مع البناء على اليقين، وقال: هذا رواية عن أحمد وقول مالك قريب منه. فإذا كان السجود لنقص أو شك وبنى على اليقين سجد قبل السلام، وإذا كان السجود لزيادة أو بنى على غالب ظنه سجد بعد السلام. انظر: فتاوى ابن تيمية، 23/ 24، والاختيارات الفقهية له، ص93، والشرح الممتع لابن عثيمين، 3/ 466.

ثالثا: التفصيل في أسباب السجود وأحكامها:

ثالثًا: التفصيل في أسباب السجود وأحكامها: ظهر من الأحاديث الواردة في سجود السهو أن أسباب السجود ثلاثة: الزيادة، والنقص، والشك بنوعيه (¬1)،وأحكام هذه الأسباب على النحو الآتي: السبب الأول: الزيادة، وهي نوعان: النوع الأول: زيادة الأفعال، وهي على ثلاثة أحوال: الحال الأولى: زيادة من جنس الصلاة، كزيادة قيام أو قعود، أو ركوع، أو ركعة، فهذه زيادة فعلية إن تعمدها المصلي بطلت صلاته، وإن كان سهوًا سجد له وصحت صلاته؛ وإن زاد ركعة سهوًا ولم يعلم حتى فرغ منها سجد للسهو، أما إن علم في أثناء الركعة الزائدة فإنه يجلس في الحال بغير تكبير، ثم يتشهد إن لم يكن تشهد ثم يسجد للسهو ويسلم. ويجب على من علم بزيادة الإمام أو نقصه تنبيهه؛ لحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يرفعه وفيه: ((إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني)) (¬2).وتنبيه الرجال بالتسبيح، والنساء بالتصفيق؛ لحديث سهل بن ¬

(¬1) انظر: المقنع مع الشرح الكبير والإنصاف، 4/ 6 والكافي،1/ 365، والروض المربع، 2/ 137، وإرشاد أولي البصائر والألباب لنيل الفقه بأقرب الطرق وأيسر الأسباب للسعدي، ص47. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 401، ومسلم، برقم 572، وتقدم تخريجه.

سعد الساعدي - رضي الله عنه - يرفعه وفيه: ((إذا نابكم أمر فليسبح الرجال، وليصفق النساء)). وفي لفظ: ((من نابه (¬1) شيء في صلاته فليسبِحْ، فإنه إذا سبح التُفِتَ إليه، وإنما التصفيق للنساء)) (¬2). ويلزم الإمام الرجوع إلى تنبيههم إذا لم يجزم بصواب نفسه؛ لأنه رجوع إلى الصواب. الحال الثانية: زيادة من غير جنس الصلاة، كالمشي، والحك، والتّروُّح، والحركة، فهذه الحركات لا سجود لها، وهي ثلاثة أقسام: القسم الأول: حركة مبطلة للصلاة، وهي الكثيرة عرفًا، المتوالية لغير ضرورة. القسم الثاني: حركة مكروهة، وهي اليسيرة لغير حاجة. القسم الثالث: حركة جائزة، وهي اليسيرة لحاجة؛ لحديث أبي قتادة - رضي الله عنه - ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي العاص إذا قام حملها، وإذا سجد وضعها)) (¬3)، وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فتح الباب لعائشة رضي الله عنها وهو في الصلاة (¬4). ولا فرق بين العمد والسهو في الحركات؛ لأنها من غير جنس الصلاة، ولا يشرع لها سجود سهو. الحال الثالثة: الأكل والشرب، إن كان عمدًا أبطل الصلاة، وإن كان سهوًا لم يبطلها؛ لعموم حديث: ((عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان)) (¬5). ¬

(¬1) من نابه: أي أصابه شيء يحتاج فيه إلى إعلام غيره. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام الأول فتأخر، برقم 684، ورقم 7190،ومسلم، كتاب الصلاة، باب تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام، برقم 421. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة، برقم 516، 5996، ومسلم، كتاب المساجد، باب جواز حمل الصبيان في الصلاة وأن ثيابهم محمولة على الطهارة حتى يتحقق نجاستها، وأن الفعل القليل لا يبطل الصلاة برقم 543. (¬4) أبو داود، كتاب الصلاة، باب العمل في الصلاة، برقم 922، والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما يجوز من المشي والعمل في صلاة التطوع، والنسائي، كتاب السهو، باب المشي أمام القبلة خطى يسيرة، وأحمد، 6/ 183، 234، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 173. (¬5) ابن ماجه، كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، برقم 2045، وابن حبان، 9/ 174، والطبراني في الكبير،11/ 134،برقم 1274،والحاكم،2/ 198،وحسّنه النووي في الأربعين.

السبب الثاني: النقص، وهو ثلاثة أنواع:

النوع الثاني: زيادة الأقوال: وهي على ثلاث حالات: الحال الأولى: زيادة من جنس الصلاة، كأن يأتي بقول مشروع في الصلاة في غير محله: كالقراءة في الركوع والسجود، والجلوس، وكالتشهد في القيام، فإن كان عمدًا فهو مكروه، ولا يجب السجود له، وإن كان سهوًا استحب السجود له؛ لعموم حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يرفعه وفيه: ((إذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين)) (¬1)، إلا إذا جاء بهذا الذكر مكان الذكر الواجب، ولم يقل الواجب: كالتسبيح في الركوع والسجود، فإنه يجب عليه أن يسجد لتركه الواجب إلا إذا جمع بينهما فلا يجب (¬2)؛ بل يستحب لعموم الأدلة. الحال الثانية: أن يسلم قبل إتمام الصلاة، فإن كان عمدًا بطلت؛ لأنه تكلم فيها، وإن كان سهوًا، وطال الفصل أو نقض الوضوء بطلت صلاته وأعادها، أما إن ذكر قبل أن يطول الفصل أتم صلاته ثم سجد للسهو؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬3). الحال الثالثة: الكلام من غير جنس الصلاة، فإن كان عمدًا غير جاهل أبطل الصلاة إجماعًا؛ لحديث زيد بن أرقم - رضي الله عنه - (¬4) وإن كان سهوًا أو جهلاً فالصحيح أنه لا يبطلها، ولا سجود عليه؛ لأنه من غير جنس الصلاة. السبب الثاني: النقص، وهو ثلاثة أنواع: النوع الأول: ترك ركنٍ: كركوع أو سجود، فإن كان عمدًا بطلت الصلاة، ¬

(¬1) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، برقم 96 - (572). (¬2) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، للإمام ابن باز، 11/ 270. (¬3) البخاري، برقم 1229، ومسلم، برقم 573، وتقدم تخريجه. (¬4) مسلم، برقم 539، وتقدم تخريجه.

وإن كان سهوًا وكان تكبيرة الإحرام لم تنعقد صلاته ولا يغني عنه سجود السهو شيئًا، أما إن كان ركنًا غير تكبيرة الإحرام فله ثلاثة أحوال: الحال الأولى: إن ذكره قبل أن يشرع في قراءة ركعة أخرى وجب عليه أن يرجع فيأتي بالركن الذي تركه وبما بعده (¬1). وقيل: إن ذكره قبل أن يصل إلى محله وجب عليه الرجوع فيأتي بالركن الذي تركه وبما بعده (¬2). الحال الثانية: إن ذكره بعد شروعه في قراءة ركعة أخرى لغت الركعة التي ترك الركن فيها وقامت الركعة التي تليها مقامها (¬3). وقيل: إن ذكره بعد أن وصل إلى محله من الركعة التي تليه فلا يرجع، وتقوم هذه الركعة مقام الركعة التي ترك فيها الركن (¬4). الحال الثالثة: إن ذكره بعد السلام فكَتَرْكِهِ ركعة كاملة، فيأتي بركعة، ويسجد للسهو إلا أن يكون المتروك تشهدًا أخيرًا أو جلوسًا له أو سلامًا فيأتي به وعليه سجود السهو في هذه الصور كلها، إلا إن طال الفصل أو أحدث فيعيد الصلاة كاملة (¬5). وقيل: إن ذكره بعد السلام أتى بالركن المتروك وما بعده، إلا إن طال ¬

(¬1) وسمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز أثناء تقريره على الروض المربع، 2/ 162، في 17/ 10/1419هـ يقرر هذا القول. (¬2) واختار هذا القول الثاني العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي في كتابه: المختارات الجلية من المسائل الفقهية، ص47 - 48، وكتابه: إرشاد أولي البصائر والألباب لنيل الفقه بأقرب الطرق وأيسر الأسباب، ص49، وقال: ((وهذا القول أقرب إلى الأصول والقواعد الشرعية))، وتبعه تلميذه العلامة ابن عثيمين في الشرح الممتع، 3/ 459 - 523. (¬3) وسمعت الإمام عبد العزيز ابن باز أثناء شرحه للروض المربع، 2/ 169، في يوم الأحد 18/ 10/1419هـ يقول: ((إن شرع في قراءة التي بعدها بطلت وقامت التي شرع في قراءتها مقامها)). (¬4) اختاره العلامة السعدي، في المختارات الجلية، ص47،وفي إرشاد أولي البصائر والألباب، ص49. (¬5) وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز يقرر القول بإعادة ركعة كاملة لمن ذكر الركن المتروك بعد السلام، وذلك أثناء تقريره على الروض المربع، 2/ 163، يوم الأحد 17/ 10/1419هـ.

السبب الثالث: الشك، فإذا كان بعد السلام فلا يلتفت إليه، إلا إذا تيقن النقص أو الزيادة

الفصل، أو أحدث فيعيد الصلاة كاملة (¬1). النوع الثاني: تركُ واجب من واجبات الصلاة، كالتكبير لغير الإحرام، أو تسبيح الركوع والسجود، وغير ذلك من الواجبات، فإن كان عمدًا بطلت الصلاة، وإن تركه سهوًا فعلى أحوال: الحال الأولى: إن ذكره قبل الوصول إلى الركن الذي يليه وجب عليه الرجوع ويأتي به. الحال الثانية: إن ذكره بعد أن وصل إلى الركن الذي يليه فلا يرجع وعليه سجود السهو. كالتشهد الأول فإنه إذا تركه لا يخلو من أربعة أمور: الأمر الأول: أن يذكره قبل أن تفارق فخذاه ساقيه، وبعضهم قال: قبل أن تفارق ركبتاه الأرض، والمعنى متقارب، ففي هذه الحال يستقر وليس عليه سجود؛ لأنه لم يزد شيئًا في صلاته. الأمر الثاني: إذا نهض ولكن في أثناء النهوض ذكر قبل أن يستتم قائمًا فإنه يرجع، ويأتي بالتشهد وعليه سجود السهو. الأمر الثالث: إذا نهض واستتم قائمًا فقد وصل إلى الركن الذي يليه، فيكره له الرجوع فإن رجع لم تبطل صلاته وعليه سجود السهو. الأمر الرابع: إذا ذكر بعد الشروع في القراءة فلا يرجع فإن رجع عمدًا عالمًا حرم عليه ذلك وبطلت صلاته؛ لأنه تعمد المفسد وهو زيادته فعلاً من جنسها. النوع الثالث: ترك مسنون، فإذا ترك مسنونًا لم تبطل الصلاة بتركه عمدًا ولا سهوًا، ولا سجود عليه. السبب الثالث: الشك، فإذا كان بعد السلام فلا يلتفت إليه، إلا إذا تيقن النقص أو الزيادة، وإذا كان الشك وهمًا بحيث طرأ على الذهن ولم يستقر فلا يلتفت إليه، وإذا كثرت الشكوك لا يلتفت إليها، وإن لم يكن ¬

(¬1) واختار هذا القول الثاني العلامة السعدي في كتابه: إرشاد أولي البصائر، ص 49، وتلميذه العلامة ابن عثيمين، في الشرح الممتع، 3/ 459 - 523.

الشك كذلك، فالشك إما أن يكون في زيادة ركن أو واجب في غير المحل الذي هو فيه فلا يلتفت له، وأما الشك في الزيادة وقت فعلها فيسجد له، وأما الشك في نقص الأركان فكتركها فيأتي بالركن على التفصيل الذي سبق في إكمال الأركان، إلا إذا غلب على ظنه أنه فعله فلا يرجع، ولكن عليه سجود السهو، والشك في ترك الواجب بعد أن فارق محله لا يوجب سجود السهو (¬1)، وإذا حصل له شك بنى على اليقين وهو الأقل، إلا إذا كان عنده غلبة ظن فإنه يتحرى ويبني على غالب ظنه، فيأخذ به (¬2). ولا سجود على مأموم دخل مع الإمام من أول الصلاة، إلا تبعًا لإمامه؛ فإن قام المأموم المسبوق لقضاء ما فاته بعد سلام إمامه، فسجد إمامه للسهو، بعد السلام فحكمه حكم القائم عن التشهد الأول: إن سجد إمامه قبل انتصابه قائمًا لزمه الرجوع، وإن انتصب قائمًا ولم يشرع في القراءة لم يرجع وإن رجع جاز، وإن شرع في القراءة لم يكن له الرجوع، ويسجد للسهو بعد قضاء ما عليه (¬3) بعد السلام (¬4). ¬

(¬1) وقيل: الشك في ترك الواجب كتركه وعليه سجود السهو إلا إذا غلب على ظنه أنه جاء به فلا سجود عليه. واختار هذا القول العلامة ابن عثيمين في الشرح الممتع، 3/ 521 - 522. (¬2) انظر: التفصيل في أسباب السجود وأحكامها: إرشاد أولي البصائر والألباب لنيل الفقة بأقرب الطرق وأيسر الأسباب، ص47 - 51، وقد أجاد وأفاد، والكافي لابن قدامة، 1/ 365 - 387، والشرح الممتع على زاد المستقنع، لابن عثيمين، 3/ 459 - 540، ويخص ص509، 510، 511، 512، 513، 514، 515، 523. والمغني، لابن قدامة، 2/ 403 - 464، ومجموع فتاوى ومقالات متنوعة لابن باز، 11/ 249 - 281. (¬3) سمعت الإمام عبد العزيز ابن باز أثناء شرحه للروض المربع، 2/ 171، في 28/ 10/1419هـ يقرر ذلك. (¬4) انظر: المغني لابن قدامة،2/ 441،والروض المربع،2/ 170،والشرح الممتع لابن عثيمين،3/ 526.

المبحث الثالث والعشرون: صلاة التطوع

المبحث الثالث والعشرون: صلاة التطوع أولاً: مفهوم التطوع: التطوع: النافلة وكل متنفّل خير: متطوع (¬1). قال الله تعالى: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} (¬2). والتطوع: ما تبرع به المسلم من ذات نفسه مما لا يلزمه فرضه (¬3). ثانياً: فضل التطوع: صلاة التطوع لها فضائل كثيرة عظيمة، منها ما يلي: 1 - تُكمّلُ الفرائضَ وتجبر نقصها؛ لحديث تميم الداري - رضي الله عنه - مرفوعاً: ((أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته، فإن كان أتمَّها كُتبت له تامة، وإن لم يكن أتمَّها قال الله - عز وجل - لملائكته: انظروا هل تجدون لعبدي من تطوُّع فتكملون بها فريضته، ثم الزكاة كذلك، ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك)) (¬4). 2 - التطوع تُرفع به الدرجات وتُحطُّ الخطايا؛ لحديث ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال له: ((عليك بكثرة السجود؛ فإنك لا تسجد لله سجدةً إلا رفعك الله بها درجة، وحطَّ عنك بها خطيئة)) (¬5). 3 - كثرة النوافل من أعظم أسباب دخول الجنة بمرافقة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لحديث ربيعة بن كعب الأسلمي - رضي الله عنه - قال: كنت أبيت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فآتيه بوضوئه وحاجته، فقال لي: ((سل))، فقلت: أسألك مرافقتك في ¬

(¬1) القاموس المحيط، للفيروزآبادي، باب العين، فصل الطاء، ص962. (¬2) سورة البقرة، الآية:184. (¬3) لسان العرب، لابن منظور، باب العين، فصل الطاء، 8/ 243. (¬4) أبو داود، برقم 864، ومن حديث أبي هريرة، برقم 866، وابن ماجه من حديث أبي هريرة، برقم1425، وأحمد، 4/ 65، 103، و5/ 377، وصححه الألباني في صحيح الجامع، 2/ 353، وتقدم تخريجه. (¬5) مسلم، برقم488، وتقدم تخريجه.

4 - صلاة التطوع أفضل أعمال نوافل البدن بعد الجهاد، والعلم: تعلمه، وتعليمه

الجنة، قال ((أوَ غيرَ ذلك؟)) قلت: هو ذاك، قال: ((فأعنّي على نفسك بكثرة السجود)) (¬1). 4 - صلاة التطوع أفضل أعمال نوافل البدن بعد الجهاد، والعلم: تعلُّمه، وتعليمه (¬2)؛لحديث ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((استقيموا ولن تُحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يُحافظ على الوضوء إلا مؤمن)) (¬3). 5 - صلاة التطوع في البيوت تجلب البركة؛ لحديث جابر - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيباً من صلاته؛ فإن الله جاعلٌ في بيته من صلاته خيراً)) (¬4)؛ ولحديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه - يرفعه، وفيه: ((فصلُّوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل الصلاة صلاةُ المرءِ في بيته إلا المكتوبة)) (¬5). ولفظ مسلم: ((فعليكم بالصلاة في ¬

(¬1) مسلم، برقم489، وتقدم تخريجه. (¬2) قيل: أفضل ما يتطوع به: العلم وهو تفضيل الإمام مالك وأبي حنيفة، ورواية عن أحمد. وقيل: الجهاد، وهو الصحيح من مذهب الإمام أحمد. وقيل: الصلاة، وهو تفضيل الإمام الشافعي رحمهم الله تعالى. والصحيح أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأزمان، فقد يكون كل واحد أفضل في حال حسب المصلحة والحاجة، ولا شك أن العلم نوع من أنواع الجهاد؛ لأن مبنى الشرع كله على العلم، والجهاد مبناه على العلم؛ ولهذا قال الإمام أحمد: ((طلب العلم أفضل الأعمال لمن صحت نيته)). قيل له بأي شيء تصح النية؟ قال: ((ينوي يتواضع فيه ينفي عنه الجهل))، والمراد نفل العلم لا فرضه، فلابد أن يكون قصده بتعلم العلم وتعليمه: وجه الله والدار الآخرة، وينوي بذلك رفع الجهل عن نفسه وعن غيره، وينوي بطلب العلم الدفاع عن الشريعة، ويعمل بالعلم. انظر الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير، 4/ 100 - 101، والأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص96، وحاشية الروض المربع لابن قاسم، 2/ 179 - 180، والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 6 - 7، وكتاب العلم له، ص25 - 32، ومعالم في طريق طلب العلم، للسدحان، ص13 - 15. (¬3) ابن ماجه، كتاب الطهارة، باب المحافظة على الوضوء، برقم277، وأخرجه الدارمي، في كتاب الطهارة، باب ما جاء في الطهور، 1/ 168، والإمام أحمد في المسند، 5/ 276، 277، 280، 282، وله شواهد عند ابن ماجه وغيره من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، برقم278، ومن حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - برقم279، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 2/ 135 - 138. (¬4) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة النافلة في بيته، برقم778. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب صلاة الليل، برقم731،ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد، برقم781.

6 - التطوع يجلب محبة الله لعبده

بيوتكم؛ فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة)) (¬1)؛ ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبوراً)) (¬2). قال الإمام النووي رحمه الله: ((وإنما حثَّ على النافلة في البيت؛ لكونه أخفى وأبعد من الرياء، وأصون من المحبطات؛ وليتبرَّك البيتُ بذلك، وتنزل فيه الرحمة، والملائكة، وينفر منه الشيطان)) (¬3). 6 - التطوّعُ يجلبُ محبة الله لعبده؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تعالى قال: من عادَى لي وليَّاً فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبّه فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته)) (¬4). ظاهره أن محبة الله للعبد تقع بملازمة العبد للفرائض؛ ودوامه والتزامه التقرب بالنوافل بعد الفرائض من صلاة، وصيام، وزكاةٍ، وحج، وغير ذلك (¬5). 7 - كمال التطوع يزيد في شكر العبد لله - عز وجل -؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم من الليل حتى تتفطَّر قدماه، فقالت: لِمَ تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخَّر؟ فقال: ((أفلا ¬

(¬1) مسلم، برقم 781، وتقدم في الذي قبله. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب كراهية الصلاة في المقابر، برقم 432، 1187،ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة النافلة في بيته، برقم777. (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 314، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 1/ 529. (¬4) البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، برقم6502. (¬5) انظر: فتح الباري بشرح صحيح الإمام البخاري، للحافظ ابن حجر، 11/ 343.

ثالثا: جواز صلاة التطوع جالسا:

أكون عبداً شكوراً)) (¬1). وعن المغيرة - رضي الله عنه - قال: قام النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى تورَّمت قدماه فقيل له: غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر؟ قال: ((أفلا أكون عبداً شكوراً)) (¬2). ثالثاً: جواز صلاة التطوع جالساً: تصح صلاة التطوع جالساً مع القدرة على القيام، قال الإمام النووي - رحمه الله -: ((وهو إجماع العلماء)) (¬3). كما يصح أداء بعض التطوع من قيام وبعضه من قعود (¬4)، وأما صلاة الفريضة فالقيام فيها ركن، من تركه مع القدرة عليه فصلاته باطلة (¬5). وقد ثبتت الأحاديث بذلك، ففي حديث عائشة رضي الله عنها في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل، قالت: (( ... كان يصلي من الليل تسع ركعات، فيهن الوتر، وكان يصلي ليلاً طويلاً قائماً، وليلاً طويلاً قاعداً، وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ قاعداً ركع وسجد وهو قاعد ... )) (¬6). وعنها رضي الله عنها قالت: ((ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في شيء من صلاة الليل جالساً حتى إذا كَبِر قرأ جالساً حتى إذا بقي عليه من السورة ثلاثون أو أربعون آية قام فقرأهن ثم ركع)) (¬7). وعن حفصة رضي الله عنها قالت: ((ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى في ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 4837، ومسلم، برقم2820، ويأتي تخريجه في قيام الليل. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 4836، ومسلم، برقم 2819، ويأتي تخريجه في قيام الليل. (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 255، وانظر: المغني لابن قدامة، 2/ 567. (¬4) انظر: شرح النووي، 6/ 256. (¬5) شرح النووي، 6/ 258. (¬6) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب جواز النافلة قائماً، وقاعداً، وفعل بعض الركعات قائماً وبعضها قاعداً، برقم 730. (¬7) متفق عليه: البخاري، كتاب تقصير الصلاة، باب إذا صلى قاعداً ثم صح أو وجد خفة تمم ما بقي، برقم1118، 1119، وكتاب التهجد، باب قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل في رمضان، برقم1148.

كانت صلاته - صلى الله عليه وسلم - بالليل ثلاثة أنواع:

سبحته قاعداً حتى كان قبل وفاته بعام، فكان يصلي في سبحته قاعداً، وكان يقرأ بالسورة فيرتّلها حتى تكون أطول من أطول منها)) (¬1). وصلاة المسلم قائماً أفضل عند القدرة؛ لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يرفعه: ((صلاة الرجل قاعداً نصف الصلاة)) (¬2)؛ولحديث عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الرجل قاعداً فقال: ((إن صلَّى قائماً فهو أفضل، ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم ... )) (¬3). ويستحب لمن صلَّى قاعداً أن يكون مُتربّعاً في حال مكان القيام؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي متربّعاً)) (¬4). قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: ((كانت صلاته [- صلى الله عليه وسلم -] بالليل ثلاثة أنواع: أحدها: وهو أكثرها: صلاته قائماً. الثاني: أنه كان يصلي قاعداً ويركع قاعداً. الثالث: أنه كان يقرأ قاعداً، فإذا بقي يسير من قراءته قام فركع قائماً. والأنواع الثلاثة صحَّت عنه [- صلى الله عليه وسلم -] (¬5). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله - ¬

(¬1) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب جواز النافلة قائماً وقاعداً، برقم733. (¬2) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب جواز النافلة قائماً وقاعداً، برقم735. (¬3) البخاري، كتاب تقصير الصلاة، باب صلاة القاعد، برقم1115 وتمامه: ((ومن صلى نائماً فله نصف أجر القاعد))، والنائم ((المضطجع))، ورجح الخطابي أن المتطوع لا يصلي مضطجعاً، وإنما هذا للمريض المفترض الذي يمكنه أن يتحامل فيقوم مع مشقة فجعل القاعد على النصف من أجر القائم، ترغيباً في القيام مع جواز قعوده ... وقال في صلاة المتطوع القادر مضطجعاً: ((إنه لا يحفظ عن أحد من أهل العلم إنه رخص في ذلك)). نقلاً بتصرف عن فتح الباري لابن حجر، 2/ 585، وسمعت سماحة الإمام ابن باز - رحمه الله - يعلق على هذا الكلام فيقول: ((وهذا هو أقرب ما قيل، أما الذي لا قدرة له في الفرض على القيام ولا القعود فله أجره كاملاً، أما المتنفل فلا يصلي مضطجعاً لغير عذر)). (¬4) أخرجه النسائي، كتاب قيام الليل، باب كيف صلاة القاعد، برقم 1661، والحاكم ووافقه الذهبي، 1/ 258، 275، وابن خزيمة، برقم 1238،وصححه الألباني في صحيح النسائي،1/ 365. (¬5) زاد المعاد، 1/ 331.

رابعا: جواز التطوع على المركوب في السفر الطويل والقصير:

يقول: ((كانت صلاة النبي عليه الصلاة والسلام بالليل على أنواع أربعة كما هو مجموع روايات عائشة رضي الله عنها: 1 - يصلي قائماً ويركع قائماً. 2 - يصلي وهو قاعد ثم إذا لم يبقَ من القراءة إلا نحو من ثلاثين آية أو أربعين قام فقرأ بها ثم ركع. 3 - يصلي وهو قاعد ثم إذا ختم قراءته قام فركع. 4 - يصلي وهو جالس، ويركع وهو جالس)) (¬1). رابعاً: جواز التطوع على المركوب في السفر الطويل والقصير: يصح التطوع على المركوب في السفر: من راحلة، وطائرة، وسيارة، وسفينة وغيرها من وسائل النقل، أما الفريضة فلا بد من النزول لها إلا عند العجز؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في السفر على راحلته حيث توجَّهت به، يومئ [برأسه] إيماءً صلاة الليل إلا الفرائض، ويوتر على راحلته)). وفي لفظ: ((غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة)) (¬2)، ولحديث عامر بن ربيعة - رضي الله عنه - قال: ((رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي على راحلته حيث توجَّهت به)). وفي لفظ: ((ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع ذلك في المكتوبة)). وفي لفظ: ((أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي السبحة بالليل في السفر على ظهر راحلته حيث توجهت به)) (¬3)؛ولحديث جابر - رضي الله عنه - قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على راحلته حيث توجهت به، فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة)) (¬4).وفي ¬

(¬1) سمعته من سماحته أثناء تقريره على الحديث رقم1118، 1119من صحيح البخاري. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الوتر، باب الوتر في السفر، برقم 999، 1000، ورقم 1095، 1096، 1098، 1105، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت، برقم700. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم1093، 1104، ومسلم، برقم701، وتقدم تخريجه. (¬4) البخاري، برقم400، 1094، 1099، 4140، وتقدم تخريجه.

لفظ: ((كان يصلي على راحلته نحو المشرق، فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل فاستقبل القبلة)).وفي هذا أحاديث أخرى كحديث أنس - رضي الله عنه - (¬1). ويستحب استقبال القبلة عند تكبيرة الإحرام؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سافر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة، فكبر، ثم صلى حيث وجَّهَهُ ركابه)) (¬2)،فإذا لم يفعل ذلك فالصلاة صحيحة عملاً بالأحاديث الصحيحة كما رجحه الإمام عبد العزيز ابن باز -رحمه الله- (¬3). وذكر الإمام النووي - رحمه الله - ((أن التنفل على الراحلة في السفر الذي تُقصر فيه الصلاة جائز بإجماع المسلمين ... )) (¬4). وأما السفر الذي لا تقصر فيه الصلاة فالصواب جواز ذلك، وهو مذهب الجمهور (¬5)؛لقول الله تعالى: {وَلله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله إِنَّ الله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (¬6)، وقد رجح الإمام ابن جرير-رحمه الله-أن هذه الآية تدخل فيها صلاة التطوع في السفر على الراحلة حيثما توجهت بك راحلتك (¬7). وقد ذكر الحافظ ابن حجر - رحمه الله - عن الإمام الطبري - رحمه الله - أنه احتج للجمهور: أن الله جعل التيمم رخصة للمريض والمسافر، وقد أجمعوا على أن من كان خارج المصر على ميل أو أقل ونيته العود إلى منزله لا إلى سفرٍ آخر، ولم يجد ماءً، أنه يجوز له التيمم، فكما جاز له التيمم في هذا القدر جاز له التنفل على الدابة لاشتراكهما في الرخصة (¬8). ¬

(¬1) صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب جواز صلاة النافلة على الدابة، برقم702. (¬2) أبو داود، برقم1225،وحسنه الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام، الحديث رقم 228،وتقدم تخريجه. (¬3) سمعته يرجح ذلك أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 228. (¬4) شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 216. (¬5) انظر: فتح الباري لابن حجر، 2/ 575، وشرح النووي، 5،217، والمغني لابن قدامة، 2/ 96. (¬6) سورة البقرة، الآية: 115. (¬7) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن،3/ 530،و533،وانظر: المغني لابن قدامة،2/ 95 - 96. (¬8) فتح الباري بشرح صحيح البخاري،2/ 575،وقد ذكر صاحب المغني أن الأحكام التي يستوي فيها السفر الطويل والقصير ثلاثة: التيمم، وأكل الميتة في المخمصة، والتطوع على الراحلة، وبقية الرخص تختص بالسفر الطويل. المغني لابن قدامة،2/ 96.

خامسا: أخلص مواضع صلاة التطوع:

خامساً: أخلص مواضع صلاة التطوع: صلاة التطوع تصلى في المسجد، وفي البيت، وفي كل مكان طاهر: كالصحراء وغيرها، ولكن صلاتها في البيت أفضل إلا ما شرعت له الجماعة كصلاة التراويح ففعلها في المسجد أفضل. أما صلاة التطوع التي لم تشرع لها الجماعة فقد ثبتت الأحاديث التي تبين أن فعلها في البيت أفضل، منها حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه - وفيه: ((فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)) (¬1).وحديث جابر (¬2)، وابن عمر (¬3) - رضي الله عنهم - كلها تدل على أن أفضل الصلاة في البيت إلا المكتوبة. سادساً: أحب التطوع إلى الله ما دُووِمَ عليه: أحب الأعمال إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قلّ؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: كانت عندي امرأة من بني أسد، فدخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((من هذه؟)) قلت: فلانة، لا تنام الليل، تذكر من صلاتها، فقال: ((مه، عليكم ما تطيقون من الأعمال؛ فإن الله لا يملّ حتى تملُّوا)). [وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه] (¬4)؛ ولحديث أنس - رضي الله عنه - قال: دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجد فإذا حبل ممدود بين ساريتين فقال: ((ما هذا الحبل؟)) قالوا: لزينب تصلي فإذا كسلت أو فَتَرتْ أمسكت به، ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 731، ومسلم، 781، وتقدم تخريجه. (¬2) أخرجه مسلم، برقم 778، وتقدم تخريجه. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم 432، ومسلم، برقم 777، وتقدم تخريجه. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب التهجد، باب ما يكره من التشديد في العبادة، 1151، ورقم 43 من كتاب الإيمان، باب أحب الدين إلى الله أدومه، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره، برقم 785.

فقال: ((لا، حُلّوه، ليُصلّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقْعُدْ)) (¬1). وقال مسروق: سألت عائشة رضي الله عنها: أي العمل كان أحبّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: الدائم، قلت: متى كان يقوم؟ قالت: كان يقوم إذا سمع الصارخ (¬2)؛ ولحديث عائشة رضي الله عنها ترفعه، وفيه: ((خذوا من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله لا يملُّ حتى تملُّوا)). وأحبُّ الصلاة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما دُووِمَ عليه وإن قلَّت، وكان إذا صلى صلاة داوم عليها (¬3)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الدين يسر، ولن يشادّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه، فسدّدوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والرَّوحة، وشيء من الدّلجة)). وفي رواية: ((لن يُدخل أحداً عملُه الجنة)) قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((لا، ولا أنا إلا أن يتغمَّدنيَ الله بفضلٍ ورحمة، فسدّدوا وقاربوا، ولا يتمنَّى أحدكم الموت، إما محسناً فلعله أن يزداد، وإما مسيئاً فلعله أن يستعتِب)). وفي رواية: ((سدّدوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيئاً من الدّلجة، والقصدَ القصدَ تبلغوا)) (¬4)؛ ولحديث عائشة رضي الله عنها وفيه: (( ... وأن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ)). وفي رواية: ((سدّدوا وقاربوا، وأبشروا؛ فإنه لا يُدخِلُ أحداً الجنةَ عملُه)) قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب التهجد، باب ما يكره من التشديد في العبادة، برقم 1150، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره والأمر بالاقتصاد في العبادة، برقم 784. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب التهجد، باب من نام عند السحر، برقم 1132، وكتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل، برقم 6461، 6462، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 741، والصارخ: الديك. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الصوم، باب صوم شعبان، برقم 1970،وفي كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل برقم 6465،ومسلم، كتاب الصيام، باب صيام النبي - صلى الله عليه وسلم -،برقم 782. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، باب الدين يسر، برقم 39، وكتاب المرضى، باب تمني المريض الموت، برقم 5673، وكتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل، برقم 6463، ومسلم، كتاب صفات المنافقين، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى، برقم 2816.

سابعا: جواز صلاة التطوع جماعة أحيانا:

ورحمة)) (¬1)؛ ولحديث عائشة رضي الله عنها أنها سُئِلت كيف كان عمل النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: ((كان عمله ديمة، وأيكم يستطيع ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستطيع)) (¬2). وفي هذه الأحاديث الحثُّ على المداومة على العمل وإن قلّ، والاقتصاد في العبادة، واجتناب التعمق والتشدد، وأن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ (¬3). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فإن الله لا يملُّ حتى تملُّوا)) هذا الملل لا يشابه ملل المخلوقين، وليس فيه نقص ولا عيب، بل كما يليق بالله - عز وجل -، وسمعت الإمام عبد العزيز ابن باز-رحمه الله- يقول: ((هذا مثل بقية الصفات، ومن مقتضاه أنه لا يقطع الثواب حتى تقطعوا العمل)) (¬4). سابعاً: جواز صلاة التطوع جماعة أحياناً: لا بأس أن يصلي المسلم صلاة التطوع جماعة أحياناً؛ لحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: ((صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة فأطال حتى هممت بأمر سوءٍ، قيل: وما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه)) (¬5)؛ ولحديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: ((صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى فقلت يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها يقرأ مسترسلاً، إذا مرَّ بآية تسبيح سبَّح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مرَّ بتعوذٍ تعوَّذ ... )) (¬6). وعن عوف بن مالك - رضي الله عنه - قال: ((قمت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة فقرأ سورة البقرة، لا يمرُّ بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمرُّ بآية عذاب ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل، برقم 6464، 6467، ومسلم، كتاب صفات المنافقين، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله، برقم 2818. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل، برقم 6466، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب فضيلة العمل الدائم، برقم 783. (¬3) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 316. (¬4) سمعته من سماحته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 1970. (¬5) متفق عليه: البخاري، برقم 1135، ومسلم، برقم 773، ويأتي تخريجه. (¬6) مسلم، برقم 772، ويأتي تخريجه.

إلا وقف وتعوَّذ، ثم ركع بقدر قيامه يقول في ركوعه: ((سبحان ذي الجبروت، والملكوت، والكبرياء، والعظمة)) ثم سجد بقدر قيامه، ثم قال في سجوده مثل ذلك، ثم قام فقرأ بآل عمران، ثم قرأ سورة سورة)) (¬1). وحديث ابن عباس رضي الله عنهما في وصف صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيه: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام من الليل قال فقمت إلى جنبه ... )) (¬2). وحديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن جدته مليكة دعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لطعام صنعته فأكل منه، ثم قال: ((قوموا فأصلي لكم))، قال أنس بن مالك: فقمت إلى حصير لنا قد اسودَّ من طول ما لُبِسَ فنضحته بماء فقام عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا، فصلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين ثم انصرف)) (¬3). وفي حديث أنس الآخر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليهم هو وأمه، وأم حرام خالة أنس، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((قوموا فلأصلي بكم)) في غير وقت صلاة، فصلَّى بهم، وجعل أنس عن يمينه، وأقام المرأة خلفهم (¬4). وعن عِتبان بن مالك - رضي الله عنه - أنه كان يصلي بقومه فحال بينه وبينهم وادٍ إذا جاءت الأمطار شقَّ عليه اجتيازُه، وقد أنكر بصره، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي إليه ويصلي في بيته في مكان يتخذه مصلى، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر معه، فلم يجلس حتى قال: ((أين تحبُّ أن أصلّيَ من بيتك؟)) فأشار إليه إلى المكان الذي يحب، قال: فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكبَّرَ وصفَفْنا وراءه، فصلى ركعتين ثم سلَّم، وسلَّمنا حين سلَّم ... وفي آخر الحديث: (( ... فإن الله قد ¬

(¬1) أبو داود، برقم 873، والنسائي، برقم 1049، ويأتي تخريجه. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 992، ومسلم، برقم 82 - (763)، ويأتي تخريجه. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة على الحصير، برقم 380، ومسلم، كتاب المساجد، باب جواز صلاة الجماعة في النافلة، برقم 658. (¬4) متفق عليه، ولفظه لمسلم: البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة على الحصير، برقم 380، ومسلم، كتاب المساجد، باب جواز الجماعة في النافلة، برقم 660.

ثامنا: أقسام صلاة التطوع:

حرَّم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)) (¬1). وفي هذه الأحاديث جواز النافلة جماعة في غير التراويح في رمضان، ولكن لا يتخذ ذلك سنة دائمة وإنما في بعض الأحيان؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أكثر تطوعه منفرداً (¬2). ثامناً: أقسام صلاة التطوع: صلاة التطوع أقسام، منها السنن الرواتب الدائمة، والوتر، وصلاة الضحى، ومنها ما تُسن له الجماعة، ومنها التطوع المطلق، والتطوع المقيَّد، ومنها ما هو مقيَّد بسبب، ومنها غير ذلك، وكلها يطلق عليها صلاة التطوع (¬3). وأقسام التطوع على النحو الآتي: القسم الأول: السنن الدائمة المستمرة وهي أنواع: النوع الأول: السنن الرواتب (¬4) مع الفرائض، وهي على النحو الآتي: 1 - الرواتب المؤكدة مع الفرائض: اثنتا عشرة ركعة؛ لحديث أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من صلى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بُنيَ له بيتٌ في الجنة)). وفي لفظ: ((ما من عبدٍ مسلمٍ يصلي لله كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير فريضة إلا بنى الله له بيتاً في الجنة، أو بُني له بيتٌ في الجنة)) (¬5). وجاء تفسيرها في سنن الترمذي من حديث أم حبيبة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب التهجد، باب صلاة النوافل جماعة، برقم 1186، ومسلم، كتاب المساجد، باب الرخصة في التخلف عن الجماعة لعذر، برقم 33. (¬2) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 168، ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 275، والمغني لابن قدامة، 2/ 567، والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 83. (¬3) انظر: الشرح الممتع على زاد المستنقع، للعلامة ابن عثيمين، 4/ 6. (¬4) الراتبة: أي الدائمة المستمرة، انظر: الشرح الممتع، 4/ 93. (¬5) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب فضل السنن الرواتب قبل الفرائض وبعدهن وبيان عددهن، برقم 728.

في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة بُني له بيتٌ في الجنة: أربعاً قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر)) (¬1). ومن حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من ثابر (¬2) على اثنتي عشرة ركعة من السنة بنى الله له بيتاً في الجنة: أربع ركعات قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر)) (¬3). وحديث عائشة الآخر: ((كان لا يدع أربعاً قبل الظهر وركعتين قبل الغداة)) (¬4). وثبت من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل صلاة الصبح))، وفي رواية: ((وركعتين بعد الجمعة في بيته)) (¬5). فالرواتب اثنتي عشرة ركعة، كما قالت أم حبيبة وعائشة رضي الله عنهما، أو عشر ركعات كما قال ابن عمر رضي الله عنهما، وسمعت شيخنا الإمام ابن باز - رحمه الله - يذكر أن من أخذ بحديث ابن عمر قال: الرواتب عشر، ومن أخذ بحديث عائشة قال: اثنتي عشرة، ويؤيد حديث عائشة ما رواه الترمذي في تفسيرها، ويدل عليه حديث أم حبيبة في فضل هذه الرواتب، ويحتمل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان تارة يصلي اثنتي عشرة ركعة كما في حديث ¬

(¬1) الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء فيمن صلى في يوم ثنتي عشرة ركعة من السنة وما له فيه من الفضل، برقم 415،قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في سنن الترمذي،1/ 131. (¬2) من ثابر: يقال ثابر على الشيء إذا حرص على فعله، جامع الأصول لابن الأثير،6/ 5. (¬3) الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء فيمن صلى في يوم ثنتي عشرة ركعة من السنة وما له فيه من الفضل، برقم 414،وابن ماجه، كتاب الصلاة، باب ما جاء في اثنتي عشرة ركعة من السنة، برقم 1140،وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي،1/ 131،وفي صحيح سنن ابن ماجه، 1/ 188. (¬4) البخاري، كتاب التهجد، باب الركعتين قبل الظهر، برقم 182. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب التهجد، باب الركعتين قبل الظهر، برقم 118، ورقم 937، ورقم 1165 و1172، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب فضل السنن الرواتب، برقم 729.

2 - السنن تفصيلا: المؤكدة وغير المؤكدة مع الفرائض

أم حبيبة وعائشة، وتارة يصلي عشراً كما في حديث ابن عمر، فإذا نَشِط المسلم صلى اثنتي عشرة، وإذا كان هناك شاغل صلى عشراً، وكلها رواتب، والكمال والتمام أن يصلي كما في حديث عائشة وأم حبيبة رضي الله عنهما (¬1). 2 - السنن تفصيلاً: المؤكدة وغير المؤكدة مع الفرائض: اثنتان وعشرون ركعة، وهي على النحو الآتي: أ- أربع ركعات قبل الظهر، وأربع بعدها؛ لحديث أم حبيبة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من حافظ على أربعِ ركعات قبل الظهر، وأربعٍ بعدها حرَّمه الله على النار)) (¬2). ب- أربع ركعات قبل العصر؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رحم الله امرءاً صلى قبل العصر أربعاً)) (¬3). وجاء عن علي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((كان يصلي قبل العصر ركعتين)) (¬4). ج- ركعتان قبل المغرب وركعتان بعدها؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - وفيه: ((وكنا نصلي ¬

(¬1) سمعته من سماحته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 374. (¬2) أحمد في المسند، 6/ 326، وأبو داود، كتاب التطوع، باب الأربع قبل الظهر وبعدها، برقم 1269، والترمذي، كتاب الصلاة، باب منه، برقم 427، وحسنه، والنسائي، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب الاختلاف على إسماعيل بن أبي خالد، برقم 1814، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، والسنة فيها، باب ما جاء فيمن صلى قبل الظهر أربعاً وبعدها أربعاً، برقم 1160، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 1/ 191، وسمعت الإمام العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز يقول أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 381: ((هذا الحديث إسناده جيد، والذي حافظ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - هو ما في حديث ابن عمر وعائشة - رضي الله عنهم -))، قلت: وقد رأيته يصلي أربعاً قبل الظهر وأربعاً بعدها جالساً في آخر حياته رحمه الله. (¬3) أحمد في المسند 2/ 117، وأبو داود، كتاب التطوع، باب الصلاة قبل العصر، برقم 1271، والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في الأربع قبل العصر، برقم 430، وحسنه، وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه، برقم 1193، وغيرهم، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 237، وسمعت الإمام عبد العزيز ابن باز أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 382، يقول: ((جيد لا بأس بإسناده، وهو يدل على مشروعية صلاة أربع [ركعات] قبل العصر، وذلك سنة، وليست من الرواتب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يواظب عليها، وجاء عنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث علي - رضي الله عنه - أنه كان يصلي ركعتين قبل العصر، وهذا يدل على أنه يستحب للمؤمن أن يصلي قبل العصر ركعتين أو أربعاً)). (¬4) أبو داود، كتاب صلاة التطوع، باب الصلاة قبل العصر، برقم 1272،وقال العلامة الألباني، صحيح سنن أبي داود،1/ 237: ((حسن لكن بلفظ أربع ركعات)).

د- ركعتان قبل صلاة العشاء، وركعتان بعدها

على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب)) (¬1). وقال - رضي الله عنه -: ((كنا في المدينة فإذا أذَّن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري فركعوا ركعتين، ركعتين حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليهما)) (¬2)؛ولحديث عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((صلوا قبل صلاة المغرب))،قال في الثالثة: ((لمن شاء)) (¬3). وفي رواية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((صلى قبل المغرب ركعتين)) (¬4). وعن عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة))، قال في الثالثة: ((لمن شاء)) (¬5). وهذه الأحاديث تدلّ على أن الركعتين قبل المغرب سنة قولية، وفعلية، وتقريرية. وأما الركعتان بعد المغرب فهي سنة مؤكدة كما تقدم من حديث عائشة، وأم حبيبة، وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم -. والسنة أن يقرأ في الركعتين بعد المغرب بـ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكافرون}، و {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} لحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: ((ما أُحصي ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الركعتين بعد المغرب، وفي الركعتين قبل صلاة الفجر، بـ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكافرون}،و {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} (¬6). د- ركعتان قبل صلاة العشاء، وركعتان بعدها؛ لحديث عبد الله بن ¬

(¬1) مسلم، برقم 836، وتقدم تخريجه. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 625، ومسلم، برقم 837، وتقدم تخريجه. (¬3) البخاري، برقم 1183، ورقم 7368، وتقدم تخريجه. (¬4) صحيح ابن حبان [الإحسان]، 3/ 457 برقم 1588، وقال شعيب الأرنؤوط: ((إسناده صحيح على شرط مسلم)). (¬5) البخاري، برقم 624، وتقدم تخريجه. (¬6) الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في الركعتين بعد المغرب والقراءة فيهما، برقم 431،وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما يقرأ في الركعتين بعد المغرب، برقم 1166،قال الألباني في صحيح سنن الترمذي: ((حسن صحيح))،1/ 135.

هـ- ركعتان قبل الفجر، وسنة الفجر آكد السنن الرواتب؛ لأمور تسعة:

مغفل - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة))، ثم قال في الثالثة: ((لمن شاء)) (¬1). وأما الركعتان بعد العشاء، فهي سنة راتبة مؤكدة كما تقدم من حديث عبد الله بن عمر، وعائشة، وأم حبيبة - رضي الله عنهم -. هـ- ركعتان قبل الفجر، وسنة الفجر آكد السنن الرواتب؛ لأمور تسعة: الأمر الأول: شدة تعاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لها يدلُّ على عظمها؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - على شيء من النوافل أشدَّ منه تعاهداً على ركعتي الفجر)) (¬2). الأمر الثاني: بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - فضلها، فعن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها)) (¬3). الأمر الثالث: السنة تخفيفهما؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخفف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح حتى إني لأقول: ((هل قرأ بأمّ الكتاب؟)) (¬4). الأمر الرابع: وقتها بين الأذان والإقامة؛ لحديث حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سكت المؤذن من الأذان لصلاة الصبح وبدا الصبح ركع ركعتين خفيفتين قبل أن تقام الصلاة (¬5)؛ولحديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي ركعتين خفيفتين بين النداء ¬

(¬1) البخاري، برقم 624، 627، وتقدم تخريجه. (¬2) متفق عليه: البخاري، تاب التهجد، باب تعاهد ركعتي الفجر ومن سماهما تطوعاً برقم 1169، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب ركعتي الفجر، برقم 724. (¬3) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب ركعتي سنة الفجر، برقم 725. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب التهجد، باب ما يقرأ في ركعتي الفجر، برقم 1171، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب ركعتي الفجر، برقم 724. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب الأذان بعد الفجر، برقم 618، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب ركعتي الفجر والحث عليهما، برقم 723.

الأمر الخامس: لا يصلى بعدها إلا فريضة الفجر

والإقامة من صلاة الصبح (¬1). الأمر الخامس: لا يُصلّى بعدها إلا فريضة الفجر؛ لحديث حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين (¬2). الأمر السادس: يقرأ فيهما: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكافرون}،و {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ}؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ في ركعتي الفجر: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكافرون}، و {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} (¬3)،أو يقرأ في الركعة الأولى: {قُولُواْ آمَنَّا بِالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا} الآية التي في البقرة (¬4). وفي الآخرة منهما: {آمَنَّا بِالله وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (¬5). وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في ركعتي الفجر: {قُولُواْ آمَنَّا بِالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا}، والتي في آل عمران: {تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} (¬6). الأمر السابع: الاضطجاع بعدهما؛ لحديث عائشة رضي الله عنها ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى سنة الفجر اضطجع على شقه الأيمن)) (¬7). وفي لفظِ مسلمٍ: (( ... فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر وتبين له الفجر، وجاءه المؤذن قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن، حتى ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب الأذان بعد الفجر، برقم 619،ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب ركعتي سنة الفجر والحث عليهما، برقم724. (¬2) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب ركعتي سنة الفجر والحث عليهما، برقم 723. (¬3) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب ركعتي سنة الفجر والحث عليهما، برقم 726. (¬4) سورة البقرة، الآية: 136. (¬5) سورة آل عمران، الآية: 52. (¬6) سورة آل عمران، الآية: 64، والحديث أخرجه مسلم، في كتاب المسافرين، باب استحباب ركعتي الفجر، برقم 727. (¬7) متفق عليه: البخاري، كتاب التهجد، باب الضجعة على الشق الأيمن بعد ركعتي الفجر، برقم 1160، واللفظ له، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل وعددها، برقم 736.

الأمر الثامن: لا تترك في الحضر ولا في السفر

يأتيه المؤذن للإقامة)) (¬1). الأمر الثامن: لا تُتْرَكُ في الحضر ولا في السفر؛ لحديث عائشة رضي الله عنها وفيه: ((ولم يكن يدعهما أبداً)) (¬2)، وهذا يدل على أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يداوم على ركعتي سنة الفجر في الحضر والسفر (¬3). الأمر التاسع: قضاء سنة الفجر، من فاتته راتبة الفجر صلاها بعدها أو بعدما ترتفع الشمس؛ لحديث قيس بن عمرو - رضي الله عنه - قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقيمت الصلاة فصليت معه الصبح، ثم انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجدني أصلي، فقال: ((مهلاً يا قيس أصلاتان معاً؟))، قلت: يا رسول الله إني لم أكن ركعت ركعتي الفجر، قال: ((فلا إذن)) (¬4)، ولحديث قيس الآخر - رضي الله عنه - قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يصلي بعد صلاة الصبح ركعتين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة الصبح ركعتان))،فقال الرجل: إني لم أكن صليت الركعتين اللتين قبلهما فصليتهما الآن، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5).ولفظ ابن ماجه: ((أصلاة الصبح مرتين؟)) الحديث (¬6). أو يصليها بعد ارتفاع الشمس؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من لم يصلّ ركعتي الفجر فليصلهما بعدما تطلع الشمس)) (¬7). ¬

(¬1) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل وعددها، برقم 736. (¬2) متفق عليه: البخاري واللفظ له، كتاب التهجد، باب المداومة على ركعتي الفجر، برقم 1159، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب ركعتي سنة الفجر والحث عليهما، برقم 724. (¬3) انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 196، و2/ 540، وزاد المعاد لابن القيم، 1/ 315، وفتح الباري لابن حجر، 3/ 43، ومجموع فتاوى ومقالات الإمام ابن باز، 11/ 390، والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 96. (¬4) الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء فيمن تفوته الركعتان قبل الفجر، برقم 422، وصححه الألباني في سنن الترمذي، 1/ 133. (¬5) أبو داود، كتاب التطوع، باب من فاتته متى يقضيهما، برقم 1267، واللفظ له، وأخرجه ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء فيمن فاتته الركعتان قبل صلاة الفجر متى يقضيهما، برقم 1154،وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود،1/ 136،وصحيح ابن ماجه،1/ 190. (¬6) ابن ماجه، برقم 1154، وتقدم تخريجه في الذي قبله. (¬7) الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في إعادتهما بعد طلوع الشمس، برقم 423،وابن حبان في صحيحه، برقم 4272، والحاكم وصححه، 1/ 274، والدارقطني، 1/ 382 - 383، والبيهقي، 2/ 482،وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي،1/ 133،وانظر: المغني لابن قدامة،2/ 531.

ز- السنة الراتبة بعد الجمعة أربع ركعات

وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى راتبة الفجر مع الفريضة لما نام عن الفجر في السفر، فصلى الراتبة قبل الفريضة، ثم صلى الفريضة، وذلك بعد ارتفاع الشمس (¬1)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نام عن ركعتي الفجر فقضاهما بعدما طلعت الشمس (¬2). ز- السنة الراتبة بعد الجمعة أربع ركعات، أما قبل صلاة الجمعة فيصلي المسلم صلاة مطلقة، وليس لها قبلها سنة راتبة مقدرة، بل يشتغل بالتطوع المطلق والذكر حتى يخرج الإمام (¬3). أما راتبة الجمعة بعدها؛ فلحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه حفظ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السنن الرواتب وفيه: ((وركعتين بعد الجمعة في بيته)) (¬4)؛ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا صلى أحدُكم الجمعة فليصلّ بعدها أربعاً)).وفي لفظ: ((إذا صليتم بعد الجمعة فصلوا أربعاً)).وفي لفظ ثالث: ((من كان منكم مصلياً بعد الجمعة فليصلّ أربعاً))،قال سهيل أحد رواة الحديث: ((فإن عجل بك شيء فصلّ ركعتين في المسجد، وركعتين إذا رجعت)) (¬5). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فسجد سجدتين في بيته، ثم قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع ذلك)) (¬6). واختلف أهل العلم في الراتبة بعد صلاة الجمعة، فمنهم من قال: يصليها أربعاً؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ومنهم من قال: يصليها ركعتين في ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة، برقم 681. (¬2) ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، برقم 1155، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 1/ 190. (¬3) انظر: زاد المعاد، 1/ 277، 436، 378. (¬4) البخاري، برقم 182، وتقدم تخريجه. (¬5) مسلم، كتاب الجمعة، باب الصلاة بعد الجمعة، برقم 881. (¬6) مسلم، كتاب الجمعة، باب الصلاة بعد الجمعة، برقم 882.

البيت؛ لحديث ابن عمر من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذكر الإمام ابن القيم أنه سمع شيخه ابن تيمية - رحمهما الله - يقول: ((إن صلّى في المسجد صلَّى أربعاً، وإن صلّى في بيته صلّى ركعتين))، ثم قال ابن القيم: ((وعلى هذا تدل الأحاديث، وقد ذكر أبو داود (¬1) عن ابن عمر أنه كان إذا صلّى في المسجد صلى أربعاً، وإن صلّى في بيته صلّى ركعتين)) (¬2). قال الإمام الصنعاني - رحمه الله -: ((والأربع أفضل من الاثنتين لوقوع الأمر بذلك ... )) (¬3). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يذكر أن أهل العلم اختلفوا في هذا: ((فقال قوم: إن صلاها في المسجد صلى أربعاً، وإن صلى في البيت صلى اثنتين جمعاً بين الروايات، وقال آخرون: أقلها اثنتان وأكثرها أربع، ولا فرق بين كونها تُصلَّى في البيت أو في المسجد، وهذا القول أظهر؛ لأن القول مقدم على الفعل، والأربع أفضل؛ لأنه يتعلق بها الأمر)) (¬4). وأما الصلاة قبل الجمعة فنافلة مطلقة بدون تقدير؛ لحديث سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من الطهر، ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)) (¬5)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من اغتسل ثم أتى الجمعة فصلى ما قُدّر له، ثم أنصت حتى يفرغ ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الصلاة بعد الجمعة، برقم 1130، وصححه الألباني في سنن أبي داود، 1/ 210. (¬2) زاد المعاد، 1/ 440. (¬3) سبل السلام، 3/ 181. (¬4) سمعته من سماحته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 484. (¬5) البخاري، كتاب الجمعة باب الدهن للجمعة، برقم 883، و910.

3 - وقت الرواتب مع الفرائض

من خطبته، ثم يصلي معه، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام)) (¬1). قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: ((فندبه إلى الصلاة ما كتب له، ولم يمنعه عنها إلا في وقت خروج الإمام؛ ولهذا قال غير واحد من السلف: منهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وتبعه عليه الإمام أحمد بن حنبل: خروج الإمام يمنع الصلاة، وخطبته تمنع الكلام، فجعلوا المانع من الصلاة خروج الإمام لانتصاف النهار)) (¬2). وذكر - رحمه الله - أن الصلاة لا تُكره قبل زوال يوم الجمعة حتى يخرج الإمام كما هو مذهب الشافعي واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (¬3)، وأما إذا تأخر المأموم حتى صعد الإمام المنبر فإنه يصلي ركعتين خفيفتين تحية المسجد؛ لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة إذ جاء رجل، فقال: له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أصليت يا فلان؟)) قال: لا، قال: ((قم فصلّ ركعتين))، وفي لفظ: ((إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوَّز فيهما)) (¬4). 3 - وقت الرواتب مع الفرائض: كل سنة قبل الصلاة فوقتها من دخول الوقت إلى إقامة الصلاة، وكل سنة بعدها فوقتها من الفراغ من الصلاة إلى خروج وقتها (¬5). 4 - قضاء الرواتب، قد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا لم يصلّ أربعاً قبل الظهر صلاهن بعدها (¬6). ¬

(¬1) مسلم، كتاب الجمعة، باب فضل من استمع وأنصت في الخطبة، برقم 857. (¬2) زاد المعاد في هدي خير العباد، 1/ 378، 437. (¬3) المرجع السابق، 1/ 378، 437. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الجمعة، باب من جاء والإمام يخطب صلى ركعتين خفيفتين، برقم 931، ومسلم، كتاب الجمعة، باب التحية والإمام يخطب، برقم 875. (¬5) انظر: المغني لابن قدامة، 2/ 544. (¬6) الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في الركعتين بعد الظهر، برقم 426، وحسنه، وصححه أحمد شاكر في تحقيقه لسنن الترمذي، 2/ 291، وحسنه الأرنؤوط في تحقيقه لجامع الأصول من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، 6/ 23.

وهذا والله أعلم، لأهمية هذه الراتبة؛ لحديث عبد الله بن السائب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي أربعاً بعد أن تزول الشمس قبل الظهر، وقال: ((إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء وأحبّ أن يصعد لي فيها عمل صالح)) (¬1)،وسألت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله-: هل هذه راتبة صلاة الظهر أم غيرها؟ فبين - رحمه الله - أنها راتبة الظهر. وثبت أن قيس بن عمرو - رضي الله عنه - قضى راتبة الفجر بعدها فأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وثبت من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من لم يُصلّ ركعتي الفجر فليصلّهِما بعدما تطلع الشمس)) (¬3)، وثبت من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أيضاً ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نام عن ركعتي الفجر فقضاهما بعدما طلعت الشمس)) (¬4). وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى راتبة الفجر مع الفريضة لما نام عن صلاة الفجر في السفر (¬5)، فدلَّ ذلك على استحباب قضاء سنة الظهر التي قبلها بعدها، ودلَّ على استحباب قضاء سنة الفجر بعد الصلاة، أو بعد ارتفاع الشمس، وأن الرواتب تُقضى مع الصلاة الفائتة. وقد سألت شيخنا الإمام ابن باز - رحمه الله -: هل تقضى الرواتب؟ فبين أن الرواتب لا تقضى إلا مع الفوائت من الفرائض، أما قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة الظهر بعد العصر فهذا خاص به (¬6). قلت: إلا ما ثبتت به السنة من قضاء راتبة الظهر القبلية بعدها، وقضاء راتبة ¬

(¬1) الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في الصلاة عند الزوال، برقم 478، وحسنه، وقال الأرنؤوط في تحقيقه لجامع الأصول، 6/ 24: ((وإسناده صحيح))، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 147. (¬2) الترمذي، برقم 422،وأبو داود، برقم 1267،وابن ماجه، برقم 1154،وتقدم تخريجه. (¬3) الترمذي، برقم 423، وتقدم تخريجه. (¬4) ابن ماجه، برقم 1155، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 1/ 190، وتقدم تخريجه. (¬5) مسلم، برقم 681، وتقدم تخريجه. (¬6) وقد علقته على حاشية زاد المعاد، 1/ 308.

5 - الفصل بين الرواتب والفرائض بخروج أو كلام

الفجر بعد الصلاة، أو بعد طلوع الشمس وارتفاعها، وقضاء الوتر شفعاً بالنهار لمن نسيه أو نام عنه. وهذا الذي يفتي به - رحمه الله - حتى مات. 5 - الفصل بين الرواتب والفرائض بخروج أو كلام؛ لحديث السائب بن يزيد أن معاوية - رضي الله عنه - قال له: إذا صليت الجمعة فلا تَصِلْها بصلاةٍ حتى تتكلم أو تخرج؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بذلك: ((أن لا توصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج)) (¬1). وهذا ليس خاصاً بصلاة الجمعة؛ لأن الراوي استدل على تخصيصه بذكر صلاة الجمعة بحديث يعمها وغيرها، قيل: والحكمة في ذلك لئلا يشتبه الفرض بالنافلة، وقد ورد أن ذلك هلكة (¬2)، وعن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى العصر، فقام رجل يصلي، فرآه عمر فقال له: اجلس فإنما أهلك أهل الكتاب أنه لم يكن لصلاتهم فصل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أحسن ابن الخطاب)) (¬3)، وسمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول عن الحكمة في النهي: ((لأن وصلها بها يوهم بأنها تابعة لها، وهذا في الجمعة وغيرها، فإذا فصل بينها بكلام، أو خروج، أو تكلم باستغفار، أو بشيء من ذكرٍ انفصلت)) (¬4). قال الصنعاني - رحمه الله -: ((وقد ذكر العلماء: أنه يستحب التحول للنافلة من موضع الفريضة، والأفضل أن يتحول إلى بيته؛ فإن فعل النوافل في البيوت أفضل، وإلا فإلى موضع في المسجد أو غيره، وفيه تكثيرٌ لمواضع السجود)) (¬5). وقد أخرج أبو داود من حديث أبي هريرة مرفوعاً: ((أيعجز أحدكم أن يتقدم ¬

(¬1) مسلم، كتاب الجمعة، باب الصلاة بعد الجمعة، برقم 883. (¬2) انظر: سبل السلام للصنعاني، 3/ 182. (¬3) أحمد في المسند، 5/ 368، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 2/ 234: ((رواه أحمد وأبو يعلى ورجال أحمد رجال الصحيح)). (¬4) سمعته من سماحته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 485. (¬5) سبل السلام، 3/ 183.

6 - ترك الرواتب وغيرها إذا أقيمت المكتوبة

أو يتأخر، أو عن يمينه أو عن شماله في الصلاة)) يعني في السبحة (¬1). وقد ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما الانتقال في الفرض وفي النفل كذلك: كان إذا كان بمكة فصلى الجمعة تقدم فصلى ركعتين، ثم تقدم فصلى أربعاً، وإذا كان بالمدينة صلى الجمعة ثم رجع إلى بيته فصلى ركعتين ولم يصلّ في المسجد فقيل له فقال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك)) (¬2). قلت: وهذا يستشهد به على تكثير مواضع السجود كما قرره شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله -. 6 - ترك الرواتب وغيرها إذا أقيمت المكتوبة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)) (¬3)، ولحديث عبد الله بن مالك بن بُحينة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً وقد أقيمت الصلاة يصلي ركعتين، فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لاث به الناس (¬4) فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((آلصبح أربعاً، آلصبح أربعاً؟)) (¬5)؛ ولحديث عبد الله بن سرجس - رضي الله عنه - قال: دخل رجل المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الغداة فصلى ركعتين في جانب المسجد ثم دخل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما سلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يا فلان بأي الصلاتين اعتددت؟ أبصلاتك وحدك أم بصلاتك معنا؟)) (¬6).وهذه الأحاديث تدل ¬

(¬1) سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب الرجل يتطوع في مكانه الذي صلى فيه المكتوبة، برقم 1006، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 188. (¬2) سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب الصلاة بعد الجمعة، برقم 1130، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 210. (¬3) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب كراهة الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن في إقامة الصلاة سواء كانت الراتبة كسنة الصبح والظهر وغيرهما وسواء علم أنه يدرك الركعة مع الإمام أم لا، برقم 710. (¬4) لاث به الناس: اختلطوا به والتفوا عليه. القاموس المحيط. وانظر: نيل الأوطار للشوكاني،2/ 287. (¬5) متفق عليه: البخاري واللفظ له، كتاب الأذان، باب إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة، برقم 663، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب كراهة الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن في إقامة الصلاة، برقم 711. (¬6) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب كراهة الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن في إقامة الصلاة، برقم 712.

على أن المسلم إذا سمع الإقامة لا يحل له أن يدخل في صلاة تطوع سواء كانت راتبة: كسنة الفجر، والظهر، والعصر، أو غيرها، وسواء كانت في المسجد أو خارجه، وسواء خاف فوات الركعة الأولى أو لم يخف، والحجة عند التنازع السنة، فمن أدلى بها فقد أفلح (¬1)، والصحيح أن الحكمة فيه أن يتفرغ للفريضة من أولها فيشرع فيها عقب شروع الإمام؛ فإنه إذا اشتغل بنافلة فاته الإحرام مع الإمام، وفاته بعض مكملات الفريضة، فالفريضة أولى بالمحافظة على إكمالها، وفيه حكمة أخرى: وهي النهي عن الاختلاف على الأئمة. واستُدلَّ بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)) لمن قال يقطع النافلة إذا أقيمت الفريضة (¬2). وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يقطعها إذا أقيمت الصلاة وهو يصلي؛ بل يتمها خفيفة عملاً بعموم قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (¬3). وحملوا الأحاديث على من بدأ الصلاة بعد الإقامة، وقيل: إن خشي فوات الفريضة في الجماعة قطعها، وإن لم يخشَ فوات الجماعة أتمها (¬4). والصواب الذي دل عليه عموم الأحاديث أنه يقطعها، وهذا صريح في حديث عبد الله بن مالك بن بحينة الذي سبق ذكره قبل أسطر (¬5)، وأصرح منه لفظه عند مسلم، قال: أقيمت صلاة الصبح، فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً والمؤذن يقيم فقال: ((أتصلي الصبح أربعاً)). ¬

(¬1) انظر: شرح النووي على مسلم، 5/ 229، وفتح الباري لابن حجر، 2/ 150، والمغني لابن قدامة، 2/ 119، ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 284. (¬2) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 2/ 151. (¬3) سورة محمد، الآية: 33. (¬4) انظر: المغني، لابن قدامة، 2/ 120، وفتح الباري، لابن حجر، 2/ 151. (¬5) البخاري، برقم 663، مسلم، برقم 711، وتقدم تخريجه.

7 - السنة ترك الرواتب في السفر إلا سنة الفجر والوتر

وهذا الذي سمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يرجحه، ويقول: ((أما الآية الكريمة فهي عامة، والحديث خاص، والخاص يقضي على العام ولا يخالفه، كما يُعلم ذلك من أصول الفقه ومصطلح الحديث، لكن لو أقيمت الصلاة وقد ركع الركوع الثاني، أو في السجود أوفي التحيات فإنه لا حرج في إتمامها؛ لأن الصلاة قد انتهت ولم يبق منها إلا أقل من ركعة)) (¬1). وقال مرة في موضع آخر: ((لأن أقل الصلاة ركعة ولم يبق إلا أقل منها، فإتمامها لا يخالف الحديث المذكور)) (¬2). 7 - السنة ترك الرواتب في السفر إلا سنة الفجر والوتر؛ لحديث عاصم بن عمر بن الخطاب، قال صحبت ابن عمر في طريق مكة، قال: فصلى لنا الظهر ركعتين، ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جاء رحله، وجلس وجلسنا معه، فحانت منه التفاتة نحو حيث صلى، فرأى ناساً قياماً، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون، قال: لو كنت مسبحاً أتممت صلاتي، يا ابن أخي إني صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، ثم صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وقد قال الله تعالى: {لقَدْ كانَ لكُم في رسولِ الله أُسوةٌ حسَنةٌ} (¬3). أما سنة الفجر، والوتر فلا تترك لا في الحضر ولا في السفر؛ لحديث عائشة رضي الله عنها في سنة الفجر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((لم يكن يدعهما أبداً)) (¬4)؛ ولحديث أبي قتادة - رضي الله عنه - في نوم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في السفر عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس، وفيه: ((ثم أذن بلال بالصلاة فصلى ¬

(¬1) مجموع الفتاوى ومقالات متنوعة لابن باز، 11/ 393، 11/ 370 - 372. (¬2) المرجع السابق، 11/ 394. (¬3) متفق عليه، البخاري بنحوه، كتاب التقصير، باب من لم يتطوع في السفر دبر الصلاة، برقم 1101، 1102،ومسلم بلفظه، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة المسافرين وقصرها، برقم 689. (¬4) متفق عليه: البخاري، برقم 1159، ومسلم، برقم 724، وتقدم تخريجه.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين، ثم صلى الغداة فصنع كما كان يصنع كل يوم)) (¬1). وأما سنة الوتر؛ فلحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به، يومئ إيماء صلاة الليل إلا الفرائض، ويوتر على راحلته)). وفي لفظ: ((كان يوتر على البعير)) (¬2). قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: ((وكان تعاهده - صلى الله عليه وسلم - ومحافظته على سنة الفجر أشد من جميع النوافل، ولم يكن يدعها هي والوتر سفراً ولا حضراً ... ولم ينقل عنه في السفر أنه - صلى الله عليه وسلم - صلّى سنة راتبة غيرهما)) (¬3). وأما التطوع المطلق فمشروع في الحضر والسفر مطلقاً، مثل: صلاة الضحى، والتهجد بالليل، وجميع النوافل المطلقة، والصلوات ذوات الأسباب: كسنة الوضوء، وسنة الطواف، وصلاة الكسوف، وتحية المسجد وغير ذلك (¬4). قال الإمام النووي-رحمه الله-: ((وقد اتفق العلماء على استحباب النوافل المطلقة في السفر ... )) (¬5). ¬

(¬1) أخرجه مسلم، برقم 681، وتقدم تخريجه. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الوتر، باب الوتر على الدابة، برقم 999، وباب الوتر في السفر، برقم 1000، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت به، برقم 700. (¬3) زاد المعاد في هدي خير العباد، 1/ 315. (¬4) انظر: مجموع فتاوى ومقالات للإمام ابن باز، 11/ 390 - 391. (¬5) شرح النووي صحيح مسلم، 5/ 205، وقال: ((واختلفوا في استحباب النوافل الراتبة فكرهها ابن عمر وآخرون، واستحبها الشافعي وأصحابه والجمهور، ودليله الأحاديث المطلقة في ندب الرواتب))، 5/ 205، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 2/ 577. وقال ابن قدامة: فأما سائر السنن والتطوعات قبل الفرائض وبعدها فقال أحمد: أرجو أن لا يكون بالتطوع في السفر بأس، وروي عن الحسن، قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسافرون فيتطوعون قبل المكتوبة وبعدها، وروي ذلك عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وجابر، وأنس، وابن عباس، وأبي ذر، وجماعة من التابعين كثير، وهو قول مالك، والشافعي، وإسحاق، وأبي ثور، وابن المنذر، وكان ابن عمر لا يتطوع مع الفريضة قبلها ولا بعدها، إلا من جوف الليل، ونقل ذلك عن سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعلي بن الحسين ... ثم قال: وحديث الحسن عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ذكرناه [مصنف ابن أبي شيبة، 1/ 382] فهذا يدل على أنه لا بأس بفعلها، وحديث ابن عمر يدل على أنه لا بأس بتركها، فيجمع بين الأحاديث والله أعلم. المغني، 3/ 156 - 157. قلت: والصواب ما رجحه شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله: أن المشروع ترك الرواتب في السفر، وهذا هو السنة أن يترك راتبة الظهر، والمغرب، والعشاء، ما عدا الوتر وسنة الفجر، فلا يتركهما؛ لحديث ابن عمر وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدع الرواتب في السفر، أما النوافل المطلقة فمشروعة في السفر والحضر، وهكذا ذوات الأسباب. انظر: فتاوى الإمام ابن باز، 11/ 390 - 391.

النوع الثاني: الوتر:

النوع الثاني: الوتر: 1 - الوتر سنة مؤكدة (¬1)؛ لحديث أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الوتر حقٌ على كل مسلم، فمن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل)) (¬2)؛ولحديث علي - رضي الله عنه - قال: ((الوتر ليس بحَتْم كصلاتكم المكتوبة، ولكن سنةٌ سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (¬3). ومما يدل على أن الوتر ليس بحتم بل سنة مؤكدة ما ثبت من حديث طلحة بن عبيد الله، قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل نجد ثائر الرأس، نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول، حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال: يا رسول الله، أخبرني ماذا فرض الله عليّ من الصلاة؟ فقال: ((الصلوات الخمس إلا أن تطوَّع شيئاً)) فقال: أخبرني بما فرض الله عليّ من الصيام؟ فقال: ((شهر رمضان إلا أن تطوع شيئاً)). فقال: أخبرني بما فرض الله عليّ من الزكاة [وذكر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة، قال: ¬

(¬1) والوتر: من صلاة الليل، وهو ختامها، ركعة واحد يختم بها صلاة الليل. انظر: المغني لابن قدامة، 2/ 594، وفتاوى الإمام ابن باز، 11/ 309، 317. (¬2) أبو داود، كتاب الوتر، باب كم الوتر، برقم 1422، والنسائي، كتاب قيام الليل، باب ذكر الاختلاف على الزهري في حديث أبي أيوب في الوتر، برقم 1712، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الوتر بثلاث وخمس ... ، برقم 1190، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 267. (¬3) الترمذي، كتاب الوتر، باب ما جاء أن الوتر ليس بحتم، برقم 454، والنسائي، كتاب قيام الليل، باب الأمر بالوتر، برقم 1677، والحاكم، 1/ 300، وأحمد، 1/ 148، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 1/ 368.

2 - فضل الوتر، له فضل عظيم

هل عليّ غيرها؟ قال: ((لا، إلا أن تطوع))] فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشرائع الإسلام، قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والذي أكرمك لا أتطوع شيئاً ولا أنقص مما فرض الله عليّ شيئاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أفلح إن صدق، أو أُدخل الجنة إن صدق)) (¬1)؛ ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذاً إلى اليمن وفيه: (( ... فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمسَ صلوات في اليوم والليلة ... )) (¬2). وهذان الحديثان يدلان على أن الوتر ليس بواجب، وهو مذهب جمهور العلماء (¬3)، بل هو سنة مؤكدة جداً، ولهذا لم يترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة الفجر والوتر في الحضر ولا في السفر (¬4). 2 - فضل الوتر، له فضل عظيم؛ لحديث خارجة بن حذافة العدوي، قال: خرج علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((إن الله تعالى قد أمدكم بصلاة وهي خير لكم من حُمرِ النَّعم، وهي الوِتر، وجعلها لكم فيما بين العشاء إلى طلوع الفجر)) (¬5). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، باب الزكاة في الإسلام، برقم 46، وكتاب الصوم، باب وجوب صوم رمضان، برقم 1819، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام، برقم 11. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن، برقم 4347، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، برقم 19. (¬3) وذهب إلى وجوب الوتر الإمام أبو حنيفة - رحمه الله -؛ لظاهر الأحاديث المشعرة بالوجوب، ولكن قد صرفها عن الوجوب أحاديث أخرى. انظر: نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 205 - 206، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن الوتر يجب على من يتهجد بالليل، قال: ((وهو مذهب بعض من يوجبه مطلقاً))، [الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية للبعلي، ص96]. قلت: وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز مرات أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 393، وتقريره على الروض المربع، 2/ 183 يذكر أن الوتر ليس بواجب بل سنة مؤكدة. وانظر: المغني لابن قدامة، 2/ 591، 2/ 6، 2/ 595. (¬4) انظر: زاد المعاد لابن القيم، 1/ 315، والمغني لابن قدامة، 3/ 196، و2/ 240. (¬5) أخرجه أبو داود، كتاب الوتر، باب استحباب الوتر، برقم 1418، وسنن الترمذي، كتاب الوتر، باب ما جاء في فضل الوتر، برقم 452، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الوتر، برقم 1168،والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي،1/ 306،وله شاهد عند أحمد، 1/ 148، وصححه الألباني دون قوله: ((هي خير لكم من حمر النعم)) إرواء الغليل، 2/ 156.

3 - وقت صلاة الوتر: جميع أوقات الليل بعد صلاة العشاء على النحو الآتي:

ومما يدل على فضلها وتأكد سنيتها حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: ((يا أهل القرآن أوتروا فإن الله - عز وجل - وتر يحب الوتر)) (¬1). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز يقول في تقريره على هذا الحديث: ((هذا يدل على أنه ينبغي أن يكون أهل العلم لهم عناية أكثر من غيرهم وإن كان مشروعاً للجميع حتى يقتدي بهم من عرف أحوالهم وأعمالهم، والوتر أقله ركعة بين العشاء والفجر، وهو سبحانه وتر يحب الوتر، ويحب ما يوافق صفاته، فهو صبور يحب الصابرين، بخلاف العزة والعظمة، فالعباد يأخذون من صفاته ما يناسب العبد من كرم وجود وإحسان)) (¬2). 3 - وقت صلاة الوتر: جميع أوقات الليل بعد صلاة العشاء على النحو الآتي: أ- وقت الوتر الشامل: ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر الثاني؛ لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن أبي بصرة الغفاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله - عز وجل - زادكم صلاة وهي الوتر، فصلُّوها فيما بين صلاة العشاء إلى صلاة الفجر)) (¬3). فظهر من هذا الحديث أن وقت الوتر ما بين صلاة العشاء والفجر، وسواء صلى المسلم العشاء في وقتها أو صلاها مجموعة إلى المغرب جمع تقديم؛ فإن وقت الوتر يدخل من حين أن يصلي العشاء (¬4). ¬

(¬1) أخرجه النسائي بلفظه، في كتاب قيام الليل، باب الأمر بالوتر، برقم 1676، والترمذي، كتاب الوتر، باب ما جاء أن الوتر ليس بحتم، برقم 453، وأبو داود، كتاب الوتر، باب استحباب الوتر، برقم 1416، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الوتر، برقم 1169، وأحمد، 1/ 86، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 1/ 193. (¬2) سمعته من سماحته - رحمه الله - أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 405. (¬3) أحمد في المسند،6/ 397، و2/ 180، 206، 208، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 2/ 258. قلت: وله شاهد عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - في مسند أحمد، 5/ 242. (¬4) انظر: المغني لابن قدامة، 2/ 595، وحاشية الروض المربع لابن قاسم، 2/ 184، وسمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز -رحمه الله- يقول أثناء تقريره على الروض المربع،2/ 184: ((وقت الوتر يبدأ بعد صلاة العشاء ولو مجموعة مع المغرب تقديماً إلى طلوع الفجر))، وانظر: الشرح الممتع لابن عثيمين، 3/ 15.

وقد ثبتت الأحاديث الصحيحة بتوكيد ذلك من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوله، فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء - وهي التي يدعو الناس العتمة - إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلّم بين كل ركعتين، ويوتر بواحدة، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر وتبين له الفجر وجاءه المؤذن قام فركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة)) (¬1). وقد حدد النبي - صلى الله عليه وسلم - آخر وقت الوتر، فعن أبي سعيد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أوتروا قبل أن تُصبحوا)). وفي رواية: ((أوتروا قبل الصبح)) (¬2). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((بادروا الصبح بالوتر)) (¬3). وهذا يدل على مسابقة طلوع الفجر بالوتر بأن يوقع الوتر قبل دخوله؛ ولهذا ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: ((صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلَّى)) (¬4). وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أدرك الصبح فلم يوتر فلا وتر له)) (¬5). ويؤكد ذلك حديث ابن ¬

(¬1) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل وأن الوتر ركعة وأن الركعة صلاة صحيحة، برقم، 736. (¬2) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل مثنى مثنى والوتر ركعة من آخر الليل، برقم 754. (¬3) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل مثنى مثنى والوتر ركعة من آخر الليل، برقم 750. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الوتر، باب ما جاء في الوتر، برقم 990، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل مثنى مثنى، والوتر ركعة من آخر الليل، برقم 749. (¬5) ابن حبان في صحيحه [الإحسان، 6/ 168، برقم 2408]، وابن خزيمة في صحيحه، 2/ 148، برقم 1092، والحاكم في المستدرك، 1/ 301 - 302، وصححه ووافقه الذهبي، وأخرجه البيهقي، 2/ 478، وصحح إسناده الألباني في الحاشية على صحيح ابن خزيمة، 2/ 148، وصححه شعيب الأرنؤوط في تخريجه لصحيح ابن حبان، 6/ 169.

ب- الوتر قبل النوم مستحب لمن ظن أن لا يستيقظ آخر الليل

عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا طلع الفجر فقد ذهب كلُّ صلاة الليل والوتر، فأوتروا قبل طلوع الفجر)) (¬1). قال الإمام الترمذي - رحمه الله -: ((وهو قول غير واحد من أهل العلم، وبه يقول الشافعي، وأحمد، وإسحاق لايرون الوتر بعد صلاة الصبح)) (¬2). ويزيد ذلك وضوحاً فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن آخر وتره السحر؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((من كل الليل قد أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من أول الليل، وأوسطه، وآخره، فانتهى وتره إلى السحر)) (¬3)، فظهر في جميع هذه الأحاديث أن وقت الوتر يبدأ بعد الانتهاء من صلاة العشاء، وينتهي بطلوع الفجر الثاني، ولا قول لأحد بعد قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). ب- الوتر قبل النوم مستحب لمن ظن أن لا يستيقظ آخر الليل؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ((أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث [لا أدعهن حتى ¬

(¬1) الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في مبادرة الصبح بالوتر، برقم 469، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 1/ 146، وانظر: إرواء الغليل، 2/ 154. (¬2) سنن الترمذي، 2/ 333، آخر الحديث رقم 469. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الوتر، باب ساعات الوتر، برقم 996، ومسلم، بلفظه في كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل وأن الوتر ركعة، برقم 745. (¬4) وهذا يرد قول من قال بجواز الإيتار بعد طلوع الفجر من السلف الصالح، كما ذكر عن عبد الله بن عباس، وعبادة بن الصامت، والقاسم بن محمد، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم - أنهم كانوا يوترون بعد طلوع الفجر إذا فاتهم الوتر قبل الفجر، ثم يصلون الفجر بعد الوتر. انظر: موطأ الإمام مالك، كتاب الوتر، باب الوتر بعد الفجر، 2/ 126، وعن علي، وأبي الدرداء، وغيرهم، انظر: المصنف لابن شيبة، 2/ 286، ومسند أحمد، 6/ 242 - 223، وإرواء الغليل، 2/ 155، والشرح الممتع لابن عثيمين، 3/ 17، ومجموع فتاوى ابن باز، 11/ 305 - 308، قال الإمام مالك في الموطأ يعتذر لهؤلاء: ((وإنما يوتر بعد الفجر من نام عن الوتر ولا ينبغي لأحد أن يتعمد ذلك حتى يضع وتره بعد الفجر))،2/ 127.وانظر جامع الأصول، 6/ 59 - 61. وقال العلامة ابن عثيمين: ((فإذا طلع الفجر فلا وتر، وأما ما يروى عن بعض السلف أنه كان يوتر بين أذان الفجر وإقامة الفجر، فإنه عمل مخالف لما تقتضيه السنة ولا حجة في قول أحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) الشرح الممتع، 3/ 16.

ج- الوتر في آخر الليل أفضل لمن وثق بالاستيقاظ

أموت] صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام)) (¬1)؛ ولحديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: ((أوصاني حبيبي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث، لن أدعهن ما عشت، بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، وبأن لا أنام حتى أوتر)) (¬2). قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: ((وفيه استحباب تقديم الوتر على النوم، وذلك في حق من لم يثق بالاستيقاظ، ويتناول من يصلي بين النومين)) (¬3). ومما يدل على أن الأمر على حسب أحوال الأشخاص وقدراتهم ما ثبت من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: ((أيَّ حين توتر؟)) قال: أول الليل بعد العتمة، قال: ((فأنتَ يا عمر؟))، فقال: آخر الليل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أما أنت يا أبا بكر فأخذت بالوثقى، وأما أنت يا عمر فأخذت بالقوة)) (¬4). وحديث أبي قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر: ((متى توتر؟)) قال: أوتر من أول الليل، وقال لعمر: ((متى توتر؟))، فقال: آخر الليل، فقال لأبي بكر: ((أخذ هذا بالحزم))، وقال لعمر: ((أخذ هذا بالقوة)) (¬5). ج- الوتر في آخر الليل أفضل لمن وثق بالاستيقاظ؛ لحديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل؛ فإن صلاة آخر ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الصوم، باب صيام البيض: ثلاث عشرة وأربع عشرة، وخمس عشرة، برقم 1981، وما بين المعقوفين من الطرف رقم 1178، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة الضحى، برقم 721. (¬2) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة الضحى، برقم 722. (¬3) فتح الباري، 3/ 57. (¬4) ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الوتر أول الليل، برقم 1202، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 198. (¬5) أبو داود، كتاب الوتر، باب في الوتر قبل النوم، برقم 1434، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 268.

4 - أنواع الوتر وعدده

الليل مشهودة (¬1)، وذلك أفضل)). وفي رواية (( ... ومن وثق بقيام من الليل فليوتر من آخره؛ فإن قراءة آخر الليل محضورة، وذلك أفضل)) (¬2). قال الإمام النووي - رحمه الله -: ((فيه دليل صريح على أن تأخير الوتر إلى آخر الليل أفضل، لمن وثق بالاستيقاظ آخر الليل، وأن من لا يثق بذلك فالتقديم له أفضل، وهذا هو الصواب، ويحمل باقي الأحاديث المطلقة على هذا التفصيل الصحيح الصريح، فمن ذلك حديث: ((أوصاني خليلي أن لا أنام إلا على وتر)). وهو محمول على من لا يثق بالاستيقاظ)) (¬3). ومما يؤكد استحباب الوتر آخر الليل ما ثبت عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ينزل ربنا تبارك وتعالى كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأُعطيَهُ؟ من يستغفرني فأغفرَ له؟)) (¬4). وفي رواية لمسلم: ((فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر)) (¬5). وفي لفظ مسلم: (( ... هل من سائلٍ يُعْطَى؟ هل من داعٍ يُستجابُ له؟ هل من مستغفرٍ يُغْفَرُ له؟ حتى ينفجرَ الفجر)) (¬6). 4 - أنواع الوتر وعدده، الوتر له عدد وأنواع على النحو الآتي: أولاً: إحدى عشرة ركعة يسلّم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((كان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة ¬

(¬1) مشهودة: أي تشهدها ملائكة الرحمة، وفيه دليلان صريحان على تفضيل صلاة الوتر وغيره آخر الليل. شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 281، وقيل: مشهودة محضورة: تشهدها ملائكة الليل والنهار، وتحضرها هذه صاعدة وهذه نازلة. جامع الأصول لابن الأثير، 6/ 58. (¬2) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، برقم 755. (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 281. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب التهجد، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل، برقم 1145، وطرفاه برقم 6321، 7494، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه، برقم758. (¬5) مسلم، برقم169 - (758). (¬6) مسلم برقم 170 - (758).

ثانيا: ثلاث عشرة ركعة، يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة

ويوتر منها بواحدة)). وفي رواية: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء - وهي التي تدعونها العتمة - إلى الفجر إحدى عشر ركعة يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة ... )) (¬1). ثانياً: ثلاث عشرة ركعة، يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة؛ لحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في وصف صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيه: (( ... فقمت إلى جنبه عن يساره فوضع يده اليمنى على رأسي وأخذ بأذني يفتلها، فحوَّلَني فجعلني عن يمينه ثم صلى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم خرج فصلى الصبح)) (¬2). وعنه - رضي الله عنه - قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة)) (¬3). وعن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - قال: ((لأرمقن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الليلة، فصلى ركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين، طويلتين، طويلتين، ثم صلى ركعتين، وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم أوتر، فذلك ثلاث عشرة ركعة)) (¬4). ثالثاً: ثلاث عشرة ركعة يسلم بين كل ركعتين ويوتر من ذلك بخمس سرداً؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرها)) (¬5). ¬

(¬1) مسلم، برقم 736، وتقدم تخريجه. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الوتر، باب ما جاء في الوتر، برقم 992، وطرقه رقم117، 138، 6316،ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعائه بالليل، برقم 182 - (763). (¬3) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعائه بالليل، رقم 764. (¬4) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعائه بالليل، برقم 765. (¬5) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل وأن الوتر ركعة، رقم 737.

رابعا: تسع ركعات لا يجلس إلا في الثامنة ثم يأتي بالتاسعة

رابعاً: تسع ركعات لا يجلس إلا في الثامنة ثم يأتي بالتاسعة؛ لحديث عائشة رضي الله عنها وفيه: (( ... كنا نُعدُّ له سواكه وطهوره فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل فيتسوَّك ويتوضأ، ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم ينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم يسلم تسليماً يسمعناه ... )) (¬1). خامساً: سبع ركعات لا يقعد إلا في آخرهن؛ لحديث عائشة رضي الله عنها وفيه: (( ... فلما أسنَّ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذه اللحم أوتر بسبع ... )) (¬2). وفي رواية: ((لا يقعد إلا في آخرهن)) (¬3). سادساً: سبع ركعات لا يجلس إلا في السادسة؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((كنا نُعدُّ له سواكه وطهوره فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل فيتسوك ويتوضأ، ثم يصلي سبع ركعات، ولا يجلس فيهن إلا عند السادسة فيجلس ويذكر الله ويدعو)) (¬4). سابعاً: خمس ركعات لا يجلس إلا في آخرهن؛ لحديث أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الوتر حق على كل مسلم، فمن أحبَّ أن يُوترَ بخمسٍ فليفعلْ، ومن أحبَّ أن يوتر بثلاثٍ فليفعلْ، ومن أحبَّ أن يوتر بواحدةٍ فليفعلْ)) (¬5). وقد ثبت من حديث عائشة رضي الله عنها ¬

(¬1) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل، برقم 746. (¬2) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل برقم 746 وهو جزء منه. (¬3) النسائي، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب كيف الوتر بسبع، برقم 1718، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 375، وابن ماجه وأحمد، 6/ 290 من حديث أم سلمة رضي الله عنها بلفظ: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بسبع أو بخمس لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام))، سنن ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الوتر بثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، برقم 1192، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 1/ 197. (¬4) ابن حبان في صحيحه [الإحسان]،برقم 2441،وقال الأرنؤوط في حاشيته على ابن حبان، 6/ 195: ((إسناده صحيح على شرطهما)) واللفظ له، وأحمد بنحوه،6/ 54. (¬5) أبو داود، برقم 1422، والنسائي، برقم1712، وابن ماجه، برقم1192، وابن حبان في صحيحه [الإحسان]، برقم 670، والحاكم في المستدرك، 1/ 302 - 303، وتقدم تخريجه.

ثامنا: ثلاث ركعات يسلم من ركعتين ثم يوتر بواحدة

أن هذا النوع يصلَّى سرداً، لا يجلس إلا في الركعة الخامسة، وفيه: (( ... يوتر من ذلك بخمس لا يجلس إلا في آخرها)) (¬1). ثامناً: ثلاث ركعات يسلم من ركعتين ثم يوتر بواحدة؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفصل بين الشفع والوتر بتسليم يُسمعناه)) (¬2). وقد ثبت ذلك عن عبد الله بن عمر موقوفاً. فعن نافع: ((أن عبد الله بن عمر كان يسلم بين الركعة والركعتين في الوتر حتى يأمر ببعض حاجته)) (¬3).والموقوف يؤيد المرفوع. وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول عن الوتر بثلاث ركعات بسلامين: ((هذا هو الأفضل لمن صلى ثلاثاً، وهي أدنى الكمال)) (¬4). تاسعاً: ثلاث ركعات سرداً - رضي الله عنه - لا يجلس إلا في آخرهن؛ لحديث أبي أيوب - رضي الله عنه - وفيه: ((ومن أحبَّ أن يوتر بثلاثٍ فليفعلْ)) (¬5)؛ ولحديث أُبيّ بن كعب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الوتر بـ: {سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الأعلى}، وفي الركعة الثانية بـ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكافرون}، وفي الركعة الثالثة بـ: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ}، ولا يسلّم إلا في آخرهن، ويقول بعد التسليم: ((سبحان الملك القدوس)) ثلاثاً (¬6).لكن يصلي ثلاثاً سرداً يتشهد تشهداً واحداً في ¬

(¬1) مسلم، برقم 737، وتقدم تخريجه. (¬2) ابن حبان [الإحسان]،برقم 2433، 2434،2435،وأحمد 2/ 76 عن عتاب بن زياد، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري،2/ 482: ((إسناده قوي)).قال الألباني - رحمه الله -: ((وله شاهد مرفوع ... عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بركعة يتكلم بين الركعتين والركعة، هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين))،وعزاه لابن شيبة، انظر إرواء الغليل،2/ 150. (¬3) البخاري، كتاب الوتر، باب ما جاء في الوتر، برقم 991،وموطأ الإمام مالك،1/ 125. (¬4) سمعته من سماحته أثناء تقريره على الروض المربع، 2/ 187 بتاريخ 15/ 11/1419هـ. (¬5) أبو داود، برقم 1422، والنسائي، برقم 1712، وابن ماجه، برقم 1192، وابن حبان في صحيحه، برقم 670، والحاكم، 1/ 302، وتقدم تخريجه. (¬6) النسائي، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب ذكر اختلاف الناقلين لخبر أبيّ بن كعب في الوتر، برقم 1701،وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي،1/ 372،وانظر: نيل الأوطار،2/ 211، وانظر: فتح الباري، لابن حجر، ففيه شواهد،2/ 481،ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 212.

عاشرا: ركعة واحدة

آخرهن؛ لأنه لو جعلها بتشهدين لأشبهت صلاة المغرب (¬1)،وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تشبَّه بصلاة المغرب (¬2)،لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا توتروا بثلاث، أوتروا بخمس، أو بسبع، ولا تشبَّهوا بصلاة المغرب)) (¬3). وقد جمع الحافظ ابن حجر - رحمه الله - بين أحاديث وآثار جواز الإيتار بحملها على أنها متصلة بتشهد واحد في آخرها، وأحاديث النهي عن الإيتار بثلاث بحملها على أنها بتشهدين لمشابهة ذلك لصلاة المغرب (¬4). ومما يدل على الإيتار بثلاث حديث القاسم عن عبد الله بن عمر قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا أردت أن تنصرف فاركع ركعة واحدة توتر لك ما صليت)). قال القاسم: ((ورأينا أناساً منذ أدركنا يوترون بثلاث، وإنَّ كلاً لواسعٌ، وأرجو أن لا يكون بشيء منه بأس)) (¬5). عاشراً: ركعة واحدة؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الوتر ركعة من آخر الليل)) (¬6)؛ وعن أبي مجلزٍ قال: سألت ابن عباس عن الوتر؟ فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ركعة من آخر الليل))، وسألت ابن عمر فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ركعة من آخر الليل)) (¬7). وذكر الإمام النووي - رحمه الله -: أن هذا ¬

(¬1) وسمعت الإمام عبد العزيز ابن باز أثناء تقريره على الروض المربع، 2/ 188، عندما تكلم عن الوتر بثلاث بسلام واحد، قال: ((لكن لا يشبهها بالمغرب وإنما سرداً)). (¬2) انظر: الشرح الممتع للعلامة ابن عثيمين، 4/ 21. (¬3) ابن حبان [الإحسان]، برقم 2429، والدارقطني، 2/ 24، والبيهقي، 3/ 31، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 1/ 304، وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري، 2/ 481: ((وإسناده على شرط الشيخين)). وقال في التلخيص: 2/ 14، برقم 511: وإسناد كلهم ثقات ولا يضره وقف من وقفه. (¬4) انظر: فتح الباري لشرح صحيح البخاري، لابن حجر،2/ 481،ونيل الأوطار للشوكاني،2/ 214. (¬5) متفق عليه: البخاري واللفظ له، برقم 993، ومسلم، برقم 749، وتقدم تخريجه. (¬6) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل مثنى مثنى، والوتر ركعة من الليل، برقم 752. (¬7) مسلم، في الكتاب والباب السابقين، برقم 753.

5 - القراءة في الوتر، يقرأ في الوتر في الركعة الأولى: بـ سبح اسم ربك الأعلى

دليل على صحة الإيتار بركعة وعلى استحبابه آخر الليل (¬1). وسمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((لكن كلما زاد فهو أفضل فإذا اقتصر على واحدة فلا كراهة ... )) (¬2). ومما يدل على الإيتار بركعة واحدة، حديث أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - وفيه: (( ... ومن أحب أن يوتر بواحدةٍ فليفعلْ ... )) (¬3). 5 - القراءة في الوتر، يقرأ في الوتر في الركعة الأولى: بـ: {سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الأعلى}، وفي الركعة الثانية بـ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكافرون}، وفي الثالثة بـ: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ}؛ لحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الوتر بـ: {سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الأعلى}، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الكافرون}}، و {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ}} في ركعة ركعة)) (¬4)، قال الترمذي - رحمه الله -: ((يقرأ في كل ركعة من ذلك بسورة)) (¬5). ¬

(¬1) شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 277. (¬2) سمعته من سماحته أثناء تقريره على الروض المربع، 2/ 185. (¬3) أبو داود، برقم 1422، والنسائي، برقم 1712، وابن ماجه، برقم 1190، وتقدم تخريجه. (¬4) الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء فيما يقرأ في الوتر، برقم 462، والنسائي، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب الاختلاف على أبي إسحاق في حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس في الوتر، برقم 1702، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فيما يقرأ في الوتر، برقم 1172. وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 1/ 372، وصحيح سنن ابن ماجه، 1/ 193، وصحيح سنن الترمذي، 1/ 144. (¬5) سنن الترمذي، 2/ 326، وروى الترمذي، برقم 463، وأبو داود، برقم 1424، وابن ماجه، برقم 1173، عن عائشة رضي الله عنها حينما سُئلت بأي شيء كان يوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: كان يقرأ في الأولى بـ: {سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الأَعْلَى} وفي الثانية بـ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، وفي الثالثة بـ: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ}، و (المعوذتين) وقد ضعفه كثير من أهل العلم. [انظر: نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 211،212]، وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 267، وصحيح الترمذي، 1/ 144، وصحيح ابن ماجه، 1/ 193، وقال الترمذي: ((والذي اختاره أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم: أن يقرأ بـ: {سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الأَعْلَى}، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} يقرأ في كل ركعة من ذلك بسورة)). 2/ 326، وسمعت الإمام عبد العزيز ابن باز أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 409، يقول: ((زيادة المعوذتين ضعيفة، والمحفوظ: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ}، ولكن لو صح حديث عائشة هذا فتارة وتارة)). قلت: ورواه الحاكم، 1/ 305 وصححه ووافقه الذهبي، قال شعيب الأرنؤوط في حاشيته على جامع الأصول، 6/ 52: ((وهو كما قالا)). وقال محقق سبل السلام للصنعاني، 3/ 54: وقال ابن حجر في نتائج الأفكار، 1/ 513 - 514: ((وهو حديث حسن)).

6 - القنوت في الوتر

6 - القنوت في الوتر (¬1)، يقنت في الوتر؛ لحديث الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمات أقولها في [قنوت] الوتر: ((اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت؛ فإنك تقضي ولا يُقضى عليك، وإنه لا يذلّ من واليت [ولا يعز من عاديت] (¬2) [سبحانك] (¬3) تباركت ربنا وتعاليت)) (¬4). ب- وقد ثبت عن علي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في آخر وتره: ((اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)) (¬5). وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين (¬6). ¬

(¬1) القنوت: يطلق على معانٍ، والمراد به هنا الدعاء في الصلاة في محل مخصوص من القيام. انظر: فتح الباري لابن حجر، 2/ 490 و491، والشرح الممتع، 4/ 23. (¬2) زادها الطبراني في المعجم الكبير، 3/ 73، برقم 1701، ورقم 2703، ورقم 2704، ورقم 2705، ورقم 2707، والبيهقي في السنن الكبرى، 2/ 209. قال الحافظ في التلخيص الحبير، 1/ 249، برقم 371: ((هذه الزيادة ثابتة في الحديث))، ثم بين رحمه الله أنها متصلة، وردَّ على الإمام النووي تضعيفه لهذه الزيادة. وانظر أيضاً نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 224، وإرواء الغليل للألباني، 2/ 172. (¬3) زادها الترمذي، برقم 464. (¬4) أحمد، 1/ 199، وأبو داود، كتاب الوتر، باب القنوت في الوتر، برقم 1425، والنسائي، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب الدعاء في الوتر، برقم 1745، ورقم 746، والترمذي، كتاب الوتر، باب ما جاء في القنوت في الوتر، برقم 464، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في القنوت في الوتر، برقم 1179، وغيرهم، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 2/ 172، برقم 449. (¬5) أحمد في المسند 1/ 96، والنسائي، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب الدعاء في الوتر، برقم 1747، وأبو داود، كتاب الوتر، باب القنوت في الوتر، برقم 1427، والترمذي، كتاب الدعوات، باب دعاء الوتر، برقم 3566، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في القنوت في الوتر، برقم 1179، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 2/ 175، برقم 430. (¬6) الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر القنوت ثابتة من فعل الصحابة - رضي الله عنه -، كما ذكر العلامة الألباني - رحمه الله - في إرواء الغليل، 2/ 177.

7 - موضع دعاء القنوت قبل الركوع وبعده

7 - مَوضِعُ دعاء القنوت قبل الركوع وبعده؛ لأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قنت قبل الركوع، وثبت أنه قنت بعد الركوع، فهذا مشروع وهذا مشروع، والأفضل القنوت بعد الركوع؛ لأنه الأكثر في الأحاديث (¬1)، والقنوت في الوتر سنة (¬2)، ومما يدل على موضع القنوت ومحله المشروع حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال حينما سُئل عن القنوت قبل الركوع أو بعده؟ قال: ((قبل الركوع ... ))، ثم قال: ((إنما قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الركوع شهراً يدعو على أحياء من بني سُليم)) (¬3). وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وفيه: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة ويكبر ويرفع رأسه: ((سمع الله لمن حمده، ربنا ولك ¬

(¬1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: ((وأما القنوت فالناس فيه طرفان ووسط: منهم من لا يرى القنوت إلا قبل الركوع، ومنهم من لا يراه إلا بعده، وأما فقهاء أهل الحديث كأحمد وغيره فيجوّزون كلا الأمرين لمجيء السنة الصحيحة بهما، وإن اختاروا القنوت بعده؛ لأنه أكثر وأقيس)). الفتاوى، 23/ 100. وسمعت سماحة الإمام عبد العزيز ابن باز -رحمه الله- أثناء تقريره على الروض المربع،2/ 189، في فجر الأربعاء 8/ 11/1419هـ يقول: ((يقنت في الركعة الأخيرة بعد الركوع، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - القنوت بعد الركوع في النوازل، وجاء القنوت قبل الركوع، جاء هذا وهذا؛ فالأمر واسع، لكن الأكثر والأصح، والأفضل بعد الركوع؛ لأنه الأغلب في الأحاديث)). وذكر ابن قدامة في المغني أن هذا روي عن الأربعة الخلفاء الراشدين، ونقل عن الإمام أحمد أنه يذهب إلى أنه بعد الركوع، فإن قنت قبله فلا بأس، المغني، 2/ 581 - 582،وانظر: زاد المعاد لابن القيم، 1/ 282، وفتح الباري، 2/ 491. (¬2) قيل هو مسنون في جميع السنة، وقيل لا يقنت إلا في النصف الأخير من رمضان، وقيل: لا يقنت مطلقاً. والذي اختاره أكثر أصحاب الإمام أحمد القول الأول. انظر: المغني، 2/ 580 - 581، ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 226، وشرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 183، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((وأما القنوت في الوتر فهو جائز وليس بلازم، فمن أصحابه [- صلى الله عليه وسلم -] من لم يقنت، ومنهم من قنت في النصف الأخير من رمضان، ومنهم من قنت السنة كلها، والعلماء منهم من يستحب الأول كمالك، ومنهم من يستحب الثاني كالشافعي وأحمد في رواية، ومنهم من يستحب الثالث كأبي حنيفة والإمام أحمد في رواية، والجميع جائز، فمن فعل شيئاً من ذلك فلا لوم عليه)). الفتاوى، 23/ 99، وانظر المغني لابن قدامة،2/ 580،ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 226. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الوتر، باب القنوت قبل الركوع وبعده، برقم 1002، ولفظه من عدة مواضع، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب القنوت في جميع الصلوات إذا نزلت بالمسلمين نازلة، برقم 677.

8 - رفع اليدين في دعاء القنوت وتأمين المأمومين

الحمد))، ثم يقول وهو قائم: ((اللهم أنج الوليد بن الوليد ... )) (¬1). وحديث ابن عباس رضي الله عنهما وفيه: ((قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهراً متتابعاً في الظهر والعصر، والمغرب، والعشاء، وصلاة الصبح، في دبر كل صلاة إذا قال سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة، يدعو على أحياء من بني سُليم، على رِعْلٍ وذكوان، وعُصية، ويؤمّنُ مَنْ خَلفَه)) (¬2).وحديث أُبي بن كعب - رضي الله عنه -: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر فيقنت قبل الركوع)) (¬3). وحديث أنس - رضي الله عنه - وقد سُئل عن القنوت في صلاة الصبح فقال: ((كنا نقنت قبل الركوع وبعده)) (¬4). 8 - رفع اليدين في دعاء القنوت وتأمين المأمومين؛ لعموم حديث سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن ربكم تبارك وتعالى حييٌّ كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردَّهما صفراً)) (¬5)؛ ولأنه صح عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فعن أبي رافع قال: ((صليت خلف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقنت بعد الركوع ورفع يديه وجهر بالدعاء)) (¬6). ¬

(¬1) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب القنوت في جميع الصلوات إذا نزلت بالمسلمين نازلة، برقم 675. (¬2) أبو داود، كتاب الوتر، باب القنوت في الصلوات، برقم 1443، والحاكم، 1/ 225، والبيهقي، وحسّن إسناده الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 270، وذكر أن القنوت بعد الركوع ثبت عن أبي بكر وعمر وعثمان بإسناد حسن، انظر: إرواء الغليل، 2/ 164. (¬3) أخرجه أبو داود، كتاب الوتر، باب القنوت في الوتر، برقم1427، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في القنوت قبل الركوع وبعده، برقم 1182 وحسّن إسناده الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 195، وصحّح إسناده في إرواء الغليل، 2/ 167، برقم 426، وفي صحيح سنن أبي داود، 1/ 268. (¬4) ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في القنوت قبل الركوع وبعده، برقم 1183، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 1/ 195، وفي الإرواء، 2/ 160. (¬5) أبو داود، كتاب الوتر، باب الدعاء، برقم 1488، والترمذي، كتاب الدعوات، باب: حدثنا محمد بن بشار، برقم 3556، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب رفع اليدين في الدعاء، برقم 3865، والبغوي في شرح السنة، 5/ 185، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 3/ 169. (¬6) البيهقي، 2/ 212، وقال: وهذا عن عمر - رضي الله عنه - صحيح.

9 - آخر صلاة الليل الوتر

وعن أنس - رضي الله عنه - في قصة القرَّاء الذين قُتِلوا - رضي الله عنهم - قال: ((لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلما صلى الغداة رفع يديه يدعو عليهم - يعني على الذين قتلوهم)) (¬1). وذكر البيهقي - رحمه الله - أن عدداً من الصحابة رفعوا أيديهم في القنوت (¬2)، أما تأمين المأمومين على قنوت الإمام، ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (( ... إذا قال سمع الله لمن حمده من الركعة الآخرة يدعو على أحياء من بني سُليم على رعلٍ وذكوان، وعصية، ويؤمّن مَن خلفه)) (¬3). 9 - آخر صلاة الليل الوتر؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)) (¬4). وفي رواية لمسلم: ((من صلى من الليل فليجعل آخر صلاته وتراً [قبل الصبح]، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بذلك)) (¬5). 10 - الدعاء بعد السلام من صلاة الوتر؛ يقول بعد التسليم: ((سبحان الملك القدوس، سبحان الملك القدوس، سبحان الملك القدوس رب الملائكة والروح))؛ لحديث أُبيّ بن كعب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بثلاث ركعات، كان يقرأ في الأولى بـ: {سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الأعلى}، وفي الثانية بـ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكافرون}، وفي الثالثة بـ: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ}، ويقنت قبل الركوع، فإذا فرغ قال عند فراغه: ((سبحان الملك القدوس)) ثلاث ¬

(¬1) البيهقي، 2/ 211، قال البنا في الفتح الرباني مع بلوغ الأماني: ((قال صاحب البيان: ((وهو قول أكثر أصحابنا واختاره من أصحابنا الجامعين بين الفقه والحديث الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي. بما رواه بإسناد له صحيح أو حسن عن أنس - رضي الله عنه - ... )) الحديث السابق. (¬2) السنن الكبرى للبيهقي، 2/ 211، وانظر: المغني لابن قدامة، 2/ 584، والشرح الممتع، 4/ 26، وشرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 83. (¬3) أبو داود، برقم 1443، وتقدم تخريجه. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الوتر، باب ليجعل آخر صلاته وتراً، برقم 998، مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل مثنى مثنى والوتر ركعة من آخر الليل، برقم 751. (¬5) مسلم، برقم 152 - (751)، وتقدم تخريجه.

11 - لا وتران في ليلة ولا ينقض الوتر؛

مرات، يمد بها صوته في الأخيرة يقول: (([رب الملائكة والروح])) (¬1). 11 - لا وتران في ليلة ولا يُنقض الوتر؛ لحديث طلق بن علي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا وتران في ليلةٍ)) (¬2)؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي ركعتين بعدما يوتر (¬3)، فإذا أوتر المسلم أول الليل ثم نام، ثم يسَّر الله له القيام من آخر الليل، فإنه يصلي مثنى مثنى ولا ينقض وتره بل يكتفي بوتره السابق (¬4). 12 - إيقاظ الأهل لصلاة الوتر مشروع؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل وأنا معترضة على فراشه، فإذا أراد أن يوتر أيقظني فأوترت)). وفي لفظ لمسلم: ((كان يصلي صلاته من الليل وهي معترضة بين يديه، فإذا بقي الوتر أيقظها فأوترت)). وفي لفظ آخر لمسلم: ((فإذا أوتر قال: ((قومي فأوتري يا عائشة)) (¬5). قال الإمام النووي - رحمه الله -: ((فيه أنه يستحب جعل الوتر آخر الليل سواء كان ¬

(¬1) النسائي، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب ذكر أخبار الناقلين لخبر أبيّ بن كعب في الوتر، برقم 1699، وأبو داود مختصراً، كتاب الوتر، باب في الدعاء بعد الوتر، برقم 1430، والدارقطني، 2/ 31، وما بين المعقوفين للدارقطني، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 1/ 272. (¬2) أبو داود، كتاب الوتر، باب في نقض الوتر، برقم 1439، والترمذي، كتاب الوتر، باب ما جاء لا وتران في ليلة، برقم 470، والنسائي، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن وترين في ليلة، برقم 1679، وأحمد، 4/ 23، وابن حبان في صحيحه [الإحسان]، 4/ 74، برقم 2440، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 1/ 146. (¬3) مسلم، برقم 738، وتقدم تخريجه. (¬4) انظر: المغني لابن قدامة،2/ 598، وسمعت سماحة الإمام عبد العزيز ابن باز - رحمه الله - أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 407 يقول: ((السنة تأخير الوتر، لكنه إذا أوتر أول الليل لا يوتر آخره؛ لحديث: ((لا وتران في ليلة))، أما من يقول بنقض الوتر فمعنى ذلك أنه يوتر ثلاث مرات، والصواب أنه إذا أوتر أول الليل ثم صلى آخره، فيصلي ولكنه لا يوتر بل يكتفي بوتره الأول)). وانظر: مجموع فتاواه، 11/ 310 - 311. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الوتر، باب إيقاظ النبي - صلى الله عليه وسلم - أهله بالوتر، برقم 997، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل وأن الوتر ركعة وأن الركعة صلاة صحيحة، برقم 744.

13 - قضاء الوتر لمن فاته

للإنسان تهجد أم لا، إذا وثق بالاستيقاظ آخر الليل إما بنفسه وإما بإيقاظ غيره، وأن الأمر بالنوم على وتر إنما هو في حق من لم يثق)) (¬1). 13 - قضاء الوتر لمن فاته؛ لحديث عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: (( ... وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها، وكان إذا غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة، ولا أعلم نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ القرآن كله في ليلة، ولا صلى ليلة إلى الصبح، ولا صام شهراً كاملاً غير رمضان ... )) (¬2). وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل)) (¬3). وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من نام عن الوتر أو نسيه فليصلّ إذا أصبح أو ذكره)) (¬4). فالأفضل أن يقضي الوتر إذا نام عنه أو نسيه، من النهار بعد ارتفاع الشمس شفعاً على حسب عادته، فإن كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة صلى في النهار اثنتي عشرة ركعة، وإن كان يصلي تسع ركعات صلى عشر ركعات، وهكذا. ¬

(¬1) شرح النووي على صحيح مسلم،2/ 270،وانظر: فتح الباري لابن حجر،2/ 487. (¬2) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل، ومن نام عنه أو مرض، برقم 746. (¬3) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض، برقم 747. (¬4) أبو داود، كتاب الصلاة، باب في الدعاء بعد الوتر، برقم 1431، وابن ماجه بلفظه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب من نام عن وتر أو نسيه، برقم 1188، والترمذي، كتاب الوتر، باب ما جاء في الرجل ينام عن الوتر أو ينسى، برقم 465، ولفظه: ((فليصلّ إذا ذكر وإذا استيقظ))، وفي لفظ له: ((فليصلّ إذا أصبح))، والحاكم بلفظ الترمذي، 1/ 302، وصححه ووافقه الذهبي، وأحمد، 3/ 44 بلفظ: ((إذا ذكرها أو إذا أصبح))، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 2/ 153. وسمعت الإمام ابن باز - رحمه الله - يقول: ((هذا ضعيف بهذا اللفظ، ورواه أبو داود بإسناد جيد؛ لكن ليس فيه إذا أصبح، فرواية أبي داود تشهد له بالصحة، فالأفضل له أن يقضيه لكنه يشفعه، فقد جاء في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا شغله عن وتره نوم أو مرض صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة))، سمعته من سماحته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم412.

14 - دعاء القنوت في النوازل في الصلاة المفروضة

14 - دعاء القنوت في النوازل في الصلاة المفروضة، قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قنت عند النازلة شهراً يدعو على قوم، وثبت أنه قنت يدعو لقوم مستضعفين من أصحابه كانوا مأسورين عند أقوام يمنعونهم من الهجرة، فلما زال السبب ترك القنوت، ولم يداوم النبي - صلى الله عليه وسلم - على القنوت في شيء من الصلوات المفروضة: لا الفجر، ولا غيرها، وكذلك خلفاؤه الراشدون كانوا يقنتون نحو هذا القنوت، فما كانوا يداومون عليه، ولكن إذا زال السبب تركوا القنوت، فالسنة القنوت عند النوازل ويُدعى فيها بما يناسب الحال من الدعاء لقوم أو عليهم، أو بما يناسب النازلة (¬1). وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قنت في الفجر، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء؛ لكن القنوت في الفجر والمغرب آكد (¬2)، فلما زال السبب ترك القنوت، لزوال سببه، حتى في الفجر، وهذا يؤكد أن دعاء القنوت في الفجر على الدوام في غير النوازل بدعة (¬3). ويدل على ما تقدم من مشروعية القنوت في النوازل الأحاديث الآتية: الحديث الأول: حديث أنس - رضي الله عنه - قال: ((قنت النبي - صلى الله عليه وسلم - شهراً يدعو على رعلٍ وذكوان)) (¬4). وفي لفظ لمسلم: ((دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الذين قتلوا ¬

(¬1) انظر: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 21/ 151 - 156، و23/ 98 - 116، وزاد المعاد، 1/ 172 - 186. (¬2) انظر: الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص97. (¬3) ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن المسلمين تنازعوا في القنوت على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن القنوت منسوخ وكله بدعة، فلا يشرع بحال بناءً على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت ثم ترك، والترك نسخ للفعل. القول الثاني: أن القنوت مشروع دائماً، وأن المداومة عليه سنة، ولكن يكون ذلك في الفجر. القول الثالث: وهو الصحيح، أنه يسن عند الحاجة إليه، كما قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه الراشدون، ثم تركوا عند ارتفاع النوازل، فيكون القنوت مسنوناً عند النوازل، وهو الذي عليه فقهاء الحديث. انظر: الفتاوى، 23/ 99 و105 - 108، وقال - رحمه الله -: ((ولا يقنت في غير الوتر إلا أن تنزل بالمسلمين نازلة، فيقنت كل مصلٍّ في جميع الصلوات، لكنه في الفجر والمغرب آكد، بما يناسب تلك النازلة)). انظر: الاختيارات الفقهية، ص97. (¬4) متفق عليه: البخاري بلفظه: كتاب الوتر، باب القنوت قبل الركوع وبعده، برقم 1004، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب القنوت في جميع الصلوات إذا نزل بالمسلمين نازلة، برقم 677.

أصحاب بئر معونة ثلاثين صباحاً ... )). وفي لفظ له: ((ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجد على سرية ما وجد على السبعين الذين أصيبوا يوم بئر معونة، كانوا يُدعَوْن القرَّاء فمكث شهراً يدعو على قَتَلَتِهِم)) (¬1). الحديث الثاني: حديث خفاف بن إيماء الغفاري - رضي الله عنه - قال: ((ركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم رفع رأسه فقال: ((غِفارُ غفَرَ الله لها، وأسلم سالمها الله، وعُصيَةُ عَصَتِ الله ورسوله، اللهم العن بني لحيان، والعن رِعلاً وذكوان))، ثم وقع ساجداً)) (¬2). الحديث الثالث: حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: ((قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصبح والمغرب)) (¬3). الحديث الرابع: حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ((كان القنوت في المغرب والفجر)) (¬4). الحديث الخامس: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ((والله لأقرّبنَّ بكم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الأخرى من صلاة الظهر، وصلاة العشاء، وصلاة الصبح بعدما يقول: سمع الله لمن حمده، فيدعو للمؤمنين ويلعن الكفار)) (¬5). الحديث السادس: حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهراً ¬

(¬1) مسلم، برقم 297 (677)، و302 - (677)، وتقدم تخريجه. (¬2) مسلم، كتاب المساجد، باب استحباب القنوت في جميع الصلوات إذا نزل بالمسلمين نازلة، برقم 679. (¬3) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب القنوت في جميع الصلوات إذا نزل بالمسلمين نازلة، برقم 678. (¬4) البخاري، كتاب الوتر، باب القنوت قبل الركوع وبعده، برقم 1004. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، بابٌ: حدثنا معاذ بن فضالة، برقم 797، ومسلم، كتاب المساجد، باب استحباب القنوت في جميع الصلوات إذا نزلت بالمسلمين نازلة، برقم 676.

متتابعاً في الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، وصلاة الصبح، في دبُر كل صلاة إذا قال: ((سمع الله لمن حمده)) من الركعة الآخرة يدعو على أحياء من بني سُليم، على رِعلٍ وذكوان، وعصيّة، ويؤمّن مَن خلفه)) (¬1). الحديث السابع: ديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت بعد الركعة في صلاةٍ شهراً، إذا قال: ((سمع الله لمن حمده)) يقول في قنوته: ((اللهم أنجِ الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مُضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف))، قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: ((ثم رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الدعاء بعدُ، فقلت: أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ترك الدعاء لهم؟ قال: فقيل: وما تراهم قد قدموا؟)) (¬2). وفي رواية للبخاري: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يدعوَ على أحدٍ، أو يدعو لأحدٍ قنت بعد الركوع ... )) (¬3). وفي لفظ لمسلم: ((إن ذلك في صلاة الفجر)) (¬4). وفي لفظ للبخاري: ((بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي العشاء)) (¬5). الخبر الثامن: خبر عمر موقوفاً، فعن عبد الرحمن بن أبزى، قال: صليت خلف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صلاة الصبح، فسمعته يقول بعد القراءة قبل الركوع: ((اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفِدُ، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إن عذابك بالكافرين مُلحقٌ، اللهم إنا نستعينك، ونستغفرك، ونثني عليك الخير، ولا نكفرك، ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الوتر، باب القنوت في الصلوات، برقم 1443، وأحمد، 1/ 301 - 302، والحاكم، والبيهقي، 2/ 200، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في الإرواء، 2/ 163، وفي صحيح سنن أبي داود، 1/ 270. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، بابٌ: يهوي بالتكبير حين يسجد، برقم 804، ومسلم، كتاب المساجد، باب استحباب القنوت في جميع الصلوات إذا نزلت بالمسلمين نازلة برقم 675. (¬3) البخاري، برقم 4560، وتقدم تخريجه في الذي قبله. (¬4) مسلم، برقم 675، وتقدم تخريجه. (¬5) البخاري، برقم 4598، وتقدم تخريجه.

الأول: أن دعاء القنوت في النوازل مشروع عند السبب الذي يقتضيه

ونؤمن بك، ونخضع لك، ونخلع من يكفر)) (¬1). وفي رواية أخرى أنه قنت بعد الركوع ورفع يديه وجهر بالدعاء (¬2). الحديث التاسع: حديث سعد بن طارق الأشجعي - رضي الله عنه - قال: ((قلت لأبي: يا أبتِ إنك قد صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي بن أبي طالب هاهنا بالكوفة نحواً من خمس سنين، أفكانوا يقنتون في الفجر؟ قال: أي بُنيَّ محدثٌ)) (¬3).فالقنوت في الفجر لا يكون إلا في النوازل. فظهر من جميع الأحاديث السابقة: أن القنوت في النوازل سُنَّة، وأنه يكون في الصلوات الخمس، ولكن في صلاة المغرب والفجر آكد، وأن الأفضل أن يكون القنوت بعد الرفع من الركوع، وأن الأفضل أن يرفع يديه ويجهر بالدعاء، ويؤمّن مَن خلف الإمام، وأن القنوت في الفجر في غير النوازل بدعة (¬4)؛ لحديث سعد بن طارق - رضي الله عنه - وفيه: ((أي بني محدث)) (¬5)، فسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين تدل على شيئين: الأول: أن دعاء القنوت في النوازل مشروع عند السبب الذي يقتضيه، وليس بسنة دائمة في الصلاة. ¬

(¬1) البيهقي، 2/ 211،وصحح إسناده، وصحح إسناده الألباني في إرواء الغليل، 2/ 170. (¬2) سنن البيهقي،2/ 12 وصححه، وقال الألباني في قنوت عمر بعد الركوع وقبله: ((والصواب ثبوت الأمرين عنه)) الإرواء، 2/ 171. (¬3) الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في ترك القنوت، برقم 402، والنسائي، كتاب التطبيق، باب ترك القنوت، برقم 1080، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلوات والسنة فيها، باب ما جاء في القنوت في صلاة الفجر، برقم 1241،وأحمد، 6/ 394،وصححه الألباني في إرواء الغليل، برقم 435. (¬4) انظر: فتاوى ابن تيمية،23/ 98 - 116،و21/ 151 - 156،وزاد المعاد لابن القيم، 1/ 272 - 286. (¬5) وأما حديث أنس عند أحمد، 3/ 162، والدارقطني، 2/ 39، وغيرهما ولفظه: ((ما زال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا))، فضعفه أهل العلم، ونقل الألباني - رحمه الله - تضعيفهم له بالتفصيل في الأحاديث الضعيفة، برقم 238، 3/ 384 - 388، وقال: منكر. وسمعت الإمام عبد العزيز ابن باز - رحمه الله - أثناء تقريره على بلوغ المرام الحديث رقم 325 يقول عن هذه الرواية: ((ضعيفة بكل حال ويدل على ضعفها حديث سعد بن طارق)).

الثاني: أن الدعاء فيه ليس دعاء راتبا محددا

الثاني: أن الدعاء فيه ليس دعاءً راتباً محدداً؛ بل يدعو في كل وقت ونازلة بما يناسب ذلك الوقت أو النازلة؛ لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه - رضي الله عنهم - (¬1). النوع الثالث: صلاة الضحى: 1 - صلاة الضحى سنة مؤكدة (¬2)؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلها وأرشد إليها أصحابه، وأوصى بها، والوصية لرجل واحد وصية للأمة كلها إلا إذا دلَّ الدليل على اختصاصه بها؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ((أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث [لا أدعهن حتى أموت]: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام)) (¬3)؛ ولحديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: ((أوصاني حبيبي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث لن أدعهن ما عشت، بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، وبأن لا أنام حتى أوتر)) (¬4). وسمعت سماحة الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((هذان الحديثان الصحيحان حجة قائمة للدلالة على شرعية سنة الضحى وأنها سنة مؤكدة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - إذا أوصى بشيء فوصيته للأمة وليست خاصة بذلك الشخص، وهكذا إذا أمر أو نهى، فالحكم عام، إلا أن يخصه بشيء فيقول: هذا لك خاصة، وكون النبي - صلى الله عليه وسلم - ما فعلها دائماً لا ينافي سنيتها، فقد يفعل الشيء لبيان سنيته، وقد يتركه لبيان عدم وجوبه)) (¬5). وقد رجح النووي - رحمه الله - أن سنة الضحى سنة مؤكدة بعد أن ذكر الأحاديث في ذلك، قال: ((هذه الأحاديث كلها متفقة لا اختلاف ¬

(¬1) انظر: فتاوى ابن تيمية، 23/ 109، وزاد المعاد، 1/ 282. (¬2) انظر: مجموع فتاوى الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز، 11/ 399. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم 1981، ومسلم، برقم 721، وتقدم تخريجه. (¬4) مسلم، برقم 722، وتقدم تخريجه. (¬5) سمعته من سماحته - رحمه الله - أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 415.

2 - فضل صلاة الضحى ثابت في الأحاديث الصحيحة؛ للأحاديث الآتية:

بينها عند أهل التحقيق، وحاصلها أن [سنة] الضحى سنة مؤكدة ... )) (¬1). فالصواب أن المواظبة عليها سنة مؤكدة (¬2)؛ لوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بها، ولبيانه لفضلها، وقد صلاها - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث عائشة رضي الله عنها حينما سُئلت كم كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاة الضحى؟ قالت: ((أربع ركعات ويزيد ما شاء الله)). وفي رواية: ((ما شاء)) (¬3). 2 - فضل صلاة الضحى ثابت في الأحاديث الصحيحة؛ للأحاديث الآتية: الأول: حديث أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((يصبح على كل سُلامَى (¬4) من أحدكم صدقة: فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهيٌ عن ¬

(¬1) شرح النووي على صحيح مسلم،5/ 237،وانظر: فتح الباري، لابن حجر،3/ 57. (¬2) أما ما جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي سبحة الضحى قط؛ وإني لأسبحها، وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم)) [البخاري، برقم 1228، ومسلم، برقم 718]، وحديثها الآخر حينما سُئلت: هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى؟ قالت: ((لا، إلا أن يجيء من مغيبة))، [مسلم، برقم 717]. وحديثها أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي ((أربع ركعات ويزيد ما شاء الله))، فنفي عائشة رضي الله عنها فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لصلاة الضحى، وإثباتها لذلك لا تعارض بينهما، فإنما أثبتته لم تره وإنما بلغها أنه كان يصلي الضحى أربعاً، أما النفي فهي لم تره يفعلها إلا إذا قدم من مغيبه، وأخبرت أنها كانت تفعلها كأنه استناد إلى ما بلغها من الحث عليها، ومن فعله - صلى الله عليه وسلم - لها، فألفاظها لا تتعارض. انظر: سبل السلام للصنعاني، 3/ 60،وقال الشوكاني في نيل الأوطار، 2/ 256: ((وغاية الأمر أنها أخبرت عما بلغ إليه علمها، وغيرها من الصحابة أخبر بما يدل على المداومة وتأكد المشروعية، ومن علم حجة على من لم يعلم، لا سيما، وذلك الوقت الذي تفعل فيه ليس من الأوقات التي تعتاد فيها الخلوة بالنساء)). وسمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله - أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم415 - 417 يقول: ((والجمع بين الروايات أن يقال: إن الإثبات كان أولاً ثم نسيت، أو أن النفي كان أولاً ثم ذكرت، وما أثبتت من حجة مقدم على ما نفت، كما لو كان عن صحابيين فالمثبت مقدم على النافي)). (¬3) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة الضحى، برقم 719. (¬4) سُلامى: أصله عظام الأصابع وسائر الكف، ثم استعمل في جميع عظام البدن ومفاصله. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 242.

الثاني: حديث بريدة - رضي الله عنه -

المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى)) (¬1). الثاني: حديث بريدة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((في الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلاً فعليه أن يتصدق عن كل مفصل بصدقة))، قالوا: ومن يطيق ذلك يا نبي الله؟ قال: ((النخاعةُ في المسجد تدفنها، والشيء تنحّيه عن الطريق، فإن لم تجد فركعتا الضحى تُجزئُك)) (¬2). ومما يدل على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها ترفعه: ((إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل ... )) (¬3). الثالث: حديث نعيم بن همار، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((يقول الله - عز وجل -: يا ابن آدم لا تُعجزْني (¬4) من أربع ركعات في أول النهار أكْفِكَ آخره)) (¬5). الرابع: حديث أبي الدرداء وأبي ذر رضي الله عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عن الله - تبارك وتعالى - أنه قال: ((ابن آدم اركع لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره)) (¬6). الخامس: حديث أنس - رضي الله عنه - في فضل صلاة الضحى لمن جلس في المسجد بعد الفجر حتى ترتفع الشمس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلَّى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ¬

(¬1) مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة الضحى، برقم 720. (¬2) أبو داود، كتاب الأدب، باب إماطة الأذى عن الطريق، برقم 5242،وأحمد،5/ 354،وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود،3/ 984،وإرواء الغليل، 2/ 213. (¬3) مسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، برقم 1007. (¬4) لا تعجزني: قيل: لا تفوتني من العبادة: أي لا تفتني بأن لا تفعل ذلك فيفوتك كفايتي آخر النهار. عون المعبود شرح سنن أبي داود، للعلامة أبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي، 4/ 168. (¬5) أبو داود، كتاب التطوع، باب صلاة الضحى، برقم 1289، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 239، وإرواء الغليل، 2/ 216. (¬6) الترمذي، كتاب الوتر، باب ما جاء في صلاة الضحى، برقم 475، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 1/ 47، والإرواء، 2/ 219.

3 - وقت صلاة الضحى

ركعتين، كانت له كأجر حجة وعمرة، تامةٍ، تامةٍ، تامة)) (¬1). وقد صح في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((كان إذا صلى الفجر جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس حَسَناً)) (¬2). 3 - وقت صلاة الضحى، من ارتفاع الشمس قيد رمح إلى قبل وقوف الشمس في كبد السماء قبل الزوال، والأفضل أن تُصلَّى بعد اشتداد الحر؛ لحديث زيد بن أرقم - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((صلاة الأوَّابين حين تَرمَض الفصال)) (¬3).وفي لفظ: ((صلاة الأوَّابين إذا رمضت الفصال)) (¬4)، فمن صلاها بعد ارتفاع الشمس قدر رمح فلا بأس، ومن صلاها بعد اشتداد الحر قبل وقت النهي فهو أفضل (¬5). 4 - عدد ركعات سنة الضحى لا حدّ له على الصحيح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((أوصى بركعتي الضحى، وبيَّن فضلهما)) (¬6)، وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى أربعاً ويزيد ما شاء الله)) (¬7). وقد روي عن جابر وأنس رضي الله عنهما ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى الضحى ست ركعات)) (¬8)، وثبت عن أمّ هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) الترمذي، كتاب الجمعة، باب ما ذكر مما يستحب من الجلوس في المسجد بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، برقم 586، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 181، وسمعت الإمام ابن باز - رحمه الله - يحسّنه لكثرة طرقه. (¬2) مسلم، كتاب المساجد، باب فضل الجلوس في مصلاه بعد الصبح، برقم 670 عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه -. (¬3) ترمض الفصال: أي حين تحتر الرمضاء فتحرق خفاف الصغار من أولاد الإبل. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 276. (¬4) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الأوابين حين ترمض الفصال، برقم 748. (¬5) انظر: مجموع فتاوى ابن باز، 11/ 395. (¬6) البخاري، برقم 1981، ومسلم، 720، 721، وتقدم التخريج. (¬7) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة الضحى، وأن أقلها ركعتان، وأكملها ثمان ركعات، وأوسطها أربع أو ست، والحث على المحافظة عليها، برقم 719. (¬8) حديث جابر أخرجه الطبراني في الأوسط، برقم 1066، 1067 [مجمع البحرين]، 1/ 278، وأخرج حديث أنس أيضاً في الأوسط، برقم 1065 [مجمع البحرين]، 1/ 276، وأخرجه الترمذي في الشمائل [المختصر للألباني]، برقم 245 وصححه الألباني في هذا المختصر، ص156، وفي إرواء الغليل، برقم 463، وذكر له طرقاً، فلتراجع حيث جزم بصحته، 2/ 217.

القسم الثاني: ما تسن له الجماعة ومنه صلاة التراويح:

صلى في بيتها يوم فتح مكة ثمان ركعات بعدما ارتفع النهار، قالت: ((فما رأيته صلَّى صلاة أخف منها، غير أنه يتم الركوع والسجود)) (¬1). وقد دل حديث عمرو بن عبسة - رضي الله عنه - أن صلاة الضحى لا حد لأكثرها، وفيه: (( ... صلّ صلاة الصبح ثم أقصِر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان، وحينئذٍ يسجد لها الكفار، ثم صلّ فإن الصلاة مشهودة محضورة (¬2) حتى يستقلّ الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة فإنَّ حينئذٍ تسجر جهنم ... )) (¬3). وفي سنن أبي داود: (( ... ثم أقصر حتى تطلع الشمس فترتفع قيد رمح أو رمحين)) (¬4)، وفي لفظ لأحمد: ((فإذا ارتفعت قيد رمح أو رمحين فصلّ ... )) (¬5). القسم الثاني: ما تسن له الجماعة ومنه صلاة التراويح: 1 - مفهوم صلاة التروايح: سميت بذلك؛ لأنهم كانوا يستريحون بعد كل أربع ركعات)) (¬6). والتراويح: هي قيام رمضان أول الليل (¬7)، ويقال: الترويحة في شهر رمضان؛ لأنهم كانوا يستريحون بين كل تسليمتين، بناءً على حديث ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب تقصير الصلاة، باب من تطوع في السفر، في غير دبر الصلوات وقبلها، برقم 1103،ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة الضحى، وأن أقلها ركعتان، وأكملها ثمان، وأوسطها أربع ركعات أو ست، برقم 336. (¬2) مشهودة محضورة: أي تحضرها الملائكة فهي أقرب إلى القبول وحصول الرحمة، شرح النووي على صحيح مسلم،6/ 364. (¬3) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب إسلام عمرو بن عبسة، برقم 832. (¬4) سنن أبي داود، كتاب التطوع، باب من رخص فيها إذا كانت الشمس مرتفعة برقم 1277. (¬5) مسند أحمد،4/ 111. (¬6) انظر: القاموس المحيط، باب الحاء، فصل الراء، ص282، ولسان العرب لابن منظور، باب الحاء، فصل الراء،2/ 462. (¬7) انظر: مجموع فتاوى الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز.

2 - صلاة التراويح سنة مؤكدة

عائشة رضي الله عنها أنها سُئلت: كيف كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان؟ قالت: ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة: يصلي أربعاً فلا تسأل عن حُسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهنّ، ثم يصلي ثلاثاً ... )) (¬1). ودل قولها رضي الله عنها: ((يصلي أربعاً ... ثم يصلي أربعاً ... )) على أن هناك فصلاً بين الأربع الأولى والأربع الثانية، والثلاث الأخيرة، ويسلم في الأربع من كل ركعتين (¬2)؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة)). وفي لفظ: ((يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة)) (¬3). وهذا يفسر الحديث الأول، وأنه - صلى الله عليه وسلم - يسلم من كل ركعتين، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة الليل مثنى مثنى)) (¬4). 2 - صلاة التراويح سنة مؤكدة، سنَّها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله، وفعله، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرغّبهم في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة، فيقول: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه)) (¬5)، قال الإمام النووي - رحمه الله -: ((اتفق العلماء على استحبابها)) (¬6)، ولا شك أن صلاة التراويح سنة مؤكدة أول من سنها بقوله وفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬7). 3 - فضل صلاة التراويح ثبت من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب التهجد، باب قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل في رمضان وغيره، برقم 1147، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 738. (¬2) انظر: الشرح الممتع للعلامة ابن عثيمين،4/ 66. (¬3) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم -،برقم 736. (¬4) متفق عليه: البخاري، برقم 990، ومسلم، برقم 749. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، باب: تطوع قيام رمضان من الإيمان، برقم 37، ومسلم، واللفظ له، كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، برقم 759. (¬6) شرح النووي على صحيح مسلم،6/ 286. (¬7) انظر: المغني لابن قدامة،2/ 601.

4 - مشروعية الجماعة في صلاة التراويح وقيام رمضان وملازمة الإمام حتى ينصرف

- رضي الله عنه - أنه قال: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه)) (¬1). فإذا قام المسلم رمضان تصديقاً بأنه حق شرعه الله وتصديقاً بما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به، واحتساباً للثواب يرجو الله مخلصاً له القيام ابتغاء مرضاته وغفرانه حصل له هذا الثواب العظيم (¬2). 4 - مشروعية الجماعة في صلاة التراويح وقيام رمضان وملازمة الإمام حتى ينصرف؛ لحديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال: صمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان فلم يقم بنا حتى بقي سبع من الشهر، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، ثم لم يقم بنا في السادسة، وقام بنا في الخامسة حتى ذهب شطر الليل، فقلنا: يا رسول الله، لو نفَّلتنا بقية ليلتنا هذه؟ فقال: ((إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف، كتب الله له قيام ليلة))، وفي لفظ: ((كُتبَ له قيام ليلة))،فلما كانت الرابعة لم يقم، فلما كانت الثالثة جمع أهله، ونساءه، والناس، فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح، قال، قلت: ما الفلاح؟ قال: السحور، ثم لم يقم بنا بقية الشهر)) (¬3)؛ ولحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد، فصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس يتحدَّثون بذلك، فاجتمع أكثر منهم، فخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الليلة الثانية فصلوا بصلاته، فأصبح الناس يذكرون ذلك، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله فلم يخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فطفق (¬4) رجال منهم يقولون: الصلاة، فلم يخرج إليهم رسول الله ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري بلفظه، برقم 37، ومسلم، برقم 759، وتقدم تخريجه. (¬2) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 286، وفتح الباري لابن حجر، 1/ 92، ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 233. (¬3) أحمد، 5/ 159، وأبو داود، كتاب شهر رمضان، باب في قيام شهر رمضان برقم 1375، والنسائي، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب قيام شهر رمضان، برقم 1605، والترمذي، كتاب الصوم، باب ما جاء في قيام شهر رمضان، برقم 806، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في قيام شهر رمضان، برقم 1327، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 1/ 353، وفي غيره. (¬4) طفق: أي جعل.

- صلى الله عليه وسلم - حتى خرج لصلاة الفجر، فلما قضى الفجر أقبل على الناس، ثم تشهَّد، فقال: ((أما بعد، فإنه لم يخف عليَّ شأنكم، ولكني خشيت أن تُفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها))، وذلك في رمضان)) (¬1). وعن عبد الرحمن بن عبدٍ القاريّ أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ليلةً في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: ((إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل))، ثم عزم فجمعهم على أُبي بن كعب، ثم خرج معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: ((نعم البدعةُ هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون - يريد آخر الليل - وكان الناس يقومون أوله)) (¬2). وهذه الأحاديث تدلّ على مشروعية صلاة التراويح وقيام رمضان جماعة بالمسجد، وأن من لازم الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة كاملة. وأما قول عمر - رضي الله عنه -: ((نعم البدعة هذه)) فهذا يعني به في اللغة، فمراده - رضي الله عنه - أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت، ولكن له أصول من الشريعة يرجع إليها، منها: أ- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحثّ على قيام رمضان، ورغَّب فيه، وقد صلى بأصحابه في رمضان غير ليلة ثم امتنع من ذلك معللاً بأنه خشي أن يكتب عليهم فيعجزوا عن القيام، وهذا قد أُمِنَ من بعده - صلى الله عليه وسلم -. ب- أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - باتباع خلفائه الراشدين، وهذا قد صار من سنة خلفائه الراشدين - رضي الله عنه - (¬3). وسمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول عن ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الجمعة، باب من قال في الخطبة بعد الثناء أما بعد، برقم 924، ومسلم واللفظ له، في كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، برقم 761. (¬2) البخاري، كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، برقم 2010. (¬3) انظر: جامع العلوم والحكم، لابن رجب، 2/ 129.

5 - الاجتهاد في قيام عشر شهر رمضان الأواخر

قول عمر - رضي الله عنه - ((نعم البدعة هذه)): ((البدعة هنا يعني من حيث اللغة، والمعنى أنهم أحدثوها على غير مثال سابق بالمداومة عليها في رمضان كله، وهذا وجهُ قول عمر - رضي الله عنه - وإلا فهي سنة فعلها - صلى الله عليه وسلم - ليالي)) (¬1). 5 - الاجتهاد في قيام عشر شهر رمضان الأواخر؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً، غُفِر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفرَ له ما تقدم من ذنبه)) (¬2). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل العشر أحيى الليل، وأيقظ أهله، وجدَّ، وشدَّ المئزر (¬3))) (¬4). وعنها رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره)) (¬5). وعن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال: ((قمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة ثلاث وعشرين إلى ثلث الليل الأول، ثم قمنا معه ليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل، ثم قمنا معه ليلة سبع وعشرين حتى ظننا أن لا ندرك الفلاح. وكانوا يسمونه السحور)) (¬6). وفي حديث أبي ذر - رضي الله عنه -: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كانت ليلة سبع وعشرين جمع أهله ونساءه والناس فقام بهم)) (¬7). ¬

(¬1) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 2010. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب فضل ليلة القدر، باب فضل ليلة القدر، برقم 2014، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، برقم 760. (¬3) شدّ المئزر: معناه التشمير في العبادات، وقيل: كناية عن اعتزال النساء. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب ليلة القدر، باب العمل في العشر الأواخر من رمضان، برقم 2024، ومسلم واللفظ له، كتاب الاعتكاف، باب الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان، برقم 1174. (¬5) مسلم، كتاب الاعتكاف، باب الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان، برقم 1175. (¬6) النسائي، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب قيام شهر رمضان، برقم 1606، وصححه الألباني في صحيح النسائي،1/ 354،وتقدم حديث أبي ذر - رضي الله عنه - قبل يسير. (¬7) أحمد، 5/ 159، وأبو داود، برقم 1375، والنسائي، برقم 1605، والترمذي، برقم 806، وابن ماجه، برقم 1327، وتقدم تخريجه.

6 - وقت صلاة التراويح بعد صلاة العشاء مع سنتها الراتبة

6 - وقت صلاة التراويح بعد صلاة العشاء مع سنتها الراتبة، ثم تصلى صلاة التراويح بعد ذلك (¬1). 7 - عدد صلاة التراويح ليس له تحديد لا يجوز غيره، وإنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خَشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة تُوتِرُ له ما قد صلّى)) (¬2). فلو صلى عشرين ركعة وأوتر بثلاث، أو صلى ستاً وثلاثين وأوتر بثلاث، أو صلى إحدى وأربعين فلا حرج (¬3)، ولكن الأفضل ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ثلاث عشرة ركعة، أو إحدى عشرة ركعة، لحديث ابن عباسرضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة)) (¬4)؛ ولحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة)) (¬5)، فهذا هو الأفضل والأكمل في الثواب (¬6)، ولو صلى بأكثر من ذلك فلا حرج لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة الليل مثنى منثى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى)) (¬7). والأمر واسع في ذلك، لكن الأفضل إحدى عشرة ركعة، والله الموفق سبحانه (¬8). القسم الثالث: التطوع المطلق مشروع في الليل كله والنهار إلا أوقات النهي وهو نوعان: النوع الأول: التهجد بالليل: ¬

(¬1) انظر: الشرح الممتع للعلامة ابن عثيمين، 4/ 82. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 990، ومسلم، برقم 749، وتقدم تخريجه. (¬3) انظر: سنن الترمذي، 3/ 161، والمغني لابن قدامة، 2/ 604، وفتاوى ابن تيمية، 23/ 112 - 113، وسبل السلام للصنعاني، 3/ 20 - 23. (¬4) مسلم، برقم 764، وتقدم تخريجه. (¬5) متفق عليه: البخاري، برقم 1147، ومسلم، برقم 738، وتقدم تخريجه. (¬6) انظر: الشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 72. (¬7) البخاري، برقم 990، ومسلم، برقم 749، وتقدم تخريجه. (¬8) انظر: فتاوى الإمام ابن باز، 11/ 320 - 324.

أولا: مفهوم التهجد

أولاً: مفهوم التهجد، يقال: هجد الرجل إذا نام بالليل، وهجد إذا صلى بالليل. وأما المتهجّد فهو القائم إلى الصلاة من النوم (¬1). ثانياً: صلاة التهجد سنة مؤكدة (¬2)، ثابتة بالكتاب والسنة، وإجماع الأمة، قال الله - عز وجل - في صفة عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} (¬3)، وقال - عز وجل - في صفة المتقين: {كَانُوا قَلِيلا مّنَ الليل مَا يَهْجَعُونَ*وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (¬4) وقال تعالى في أصحاب الإيمان الكامل: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬5). وقال سبحانه: {يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَاء الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ} (¬6). وقال - سبحانه وتعالى -: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} (¬7) ووصف الله - عز وجل - أهل الإيمان الكامل الذين يقومون بالليل بالعلم، ورفع مكانتهم على غيرهم، فقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ الليل سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (¬8)؛ ولعظم شأن صلاة الليل قال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {يَا أَيُّهَا الْمُزَمّل * قُمِ الليل إِلا قَلِيلا * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا} (¬9). وقال سبحانه للنبي - صلى الله عليه وسلم -: {وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ ¬

(¬1) انظر: لسان العرب، لابن منظور، باب الدال، فصل الهاء، 3/ 432، والقاموس المحيط للفيروزآبادي، باب الدال، فصل الهاء، ص418. (¬2) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، لابن باز، 11/ 296. (¬3) سورة الفرقان، الآية: 64. (¬4) سورة الذاريات، الآيتان: 17، 18. (¬5) سورة السجدة، الآيتان: 16، 17. (¬6) سورة آل عمران، الآية: 113. (¬7) سورة آل عمران، الآية: 17. (¬8) سورة الزمر، الآية: 9. (¬9) سورة المزمل، الآيات: 1 - 4.

ثالثا: فضل قيام الليل عظيم؛ للأمور الآتية:

عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} (¬1)، وقال - عز وجل -: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلا * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلا * وَمِنَ الليل فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبّحْهُ لَيْلا طَوِيلا} (¬2). وقال - سبحانه وتعالى -: {وَمِنَ الليل فَسَبّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُود} (¬3). وقال - عز وجل -: {وَمِنَ الليل فَسَبّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُوم} (¬4)، وحث عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)) (¬5). ثالثاً: فضل قيام الليل عظيم؛ للأمور الآتية: 1 - عناية النبي - صلى الله عليه وسلم - بقيام الليل حتى تفطرت قدماه، فقد كان يجتهد في القيام اجتهاداً عظيماً، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم من الليل حتى تتفطَّر قدماه، فقالت عائشة: لم تصنعُ هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدَّمَ من ذنبك وما تأخر؟ قال: ((أفلا أحبُّ أن أكون عبداً شكُوراً)) (¬6)، وعن المغيرة - رضي الله عنه - قال: ((قام النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى تورَّمت قدماه، فقيل له: غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: ((أفلا أكون عبداً شكوراً)) (¬7). ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 79. (¬2) سورة الإنسان، الآيات: 23 - 26. (¬3) سورة ق، الآية: 40. (¬4) سورة الطور، الآية: 49. (¬5) مسلم، كتاب الصيام، باب فضل صوم المحرم، برقم 1163 من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬6) متفق عليه: البخاري، كتاب التفسير، سورة الفتح، باب قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}، برقم 4837، ومسلم، كتاب صفات المنافقين، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة، برقم 2820. (¬7) متفق عليه: البخاري، كتاب التفسير، سورة الفتح، باب قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}، برقم 4836، ومسلم، كتاب صفات المنافقين، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة، برقم 2819.

2 - من أعظم أسباب دخول الجنة

وقد أحسن القائل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال: وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الفجر ساطع يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالكافرين المضاجع (¬1) 2 - من أعظم أسباب دخول الجنة، فعن عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - قال: لما قَدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة انجفل الناس قِبَلَهُ، وقيل: قدِم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثاً، فجئت في الناس، لأنظر، فلما تبيَّنتُ وجْهَهُ عرفتُ أن وجهه ليس بوجه كذَّاب، فكان أول شيء سمعتُه تكلَّم به أن قال: ((يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلوا الأرحام، وصلُّوا بالليل والناسُ نيام، تدخلوا الجنة بسلام)) (¬2). وقد أحسن القائل حين قال: ألهتك لذةُ نومةٍ عن خير عيشٍ ... مع الخيرات في غرف الجنان تعيش مُخلَّداً لا موت فيها ... وتنعم في الجنان مع الحسان تيقظ من منامك إنَّ خيراً ... من النوم التهجدُ بالقران (¬3) 3 - قيام الليل من أسباب رفع الدرجات في غرف الجنة؛ لحديث أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن في الجنة غُرفاً يُرى ظاهرُها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدَّها الله تعالى لمن أطعم الطعام، وألانَ الكلام، وتابع الصيام (¬4)، وأفشى السلام، وصلى بالليل ¬

(¬1) يذكر عن عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه ابن ماجه بلفظه، كتاب الأطعمة، باب إطعام الطعام، برقم 3251، وكتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في قيام الليل، برقم 1334، والترمذي، كتاب صفة القيامة، باب حديث: أفشوا السلام، برقم 2485، وفي كتاب البر والصلة، باب ما جاء في قول المعروف، برقم 1984، والحاكم، 3/ 13، وأحمد، 5/ 451، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 569، وإرواء الغليل، 3/ 239. (¬3) قيام الليل للإمام محمد بن نصر المروزي، ص90، والتهجد وقيام الليل لابن أبي الدنيا، ص317، وقيل الأبيات لمالك ابن دينار. (¬4) تابع الصيام: أي أكثر منه بعد الفريضة بحيث تابع بعضها بعضاً ولا يقطعها رأساً، وقيل: أقله أن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، 6/ 119.

4 - المحافظون على قيام الليل محسنون مستحقون لرحمة الله وجنته

والناس نيام)) (¬1). 4 - المحافظون على قيام الليل محسنون مستحقون لرحمة الله وجنته؛ لأنهم {كَانُوا قَلِيلا مّنَ الليل مَا يَهْجَعُونَ، وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (¬2). 5 - مدح الله أهل قيام الليل في جملة عباده الأبرار عباد الرحمن، فقال - عز وجل -: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} (¬3). 6 - شهد لهم بالإيمان الكامل فقال سبحانه: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ*تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ُنفِقُونَ} (¬4). 7 - نفى الله التسوية بينهم وبين غيرهم ممن لم يتصف بوصفهم، فقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ الليل سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (¬5). 8 - قيام الليل مكفّر للسيئات ومنهاة للآثام، لحديث أبي أمامة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قُربة إلى ربكم، ومكفّر للسيئات، ومنهاة للآثام)) (¬6). 9 - قيام الليل أفضل الصلاة بعد الفريضة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ¬

(¬1) أحمد، 5/ 343، وابن حبان (موارد) برقم 641، والترمذي، عن علي - رضي الله عنه - كتاب صفة الجنة، باب ما جاء في صفة غرف الجنة، برقم 2527، وأحمد في المسند عن عبد الله بن عمرو، 2/ 173، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 311، وصحيح الجامع، 2/ 220، برقم 2119. (¬2) سورة الذاريات، الآيتان: 17 - 18. (¬3) سورة الفرقان، الآية: 64. (¬4) سورة السجدة، الآيات: 15 - 17. (¬5) سورة الزمر، الآية: 9. (¬6) الترمذي، كتاب الدعوات، باب من فتح له منكم باب الدعاء، برقم 3549، والحاكم، 1/ 308، والبيهقي، 2/ 502،وحسنه الألباني في إرواء الغليل،2/ 199، برقم 452، وفي صحيح سنن الترمذي، 3/ 178.

10 - شرف المؤمن قيام الليل

يرفعه، وفيه: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد المكتوبة صلاة الليل)) (¬1). 10 - شرف المؤمن قيام الليل؛ لحديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، وأحببْ من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به)) ثم قال: ((يا محمد شرف المؤمن قيام الليل، وعزُّه استغناؤه عن الناس)) (¬2). 11 - قيام الليل يُغْبَطُ عليه صاحبه؛ لعظيم ثوابه، فهو خير من الدنيا وما فيها؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار)) (¬3)؛ ولحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلَّطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها)) (¬4). 12 - قراءة القرآن في قيام الليل غنيمة عظيمة؛ لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية ¬

(¬1) مسلم، برقم 1163، وتقدم تخريجه. (¬2) أخرجه الحاكم، 4/ 325، وصححه ووافقه الذهبي، وحسّن إسناده المنذري في الترغيب والترهيب، 1/ 640، وعزاه للطبراني في الأوسط، وأشار إلى ثبوته الهيثمي في مجمع الزوائد، 2/ 253، وعزاه للطبراني في الأوسط، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 831، وذكر له ثلاث طرق: عن علي، وعن سهل، وعن جابر - رضي الله عنه -. (¬3) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب فضل من يقوم بالقرآن، برقم 815. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة، برقم 73، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلّمه وفضل من تعلم حكمه من فقه أو غيره فعمل بها وعلمها، برقم 816.

رابعا: أفضل أوقات قيام الليل الثلث الآخر

كتب من المقنطرين (¬1))) (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد فيه ثلاث خَلِفاتٍ عظام سمانٍ؟)) قلنا: نعم، قال: ((ثلاث آيات يقرأ بهن أحدكم في صلاته خير له من ثلاث خلفات عظام سمان)) (¬3). وقد حدد النبي - صلى الله عليه وسلم - أقصى مدة وأدنى زمن يُختم فيه القرآن لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عندما سأله، فقال له: ((في أربعين يوماً))،ثم قال: ((في شهر))،ثم قال: ((في خمس عشرة)) ثم قال: ((في عشر))،ثم قال: ((في سبع)) (¬4). قال: إني أقوى من ذلك، قال: ((لا يفقه من قرأه في أقل من ثلاث)) (¬5). رابعاً: أفضل أوقات قيام الليل الثلث الآخر، وصلاة الليل تجوز في أوله، وأوسطه، وآخره؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفطر من الشهر حتى نظن أن لا يصوم منه، ويصوم حتى نظن أن لا يفطر، وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصلياً إلا رأيته، ولا نائماً إلا رأيته)) (¬6). وهذا يدل على التيسير، فعلى حسب ما تيسر للمسلم يقوم، ولكن الأفضل أن يكون القيام في الثلث الآخر من الليل؛ لحديث عمرو بن عبسة - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((أقرب ما يكون الربُّ من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك ¬

(¬1) المقنطرين: أي ممن كتب له قنطار من الأجر، الترغيب والترهيب للمنذري، 1/ 495. (¬2) أبو داود، كتاب شهر رمضان، باب تحزيب القرآن، برقم 1398، وابن خزيمة في صحيحه، 2/ 181، برقم 1142، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 263، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 643. (¬3) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب فضل قراءة القرآن في الصلاة وتعلمه، برقم802. (¬4) سنن أبي داود، كتاب شهر رمضان، باب تحزيب القرآن، برقم 395، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 262. (¬5) أبو داود، كتاب شهر رمضان، باب في كم يقرأ القرآن، برقم 1390، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 261. (¬6) البخاري، كتاب التهجد، باب قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - الليل من نومه وما نسخ من قيام الليل، برقم 1141.

الساعة فكن)) (¬1). ومما يزيد ذلك وضوحاً حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ [فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر])) (¬2). وعن جابر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن في الليل لساعةً لا يوافقها عبدٌ مسلم يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة)) (¬3). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: ((أحبُّ الصلاة إلى الله صلاةُ داود عليه السلام، وأحبُّ الصيام إلى الله صيامُ داود، وكان ينام نصفَ الليل، ويقوم ثلثَه، وينام سُدسَه، ويصوم يوماً ويُفطر يوماً، ولا يفرُّ إذا لاقى)) (¬4). وعن عائشة رضي الله عنها قالت حينما سُئلت: أي العمل كان أحبَّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: الدائم، قلت: متى كان يقوم؟ قالت: كان يقوم إذا سمع الصارخ (¬5). وفي حديثها الآخر رضي الله عنها: ((إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليوقظه الله من الليل فما يجيء السَّحر حتى يفرغ من حزبه)) (¬6). ¬

(¬1) الترمذي، كتاب الدعوات، باب في دعاء الضيف، برقم 3579، وأبو داود بنحوه، كتاب التطوع، باب من رخص فيها إذا كانت الشمس مرتفعة، برقم 1277،والنسائي، كتاب المواقيت، باب النهي عن الصلاة بعد العصر، برقم 572،وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي،3/ 183. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 145، ومسلم، برقم758، وتقدم تخريجه. (¬3) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب في الليل ساعة مستجاب فيها الدعاء، برقم 757. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب التهجد، باب من نام عند السحر، برقم 1131، و1979، ومسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن الصوم الدهر، برقم 1159. (¬5) متفق عليه: البخاري برقم 1132، ومسلم، برقم 741، وتقدم تخريجه. (¬6) أبو داود، كتاب التطوع، باب وقت قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - من الليل، برقم 1316، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 244.

خامسا: عدد ركعات قيام الليل، ليس له عدد مخصوص

خامساً: عدد ركعات قيام الليل، ليس له عددٌ مخصوص؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى)) (¬1). ولكن الأفضل أن يقتصر على إحدى عشرة ركعة؛ أو ثلاث عشرة ركعة، لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلّم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة)) (¬2)؛ ولحديثها الآخر: ((ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة)) (¬3). سادساً: آداب قيام الليل: 1 - ينوي عند نومه قيام الليل وينوي بنومه التَّقوّي على الطاعة ليحصل على الثواب على نومه؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من امرئ تكون له صلاة بليل فغلبه عليها نوم إلا كتب الله له أجر صلاته، وكان نومُه صدقةً عليه)) (¬4)؛ولحديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل فغلبتْهُ عيناه حتى أصبح، كُتبَ له ما نوى، وكان نومُهُ صدقةً عليه من ربه - عز وجل -)) (¬5). 2 - يمسح النوم عن وجهه عند الاستيقاظ، ويذكر الله، ويشوص فاه بالسواك ويقول: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 990، ومسلم، برقم 749، وتقدم تخريجه. (¬2) مسلم، برقم 736، وتقدم تخريجه. (¬3) متفق عليه، البخاري، برقم 1147، ومسلم، برقم 738، وتقدم تخريجه. (¬4) النسائي، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب من كان له صلاة بالليل فغلبه عليها النوم، برقم 1784، وأبو داود، كتاب التطوع، باب من نوى القيام فنام، برقم 1314، ومالك في الموطأ، 1/ 117، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 1/ 386، وفي إرواء الغليل، 2/ 205. (¬5) النسائي، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب من أتى فراشه وهو ينوي القيام فنام، برقم 687، وصححه الألباني في إرواء الغليل، برقم 454، وفي صحيح سنن النسائي، 1/ 386.

3 - يفتتح تهجده بركعتين خفيفتين

أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ربّ اغفر لي))؛لحديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من تعارَّ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا استجيب [له] (¬1))) (¬2). وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (( ... استيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده ثم قرأ العشر الآيات الخواتيم من سورة آل عمران ... )) (¬3)، وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك)) (¬4)، ويقول أذكار الاستيقاظ من النوم الأخرى (¬5)، ويتوضأ كما أمره الله تعالى. 3 - يفتتح تهجّدَه بركعتين خفيفتين؛ لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوله، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل ليصلي افتتح صلاته بركعتين خفيفتين)) (¬6)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين)) (¬7). 4 - يُستحبُّ أن يكون تهجدُه في بيته؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتهجَّد في بيته؛ ولحديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( ... فعليكم بالصلاة ¬

(¬1) ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري، 3/ 41 أن قوله ((له)) زادها الأصيلي، قال: ((وكذا في الروايات الأخرى)) قلت: زادها ابن ماجه في سننه، برقم 3878، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 335. (¬2) البخاري، كتاب التهجد، باب فضل من تعار من الليل فصلى، برقم 1154. (¬3) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعائه بالليل، برقم 182 - (763) وأصل الحديث متفق عليه. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الغسل، باب السواك، برقم 245، ومسلم، كتاب الطهارة، باب السواك، برقم 254. (¬5) انظر، حصن المسلم، للمؤلف ص12 - 16. (¬6) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعائه بالليل، برقم 767. (¬7) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعائه بالليل، برقم 768.

5 - المداومة على قيام الليل وعدم قطعه

في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)) (¬1). 5 - المداومة على قيام الليل وعدم قطعه، يُستحب أن يكون للمسلم ركعات معلومة يداوم عليها، فإذا نشط طوَّلها وإذا لم ينشط خفَّفها، وإذا فاتته قضاها؛ لحديث عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يملُّ حتى تملّوا)) وكان يقول: ((أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قلّ)) (¬2)؛ ولحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل)) (¬3)؛ ولحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (( ... وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى صلاة أحبّ أن يداوم عليها، وكان إذا غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة)) (¬4)، ولحديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كُتِبَ له كأنما قرأه من الليل)) (¬5). 6 - إذا غلبه النعاس ينبغي له أن يترك الصلاة وينام حتى يذهب عنه النوم؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا نعس أحدُكم في الصلاة فليرقدْ حتى يذهب عنه النوم؛ فإن أحدَكم إذا صلى وهو ناعس لعله يذهب يستغفر فيسبّ نفسه)) (¬6)؛ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه: ((إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدرِ ما يقول فليضطجع)) (¬7). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 731، ومسلم واللفظ له، برقم 781، وتقدم تخريجه. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 970، ومسلم برقم 782، واللفظ له، وتقدم تخريجه. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم 1152، ومسلم، برقم 1159، ويأتي تخريجه. (¬4) مسلم، برقم 746، وتقدم تخريجه. (¬5) مسلم، برقم 747، وتقدم تخريجه. (¬6) متفق عليه: البخاري، برقم 212، ومسلم، برقم 786، وتقدم تخريجه. (¬7) مسلم، برقم 787، وتقدم تخريجه.

7 - يستحب له أن يوقظ أهله

7 - يُستحب له أن يوقظ أهله؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي من الليل فإذا أوتر قال لعائشة رضي الله عنها: ((قومي فأوتري يا عائشة)) (¬1)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى، ثم أيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت، ثم أيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء)) (¬2). وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إذا استيقظ الرجل من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين كُتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات)) (¬3). وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طرقه وفاطمة بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلةً فقال: ((ألا تصليان؟)) فقلت: يا رسول الله، إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قلت له ذلك، ولم يرجع إليَّ شيئاً، ثم سمعته وهو مدبرٌ يضرب فخذه ويقول: {وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} (¬4). قال ابن بطال - رحمه الله -: ((فيه فضيلة صلاة الليل، وإيقاظ النائمين من الأهل والقرابة لذلك)) (¬5)، وقال الطبري - رحمه الله -: ((لولا ما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - من عِظَمِ فضل الصلاة في الليل ما كان يُزعج ابنَتَه وابنَ عمه، في ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 997، ومسلم واللفظ له، برقم 744، وتقدم تخريجه. (¬2) النسائي، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب الترغيب في قيام الليل، برقم 1610، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فيمن أيقظ أهله من الليل، برقم 1336، وأبو داود، كتاب التطوع، باب قيام الليل، برقم 1308، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 1/ 354. (¬3) ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء فيمن أيقظ أهله من الليل، برقم 1335، وأبو داود، كتاب التطوع، باب قيام الليل، برقم 1309، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 243. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب التهجد، باب تحريض النبي - صلى الله عليه وسلم - على قيام الليل والنوافل من غير إيجاب، برقم 1127، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الحث على صلاة الليل وإن قلَّت، برقم 775، والآية من سورة الكهف: 54. (¬5) نقلاً عن فتح الباري، لابن حجر 3/ 11.

وقت جعله الله لخلقه سكناً، لكنه اختار لهما إحراز تلك الفضيلة على الدَّعة والسكون، امتثالاً لقول الله تعالى (¬1): {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (¬2). وقول علي - رضي الله عنه -: ((إنما أنفسنا بيد الله)) اقتبس علي - رضي الله عنه - ذلك من قوله تعالى: {الله يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (¬3)، وقوله ((بعثنا)) المقصود: أيقظنا (¬4)، وقوله: ((طرقه))، ذكر النووي - رحمه الله - أن الطرق هو الإتيان في الليل، وأن ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - لفخذه المختار في معناه: أنه من سرعة جوابه وعدم موافقته به على الاعتذار، ولهذا ضرب فخذه، والحديث فيه: الحث على صلاة الليل، وأمر الإنسان صاحبه بها، وتعهد الإمام والكبير رعيته، بالنظر في مصالح دينهم ودنياهم، وأنه ينبغي للناصح إذا لم تقبل نصيحته أو اعتذر إليه بما لا يرتضيه أن ينكف ولا يُعنّف إلا لمصلحة (¬5). وعن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: استيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة فزعاً، فقال: ((سبحان الله ماذا أنزل الله من الخزائن؟ وماذا أُنزِل من الفتن؟ أيقظوا صواحب يوسف - يريد أزواجه - لكي يصلين، رُبَّ كاسية في الدنيا عارية في الآخرة)). وفي لفظ: ((ماذا أنزل الليلة؟)) (¬6). قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: (( ... فيه التحريض على صلاة الليل وعدم الإيجاب، ¬

(¬1) نقلاً عن فتح الباري، لابن حجر 3/ 11. (¬2) سورة طه، الآية: 132. (¬3) سورة الزمر، الآية: 42. (¬4) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 3/ 11. (¬5) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم،6/ 311،وفتح الباري لابن حجر، 3/ 11. (¬6) البخاري، كتاب العلم، باب العلم والعظة بالليل، برقم 115، وكتاب التهجد، باب تحريض النبي على قيام الليل والنوافل من غير إيجاب، برقم 1126، وكتاب الأدب، باب التكبير والتسبيح عند التعجب، برقم 6218، وكتاب الفتن، باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه، برقم 7079.

8 - يقرأ المتهجد جزءا من القرآن أو أكثر، أو أقل على حسب ما تيسر مع التدبر لما يقرأ

يُؤخذ من ترك إلزامهن بذلك)) (¬1). وفي الحديث استحباب ذكر الله عند الاستيقاظ، وإيقاظ الرجل أهله بالليل للعبادة، لا سيما عند آية تَحدُثُ (¬2)، قال ابن الأثير - رحمه الله -: ((رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة)) هذا كناية عما يقدمه الإنسان لنفسه من الأعمال الصالحة، يقول: ((رُبَّ غني في الدنيا لا يفعل خيراً، وهو فقير في الآخرة، ورُبَّ مكتسٍ في الدنيا ذي ثروة ونعمة عارٍ في الآخرة شقيٌّ)) (¬3). وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -، أن أباه عمر بن الخطاب كان يصلي من الليل ما شاء الله، حتى إذا كان من آخر الليل أيقظ أهله للصلاة، يقول لهم: الصلاة الصلاة، ثم يتلو هذه الآية: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (¬4). 8 - يقرأ المتهجد جزءاً من القرآن أو أكثر، أو أقل على حسب ما تيسر مع التدبر لما يقرأ، وهو مُخيَّر بين الجهر بالقراءة والإسرار بها، إلا أنه إن كان الجهر أنشط له في القراءة، أو كان بحضرته من يستمع قراءته، أو ينتفع بها فالجهر أفضل، وإن كان قريباً منه من يتهجد، أو من يتضرر برفع صوته، فالإسرار أولى، وإن لم يكن لا هذا ولا هذا، فليفعل ما شاء (¬5). وقد دلت الأحاديث على هذا كله، فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: ((صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة فأطال حتى هممت بأمر سوءٍ، قيل: وما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه)) (¬6). وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: ¬

(¬1) فتح الباري، 3/ 11. (¬2) انظر: المرجع السابق، 3/ 11. (¬3) جامع الأصول في أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، 6/ 68. (¬4) موطأ الإمام مالك، كتاب صلاة الليل، باب ما جاء في صلاة الليل، برقم 5، قال الشيخ عبد القادر الأرنؤوط في حاشيته على جامع الأصول، 6/ 69: ((إسناده صحيح))، وصححه الألباني في حاشيته على مشكاة المصابيح للتبريزي، 1/ 390، برقم 1240. (¬5) انظر: المغني لابن قدامة، 2/ 562. (¬6) متفق عليه: البخاري، كتاب التهجد، باب طول القيام في صلاة الليل، برقم 1135، ومسلم واللفظ له، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، برقم 773.

((صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلاً، إذا مرَّ بآية فيها تسبيح سبَّح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوُّذٍ تعوَّذ ... )) (¬1)، وعن عوف بن مالك الأشجعي - رضي الله عنه - قال: قمت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة فقرأ سورة البقرة، لا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوَّذ، ثم ركع بقدر قيامه، يقول في ركوعه: ((سبحان ذي الجبروت، والملكوت، والكبرياء، والعظمة)) ثم سجد بقدر قيامه، ثم قال في سجوده مثل ذلك، ثم قام فقرأ بآل عمران، ثم قرأ سورة سورة)) (¬2). وعن حذيفة - رضي الله عنه - أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل فصلى أربع ركعات، فقرأ فيهن: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة أو الأنعام)) (¬3). وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رجلاً قرأ المفصَّل في ركعة فقال له: ((هذَّاً كهذّ الشعر؟ لقد عرفت النظائر التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرن بينهن، فذكر عشرين سورة من المفصل سورتين من آل حم في كل ركعة)) (¬4).وفي لفظ: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأهن اثنتين اثنتين في كل ركعة)) وقال: ((عشرون سورة من أول المفصل على تأليف ابن مسعود آخرهن من ¬

(¬1) مسلم، تاب صلاة المسافرين، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، برقم 772. (¬2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، برقم 873، والنسائي، كتاب الافتتاح، باب نوع آخر من الذكر في الركوع، برقم 1049، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 166. (¬3) أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، برقم 774، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 166. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب الجمع بين السورتين في ركعة، والقراءة بالخواتيم، وبسورة قبل سورة، وبأول سورة، برقم 775، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب ترتيل القرآن واجتناب الهذّ، برقم 275 - (722).

الحواميم: {حم}،الدخان، و {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} (¬1). وفي لفظ لمسلم: ((عشرون سورة في عشر ركعات من المفصل في تآليف عبد الله)) (¬2). وفي لفظ لمسلم: (( ... هذّاً كهذّ الشعر، إن أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع، وإن أفضل الصلاة الركوع والسجود، إني لأعلم النظائر التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرن بينهن ... )) (¬3). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بآية من القرآن ليلة)) (¬4). وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: ((قام النبي - صلى الله عليه وسلم - بآية حتى أصبح يرددها، والآية: {إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬5). وهذا يدل على التنويع في القراءة في صلاة الليل على حسب ما يفتح الله به على عبده، وعلى حسب الأحوال وقوة الإيمان. وأما الجهر بالقراءة والإسرار بها في قيام الليل، فعن عائشة رضي الله عنها أنها سُئلت عن قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل يجهر أم يسرّ؟ فقالت: ((كل ذلك قد كان يفعل، ربما جهر وربما أسرَّ)) (¬6). وعن أبي قتادة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر: ((يا أبا بكر، مررت بك وإنك تصلي تخفضُ صوتك)) قال: قد أسمعتُ من ناجيتُ يا رسول الله، قال: ((ارفع قليلاً)) وقال لعمر: ((مررت بك وأنت تصلي رافعاً صوتك)) فقال: يا رسول الله! أوقظ الوسنان ¬

(¬1) البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن، برقم 4996، ورقم 5043. (¬2) مسلم، برقم 276 - (722)، وتقدم تخريجه. (¬3) مسلم، برقم275 - (722). (¬4) الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في قراءة الليل، برقم 448، وصحح إسناده الألباني في صحيح الترمذي، 1/ 140. (¬5) ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في القراءة في صلاة الليل، برقم 1350، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 1/ 225، وصححه الأرنؤوط في حاشيته على جامع الأصول، 6/ 105. (¬6) أبو داود، كتاب الوتر، باب في وقت الوتر، برقم 1437، والترمذي، كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء كيف كانت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 2924، والنسائي، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب كيف القراءة بالليل، برقم 1662، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في القراءة في صلاة الليل، برقم 1354، وأحمد، 6/ 149، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 1/ 365.

9 - جواز التطوع جماعة أحيانا في قيام الليل

وأطرد الشيطان، قال: ((اخفض قليلاً)) (¬1). وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يقرأ من الليل، فقال: ((يرحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا، آية كنت أسقطتها من سورة كذا وكذا)) وفي لفظ: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستمع قراءة رجل في المسجد فقال: ((رحمه الله لقد أذكرني آية كنت أُنسيتها)) (¬2). والقرآن إذا صلَّى به الحافظ له بالليل والنهار ذكره، لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت)) (¬3). وفي رواية لمسلم: ((وإذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره وإذا لم يقم به نسيه)) (¬4). 9 - جواز التطوع جماعة أحياناً في قيام الليل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى جماعة، وصلى منفرداً، لكن كان أكثر تطوعه منفرداً، فصلى بحذيفة مرة (¬5)،وابن عباس مرة (¬6)،وبأنس وأمه واليتيم مرة (¬7)،وبابن مسعود مرة (¬8)،وبعوف بن مالك مرة (¬9)، وصلى بأنس وأمه، وأم حرام خالة أنس مرة (¬10)، وصلى ¬

(¬1) أبو داود، كتاب التطوع، باب رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل، برقم 1329، والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في القراءة بالليل، برقم 447، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 247. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب من لم ير بأساً أن يقول سورة البقرة، وسورة كذا وكذا، ومسلم، واللفظ له في كتاب فضائل القرآن، باب الأمر بتعهد القرآن، وكراهة قول نسيت آية كذا، وجواز قول أُنسيتها، برقم 788. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب استذكار القرآن وتعاهده، برقم 5031، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الأمر بتعهد القرآن، برقم 789. (¬4) مسلم، برقم 227 - (789)، وتقدم في الذي قبله. (¬5) مسلم، برقم 227، وتقدم تخريجه. (¬6) متفق عليه: البخاري، برقم 992، ومسلم، برقم 82 - (763)، وتقدم تخريجه. (¬7) مسلم، برقم 658، وتقدم تخريجه. (¬8) متفق عليه: البخاري، برقم 135، ومسلم، برقم 773، وتقدم تخريجه. (¬9) أبو داود، برقم 873، والنسائي برقم 1049، وتقدم تخريجه. (¬10) مسلم، برقم 660، وتقدم تخريجه.

10 - يختم تهجده بوتر

بعتبان بن مالك وأبي بكر مرة (¬1)، وأَمَّ أصحابه في بيت عثمان مرة (¬2)، ولكن لا يتخذ ذلك سنة راتبة، وإنما إذا فعل ذلك أحياناً فلا بأس، إلا صلاة التراويح فإن الجماعة فيها سنة دائمة (¬3). 10 - يختم تهجده بوتر؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)). وفي لفظ لمسلم: ((من صلى من الليل فليجعل آخر صلاته وتراً [قبل الصبح]،فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بذلك)) (¬4). 11 - يحتسب النومة والقومة؛ ليحصل على الأجر في جميع أحواله: في النوم واليقظة، وقد تذاكر معاذ بن جبل وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهما الأعمال الصالحة، فقال معاذ: يا عبد الله (¬5) كيف تقرأ القرآن؟ قال: أتفوّقُهُ تفوُّقاً (¬6)، قال: فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال: أنام أول الليل فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم، فأقرأ ما كتب الله لي فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي))، وفي رواية: ((فقال معاذ لأبي موسى: كيف تقرأ القرآن؟ قال: قائماً وقاعداً، وعلى راحلتي، وأتفوقه تفوقاً، قال: أما أنا فأقوم وأنام، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي)) (¬7). قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى -: ((ومعناه أنه يطلب الثواب ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 1186، ومسلم، برقم 33. (¬2) انظر: المغني لابن قدامة، 2/ 567. (¬3) انظر: الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص98. (¬4) متفق عليه: البخاري، برقم 998، ومسلم، برقم 751، وتقدم تخريجه. (¬5) أبو موسى الأشعري: اسمه عبد الله بن قيس. (¬6) أتفوقه: أي ألازم قراءته ليلاً ونهاراً شيئاً بعد شيء، وحيناً بعد حين، مأخوذ من فواق الناقة، وهو أن تحلب ثم تترك ساعة حتى تدر ثم تحلب، هكذا دائماً. انظر: فتح الباري لابن حجر،8/ 62. (¬7) متفق عليه: البخاري واللفظ له، كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع، برقم4341، 4342، 4344، 4345، ومسلم، كتاب الجهاد، بابٌ في الأمر بالتيسير وترك التنفير، برقم 1733.

12 - طول القيام مع كثرة الركوع والسجود

في الراحة كما يطلبه في التعب؛ لأن الراحة إذا قُصد بها الإعانة على العبادة حصَّلت الثواب)) (¬1). وسمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((وهذا فيه حسن سيرة الصحابة وغيرتهم، والمذاكرة فيما بينهم، وفيه الاحتساب حتى النومة والقومة، فالمسلم ينظّم وقته، وينظّم أموره: ساعة للقرآن، وساعة لأموره الأخرى، وساعة لأهله ... )) (¬2). 12 - طول القيام مع كثرة الركوع والسجود هو الأفضل في صلاة الليل ما لم يشق ذلك أو يسبب الملل؛ لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أفضل الصلاة طول القنوت (¬3) ... )) (¬4)؛ ولحديث ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أن رجلاً سأله عن عملٍ يدخل به الجنة، أو بأحب الأعمال إلى الله، فقال: سألت ¬

(¬1) فتح الباري، 8/ 62. (¬2) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 4341، في فجر يوم الخميس الموافق 22/ 7/1416هـ بالجامع الكبير في مدينة الرياض. (¬3) القنوت: في الحديث يروى بمعانٍ متعددة، فيطلق على: الطاعة، والخشوع، والصلاة، والدعاء، والعبادة، والقيام، وطول القيام، والسكوت، والسكون، وإقامة الطاعة، والخضوع [انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، باب القاف مع النون، 4/ 111، ومشارق الأنوار على الصحاح والآثار، للقاضي عياض، حرف القاف مع سائر الحروف، 2/ 186، وهدي الساري مقدمة فتح الباري، لابن حجر، ص176]، وذكر الحافظ ابن حجر أن ابن العربي ذكر أن القنوت ورد لعشرة معانٍ نظمها الحافظ زين الدين العراقي: ولفظ القنوت اعدد معانيه تجد ... مزيداً على عشرة معاني مرضية دعاء، خشوع، والعبادة، طاعة ... إقامتها، إفراده بالعبودية سكوت، صلاة، والقيام، وطوله ... كذا دوام الطاعة الرابح القنيه [راجع فتح الباري الطبعة السلفية 2/ 491]. قال ابن الأثير - رحمه الله - بعد أن ذكر معاني القنوت في الأحاديث: ((فيصرف كل واحد من هذه المعاني إلى ما يحتمله الحديث الوارد فيه)) [النهاية في غريب الحديث والأثر، 4/ 111]. (¬4) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب أفضل الصلاة طول القنوت، برقم 756.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: ((عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحطَّ عنك بها خطيئة)) (¬1)؛ ولحديث ربيعة بن كعب الأسلمي - رضي الله عنه - قال: كنت أبيت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فآتيه بوضوئه وحاجته، فقال لي: ((سل)) فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة. قال: ((أوَغيرَ ذلك؟)) قلت: هو ذاك. قال: ((فأعنّي على نفسك بكثرة السجود)) (¬2)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثر الدعاء)) (¬3)؛ ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمِنٌ أن يُستجاب لكم)) (¬4). واختلف العلماء - رحمهم الله -؛ لهذه الأحاديث في أيهما أفضل: طول القيام مع قلة السجود، أو كثر السجود مع قصر القيام؟ فمنهم من قال: كثرة السجود والركوع أفضل من طول القيام، واختارها طائفة من أصحاب الإمام أحمد؛ لأحاديث فضل السجود آنفة الذكر. ومنهم من قال: إنهما سواء. ومنهم من قال: طول القيام أفضل من كثرة الركوع والسجود؛ لحديث جابر المذكور آنفاً (¬5): ((أفضل الصلاة طول القنوت)) (¬6)،قال الإمام النووي-رحمه الله-: ((المراد بالقنوت هنا القيام باتفاق العلماء فيما علمت)) (¬7). ¬

(¬1) مسلم، برقم488، وتقدم تخريجه. (¬2) مسلم، برقم 489، وتقدم تخريجه. (¬3) مسلم، برقم 482، وتقدم تخريجه. (¬4) مسلم، برقم 479، وتقدم تخريجه. (¬5) انظر: المغني لابن قدامة، 2/ 564، وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 23/ 69، ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 270. (¬6) مسلم، برقم 756، وتقدم تخريجه. (¬7) شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 281.

وقال الإمام الطبري-رحمه الله- في قول الله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ الليل سَاجِدًا وَقَائِمًا} (¬1) هو في هذا الموضع قراءة القارئ قائماً في الصلاة ... وقال آخرون: هو الطاعة، والقانت المطيع)) (¬2). وقال ابن كثير - رحمه الله -: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ الليل سَاجِدًا وَقَائِمًا} أي في حال سجوده وفي حال قيامه، ولهذا استدل بهذه الآية من ذهب إلى أن القنوت هو الخشوع في الصلاة ليس هو القيام وحده كما ذهب إليه آخرون، وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - القانت المطيع لله - عز وجل - ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -)) (¬3). واختار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: أن تطويل الصلاة قياماً وركوعاً وسجوداً أولى من تكثيرها قياماً وركوعاً وسجوداً (¬4). وسمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله - يقول: ((قد تنازع أهل العلم في أيهما أفضل: طول القيام مع قلة السجود، أو كثرة السجود مع قصر القيام، منهم من فضل هذا ومنهم من فضل هذا، وكانت صلاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - معتدلة إن أطال القيام أطال السجود والركوع، وإن قصر القيام قصر الركوع والسجود، وهذا أفضل ما يكون)). وذكر - رحمه الله - أن الأفضل أن يصلي المسلم ما يستطيع، حتى لا يمل، فإذا ارتاحت نفسه للتطويل أطال، وإن ارتاحت نفسه للتقصير قصر إذا رأى أن التقصير أخشع له وأقرب إلى قلبه وراحة ضميره وتلذذه بهذه العبادة، وكلما كثرت السجدات كان أفضل، فإن استطاع المسلم ذلك فالأفضل طول القيام مع كثرة الركوع والسجود يجمع بين الأمرين، وهي صلاة معتدلة إن أطال القيام أطال الركوع والسجود وإن قصر ¬

(¬1) سورة الزمر، الآية: 9. (¬2) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 1/ 267. (¬3) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، 4/ 48. (¬4) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 23/ 71، وقد فصل في ذلك من 23/ 69 - 83، وذكر أن جنس السجود أفضل من جنس القيام من اثني عشر وجهاً، ثم ذكر هذه الوجوه بالأدلة تفصيلاً.

قصر (¬1). وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتحمل كثيراً في العبادة، ويتلذذ بها، وربما يقوم في صلاة الليل حتى تتفطَّرَ قدماه، فتقول له عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، لم تصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: ((أفلا أكون عبداً شكوراً)) (¬2).وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قرأ في ركعة واحدة من قيام الليل: سورة البقرة، والنساء، وآل عمران (¬3)،ورآه حذيفة - رضي الله عنه - يصلي أربع ركعات من الليل قرأ فيهن: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة أو الأنعام (¬4). وقالت عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كان يصلي إحدى عشرة ركعة، كانت تلك صلاته - تعني بالليل - فيسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأُ أَحَدُكُم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه)) (¬5). وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يرتاح لذلك ولا يملُّ من عبادة ربه - عز وجل -؛ بل كانت الصلاة قُرَّةَ عينه، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((حُبّبَ إليّ النساء والطيب، وجُعِلت قُرَّةُ عيني في الصلاة)) (¬6). وكانت الصلاة راحته، فعن سالم بن أبي الجعد قال: قال رجل: ليتني صليت واسترحت، فكأنهم عابوا عليه ذلك، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها)) (¬7). ¬

(¬1) سمعته من سماحته أثناء تقريره على الحديث رقم 1261 من منتقى الأخبار لابن تيمية. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 4836/ 4837، ومسلم، برقم 2819، 2820 من حديث عائشة والمغيرة رضي الله عنهما وتقدم تخريجهما. (¬3) مسلم، برقم 772، وتقدم تخريجه. (¬4) أبو داود، برقم 873، والنسائي، برقم 1049، وتقدم تخريجه. (¬5) البخاري، كتاب الوتر، باب ما جاء في الوتر، برقم 994. (¬6) النسائي، كتاب عِشرة النساء، باب حب النساء، برقم 3904، وأحمد، 3/ 128، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 3/ 827. (¬7) أبو داود، كتاب الأدب، باب ما جاء في العتمة، برقم 4985، ورقم 4986، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 3/ 941.

سابعا: الأسباب المعينة على قيام الليل:

أما الأمة فقال لهم - صلى الله عليه وسلم -: ((خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يملُّ حتى تملُّوا)) (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن الدين يُسْرٌ ولن يُشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غَلَبَهُ، فسدّدوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدُّلجة، والقصدَ القصدَ تبلغوا)) (¬2). وسمعت سماحة الإمام ابن باز - رحمه الله - يقول: ((وهذا يدل على أن الأفضل في حقنا القصد وعدم التطويل الذي يشق علينا حتى لا نمل، وحتى لا نفتر من العبادة، فالمؤمن يصلي ويجتهد ويتعبد لكن من غير مشقة، بل يتوسط في الأمور حتى لا يمل العبادة)) (¬3). سابعاً: الأسباب المعينة على قيام الليل: 1 - معرفة فضل قيام الليل، ومنزلة أهله عند الله تعالى، وما لهم من السعادة في الدنيا والآخرة، وأن لهم الجنة، وقد شهد الله لهم بالإيمان الكامل، وأنهم لا يستوون هم والذين لا يعلمون، وأن قيام الليل من أسباب دخول الجنة، ورفع الدرجات في غرفها العالية، وأنه من صفات عباد الله الصالحين، وأن شرف المؤمن قيام الليل، وأنه مما ينبغي أن يغبط عليه الإنسان المؤمن (¬4). 2 - معرفة كيد الشيطان، وتثبيطه عن قيام الليل والترهيب من ترك قيام شيء من الليل؛ لحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: ذُكرَ عند النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل نام ليلة حتى أصبح قال: ((ذاك رجل بال الشيطان في أذنه))، أو قال: ((في أذنيه)) (¬5)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يعقد الشيطان ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري 1970، ومسلم، برقم 782، وتقدم تخريجه. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 39، ورقم 6463، ومسلم، برقم 2816، وتقدم تخريجه. (¬3) سمعته من سماحته أثناء تقريره على الأحاديث من رقم 1257 - 1262 من منتقى الأخبار. (¬4) تقدمت جميع الأدلة على كل مسألة من هذه المسائل في فضل قيام الليل قبل صفحات. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب التهجد، باب إذا نام ولم يصل بال الشيطان في أذنه، برقم 1144، وكتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، برقم 3270، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الحث على صلاة الليل وإن قلت، برقم 774.

3 - قصر الأمل وتذكر الموت

على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عُقدٍ، يضرب على مكان كل عقدة: عليك ليل طويل فارقُدْ، فإن استيقظ فذكر الله انحلَّت عقدة، فإن توضأ انحلَّت عقدة، فإن صلى انحلَّت عُقَدُهُ، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان)) (¬1)؛ ولحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم من الليل فترك قيام الليل)) (¬2)، ولحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه رأى رؤيا فقصها على أخته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها فقصَّتها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل)) فكان بعدُ لا ينام من الليل إلا قليلاً)) (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله يُبغض كل جعظريٍّ جوَّاظ (¬4)، سخَّاب (¬5) بالأسواق، جيفة بالليل، حمار بالنهار، عالمٍ جاهل بأمر الآخرة)) (¬6). 3 - قصر الأمل وتذكر الموت؛ فإنه يدفع على العمل ويذهب الكسل؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب التهجد، باب عقد الشيطان، على قافية الرأس إذا لم يصلّ بالليل، برقم 1142، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الحث على صلاة الليل، برقم 776. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب التهجد، باب ما يكره من ترك قيام الليل لمن كان يقومه، برقم 1152، وقد أخرجه في سبعة عشر موضعاً بألفاظ مفيدة في الصيام والصلاة والحقوق وهذه المواضع أولها برقم 1131. وأخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر، برقم 185 - (1159). (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب التهجد، باب فضل قيام الليل، برقم 1121، 1122، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما برقم 2479. (¬4) الجعظري: الشديد الغليظ، والجواظ: الأكول، وقيل: الجموع المنوع. (¬5) السخاب والصخاب: الصياح. انظر: الترغيب والترهيب للمنذري، 1/ 500. (¬6) ابن حبان في [الإحسان]، برقم 72، 1/ 273، والبيهقي في السنن، وصحح إسناده على شرط مسلم شعيب الأرنؤوط في حاشيته على صحيح ابن حبان، (الإحسان)، 1/ 274، وصحح إسناده الألباني في الصحيحة، برقم 195، وحسَّن إسناده في صحيح الترغيب برقم 645.

بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)).وكان ابن عمر يقول: ((إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك)) (¬1). قال الإمام البخاري - رحمه الله تعالى -: اغتنم في الفراغ فضل ركوعٍ ... فعسى أن يكون موتك بغتة كم صحيح رأيت من غيرسقمٍ ... ذهبت نفسه الصحيحة فلتة (¬2) ولَمّا نُعي إليه عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي الحافظ أنشد: إن عشت تفجع بالأحبة كلهم ... وبقاء نفسك لا أبا لك أفجع (¬3) وقال آخر: صلاتك نورٌ والعباد رقودٌ ... ونومك ضد للصلاة عنيد وعمرك غُنمٌ إن عقلت ومهلةٌ ... يسيرُ ويفنى دائباً ويبيد (¬4) وقال بعض الصالحين: عجبتُ من جسمٍ ومن صحةٍ ... ومن فتىً نام إلى الفجر فالموتُ لا تؤمن خطفاتُهُ ... في ظلم الليل إذا يسرِي من بين منقول إلى حفرةٍ ... يفترش الأعمال في القبر وبين مأخوذٍ على غِرَّةٍ ... بات طويل الكبر والفخر عاجله الموتُ على غفلةٍ ... فمات محسوراً إلى خسر (¬5) ¬

(¬1) البخاري، كتاب الرقاق، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كن في الدنيا كأنك غريب)) برقم 6416. (¬2) هدي الساري مقدمة صحيح البخاري، لابن حجر، ص481. (¬3) المرجع السابق، ص481. (¬4) قيام الليل لمحمد بن نصر، ص42، والتهجد وقيام الليل لابن أبي الدنيا، ص329. (¬5) التهجد وقيام الليل، لابن أبي الدنيا، ص33، وقيام الليل لمحمد بن نصر، ص92.

4 - اغتنام الصحة والفراغ

4 - اغتنام الصحة والفراغ؛ ليكتب له ما كان يعمل؛ لحديث أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا مرض العبد أو سافر كُتب له مثلُ ما كان يعمل مقيماً صحيحاً)) (¬1). فينبغي للعاقل أن لا يفوته هذا الفضل العظيم، فيجتهد في حال الصحة، والفراغ، والإقامة في الأعمال الصالحة حتى تكتب له إذا عجز أو شُغل؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ)) (¬2). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجلٍ وهو يعظه: ((اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)) (¬3). 5 - الحرص على النوم مبكراً؛ ليأخذ قوة ونشاطاً يستعين بذلك على قيام الليل وصلاة الفجر؛ لحديث أبي برزة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكره النوم قبل العشاء، والحديث بعدها (¬4). 6 - الحرص على آداب النوم، وذلك بأن ينام على طهارة، وإن لم يكن على طهارة توضأ، وصلى ركعتين سنة الوضوء، ثم يدعو بما ثبت من أذكار النوم، ويجمع كفيه ثم ينفث فيهما ويقرأ فيهما: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الفلق}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الناس}، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من ¬

(¬1) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب يكتب للمسافر ما كان يعمل في الإقامة، برقم 2996. (¬2) البخاري، كتاب الرقاق، باب ما جاء في الصحة والفراغ ولا عيش إلا عيش الآخرة، برقم 6412. (¬3) الحاكم، وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، 4/ 306، وابن المبارك في الزهد، 1/ 104، برقم 2، من حديث عمرو بن ميمون مرسلاً، وقال ابن حجر في فتح الباري، 11/ 235 (( ... أخرجه ابن المبارك في الزهد بسند صحيح من مرسل عمرو بن ميمون)) فمرسل عمرو بن ميمون شاهد لرواية الحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، 2/ 355، برقم 1088. (¬4) متفق عليه: البخاري بلفظه، كتاب مواقيت الصلاة، باب ما يكره من النوم قبل العشاء، برقم 568، ومسلم بمعناه، كتاب الصلاة، باب القراءة في الصبح، برقم 461.

7 - العناية بجملة الأسباب التي تعين على قيام الليل

جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات، ويقرأ آية الكرسي، والآيتين من آخر سورة البقرة، ويكمل أذكار النوم (¬1)، وهذا يكون من أسباب الإعانة على قيام الليل، وعليه أن يأخذ بالأسباب بأن يضع ساعة عند رأسه تنبهه، أو يوصي من حوله من أهله، وأقاربه، أو جيرانه، أو زملائه أن يوقظوه. 7 - العناية بجملة الأسباب التي تعين على قيام الليل، فلا يكثر الأكل، ولا يتعب نفسه بالنهار بالأعمال التي لا فائدة فيها؛ بل ينظم أعماله النافعة، ولا يترك القيلولة بالنهار؛ فإنها تعين على قيام الليل، ويجتنب الذنوب والمعاصي، وقد ذُكِرَ عن الثوري - رحمه الله - أنه قال: ((حُرِمْتُ قيام الليل خمسة أشهر بذنب أذنبته))، فالذنوب قد يُحْرَمُ بها العبد فيفوته كثير من الغنائم: كقيام الليل، ومن أعظم البواعث على قيام الليل: سلامة القلب للمسلمين، وطهارته من البدع، وإعراضه عن فضول الدنيا، ومن أعظم البواعث على قيام الليل: حب الله تعالى، وقوة الإيمان بأنه إذا قام ناجى ربه وأنه حاضره ومشاهده، فتحمله المناجاة على طول القيام (¬2)، ففي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن في الليل لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة)) (¬3). النوع الثاني: صلاة النهار والليل المطلقة: يصلي المسلم ما شاء من ليل أو نهار من الصلوات المطلقة في غير أوقات النهي، وتكون صلاته مثنى مثنى؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((صلاة الليل والنهار، مثنى مثنى ... )) (¬4)، فيصلي ¬

(¬1) انظر: حصن المسلم من أذكار الكتاب والسنة، للمؤلف، ص68 - 78. (¬2) انظر: مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة، ص67 - 68. (¬3) مسلم عن جابر - رضي الله عنه - برقم 757، وتقدم تخريجه. (¬4) النسائي، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب كيف صلاة الليل، برقم 1166، وأبو داود، باب في صلاة النهار، برقم 1295، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، برقم 1322، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 366، وصحيح ابن ماجه، 1/ 221، وصحيح أبي داود، 1/ 240.

المؤمن ما شاء، وقد ثبت من حديث أنس بن مالك في هذه الآية: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا َزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (¬1). قال: ((كانوا يتيقظون ما بين المغرب والعشاء يصلون)). وكان الحسن يقول: ((قيام الليل)) (¬2). وعن أنس - رضي الله عنه - أنه قال في قوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلا مّنَ الليل مَا يَهْجَعُونَ} (¬3) قال: ((كانوا يصلون في ما بين المغرب والعشاء وكذلك {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} (¬4). وعن حذيفة - رضي الله عنه - ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى المغرب فما زال يصلي في المسجد حتى صلى العشاء الآخرة)) (¬5)، وفي رواية عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: سألتني أمي: متى عهدك بالنبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقلت: ما لي به عهد منذ كذا وكذا، فنالت مني، فقلت لها: دعيني آتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فأصلي معه وأسأله أن يستغفر لي ولك، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فصليت معه المغرب، فصلى حتى صلى العشاء، ثم انفتل فتبعتُه، فسمع صوتي فقال: ((من هذا حذيفة؟)) قلت: نعم، قال: ((ما حاجتك غفر الله لك ولأمك؟)) قال: ((إن هذا ملك لم ينزل الأرض قطُّ قبل هذه الليلة استأذن ربَّه أن يسلم عليَّ ويبشرني بأن فاطمة سيدة نساء ¬

(¬1) سورة السجدة، الآية: 16. (¬2) أبو داود، كتاب التطوع، باب وقت قيام النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 1321، والترمذي، كتاب تفسير القرآن، بابٌ ومن سورة السجدة، برقم 3196، لكن لفظه: ((عن أنس بن مالك عن هذه الآية: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} نزلت في انتظار [هذه] الصلاة التي تُدعى العتمة))، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 89، وفي صحيح أبي داود، 1/ 245. (¬3) سورة الذاريات، الآية: 17. (¬4) أبو داود، كتاب التطوع، باب وقت قيام النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم1322، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 245. (¬5) الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما ذكر في الصلاة بعد المغرب أنه في البيت أفضل، برقم 604، وقد قال الترمذي: ((وقد روي عن حذيفة وساقه ... )) انظر: صحيح الترمذي للألباني، 1/ 187.

القسم الرابع: الصلوات ذوات الأسباب:

أهل الجنة، وأن الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة)) (¬1). وفي لفظ له: ((أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فصليت معه المغرب، فصلى إلى العشاء)) (¬2). القسم الرابع: الصلوات ذوات الأسباب: أولاً: تحية المسجد سنة مؤكدة لمن دخل المسجد في أي وقت على الصحيح؛ لحديث أبي قتادة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس)). وفي لفظ: ((إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)) (¬3)؛ ولحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان لي على النبي - صلى الله عليه وسلم - دَين فقضاني وزادني، ودخلت عليه في المسجد فقال لي: ((صلّ ركعتين)) (¬4)، وعنه - رضي الله عنه - قال: جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب فجلس فقال له: ((يا سليك قم فاركع ركعتين وتجوَّز فيهما)) ثم قال: ((إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب، فليركع ركعتين، وليتجوَّز فيهما)) (¬5). ¬

(¬1) الترمذي بلفظه، كتاب المناقب، باب مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما، برقم 3781، وقال: هذا حديث حسن غريب، وأخرجه أحمد، 5/ 404، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 3/ 226، وقال العلامة أحمد محمد شاكر في حاشيته على سنن الترمذي، 2/ 502 بعد ذكره لإسناد الإمام أحمد: ((وهذا إسناد جيد، حسن أو صحيح)). (¬2) ابن خزيمة في صحيحه، كتاب التطوع بالليل، باب فضل التطوع بين المغرب والعشاء، برقم 1194، ورواه النسائي في السنن الكبرى، برقم 380، وقال المنذري في الترغيب والترهيب، 1/ 458: ((رواه النسائي بإسناد جيد))، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 241، وقال في حاشيته على مشكاة المصابيح للتبريزي، برقم 6162، على سند الترمذي، برقم 3781: ((سند جيد)). (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب: إذا دخل المسجد فليركع ركعتين، برقم 444، وفي كتاب التهجد، باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى، برقم 1163، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب تحية المسجد بركعتين، وكراهة الجلوس قبل صلاتهما وأنهما مشروعة في جميع الأوقات، برقم 714. (¬4) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب تحية المسجد، برقم715. (¬5) متفق عليه، البخاري، كتاب الجمعة، باب من جاء والإمام يخطب صلى ركعتين، برقم 930،931،وكتاب التهجد، باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى، برقم 1166، ومسلم بلفظه، كتاب الجمعة، باب التحية والإمام يخطب، برقم 59 - (875).

ثانيا: صلاة القدوم من السفر في المسجد

والأمر بتحية المسجد يفيد بحقيقته وجوب فعل التحية، والنهي يفيد بحقيقته أيضاً تحريم تركها، واختلف أهل العلم في القول بالوجوب والسنية، والصواب أنها سنة مؤكدة وهو قول الجمهور، قال الإمام النووي - رحمه الله -: ((فيه استحباب تحية المسجد بركعتين وهي سنة بإجماع المسلمين، وفيه استحباب التحية في أي وقت دخل)) (¬1). ثانياً: صلاة القدوم من السفر في المسجد، يُصلي المسلم عند القدوم من السفر ركعتين في المسجد قبل أن يذهب إلى بيته؛ لحديث جابر - رضي الله عنه - قال: اشترى مني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيراً، فلما قدم المدينة أمرني أن آتي المسجد فأصلي ركعتين (¬2)، وعن كعب بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يقدم إلا نهاراً في الضحى، فإذا قدم بدأ بالمسجد فصلى ركعتين ثم جلس فيه))، قال الإمام النووي - رحمه الله تعالى -: ((في هذه الأحاديث استحباب ركعتين للقادم من سفره في المسجد أول قدومه، وهذه الصلاة مقصودة للقدوم من السفر؛ لا أنها تحية المسجد، والأحاديث المذكورة صريحة فيما ذكرته، وفيه استحباب القدوم أوائل النهار، وفيه أنه يستحب للرجل الكبير في المرتبة ومن يقصده الناس إذا قدم من سفر للسلام عليه أن يقعد أول قدومه قريباً من داره في موضع بارز سهل على زائريه، إما المسجد وإما غيره (¬3). ثالثاً: الصلاة عقب الوضوء: سنة مؤكدة في أي وقت من ليل أو نهار؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال عند صلاة الفجر: ((يا بلال ¬

(¬1) شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 233، وانظر: نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 260. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة إذا قدم من السفر، برقم 443، وكتاب العمرة، باب لا يطرق أهله إذا دخل المدينة، برقم 1801، ورقم 2097، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب ركعتين في المسجد لمن قدم من سفر أول قدومه، برقم 71 - (715). (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 236، وانظر: فتح الباري، 1/ 537.

حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام؛ فإني سمعت دفَّ نعليك بين يديَّ في الجنة؟)) قال: ما عملت عملاً أرجى أني لم أتطهر طهوراً في ساعة ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي)) (¬1). قال الإمام النووي - رحمه الله -: ((وفيه فضيلة الصلاة عقب الوضوء، وأنها سنة، وأنها تباح في أوقات النهي عند طلوع الشمس واستوائها، وغروبها، وبعد صلاة الصبح والعصر؛ لأنها ذات سبب)) (¬2)،وسمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله - يقول: ((الحديث واضح في أن سنة الوضوء تصلى في أي وقت من ليل أو نهار)) (¬3)، ومما يؤكد هذه السنة العظيمة حديث عثمان - رضي الله عنه - أنه توضأ وضوءاً كاملاً ثم قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ نحو وضوئي هذا وقال: ((من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر الله له ما تقدم من ذنبه)) (¬4)، وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين، مقبلٌ عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة)) (¬5). ومما يؤكد أن سنة الوضوء تُصلَّى في أي وقت، حديث بريدة - رضي الله عنه - قال: أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً فدعا بلالاً، فقال: ((يا بلال بمَ سبقتني إلى الجنة؟ ما دخلت الجنة قطُّ إلا سمعت خشخشتك أمامي، دخلت البارحة الجنة فسمعت خشخشتك أمامي ... )) فقال بلال: يا رسول الله، ما أذَّنتُ قط إلا صليت ركعتين، وما أصابني حدث قط إلا توضأت ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب التهجد، باب فضل الطهور بالليل والنهار وفضل الصلاة عند الطهور بالليل والنهار، برقم 1149،ومسلم، كتاب فضائل الصحابة باب: من فضائل بلال - رضي الله عنه -،برقم 2458. (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم،15/ 246،وانظر فتح الباري لابن حجر،3/ 35. (¬3) سمعته منه أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 1149. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الوضوء، باب المضمضة في الوضوء، برقم 164، ومسلم، كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة، برقم 226. (¬5) مسلم، كتاب الطهارة، باب ذكر المستحب عقب الوضوء، برقم 234.

رابعا: صلاة الاستخارة

عندها، ورأيت أن لله عليَّ ركعتين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بهما)) (¬1)،قال الحافظ ابن حجر-رحمه الله-: ((فدل على أنه كان يعقب الحدث بالوضوء، والوضوء بالصلاة في أي وقت كان)) (¬2)، وهو اختيار شيخ الإسلام، وأن سنة الوضوء تصلى ولو كانت في وقت النهي (¬3). رابعاً: صلاة الاستخارة؛ لحديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة في الأمور [كلها] كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: ((إذا همَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علاَّم الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر [ثم يسميه بعينه] خير لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري - أو قال عاجل أمري وآجله - فاقدره لي ويسّره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرٌّ لي في ديني ومعاشي، وعاقبة أمري - أو قال: في عاجل أمري وآجله - فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به)). قال: ((ويسمي حاجته)) وفي لفظ: ((ثم رضّني به)) (¬4). واختار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن المسلم يصلي صلاة الاستخارة وقت النهي في أمر يفوت بالتأخير إلى وقت الإباحة (¬5). ¬

(¬1) الترمذي، كتاب المناقب، باب مناقب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ـ برقم 3689، وأحمد، 5/ 360، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 205،وصحيح الترغيب والترهيب،1/ 87، برقم 196. (¬2) فتح الباري، لابن حجر، 3/ 35. (¬3) انظر: الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص101. (¬4) البخاري، كتاب التهجد، باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى، برقم 1162، وفي كتاب الدعوات، باب الدعاء عند الاستخارة، برقم 6382، وفي كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ}، برقم 7390. (¬5) انظر: الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص101، ومجموع الفتاوى له، 23/ 215، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 11/ 183.

خامسا: صلاة التوبة: سنة

خامساً: صلاة التوبة: سنة؛ لحديث علي - رضي الله عنه - قال: كنت رجلاً إذا سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثاً نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني، وإذا حدثني أحد من أصحابه استحلفته فإذا حلف لي صدقته، وحدثني أبو بكر، وصدق أبو بكر - رضي الله عنه - أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من عبدٍ يذنب ذنباً فيحسن الطهور، ثم يقوم فيصلي ركعتين، ثم يستغفر الله إلا غفر الله له)) ثم قرأ هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ الله وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (¬1)})) (¬2). واختار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أنها تصلى حتى في وقت النهي؛ لأن التوبة واجبة على الفور، وهو مندوب إلى أن يصلي ركعتين (¬3). سادساً: سجود تلاوة القرآن الكريم: 1 - فضل سجود التلاوة عظيم؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويله [وفي رواية يا ويلي] أُمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأُمرت بالسجود فأبيت فلي النار)) (¬4)، وهذا الحديث فيه الحث على سجود التلاوة والترغيب فيه. 2 - سجود التلاوة سنة مؤكدة على الصحيح (¬5) للتالي والمستمع؛ ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 135. (¬2) أبو داود، كتاب الوتر، باب الاستغفار، برقم 1521، والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في الصلاة عند التوبة، برقم 406،وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 283. (¬3) فتاوى شيخ الإسلام، 23/ 215. (¬4) مسلم، كتاب الإيمان، باب إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة، برقم 81. (¬5) اختلف العلماء في حكم سجود التلاوة: فذهب أبو حنيفة وأصحابه ومن وافقهم إلى أن سجود التلاوة واجب؛ لقول الله تعالى: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [سورة الانشقاق، الآيتان: 20، 21]، وقالوا: هذا ذم ولا يذم على ترك واجب؛ ولأنه سجود يفعل في الصلاة فكان واجباً كسجود الصلاة، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى، 23/ 152 - 162 وقيل: هو رواية عن الإمام أحمد، انظر: الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير، 4/ 210، وذهب الإمام أحمد، والإمام مالك، والإمام الشافعي، وهو قول عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما إلى أن سجود التلاوة ليس بواجب بل سنة مؤكدة. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 2/ 431، و5/ 78، والمغني لابن قدامة، 3/ 364. وسمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز أثناء تقريره على بلوغ المرام، على الحديث رقم 362، يقول: (( ... وهو سنة مؤكدة لفعله - صلى الله عليه وسلم -)).

لحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - النجم بمكة فسجد بها فما بقي أحد من القوم إلا سجد، غير شيخ أخذ كفَّاً من حصى أو تراب ورفعه إلى جبهته [فسجد عليه] وقال يكفيني هذا، فرأيته بعد ذلك قُتِلَ كافراً [وهو أمية بن خلف]))، وفي رواية: ((أول سورة أنزلت فيها سجدة {وَالنَّجْمِ}، فسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسجد من خلفه ... )) الحديث (¬1). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((سجد النبي - صلى الله عليه وسلم -[بالنجم]، وسجد معه المسلمون، والمشركون، والجن، والإنس)) (¬2). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ علينا السورة فيها السجدة فيسجد ونسجد معه، فنزدحم حتى ما يجد أحدنا لجبهته موضعاً يسجد عليه)) ولفظ مسلم: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ القرآن، فيقرأ سورة فيها سجدة ونسجد معه ... )) الحديث (¬3). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري واللفظ له. كتاب سجود القرآن، باب ما جاء في سجود القرآن وسنتها، برقم 1067، وبرقم 1070، وفي كتاب مناقب الأنصار، باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من المشركين بمكة، برقم 3853، والمغازي، باب قتل أبي جهل، برقم 3972، وكتاب التفسير سورة والنجم، باب {فَاسْجُدُوا لله وَاعْبُدُوا}، برقم 4863، والألفاظ جمعت بينها من بعض هذه الروايات. وأخرجه مسلم، في كتاب المساجد، باب سجود التلاوة، برقم 576. (¬2) البخاري، كتاب سجود القرآن، باب ما جاء في سجود القرآن وسنتها، برقم 1071،وكتاب التفسير، سورة النجم، باب {فَاسْجُدُوا لله وَاعْبُدُوا}، برقم 4862. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب سجود القرآن، باب من سجد لسجود القارئ، برقم1075، وباب ازدحام الناس إذا قرأ الإمام السجدة، برقم 1076، وباب من لم يجد موضعاً للسجود مع الإمام مع الزحام، برقم 1079، ومسلم، كتاب المساجد، باب سجود التلاوة، برقم 575.

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سجدنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ}، و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ} (¬1). وهذه الأحاديث تدل على أهمية سجود التلاوة ومشروعيته المؤكدة وعناية النبي - صلى الله عليه وسلم - به، ولكن دلت الأدلة الأخرى على عدم الوجوب، فقد ثبت أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاء السجدة قال: ((يا أيها الناس إنما نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه)) ولم يسجد عمر - رضي الله عنه - وفي لفظ: ((إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء)) (¬2). ومن أوضح الأدلة على أن سجود التلاوة سنة مؤكدة وليس بواجب حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: ((قرأت على النبي - صلى الله عليه وسلم - {وَالنَّجْمِ} فلم يسجد فيها)) (¬3). ورجّح الإمام النووي والحافظ ابن حجر، وابن قدامة - رحمهم الله - أن حديث زيد بن ثابت هذا محمول على بيان جواز عدم السجود، وأنه سنة مؤكدة وليس بواجب؛ لأنه لو كان واجباً لأمره بالسجود ولو بعد ذلك (¬4)، وقال الحافظ ابن حجر: ((وأقوى الأدلة على نفي الوجوب حديث عمر المذكور في هذا الباب)) (¬5)، وتعقبه الإمام عبد العزيز ابن باز - رحمه الله -فبين ((أن أقوى منه وأوضح في الدلالة على عدم وجوب سجود التلاوة: قراءة زيد بن ثابت على النبي - صلى الله عليه وسلم - سورة النجم فلم يسجد ¬

(¬1) مسلم، كتاب المساجد، باب سجود التلاوة، برقم 108 - (578). (¬2) البخاري، كتاب سجود القرآن، باب من رأى أن الله - عز وجل - لم يوجب السجود، برقم 1077. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب سجود القرآن، باب من قرأ السجدة ولم يسجد، برقم 1072، 1073 ومسلم، كتاب المساجد، باب سجود التلاوة، برقم 577. (¬4) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 81، والمغني لابن قدامة، 2/ 365، وفتح الباري لابن حجر، 2/ 555. (¬5) فتح الباري، 2/ 558.

3 - سجود المستمع إذا سجد القارئ، وإذا لم يسجد لم يسجد

فيها، ولم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسجود، ولو كان واجباً لأمره به)) (¬1). 3 - سجود المستمع إذا سجد القارئ، وإذا لم يسجد لم يسجد؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ علينا السورة فيها السجدة فيسجد ونسجد معه فنزدحم حتى ما يجد أحدنا لجبهته موضعاً يسجد عليه)) (¬2)،وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - لتميم بن حَذْلم - وهو غلام - فقرأ عليه سجدة فقال: ((اسجد فأنت إمامنا فيها)) (¬3)،فالمستمع الذي ينصت للقارئ ويتابعه في الاستماع يسجد مع القارئ إذا سجد وإذا لم يسجد فلا (¬4). أما السامع الذي لا يقصد سماع القرآن وإنما مر فسمع القراءة وسجد القارئ، فإنه لا يلزمه السجود، قيل لعمران بن حصين - رضي الله عنه -: الرجل يسمع السجدة ولم يجلس لها، قال: ((أرأيت لو قعد لها)) كأنه لا يوجبه عليه (¬5). وقال سلمان الفارسي - رضي الله عنه -: ((ما لهذا غدونا)) (¬6)، وقال عثمان - رضي الله عنه -: ((إنما السجدة على من استمعها)) (¬7)، وأما المستمع بقصدٍ فقال ابن بطال: ¬

(¬1) حاشية الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز على فتح الباري لابن حجر، 2/ 558. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 1075، ومسلم، برقم 575، وتقدم تخريجه. (¬3) البخاري، كتاب سجود القرآن، باب من سجد لسجود القارئ، رقم الباب 8، قبل الحديث رقم1075، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري،2/ 556: ((وصله سعيد بن منصور)). (¬4) انظر: فتح الباري لابن حجر، 2/ 558، والمغني لابن قدامة، 2/ 366، والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 131. (¬5) البخاري، كتاب سجود القرآن، باب من رأى أن الله - عز وجل - لم يوجب السجود، قبل الحديث رقم 1087، وذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري أنه وصله ابن أبي شيبة بمعناه، ثم صحح إسناده ابن حجر في الفتح، 2/ 558. (¬6) أخرجه البخاري في الكتاب والباب السابقين، وذكر ابن حجر أنه طرف من أثر وصله عبد الرزاق قال: مرَّ سلمان على قوم قعود فقرؤوا السجدة فسجدوا، فقيل له فقال: ((ليس لهذا غدونا))، قال الحافظ في الفتح، 2/ 558: ((وإسناده صحيح)). (¬7) البخاري، في الكتاب والباب السابقين، وذكر الحافظ في الفتح، 2/ 558 أن عبد الرزاق وصله، وابن أبي شيبة قال: والطريقان صحيحان.

4 - عدد سجدات القرآن ومواضعها، خمس عشرة سجدة

((وأجمعوا على أن القارئ إذا سجد لزم المستمع أن يسجد)) (¬1). فقد فرَّق بعض العلماء بين السامع والمستمع بما دلت عليه هذه الآثار (¬2). 4 - عدد سجدات القرآن ومواضعها، خمس عشرة سجدة (¬3) في المواضع لآتية: الموضع الأول: آخر سورة الأعراف، عند قوله تعالى: {وَلَهُ يَسْجُدُونَ} (¬4). الموضع الثاني: في الرعد عند قوله تعالى: {وَظِلالُهُم بِالْغُدُوّ وَالآصَالِ} (¬5). الموضع الثالث: في النحل عند قوله تعالى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (¬6). الموضع الرابع: في الإسراء عند قوله تعالى: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (¬7). الموضع الخامس: في سورة مريم عند قوله: {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (¬8). الموضع السادس: في سورة الحج عند قوله تعالى: {إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (¬9). الموضع السابع: في سورة الحج عند قوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ ¬

(¬1) فتح الباري، لابن حجر، 2/ 556،وانظر: نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 309. (¬2) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 2/ 558، وقال الإمام النووي - رحمه الله - في حكم سجود التلاوة للسامع: ((وهو سنة للقارئ والمستمع له، ويستحب أيضاً للسامع الذي لا يسمع لكن لا يتأكد في حقه تأكده في حق المستمع المصغي))، شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 78. (¬3) اختلف العلماء في عدد سجدات التلاوة: فقيل: خمس عشرة سجدة، وهو رواية عن الإمام أحمد وبعض أصحاب الشافعي وهو الصواب. وقيل: أربع عشرة سجدة وهو المشهور في مذهب الإمام أحمد، وهو رواية عن الشافعي وأبي حنيفة، لكن الحنابلة أسقطوا سجدة ص، والأحناف أسقطوا السجدة الثانية من الحج، وقيل: إحدى عشرة سجدة، وهو رواية عن الإمام مالك ومن تبعه. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 81، والمغني لابن قدامة، 2/ 352، والمقنع والشرح الكبير ومعهما الإنصاف، 4/ 220، والشرح الممتع، لابن عثيمين، 4/ 134. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 206. (¬5) سورة الرعد، الآية: 15. (¬6) سورة النحل، الآية: 50. (¬7) سورة الإسراء، الآية: 109. (¬8) سورة مريم، الآية: 58. (¬9) سورة الحج، الآية: 18.

الموضع الثامن: في سورة الفرقان عند قوله تعالى: وزادهم نفورا

لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬1). الموضع الثامن: في سورة الفرقان عند قوله تعالى: {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} (¬2). الموضع التاسع: في سورة النمل، عند قوله تعالى: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (¬3). الموضع العاشر: في سورة {الم} السجدة، عند قوله تعالى: {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} (¬4). الموضع الحادي عشر: في سورة ص، عند قوله: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} (¬5). الموضع الثاني عشر: في سورة فصلت، عند قوله تعالى: {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} (¬6). وهذا قول الجمهور من العلماء، وقال الإمام مالك - رحمه الله - وطائفة من السلف، بل عند قوله تعالى: {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (¬7). الموضع الثالث عشر: في آخر سورة النجم، عند قوله تعالى: ¬

(¬1) سورة الحج، الآية، 77. (¬2) سورة الفرقان، الآية: 60. (¬3) -سورة النمل، الآية: 26. (¬4) سورة السجدة، الآية: 15. (¬5) سورة ص الآية:24، وسجدة ص ثبت بها الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((ليس (ص) من عزائم السجود، وقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها))، [صحيح البخاري، كتاب سجود القرآن، باب سجدة ص، برقم 1061، وكتاب أحاديث الأنبياء، باب {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ}، برقم 3422] ومعنى ص ليس من عزائم السجود: ((أي ما وردت العزيمة على فعله كصيغة الأمر مثلاً، بناء على أن بعض المندوبات آكد من بعض عند من لا يقول بالوجوب))، فتح الباري لابن حجر، 2/ 552. وسمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 363 يقول: ((هذا الحديث يدل على ثبوت سجدة ((ص))، والصواب أنه يُسجد بها في الصلاة وخارجها، أما ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما فهو من اجتهاده، وقد دل على سجدة ((ص)) فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وكفى)). (¬6) سورة فصلت، الآية: 37. (¬7) سورة فصلت، الآية: 38.

الموضع الرابع عشر: في سورة الانشقاق عند قوله تعالى: وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون

{فَاسْجُدُوا لله وَاعْبُدُوا} (¬1). الموضع الرابع عشر: في سورة الانشقاق عند قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} (¬2). الموضع الخامس عشر: في آخر سورة العلق عند قوله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (¬3). وسجدتي سورة الحج جاء فيهما خبر خالد بن معدان - رضي الله عنه - قال: ((فضلت سورة الحج بسجدتين)) (¬4)، وجاء في خبر عقبة بن عامر، وزاد: ((فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما)) (¬5). 5 - سجود التلاوة في الصلاة الجهرية ثابت؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه صلى بأصحابه صلاة العشاء فقرأ: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} فسجد، فقيل له: ما هذه؟ قال: ((سجدت فيها خلف أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -، فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه)) (¬6). 6 - صفة سجود التلاوة، من قرأ آية سجدة أو كان يستمع لها، فإنه يستحب ¬

(¬1) سورة النجم، الآية: 62. (¬2) سورة الانشقاق، الآية: 21. (¬3) سورة العلق، الآية: 19. (¬4) ذكره الحافظ في بلوغ المرام، برقم 366،وعزاه إلى أبي داود في المراسيل، وسمعت سماحة العلامة ابن باز رحمه الله يقول أثناء تقريره على هذا الخبر: ((لا بأس بإسناده عند أبي داود، وأيد ذلك ما بعده)). (¬5) الترمذي، كتاب الجمعة، باب ما جاء في السجدة في الحج، برقم 578، قال الترمذي: ليس إسناده بذاك القوي. وأخرجه أبو داود، كتاب سجود القرآن، باب تفريع أبواب السجود، برقم 1402، والحديث حسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 388، وفي صحيح الترمذي، 1/ 319، وضعف الحافظ ابن حجر إسناده في البلوغ، وسمعت الإمام عبد العزيز ابن باز - رحمه الله - يقول: ((يُعضد بالمرسل قبله، وابن كثير أنكر تضعيفه؛ لأن ابن لهيعة صرح بالسماع، والمعروف عند العلماء ضعف ابن لهيعة مطلقاً، لكن يعضد حديثه مرسل أبي داود، فيرفع الحديث إلى درجة الحسن المقبول الذي يحتج به)). وقال: ((عدد السجدات خمس عشرة سجدة: ثلاث في المفصل: النجم والانشقاق، والعلق، وسجدتان في الحج، وعشر مجمع عليها، والصواب سنية الجميع))، سمعت ذلك من سماحته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 366، 367، وحسّنه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 388، وصحيح الترمذي، 1/ 319. (¬6) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب الجهر في العشاء، برقم 766، وباب القراءة في العشاء بالسجدة، برقم 678، ومسلم، كتاب المساجد، باب سجود التلاوة، برقم 578.

له أن يستقبل القبلة ويكبر، ويسجد ثم يقول دعاء السجود، ثم يرفع من السجود بدون تكبير، ولا تشهد، ولا سلام (¬1)؛لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ علينا القرآن، فإذا مرَّ بالسجدة كبَّر وسجد وسجدنا معه)) (¬2).وإذا كان سجود التلاوة في الصلاة، فإنه يكبر حين يسجد وحين ينهض من السجود؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر في الصلاة في كل خفض ورفع (¬3)،وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) (¬4)،وإذا قرأ السجدة في ¬

(¬1) اختلف أهل العلم هل يشترط لسجود التلاوة ما يشترط لصلاة النفل: من الطهارة عن الحدث والنجس، وستر العورة، واستقبال القبلة أم لا يشترط ذلك؟ رجح الإمام النووي أنه يشترط ذلك، ورجح الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية أن ذلك لا يشترط كما كان ابن عمر يفعل، [صحيح البخاري في كتاب سجود القرآن، باب سجود المشركين مع المسلمين رقم الباب 5]، لكن قال: ((هي بشروط الصلاة أفضل ولا ينبغي أن يخل بذلك إلا بعذر))،انظر: شرح النووي على صحيح مسلم،5/ 82، وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 23/ 165 - 170 ورجح عدم الاشتراط ابن القيم في تهذيب السنن،1/ 53 - 56، وسمعت سماحة الإمام عبد العزيز ابن باز - رحمه الله - يرجح أن الطهارة لسجود التلاوة لا تجب وإن كان ذلك خلاف ما عليه الجمهور، لأنها مستحبة لأسباب تقع في القراءة، والقراءة لا تجب لها الطهارة، فما كان من توابع القراءة فكذلك وقول الجمهور ليس بحجة فلا تلزم موافقتهم بغير دليل. سمعته من سماحته - رحمه الله - أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 369 عندما سئل هل تشترط الطهارة لسجود التلاوة؟ وانظر للفائدة في معرفة الخلاف: المغني لابن قدامة، 2/ 358، ونيل الأوطار للشوكاني،2/ 313، وقال: ((أما ستر العورة والاستقبال فقيل إنه معتبر اتفاقاً))، وفتح الباري لابن حجر، 2/ 553 - 554، وسبل السلام للصنعاني، 2/ 379، والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 126، وفتاوى ابن باز، 11/ 406 - 415. (¬2) أبو داود، كتاب سجود القرآن، باب في الرجل يسمع السجدة وهو راكب أو في غير صلاة، برقم 1413، وقال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام: ((إسناده لين))، وضعفه الألباني في إرواء الغليل، برقم 472، وأخرجه الحاكم في المستدرك عن عُبيد الله، 1/ 222، وقال صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، ولكن الحاكم لم يذكر التكبير في النسخة الموجودة عندي، وسمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((يتقوى الحديث برواية الحاكم، فتكون التكبيرة عند السجود فقط إلا إذا كان في الصلاة فإنه يكبر مع كل خفض ورفع))، سمعته أثناء تقريره - رحمه الله - على بلوغ المرام، الحديث رقم 369، وهكذا الشوكاني في نيل الأوطار، رأى ثبوته عن عبيد الله المصغر، 2/ 311، والصنعاني في سبل السلام، 2/ 386. (¬3) رجح هذا كله الإمام ابن باز في مجموع فتاوى ومقالات متنوعة،11/ 406 - 410، وانظر: المختارات الجلية من المسائل الفقهية للسعدي، ص49. (¬4) البخاري، برقم 595، وتقدم تخريجه.

7 - الدعاء في سجود التلاوة

الصلاة في آخر السورة، فإن شاء ركع، وإن شاء سجد ثم قام فقرأ شيئاً من القرآن ثم ركع، وإن شاء سجد ثم قام فركع من غير قراءة)) (¬1). 7 - الدعاء في سجود التلاوة، يدعو بمثل دعائه في سجود الصلاة، وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في سجود القرآن بالليل [يقول في السجدة مراراً] (¬2): ((سجد وجهي للذي خلقه [وصوَّره] (¬3) وشقَّ سمعَه وبصرَه، بحوله وقوته [فتبارك الله أحسن الخالقين] (¬4))) (¬5). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إني رأيت البارحة فيما يرى النائم كأني أصلي إلى أصل شجرة، فقرأت السجدة فسجدْتُ، فسَجَدَتِ الشجرةُ لسجودي، فسمعتها تقول: ((اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، [وتقبَّلْها مني كما تقبَّلْتها من عبدك داود])). قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ سجدة ثم سجد، فسمعته يقول في سجوده مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة)) (¬6). ويشرع في سجود التلاوة ما يشرع في سجود الصلاة (¬7). والصواب أن سجود التلاوة يجوز في الأوقات المنهي عن الصلاة ¬

(¬1) نقله ابن قدامة في المغني، 2/ 369. (¬2) من سنن أبي داود، برقم1414. (¬3) من سنن البيهقي، 2/ 325. (¬4) من المستدرك للحاكم، 1/ 220. (¬5) أبو داود، كتاب سجود القرآن، باب ما يقول إذا سجد، برقم 1414، والترمذي، كتاب الجمعة، باب ما جاء ما يقول في سجود القرآن، برقم 580، والنسائي، كتاب التطبيق، باب نوع آخر، برقم 1129، وأحمد، 6/ 217، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 265. (¬6) الترمذي، كتاب الجمعة، باب ما جاء ما يقول في سجود القرآن، برقم 579، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب سجود القرآن، برقم 1053، وعنده (اللهم احطط) بدلاً من ((اللهم اكتب))، ما بين المعقوفين من سنن الترمذي، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 180 وصحيح سنن ابن ماجه، 1/ 173. (¬7) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، للإمام عبد العزيز بن باز،11/ 407،وانظر: الشرح الممتع،4/ 144.

سابعا: سجود الشكر مستحب عند تجدد النعم، واندفاع النقم التي وجد سببها فسلم منها المسلم

فيها؛ لأنه من ذوات الأسباب (¬1). سابعاً: سجود الشكر مستحب عند تجدد النعم، واندفاع النقم التي وجد سببها فَسَلِمَ منها المسلم (¬2)؛ لحديث أبي بكرة - رضي الله عنه - ((عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا أتاه أمر يَسُرُّه أو يُسَرُّ به خرَّ ساجداً شكراً لله تبارك وتعالى)) (¬3). وعن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - قال: سجد النبي فأطال السجود ثم رفع رأسه فقال: ((إن جبريل - عليه السلام - أتاني فبشرني فقال: إن الله - عز وجل - يقول: ((من صلى عليك صليت عليه، ومن سلم عليك سلمت عليه، فسجدت لله - عز وجل - شكراً)) (¬4). وعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث عليَّاً إلى اليمن - فذكر الحديث - قال: فكتب عليٌّ بإسلامهم، فلما قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكتاب خرَّ ساجداً شكراً لله تعالى على ذلك (¬5). وقد سجد كعب بن مالك - رضي الله عنه - لما سمع صوت البشير بتوبة الله عليه (¬6). وسجد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - شكراً لله حينما وجد ذا الثدية في قتلى الخوارج (¬7). ¬

(¬1) شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 82، ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 313، ومجموع فتاوى ابن باز، 11/ 291. (¬2) انظر: المغني لابن قدامة، 2/ 371، ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 314، وسبل السلام للصنعاني، 2/ 387، والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 153. (¬3) أبو داود، كتاب الجهاد، باب في سجود الشكر، برقم 2774، والترمذي، كتاب السير، باب ما جاء في سجدة الشكر، برقم 1578، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الصلاة والسجدة عند الشكر، برقم 1394،وأحمد،5/ 45، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 534، وحسنه في إرواء الغليل، 2/ 226، برقم 474. (¬4) أحمد في المسند،1/ 191،وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح،1/ 296،برقم 937. (¬5) البيهقي، في السنن الكبرى، 2/ 369، وأصله في صحيح البخاري، [برقم4092 نسخة البغا]، قال البيهقي: أخرج البخاري صدر هذا الحديث ... وسجود الشكر صحيح على شرطه. السنن الكبرى،2/ 369. (¬6) متفق عليه: البخاري، برقم4418، ومسلم، برقم 53 - (2769). (¬7) أحمد في المسند، 1/ 107 - 108و147 وحسنه الألباني في الإرواء، برقم 476.

القسم الخامس: أوقات النهي عن صلاة التطوع:

والصواب أنه كسجود التلاوة فلا يشترط له ما يشترط للصلاة، وليس في الأحاديث ما يدل على التكبير في سجود الشكر (¬1). القسم الخامس: أوقات النهي عن صلاة التطوع: أولاً: أوقات النهي عن صلاة التطوع المطلق خمسة بالبسط وثلاثة بالاختصار، فأما بالبسط: فمن صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، ومن طلوعها حتى ترتفع قدر رمح، وعند قيامها في وسط السماء حتى تزول، ومن صلاة العصر إلى غروب الشمس، وإذا شرعت في الغروب حتى يتم غروبها. وأما أوقات النهي بالاختصار: فمن صلاة الصبح حتى ترتفع الشمس قدر رمح، وعند قيام الشمس في وسط السماء حتى تزول، ومن صلاة العصر حتى تغيب الشمس، وقد دلت الأحاديث الصحيحة على ذلك، فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس)). وفي رواية البخاري: (( ... لا صلاة بعد صلاتين: بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس))، ولفظ مسلم: ((لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس)) (¬2)، وعن عمرو بن عبسة - رضي الله عنه - أنه قال: للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أخبرني عن الصلاة؟ قال: ((صلّ صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس، حتى ترتفع فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، ¬

(¬1) وسمعت الإمام ابن باز - رحمه الله - يقول: ((والظاهر أنه يسجد للشكر بدون تكبير وهذا هو الأصل))، سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام حديث رقم372، وانظر: نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 315، وسبل السلام للصنعاني، 2/ 389، والمغني لابن قدامة، 2/ 372. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب لا تُتحرَّى الصلاة قبل غروب الشمس، برقم 586،وكتاب جزاء الصيد، باب حج النساء، برقم 1864، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، برقم 827.

وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صلّ فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة فإنَّه حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصلّ فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار)) (¬1). وعن عقبة بن عامر الجهني - رضي الله عنه - قال: ثلاث ساعات كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلي فيهن أو نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة (¬2) حتى تميل الشمس، وحين تضيَّفُ (¬3) الشمس للغروب حتى تغرب)) (¬4). وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا بدا حاجب الشمس فأخّروا الصلاة حتى تبرز، وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب)) (¬5). فدلت هذه الأحاديث على النهي عن صلاة التطوع في هذه الأوقات (¬6). ¬

(¬1) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب إسلام عمرو بن عبسة، برقم832، وتقدم تخريجه. (¬2) قائم الظهيرة: حال استواء الشمس، ومعناه: حين لا يبقى للقائم في الظهيرة ظل في المشرق ولا في المغرب. شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 362. (¬3) تضيف: تميل، انظر: نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 294. (¬4) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، برقم 831. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، برقم 3272، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الأوقات المنهي عن الصلاة فيها برقم 829. (¬6) وفي الباب أحاديث كثيرة، منها حديث عمر - رضي الله عنه - عند البخاري، برقم 581، ومسلم، برقم 826، وحديث ابن عمر عند البخاري، برقم 582، ورقم 583، ومسلم، برقم 828، ورقم829، وحديث أبي هريرة عند البخاري، برقم 368، ومسلم، برقم1511، وحديث معاوية عند البخاري، برقم587، وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة في الصحيحين وغيرهما، وسمعت الإمام عبد العزيز ابن باز - رحمه الله - أثناء تقريره على صحيح مسلم، الحديث رقم 827 يقول: ((والأحاديث في النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر متواترة، والأوقات خمسة: بعد الفجر، عند طلوعها حتى ترتفع، الزوال، بعد العصر، عند غروبها حتى تغرب، والصحيح أن صلوات ذات الأسباب لا تدخل في النهي: كصلاة الطواف، وتحية المسجد، وصلاة الكسوف للشمس، وصلاة الجنازة في غير وقت الإشراق والغروب ... )).

ثانيا: الصلوات ذوات الأسباب في أوقات النهي:

ويضاف إلى هذه الأوقات الخمسة: النهي عن صلاة النافلة بعد طلوع الفجر الثاني؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا صلاة بعد الفجر إلا سجدتين)) (¬1)، ويفسر ذلك لفظ أبي داود، عن يسار مولى ابن عمر قال: رآني ابن عمر وأنا أصلي بعد طلوع الفجر، فقال: يا يسار إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج علينا ونحن نصلي هذه الصلاة فقال: ((ليبلغ شاهدكم غائبكم لا تصلوا بعد الفجر إلا سجدتين)) (¬2). ثانياً: الصلوات ذوات الأسباب في أوقات النهي: الصلوات ذوات الأسباب في أوقات النهي، اختلف العلماء - يرحمهم الله - هل تؤدى في الأوقات التي نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة فيها أم لا تفعل؟ والصواب من ذلك أنها مخصوصة بالاستثناء في أوقات النهي، قال الإمام النووي - رحمه الله - بعد أن ذكر أحاديث النهي: ((في أحاديث الباب نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد طلوعها حتى ترتفع، وعند استوائها حتى تزول، وعند اصفرارها حتى تغرب، وأجمعت الأمة على كراهة صلاة لا سبب لها في هذه الأوقات، واتفقوا على جواز الفرائض المؤداة فيها، واختلفوا في النوافل التي لها سبب كصلاة: تحية المسجد، وسجود التلاوة، والشكر، وصلاة العيد، والكسوف، وفي صلاة الجنازة، وقضاء الفوائت. ومذهب الشافعي وطائفة جواز ذلك كله بلا كراهة، ومذهب أبي حنيفة وآخرين أنه داخل في النهي لعموم الأحاديث، واحتج الشافعي وموافقوه بأنه ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى سنة الظهر بعد العصر، وهذا صريح ¬

(¬1) الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتين، برقم 419، واللفظ له، وأبو داود، كتاب التطوع، باب من رخص فيهما إذا كانت الشمس مرتفعة، برقم 1278، وابن ماجه، المقدمة، باب من بلغ علماً، برقم 235، وأحمد 2/ 104، وعبد الرزاق في المصنف، 3/ 53، برقم 4760، بلفظ: ((لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر))، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 238، وصحيح الترمذي، 1/ 133، وفي الإرواء، برقم 478. (¬2) سنن أبي داود، برقم 1278، وتقدم تخريجه في الذي قبله.

في قضاء السنة الفائتة فالحاضرة أولى، والفريضة المقضيَّة أولى وكذا الجنازة)) (¬1). واختار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن ذوات الأسباب تفعل في أوقات النهي، وقال: (( ... وهذا أصح قولي العلماء وهو مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه)) (¬2). وقال سماحة الإمام ابن باز - رحمه الله - على قول من قال: ((يُحْمَل النهي على ما لا سبب له ويخص منه ما له سبب جمعاً بين الأدلة)) (¬3): ((وهذا القول هو أصح الأقوال، وهو مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم، وبه تجتمع الأخبار والله أعلم)) (¬4). ومما يدل على استثناء الصلوات ذوات الأسباب حديث جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا بني عبد منافٍ لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى، أيةَ ساعةٍ شاء من ليلٍ أو نهار)) (¬5). وحديث يزيد بن الأسود - رضي الله عنه - قال: شهدت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حجته، فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخَيف، فلما قضى صلاته انحرف فإذا هو برجلين في أُخْرى القوم لم يصليا معه فقال: ((عليَّ بهما)) فجيء بهما ¬

(¬1) شرح صحيح مسلم،6/ 358،وتعقب الحافظ ابن حجر في فتح الباري،2/ 59 مسألة الإجماع، فقد حكي عن طائفة من السلف الإباحة مطلقاً، وأن أحاديث النهي منسوخة، وعن طائفة أخرى المنع مطلقاً. (¬2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام، 23/ 210، وانظر: المختارات الجلية للمسائل الفقهية، للعلامة عبد الرحمن السعدي، ص51. (¬3) انظر: فتح الباري لابن حجر، 2/ 59. (¬4) حاشية ابن باز على فتح الباري، 2/ 59، وانظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 23/ 178 - 222. (¬5) أبو داود، كتاب المناسك، باب الطواف بعد العصر، برقم 1894، والترمذي، باب ما جاء في الصلاة بعد العصر، وبعد الصبح لمن يطوف، برقم 868، والنسائي، كتاب المناسك، باب إباحة الطواف في كل الأوقات، برقم 2924، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الرخصة في الصلاة بمكة في كل وقت، برقم 1254، وسمعت الإمام ابن باز يقول: إسناده جيد، وذلك أثناء تقريره على سنن النسائي، الحديث رقم 2924،وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود،1/ 354.

ترعد فرائصُهُما (¬1) فقال: ((ما منعكما أن تصليا معنا؟)) فقالا: يا رسول الله، إنا كنا قد صلينا في رحالنا، قال: ((فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصلّيا معهم، فإنها لكما نافلة)) (¬2). وفي لفظ لأبي داود: ((إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام ولم يصل فليصل معه؛ فإنها له نافلة)) (¬3). وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، أو يميتون الصلاة عن وقتها؟)) (¬4) قال، قلت: فما تأمرني؟ قال: ((صلّ الصلاة لوقتها فإن أدركتها معهم فصلّ فإنها لك نافلة [ولا تقل إني قد صليت فلا أصلي])) (¬5). قال الإمام النووي - رحمه الله -: ((وفي هذا الحديث أنه لا بأس بإعادة الصبح والعصر والمغرب كباقي الصلوات؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أطلق الأمر بإعادة الصلاة ولم يفرق بين صلاة وصلاة وهذا هو الصحيح)) (¬6). وعن محجن أنه كان في مجلس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأذن بالصلاة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم رجع ومحجن في مجلسه، فقال رسول - صلى الله عليه وسلم -: ((ما منعك أن تصلي؟ ألست برجل مسلم؟)) قال: بلى ولكني كنت قد صليت في أهلي، ¬

(¬1) ترعد فرائصهما: تتحرك فرائصهما، والفريضة لحمة بين الكتف والجنب ترجف عند الخوف. انظر: نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 297. (¬2) الترمذي واللفظ له، كتاب الصلاة، باب ما جاء في الرجل يصلي وحده، ثم يدرك الجماعة، برقم 219، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب فيمن صلى في منزله ثم أدرك الجماعة يصلي معهم، برقم 575، والنسائي، كتاب الإمامة، باب إعادة الفجر في جماعة لمن صلى وحده، برقم 858، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 1/ 186. (¬3) سنن أبي داود، برقم 575، وتقدم تخريجه في الذي قبله. (¬4) يميتون الصلاة: يؤخرونها فيجعلونها كالميت الذي خرجت روحه، والمراد بتأخيرها عن وقتها: أي عن وقتها المختار. شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 153. (¬5) -مسلم، كتاب المساجد، باب كراهة تأخير الصلاة عن وقتها المختار وما يفعله المأموم إذا أخرها الإمام، برقم648. (¬6) شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 154.

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا جئت فصلّ مع الناس وإن كنت قد صليت)) (¬1). وهذه الأحاديث وما في معناها تدل على مشروعية الدخول مع الجماعة بنية التطوع لمن كان قد صلى تلك الصلاة، وإن كان الوقت وقت كراهة، للتصريح في حديث يزيد بن الأسود بأن ذلك كان في صلاة الصبح؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أطلق الأمر بإعادة الصلاة في حديث أبي ذر وحديث محجن، ولم يفرق - صلى الله عليه وسلم - بين صلاة وصلاة، فتكون هذه الأحاديث مخصصة لعموم الأحاديث القاضية بكراهة الصلاة في أوقات النهي (¬2). وأما حديث أم سلمة رضي الله عنها الذي قالت فيه: ((صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم دخل بيتي فصلى ركعتين، فقلت: يا رسول الله، صليت صلاة لم تكن تصليها؟ فقال: ((قدم عليَّ مال فشغلني عن الركعتين كنت أركعهما بعد الظهر فصليتهما الآن)) فقلت: يا رسول الله، أنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: ((لا)) (¬3)، فهذا من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال الصنعاني - رحمه الله -: ((والحديث دليل على ما سلف من أن القضاء في ذلك الوقت كان من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -)) (¬4). وسمعت الإمام عبد العزيز ابن باز - رحمه الله - يقول عن هذا الحديث: ((سنده جيد ويدل على أنه من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -، وهناك من أهل العلم من يقول: تقضى، والصحيح أنها من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -)) (¬5). ويجوز قضاء الفرائض في أوقات النهي؛ لحديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من نسي صلاة فليصلّها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ¬

(¬1) النسائي، كتاب الإمامة، باب إعادة الصلاة مع الجماعة بعد صلاة الرجل نفسه، برقم 857، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 186،وفي صحيح الجامع برقم 480، وفي الإرواء، برقم 534. (¬2) انظر: نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 298. (¬3) أحمد في المسند، 6/ 315، وسمعت سماحة الإمام عبد العزيز ابن باز - رحمه الله - أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 188 يقول: ((سنده جيد)). (¬4) سبل السلام، 2/ 52، وانظر: نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 262. (¬5) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 188.

ذلك)). وفي رواية لمسلم: ((من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها)) (¬1). والذي اتضح من الأحاديث التي مضت جواز صلاة ذوات الأسباب في أوقات النهي ومنها: قضاء الفوائت، والصلاة المعادة مع الجماعة، وتحية المسجد، وسجود التلاوة وسجود الشكر، وصلاة الكسوف، وصلاة الطواف بالبيت، وصلاة الجنازة بعد العصر وبعد الفجر، وصلاة نصف النهار في المسجد يوم الجمعة للمأمومين حتى يخرج الإمام، وسنة الوضوء، وصلاة الاستخارة إذا كان الذي يستخير له يفوت إذا أخره، وصلاة التوبة، وقضاء سنة الفجر بعدها (¬2)، ولكن لا يُصلي على الجنائز ولا يقبر الموتى في أوقات النهي المضيَّقة: عند الغروب، وعند الشروق، وعندما تكون الشمس في وسط السماء؛ لحديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: ((ثلاث ساعات كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلي فيهن أو نقبر فيها موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيَّف الشمس للغروب حتى تغرب)) (¬3). وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبصر رجلاً يصلي وحده، فقال: ((ألا رجل يتصدَّق على هذا فيصلي معه)) (¬4).وذكر ابن تيمية - رحمه الله ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري برقم 597، ومسلم، برقم 684، وتقدم تخريجه. (¬2) جميع هذه الصلوات ذوات الأسباب ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى، 23/ 259 - 261 و23/ 178 - 221، وذكر كثيراً منها سماحة الإمام ابن باز في مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، 11/ 286 - 295 و11/ 384. (¬3) مسلم، برقم 831، وتقدم تخريجه. (¬4) أبو داود، كتاب الصلاة، باب في الجمع في المسجد، برقم574، والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في الجماعة في مسجد قد صُلّي فيه، برقم 220، وأحمد، 3/ 45، 5/ 45، والحاكم، 1/ 209، وابن حبان، 6/ 257، برقم 2397 - 2399، وأبو يعلى، 2/ 321، برقم 1057،وصححه الألباني في إرواء الغليل، 2/ 613 برقم 535.

-: أن هذا الحديث مما جاء في الإعادة لسبب، ثم قال: ((فهنا هذا المتصدق قد أعاد الصلاة ليحصل لذلك المصلي فضيلة الجماعة، ثم الإعادة المأمور بها مشروعة عند الشافعي، وأحمد، ومالك وقت النهي، وعند أبي حنيفة لا تشرع وقت النهي)) (¬1)، والله - عز وجل - أعلم (¬2). ¬

(¬1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 23/ 261، وينظر: 23/ 259، وانظر: نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 380، والمغني لابن قدامة 2/ 515، 517، 519، 531،533،والمختارات الجلية في المسائل الفقهية، للعلامة السعدي، ص50 - 51، والشرح للعلامة ابن عثيمين، 4/ 175 - 176. (¬2) انظر: الأمور التي تفارق فيها النوافل الفرائض في الشرح الممتع للعلامة ابن عثيمين 4/ 184 - 187، فقد ذكر واحداً وثلاثين فرقاً.

المبحث الرابع والعشرون: صلاة الجماعة

المبحث الرابع والعشرون: صلاة الجماعة أولاً: مفهوم صلاة الجماعة: لغة، واصطلاحاً: 1 - الصلاة لغة: الدعاء، قاله الله تعالى: {وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} (¬1) أي ادعُ لهم، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دُعي أحدكم فليُجِبْ، فإن كان صائماً فليصلّ، وإن كان مفطراً فليطعم)) (¬2). أي فليدعُ بالبركة والخير والمغفرة (¬3)، والصلاة من الله حسن الثناء، ومن الملائكة الدعاء، قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلّمُوا تَسْلِيمًا} (¬4). قال أبو العالية: ((صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء)) (¬5)، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ((يصلون: يبرّكون)) (¬6)، وقيل: إن صلاة الله الرحمة، وصلاة الملائكة الاستغفار، والصواب القول الأول (¬7). فالصلاة من الله: الثناء، ومن المخلوقين: الملائكة، والإنس، والجن: القيام، والركوع، والسجود، والدعاء، والاستغفار، والتسبيح. والصلاة من الطير والهوام: التسبيح (¬8). 2 - الصلاة في الاصطلاح الشرعي: عبادة لله ذات أقوال، وأفعال معلومة ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 103. (¬2) مسلم، برقم 1431، وتقدم تخريجه في أول الصلاة. (¬3) انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، باب الصاد مع اللام، 3/ 50، ولسان العرب لابن منظور، باب اللام، فصل الصاد، 14/ 464، والتعريفات للجرجاني، ص174. (¬4) سورة الأحزاب، الآية: 56. (¬5) البخاري معلقًا مجزوماً به، كتاب التفسير، تفسير سورة الأحزاب، باب قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ} قبل الحديث رقم 4797. (¬6) البخاري معلقاً مجزوماً به، كتاب التفسير، تفسير سورة الأحزاب، باب قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ}، قبل الحديث رقم 4797. (¬7) انظر: تفسير ابن كثير، ص76، والشرح الممتع لابن عثيمين، 3/ 228. (¬8) انظر: لسان العرب لابن منظور، باب الياء، فصل الصاد، 14/ 465.

دعاء المسألة

مخصوصة، مفتَتَحة بالتكبير، مختَتَمة بالتسليم، وسُمّيت صلاة؛ لاشتمالها على الدعاء (¬1)؛فإنها كانت اسماً لكل دعاء، فصارت اسماً لدعاء مخصوص، أو كانت اسماً لدعاء فنقلت إلى الصلاة الشرعية؛ لما بينها وبين الدعاء من المناسبة، والأمر في ذلك متقارب، فإذا أطلق اسم الصلاة في الشرع لم يفهم منه إلا الصلاة المشروعة (¬2)، وقد اشتملت على الدعاء بنوعيه: دعاء المسألة: وهو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع، أو دفع ضر، أو كشفه، وسؤال الحاجات من الله بلسان الحال. ودعاء العبادة: وهو طلب الثواب بالأعمال الصالحة: من القيام، والركوع، والسجود، فمن فعل هذه العبادات فقد دعا ربه وطلبه بلسان الحال أن يغفر له، فاتضح بذلك أن الصلاة كلها: دعاء مسألة، ودعاء عبادة؛ لاشتمالها على ذلك كله (¬3). 3 - الجماعة لغة: عدد كل شيء وكثرته، والجمعُ: تأليف المتفرّق؛ والمسجدُ الجامعُ: الذي يجمع أهله، نعتٌ له؛ لأنه علامة للاجتماع، ويجوز: مسجد الجامع بالإضافة، كقولك: الحقُ اليقينُ، وحقُّ اليقين، بمعنى: مسجد اليوم الجامع، وحق الشي اليقين؛ لأن إضافة الشيء إلى نفسه لا تجوز إلا على هذا التقدير، والجماعة: عدد من الناس يجمعهم غرض واحد (¬4). ¬

(¬1) انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 5، والشرح الكبير، 3/ 5، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف مع الشرح الكبير، 3/ 5، والتعريفات للجرجاني، ص174. (¬2) انظر: شرح العمدة، لشيخ الإسلام ابن تيمية، 2/ 30. (¬3) انظر: فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد، للعلامة محمد بن حسين آل الشيخ، ص180، والقول المفيد على كتاب التوحيد، للعلامة محمد بن صالح بن عثيمين، 1/ 117، وانظر: شروط الدعاء وموانع الإجابة، للمؤلف، ص10. (¬4) انظر: لسان العرب لابن منظور، فصل الجيم، باب العين، 8/ 55، والقاموس المحيط، للفيروز آبادي، باب العين، فصل الجيم، ص917، والموسوعة الفقهية، وزارة الأوقاف بالكويت، 15/ 280، وصلاة الجماعة، للأستاذ الدكتور صالح السدلان، ص13.

4 - الجماعة في الاصطلاح الشرعي

4 - الجماعة في الاصطلاح الشرعي: تطلق على عدد من الناس، مأخوذة من معنى الاجتماع، وأقل ما يتحقق به الاجتماع اثنان: إمام ومأموم (¬1)، وسميت صلاة الجماعة: لاجتماع المصلين في الفعل: مكاناً وزماناً، فإذا أخلوا بهما أو بأحدهما لغير عذر كان ذلك منهيّاً عنه باتفاق الأئمة (¬2). ثانياً: حكم صلاة الجماعة: صلاة الجماعة فرض عين على الرجال المكلفين القادرين، حضراً وسفراً، للصلوات الخمس (¬3)؛ لأدلة صريحة كثيرة من الكتاب والسنة الصحيحة، والآثار، ومنها ما يأتي: ¬

(¬1) انظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، 1/ 156، وصلاة الجماعة، للأستاذ الدكتور صالح السدلان، ص14. (¬2) حاشية عبد الرحمن بن القاسم على الروض المربع، 2/ 255. (¬3) اتفق علماء الإسلام على أن إقامة الصلوات الخمس في المساجد هي من أعظم العبادات، وأجل القربات، ولكن تنازع العلماء بعد ذلك في كونها، واجبة على الأعيان، أو على الكفاية، أو سنة مؤكدة على النحو الآتي: 1 - فرض عين، وهذا المنصوص عن الإمام أحمد وغيره من أئمة السلف وفقهاء الحديث. 2 - فرض كفاية، وهذا المرجح في مذهب الشافعي، وقول بعض أصحاب مالك، وقول في مذهب أحمد. 3 - سنة مؤكدة، وهذا هو المعروف عن أصحاب أبي حنيفة، وأكثر أصحاب مالك، وكثير من أصحاب الشافعي، ويذكر رواية عن أحمد. 4 - فرض عين وشرط في صحة الصلاة، وهو قول طائفة من قدماء أصحاب أحمد وطائفة من السلف، واختاره ابن حزم وغيره، ويذكر عن شيخ الإسلام ابن تيمية في أحد قوليه كما في الاختيارات الفقهية له، ص103، وعن تلميذه ابن القيم كما في كتاب الصلاة له، ص82 - 87 والقول الصواب هو الأول والله أعلم. انظر: كتاب المجموع شرح المهذب للشيرازي، للإمام النووي، 4/ 87، والمغني لابن قدامة، 3/ 5، وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 23/ 225 - 254، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للمرداوي، مع المقنع والشرح الكبير، 4/ 265، ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 340، والأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص103،وكتاب الصلاة لابن القيم، ص 69 - 86، وصلاة الجماعة، للأستاذ الدكتور صالح بن غانم السدلان، ص61 - 72، وأهمية صلاة الجماعة، للأستاذ الدكتور فضل إلهي، ص41 - 110، وفتاوى الإمام ابن باز، 12/ 7، والشرح الممتع، للعلامة ابن عثيمين، 4/ 204، والإحكام شرح أصول الأحكام، لابن قاسم، 1/ 239.

1 - أمر الله تعالى حال الخوف بالصلاة جماعة

1 - أمر الله تعالى حال الخوف بالصلاة جماعة فقال: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} (¬1)، فالله - عز وجل - أمر بالصلاة في الجماعة في شدة الخوف، ثم أعاد هذا الأمر سبحانه مرة ثانية في حق الطائفة الثانية، فلو كانت الجماعة سُنَّة لكان أولى الأعذار بسقوطها عذر الخوف، ولو كانت فرض كفاية لأسقطها سبحانه عن الطائفة الثانية بفعل الأولى، فدّل ذلك على أن الجماعة فرض على الأعيان. 2 - أمر الله - عز وجل - بالصلاة مع المصلين فقال: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ} (¬2)،فقد أمر الله - عز وجل - بالصلاة مع جماعة المصلين، والأمر يقتضي الوجوب. 3 - عاقب الله من لم يُجب المؤذن فيصلي مع الجماعة بأن حال بينهم وبين السجود يوم القيامة، قال - عز وجل -: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} (¬3). فقد عاقب سبحانه من لم يجب الداعي إلى الصلاة مع الجماعة بأن حال بينه وبين السجود يوم القيامة، وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياءً وسمعة، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً)).وفي لفظ: (( .. فيُكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاءً ورياءً إلا جعل الله ظهره طبقة ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 102. (¬2) سورة البقرة، الآية: 43 (¬3) سورة القلم، الآيتان: 42 - 43.

4 - أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة مع الجماعة

واحدة كلما أراد أن يسجد خرَّ على قفاه .. )) (¬1). وهذا فيه عقوبة للمنافقين وأن ظهورهم يوم القيامة تكون طبقاً واحداً: أي فقار الظهر كله يكون كالفقارة الواحدة، فلا يقدرون على السجود (¬2). 4 - أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة مع الجماعة، فعن مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفر من قومي، فأقمنا عنده عشرين ليلة - وكان رحيماً رفيقاً- فلما رأى شوقنا إلى أهالينا قال: ((ارجعوا فكونوا فيهم، وعلّموهم، وصلُّوا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم)) (¬3). فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بصلاة الجماعة، والأمر يقتضي الوجوب. 5 - همّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحريق البيوت على المتخلفين عن صلاة الجماعة؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد ناساً في بعض الصلوات فقال: ((لقد هممتُ أن آمر رجلاً يصلي بالناس، ثم أُخالِفَ (¬4) إلى رجالٍ يتخلَّفون عنها فآمر بهم فيحرقوا عليهم بحزم الحطب بيوتهم، ولو عَلِمَ أحدهم أنه يجد عظماً سميناً لشهدها)). وهذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري: ((والذي نفسي بيده لقد هممتُ أن آمر بحطب ليحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذّن لها، ثم آمر رجلاً فيؤمُّ الناس، ثم أخالف إلى رجالٍ فأحرّق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عَرْقاً سميناً (¬5)، أو مرماتين حسنتين (¬6) لشهد العشاء)). وفي لفظ لمسلم: ((إن ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة {ن وَالْقَلَمِ}، باب ((يوم يكشف عن ساق)) برقم 4919، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبّهَا نَاظِرَةٌ}، برقم 7439، ومسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين ربهم في الآخرة، برقم 182. (¬2) انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، 3/ 114. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب من قال يؤذن في السفر مؤذن واحد، برقم 628، ومسلم، كتاب المساجد، باب من أحق بالإمامة، برقم 674. (¬4) أخالف إلى رجال: أي أذهب إليهم، شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 160. (¬5) عَرقا: العرق: العظم بما عليه من بقايا اللحم بعدما أخذ عنه معظم اللحم. جامع الأصول لابن الأثير، 5/ 568. (¬6) المرماة: قيل: هو ما بين ظلفي الشاة، وقيل: سهمان يرمي بهما الرجل. انظر جامع الأصول لابن الأثير، 5/ 568.

6 - لم يرخص النبي - صلى الله عليه وسلم - للأعمى بعيد الدار في التخلف عن الجماعة

أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً (¬1)، ولقد هممتُ أن آمر بالصلاة فتُقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قومٍ لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار)) (¬2). وفي هذا الحديث دلالة على أن صلاة الجماعة فرض عين (¬3). 6 - لم يرخص النبي - صلى الله عليه وسلم - للأعمى بعيد الدار في التخلف عن الجماعة؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل أعمى فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرخص له؛ فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولَّى دعاه فقال: ((هل تسمع النداء بالصلاة؟)) فقال: نعم، قال: ((فأجب)) (¬4). وعن ابن أم مكتوم - رضي الله عنه - أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إني رجل ضرير البصر، شاسع الدار، ولي قائد لا يلائمني، فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ قال: ((هل تسمع النداء؟)) قال: نعم، قال: ((لا أجد لك رخصة)) (¬5). وفي لفظ أنه قال: يا رسول الله، إن المدينة كثيرة الهوام والسباع، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أتسمع حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح؟ فحي هلا (¬6))) (¬7). ¬

(¬1) حبواً: الحبو حبو الصبي الصغير على يديه ورجليه، شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 160. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب وجوب صلاة الجماعة، برقم 644، ومسلم، كتاب الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها، برقم 651. (¬3) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 161. (¬4) مسلم، كتاب المساجد، باب يجب إتيان المسجد على من سمع النداء، برقم 653. (¬5) أبو داود، كتاب الصلاة، باب التشديد في ترك الجماعة، برقم 552، وقال العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود: ((حسن صحيح))، 1/ 110. (¬6) ((حيَّ)) أي هلمَّ، وكلمة ((هلا)) بمعنى عَجَّل وأسرع. جامع الأصول لابن الأثير، 5/ 566]. (¬7) أبو داود، كتاب الصلاة، باب التشديد في ترك الجماعة، برقم 553، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 110.

7 - بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له

وهذا يصرح فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه لا رخصة للمسلم في التخلف عن صلاة الجماعة إذا سمع النداء، ولو كان مخيراً بين أن يصلي وحده أو جماعة، لكان أولى الناس بهذا التخيير هذا الأعمى الذي قد اجتمع له ستة أعذار: كونه أعمى البصر، وبعيد الدار، والمدينة كثيرة الهوام والسباع، وليس له قائد يلائمه، وكبير السن، وكثرة النخل والشجر بينه وبين المسجد (¬1). 7 - بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهماعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من سمع النداء فلم يأته فلا صلاةَ له إلا من عُذرٍ)) (¬2). وهذا يدل على أن صلاة الجماعة فرض عين، وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله- يقول: ((معنى لا صلاة له: أي لا صلاة كاملة بل ناقصة، والجمهور على الإجزاء ... )) (¬3). 8 - تركُ صلاة الجماعة من علامات المنافقين ومن أسباب الضلال؛ لقول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ((لقد رأيتُنا وما يتخلَّف عن الصلاة إلا منافق قد عُلِم نفاقه، أو مريض، إن كان المريض ليمشي بين الرجلين حتى يأتي الصلاة، وقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمنا سنن الهُدى، وإن من سنن الهُدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه)). وفي رواية: أن عبد الله قال: ((من سرَّه أن يلقى الله تعالى غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات، ¬

(¬1) انظر: كتاب الصلاة لابن القيم ص76، وصحيح الترغيب والترهيب، للألباني ص173. (¬2) ابن ماجه، كتاب المساجد والجماعات، باب التغليظ في التخلف عن الجماعة، برقم 793، والدارقطني في سننه، 1/ 420، برقم 4، وابن حبان ((الإحسان))، 5/ 415 برقم 2064، والحاكم وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، 1/ 245، وأخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب التشديد في ترك الجماعة، برقم 551، وصححه ابن القيم في كتاب الصلاة، ص76، والألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 1/ 132، وصحيح سنن أبي داود، 1/ 110، وفي إرواء الغليل، 2/ 327، وسمعت الإمام ابن باز أثناء تقريره على الحديث رقم 427 من بلوغ المرام يقول: ((لا بأس به على شرط مسلم))، وهذا كما قال الحافظ ابن حجر في البلوغ: ((وإسناده على شرط مسلم)). (¬3) سمعته من سماحته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 427.

حيثُ يُنادَى بهِنَّ؛ فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى (¬1)، وإنهنَّ من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم (¬2)، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجدٍ من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتُنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يُهادى بين الرجلين (¬3) حتى يقام في الصف)) (¬4). وهذا يدل على أن التخلف عن الجماعة من علامات المنافقين المعلوم نفاقهم، وعلامات النفاق لا تكون بترك مستحب، ولا بفعل مكروه، ومعلوم أن من استقرأ علامات النفاق في السنة وجدها إما بترك فريضة، أو فعل محرم (¬5)،وفي هذا كله تأكيد أمر الجماعة، وتحمل المشقة في حضورها، وأنه إذا أمكن المريض ونحوه التوصل إليها استحب له حضورها (¬6). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن للمنافقين علامات يُعرَفون بها: تحيتهم لعنةٌ، وطعامهم نُهبة، وغنيمتهم غلول، ولا يقربون المساجد إلا هَجْراً (¬7)، ولا يأتون الصلاة إلا دَبْراً (¬8) مستكبرين، لا يألفون ولا ¬

(¬1) سنن الهدى، روي بضم السين وفتحها، وهما بمعنى متقارب، أي طرائق الهدى والصواب. شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 162. (¬2) وفي رواية أبي داود برقم 550 ((ولو تركتم سنة نبيكم لكفرتم)). قال الألباني في صحيح سنن أبي داود: ((لضللتم))، وهو المحفوظ، 1/ 110. (¬3) يهادَى: أي يمسكه رجلان من جانبيه بعضديه يعتمد عليهما، شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 162. (¬4) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب صلاة الجماعة من سنن الهدى، برقم 654. (¬5) انظر: كتاب الصلاة، لابن القيم، ص77. (¬6) شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 162. (¬7) لا يقربون المساجد إلا هجراً: يعني لا يقربون المساجد بل يهجرونها، انظر: شرح المسند، لأحمد شاكر، 15/ 51. (¬8) دَبْراً: أي آخراً، حين كاد الإمام أن يفرغ. شرح المسند، لأحمد شاكر، 15/ 61.

9 - تارك صلاة الجماعة متوعد بالختم على قلبه

يُؤلفون، خُشُبٌ (¬1) بالليل، صُخُبٌ بالنهار)) (¬2).وفي لفظ: ((سُخُبٌ بالنهار)) (¬3). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((كنا إذا فقدنا الرجل في صلاة العشاء وصلاة الفجر أسأنا به الظن)) (¬4). وفي رواية عنه - رضي الله عنه -: ((كنا إذا فقدنا الرجل في صلاة الغداة أسأنا به الظن)) (¬5). 9 - تارك صلاة الجماعة متوعد بالختم على قلبه؛ لحديث ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهم - أنهما سمعا النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول على أعواده (¬6): ((لينتهينَّ أقوامٌ عن ودعهم (¬7) الجماعات أو ليختمنَّ الله على قلوبهم، ثم ليكوننَّ من الغافلين)) (¬8). وهذا التهديد لا يكون إلا على ترك واجب عظيم. 10 - استحواذ الشيطان على قوم لا تقام فيهم الجماعة؛ لحديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من ثلاثة في قرية، ولا بدوٍ لا تقام فيهم الصلاة (¬9) إلا قد استحوذ عليهم ¬

(¬1) خشب بالليل: أي ينامون الليل لا يصلون، شبههم في تمددهم نياماً بالخشب المطرحة، شرح المسند لأحمد شاكر، 15/ 51. (¬2) صخب: سخب وصخب: الضجة واضطراب الأصوات للخصام على الدنيا شحّاً وحرصاً. انظر: شرح المسند، لأحمد شاكر، 15/ 51. (¬3) أحمد في المسند، 2/ 293، وحسن إسناده العلامة أحمد محمد شاكر، في شرحه للمسند، 15/ 50 - 51، برقم 7913. (¬4) ابن أبي شيبة في المصنف، كتاب الصلوات، في التخلف في العشاء والفجر، وفضل حضورهما، 1/ 332، ورواه الطبراني في المعجم الكبير، 12/ 271، برقم 13085، والبزار [مختصر زوائد مسند البزار على الكتب الستة ومسند أحمد لابن حجر، 1/ 228، برقم 301]، قال الهيثمي في مجمع الزوائد، 1/ 40: ((رواه الطبراني في الكبير والبزار، ورجال الطبراني موثوقون)). (¬5) البزار [مختصر زوائد مسند البزار، لابن حجر، 1/ 228، برقم 302]، وقال ابن حجر: ((وهذا إسناد صحيح))، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 1/ 40: ((رواه البزار ورجاله ثقات)). (¬6) على أعواده: أي على المنبر الذي اتخذه من الأعواد. شرح السندي على سنن ابن ماجه، 1/ 436. (¬7) عن ودعهم الجماعات: أي تركهم. شرح السندي على سنن ابن ماجه، 1/ 436. (¬8) ابن ماجه، كتاب المساجد والجماعات، باب التغليظ في التخلف عن الجماعة، برقم 794، وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 1/ 132، والحديث أخرجه مسلم، برقم 865، لكنه بلفظ: ((الجُمُعات)). (¬9) لا تقام فيهم الصلاة: أي جماعة. عون المعبود شرح سنن أبي داود، للعظيم آبادي، 2/ 251.

11 - تحريم الخروج من المسجد بعد الأذان حتى يصلي صلاة الجماعة

الشيطان (¬1)، فعليك بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)) (¬2). قال زائدة: قال السائب: يعني بالجماعة: الصلاة في الجماعة (¬3)، فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - باستحواذ الشيطان عليهم بترك الجماعة التي شعارها الأذان، وإقامة الصلاة، ولو كانت الجماعة ندباً يخير الرجل بين فعلها وتركها لما استحوذ الشيطان على تاركها وتارك شعارها (¬4). 11 - تحريم الخروج من المسجد بعد الأذان حتى يصلي صلاة الجماعة؛ لحديث أبي الشعثاء قال: كنا قعوداً في المسجد مع أبي هريرة - رضي الله عنه - فَأَذَّن المؤذن، فقام رجل من المسجد يمشي فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد، فقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: ((أما هذا فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -)) (¬5). فقد جعله أبو هريرة - رضي الله عنه - عاصياً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخروجه بعد الأذان؛ لتركه الصلاة جماعة (¬6). قال الإمام النووي - رحمه الله تعالى-: ((فيه كراهة الخروج من المسجد بعد الأذان حتى يصلي المكتوبة إلا لعذر والله أعلم)) (¬7). وقد جاء النهي صريحاً، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كنتم في المسجد فنودي بالصلاة فلا يخرج أحدكم حتى يصلي)) (¬8). وعنه - رضي الله عنه - قال: ¬

(¬1) استحوذ عليهم الشيطان: أي غلبهم وحولهم إليه، عون المعبود شرح سنن أبي داود، 2/ 251. (¬2) فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، أي إن الشيطان يتسلط على الخارج عن الجماعة. انظر: عون المعبود، 2/ 251. (¬3) أبو داود، كتاب الصلاة، باب التشديد في ترك الجماعة، برقم 547، والنسائي، كتاب الإمامة، باب التشديد في ترك الجماعة، برقم 847، وأحمد، 6/ 446، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 1/ 246 وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 109، وفي صحيح سنن النسائي، 11/ 182. (¬4) انظر: كتاب الصلاة، لابن القيم، ص80. (¬5) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن الخروج من المسجد إذا أذن المؤذن، برقم 655. (¬6) انظر: كتاب الصلاة لابن القيم، ص81. (¬7) شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 163. (¬8) أخرجه أحمد في المسند، 2/ 537، قال الهيثمي في مجمع الزوائد، 2/ 5: ((رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح)).

12 - تفقد النبي - صلى الله عليه وسلم - للجماعة في المسجد يدل على وجوب صلاة الجماعة

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يسمع النداء في مسجدي هذا ثم يخرج منه إلا لحاجة، ثم لا يرجع إليه إلا منافق)) (¬1). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله- يذكر أنه لا يجوز الخروج من المسجد الذي أذن فيه، إلا لعذر: كأن يريد الوضوء أو يصلي في مسجد آخر. قلت: قال الترمذي - رحمه الله-: ((وعلى هذا العمل عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن بعدهم، أن لا يخرج أحد من المسجد بعد الأذان إلا من عذر، أو يكون على غير وضوء، أو أمرٌ لا بد منه)) (¬2). وذكر المباركفوري - رحمه الله-: أن الحديث يدل على أنه لا يجوز الخروج من المسجد، بعدما أذن فيه، إلا للضرورة، كمن كان جنباً، أو عليه حدث أصغر، أو الذي حصل له رعاف، أو الحاقن، ونحوهم، وكذا من يكون إماماً لمسجد آخر، ومن في معناه (¬3). 12 - تفقد النبي - صلى الله عليه وسلم - للجماعة في المسجد يدل على وجوب صلاة الجماعة؛ لحديث أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً الصبح، فقال: ((أشاهد فلان؟)) قالوا: لا، قال: ((أشاهد فلان؟)) قالوا: لا، قال: ((إن هاتين الصلاتين (¬4) أثقل الصلوات على المنافقين، ولو تعلمون ما فيهما، لأتيتموها ولو حبواً على الركب، وإن الصف الأول على مثل صف الملائكة، ولو علمتم ما فضيلته لابتدرتموه، وإن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في الأوسط [مجمع البحرين، 2/ 22، برقم 643]، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 2/ 5: ((رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح)). (¬2) سنن الترمذي، كتاب الصلاة، باب النهي عن الخروج من المسجد إذا أذن المؤذن، بعد الحديث رقم 204. (¬3) انظر: تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، للمباركفوري، 2/ 607. (¬4) إن هاتين الصلاتين: أي صلاة العشاء والفجر، كما تقدم.

13 - إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على وجوب صلاة الجماعة

مع الرجل وما كثر فهو أحب إلى الله تعالى)) (¬1). 13 - إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على وجوب صلاة الجماعة؛ فقد ذكر الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى- إجماع الصحابة على وجوب صلاة الجماعة، وذكر نصوصهم في ذلك، ثم قال: ((فهذه نصوص الصحابة كما تراها: صحةً، وشهرةً، وانتشاراً، ولم يجئ عن صحابي واحد خلاف ذلك، وكل من هذه الآثار دليل مستقل في المسألة، لو كان وحده، فكيف إذا تعاضدت وتظافرت، وبالله التوفيق)) (¬2). وقال الترمذي - رحمه الله-: ((وقد روي عن غير واحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم قالوا: من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له)) (¬3). وقال بعض أهل العلم: هذا على التغليظ والتشديد ولا رخصة لأحد في ترك الجماعة إلا من عذر)) (¬4). وقال مجاهد: ((وسئل ابن عباس عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل، ولا يشهد جمعة ولا جماعة؟ قال: هو في النار)) (¬5). قال الترمذي - رحمه الله-: ((ومعنى الحديث: أن لا يشهد الجماعة والجمعة رغبة عنها، واستخفافاً بحقها، وتهاوناً بها)) (¬6). ¬

(¬1) سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة، برقم554، واللفظ له، والنسائي، كتاب الإمامة، باب الجماعة إذا كانوا اثنين، برقم 843، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود 1،/110، وفي صحيح سنن النسائي، 1/ 183. (¬2) كتاب الصلاة، ص81 - 82. (¬3) سنن الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء فيمن يسمع النداء فلا يجيب، بعد الحديث رقم 217. (¬4) سنن الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء فيمن يسمع النداء فلا يجيب، بعد الحديث رقم 217. (¬5) سنن الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء فيمن يسمع النداء فلا يجيب، برقم 218، قال العلامة أحمد محمد شاكر في حاشيته على سنن الترمذي، 1/ 424: ((وهذا إسناد صحيح، وهذا الحديث وإن كان موقوفاً ظاهراً على ابن عباس إلا أنه مرفوع حكماً؛ لأن مثل هذا مما لا يعلم بالرأي ... )). (¬6) سنن الترمذي، في الباب السابق، 1/ 424.

ثالثا: فوائد صلاة الجماعة:

ثالثاً: فوائد صلاة الجماعة: صلاة الجماعة فيها فوائد كثيرة، ومصالح عظيمة، ومنافع متعددة شرعت من أجلها، وهذا يدل على أن الحكمة تقتضي أن صلاة الجماعة فرض عين، ومن هذه الفوائد والحكم التي شرعت من أجلها ما يأتي: 1 - شرع الله - عز وجل - لهذه الأمة الاجتماع في أوقات معلومة، منها ما هو في اليوم والليلة كالصلوات الخمس، ومنها ما هو في الأسبوع وهو صلاة الجمعة، ومنها ما هو في السنة متكرراً وهو صلاة العيدين لجماعة كل بلد، ومنها ما هو عامٌّ في السنة وهو الوقوف بعرفة؛ لأجل التواصل وهو الإحسان، والعطف، والرعاية؛ ولأجل نظافة القلوب، والدعوة إلى الله - عز وجل - بالقول والعمل. 2 - التعبد لله تعالى بهذا الاجتماع؛ طلباً للثواب، وخوفاً من عقاب الله، ورغبة فيما عنده. 3 - التوادد، وهو التحابّ؛ لأجل معرفة أحوال بعضهم لبعض، فيقومون بعيادة المرضى، وتشييع الموتى، وإغاثة الملهوفين، وإعانة المحتاجين؛ ولأن ملاقاة الناس بعضهم لبعض توجب المحبة، والألفة. 4 - التعارف؛ لأن الناس إذا صلى بعضهم مع بعض حصل التعارف، وقد يحصل من التعارف معرفة بعض الأقرباء، فتحصل صلته بقدر قرابته، وقد يعرف الغريب عن بلده فيقوم الناس بحقه. 5 - إظهار شعيرة من أعظم شعائر الإسلام؛ لأن الناس لو صلُّوا كلهم في بيوتهم ما عرف أن هنالك صلاة. 6 - إظهار عز المسلمين، وذلك إذا دخلوا المساجد ثم خرجوا جميعاً، وهذا فيه إغاظة لأهل النفاق والكافرين، وفيه البعد عن التشبه بهم والبعد عن سبيلهم.

7 - تعليم الجاهل

7 - تعليم الجاهل؛ لأن كثيراً من الناس يستفيد مما شرع في الصلاة بواسطة صلاة الجماعة، ويسمع القراءة في الجهرية فيستفيد ويتعلم، ويسمع أذكار أدبار الصلوات فيحفظها، ويقتدي بالإمام ومن بجانبه وأمامه فيتعلم أحكام صلاته، ويتعلم الجاهل من العالم. 8 - تشجيع المتخلف عن الجماعة، والقيام بإرشاده وتوجيهه، والتواصي بالحق والصبر عليه. 9 - تعويد الأمة الإسلامية على الاجتماع وعدم التفرق؛ فإن الأمة مجتمعة على طاعة ولي الأمر، وهذه الصلاة في الجماعة ولاية صغرى؛ لأنهم يقتدون بإمام واحد يتابعونه تماماً، فهي تشكل النظرة العامة للإسلام. 10 - تعويد الإنسان ضبط النفس؛ لأنه إذا اعتاد على متابعة الإمام متابعة دقيقة، لا يكبّر قبله، ولا يتقدم ولا يتأخر كثيراً، ولا يوافقه؛ بل يتابعه تعوّد على ضبط النفس. 11 - استشعار المسلم وقوفه في صف الجهاد كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} (¬1). فهؤلاء الذين صاروا صفّاً في الجهاد لا شك أنهم إذا تعوَّدوا ذلك في الصلوات الخمس سوف يكون ذلك وسيلة إلى ائتمامهم بقائدهم في صف الجهاد، فلا يتقدمون ولا يتأخرون عن أوامره. 12 - شعور المسلمين بالمساواة، وتحطيم الفوارق الاجتماعية؛ لأنهم يجتمعون في المسجد: أغنى الناس بجنب أفقر الناس، والأمير إلى جنب المأمور، والحاكم إلى جنب المحكوم، والصغير إلى جنب الكبير، وهكذا، فيشعر الناس بأنهم سواء، فتحصل بذلك الألفة؛ ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمساواة الصفوف حتى قال: ((ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم)) (¬2). ¬

(¬1) سورة الصف، الآية: 4. (¬2) مسلم، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها، برقم 432.

13 - تفقد أحوال الفقراء، والمرضى، والمتهاونين بالصلاة

13 - تفقد أحوال الفقراء، والمرضى، والمتهاونين بالصلاة؛ فإن الناس إذا رأوا الإنسان يلبس ثياباً بالية وتبدو عليه علامات الجوع رحموه، وأحسنوا إليه، وإذا تخلف بعضهم عن الجماعة عرفوا أنه كان مريضاً، أو عاصياً فينصحوه، فيحصل التعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 14 - استشعار آخر هذه الأمة بما كان عليه أولها؛ لأن الصحابة كانوا يقتدون بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيستشعر الإمام أنه في مقام الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويستشعر المأموم أنه في مقام الصحابة - رضي الله عنهم -، وهذا يعطي الأمة الحرص على الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. 15 - اجتماع المسلمين في المسجد راغبين فيما عند الله من أسباب نزول البركات. 16 - يزيد نشاط المسلم فيزيد عمله عندما يشاهد أهل النشاط في العبادة، وهذا فيه فائدة عظيمة. 17 - تضاعف الحسنات ويعظم الثواب. 18 - الدعوة إلى الله - عز وجل - بالقول والعمل، إلى غير ذلك من الفوائد الكثيرة (¬1). 19 - اجتماع المسلمين في أوقات معينة يربيهم على المحافظة على الأوقات. رابعاً: فضل صلاة الجماعة: الصلاة مع الجماعة لها فضائل كثيرة، منها ما يأتي: 1 - صلاة الجماعة بسبع وعشرين صلاة فرادى، فالمصلي مع جماعة يحصل له من صلاة الجماعة مثل أجر صلاة المنفرد سبع وعشرين ¬

(¬1) انظر: حاشية الروض المربع، لعبد الرحمن بن قاسم، 2/ 255، والإحكام شرح أصول الأحكام له، 1/ 340، ومجموع فتاوى ابن باز، 12/ 19 - 20، والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 192 - 195، وصلاة الجماعة للأستاذ الدكتور صالح غانم السدلان، ص23.

أحدها: أنه لا منافاة بينها فذكر القليل لا ينفي الكثير

مرة (¬1)؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)). ولفظ مسلم: ((صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)). وفي لفظ له: ((صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته وحده سبعاً وعشرين)) (¬2). وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((الجماعة تفضل صلاة الفذّ بخمس وعشرين درجة)) (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((تفضل صلاة في الجميع على صلاة الرجل وحده خمساً وعشرين درجة)). قال: ((وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر)). قال أبو هريرة: ((واقرؤوا إن شئتم {وَقُرْآنَ الفجر إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُودً ا}. وفي لفظ: ((بخمس وعشرين جزءًا)) (¬4). والجزء والدرجة بمعنى واحد (¬5). وقد جُمع بين هذه الروايات: بأن حديث الخمس والعشرين ذكر فيه الفضل الذي بين صلاة المنفرد والصلاة في الجماعة، والفضل خمس وعشرون، وحديث السبع والعشرين ذكر فيه صلاته منفرداً وصلاته في الجماعة، والفضل بينهما، فصار المجموع سبعاً وعشرين (¬6). وقال الإمام النووي - رحمه الله-: ((والجمع بينها من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه لا منافاة بينها فذكر القليل لا ينفي الكثير، ومفهوم العدد باطل عند الأصوليين. ¬

(¬1) انظر: نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 347، وسبل السلام للصنعاني، 3/ 67. (¬2) متفق عليه: البخاري كتاب الأذان، باب فضل صلاة الجماعة، برقم 645، ومسلم، كتاب المساجد، باب فضل صلاة الجماعة، برقم 650. (¬3) البخاري، كتاب الأذان، باب فضل صلاة الجماعة، برقم 646. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب فضل صلاة الفجر في جماعة، برقم 648، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة، برقم 649. (¬5) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم،5/ 158،وسبل السلام للصنعاني،3/ 66. (¬6) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 23/ 222 - 223.

والثاني: أن يكون أخبر أولا بالقليل

والثاني: أن يكون أخبر أولاً بالقليل، ثم أعلمه الله تعالى بزيادة الفضل فأخبر بها. والثالث: أنه يختلف باختلاف أحوال المصلين والصلاة: فيكون لبعضهم خمس وعشرون، ولبعضهم سبع وعشرون، بحسب كمال الصلاة، ومحافظته على هيئتها، وخشوعها، وكثرة جماعتها، وفضلهم وشرف البقعة، ونحو ذلك فهذه هي الأجوبة المعتمدة)) (¬1). وسمعت سماحة الإمام شيخنا عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله- يقول: ((وأما التفاوت فهذا والله أعلم كان لعدم نزول فضل الزائد إلا بعد الناقص، فأخبر بخمس وعشرين، ثم أخبر بسبع وعشرين)) (¬2). وقد استدل القائلون بأن صلاة الجماعة غير واجبة بهذه الأحاديث، وأن صيغة أفضل تدل على الاشتراك في أصل الفضل (¬3).وسمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله- يقول: ((هذه الأحاديث تدل على فضل الجماعة، وهذا التفضيل لا يلزم منه عدم الوجوب، فصلاة الجماعة واجبة، ومفضلة، فلا منافاة بين التفضيل والوجوب، ومن لم يصلّها مع الجماعة فصلاته صحيحة على الراجح، مع الإثم)) (¬4). والمنفرد الذي لا يحصل على ثواب صلاة الجماعة هو غير المعذور والله أعلم، أما إذا كان من عادته أنه يصلي الصلاة مع الجماعة فمنعه عذرٌ: كمرضٍ أو سفر، أو حبس وتعذرت عليه الجماعة، والله يعلم أن من نيته ¬

(¬1) شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 156 - 157، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 2/ 133 - 134، ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 346. (¬2) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام لابن حجر، الحديث رقم 421، 422، 423، وقال رحمه الله في تعليقه على جمع الحافظ ابن حجر في فتح الباري، 2/ 134: ((وفي هذا الترجيح نظر، والأظهر عموم الحديث لجميع الصلوات الخمس، وذلك من زيادة فضل الله سبحانه لمن يحضر الصلاة في الجماعة)). والله أعلم. (¬3) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 158. (¬4) سمعته من سماحته أثناء تقريره على الحديث رقم 421، 422،423 من بلوغ المرام.

2 - يعصم الله بالصلاة مع الجماعة من الشيطان

لو قدر على الصلاة مع الجماعة لما تركها، فهذا يكمل له أجره؛ لأن من كان عازماً على الفعل عزماً جازماً، وفعل ما يقدر عليه منه كان بمنزلة الفاعل (¬1)؛ لحديث أبي بردة - رضي الله عنه - عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً)) (¬2). 2 - يعصم الله بالصلاة مع الجماعة من الشيطان؛ لحديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الشيطان ذئب للإنسان كذئب الغنم (¬3)، يأخذ الشاة القاصية، والناحية (¬4)، وإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة (¬5)، والعامة)) (¬6)؛ ولحديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من ثلاثة في قرية ولا بدوٍ لا تقام فيهم الصلاة، إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)) (¬7). 3 - يزيد فضل الصلاة مع الجماعة بزيادة عدد المصلين؛ لحديث أبيّ بن كعب - رضي الله عنه -، وفيه: (( ... إن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله - عز وجل -)) (¬8). وهذا يرغب في الصلاة مع الجماعة الكثيرة مع ¬

(¬1) انظر: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 23/ 236، وكتاب الصلاة، لابن القيم، ص85، والاختيارات العلمية من الاختيارات الفقهية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص102، والإحكام شرح أصول الأحكام، للعلامة عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، 1/ 346، وحاشية الروض المربع له، 2/ 260، والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 206. (¬2) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة، برقم 2996. (¬3) كذئب الغنم: يعني أن الشيطان مفسد للإنسان مهلك له، بإغوائه كإفساد الذئب إذا أرسل في قطيع من الغنم. الفتح الرباني مع بلوغ الأماني، للبنا، 5/ 175. (¬4) الناحية، التي غفل عنها وبقيت في جانب منفرد، الفتح الرباني مع بلوغ الأماني، 5/ 176. (¬5) وعليكم بالجماعة: أي الزموا ما عليه جماعة أهل السنة في كل شيء، ومن ذلك الجماعة في الصلاة، الفتح الرباني مع بلوغ الأماني، 5/ 176. (¬6) أخرجه أحمد في المسند، 5/ 243، وقال عنه البنا في بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني، 5/ 176: ((وسنده جيد)). (¬7) أبو داود، برقم 547،والنسائي، برقم 847،وأحمد، 6/ 446،وتقدم تخريجه في وجوب صلاة الجماعة. (¬8) أبو داود، برقم 554، والنسائي، برقم 843، وتقدم تخريجه في وجوب صلاة الجماعة.

4 - براءة من النار وبراءة من النفاق لمن صلى لله أربعين يوما في جماعة يدرك تكبيرة الإحرام

أمن المفاسد، وعدم فوات المصالح. 4 - براءة من النار وبراءة من النفاق لمن صلَّى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك تكبيرة الإحرام؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كُتِبَ له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق)) (¬1). وهذا فيه فضل الإخلاص في الصلاة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى لله)) أي خالصاً لله تعالى، ((براءة من النار)) أي نجاة وخلاص منها، وكتب له ((براءة من النفاق)) أي يؤمنه في الدنيا أن يعمل عمل المنافق ويوفقه لعمل أهل الإخلاص، وفي الآخرة يؤمنه مما يعذب به المنافق، ويشهد له بأنه غير منافق، يعني بأن المنافقين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى)) وحال هذا بخلافهم (¬2). 5 - من صلى الصبح في جماعة فهو في ضمان الله وأمانه حتى يمسي؛ لحديث جندب بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى الصبح فهو في ذمة الله (¬3)، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء؛ فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه (¬4) على وجهه في نار جهنم)) (¬5). وهذا يؤكد أن من صلى الصبح فهو في أمان الله، وفي جواره، فهو قد استجار بالله تعالى، والله قد أجاره، فلا ينبغي لأحد أن يتعرض له بضر أو أذى، فمن فعل ذلك فالله يطلبه بحقه، ومن يطلبه لم يجد مفرّاً ولا ¬

(¬1) الترمذي، كتاب الصلاة، باب فضل التكبيرة الأولى، برقم 241، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 2652، وبرقم 1979، وفي صحيح سنن الترمذي، 1/ 77، وفي صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 165، برقم 407. (¬2) انظر: تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، للمباركفوري، 2/ 45. (¬3) في ذمة الله: ضمان الله، وقيل: أمان الله، شرح النووي على صحيح مسلم،5/ 164. (¬4) يكبه: يقلبه فيها على وجهه. المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي، 2/ 282. (¬5) مسلم، كتاب المساجد، باب فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة، برقم 657.

6 - من صلى الفجر في جماعة ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس فله أجر حجة وعمرة

ملجأ، وهذا وعيد شديد لمن يتعرض للمصلين، وترغيب في حضور صلاة الصبح (¬1). وقد جاءت بعض الأخبار تقيد ذلك بصلاة الصبح مع الجماعة (¬2). 6 - من صلى الفجر في جماعة ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس فله أجر حجة وعمرة؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى الفجر في جماعة، ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة: تامة، تامة، تامة)) (¬3). 7 - عظم ثواب صلاة العشاء والصبح في جماعة؛ لحديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله)) (¬4). قيل: المراد بذلك من صلى الصبح في جماعة وقد صلى العشاء في جماعة فكأنما صلى الليل كله، ويد على ذلك لفظ أبي داود: ((من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة، ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان كقيام ليلة)) (¬5). واختار هذا المنذري، وأن اجتماعهما كقيام ليلة (¬6). وقيل: المراد بذلك أن من صلى العشاء في جماعة كانت له كقيام نصف ليلة، أما من صلى الصبح في جماعة فتكون له كقيام الليل كله، ¬

(¬1) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 2/ 282. (¬2) انظر: الترغيب والترهيب للمنذري، 1/ 365، برقم 647، وصحيح الترغيب والترهيب للألباني، 1/ 170، برقم 418، ومجمع الزوائد للهيثمي، 2/ 41. (¬3) الترمذي، برقم 586، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 181، وسمعت الإمام ابن باز يحسنه لكثرة طرقه. وتقدم تخريجه في فضل صلاة الضحى. (¬4) مسلم، كتاب المساجد، باب فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة، برقم 656. (¬5) أبو داود، كتاب الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة، برقم 555، والترمذي، كتاب الصلاة، باب فضل العشاء والفجر في جماعة، برقم 221،وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 111. (¬6) انظر: مختصر سنن أبي داود للمنذري،1/ 293،والترغيب والترهيب للمنذري، 1/ 343، وفيض القدير للمناوي،6/ 165،وتحفة الأحوذي للمباركفوري،1/ 13.

8 - اجتماع ملائكة الليل والنهار في صلاة الفجر والعصر

وهذا فضل الله - عز وجل -. وأيَّد ذلك الإمام ابن خزيمة - رحمه الله- فقال: ((باب فضل صلاة العشاء والفجر في الجماعة، والبيان أن صلاة الفجر في الجماعة أفضل من صلاة العشاء في الجماعة، وأن فضلها في الجماعة ضعفي فضل العشاء في الجماعة))، ثم ساق الحديث بنحو لفظ مسلم (¬1)، وفضل الله - عز وجل - واسع. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الصبح والعشاء: (( ... ولو يعلمون ما فيهما لأتوها ولو حبواً)) (¬2). 8 - اجتماع ملائكة الليل والنهار في صلاة الفجر والعصر؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم، كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون)) (¬3). قال الإمام النووي - رحمه الله-: ((ومعنى يتعاقبون: تأتي طائفة بعد طائفة، ومنه تعقب الجيوش، وهو أن يذهب إلى ثغر قوم ويجيء آخرون، وأما اجتماعهم في الفجر والعصر فهو من لطف الله تعالى بعباده المؤمنين، وتكرمته لهم أن جعل اجتماع الملائكة عندهم، ومفارقتهم لهم في أوقات عباداتهم واجتماعهم على طاعة ربهم، فيكون شهادتهم لهم بما شاهدوه من الخير)) (¬4)، والأظهر وهو قول الأكثرين أن هؤلاء الملائكة هم الحفظة الكتّاب، وقيل: يحتمل أن يكونوا من جملة الملائكة بجملة الناس غير الحفظة. والله أعلم (¬5). ¬

(¬1) انظر: صحيح ابن خزيمة، 2/ 365. (¬2) متفق عليه، البخاري، برقم 644، ومسلم، برقم 651، وتقدم تخريجه في وجوب صلاة الجماعة. (¬3) متفق عليه: البخاري: كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر، برقم 555، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما، برقم 632. (¬4) شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 138. (¬5) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 138.

وعن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: كنا جلوساً عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: ((إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامُون (¬1) في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا)) يعني الفجر والعصر، ثم قرأ جرير: {وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِها} (¬2). وقد ثبت الفضل العظيم لمن حافظ على صلاة الفجر والعصر مع الجماعة، فعن أبي بكر بن عمارة بن رؤيبة عن أبيه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لن يلجَ النارَ أحدٌ صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها)) يعني الفجر والعصر (¬3). وعنه - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من صلى البردين دخل الجنة)) (¬4)، وهما: الصبح والعصر (¬5). وقد جاء الوعيد الشديد لمن ترك صلاة العصر، أو فاتته، فعن بريدة - رضي الله عنه - أنه قال لأصحابه في يوم ذي غيم: بكّروا بصلاة العصر؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله)) (¬6). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الذي تفوته ¬

(¬1) لا تضامون: أي لا يلحقكم ضيم وهو المشقة، وفي رواية بتشديد الميم (تضامُّون: أي لا ينضم بعضكم إلى بعض بل كل يراه منفرداً، وجاء ((هل تضارُّن)) أي لا تضارن غيركم في حالة الرؤية، وكل هذا صحيح. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 3/ 18. (¬2) متفق عليه، البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر، برقم 554، ومسلم واللفظ له، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الصبح والعصر والمحافظة عليهما، برقم 633، والآية من سورة طه 130، أما في صحيح البخاري فقرأ: {وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} سورة ق، الآية:39. (¬3) مسلم، كتاب المساجد، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما، برقم634. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة الفجر، برقم 574، ومسلم، كتاب المساجد، باب فضل صلاتي الصبح والعصر، برقم 635. (¬5) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 2/ 262. (¬6) البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب من ترك العصر، برقم 553.

9 - يعجب الله تعالى من الصلاة في الجماعة

صلاة العصر فكأنما وُتِرَ أهلُهُ وماله)) (¬1). ذكر الإمام القرطبي - رحمه الله-:أن قوله: ((وُتِرَ أهلُه ومالُه)) روي بالرفع على أن المعنى: نُزع وأُخذ، وروي بالنصب ((أهلَه ومالَه)) على أن المعنى: سُلب، وقيل في تفسير الحديث: هذا يحصل لمن لم يصلّها في الوقت المختار، وقيل: هو أن يؤخرها إلى أن تصفرَّ الشمس. وقيل: خُصَّت العصر بالذكر؛ لكونها مشهودة للملائكة، وعلى هذا يشاركها في ذلك الصبح. وقيل: خصت صلاة العصر بالذكر؛ لأنها صلاة تأتي في انشغال الناس، وعلى هذا فالصبح أولى بذلك؛ لأنها تأتي وقت النوم. أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله)) فليس ذلك خاصاً بالعصر، بل ذلك حكم غيرها من الصلوات كذلك (¬2). 9 - يعجب الله تعالى من الصلاة في الجماعة؛ لمحبته لها سبحانه، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله ليعجب من الصلاة في الجميع)) (¬3). وهذا العجب يليق بالله تعالى، ولا يشبه فيه أحداً من خلقه؛ لأن عجبه سبحانه ليس كعجب خلقه، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (¬4). 10 - منتظر الصلاة مع الجماعة في صلاة، قبل الصلاة وبعدها مادام في مصلاه؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يزال العبد في صلاة ما كان في مصلاه ينتظر الصلاة، وتقول الملائكة: اللهم اغفر ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب إثم من فاتته العصر، برقم 556، ومسلم، كتاب المساجد، باب فضل صلاتي الصبح والعصر، برقم 535. (¬2) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 2/ 252. (¬3) أحمد في المسند، 2/ 50، وقال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب، 1/ 337: ((رواه أحمد بإسناد حسن، وكذلك رواه الطبراني بإسناد حسن))،وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب،1/ 163، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم1652، وصحيح الجامع الصغير، برقم 1816. (¬4) سورة الشورى، الآية:11.

11 - الملائكة يدعون لمن صلى مع الجماعة قبل الصلاة وبعدها مادام في مصلا

له، اللهم ارحمه، حتى ينصرف أو يُحدِث)). قلت: ما يحدث؟ قال: ((يفسو أو يضرط)). وفي لفظ لمسلم: ((والملائكة يصلون على أحدكم مادام في مجلسه الذي صلَّى فيه يقولون: اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم تب عليه، ما لم يُؤذِ ما لم يُحْدِث)) (¬1). وقوله: ((ما لم يُؤذِ)) أي ما لم يصدر عنه ما يتأذى به بنو آدم والملائكة، والله أعلم (¬2). 11 - الملائكة يدعون لمن صلى مع الجماعة قبل الصلاة وبعدها مادام في مصلاه، ما لم يُحْدِث أو يُؤذِ؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وفيه: ((لا يزال العبد في صلاة ما كان في مصلاه ينتظر الصلاة، وتقول الملائكة: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، حتى ينصرف أو يُحْدِث .. )) وفي مسلم: ((والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه، يقولون: اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم تب عليه، ما لم يُؤذِ، ما لم يُحْدِث)) (¬3). وسمعت سماحة شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله- يقول: ((والملائكة تصلي عليه في مصلاه، قبل الصلاة في المسجد، وبعدها مادام في مصلاه، ما لم يؤذِ بغيبة أو نميمة، أو كلام باطل، وما لم يحدث)) (¬4). 12 - فضل الصف الأول وميامن الصفوف في صلاة الجماعة، وفضل وصلها، ثبت في ذلك فضائل كثيرة منها ما يأتي: الفضل الأول: القرعة على الصف الأول وأنه مثل صف الملائكة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا .. )) (¬5). وفي رواية ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب فضل صلاة الجماعة، برقم 647، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة وانتظار الصلاة، برقم 649. (¬2) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 2/ 290. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم 647، ومسلم، برقم 649، وتقدم تخريجه آنفا. (¬4) سمعته منه أثناء تقرير سماحته على صحيح البخاري، الحديث رقم 4119. (¬5) متفق عليه: البخاري، برقم 615،ومسلم، برقم 437،وتقدم تخريجه في فضل الصلاة.

الفضل الثاني: الصف الأول خير الصفوف

لمسلم: ((لو تعلمون أو يعلمون ما في الصف المقدم، لكانت القرعة)) (¬1). وقد ثبت أن الصف الأول على مثل صف الملائكة؛ لحديث أبيّ بن كعب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: (( ... وإن الصف الأول على مثل صف الملائكة، ولو علمتم ما فيه لابتدرتموه)) الحديث (¬2). قال الشيخ أحمد البنا في شرح قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((على مثل صف الملائكة ... )) ((أي في القرب من الله - عز وجل -، ونزول الرحمة، وإتمامه واعتداله، ويستفاد منه أن الملائكة يصفون لعبادة الله تعالى (¬3)، وقد جاء ذلك صريحاً عن جابر - رضي الله عنه - قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ ((فقلنا يا رسول الله، وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: ((يتمون الصفوف الأوَلَ ويتراصون في الصف)) (¬4). الفضل الثاني: الصف الأول خير الصفوف؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها)) (¬5). قال الإمام النووي -رحمه الله-: ((أما صفوف الرجال فهي على عمومها، فخيرها أولها أبداً، وشرها آخرها أبداً، أما صفوف النساء فالمراد بالحديث صفوف النساء اللواتي يصلين مع الرجال، وأما إذا صلين متميزات لا مع الرجال فهن كالرجال، خير صفوفهن أولها، وشرها آخرها، والمراد بشر الصفوف في الرجال والنساء أقلها ثواباً ¬

(¬1) مسلم، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الصف الأول، برقم 439. (¬2) سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة، برقم 554، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 111. (¬3) بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني، 5/ 171. (¬4) مسلم، كتاب الصلاة، باب الأمر بالسكون في الصلاة والنهي عن الإشارة باليد ورفعها عند السلام، وإتمام الصفوف الأوَل والتراص فيها، والأمر بالاجتماع، برقم 430. (¬5) مسلم، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها، برقم 440.

الفضل الثالث: الله تعالى وملائكته يصلون على الصفوف الأولى

وفضلاً، وأبعدها من مطلوب الشرع، وخير بعكسه، وإنما فضل آخر صفوف النساء الحاضرات مع الرجال، لبعدهن من مخالطة الرجال، ورؤيتهم وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاتهم، وسماع كلامهم، ونحو ذلك، وذم أول صفوفهن لعكس ذلك، والله أعلم)) (¬1). الفضل الثالث: الله تعالى وملائكته يصلون على الصفوف الأُولى، والصف المقدم أكثرها صلاة؛ لحديث أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول)) قالوا: يا رسول الله، وعلى الثاني؟ قال: ((إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول))، قالوا: يا رسول الله وعلى الثاني؟ قال: ((وعلى الثاني)) (¬2). وصلاة الله تعالى: ثناؤه عليهم عند الملائكة، وصلاة الملائكة والنبي - صلى الله عليه وسلم -، وسائر الناس: الدعاء والاستغفار (¬3). وعن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله - عز وجل - وملائكته يصلون على الصف الأول، أو الصفوف الأولى)) (¬4). وعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول: ((إن الله وملائكته يصلون على الصفوف المتقدمة)) (¬5). الفضل الرابع: النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على الصف الأول ثلاثاً، وعلى الثاني مرة واحدة، لحديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كان ¬

(¬1) شرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 403. (¬2) أحمد في المسند، 5/ 262، قال المنذري في الترغيب والترهيب، 1/ 384: ((رواه أحمد بإسناد لا بأس به، والطبراني وغيره))، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 2/ 91: ((رواه أحمد، والطبراني في الكبير، ورجال أحمد موثقون))، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 197. (¬3) انظر: صحيح البخاري، قبل الحديث رقم 4797،وتقدم تخريجه في مفهوم الصلاة. (¬4) أحمد، 4/ 269، وقال المنذري في الترغيب والترهيب، 1/ 385: ((رواه أحمد بإسناد جيد))، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 197. (¬5) النسائي، كتاب الإمامة، باب كيف يقوّم الإمام الصفوف، برقم 811، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلوات، باب فضل الصف المقدم، برقم 997، لكن بلفظ: ((إن الله وملائكته يصلون على الصف الأُوَل))، وأبو داود، برقم 664، ولفظه: ((إن الله - عز وجل - وملائكته يصلون على الصفوف الأُوَل))، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 175.

الفضل الخامس: صلاة الله تعالى وملائكته على ميامين الصفوف

يصلي على الصف الأول ثلاثاً، وعلى الثاني واحدة)). ولفظ ابن ماجه: ((كان يستغفر للصف المقدم ثلاثاً، والثاني مرة)) (¬1). الفضل الخامس: صلاة الله تعالى وملائكته على ميامين الصفوف؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله وملائكته يصلون على ميامين الصفوف)) (¬2)، وعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحببنا أن نكون عن يمينه يقبل علينا بوجهه، قال: فسمعته يقول: ((رب قني عذابك يوم تبعث أو تجمع عبادك)) (¬3). الفضل السادس: من وصل صفّاً وصله الله وعليه صلاة الله تعالى وملائكته؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله وملائكته يصلون على الذين يَصِلُون الصفوف، ومن سد فرجة رفعه الله بها درجة)) (¬4). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من وصل صفّاً وصله الله، ومن قطع صفّاً قطعه الله - عز وجل -)) (¬5). ¬

(¬1) النسائي، كتاب الإمامة، باب فضل الصف الأول على الثاني، برقم 817، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلوات، باب فضل الصف المقدم، برقم 996، وابن خزيمة، 3/ 27، مثل لفظ ابن ماجه، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، وهو بلفظ ابن ماجه، 1/ 214، وابن حبان في صحيحه ((الإحسان))، 5/ 531، برقم 2158، مثل لفظ النسائي، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 177، وفي صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 196. (¬2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب من يستحب أن يلي الإمام في الصف، برقم 676، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب فضل ميمنة الصف، برقم 1005، وقال المنذري في الترغيب والترهيب، 1/ 388: ((رواه أبو داود وابن ماجه بإسناد حسن))، وقال الألباني في صحيح أبي داود 1/ 132: حسن بلفظ ((الذين يصلون الصفوف))، قلت: وحسن إسناده الحافظ ابن حجر في فتح الباري، 2/ 213. (¬3) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب يمين الإمام، برقم 709،وتقدم تخريجه في صفة الصلاة. (¬4) ابن ماجه، واللفظ له، كتاب إمامة الصلاة والسنة فيها، باب إقامة الصفوف، برقم 995، وأحمد، 6/ 67، وابن خزيمة، 3/ 23، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 1/ 214، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 200. (¬5) النسائي، كتاب الإمامة، باب من وصل صفاً، برقم 819 بلفظه، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، برقم 666،وابن خزيمة،3/ 23،والحاكم وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي،1/ 213، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 200، وفي صحيح النسائي، 1/ 177.

13 - مغفرة الله ومحبته لمن وافق تأمينه تأمين الملائكة

13 - مغفرة الله ومحبته لمن وافق تأمينه تأمين الملائكة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا أمَّن الإمام فأمّنوا؛ فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)) (¬1)؛ ولحديثه الآخر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقولوا: آمين؛ فإنه من وافق قوله قول الملائكة غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه)) (¬2)؛ ولحديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - وفيه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبنا فبين لنا سنتنا، وعلمنا صلاتنا، فقال: ((إذا صليتم فأقيموا صفوفكم، ثم ليؤمكم أحدكم، فإذا كبَّر فكبّروا، وإذا قال: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقولوا: آمين يحبّكم الله)) الحديث (¬3). الله أكبر ما أعظم هذا الثواب: مغفرة ما تقدم من الذنوب، ومحبة الله تعالى، لمن وافق تأمينه تأمين الملائكة! خامساً: فضل المشي إلى صلاة الجماعة: المشي لأداء الصلاة جماعة من أعظم الطاعات، وقد ثبت في ذلك فضائل عظيمة كثيرة، منها: 1 - شديد الحب لصلاة الجماعة بالمسجد في ظل الله يوم القيامة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((سبعة يظلهم الله تعالى في ظلّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)). وفي لفظ لمسلم: ((ورجل معلق بالمسجد ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 780،ومسلم، برقم 410،وتقدم تخريجه في صفة الصلاة. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 782، ومسلم، برقم 410، وتقدم تخريجه في صفة الصلاة. (¬3) مسلم، كتاب الصلاة، باب التشهد في الصلاة، برقم 404.

2 - المشي إلى صلاة الجماعة ترفع به الدرجات، وتحط الخطايا

إذا خرج منه حتى يعود إليه)) (¬1). قال الإمام النووي - رحمه الله- في شرح قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ورجل قلبه معلق في المساجد))، ومعناه شديد الحب لها، والملازمة للجماعة فيها، وليس معناه دوام القعود في المسجد)) (¬2). وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله-: ((معلق في المساجد)) هكذا في الصحيحين، وظاهره أنه من التعليق، كأنه شبهه بالشيء المعلق في المسجد، كالقنديل مثلاً، إشارة إلى طول الملازمة بقلبه وإن كان جسده خارجاً عنه، ويدل عليه رواية الجوزقي: ((كأنما قلبه معلق في المسجد))، ويحتمل أن يكون من العلاقة: وهي شدة الحب. ويدل عليه رواية أحمد: ((معلق بالمساجد)) (¬3). 2 - المشي إلى صلاة الجماعة ترفع به الدرجات، وتحط الخطايا، وتكتب الحسنات؛ لحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: ((وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة ... )) (¬4)؛ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه وفيه: (( ... وذلك أن أحدكم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخطو خطوة إلا رُفِعَ له بها درجة، وحُط عنه بها خطيئة ... )) (¬5). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله؛ ليقضي فريضة من فرائض الله كانت ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، وفضل المساجد، برقم 660، وكتاب الزكاة، باب الصدقة باليمين، برقم 1423، ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة، برقم 1031. (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم، 7/ 126. (¬3) فتح الباري لابن حجر، 2/ 145. (¬4) مسلم، برقم 654، وتقدم تخريجه في أدلة وجوب الصلاة مع الجماعة. (¬5) متفق عليه: البخاري، برقم 647، ومسلم، برقم 649، وتقدم تخريجه في فضل صلاة الجماعة.

3 - يكتب له المشي إلى بيته كما كتب له المشي إلى الصلاة

خطواته: إحداهما تحط خطيئة، والأخرى ترفع درجة)) (¬1). قال الإمام القرطبي - رحمه الله-: ((قال الداودي: إن كانت له ذنوب حطت عنه، وإلا رفعت له بها درجات، قلت: وهذا يقتضي أن الحاصل بالخطوة درجة واحدة، إما الحطُّ وإما الرفعُ، وقال غيره: بل الحاصل بالخطوة الواحدة: ثلاثة أشياء؛ لقوله في الحديث الآخر: ((كتب الله له بكل خطوة حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة)) والله أعلم انتهى (¬2). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز -ر حمه الله- يقول: ((كل خطوة واحدة: يرفع بها درجة، وتحط عنه بها خطيئة، وتكتب له حسنة، وهذه الزيادة الأخيرة ((الحسنة)) في مسلم عن ابن مسعود، وإذا صحت رواية إحداهما يرفع بها درجة، والأخرى يحط عنه بها خطيئة، فتكون هذه الرواية أولاً ثم تفضل الله بالزيادة، فجعل بكل خطوة واحدة ثلاث فضائل: رفع درجة، وحط خطيئة، وكتب حسنة)) (¬3). 3 - يكتب له المشي إلى بيته كما كتب له المشي إلى الصلاة، إذا احتسب ذلك؛ لحديث أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: كان رجل لا أعلم رجلاً أبعد من المسجد منه، لا تخطئه صلاة، قال: فقيل له أو قلت له: لو اشتريت حماراً تركبه في الظلماء، وفي الرمضاء؟ قال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قد جمع الله لك ذلك كله)).وفي لفظ: ((إن لك ما احتسبت)) (¬4). قال الإمام النووي - رحمه الله-: ((فيه إثبات الثواب في الخُطا في ¬

(¬1) مسلم، برقم 666، وتقدم تخريجه في فضل الصلاة. (¬2) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 2/ 290. (¬3) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري على الحديث رقم 2119. (¬4) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد، برقم 663.

4 - المشي إلى صلاة الجماعة تمحى به الخطايا

الرجوع كما يثبت في الذهاب)) (¬1). وعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم إليها ممشى، فأبعدهم، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجراً من الذي يصليها ثم ينام)) (¬2). وعن جابر - رضي الله عنه - قال: خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لهم: ((إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد)) قالوا: نعم، يا رسول الله، قد أردنا، فقال: ((يا بني سلمة، دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم)) (¬3). 4 - المشي إلى صلاة الجماعة تمحى به الخطايا؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)) (¬4). محو الخطايا: كناية عن غفرانها، ويحتمل محوها من كتاب الحفظة، ويكون دليلاً على غفرانها، ورفع الدرجات: أعلى المنازل في الجنة، وإسباغ الوضوء: تمامه، والمكاره: تكون بشدة البرد، وألم الجسم، ونحو ذلك، وكثرة الخطا: تكون ببعد الدار وكثرة التكرار (¬5). 5 - المشي إلى صلاة الجماعة بعد إسباغ الوضوء تغفر به الذنوب؛ ¬

(¬1) شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 174. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب فضل صلاة الفجر في جماعة، برقم 651، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد، برقم 662. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب احتساب الآثار، برقم 656، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد، برقم 665. (¬4) مسلم، برقم 251، وتقدم تخريجه في فضل الصلاة. (¬5) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 3/ 143.

6 - إعداد الله تعالى الضيافة في الجنة لمن غدا إلى المسجد أو راح كلما غدا أو راح

لحديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من توضأ للصلاة فأسبغ الوضوء ثم مشى إلى الصلاة المكتوبة فصلاها مع الناس، أو مع الجماعة، أو في المسجد غفر الله له ذنوبه)) (¬1). 6 - إعداد الله تعالى الضيافة في الجنة لمن غدا إلى المسجد أو راح كلما غدا أو راح؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح)) (¬2). وأصل ((غدا)) خرج بِغَدْوٍ، أي: أتى مبكراً، وراح: رجع بعشيٍّ، ثم قد يستعملان في الخروج والرجوع مطلقاً توسعاً، و ((أعد)) هيأ، و ((النزل)) ما يهيأ للضيف من الكرامة عند قدومه، ويكون ذلك بكل غدوة أو روحة (¬3)، وهذا فضل الله تعالى يؤتيه من قام بهذا الغدو والرواح، تعد له في الجنة ضيافة بذهابه، وضيافة برجوعه. 7 - من ذهب إلى صلاة الجماعة فسُبق بها وهو من أهلها فله مثل أجر من حضرها؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من توضأ فأحسن الوضوء، ثم راح فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله - عز وجل - مثل أجر من صلاها وحضرها لا ينقص ذلك من أجرهم شيئاً)) (¬4). 8 - من تطهر وخرج إلى صلاة الجماعة فهو في صلاة حتى يرجع إلى بيته؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا توضأ أحدكم في بيته ثم أتى المسجد كان في صلاة حتى يرجع، فلا يقل: هكذا)) ¬

(¬1) مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء والصلاة، برقم 232. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب فضل من غدا إلى المسجد أو راح، برقم 662، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا وترفع به الدرجات، برقم669. (¬3) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 2/ 294، وشرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 176. (¬4) أبو داود، كتاب الصلاة، باب فيمن خرج يريد الصلاة فسبق بها، برقم 564، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 113.

9 - أجر من خرج إلى صلاة الجماعة متطهرا كأجر الحاج المحرم

وشبك بين أصابعه (¬1). 9 - أجر من خرج إلى صلاة الجماعة متطهراً كأجر الحاج المحرم؛ لحديث أبي أمامة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم)) (¬2). 10 - الخارج إلى صلاة الجماعة ضامن على الله تعالى؛ لحديث أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثلاثة كلهم ضامن على الله - عز وجل -: رجل خرج غازياً في سبيل الله - عز وجل - فهو ضامن على الله حتى يتوفاه فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أجر وغنيمة، ورجل راح إلى المسجد فهو ضامن على الله حتى يتوفاه فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أجر وغنيمة، ورجل دخل بيته بسلام فهو ضامن على الله - عز وجل -)) (¬3). وهذا من فضل الله - عز وجل - أن جعل كل واحد من هؤلاء الثلاثة في ضمانه - عز وجل - حتى يجزيه الجزاء الأوفى؛ فإن معنى ((ضامن)) أي مضمون، أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ورجل دخل بيته بسلام)) فيحتمل وجهين: الوجه الأول: أن يسلم إذا دخل منزله. الوجه الثاني: أن يكون أراد بدخول بيته بسلام: أي لزوم البيت طلب السلامة من الفتن، يرغب بذلك في العزلة ويأمره بالإقلال من الخلطة (¬4)، وهذا عند ظهور الفتن وخشية المسلم على دينه، أما مع الأمن من ذلك فالمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ¬

(¬1) ابن خزيمة، 1/ 229، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 1/ 206، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 118. (¬2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما جاء في فضل المشي إلى الصلاة، برقم 558، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 111، وفي صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 127. (¬3) سنن أبي داود، كتاب الجهاد، باب فضل الغزو في البحر، برقم 2494، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 473. (¬4) انظر: معالم السنن للخطابي، 3/ 361.

11 - اختصام الملأ الأعلى في المشي على الأقدام إلى صلاة الجماعة

ويدعوهم إلى الله أعظم أجراً من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم، والله أعلم. 11 - اختصام الملأ الأعلى في المشي على الأقدام إلى صلاة الجماعة؛ لحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: أن الله تعالى قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام: (( ... يا محمد هل تدري فيمَ يختصم (¬1) الملأ الأعلى (¬2)؟ قلت: نعم، في الكفارات: المكث في المسجد بعد الصلاة، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء في المكاره، ومن فعل ذلك عاش بخير، ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه ... )) (¬3). 12 - المشي إلى صلاة الجماعة من أسباب السعادة في الدنيا والآخرة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: ((فمن فعل ذلك عاش بخير ومات بخير))، ولقول الله تعالى (¬4): {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬5). 13 - المشي إلى صلاة الجماعة من أسباب تكفير الخطايا؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق: ((وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه)). ¬

(¬1) يختصم: يبحث، واختصامهم: عبارة عن تبادرهم إلى ثبات تلك الأعمال والصعود بها إلى السماء، إما عن تقاولهم في فضلها وشرفها، وإما عن اغتباطهم الناس بتلك الفضائل، لاختصاصهم بها وتفضلهم على الملائكة بسببها مع تهافتهم في الشهوات، وإنما سماه مخاصمة؛ لأنه ورد مورد سؤال وجواب، وذلك يشبه المخاصمة والمناظرة؛ فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ المخاصمة عليه ... وذكر ابن كثير رحمه الله أن هذا الاختصام ليس هو الاختصام المذكور في القرآن. انظر: تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، 9/ 193، 109. (¬2) الملأ الأعلى: الملائكة المقربون، والملأ: هم الأشراف الذين يملأون المجالس والصدور عظمة وإجلالاً، ووصفوا بالأعلى إما لعلو مكانتهم عند الله تعالى، وإما لعلو مكانهم. تحفة الأحوذي للمباركفوري، 9/ 3. (¬3) سنن الترمذي، كتاب التفسير، سورة ص، برقم 3233، ورقم 3234، وله شاهد من حديث معاذ - رضي الله عنه - عند الترمذي، برقم 3235، وصححهما الألباني في صحيح سنن الترمذي،3/ 98 - 99. (¬4) انظر: تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، 9/ 104. (¬5) سورة النحل، الآية: 97.

14 - إكرام الله تعالى لزائر المسجد

14 - إكرام الله تعالى لزائر المسجد؛ لحديث سلمان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من توضأ في بيته ثم أتى المسجد فهو زائر لله، وحقٌ على المزُور أن يكرم الزائر)) (¬1). وعن عمرو بن ميمون - رحمه الله- قال: أدركت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يقولون: ((المساجد بيوت الله وإنه حق على الله أن يكرم من زاره)) (¬2)، وفي لفظ عن عمرو بن ميمون عن عمر - رضي الله عنه - قال: ((المساجد بيوت الله في الأرض وحق على المزور أن يكرم زائره)) (¬3). 15 - فَرَحُ الله تعالى بمشي عبده إلى المسجد متوضياً؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يتوضأ أحد فيحسن وضوءه ويسبغه ثم يأتي المسجد لا يريد إلا الصلاة فيه، إلا تبشبش الله إليه كما يتبشبش أهل الغائب بطلعته)) (¬4). وقد بوَّب الإمام ابن خزيمة على هذا الحديث بقوله: ((باب ذكر فرح الرب تعالى بمشي عبده إلى المسجد متوضياً)) (¬5). وجميع صفات الله تعالى تثبت له على الوجه اللائق به - عز وجل -. 16 - النور التام يوم القيامة لمن مشى في الظلم إلى المساجد؛ لحديث بريدة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)) (¬6). ¬

(¬1) الطبراني في المعجم الكبير، 6/ 253، برقم 6139، 6145، قال الهيثمي في مجمع الزوائد، 2/ 31: ((رواه الطبراني في الكبير، وأحد أسانيده رجاله رجال الصحيح، وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، 13/ 319، برقم 16465. (¬2) أخرجه بإسناده ابن جرير في جامع البيان، 19/ 189. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، 13/ 318، برقم 16463. (¬4) ابن خزيمة في صحيحه، كتاب الإمامة في الصلاة، باب ذكر فرح الرب تعالى بمشي عبده إلى المسجد متوضياً، 2/ 374، برقم 1491، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 123، برقم 301. (¬5) صحيح ابن خزيمة، 2/ 347. (¬6) أبو داود، برقم 561، والترمذي، برقم 223، وتقدم تخريجه في فضل الصلاة.

سادسا: آداب المشي إلى الصلاة في الجماعة:

سادساً: آداب المشي إلى الصلاة في الجماعة: المشي إلى الصلاة له آداب عظيمة، منها ما يأتي: 1 - يتوَضأ في بيته ويسبغ الوضوء؛ لحديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: ((ما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة)) (¬1). 2 - يبتعد عن الروائح الكريهة؛ لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا، أو ليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته)). وفي لفظ لمسلم: ((فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس)). وفي لفظ لمسلم: ((من أكل البصل والثوم والكراث، فلا يقربن مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)) (¬2). 3 - يأخذ زينته ويتجمل؛ لقول الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ} (¬3)؛ ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله جميل يحب الجمال)) (¬4). 4 - يدعو دعاء الخروج من المنزل ويخرج بنية الصلاة؛ فيقول: ((بسم الله توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله)) (¬5). ((اللهم إني أعوذ بك أن أَضِلَّ أو أُضَلَّ، أو أَزِلَ، أو أُزَلَّ، أو أظلِمَ أو أُظلَم، أو أجهل أو يُجهل عليَّ)) (¬6). ((اللهم ¬

(¬1) مسلم، برقم 654، وتقدم تخريجه في وجوب صلاة الجماعة. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 855، ومسلم، برقم 564، و561، 567، وتقدم تخريجه في مكروهات الصلاة. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 31. (¬4) مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، برقم 91. (¬5) إذا قال ذلك يقال حينئذ: ((هُديت، وكفيت، ووقيت، فتتنحى له الشياطين، فيقول شيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي، وكفى ووقي))، أبو داود، كتاب الأدب، باب ما يقال إذا خرج من بيته، برقم 5095، والترمذي، كتاب الدعوات، باب ما جاء ما يقول إذا خرج من بيته، برقم 3426، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 3/ 151. (¬6) أبو داود، كتاب الأدب، باب ما يقول الرجل إذا خرج من بيته، برقم 5094، والترمذي، كتاب الدعوات، باب ما جاء فيما يقول إذا خرج من بيته، برقم 3427، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب ما يدعو الرجل إذا خرج من بيته، برقم 3884، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 336.

5 - لا يشبك بين أصابعه في طريقه إلى المسجد ولا في صلاته؛

اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، ومن أمامي نوراً، ومن خلفي نوراً، واجعل في نفسي نوراً، وأعظم لي نورًا، وعظّم لي نورًا، واجعل لي نورًا، واجعلني نوراً، اللهم أعطني نوراً، واجعل في عصبي نوراً، وفي لحمي نوراً، وفي دمي نوراً، وفي شعري نوراً، وفي بشري نوراً)) (¬1). 5 - لا يشبك بين أصابعه في طريقه إلى المسجد ولا في صلاته؛ لحديث كعب بن عجرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه، ثم خرج عامداً إلى المسجد فلا يشبكن بين أصابعه؛ فإنه في صلاة)) (¬2). 6 - يمشي وعليه السكينة والوقار؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)). وفي لفظ: ((إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون، وأتوها تمشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)) (¬3). وفي هذا الحديث الحث على إتيان الصلاة بسكينة ووقار، والنهي عن إتيانها سعياً، سواء في صلاة الجمعة وغيرها، وسواء خاف فوت تكبيرة الإحرام أو لا، وقوله ((إذا سمعت الإقامة)) إنما ذكر الإقامة للتنبيه على ما سواها؛ لأنه إذا نهي عن إتيانها سعياً في حال الإقامة مع خوفه فوت ¬

(¬1) جميع هذه الألفاظ من صحيح البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء إذا انتبه من الليل، برقم 6316، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين باب صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعائه، برقم 763، وفي رواية 191 - (763) فخرج إلى الصلاة وهو يقول. وكل هذه الروايات من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬2) الترمذي، برقم 387، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 1/ 121، وتقدم تخريجه في مكروهات الصلاة. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب لا يسعى إلى الصلاة وليأتها بالسكينة والوقار، برقم 636، وكتاب الجمعة، باب المشي إلى الجماعة، برقم 908، ومسلم، كتاب المساجد، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة، والنهي عن إتيانها سعياً، برقم 602.

7 - ينظر في نعليه قبل دخول المسجد

بعضها، فقبل الإقامة أولى، وأكَّد ذلك ببيان العلة فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة))، وهذا يتناول جميع أوقات الإتيان إلى الصلاة، وأكد ذلك تأكيداً آخر، فقال: ((فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)). فحصل فيه تنبيه وتأكيد لئلا يتوهم متوهم أن النهي إنما هو لمن لم يخف فوت بعض الصلاة، فصرح بالنهي وإن فات من الصلاة ما فات، وبيَّن ما يفعل فيما فات (¬1). 7 - ينظر في نعليه قبل دخول المسجد، فإن رأى فيهما أذى مسحه بالتراب؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - وفيه: ((إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه وليصلّ فيهما)) (¬2). وتطهير النعلين يكون بمسحهما بالتراب؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وطئَ أحدكم بنعليه الأذى فإن التراب له طهور)). وفي لفظ: ((إذا وطئَ الأذى بخفيه فطهورهما التراب)) (¬3). 8 - يقدم رجله اليمنى عند دخول المسجد ويقول: ((أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم)) (¬4). [بسم الله والصلاة] (¬5) [والسلام على رسول الله] (¬6) [اللهم افتح لي أبواب رحمتك]؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - أنه كان يقول: ((من السنة إذا دخلت ¬

(¬1) انظر: شرح الإمام النووي على صحيح مسلم، 5/ 103. (¬2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الصلاة في النعلين، برقم 650، وابن خزيمة، برقم 1017، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 128. (¬3) أبو داود، كتاب الطهارة، باب الأذى يصيب النعل، برقم 385، 386، وصححهما الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 77. (¬4) فإذا قال ذلك قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم، أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل عند دخوله المسجد، برقم 446، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 92، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. (¬5) ابن السني في عمل اليوم والليلة، برقم 88، وحسنه الألباني. (¬6) أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل عند دخول المسجد، برقم 465، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 92.

9 - يسلم إذا دخل المسجد على من فيه بصوت يسمعه من حوله

المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى، وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى)) (¬1)؛ ولحديث أبي حميد أو أبي أسيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك)) (¬2). 9 - يسلم إذا دخل المسجد على من فيه بصوت يسمعه من حوله؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)) (¬3). وقال عمار بن ياسر - رضي الله عنه -: ((ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار)) (¬4). 10 - يصلي تحية المسجد، فإن كان المؤذن قد أذن بعد دخول الوقت صلى الراتبة إن كان للصلاة راتبة، فإن لم يكن لها راتبة قبلها فسنة ما بين الأذانين؛ لأن بين كل أذانين صلاة، وتجزئ عن تحية المسجد، فإن دخل المسجد قبل دخول وقت الصلاة صلى ركعتين؛ لحديث أبي قتادة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)) (¬5). 11 - إذا خلع نعليه داخل المسجد وضعهما بين رجليه؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا صلى أحدكم فخلع نعليه فلا يؤذي بهما أحداً، ليجعلهما بين رجليه، أو ليصلّ فيهما)). وفي لفظ: ((إذا صلى أحدكم فلا يضع نعليه عن يمينه ولا عن يساره فتكون عن يمين ¬

(¬1) أخرجه الحاكم،1/ 218، وقال: ((هذا حديث صحيح على شرط مسلم))، ووافقه الذهبي، وأخرجه البيهقي، 2/ 442، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 5/ 624، برقم 2478. (¬2) مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب ما يقول إذا دخل المسجد، برقم 113. (¬3) مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، برقم 54. (¬4) البخاري، كتاب الإيمان، باب السلام من الإسلام، 1/ 15. (¬5) متفق عليه: البخاري، برقم 44، ومسلم، برقم 714، وتقدم تخريجه في صلاة التطوع.

12 - يختار الجلوس في الصف الأول على يمين الإمام إن تيسر

غيره، إلا أن لا يكون عن يساره أحد وليضعهما بين رجليه)) (¬1). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز - رحمه الله- يقول: ((الصلاة في النعال سنة خلاف اليهود، لكن بعد العناية، فإن رأى فيها شيئاً أزاله بالتراب أو الحجر أو غيره، أما المساجد المفروشة فقد يحصل عليها الغبار للتساهل من بعض الناس، فيحصل تنفير الناس، فالأولى عندي والله أعلم أن يوضع لها محل)) (¬2). 12 - يختار الجلوس في الصف الأول على يمين الإمام إن تيسر، بلا مزاحمة ولا أذى لأحد؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا)) (¬3)؛ ولحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله وملائكته يصلون على ميامين الصفوف)) (¬4). 13 - يجلس مستقبلاً القبلة يقرأ القرآن أو يذكر الله تعالى؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن لكل شيء سيداً، وإن سيد المجالس قبالة القبلة)) (¬5). 14 - ينوي انتظار الصلاة ولا يؤذي؛ فإنه في صلاة ما انتظر الصلاة، وتصلي عليه الملائكة، قبل الصلاة وبعدها مادام في مصلاه؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يزال العبد في صلاة ما كان في مصلاه ينتظر الصلاة، وتقول الملائكة: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه ... )). وفي لفظ لمسلم: ((والملائكة يصلون على أحدكم مادام في مجلسه الذي صلى فيه، يقولون: ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب المصلي إذا خلع نعليه أين يضعهما؟ برقم 654، 655، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 128. (¬2) سمعته من سماحته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 232، ورقم 233. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم 615،ومسلم، برقم 437،وتقدم تخريجه في فضل الأذان. (¬4) أبو داود، برقم 676، وابن ماجه برقم 1005، وحسنه المنذري، وابن حجر في فتح الباري 2/ 213، وتقدم تخريجه في فضل الصف الأول وميامن الصفوف. (¬5) الطبراني في الأوسط [مجمع البحرين، 5/ 278، برقم 3062]، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 8/ 59: ((رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن)).

15 - إذا أقيمت الصلاة فلا يصلي إلا المكتوبة

اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم تب عليه، ما لم يؤذ، ما لم يحدث)) (¬1). 15 - إذا أقيمت الصلاة فلا يصلي إلا المكتوبة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)) (¬2). 16 - يقدم رجله اليسرى عند الخروج من المسجد بعكس دخوله؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله: في طهوره، وترجله، وتنعله (¬3). وكان ابن عمر رضي الله عنهما يبدأ برجله اليمنى فإذا خرج بدأ برجله اليسرى (¬4). وقال أنس - رضي الله عنه -: ((من السنة إذا دخلت المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى (¬5). ويقول: ((بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم إني أسألك من فضلك] (¬6) [اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم])) (¬7). سابعاً: تنعقد الجماعة باثنين: إمام ومأموم، ولو مع صبي على الصحيح أو امرأة ذات محرم عند الخلوة؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: بت عند خالتي ميمونة فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل، فقمت أصلي معه، فقمت عن يساره، فأخذ برأسي فأقامني عن يمينه)) (¬8). وعن مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - أنه قال: أتى رجلان النبي - صلى الله عليه وسلم - يريدان السفر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أنتما خرجتما فأذّنا، ثم أقيما، ثم ليؤمَّكما أكبرُكما)) (¬9)؛ ولحديث أنس - رضي الله عنه - أن ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 647، ومسلم، برقم 649، وتقدم تخريجه في فضل صلاة الجماعة. (¬2) مسلم، برقم 710، وتقدم تخريجه في صلاة التطوع. (¬3) البخاري، كتاب الصلاة، باب التيمن في دخول المسجد وغيره، قبل الحديث 426. (¬4) البخاري معلقاً مجزوماً به، كتاب الصلاة، باب التيمن في دخول المسجد وغيره، قبل الحديث 426. (¬5) الحاكم، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، 1/ 218، وتقدم تخريجه. (¬6) مسلم، برقم 113، وأبو داود، برقم 465، وتقدم تخريجه في دعاء دخول المسجد. (¬7) ابن ماجه، كتاب المساجد، والجماعات، برقم 773، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 1/ 129. (¬8) متفق عليه: البخاري، برقم 117، 699، ورقم 992، ومسلم، برقم 82 (763)، وتقدم تخريجه في صلاة التطوع. (¬9) البخاري، كتاب الأذان، باب الأذان للمسافرين، برقم 630،وبابٌ: اثنان فما فوقهما جماعة، برقم 658.

النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على أنس، وأمه، وأم حرام خالة أنس، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((قوموا فلأصلي بكم)) في غير وقت صلاة، فصلى بهم، وجعل أنساً عن يمينه، وأقام المرأة خلفهم (¬1). ومما يدل على صحة الجماعة وانعقادها برجل وامرأة، حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إذا استيقظ الرجل من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات)) (¬2). والأصل صحة الجماعة وانعقادها بالمرأة مع الرجل كما تنعقد بالرجل مع الرجل، ومن منع فعليه الدليل (¬3). إلا إذا كانت أجنبية وحدها، وليس عندهم أحد، فإنه يحرم عليه أن يؤمها؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم)) (¬4). والصواب صحة مصافة الصبي وإمامته في الفرض والنفل؛ لعموم الأدلة، ومن أصرحها حديث عمرو بن سلمة - رضي الله عنه - قال أبي: جئتكم من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - حقّاً فقال: ((صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلوا صلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذِن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآنا)). فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنًا مني؛ لما كنتُ أتلقَّى من الركبان، فقدموني بين أيديهم، وأنا ابن ستٍّ أو سبْعِ سنين (¬5). قال الوزير ابن هبيرة - رحمه الله-: ((وأجمعوا على أن أقل الجمع الذي تنعقد به صلاة الجماعة في الفرض غير الجمعة اثنان: إمام ¬

(¬1) مسلم، كتاب المساجد، باب جواز الجماعة في النافلة، برقم 660. (¬2) ابن ماجه، برقم 1335، وأبو داود، برقم 1309، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 243، وتقدم تخريجه في صلاة التطوع. (¬3) نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 369، والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 351 - 352. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب جزاء الصيد، باب حج النساء، برقم 1862، ومسلم، كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى الحج، برقم 1341. (¬5) البخاري، كتاب المغازي، بابٌ: وقال الليث. برقم 4302.

ثامنا: تدرك الجماعة بإدراك ركعة، ولا يعتد بركعة لا يدرك ركوعها

ومأموم قائم عن يمينه)) (¬1). وقال الإمام ابن قدامة - رحمه الله-: ((وتنعقد الجماعة باثنين فصاعداً، لا نعلم فيه خلافاً)) (¬2). وقال الإمام ابن عبد البر -رحمه الله-: ((أجمع العلماء على أن المرأة تصلي خلف الرجل وحدها صفاً، وأن سنتها الوقوف خلف الرجل لا عن يمينه)) (¬3). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله- يقول في تقريره على حديث عمرو بن سلمة آنف الذكر: ((هذا الحديث يدل على جواز إمامة الصبي إذا عقل وميَّز، وكثير من الفقهاء يقول: لا يؤمُّ، ولا يُعتدُّ به في المصافة، وهذا قول غلط وضعيف، والصواب أنه يؤمُّ ويصافّ، وقد صفَّ أنسٌ مع اليتيم خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬4)، والأصل في الفرائض والنوافل سواء، إلا ما خصه الدليل، وحديث عمرو هذا يدل على جواز إمامة العاقل المميز، ويحمل الشك على السبع؛ لأن الغالب أن المميز ابن سبع، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين)) (¬5) فإذا كان يتقن الصلاة قدم)) (¬6)، أي إذا كان أكثرهم قرآنًا. ثامناً: تدرك الجماعة بإدراك ركعة، ولا يُعتدُّ بركعة لا يُدْرك ركوعها؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة)) (¬7)؛ وإذا أدرك الركوع قبل أن يقيم ¬

(¬1) الإفصاح عن معاني الصحاح، 1/ 155. (¬2) المغني لابن قدامة، 2/ 7. (¬3) الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار، 6/ 249. (¬4) مسلم، برقم 658، وتقدم تخريجه في صلاة التطوع. (¬5) أبو داود، برقم 495، وأحمد، 2/ 180، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 1/ 266، و2/ 7، وتقدم تخريجه في منزلة الصلاة في الإسلام. (¬6) سمعته من سماحته أثناء تقريره على بلوغ المرام لابن حجر، الحديث رقم 435. (¬7) متفق عليه: البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب من أدرك من الصلاة ركعة، برقم 580، ومسلم، كتاب المساجد، باب متى يقوم الناس للصلاة، برقم 607.

الإمام صلبه من ركوعه فقد أدرك الركعة (¬1)؛ لحديث أبي بكرة - رضي الله عنه - أنه انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((زادك الله حرصاً ولا تَعُدْ (¬2))) (¬3).وزاد أبو داود فيه: ((فركع دون الصف ثم مشى إلى الصف)) (¬4). ومما يدل على أن من أدرك الركوع قبل أن يقيم الإمام صلبه فقد أدرك الركعة حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدُّوها شيئاً، ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة)) (¬5). وفي لفظ لابن خزيمة والدارقطني والبيهقي: ((من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها قبل أن يقيم الإمام صلبه)) (¬6). وهذا مذهب جمهور الأئمة من ¬

(¬1) انظر: نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 381، ومجموع فتاوى ابن باز، 12/ 161. (¬2) ولا تعد: قيل: معناها: لا تُعِدْ صلاتك فإنها صحيحة، وقيل: لا تَعْدُ: من العدو والسعي، وقيل: لا تَعُدْ، من العود: أي لا تَعُدْ ساعياً إلى الدخول في الركوع قبل وصولك الصف، وهذا هو الأقرب، واختاره الصنعاني في سبل السلام،3/ 109، وابن باز في مجموع الفتاوى، 12/ 160، وانظر: نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 430، وقال ابن عبد البر: ((زادك الله حرصاً ولا تعد)) معناه عند أهل العلم: ((زادك الله حرصاً إلى الصلاة ولا تعد إلى الإبطاء عنها)). الاستذكار، 6/ 250، وقال ابن قدامة: ((بل إنما يعود النهي إلى المذكور والمذكور الركوع دون الصف))، المغني، 2/ 77. (¬3) البخاري، كتاب الأذان، بابٌ: إذا ركع دون الصف، برقم 783. (¬4) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الرجل يركع دون الصف، برقم 684، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 133. (¬5) سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب الرجل يدرك الإمام ساجداً كيف يصنع، برقم 893، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 169، وقال الإمام ابن باز ((وحديث أبي هريرة قد جاء من طريقين يشد أحدهما الآخر، وتقوم بمثلهما الحجة)). انظر مجموع فتاوى ابن باز، 12/ 161. (¬6) سنن الدارقطني، كتاب الصلاة، باب من أدرك الإمام قبل إقامة صلبه فقد أدرك الصلاة، 1/ 346، برقم 1، وسنن البيهقي الكبرى، كتاب الصلاة، باب إدراك الإمام في الركوع، 2/ 89، وصحيح ابن خزيمة، كتاب الصلاة، باب ذكر الوقت الذي يكون فيه المأموم مدركاً للركعة إذا ركع إمامه قبل، 3/ 45، برقم 1595، قال الألباني في حاشيته على صحيح ابن خزيمة، 3/ 45: ((إسناده ضعيف لسوء حفظ قرّة، لكن الحديث له طرق أخرى وشواهد كما حققته في صحيح أبي داود (832)، والإرواء (89)، قلت الطبعة التي عندي صحيح أبي داود، 1/ 169، والإرواء 2/ 260، وحسنه في صحيح أبي داود وصححه في الإرواء.

السلف والخلف: أن من أدرك الإمام راكعاً فكبر وركع وأمكن يديه من ركبتيه قبل أن يرفع الإمام رأسه فقد أدرك الركعة، ومن لم يدرك ذلك فقد فاتته الركعة فلا يُعتد بها، وهذا مذهب الإمام مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد، وروي ذلك عن علي، وابن مسعود، وزيد، وابن عمر - رضي الله عنهم - (¬1). أما من تأخر عن صلاة الجماعة لعذر وهو من المحافظين دائماً على صلاة الجماعة، ثم جاء وأدرك جزءاً من الصلاة أقل من ركعة فقد فاتته صلاة الجماعة، لكن له أجر وفضل الجماعة لحسن نيته ولعذره؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من توضأ فأحسن الوضوء، ثم راح فوجد الناس قد صلوا، أعطاه الله - عز وجل - مثل أجر من صلاها وحضرها، لا ينقص ذلك من أجرهم شيئاً)) (¬2)؛ ولحديث أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً)) (¬3)؛ولحديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في غزوة تبوك: ((إن أقواماً بالمدينة خلفنا ما سلكنا شعباً ولا وادياً إلا وهم معنا فيه حبسهم ¬

(¬1) وهذا القول هو الصواب الذي عليه جمهور الأئمة، وهو المتفق عليه عند أصحاب المذاهب الأربعة كما تقدم، ورجحه: الإمام ابن عبد البر، والإمام النووي، والشوكاني في قوله الثاني، والإمام ابن باز - رحمهم الله-. والقول الثاني: إن من أدرك الإمام راكعاً ودخل معه في الركوع لا يعتد بتلك الركعة؛ لأن قراءة الفاتحة فرض ولم يأتِ به، روي هذا القول عن أبي هريرة ورجحه البخاري في كتابه ((جزء القراءة))، وحكاه عن كل من يرى وجوب قراءة الفاتحة على المأموم، ورجحه الشوكاني في قوله الآخر في النيل وبسط أدلته. والصواب القول الأول كما تقدم. انظر: مجموع هذه الأقوال في عون المعبود شرح سنن أبي داود لمحمد شمس الحق العظيم آبادي، 3/ 145 - 161، فقد أبدع في النقل، وانظر: المجموع للنووي، 4/ 215، والاستذكار لابن عبد البر، 5/ 64 - 68 و6/ 245 - 250، والمغني لابن قدامة، 3/ 76، ونيل الأوطار للشوكاني، 1/ 784 - 792، و2/ 381، وسبل السلام للصنعاني، 3/ 108، ومجموع فتاوى ابن باز، 12/ 157 - 162، والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 240 - 244. (¬2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب فيمن خرج يريد الصلاة فسُبِق بها، برقم 564، والنسائي، كتاب الإمامة، باب حد إدراك الجماعة، برقم 855، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح، 6/ 137: ((إسناده قوي))، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 113، وقد سبق تخريجه في فضل الصلاة. (¬3) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب يكتب للمسافر ما كان يعمل في الإقامة، برقم 2996.

تاسعا: صلاة الجماعة الثانية مشروعة لمن فاتته صلاة الجماعة الأولى

العذر)). وفي لفظ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة فقال: ((إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم)) قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟ قال: ((وهم بالمدينة، حبسهم العذر)) (¬1). فدلَّ ذلك على أن من حبسه عذر شرعي يكون له أجر من عمل العمل على الوجه الشرعي (¬2). تاسعاً: صلاة الجماعة الثانية مشروعة لمن فاتته صلاة الجماعة الأولى مع الإمام في المسجد (¬3)؛ لحديث أبي سعيد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبصر رجلاً يصلي وحده، فقال: ((ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه؟)) (¬4). ولفظ الترمذي: جاء رجل وقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((أيُّكم يتّجرُ على هذا؟)) فقام رجل فصلى معه. ولفظ الإمام أحمد: أن ¬

(¬1) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من حبسه العذر عن الغزو برقم 2838، وبرقم 4423. (¬2) انظر: الاختيارات الفقهية لابن تيمية، ص102، ومجموع فتاوى الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز، 12/ 165. (¬3) تكرار الجماعة في المسجد الواحد له صور، منها: الصورة الأولى: أن يكون إعادة الجماعة أمراً راتباً، بأن يكون في المسجد جماعتان دائماً: الجماعة الأولى، والجماعة الثانية، أو أكثر، فهذا بدعة. الصورة الثانية: أن يكون إعادة الجماعة أمراً عارضاً، والإمام الراتب هو الذي يصلي بالمسجد، لكن أحياناً يتخلف رجلان، أو ثلاثة، أو أكثر لعذر، فهذا هو محل الخلاف، فمن العلماء من يقول: لا تعاد الجماعة، بل يصلون فرادى، ومنهم من قال: بل تعاد، وهذا هو الصواب وهو الصحيح، وهو مذهب الحنابلة، للأدلة المذكورة في متن هذه الرسالة. الصورة الثالثة: أن يكون المسجد في طريق الناس، أو سوقهم، فيأتي الرجلان والثلاثة يصلون ثم يخرجون، ثم يأتي غيرهم فيصلون فلا تكره الإعادة في هذا المسجد أيضاً، قال الإمام النووي في المجموع، 4/ 222: ((إذا لم يكن للمسجد إمام راتب فلا كراهة في الجماعة الثانية بالإجماع)). وانظر: الشرح الممتع للعلامة ابن عثيمين 4/ 226 - 232. وفي المسألة صور أخرى: انظر: صلاة الجماعة للعلامة صالح بن غانم السدلان، ص100. (¬4) أبو داود، برقم 574، والترمذي، برقم 220، وأحمد، 3/ 45، 64، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 1/ 209 وابن حبان، 6/ 157، برقم 2397 - 2399، وأبو يعلى، 2/ 321، برقم 1075، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 2/ 316، برقم 535، وتقدم تخريجه في الصلوات ذوات الأسباب آخر صلاة التطوع.

رجلاً دخل المسجد وقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من يتصدق على هذا فيصلي معه؟)) فقام رجل من القوم فصلى معه. قال الإمام الشوكاني - رحمه الله-: ((فقام رجل من القوم فصلى معه)) هو أبو بكر الصديق كما بيّن ذلك ابن أبي شيبة)) (¬1). والحديث يدل على مشروعية الدخول مع من دخل في الصلاة منفرداً، وإن كان الداخل قد صلى في جماعة (¬2). قال الترمذي -رحمه الله-: ((وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وغيرهم من التابعين. قالوا: لا بأس أن يصلي القوم جماعة في مسجد قد صُلّيَ فيه جماعة، وبه يقول أحمد وإسحاق)) (¬3). وهذا هو الصواب؛ لعموم الأدلة الدالة على أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة؛ ولحديث أبيّ بن كعب - رضي الله عنه - وفيه: ((وإن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله تعالى)) (¬4). ومن قال: إن فضل الجماعة يختص بالجماعة الأولى فعليه الدليل المخصص، ومجرد الرأي ليس بحجة (¬5)، وقد ثبت عن أنس - رضي الله عنه - أنه جاء ذات يوم والناس قد صلوا، فجمع أصحابه فصلى بهم جماعة (¬6). ¬

(¬1) نيل الأوطار، 2/ 380. (¬2) نيل الأوطار، 2/ 380. (¬3) قال الترمذي: ((وقال آخرون من أهل العلم: يصلون فرادى، وبه يقول سفيان، وابن المبارك، ومالك، والشافعي، يختارون الصلاة فرادى)). سنن الترمذي، الحديث رقم 220. (¬4) أبو داود، برقم 554، والنسائي، برقم 843، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود،1/ 110، وفي سنن النسائي،1/ 183،وتقدم تخريجه في وجوب صلاة الجماعة. (¬5) مجموع فتاوى الإمام ابن باز، 12/ 166. (¬6) البخاري، كتاب الأذان، باب فضل صلاة الجماعة، قبل الحديث رقم 645، في ترجمة الباب، ولفظه: ((وجاء أنس إلى مسجدٍ قد صُلّيَ فيه فأذَّن وأقام وصلى جماعة)) قال ابن حجر في فتح الباري، 2/ 131: ((وصله أبو يعلى في مسنده، من طريق الجعد أبي عثمان))، قال: مر بنا أنس بن مالك في مسجد بني ثعلبة، فذكر نحوه، قال: وذلك في صلاة الصبح، وفيه: ((فأمر رجلاً فأذن وأقام، ثم صلى بأصحابه))، وفي رواية ابن أبي شيبة، من طرق عن الجعد، والبيهقي من طريق أبي عبد الصمد عن الجعد نحوه، وقال: مسجد بني رفاعة، وقال: ((فجاء أنس في نحو عشرين من فتيانه)) قال الحافظ ابن حجر: ((وهو يؤيد ما قلنا من إرادة التجميع في المسجد))، فتح الباري، 2/ 131.

عاشرا: من صلى ثم أدرك جماعة أعادها معهم نافلة

والمقصود أن الجماعة الثانية مشروعة لمن فاتته الجماعة الأولى، وهذا هو الأصل ولا يخرج منه إلا بدليل (¬1)، والله الموفق - سبحانه وتعالى - (¬2). عاشراً: من صلى ثم أدرك جماعة أعادها معهم نافلة؛ لحديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخّرون الصلاة عن وقتها، أو يميتون الصلاة عن وقتها؟)) قال: قلت فما تأمرني؟ قال: ((صلّ الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصلّ فإنها لك نافلة [ولا تقل إني قد صليت فلا أصلي])) (¬3)؛ ولحديث يزيد بن الأسود، وفيه: (( ... إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصلّيا معهم فإنها لكما نافلة)). وفي لفظ: ((إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام ولم ¬

(¬1) مجموع فتاوى الإمام ابن باز، 12/ 166 (¬2) أما حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا تصلوا صلاة في يوم مرتين)) أبو داود، برقم 579، والنسائي، 2/ 114، برقم 860 وأحمد 2/ 19، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 115، فقال ابن عبد البر: ((اتفق أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه على أن معنى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لاتصلوا صلاة في يوم مرتين)) أن ذلك أن يصلي الرجل صلاة مكتوبة ثم يقوم بعد الفراغ منها فيعيدها على جهة الفرض أيضاً، وأما من صلى الثانية مع الجماعة على أنها له نافلة اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمره، وقوله - صلى الله عليه وسلم - للذين أمرهم بإعادة الصلاة في جماعة: ((إنها لكم نافلة)) فليس ذلك ممن أعاد الصلاة في يوم مرتين؛ لأن الأولى فريضة والثانية نافلة)). الاستذكار لابن عبد البر، 5/ 357 - 358، وبيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى، 23/ 260 - 261، أن حديث ابن عمر في النهي عن إعادة الصلاة مرتين في الإعادة مطلقاً من غير سبب، ولا ريب أن هذا منهي عنه، وأما حديث ابن الأسود فهو إعادة مقيدة بسبب اقتضى الإعادة، فسبب الإعادة حضور الجماعة الراتبة، أو إعادة الصلاة؛ ليحصل من فاتته صلاة الجماعة على فضل الجماعة، وقال الإمام الخطابي: ((هذه صلاة الإيثار والاختيار، دون ما كان له سبب كالرجل يدرك الجماعة وهم يصلون فيصلي معهم ليدرك فضيلة الجماعة، توفيقاً بين الأخبار ورفعاً للاختلاف بينها))، معالم السنن، 1/ 301، وانظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود، 2/ 287،ونيل الأوطار للشوكاني،2/ 296 - 298 و380،و1/ 508 - 510، ومجموع فتاوى ابن باز، 12/ 165 - 175، وقال الإمام ابن عبد البر أيضاً في جواز إعادة الجماعة في المسجد لمن فاتته الجماعة الأولى: ((وممن أجاز ذلك ابن مسعود، وأنس، وعلقمة، ومسروق، والأسود، والحسن، وقتادة، وعطاء على اختلاف عنه)) الاستذكار، 4/ 68، وقال ابن قدامة في المغني، 3/ 10: ((ولا يكره إعادة الجماعة في المسجد، ومعناه أنه إذا صلى إمام الحي وحضر جماعة أخرى استحب لهم أن يصلوا جماعة)). (¬3) مسلم، برقم 648،وتقدم تخريجه في الصلوات ذات الأسباب في آخر صلاة التطوع.

الحادي عشر: المسبوق يصلي ما بقي من صلاته إذا سلم إمامه من غير زيادة

يصلّ فليصلّ معه؛ فإنها له نافلة)) (¬1)؛ ولحديث محجن، وفيه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما منعك أن تصلي ألست برجل مسلم؟)) قال: بلى ولكني كنت قد صليت في أهلي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا جئت فصلّ مع الناس وإن كنت قد صليت)) (¬2)؛ولحديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - (¬3)؛ ولحديث ابن مسعود - رضي الله عنه - (¬4) والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل (¬5). الحادي عشر: المسبوق يصلي ما بقي من صلاته إذا سلم إمامه من غير زيادة؛ لحديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - حينما كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، قال: فتبرز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر وضوءه، وأن ذلك قبل صلاة الفجر، قال: فأقبلت معه حتى نجد الناس قد قدَّموا عبد الرحمن بن عوف، فصلى بهم حين كان وقت الصلاة، ووجدنا عبد الرحمن وقد صلى بهم ركعة من صلاة الفجر، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصف مع المسلمين فصلى وراء عبد الرحمن بن عوف الركعة الثانية، فلما سلم عبد الرحمن قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتم صلاته، فأفزع ذلك المسلمين، فأكثروا التسبيح، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته أقبل عليهم، ثم قال: ((أحسنتم، أو قد أصبتم)) يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها)) (¬6). وقوله: ((يتم صلاته)) يدل ¬

(¬1) الترمذي، برقم 219، وأبو داود، برقم 575، والنسائي، برقم 858، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 186، وتقدم تخريجه في الصلوات ذوات الأسباب. (¬2) النسائي، برقم 857،وصححه الألباني في صحيح النسائي،1/ 186،وتقدم تخريجه في الصلوات ذوات الأسباب. (¬3) أحمد، 5/ 169، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب إذا أخر الإمام الصلاة عن الوقت، برقم 433، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 88. (¬4) أبو داود، كتاب الصلاة، باب إذا أخر الإمام الصلاة عن الوقت برقم 432، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 87. (¬5) انظر: نيل الأوطار للشوكاني، 1/ 508 - 510 و2/ 296، 384، والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 219، وصلاة الجماعة، للسدلان، ص103. (¬6) متفق عليه: البخاري مختصراً، كتاب الوضوء، باب الرجل يوضئ صاحبه، برقم 182، ومسلم مختصراً، كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين، برقم 274، وأبو داود، كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين، برقم 149، وأحمد، 4/ 251، وألفاظه من سنن أبي داود ومسند أحمد.

على أن ما يدركه المسبوق مع الإمام هو أول صلاته؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)) (¬1). وجاء في بعض الروايات: ((فاقضوا)) (¬2) والقضاء يطلق على أداء الشيء فهو بمعنى أتموا، فلا مغايرة بين اللفظين (¬3)، ولا حجة لمن تمسك برواية ((فاقضوا)) على أن ما أدركه مع الإمام هو آخر صلاته، وإنما الصواب أن ما يدركه المسبوق مع الإمام هو أول صلاته (¬4). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله- يقول: ((وما فاتكم فأتموا)) هذا أكثر الروايات، وفي بعض الروايات: ((فاقضوا)) بمعنى أتموا سواء بسواء، فالروايتان مجتمعتان بمعنى الإتمام والإكمال، فما أدرك فهو أول صلاته، وما قضى فهو آخرها (¬5). والمسبوق يدخل مع الإمام في أي جزء أدركه فيه؛ لحديث علي بن أبي طالب ومعاذ رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام)) (¬6).قال الترمذي - رحمه الله-: ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 636، ومسلم، برقم 908، وتقدم تخريجه في آداب المشي إلى الصلاة. (¬2) أحمد، 2/ 270، وأبو داود، برقم 573، والنسائي، 2/ 114. (¬3) انظر: نيل الأوطار للشوكاني،2/ 257، 383،وسبل السلام للصنعاني، 2/ 115. (¬4) قال الإمام النووي: ((واختلف العلماء في المسألة، فقال الشافعي وجمهور العلماء من السلف والخلف: ما أدركه المسبوق مع الإمام أول صلاته، وما يأتي به بعد سلامه آخرها، وعكسه أبو حنيفة وطائفة، وعن مالك وأصحابه روايتان كالمذهبين، وحجة هؤلاء: ((واقضِ ما سبقك))، وحجة الجمهور أن أكثر الروايات ((وما فاتكم فأتموا)) وأجابوا عن رواية ((واقضِ ما سبقك)) أن المراد بالقضاء الفعل لا القضاء المصطلح عليه عند الفقهاء، وقد كثر استعمال القضاء بمعنى الفعل)) شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 104. (¬5) سمعته من سماحته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 445. (¬6) الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما ذكر في الرجل يدرك الإمام وهو ساجد كيف يصنع، برقم 591، قال العلامة أحمد محمد شاكر في حاشيته على سنن الترمذي: قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير، 2/ 42، فيه ضعف وانقطاع، ويريد بالضعف الإشارة إلى تضعيف حجاج بن أرطأة وهو عندنا ثقة إلا أنه يدلس ولم يصرح بالسماع هنا، ويشير بالانقطاع إلى أن ابن أبي ليلى لم يسمع من معاذ، ولكن له شاهد من حديثه أيضاً عند أبي داود، برقم 506، يقول فيه ابن أبي ليلى: حدثنا أصحابنا ثم ذكر الحديث وفيه فقال معاذ: ((لا أراه على حال إلا كنت عليها)) قال: فقال إن معاذاً قد سن لكم سنة كذلك فافعلوا)). وهذا متصل؛ لأن المراد بأصحابه الصحابة كما صرح بذلك في رواية ابن أبي شيبة: ((حدثنا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -)) [حاشية أحمد شاكر على سنن الترمذي، 2/ 486]، وذكر له العلامة الألباني شاهداً عن عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - أخرجه المروزي في مسائل أحمد وإسحاق، قال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 3/ 185: ((وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين)). والحديث صحيح المعنى لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)).

الثاني عشر: يعذر في ترك الجماعة بأشياء، هي على النحو الآتي:

((والعمل على هذا عند أهل العلم، قالوا: إذا جاء الرجل والإمام ساجد فليسجد ولا تجزئه تلك الركعة إذا فاته الركوع مع الإمام)) (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئاً، ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة)) (¬2). الثاني عشر: يعذر في ترك الجماعة بأشياء، هي على النحو الآتي: * الخوف أو المرض؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر)) (¬3). * المطر، أو الدحض (¬4)؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لمؤذنه في يوم مطير: ((إذا قلت أشهد أن محمداً رسول الله، فلا تقل: حي على الصلاة، قل: صلوا في بيوتكم، فكأن الناس استنكروا، فقال: فعله من هو خير مني، إن الجمعة عزمة (¬5) وإني كرهت أن أخرجكم فتمشون في ¬

(¬1) سنن الترمذي، 2/ 486. (¬2) أبو داود، برقم 893، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 169، وتقدم تخريجه في إدراك الجماعة بركعة. (¬3) ابن ماجه، برقم 793، وأبو داود، برقم 551، وصححه الألباني في الإرواء، 2/ 327، وتقدم تخريجه في وجوب صلاة الجماعة. (¬4) الدحض: الزلق. فتح الباري لابن حجر، 1/ 384. (¬5) إن الجمعة عزمة: أي فلو تركت المؤذن يقول حي على الصلاة لبادر من سمعه إلى المجيء في المطر، فيشق عليه، فأمرته أن يقول صلوا في بيوتكم؛ لتعلموا أن المطر من الأعذار التي تصيّر العزيمة رخصة. فتح الباري، لابن حجر، 2/ 384.

* الريح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة

الطين والدحض)) (¬1). * الريح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه أذَّن بالصلاة في ليلة ذات برد وريح، فقال: ألا صلوا في رحالكم (¬2) ثم قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة ذات مطر، يقول: ((ألا صلوا في الرحال)) وفي لفظ للبخاري: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر مؤذناً يؤذن، ثم يقول على إثره: ((ألا صلوا في الرحال)) في الليلة الباردة أو المطيرة في السفر))، وفي لفظ لمسلم: ((أن ابن عمر نادى بالصلاة في ليلة ذات برد وريح ومطر، فقال في آخر ندائه: ألا صلوا في رحالكم ألا صلوا في الرحال، ثم قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة، أو ذات مطر في السفر أن يقول: ((ألا صلوا في رحالكم)) (¬3). وعن جابر - رضي الله عنه - قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فمطرنا، فقال: ((ليصلّ من شاء منكم في رحله)) (¬4) والأفضل أن يأتي بألفاظ الأذان كاملة ثم يقول: ((صلوا في بيوتكم)). أو يقول: ((صلوا في رحالكم)) (¬5). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الجمعة، باب الرخصة إن لم يحضر الجمعة في المطر، برقم 901، وسبق في كتاب الأذان، باب الكلام في الأذان، برقم 616، وفي باب هل يصلي الإمام بمن حضر، برقم 668، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الصلاة في الرحال، برقم 699. (¬2) الرحل: المنزل وسكن الرجل وما فيه من أثاثه. فتح الباري لابن حجر،1/ 98،ونيل الأوطار،2/ 387. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب الأذان للمسافرين، برقم 632،وباب الرخصة في المطر، والعلة أن يصلي في رحله، برقم 666،ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الصلاة في الرحال، برقم 699. (¬4) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الصلاة في الرحال في المطر، برقم 698. (¬5) قال الإمام القرطبي رحمه الله عن حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((ظاهر قوله: ((في آخر ندائه)) أنه قال ذلك بعد فراغه من الأذان، ويحتمل أن يكون في آخره قبل الفراغ، ويكون هذا مثل حديث ابن عباس)). ثم قال: ((هذا الحديث قد رواه أبو أحمد بن عدي من حديث أبي هريرة، قال فيه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كانت ليلة باردة أو مطيرة، أمر المؤذن فأذن بالأذان الأول، فإذا فرغ نادى: الصلاة في الرحال أو في رحالكم)). [رواه ابن عدي في الكامل، 6/ 2263]، وهذا نص يرفع ذلك الاحتمال. [المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 2/ 338]، وقال الإمام النووي رحمه الله: (( ... في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه يقول: ((ألا صلوا في رحالكم)) في نفس الأذان، وفي حديث ابن عمر أنه قال في آخر ندائه، والأمران جائزان نص عليهما الشافعي رحمه الله تعالى في الأم في كتاب الأذان، وتابعه جمهور أصحابنا في ذلك، فيجوز بعد الأذان وفي أثنائه؛ لثبوت السنة فيهما، لكن قوله بعده أحسن؛ ليبقى نظم الأذان على وضعه، ومن أصحابنا من قال: لا يقوله إلا بعد الفراغ، وهذا ضعيف مخالف لصريح حديث ابن عباس رضي الله عنهما ولا منافاة بينه وبين الحديث الأول؛ حديث ابن عمر رضي الله عنهما؛ لأن هذا جرى في وقت وذاك في وقت وكلاهما صحيح))، شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 214. وقال الحافظ ابن حجر على قوله: ((إذا قلت أشهد أن محمدًا رسول الله فلا تقل حي على الصلاة: وبوب عليه ابن خزيمة، وتبعه ابن حبان، ثم المحب الطبري ((حذف حي على الصلاة في يوم المطر)) وكأنه نظر إلى المعنى؛ لأن حي على الصلاة، والصلاة في الرحال، وصلوا في بيوتكم يناقض ذلك، وعند الشافعية وجه أنه يقول ذلك بعد الأذان، وآخر أنه يقوله بعد الحيعلتين، والذي يقتضيه الحديث ما تقدم)) [فتح الباري، 2/ 98]، وقال الحافظ في موضع آخر في كلامه على حديث عبد الله بن عمر: ((كان يأمر المؤذن يؤذن ثم يقول على إثره: ألا صلوا في الرحال)): (( .. صريح في أن القول المذكور كان بعد فراغ الأذان)) ثم قال عن اجتماع كلمة صلوا في الرحال وكلمة حي على الصلاة: ((وقد قدمنا في باب الكلام في الأذان، عن ابن خزيمة أنه حمل حديث ابن عباس على ظاهره، وأن ذلك يقال: بدلاً من الحيعلة، نظراً إلى المعنى؛ لأن معنى ((حي على الصلاة)) هلموا إليها، ومعنى: ((الصلاة في الرحال)) تأخروا عن المجيء، ولا يناسب إيراد اللفظين معاً، لأن أحدهما نقيض الآخر، ويمكن أن يجمع بينهما ولا يلزم منه ما ذكر بأن يكون معنى الصلاة في الرحال رخصة لمن أراد أن يترخص، ومعنى هلموا إلى الصلاة ندب لمن أراد أن يستكمل الفريضة ولو تحمل المشقة، ويؤيد ذلك حديث جابر عند مسلم قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فمطرنا فقال: ((ليصلّ من شاء منكم في رحله)) [مسلم برقم 698] فتح الباري، 2/ 113، وقال الحافظ أيضاً في موضع آخر على حديث ابن عباس: ((والذي يظهر أنه لم يترك بقية الأذان، وإنما أبدل قوله: ((حي على الصلاة)) بقوله: ((صلوا في بيوتكم)) الفتح، 2/ 384، وانظر المغني لابن قدامة، 2/ 378 - 379، ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 386. وأقرب الأقوال قول النووي رحمه الله تعالى، وقد سمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله أثناء تقريره على صحيح البخاري الحديث رقم 616، يقول: ((الأفضل أن يكمل الأذان ثم يقول بعده صلوا في بيوتكم)). وقال على الحديث رقم 666: ((يقول ذلك بعد الأذان)) وقال على الحديث رقم 668: ((المعروف أنه قاله بعد الأذان)).

* حضور الطعام ونفسه تتوق إليه

* حضور الطعام ونفسه تتوق إليه؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كان أحدكم على الطعام فلا يعجل حتى يقضي حاجته منه، وإن أقيمت الصلاة)) (¬1)؛ ولحديث عائشة رضي الله عنها عن النبي ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 674، ومسلم، برقم 559، وتقدم تخريجه في مكروهات الصلاة.

* مدافعة الأخبثين [البول والغائط]

- صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إذا وضع العشاء وأقيمت الصلاة، فابدؤوا بالعشاء)) (¬1). * مدافعة الأخبثين [البول والغائط]؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا صلاة بحضرة الطعام ولا وهو يدافعه الأخبثان)) (¬2). وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: ((من فقه المرء إقباله على حاجته حتى يقبل على صلاته وقلبه فارغ)) (¬3). * يكون له قريب يخاف موته ولا يحضره؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه ذكر له أن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل - وكان بدريّاً- مرض في يوم جمعة فركب إليه بعد أن تعالى النهار، واقتربت الجمعة وترك الجمعة (¬4). فظهر أنه يعذر بترك الجماعة بثمانية أشياء: المرض، والخوف على النفس، أو المال، أو العرض، والمطر، والدحض [الوحل]، والريح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة، وحضور الطعام والنفس تتوق إليه، ومدافعة الأخبثين أو أحدهما، وأن يكون له قريب يخاف موته ولا يحضره. وتقدمت الأدلة على كل مسألة من هذه الأشياء (¬5). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري برقم 671، ومسلم، برقم 558، وتقدم تخريجه في مكروهات الصلاة. (¬2) مسلم، برقم 560، وتقدم تخريجه في مكروهات الصلاة. (¬3) البخاري، كتاب الأذان، بابٌ: إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة، قبل الحديث رقم 671، وقال ابن حجر في فتح الباري: ((وصله ابن المبارك في كتاب الزهد)) [رقم 1142] وأخرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب قدر الصلاة. (¬4) البخاري، كتاب المغازي، باب: حدثني عبد الله بن محمد، برقم 3990. (¬5) انظر: المغني لابن قدامة، 2/ 276 - 380، والكافي لابن قدامة، 1/ 398 - 401.

المبحث الخامس والعشرون: مكان صلاة الجماعة: المساجد

المبحث الخامس والعشرون: مكان صلاة الجماعة: المساجد 1 - مفهوم المساجد: جمع مَسجِد، إن أُريد به المكان المخصوص المُعَدّ للصلوات الخمس، وإن أُريد به موضع سجود الجبهة، فإنه بالفتح لا غير ((مَسجَد)) (¬1). فالمسجد لغة: الموضع الذي يسجد فيه، ثم اتّسع المعنى إلى البيت المُتّخذ لاجتماع المسلمين لأداء الصلاة فيه، قال الزركشي رحمه الله: ((ولَمّا كان السجود أشرف أفعال الصلاة، لقرب العبد من ربه، اشتق اسم المكان منه فقيل: مسجد، ولم يقولوا: مركع، ثم إن العُرف خصص المسجد بالمكان المهيّأ للصلوات الخمس، حتى يخرج المُصلّى المجتمع فيه للأعياد ونحوها، فلا يُعطى حكمه)) (¬2). والمسجد في الاصطلاح الشرعي: المكان الذي أُعِدّ للصلاة فيه على الدّوام (¬3)، وأصل المسجد شرعاً: كل موضع من الأرض يُسجد لله فيه (¬4)؛لحديث جابر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( ... وجُعِلَت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيُّما رجل من أمّتي أدركته الصلاة، فليصلّ)) (¬5)، وهذا من خصائص نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - وأمّته، وكانت الأنبياء قبله إنما أُبيحت لهم الصلاة في مواضع مخصصة: كالبِيَع والكنائس (¬6). وقد ثبت في حديث أبي ذرّ - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (( ... وأينما ¬

(¬1) انظر: لسان العرب لابن منظور، باب الدّال، فصل الميم،3/ 204 - 205،وسبل السلام، للصنعاني، 2/ 179. (¬2) إعلام الساجد بأحكام المساجد، ص27 - 28، وانظر: مشارق الأنوار للقاضي عياض 2/ 207، ومفردات ألفاظ القرآن، للأصفهاني، ص397، ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للملا علي القاري، 10/ 12، وشرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 11/ 3635. (¬3) معجم لغة الفقهاء، للأستاذ الدكتور/ محمد رواس، ص397. (¬4) انظر: إعلام الساجد بأحكام المساجد، للزركشي، ص27. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب التيمم، بابٌ: حدثنا عبد الله بن يوسف، برقم 335، ومسلم، كتاب المساجد، باب المساجد ومواضع الصلاة، برقم 521. (¬6) انظر: المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 2/ 117.

أما الجامع: فهو نعت للمسجد

أدركتك الصلاة فصلّ، فهو مسجد)) (¬1)، قال الإمام النووي رحمه الله: ((فيه جواز الصلاة في جميع المواضع إلا ما استثناه الشرع من الصلاة: في المقابر، وغيرها من المواضع التي فيها النجاسة: كالمزبلة، والمجزرة، وكذا ما نُهِيَ عنه لمعنى آخر: فمن ذلك أعطان الإبل، ... ومنه قارعة الطريق، والحمام، وغيرها؛ لحديث ورد فيها)) (¬2). أما الجامع: فهو نعت للمسجد، سمّي بذلك؛ لأنه يجمع أهله؛ ولأنه علامة للاجتماع، فيقال: المسجد الجامع، ويجوز: ((مسجد الجامع)) بالإضافة، بمعنى: مسجد اليوم الجامع (¬3)، ويقال للمسجد الذي تُصلَّى فيه الجمعة، وإن كان صغيراً؛ لأنه يجمع الناس في وقت معلوم. 2 - فضل المساجد وشرفها: لأهميّة المساجد، ومكانتها وفضلها، ذكرها الله - عز وجل - في كتابه في ثمانية عشر موضعاً (¬4). ولمكانتها العالية وعظم منزلتها عند الله تعالى أضافها إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم؛ فإن المضاف إلى الله - عز وجل - نوعان: صفات لا تقوم بأنفسها: كالعلم، والقدرة، والكلام، والسمع، والبصر، فهذه إضافة صفة إلى الموصوف بها، فعلمه، وكلامه، وقدرته، وحياته، ووجهه، ويده، صفاتٌ له لا يشبهه فيها أحد من خلقه، وهي تليق به - عز وجل -. والنوع الثاني: إضافة أعيان منفصلة عنه، كالبيت، والناقة، والعبد، والرسول، والروح، فهذه إضافة مخلوق إلى خالقه، لكنها إضافة تقتضي تخصيصاً وتشريفاً يتميز بها المضاف عن غيره (¬5). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الأنبياء، بابٌ: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} برقم 425، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب المساجد ومواضع الصلاة، برقم 520. (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 5. (¬3) انظر: لسان العرب، لابن منظور، فصل الجيم، باب العين،8/ 55. (¬4) انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، لمحمد فؤاد عبد الباقي، ص345. (¬5) انظر: شرح العقيدة الطحاوية، ص442، والكواشف الجلية عن معاني الواسطية للسلمان، 242.

والله - عز وجل - أضاف المساجد إلى نفسه إضافة تشريف، وفضل، كقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ الله أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (¬1). وكقوله - عز وجل -: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (¬2).وقوله - سبحانه وتعالى -: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لله فَلا تَدْعُوا مَعَ الله أَحَدًا} (¬3). مع أن جميع البقاع وما فيها ملك لله - عز وجل -، فهو خالق كل شيء ومالكه، ولكن المساجد لها ميزة وشرف؛ لأنها تختص بكثير من العبادات، والطاعات، والقربات، فليست المساجد لأحد سوى الله، كما أن العبادة التي كلف الله بها عباده لا يجوز أن تصرف لأحد سواه (¬4). ومن هذه الإضافة ما أضافه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الله إضافة تشريف بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده)) (¬5). ومما يدل على فضل المساجد، ومكانتها قول الله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ الله كَثِيرًا} (¬6). فالجهاد شُرع لإعلاء كلمة الله، والمساجد هي أفضل البقاع التي تُرْفَع فيها كلمة التوحيد، وتُؤَدَّى فيها أعظم الفرائض بعد الشهادتين، ولهذا كان الدفاع عنها واجباً على المسلمين، فقوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} قال الإمام ابن جرير رحمه الله: ((أولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 114. (¬2) سورة التوبة، الآية: 18. (¬3) سورة الجن، الآية: 18. (¬4) انظر: فصول ومسائل تتعلق بالمساجد، للدكتور العلامة، عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، ص5، والأثر التربوي للمسجد، للدكتور العلامة صالح بن غانم السدلان، ص4،والمشروع والممنوع في المسجد، للشيخ محمد بن علي العرفج، ص6. (¬5) مسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، برقم 2699. (¬6) سورة الحج، الآية: 40.

أخبر أنه لولا دفاعه الناس بعضهم ببعض، لهدم ما ذكر، من دفعه تعالى ذكره بعضهم ببعض، وكفه المشركين بالمسلمين عن ذلك، ومنه كفه ببعضهم التظالم: كالسلطان الذي كف به رعيته عن التظالم بينهم، ومنه كفُّه لمن أجاز شهادته بينهم بعضهم عن الذهاب بحق من له قبله حق، ونحو ذلك ... )) (¬1). وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: ((أي لولا أنه يدفع بقوم عن قوم، ويكفّ شرور أناس عن غيرهم بما يخلقه ويقدره من الأسباب، لفسدت الأرض، ولأهلك القوي الضعيف)) (¬2). وقال الإمام البغوي رحمه الله: ((ومعنى الآية ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض بالجهاد، وإقامة الحدود، لهدم في شريعة كل نبي مكان صلاتهم، لهدم في زمن موسى الكنائس، وفي زمن عيسى البيع والصوامع، وفي زمن محمد - صلى الله عليه وسلم - المساجد)) (¬3). وقيل: الضمير في قوله تعالى: {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ الله كَثِيرًا} عائد إلى المساجد؛ لأنها أقرب المذكورات، قال الإمام ابن جرير رحمه الله: ((وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: لهدّمت صوامع الرهبان، وبيع النصارى، وصلوات اليهود وهي كنائسهم، ومساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم الله كثيراً)) (¬4). ومن دافع عن المساجد ونصر دين الله نصره الله تعالى، كما قال - عز وجل -: {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (¬5). ثم بيَّن الله - عز وجل - صفات ناصريه (¬6)، فقال: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا ¬

(¬1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 18/ 647. (¬2) تفسير القرآن العظيم، ص901. (¬3) تفسير البغوي، 3/ 290. (¬4) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 18/ 650، وانظر: تفسير ابن كثير، ص901. (¬5) سورة الحج، الآية: 40. (¬6) تفسير البغوي، 3/ 289.

الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلله عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (¬1). ولعظم فضل المساجد جعل الله - عز وجل - من أقبح القبائح، وأعظم الظلم المنع من عمارتها، فقال - عز وجل -: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ الله أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} (¬2). ولا شك أن الله - عز وجل - نسخ جميع الشرائع السابقة كلها بالإسلام، فبعد هذا النسخ يتعين منع عمارة الكنائس، والصوامع، والبيع، وجميع المعابد، ويجب إظهار هذه المساجد ورفعها، والعناية بها، لقوله - عز وجل - (¬3): {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (¬4) والله المستعان (¬5). وفضل المساجد ثبت فيه حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أَحَبُّ البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها)) (¬6). قال الإمام النووي - رحمه الله -: ((أحبّ البلاد إلى الله مساجدها))؛ لأنها بيوت الطاعات، وأساسها على التقوى، ((وأبغض البلاد إلى الله أسواقها))؛ لأنها محل الغش، والخداع، والربا، والأيمان الكاذبة، وإخلاف الوعد، والإعراض عن ذكر الله، وغير ذلك مما في معناه)) (¬7). وقال الإمام القرطبي - رحمه الله -: ((أحبّ البلاد إلى الله مساجدها)) أي أحب بيوت البلاد، أو بقاعها، وإنما كان ذلك لما خُصَّت به من العبادات، والأذكار، واجتماع المؤمنين، وظهور شعائر الدين، وحضور الملائكة، وإنما كانت الأسواق أبغض البلاد إلى الله؛ لأنها مخصوصة ¬

(¬1) سورة الحج، الآية: 41. (¬2) سورة البقرة، الآية: 114. (¬3) انظر: فصول ومسائل تتعلق بالمساجد، للعلامة عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، ص6. (¬4) سورة النور، الآية: 36. (¬5) انظر تفسير ابن كثير، ص109. (¬6) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل الجلوس في المصلى بعد الصبح وفضل المساجد، برقم 671. (¬7) شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 177.

3 - أفضل المساجد: المساجد الثلاثة

بطلب الدنيا، ومطالب العباد، والإعراض عن ذكر الله؛ ولأنها مكان الأيمان الفاجرة، وهي معركة الشيطان، وبها يركز رايته)) (¬1). 3 - أفضل المساجد: المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمسجد الأقصى؛ لحديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع في الأرض أوَّل؟ قال: ((المسجد الحرام)). قلت: ثم أيُّ؟ قال: ((المسجد الأقصى)). قلت: كم بينهما؟ قال: ((أربعون سنة، وأينما أدركتك الصلاة فصلّ، فهو مسجد)) (¬2). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نزل الحجر الأسود من الجنة، وهو أشد بياضاً من اللبن، فسوَّدته خطايا بني آدم)). ولفظ ابن خزيمة: (( .. أشد بياضاً من الثلج)) (¬3). وعنه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((والله ليبعثنه الله يوم القيامة، له عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، يشهد على من استلمه بحق)) (¬4). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)). ولفظ مسلم: ((صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)) (¬5). والصواب أن الصلاة في المسجد الحرام تضاعف داخل ¬

(¬1) المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم، 2/ 294. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأنبياء، باب {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} برقم 425، وبرقم 3366،ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب المساجد ومواضع الصلاة، برقم 520. (¬3) الترمذي، وقال: حسن صحيح، كتاب الحج، باب ما جاء في فضل الحجر الأسود والركن والمقام، برقم 877، وابن خزيمة في صحيحه، 4/ 220، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي،1/ 631،وحسنه الأرنؤوط في جامع الأصول،9/ 275. (¬4) الترمذي، كتاب الحج، باب ما جاء في الحجر الأسود، برقم 961، وابن خزيمة، 4/ 20، وأحمد، 1/ 266، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 284، ورواه الحاكم، 1/ 457، وصححه ووافقه الذهبي. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجدي مكة والمدينة، برقم 1190، ومسلم، كتاب الحج، باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة، برقم 1394.

4 - مسجد قباء أفضل المساجد بعد المساجد الثلاثة

الحرم كله (¬1). وعن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه)) (¬2). وقد جاء: ((والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة)) (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تشدّ الرّحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، والمسجد الأقصى)). ولفظ البخاري: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومسجد الأقصى)) (¬4). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي)) (¬5). 4 - مسجد قباء أفضل المساجد بعد المساجد الثلاثة؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتي مسجد قباء كل سبتٍ ماشياً وراكباً)). وكان عبد الله بن عمر يفعله. وفي لفظ لمسلم: ((كان رسول الله ¬

(¬1) انظر: مجموع فتاوى الإمام ابن باز، 12/ 230. (¬2) ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في فضل الصلاة في المسجد الحرام ومسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 1406، وأحمد، 3/ 343، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 236، وإرواء الغليل، 4/ 341. (¬3) جاء من حديث أبي الدرداء عند البزار، وابن عبد البر، والبيهقي في الشعب، وحسنه البزار، ونقله ابن حجر في الفتح، 3/ 67، ولم يتعقبه بشيء، ولم يتضح للألباني فتوقف عنه في إرواء الغليل، 4/ 342، وانظر: التكميل لما فات تخريجه من إرواء الغليل، لمعالي الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، ص48. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، برقم 1189، ومسلم، كتاب الحج، باب فضل المساجد الثلاثة، برقم 1397. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل ما بين القبر والمنبر، برقم 1196، ومسلم، كتاب الحج، باب فضل مابين قبره - صلى الله عليه وسلم - ومنبره، وفضل موضع منبره، برقم 1391.

5 - فضل بناء المساجد وعمارتها

- صلى الله عليه وسلم - يأتي مسجد قباء، راكباً، وماشياً، فيصلي فيه ركعتين)) (¬1). وعن سهل بن حنيف - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من تطهّر في بيته، ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة كان له كأجر عمرة)) (¬2). وعن أسيد بن ظُهير الأنصاري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((الصلاة في مسجد قباءٍ كعُمرة)) (¬3). وهذا لمن لم يشدَّ الرحال، وإنما زار مسجد قباء من المدينة، أو قدم للمدينة ثم أراد زيارة قباء، أما شدُّ الرحال فلا يجوز إلا للمساجد الثلاثة كما تقدم آنفاً. 5 - فضل بناء المساجد وعمارتها، جاء فيه نصوص كثيرة تدل على العناية بها، كقول الله - عز وجل -: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (¬4). وتكون عمارة المساجد ببنائها، وتنظيفها، وفرشها، وإنارتها، كما تكون عمارتها: بالصلاة فيها، وكثرة التردد عليها لحضور الجماعات، وتعلم وتعليم العلوم النافعة، وأعظم العلم النافع تعلُّم القرآن وتعليمه، وغير ذلك من أنواع الطاعات (¬5)، وإخلاص هذه ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب من أتى مسجد قباء كل سبت، برقم 1193،ومسلم، كتاب الحج، باب فضل مسجد قباء وفضل الصلاة فيه، برقم 1399. (¬2) النسائي، كتاب المساجد، باب فضل مسجد قباء والصلاة فيه، برقم 700، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في الصلاة في مسجد قباء، برقم 1412، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 150، وصحيح ابن ماجه، 1/ 237. (¬3) الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في الصلاة في مسجد قباء، برقم 324، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الصلاة في مسجد قباء، برقم 1411، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 1/ 104، وصحيح ابن ماجه، 1/ 237. (¬4) سورة التوبة، الآية: 18. (¬5) انظر: مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني، ص586، وجامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 14/ 165، وتفسير البغوي، 2/ 174، وتفسير السعدي، ص291.

العبادات كلها لله تعالى، كما قال - عز وجل -: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لله فَلا تَدْعُوا مَعَ الله أَحَدًا} (¬1). وقال الله - عز وجل -: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالآصَالِ، رِجَالٌ لاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ، لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ وَالله يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬2). وقوله تعالى: {أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ}: أي أمر الله - عز وجل - ببنائها، ورفعها، وأمر بعمارتها، وتطهيرها، وقيل: أمر الله بتعاهدها، وتطهيرها من الدنس، واللغو، والأقوال، والأفعال التي لا تليق فيها (¬3). وذكر الإمام الطبري رحمه الله أن معنى: {أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ} أي: أذن الله أن تُبنى، وقال بعضهم: ((أذن الله أن تعظم ... )).ثم رجح القول الأول فقال: ((وأولى القولين عندي بالصواب القول الذي قاله مجاهد، وهو أن معناه: أذن الله أن ترفع بناءً، كما قال جل ثناؤه: {وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} (¬4). وذلك أن هذا هو الأغلب في معنى الرفع في البيوت والأبنية)) (¬5). وقال العلامة السعدي - رحمه الله -: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} هذا مجموع أحكام المساجد، فيدخل في رفعها: بناؤها، وكنسها، وتنظيفها من النجاسات والأذى، وصونها من المجانين والصبيان، الذين لا يتحرزون من النجاسات، وعن الكافر، وأن تصان عن اللغو فيها، ورفع الأصوات بغير ذكر الله)) (¬6). ¬

(¬1) سورة الجن، الآية: 18. (¬2) سورة النور، الآيات: 36 - 38. (¬3) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ص943. (¬4) سورة البقرة، الآية: 127. (¬5) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 19/ 190، وانظر: تفسير البغوي 3/ 347. (¬6) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للعلامة السعدي، ص518.

وعن عمرو بن ميمون - رحمه الله - قال: ((أدركت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم يقولون: المساجد بيوت الله، وإنه حق على الله أن يكرم من زاره)) (¬1). وقد حثّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على بناء المساجد ورغَّب في ذلك، فعن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من بنى مسجداً)) قال بكير: حسبت أنه قال: ((يبتغي به وجه الله)) ((بنى الله له مثله في الجنة)). ولفظ مسلم: ((من بنى مسجداً لله)) قال بكير: حسبت أنه قال: ((يبتغي به وجه الله تعالى، بنى الله له بيتاً في الجنة)) (¬2). وذكر ابن حجر رحمه الله أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من بنى مسجداً)) التنكير فيه للشيوع فيدخل فيه الكبير والصغير)) (¬3). ووقع في رواية أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من بنى لله مسجداً صغيراً أو كبيراً بنى الله له بيتاً في الجنة)) (¬4). وجاء من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من بنى لله مسجداً ولو قدر مفحص قطاة (¬5) بنى الله له بيتاً في الجنة)) (¬6). قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله -: ((وحمل أكثر العلماء ذلك على ¬

(¬1) أخرجه ابن جرير في جامع البيان، 19/ 189. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب من بنى مسجداً، برقم 450، ومسلم، كتاب الصلاة، باب فضل بناء المساجد، والحث عليها، برقم 533. (¬3) فتح الباري، لابن حجر، 1/ 545. (¬4) الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في فضل بنيان المسجد، برقم 319، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 110. (¬5) مفحص قطاة: القطاة: واحدة القطا، وهو طائر معروف ببطء سيره، والمفحص من الفحص: أي الحفر، والمراد هنا: الموضع الذي تحفره لترقد فيه فتضع فيه بيضها. وانظر: الترغيب والترهيب للمنذري، 1/ 262. (¬6) البزار بلفظ [مختصر زوائد البزار على الكتب الستة ومسند أحمد، لابن حجر، 1/ 210 برقم 260]، والطبراني في المعجم الصغير [مجمع البحرين، 1/ 441، برقم 578]، وابن حبان [الإحسان، 4/ 490، برقم 1610]، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 2/ 7: ((رواه البزار والطبراني في الصغير، ورجاله ثقات))، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 8/ 109.

المبالغة؛ لأن المكان الذي تفحص القطاة عنه؛ لتضع فيه بيضها، وترقد عليه لا يكفي مقداره للصلاة فيه، وقيل: هو على ظاهره، والمعنى أن يزيد في مسجد قدراً يحتاج إليه تكون تلك الزيادة هذا القدر، أو يشترك جماعة في بناء مسجد، فتقع حصة كل واحد منهم ذلك القدر، وهذا كله بناء على أن المراد بالمسجد ما يتبادر إلى الذهن، وهو المكان الذي يتخذ للصلاة فيه، فإن كان المراد بالمسجد موضع السجود وهو ما يسع الجبهة فلا يحتاج إلى شيء مما ذكر، لكن قوله: ((بنى)) يشعر بوجود بناء على الحقيقة، ويؤيده قوله في رواية أم حبيبة رضي الله عنها: ((من بنى لله بيتاً)) أخرجه سمويه في فوائده بإسناد حسن ... لكن لا يمنع إرادة الآخر مجازاً إذ بناء كل شيء بحسبه، وقد شاهدنا كثيراً من المساجد في طرق المسافرين يحوطونها إلى جهة القبلة، وهي في غاية الصغر، وبعضها لا تكون أكثر من قدر موضع السجود، وروى البيهقي في الشعب من حديث عائشة نحو حديث عثمان، وزاد: قلت: وهذه المساجد التي في الطرق؟ قال: نعم، وللطبراني نحوه من حديث أبي قرصافة وإسنادهما حسن)) (¬1). أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من بنى مسجداً لله)) فمعناه: ((أي مخلصاً في بنائه لله تعالى)) (¬2). وذكر ابن حجر رحمه الله عن ابن الجوزي - رحمه الله - أنه قال: ((من كتب اسمه على المسجد الذي يبنيه كان بعيداً من لإخلاص)) (¬3). ومن بناه بالأجرة لا يحصل له هذا الوعد المخصوص؛ لعدم الإخلاص، وإن كان يؤجر في الجملة على حسب إخلاصه، لكن الإخلاص الكامل لا يحصل إلا من المتطوع (¬4). أما قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عثمان - رضي الله عنه -: ((بنى الله له مثله في الجنة)) فقال ¬

(¬1) فتح الباري شرح صحيح البخاري، 1/ 545. (¬2) المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 2/ 130. (¬3) فتح الباري شرح صحيح البخاري، 1/ 545. (¬4) فتح الباري شرح صحيح البخاري، 1/ 545.

6 - تنظيف المساجد، وتطييبها، وصيانتها

القرطبي - رحمه الله -: ((هذه المثلية ليست على ظاهرها ... وإنما يعني أنه بنى له بثوابه بناءً أشرف وأعظم، وأرفع)) (¬1). وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى -: ((يحتمل قوله: ((مثله)) أمرين: أحدهما أن يكون معناه: بنى الله تعالى له مثله في مسمى البيت، وأما صفته في السعة وغيرها فمعلوم فضلها أنها مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. الثاني: ((أن معناه أن فضله على بيوت الجنة كفضل المسجد على بيوت الدنيا)) (¬2). وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله -: ((ومن الأجوبة المرضية، أيضاً أن المثلية هنا بحسب الكمية، والزيادة حاصلة بحسب الكيفية، فكم من بيت خير من عشرة بل من مائة)) (¬3).وهذا هو الاحتمال الأول عند النووي. ولا شك أن التفاوت حاصل قطعاً بالنسبة إلى ضيق الدنيا، وسعة الجنة؛ لأن موضع شبر فيها خير من الدنيا وما فيها (¬4). وجاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علماً علَّمه ونشره، وولداً صالحاً تركه، ومصحفاً ورَّثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه من بعد موته)) (¬5). 6 - تنظيف المساجد، وتطييبها، وصيانتها؛ لحديث عائشة رضي الله عنها ¬

(¬1) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 2/ 130. (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 18. (¬3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 1/ 546. (¬4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري،1/ 546. (¬5) ابن ماجه، المقدمة، باب من بلغ علماً، برقم 242، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 111.

قالت: ((أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببناء المساجد في الدور (¬1) وأن تنظف، وتطيب)) (¬2). وعن سمرة - رضي الله عنه - أنه كتب إلى ابنه: ((أما بعد، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمرنا بالمساجد أن نصنعها في دورنا، ونصلح صنعتها، ونطهرها)) (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلاً أسودَ أو امرأة سوداء كان يقمُّ المسجد (¬4) فمات ولم يعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بموته، فذكره ذات يوم، فقال: ((ما فعل ذلك الإنسان))؟ قالوا: مات يا رسول الله، قال: ((أفلا آذنتموني))؟ فقالوا: إنه كان كذا وكذا قصته، قال: فحقروا شأنه، قال: ((دلّوني على قبره)) أو قال: ((على قبرها)) فأتى قبرها فصلى عليها، [ثم قال: ((إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله - عز وجل - ينوّرها لهم بصلاتي عليهم)) (¬5)]. وعن أنس - رضي الله عنه - قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مه، مه (¬6)؟ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزرموه (¬7) دعوه)) فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاه فقال له: ((إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر، إنما هي لذكر الله ¬

(¬1) بناء المساجد في الدور: قال سفيان: يعني في القبائل، جامع الأصول لابن الأثير 11/ 208. (¬2) أحمد في المسند، 6/ 279، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب اتخاذ المساجد في الدور، برقم 455، والترمذي، كتاب الجمعة، باب ما ذكر في تطييب المساجد، برقم 594، وابن ماجه، كتاب المساجد والجماعات، برقم 758، 759، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 92. (¬3) أبو داود، كتاب الصلاة، باب اتخاذ المساجد في الدور، برقم 456، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 92. (¬4) قَمُّ المسجد: هو كنسه. الترغيب والترهيب للمنذري، 1/ 268. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب كنس المسجد والتقاط الخرق، والأذى، والعيدان، برقم 458، وكتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر بعدما يدفن، برقم 1337، ومسلم كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر، برقم 956، وما بين المعقوفين من رواية مسلم. (¬6) مَهْ مَهْ: معناه اكفف، وهي كلمة زجر قيل: أصلها ما هذا؟ ثم حذف تخفيفاً، وتقال مكررة ومفردة. انظر: نيل الأوطار للشوكاني، 1/ 82. (¬7) لا تزرموه: أي لا تقطعوا عليه بوله. شرح السنة للبغوي، 2/ 401.

7 - يبتعد المسلم عن الروائح الخبيثة إذا ذهب إلى المسجد

- عز وجل - والصلاة، وقراءة القرآن)) أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلوٍ من ماءٍ فشنَّه (¬1) عليه)) (¬2). وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((البزاق في المسجد خطيئة، وكفَّارتها دفنه)). وفي لفظ لمسلم: ((التفل في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها)) (¬3). وعن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((عُرضت عليّ أعمال أمتي: حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها، الأذى يُماط عن الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة (¬4) تكون في المسجد ولا تدفن)) (¬5). قال الإمام النووي رحمه الله: ((هذا ظاهر أن هذا القبح أو الذم لا يختص بصاحب النخاعة بل يدخل فيه هو، وكل من رآها ولا يزيلها بدفن أو حكٍّ، ونحوه)) (¬6). 7 - يبتعد المسلم عن الروائح الخبيثة إذا ذهب إلى المسجد؛ لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلْنا، أو ليعتزلْ مسجدَنا، وليقعدْ في بيته)). وفي لفظ لمسلم: ((فإن الملائكة تتأذَّى مما يتأذَّى منه بنو آدم)) (¬7). ¬

(¬1) شنَّه عليه: أي صبه عليه. المرجع السابق، 2/ 401. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الوضوء، بابٌ: صب الماء على البول في المسجد، برقم 221، ومسلم واللفظ له، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد، وأن الأرض تطهر بالماء من غير حاجة إلى حفرها، برقم 285. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب كفارة البزاق في المسجد، برقم 415، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن البصاق في المسجد، في الصلاة وغيرها، والنهي عن بصاق المصلي بين يديه وعن يمينه، برقم 552. (¬4) النخاعة: البزقة التي تخرج من أصل الفم مما يلي أصل النخاع. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، باب النون مع الخاء، 5/ 33. (¬5) مسلم، كتاب المساجد، باب النهي عن البصاق في المسجد، برقم 553. (¬6) شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 45. (¬7) متفق عليه: البخاري، برقم 855، ومسلم، برقم 564، وتقدم تخريجه في مكروهات الصلاة.

8 - فضل المشي إلى المساجد دلت عليه الأدلة الصحيحة الصريحة

وخطب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الناس في آخر حياته، وقال: ((إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين، هذا البصل والثوم، لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأُخرج، فمن أكلهما فليمتهما طبخاً)) (¬1). 8 - فضل المشي إلى المساجد دلت عليه الأدلة الصحيحة الصريحة، ومن هذه الفضائل: أن من تعلق قلبه بالمساجد يكون في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله، المشي إلى المساجد تُرفع به الدرجات، وتُحطّ الخطايا، وتُكتب الحسنات؛ والذاهب إليها في صلاة حتى يرجع إلى بيته، وإذا أسبغ الوضوء ثم ذهب إليها غفر الله له ذنوبه، وإذا غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة ضيافة كلما غدا أو راح؛ والمشي إلى المساجد لأداء صلاة الجماعة من أسباب سعادة الدنيا والآخرة. وغير ذلك من الفضائل (¬2). 9 - المساجد يجب أن تقام الجماعة فيها، ولا يجوز للرجال فعلها إلا في المسجد، والأدلة على ذلك هي البراهين الدالة على وجوب صلاة الجماعة، وأنها فرض عين (¬3) ولكن إذا لم يتيسر مسجد أو كان المسجد بعيداً لا يُسمع الأذان منه أو كان الجماعة في سفر، فإن الجماعة تجب على من يستطيع أن يجدها، وعليهم أن يصلوا في مكان طاهر؛ لحديث جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أُعطيت خمساً لم يُعطهنّ أحد قبلي: نُصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعِلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلّ، وأحلت لي الغنائم ولم تُحلّ لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة وبُعثتُ إلى ¬

(¬1) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، برقم 566. (¬2) تقدمت أدلة هذه الفضائل في فضل المشي إلى صلاة الجماعة. (¬3) تقدمت الأدلة على ذلك في حكم صلاة الجماعة.

10 - تحريم اتخاذ القبور مساجد

الناس عامة)) (¬1). قال الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: ((من تأمل السنة حق التّأمُّل تبين له أن فعلها في المساجد فرض على الأعيان، إلا لعارض يجوز معه ترك الجمعة والجماعة، فترك حضور المسجد لغير عذر كترك أصل الجماعة لغير عذر، وبهذا تتفق جميع الأحاديث والآثار ... فالذي ندينُ الله به أنه لا يجوز لأحد التخلف عن الجماعة في المسجد إلا من عذر، والله أعلم بالصواب)) (¬2). 10 - تحريم اتخاذ القبور مساجد، لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (¬3)؛ ولحديث عائشة وابن عباس - رضي الله عنهم - قالا: ((لَمّا نزل (¬4) برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق (¬5) يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها (¬6) كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: ((لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا)) (¬7). وعن جُندب - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس وهو يقول: ((إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت مُتخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب التيمم، بابٌ: حدثنا عبد الله بن يوسف، برقم 335، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب المساجد ومواضع الصلاة برقم521. (¬2) كتاب الصلاة، لابن القيم، ص89. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، بابٌ: حدثنا أبو اليمان، برقم 436، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور برقم530. (¬4) نزل: أي نزل ملك الموت برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬5) طفق: جعل. (¬6) اغتم: أي تغطَّى بها. انظر: المصباح المنير للفيومي، 454. (¬7) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، بابٌ: حدثنا أبو اليمان، برقم 436، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، برقم 531.

11 - دخول الكافر المسجد عند الحاجة بدون ضرر أو أذى

مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)) (¬1). وعن عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهن ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فَذَكرتا للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((إنَّ أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً، وصوَّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله - عز وجل - يوم القيامة)) (¬2). 11 - دخول الكافر المسجد عند الحاجة بدون ضرر أو أذى؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خيلاً قِبَلَ نجدٍ فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أطلقوه)) فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله (¬3).وهذا يدل على جواز دخول المشرك المسجد إذا كان له فيه حاجة، أما المسجد الحرام فلا (¬4).وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((وهذا فيه شاهد على جواز ربط الكافر في المسجد، ويدل على جواز دخول الكافر المدينة المنورة، فليست كمكة عند الحاجة، وفيه دليل على جواز دخول الكافر المسجد للحاجة، فإذا جاز دخوله مسجد المدينة فالمساجد الأخرى من باب أولى ما عدا مكة)) (¬5). ¬

(¬1) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد، برقم 532. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد، برقم 427، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها، والنهي عن اتخاذ القبور مساجد، برقم 528. (¬3) متفق عليه: البخاري واللفظ له، كتاب الصلاة، باب الاغتسال إذا أسلم وربط الأسير أيضاً في المسجد، برقم 462، وباب دخول المشرك المسجد، برقم 469، ومسلم، كتاب الجهاد، باب ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه، برقم 1764. (¬4) انظر: سبل السلام للصنعاني، 2/ 185. (¬5) سمعته من سماحته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 265.

12 - جواز إنشاد الشعر الحكيم النافع في المسجد

12 - جواز إنشاد الشعر الحكيم النافع في المسجد؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن عمر - رضي الله عنه - مرّ بحسان - رضي الله عنه - وهو ينشد الشعر في المسجد، فلحظ إليه (¬1) فقال: قد كنت أنشدُ وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: أنشدك الله أسمعت رسول الله يقول: ((أجب عني اللهم أيّده بروح القدس)) (¬2) قال: اللهم نعم (¬3). وفي هذا الحديث دلالة على جواز إنشاد الأشعار التي تدعو إلى الخير في المسجد؛ لما في ذلك من الأثر العظيم في النفوس، وتشجيع أهل الحق، أما ما جاء من أحاديث النهي عن تناشد الأشعار في المسجد، فالنهي محمول على تناشد أشعار الجاهلية، وأهل البطالة، فالمأذون فيه ما سلم من ذلك، وقيل: المأذون فيه: مشروط بأن لا يكون ذلك مما يشغل مَن في المسجد (¬4). 13 - تحريم السؤال عن الضالة في المسجد؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من سمع رجلاً ينشد ضالة (¬5) في المسجد فليقل: لا ردّها الله عليك؛ فإن المساجد لم تُبنَ لهذا)) (¬6). وعن بريدة - رضي الله عنه - أن رجلاً نشد في المسجد فقال: من دعا (¬7) إلى الجمل الأحمر؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا وجدتَ إنما بُنيت المساجد لِمَا بُنيت له)) (¬8). ¬

(¬1) لحظ إليه: نظر إليه وكأن حسان فهم منه نظر الإنكار. سبل السلام، 2/ 187. (¬2) روح القدس: جبريل - عليه السلام -. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب الشعر في المسجد، برقم 453، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل حسان بن ثابت - رضي الله عنه -، برقم 2485. (¬4) انظر: سبل السلام للصنعاني، 2/ 187. (¬5) ينشُدُ: من نشدت إذا طلبت، ومنه قوله: ((نشد)) شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 58. (¬6) مسلم، كتاب المساجد، باب النهي عن نشد الضالة في المسجد وما يقوله من سمع الناشد، برقم 568. (¬7) من دعا إلى الجمل الأحمر: أي من وجد ضالتي وهو الجمل الأحمر فدعاني إليه. انظر: جامع الأصول لابن الأثير، 11/ 204. (¬8) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن نشد الضالة في المسجد وما يقوله من سمع الناشد، برقم 569.

14 - تحريم البيع والشراء في المساجد

دلّ هذان الحديثان على النهي عن نشد الضالة في المسجد، ويلحق به ما في معناه: من البيع والشراء، والإجارة، ونحوها من العقود، وكراهة رفع الصوت في المسجد، والدعاء عليه: عقوبة له على مخالفته وعصيانه، وينبغي لسامعه أن يقول: لا وجدت فإن المساجد لم تبن لهذا، أو يقول: لا وجدت إنما بنيت المساجد لما بنيت له (¬1). والضالة: الضائعة، ونشدها طلبها والسؤال عنها (¬2). 14 - تحريم البيع والشراء في المساجد؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع (¬3) في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة فقولوا: لا ردّ الله عليك)) (¬4). والحديث يدل على تحريم البيع والشراء في المسجد، وأنه ينبغي لمن رأى ذلك أن يقول لكل من البائع والمشتري: لا أربح الله تجارتك، جهراً للفاعل (¬5) هذا فيه تعزير بالدعاء، والعلة في قوله فيما سلف: ((فإن المساجد لم تبن لذلك)). 15 - لا تقام الحدود في المساجد ولا يستقاد فيها؛ لحديث حكيم بن حزام - رضي الله عنه - أنه قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستقاد في المسجد، وأن تنشد فيه الأشعار، وأن تقام فيه الحدود)) (¬6). ¬

(¬1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 58 - 59. (¬2) انظر: جامع الأصول، لابن الأثير، 11/ 203. (¬3) يبتاع: أي يشتري. سبل السلام للصنعاني، 2/ 189. (¬4) الترمذي، بلفظه، كتاب البيوع، باب النهي عن البيع في المسجد، برقم 1321، والنسائي في عمل اليوم والليلة، برقم 176، وابن السني في عمل اليوم والليلة برقم 154، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 2/ 56،وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي،2/ 34،وفي إرواء الغليل، برقم 1495. (¬5) انظر: سبل السلام للصنعاني، 2/ 189. (¬6) أبو داود، كتاب الحدود، باب في إقامة الحد في المسجد، برقم 4490، بلفظه، وأحمد في المسند، 3/ 34، والحاكم في المستدرك، 4/ 378، والدارقطني في السنن، 3/ 86، برقم 14، والبيهقي في السنن الكبرى، 8/ 328، وعزاه ابن حجر في التلخيص الحبير إلى ابن السكن، وضعف إسناده الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام، وقال في التلخيص الحبير، 4/ 78: ((لا بأس بإسناده))، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 3/ 850.

16 - النوم والأكل والسكن وبقاء المريض في المسجد

والحديث يدلّ على تحريم إقامة الحدود في المساجد، وعلى تحريم الاستقادة فيها (¬1)، أما الأشعار التي لا تجوز في المساجد فهي أشعار الجاهلية، وأهل المعاصي، بخلاف الأشعار التي تدعو إلى الفضيلة فلا بأس بها. وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز -رحمه الله - يقول: ((الحديث وإن كان ضعيفاً لكن معناه تشهد له الأدلة الأخرى؛ فإن إقامة الحدود في المساجد قد تلوثها عند الضرب أو القطع، فيحصل تلويث المسجد بالبول أو غيره)) (¬2). 16 - النوم والأكل والسكن وبقاء المريض في المسجد؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((أصيب سعد يوم الخندق فضرب عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3) خيمة في المسجد ليعوده من قريب)) (¬4). وهذا يدل على جواز النوم في المسجد، وبقاء المريض فيه، ونصب الخيمة (¬5). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((لا بأس من اتخاذ خيمة، أو خيام في المسجد، سواء كانت للاعتكاف، أو لرجل له شأن، ليزار، أو للسكن لمن لم يكن له سكن)) (¬6). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان ينام وهو شاب أعزب لا أهل له في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬7).وعن عائشة رضي الله عنها أن وليدة سوداء كان لها خباء ¬

(¬1) انظر: سبل السلام للصنعاني، 2/ 191. (¬2) سمعته من سماحته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 269. (¬3) فضرب عليه خيمة: أي نصب عليه خيمة. سبل السلام للصنعاني، 2/ 193. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب الخيمة في المسجد للمرضى وغيرهم، برقم 463، ومسلم، كتاب الجهاد، باب جواز قتال من نقض العهد وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكم عدل أهل للحكم، برقم 1769. (¬5) انظر: سبل السلام للصنعاني،2/ 193. (¬6) سمعته من سماحته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 270. (¬7) البخاري، كتاب الصلاة، باب نوم الرجال في المسجد، برقم 440، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما برقم 2479.

17 - اللعب المباح في المسجد

في المسجد، فكانت تأتيني فتحدث عندي، قالت: فلا تجلس عندي مجلساً إلا قالت: ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا (¬1) ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني (¬2) وفي هذا دليل على إباحة المبيت، والمقيل في المسجد، لمن ليس له مسكن من المسلمين، رجلاً كان أو امرأة عند أمن الفتنة (¬3). وكان أصحاب الصفة يسكنون في المسجد؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ((رأيت سبعين من أصحاب الصفة ما منهم رجل عليه رداءٌ، إما إزار وإما كساء قد ربطوا في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن تُرى عورته)) (¬4). وعن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي - رضي الله عنه - قال: ((كنا نأكل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد الخبز واللحم)) (¬5). 17 - اللعب المباح في المسجد: ما أذن فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً على باب حجرتي والحبشة يلعبون في المسجد، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسترني بردائه، أنظر إلى لعبهم)). وفي لفظ: ((كان الحبشة يلعبون بحرابهم فيسترني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أنظر، فما زلت أنظر حتى كنت أنا أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن تسمع اللهو)) (¬6). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: بينما الحبشة ¬

(¬1) يوم الوشاح له قصة عجيبة، انظرها في صحيح البخاري، برقم 439، 3835. (¬2) البخاري، كتاب الصلاة، باب نوم المرأة في المسجد، برقم 439، وفيه قصة عجيبة!. (¬3) انظر: سبل السلام، 2/ 196. (¬4) البخاري، كتاب الصلاة، باب نوم الرجال في المسجد، برقم 442. (¬5) ابن ماجه، كتاب الأطعمة، باب الأكل في المسجد، برقم 3300، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 230. (¬6) متفق عليه: البخاري واللفظ له، كتاب الصلاة، باب أصحاب الحراب في المسجد، برقم 454، وكتاب النكاح، باب حسن المعاشرة مع الأهل، برقم 5190، وكتاب العيدين، باب الحراب والدرق يوم العيد، برقم 950، وكتاب النكاح، باب نظر المرأة إلى الجيش ونحوهم، برقم 5236، ومسلم، كتاب صلاة العيدين، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام العيد، برقم 892.

18 - تشييد المساجد، وزخرفتها، والاقتصاد في بنائها

يلعبون عند النبي - صلى الله عليه وسلم -[وفي رواية: في المسجد] دخل عمر فأهوى إلى الحصباء فحصبهم بها، فقال: ((دعهم يا عمر)) (¬1). قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: ((واللعب بالحراب ليس لعباً مجرداً، بل فيه تدريب الشجعان على مواقع الحروب، والاستعداد للعدو)) (¬2). وقال - رحمه الله -: ((واستدل به على جواز اللعب بالسلاح على طريق التواثب للتدريب على الحرب والتنشيط عليه)) (¬3). وأما نظر عائشة رضي الله عنها إلى الحبشة، وهم يلعبون وهي أجنبية ففيه دلالة على جواز نظر المرأة إلى جملة الناس من دون تفصيل لأفرادهم، كما تنظرهم إذا خرجت للصلاة في المسجد، وعند الملاقاة في الطرقات (¬4). وسمعت شيخنا الإمام ابن باز - رحمه الله - يقول: ((هذا الحديث يدل على أن نظر النساء في الجملة لا حرج فيه، كما ينظرن الرجال في الأسفار والمساجد، فالنظر العام للماشين والمصلين، واللاعبين لا يضر؛ لأنه في الغالب لا يكون مع الشهوة ... )) (¬5). 18 - تشييد المساجد، وزخرفتها، والاقتصاد في بنائها، جاء في النهي عن تشييد المساجد وزخرفتها آثار وأحاديث، وجاء في الأمر بالاقتصاد في بنائها أحاديث أخر، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس (¬6) في المساجد)). ولفظ النسائي: ((من أشراط ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب اللهو بالحراب ونحوها، برقم 2901، ومسلم، كتاب صلاة العيدين، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه، برقم 893. (¬2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 1/ 549. (¬3) المرجع السابق، 2/ 445. (¬4) انظر: سبل السلام للصنعاني، 2/ 195. (¬5) سمعته منه أثناء تقريره على بلوغ المرام لابن حجر، الحديث رقم 271. (¬6) يتباهى الناس: يتفاخرون في بناء المساجد: بالنقش والكثرة. انظر: جامع الأصول لابن الأثير، 11/ 210، ونيل الأوطار للشوكاني، 1/ 695.

الساعة أن يتباهى الناس في المساجد)) (¬1). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أمرت بتشييد (¬2) المساجد)) (¬3). قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((لتزخْرِفُنَّها كما زخرفت اليهود والنصارى (¬4))) (¬5). وقال أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه -: ((كان سقف المسجد من جريد النخل)) (¬6)، وأمر عمر - رضي الله عنه - ببناء المسجد، وقال: ((أكِنَّ الناس من المطر، وإياك أن تُحَمّر، أو تُصفّر، فتفتن الناس)) (¬7). وكأنَّ عمر - رضي الله عنه - فهم ذلك من رد النبي - صلى الله عليه وسلم - الخميصة إلى أبي جهم من أجل الأعلام التي فيها، وقال: ((إنها ألهتني عن صلاتي)) (¬8). قال ابن حجر - رحمه الله -: ((ويحتمل أن يكون عند عمر من ذلك علم)) (¬9). وقال أنس بن مالك - رضي الله عنه -: ((يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلاً)) (¬10). ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب في بناء المساجد، برقم 449، وابن ماجه، كتاب المساجد والجماعات، باب تشييد المساجد، برقم 739، والنسائي، كتاب المساجد، باب المباهاة في المساجد، برقم 689، وأحمد، 3/ 45، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 1/ 148، وصحيح سنن أبي داود، 1/ 91. (¬2) تشييد: المراد بالتشييد رفع البناء وتطويله. انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، 2/ 517، وشرح السنة للبغوي، 2/ 349. (¬3) أبو داود، كتاب الصلاة، باب في بناء المساجد، برقم 448، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 90. (¬4) الزخرفة: النقوش، وتذهيب الحيطان وتمويهها بالذهب. جامع الأصول، 11/ 209. (¬5) البخاري، كتاب الصلاة، باب بنيان المساجد، معلقاً قبل الحديث رقم 446، ووصله أبو داود، برقم 448. (¬6) البخاري موقوفاً معلقاً، كتاب الصلاة، باب بنيان المسجد، قبل الحديث رقم 446، قال الحافظ ابن حجر وهو طرف من حديثه في ليلة القدر، وقد وصله المؤلف في الاعتكاف. انظر: فتح الباري، لابن حجر، 1/ 539. (¬7) البخاري، كتاب الصلاة، باب بنيان المسجد [في ترجمة الباب]،قبل الحديث رقم 446. (¬8) البخاري، برقم 373، ومسلم، برقم 556، وتقدم تخريجه في مكروهات الصلاة. (¬9) فتح الباري، لابن حجر، 1/ 339. (¬10) البخاري، كتاب الصلاة، باب بنيان المساجد، [في ترجمة الباب] قبل الحديث رقم 446. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري، 1/ 539: ((وهذا التعليق رويناه موصولاً في مسند أبي يعلى، وصحيح ابن خزيمة، من طريق أبي قلابة، أن أنساً قال: ((سمعته يقول: ((يأتي على أمتي زمان يتباهون في المساجد، ثم لا يعمرونها إلا قليلاً)).

19 - الكلام في المسجد لا بأس به إذا كان مباحا

وسمعت شيخنا الإمام ابن باز - رحمه الله - يقول: ((زخرفة المساجد وعدم الصلاة فيها من المصائب)) (¬1). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن المسجد كان على عهد رسول الله مبنيّاً باللبن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئاً، وزاد فيه عمر وبناه على بنياه في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: باللَّبِن والجريد، وأعاد عمده خشباً، ثم غيره عثمان، فزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جداره بالحجار المنقوشة والقصة (¬2)، وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسقفه بالساج (¬3))) (¬4). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((فعل عثمان - رضي الله عنه - يدل على تحسين المسجد بالحجارة المنقوشة، والأخشاب الطيبة، والقصة يعني صبغ الجدار لا بأس بذلك، وإن كان حياة السلف أولى وأفضل، لكن إذا حسَّن الناس مساكنهم، ونفروا من البنايات القديمة، وصار ترك المسجد على حالته القديمة قد ينفرهم من الصلاة والاجتماع في المساجد، فلا بأس أن يفعل مثل ما فعل عثمان - رضي الله عنه - للترغيب في المساجد، أما للمفاخرة فلا، ويكره أن يكتب في المسجد فالأولى أن يكون سادة)) (¬5). 19 - الكلام في المسجد لا بأس به إذا كان مباحاً؛ لحديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه - وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كان لا يقوم من مصلاّه الذي صلى فيه الصبح ¬

(¬1) سمعته منه أثناء تقريره على صحيح البخاري، قبل الحديث رقم 446. (¬2) القصة: الجص بلغة أهل الحجاز. جامع الأصول لابن الأثير، 11/ 186. (¬3) الساج: نوع من الخشب معروف يؤتى به من الهند. فتح الباري، لابن حجر، 1/ 540. (¬4) البخاري، كتاب الصلاة، باب بنيان المسجد، برقم 446. (¬5) سمعته من سماحته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 274.

20 - رفع الأصوات في المساجد ممنوع

أو الغداة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس قام، وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسّم)) (¬1). ولفظ أحمد: ((شهدت النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من مائة مرة في المسجد، وأصحابه يتذاكرون الشعر وأشياء من أمر الجاهلية، فربما تبسم معهم)) (¬2). قال النووي - رحمه الله -: ((فيه جواز الضحك والتبسّم)) (¬3).وقال القرطبي -رحمه الله-: ((يمكن أن يقال: إنهم في ذلك الوقت كانوا يتكلمون؛ لأن الكلام فيه جائز غير ممنوع، إذ لم يرد في ذلك منع، وغاية ما هنالك أن الإقبال في ذلك الوقت على ذكر الله تعالى أفضل وأولى، ولا يلزم من ذلك أن يكون الكلام مطلوب الترك في ذلك الوقت، والله تعالى أعلم)) (¬4).قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله -: ((وأما الكلام الذي يحبه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد فحسن، وأما المحرَّم فهو في المسجد أشد تحريماً، وكذلك المكروه، ويكره فيه فضول المباح)) (¬5). 20 - رفع الأصوات في المساجد ممنوع؛ لأنه يشوّش على المصلين، ولو بقراءة القرآن؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: اعتكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد فسمعهم يجهرون بالقرآن، فكشف الستر وقال: ((ألا إن كلكم مناج ربَّه، فلا يؤذينَّ بعضكم بعضاً، ولا يرفع بعضكم على بعضٍ في القراءة)) أو قال: ((في الصلاة)) (¬6). ¬

(¬1) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل الجلوس في مصلاه بعد صلاة الصبح، برقم670. (¬2) أحمد بلفظه 5/ 91، والترمذي بنحوه، في كتاب الأدب، باب ما جاء في إنشاد الشعر، برقم 2850، وقال: ((حديث حسن صحيح))، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 3/ 137 [طبعة مكتبة المعارف]. (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم،5/ 177. (¬4) المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 2/ 296. (¬5) مجموع فتاوى شيخ الإسلام، ابن تيمية، 22/ 200، 262. (¬6) أبو داود، كتاب التطوع، باب رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل، برقم 1332، وصححه الألباني في صحيح أبي داود،1/ 147،ورواه أحمد بنحوه في المسند،2/ 67، عن ابن عمر رضي الله عنهما وصححه أحمد شاكر في شرحه للمسند، برقم 928، و5349.

وعن السائب بن يزيد - رضي الله عنه - قال: ((كنت قائماً في المسجد فحصبني (¬1) رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما، فقال: من أنتما؟ أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (¬2). وعن كعب بن مالك - رضي الله عنه - أنه تقاضى ابنَ أبي حدرد ديناً كان له عليه في المسجد، فارتفعت أصواتهما، حتى سمعهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سِجفَ حجرته (¬3) فنادى: ((يا كعب))، قال: لبيك يا رسول الله، قال: ((ضع من دينك هذا)) وأومأ إليه: أي الشطر، قال كعب: قد فعلت يا رسول الله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قم فاقضه)) (¬4)،قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: ((وفي الحديث جواز رفع الصوت في المسجد، وهو كذلك ما لم يفحش ... والمنقول عن مالك منعه في المسجد مطلقاً، وعنه التفرقة بين رفع الصوت بالعلم والخير، وما لا بد منه فيجوز، وبين رفعه باللغط ونحوه فلا)) (¬5). ونقل الحافظ ابن حجر - رحمه الله - عن المهلب قوله: ((لو كان رفع الصوت في المسجد لا يجوز لما تركهما النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولبيَّن لهما ذلك)) قال ابن حجر: ((قلت: ولمن منع أن يقول: لعله تقدم نهيه عن ذلك، فاكتفى به، واقتصر على التوصل بالطريق المؤدية إلى ترك ذلك بالصلح المقتضي لترك المخاصمة، الموجبة لرفع الصوت)) (¬6)،وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز ابن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((وهذا فيه جواز طلب قضاء الدين في المسجد، كأن يقول: أعطني ديني، وهذا ليس كالبيع، [أو] يقول: اقضني ¬

(¬1) فحصبني: حصبته: إذا رميته بالحصباء، وهي الحصى الصغار. جامع الأصول لابن الأثير، 11/ 205. (¬2) البخاري، كتاب الصلاة، باب رفع الصوت في المسجد، برقم 470. (¬3) سِجْف حجرته: الستر، وقيل: أحد طرفي الستر المفرج. فتح الباري، لابن حجر، 1/ 552. (¬4) البخاري، كتاب الصلاة، باب التقاضي والملازمة في المسجد، برقم 457. (¬5) فتح الباري، 1/ 552. (¬6) فتح الباري، 1/ 552.

21 - الصلاة بين السواري في المسجد

ديني جزاك الله خيراً)) (¬1)، وسمعته يقول عن كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لكعب وابن أبي حدرد: ((هذا من باب الإصلاح، والصواب أنهما إذا اتفقا على تعجيل الدين والوضع منه فلا بأس ... )) (¬2). 21 - الصلاة بين السواري في المسجد، لا بأس بها للمنفرد، والإمام، أما المأمومون فتكره صلاتهم بينها عند السعة؛ لأن السواري تقطع الصفوف، ولا تكره عند ضيق المسجد، وقد جاء في ذلك حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -، فعن عبد الحميد بن محمود قال: كنت مع أنس بن مالك أصلي، قال: فألقونا بين السواري، قال: فتأخر أنس، فلما صلينا قال: إنَّا كُنَّا نتقي هذا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (¬3). وعن معاوية بن قرة عن أبيه - رضي الله عنه - قال: ((كنا نُنْهى عن الصلاة بين السواري ونطرد عنها طرداً)) (¬4). أما جواز ذلك للإمام والمنفرد؛ فلحديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخل الكعبة صلى بين الساريتين)) (¬5). 22 - التّحلُّق في المسجد قبل صلاة الجمعة، جاء فيه حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة، وعن الشراء والبيع في المسجد)). ولفظ الترمذي: ((نهى عن تناشد الأشعار في المسجد، وعن البيع والشراء فيه، وأن يتحلَّق الناس فيه يوم ¬

(¬1) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 457. (¬2) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 2418. (¬3) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الصفوف بين السواري، برقم 673، والترمذي، برقم 229، والنسائي، 2/ 94، وأحمد، 3/ 131، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 1/ 218، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 149. (¬4) ابن ماجه، برقم 1002، والحاكم وصححه 1/ 218، وقال الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 298: ((حسن صحيح)). (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة بين السواري في غير جماعة، برقم 504، ومسلم، كتاب الحج، باب استحباب دخول الكعبة، برقم 1329.

23 - الانتقال عند النعاس في المسجد إلى مكان آخر

الجمعة قبل الصلاة)) (¬1). والتحلق، والحِلَق: جمع حَلْقة: الجماعة من الناس، فنهاهم أن يجلسوا متحلقين حلقة واحدة أو أكثر، حتى ولو كان ذلك لمذاكرة العلم؛ لأنه ربما قطع الصفوف مع كونهم مأمورين بالتبكير يوم الجمعة، والتراصّ في الصفوف: الأول، فالأول، والتحلق قبل الصلاة يوهم غفلتهم عن الأمر الذي ندبوا إليه، فإذا فرغ من صلاة الجمعة فلا حرج ولا كراهة (¬2). وقد كان شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يعمل بهذا الحديث فيوقف الحلقات يوم الجمعة ابتداء من صلاة الفجر إلى الفراغ من صلاة الجمعة، ثم يكون هناك حلقة بعد صلاة الجمعة في بيته. 23 - الانتقال عند النعاس في المسجد إلى مكان آخر؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا نعس أحدكم وهو في المسجد فليتحول من مجلسه ذلك إلى غيره)) (¬3). ولفظ الترمذي: ((إذا نعس أحدكم يوم الجمعة، فليتحول عن مجلسه ذلك)). ولفظ أحمد: ((إذا نعس أحدكم في مجلسه يوم الجمعة فليتحول إلى غيره)). ¬

(¬1) النسائي، كتاب المساجد، باب النهي عن البيع والشراء في المسجد وعن التحلق قبل صلاة الجمعة، برقم: 714، وأبو داود، كتاب الجمعة، باب التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة، برقم 1079، والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في كراهة البيع والشراء، وإنشاد الضالة والشعر في المسجد، برقم 322، وابن ماجه، كتاب المساجد والجماعات، باب ما جاء في الحلق يوم الجمعة قبل الصلاة والاحتباء والإمام يخطب، برقم 1133. وحسنه الألباني في صحيح سنن النسائي، 1/ 154، وفي صحيح سنن أبي داود،1/ 221، وصحيح سنن الترمذي، 1/ 103، وصحيح سنن ابن ماجه، 1/ 186، وحسنه الأرنؤوط في حاشيته على جامع الأصول لابن الأثير، 11/ 204. (¬2) انظر: تحفة الأحوذي للمباركفوري، 2/ 272، وشرح السندي على سنن ابن ماجه، 2/ 29. (¬3) أبو داود بلفظه، كتاب الصلاة، باب الرجل ينعس والإمام يخطب، برقم 1119، والترمذي، كتاب الجمعة، باب فيمن نعس يوم الجمعة أنه يتحول من مجلسه، وقال: ((حسن صحيح))، برقم 526، وأحمد في المسند، 2/ 22، 32، 135، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 208، وحسنه الأرنؤوط في حاشيته على جامع الأصول لابن الأثير، 11/ 206، قلت: وقد صرح محمد بن إسحاق بالسماع في رواية أحمد، 2/ 135.

وفي لفظ لأحمد: ((إذا نعس أحدكم في المسجد يوم الجمعة فليتحول من مجلسه ذلك إلى غيره)). وفي لفظ: ((إذا نعس أحدكم في مجلسه يوم الجمعة فليتحول منه إلى غيره)). وسمعت شيخنا الإمام ابن باز - رحمه الله - يقول: ((وظاهر الأوامر الوجوب)) (¬1). والحكمة من الانتقال أن الحركة تذهب النعاس، ويحتمل أن الحكمة فيه: انتقاله من المكان الذي أصابته فيه الغفلة بنومه، وإن كان النائم لا حرج عليه، فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة نومهم عن صلاة الصبح بالانتقال من المكان الذي ناموا فيه، وأيضاً من جلس ينتظر الصلاة فهو في صلاة، والنعاس في الصلاة من الشيطان، فربما كان الأمر بالتحول لإذهاب ما هو منسوب إلى الشيطان من حيث غفلة الجالس في المسجد عن الذكر، أو سماع الخطبة، أو ما فيه منفعة (¬2). وقوله: ((إذا نعس أحدكم يوم الجمعة)) لم يرد بذلك جميع اليوم بل المراد به إذا كان في المسجد ينتظر صلاة الجمعة، وسواء فيه حال الخطبة أو قبلها، لكن حال الخطبة أكثر. وقوله: ((يوم الجمعة)) يحتمل أنه خرج مخرج الأغلب؛ لطول مكث الناس في المسجد؛ للتبكير إلى صلاة الجمعة؛ ولسماع الخطبة، وأن المراد انتظار الصلاة في المسجد في الجمعة وغيرها، كما في لفظ أبي داود في الباب: ((إذا نعس أحدكم وهو في المسجد فليتحول من مجلسه ذلك إلى غيره))، فيكون ذكر يوم الجمعة من التنصيص على بعض أفراد العام، ويحتمل أن المراد يوم ¬

(¬1) سمعته أثناء تقريره على سنن الترمذي، الحديث رقم 526. (¬2) نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 524،وتحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي، للمباركفوري، 3/ 64، وعون المعبود، 3/ 469.

24 - الصلاة في الكنيسة وإزالتها واتخاذ مكانها مسجد

الجمعة فقط؛ للاعتناء بسماع الخطبة)) (¬1). 24 - الصلاة في الكنيسة وإزالتها واتخاذ مكانها مسجد؛ لحديث طلق بن علي - رضي الله عنه - قال: خرجنا وفداً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فبايعناه، وصلينا معه، وأخبرناه أن بأرضنا بيعة (¬2) لنا فاستوهبناه من فضل طهوره، فدعا فتوضأ، وتمضمض، ثم صبه في إداوةٍ (¬3)، وأمرنا فقال: ((اخرجوا فإذا أتيتم أرضكم فاكسروا بيعتكم، وانضحوا مكانها بهذا الماء، واتخذوها مسجداً)) قلنا: إن البلد بعيدٌ والحر شديد، والماء ينشف، فقال: ((مدوه من الماء؛ فإنه لا يزيده إلا طيباً))، فخرجنا حتى قدمنا فكسرنا بيعتنا، ثم نضحنا مكانها، واتخذناها مسجداً فنادينا فيه بالأذان، قال: والراهب رجل من طيئ، فلما سمع الأذان قال: دعوة حقٍّ، ثم استقبل تلعةً (¬4) من تلاعنا فلم نره بعد)) (¬5). وقال عمر لبعض عظماء النصارى: ((إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها الصور)) (¬6). ((وكان ابن عباس رضي الله عنهما يصلي في البيعة إلا بيعة فيها تمثال)) (¬7). ¬

(¬1) انظر: نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 524. (¬2) البيعَة: قيل: صومعة الراهب، وقيل: كنيسة النصارى، ورجح ابن حجر في فتح الباري أن القول الثاني هو المعتمد، 1/ 531. (¬3) إداوة: الإناء الصغير. (¬4) تلعة: قيل مجرى أعلى الأرض إلى بطون الأودية، وقيل: هو ما ارتفع من الأرض وما انهبط منها. فهو إذن من الأضداد. جامع الأصول لابن الأثير، 11/ 210. (¬5) النسائي، كتاب المساجد، باب اتخاذ البيع مساجد، برقم 701، وصحح الألباني إسناده في صحيح النسائي، 1/ 151. (¬6) البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة في البيعة، قبل الحديث رقم 434، وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري، 1/ 531: ((وصله عبد الرزاق)). (¬7) البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة في البيعة، قبل الحديث رقم 434، وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري، 1/ 532: ((وصله البغوي في الجعديات، وزاد فيه: ((فإن كان فيها تماثيل خرج فصلى في المطر)).

25 - الأمر بإمساك نصال السلاح في المساجد والأسواق

وهذا الحديث يدل على جواز تحويل أماكن الكنائس إلى مساجد، وتدل الآثار على جواز الصلاة في الكنائس ولا يُصلَّى إلى الصور، ولا في مكان نجس (¬1). وسمعت شيخنا الإمام ابن باز - رحمه الله - يقول: ((لا بأس بالصلاة في الكنيسة، ولا يصلي إلى الصور، هذا إذا لم يجد مكاناً يصلي فيه غيرها)) (¬2). 25 - الأمر بإمساك نصال السلاح في المساجد والأسواق؛ لحديث أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إذا مرّ أحدكم في مسجدنا، أو في سوقنا ومعه نبل (¬3) فليمسك على نصالها)) (¬4)، أو قال: ((فليقبض بكفه أن يصيب أحداً من المسلمين منها شيء)). وفي رواية: ((من مرّ في شيء من مساجدنا أو أسواقنا بنبل فليأخذ على نصالها، لا يعقر بكفّه مسلماً)) (¬5). وعن جابر - رضي الله عنه -: أن رجلاً مرّ في المسجد بأسهم قد بدا نصولها، فأُمر أن يأخذ بنصولها لا يخدش مسلماً. وفي لفظ مسلم: فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أمسك بنصالها)). وفي لفظ آخر لمسلم: ((أن رجلاً مرَّ بأسهم في المسجد قد أبدى نصولها، فأُمر أن يأخذ بنصولها كي لا يخدش مسلماً)) (¬6). ¬

(¬1) انظر: نيل الأوطار للشوكاني، 1/ 687. (¬2) سمعته من سماحته أثناء تقريره على صحيح البخاري، قبل الحديث رقم 434. (¬3) نبل: النبل: السهام العربية. فتح الباري، لابن حجر، 1/ 446. (¬4) نصل: النصول والنصال: جمع نصل، وهو حديدة السهم. شرح النووي على صحيح مسلم،16/ 407، وهو: حديدة السهم والسيف، وانظر: غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص79، 135. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب المرور في المسجد، برقم 452، وكتاب الفتن، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: من حمل علينا السلاح فليس منا، برقم 7075، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب أمر من مر بسلاح في مسجد أو سوق أو غيرهما من المواضع الجامعة للناس أن يمسك بنصالها، برقم 2615. (¬6) متفق عليه: البخاري، الصلاة، بابٌ: يأخذ بنصول النبل إذا مر في المسجد، برقم 451، وكتاب الفتن، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: من حمل علينا السلاح فليس منا، برقم 7074، ومسلم، كتاب الصلاة، باب أمر من مرّ بسلاح في مسجد أو سوق أو غيرهما من المواضع الجامعة للناس أن يمسك نصالها، برقم 2614.

قال الإمام النووي - رحمه الله -: ((في هذا الأدب وهو الإمساك بنصالها عند المرور بين الناس في مسجد أو سوق أو غيرهما)) (¬1). وهذا فيه اجتناب كل ما يخاف منه والتحذير مما يؤذي المسلمين (¬2). وعن جابر - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يحلّ لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح)) (¬3). قال الإمام النووي - رحمه الله -: ((هذا النهي إذا لم تكن حاجة فإن كانت حاجة جاز، وهذا مذهبنا ومذهب الجماهير، قال القاضي عياض: وهذا محمول عند أهل العلم على حمل السلاح لغير ضرورة ولا حاجة ... )) (¬4). وقد جاء التشديد في النهي عن الإشارة بالسلاح حتى لو كان من باب المزاح، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزغ في يده، فيقع في حفرة من حفر النار)) (¬5). ولفظ مسلم: ((لا يشير أحدكم (¬6) إلى أخيه بالسلاح فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان ينزع (¬7) في يده فيقع في ¬

(¬1) شرح النووي على صحيح مسلم، 16/ 407. (¬2) انظر: المرجع السابق، 16/ 407. (¬3) مسلم، كتاب الحج، باب النهي عن حمل السلاح بمكة من غير حاجة، برقم 1356. (¬4) شرح النووي على صحيح مسلم، 9/ 139، وانظر: المفهم للقرطبي، 3/ 477. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الفتن، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: من حمل علينا السلاح فليس منا، برقم 7072، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب النهي عن الإشارة بالسلاح إلى مسلم، برقم 2617. (¬6) يشير: قال النووي: هكذا وقع في جميع النسخ: لا يشير بالياء بعد الشين وهو صحيح، وهو نهي بلفظ الخبر. الشرح على صحيح مسلم، 16/ 408، وقال الحافظ ابن حجر: ((ووقع لبعضهم لا يشر بغير ياء، وهو بلفظ النهي، وكلاهما جائز))، فتح الباري، 13/ 24. (¬7) ينزع: هذا في جميع النسخ عند مسلم، ومعناه يرمي في يده ويحقق ضربته ورميته، وفي البخاري: ((ينزغ: أي يحمل على تحقيق الضرب به ويزين ذلك)). شرح النووي على صحيح مسلم، 15/ 408.

26 - صلاة النساء في المساجد جاءت في الأحاديث الصحيحة

حفرة من النار)) (¬1)؛ولعظم الأمر قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من أشار إلى أخيه بحديدة؛ فإن الملائكة تلعنه حتى يدعه، وإن كان أخاه لأبيه وأمه)) (¬2). وأعظم من ذلك حمل السلاح على المسلمين؛ لقتالهم، فعن عبد الله بن عمر، وأبي موسى - رضي الله عنهم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من حمل علينا السلاح فليس منا)) (¬3). وهذا يدلّ على الوعيد لمن سلّ السيف على المسلمين، وحمل السلاح عليهم لقتالهم به بغير حق، لِمَا في ذلك من تخويفهم وإدخال الرعب عليهم (¬4). وقد حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على سلامة المؤمنين من كل ما يؤذيهم سدّاً لأبواب الشرور، ومن ذلك نهيه عن تناول السيف مسلولاً، فعن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يُتعاطى السيف مسلولاً (¬5). 26 - صلاة النساء في المساجد جاءت في الأحاديث الصحيحة، وصلاتهن في البيوت أفضل، فإذا لم يكن في خروجهن ما يدعو إلى الفتنة: من طيب، أو تبرج وسفور، أو إظهار حليٍّ أو زينة وجب على الرجال الإذن لهن وعدم منعهن، أما مع وجود هذه المنكرات فلا يجب ولا يجوز، ويحرم عليهن الخروج، ومن الأحاديث في ذلك ما يأتي: الحديث الأول: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها)).وفي لفظ لمسلم: ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)) (¬6). ولفظ أبي داود: ((لا تمنعوا نساءكم مساجد الله وبيوتهن خيرٌ ¬

(¬1) مسلم، كتاب البر والصلة، باب النهي عن الإشارة بالسلاح، برقم 2617. (¬2) مسلم، كتاب البر والصلة، باب النهي عن الإشارة بالسلاح إلى مسلم، برقم 2616. (¬3) البخاري، كتاب الفتن، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من حمل علينا السلاح فليس منا))، برقم 7070، 7071. (¬4) انظر: فتح الباري لابن حجر، 13/ 24. (¬5) أبو داود، كتاب الجهاد، باب في النهي أن يتعاطى السيف مسلولاً، برقم 2588، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 491. (¬6) متفق عليه: البخاري، كتاب النكاح، باب استئذان المرأة زوجها إلى المسجد وغيره، برقم 5238، ومسلم، كتاب الصلاة، باب خروج النساء إلى المساجد، برقم 442.

لهن)) (¬1). الحديث الثاني: عن زينب الثقفية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إذا شَهِدَتْ إحداكُنَّ العشاء فلا تطيَّب تلك الليلة))، وفي لفظ: ((إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمسّ طيباً)) (¬2). الحديث الثالث: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا العشاء الآخرة)) (¬3). الحديث الرابع: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولكن ليخرجن وهن تَفِلات (¬4))) (¬5). الحديث الخامس: عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((صلاة المرأة في بيتها (¬6) أفضل من صلاتها في حجرتها (¬7)، وصلاتها في مَخْدعها (¬8) أفضل من صلاتها في بيتها)) (¬9). فدل الحديث على أن ثواب صلاة المرأة في مسكنها الذي تسكن فيه، وتأوي إليه أكثر من ثواب صلاتها في حجرتها: أي صحن دارها التي تكون ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب في خروج النساء إلى المسجد، برقم 567، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 113. (¬2) مسلم، كتاب الصلاة، باب خروج النساء إلى المساجد، برقم 443. (¬3) مسلم، كتاب الصلاة، باب خروج النساء إلى المساجد، برقم 444. (¬4) تفلات: أي غير متطيبات. نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 352. (¬5) أبو داود، كتاب الصلاة، باب خروج النساء إلى المساجد، برقم 565، وأحمد، 2/ 438، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 113: ((حسن صحيح)). (¬6) صلاة المرأة في بيتها: أي الداخلي، لكمال سترها. عون المعبود، 2/ 277. (¬7) حجرتها: صحن الدار، وأراد بالحجرة ما تكون أبواب البيوت إليها وهي أدنى حالاً من البيت في الستر، انظر: عون المعبود، 2/ 277، والمنهل العذب المورود للسبكي، 4/ 270. (¬8) مُخْدَعُ: بيت صغير يحرز فيه الشيء، يكون داخل البيت الكبير، تحفظ فيه الأمتعة النفيسة، من الخدع وهو إخفاء الشيء: أي في خزانتها. انظر: المصباح المنير، للفيومي، 1/ 165، وعون المعبود شرح سنن أبي داود، 2/ 277. (¬9) أبو داود، كتاب الصلاة، باب التشديد في ذلك، برقم 570، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 114.

27 - الاحتباء في المسجد قبل صلاة الجمعة والإمام يخطب

أبواب البيت إليها، وهي أدنى حالاً من البيت في الستر، وصلاة المرأة في الغرفة الصغيرة داخل بيتها الكبير أفضل من صلاتها في بيتها؛ لأن مبنى أمرها على التستر، فكلما كان المكان أستر كانت صلاتها فيه أفضل (¬1). الحديث السادس: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو تركنا هذا الباب للنساء)) قال نافع: فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات (¬2). والمعنى: لو تركنا هذا الباب للنساء لكان حسناً؛ لئلا يختلط الرجال بالنساء في الدخول والخروج إذا حضرن المسجد لصلاة الجماعة فتحصل الفتنة، فينبغي أن يجعل في المساجد بعض الأبواب المخصوصة للنساء يدخلن ويخرجن منه، وهذا إن أمنت الفتنة وإلا فيمنعن (¬3). قال الإمام النووي - رحمه الله -: (( ... أحاديث ظاهرة في أنها لا تمنع المسجد، لكن بشروط ذكرها العلماء، مأخوذة من الأحاديث، وهو أن لا تكون: متطيبة، ولا متزينة، ولا ذات خلال يسمع صوتها، ولا ثياب فاخرة، ولا مختلطة بالرجال، ولا شابة، ونحوها ممن يفتتن بها، وأن لا يكون في الطريق ما يخاف به مفسدة، ونحوها ... )) (¬4). 27 - الاحتباء في المسجد قبل صلاة الجمعة والإمام يخطب، جاء فيه حديث معاذ بن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نهى عن الحُبْوَةِ (¬5) يوم الجمعة والإمام يخطب)) (¬6). ¬

(¬1) المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود، للسبكي، 4/ 270. (¬2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب في اعتزال النساء في المسجد عن الرجال، برقم 462، وباب التشديد في ذلك برقم 571،وصححه الألباني في صحيح أبي داود،1/ 114. (¬3) انظر: المنهل العذب المورود، 4/ 70، وعون المعبود، 2/ 277. (¬4) شرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 406. (¬5) الحبوة: هي أن يقيم الجالس ركبتيه، ويقيم رجليه إلى بطنه، بثوب يجمعهما به مع ظهره، ويشد عليهما، وتكون أليتاه على الأرض، وقد يكون الاحتباء باليدين عوض الثوب. نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 525. (¬6) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الاحتباء والإمام يخطب، برقم 1110، والترمذي، كتاب الجمعة، باب ما جاء في كراهة الاحتباء والإمام يخطب، برقم 514، وقال: ((هذا حديث حسن))، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 206، وفي صحيح الترمذي، 1/ 159.

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الاحتباء يوم الجمعة، يعني والإمام يخطب)) (¬1). قال الترمذي -رحمه الله-: ((وقد كَرِه قومٌ من أهل العلم الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب، ورخَّص في ذلك بعضهم، ومنهم: عبد الله بن عمر، وغيره، وبه يقول أحمد وإسحاق: لا يريان بالحبوة والإمام يخطب بأساً)) (¬2). وقال الإمام الشوكاني: ((وقد اختلف العلماء في كراهية الاحتباء يوم الجمعة، فقال بالكراهة قوم من أهل العلم، واستدلوا بحديث الباب وما ذكرناه في معناه وهي تقوّي بعضها بعضاً. وذهب أكثر أهل العلم كما قال العراقي إلى عدم الكراهة ... وأجابوا عن أحاديث الباب أنها كلها ضعيفة ... )) (¬3). وقال المباركفوري: ((أحاديث الباب وإن كانت ضعيفة لكن يقوي بعضها بعضاً، ولا شك في أن الحبوة جالبة للنوم، فالأولى أن يحترز عنها يوم الجمعة في حال الخطبة، هذا ما عندي والله تعالى أعلم)) (¬4). وسمعت شيخنا الإمام ابن باز - رحمه الله - يقول تعليقاً على كلام المباركفوري: ((هذا هو الأقرب فتركها أحسن)) (¬5). وسمعته -رحمه الله- يقول عن حديث معاذ بن أنس - رضي الله عنه -: ((أحسن ما جاء في الاحتباء هذا الحديث، وفيه مقال، وله شواهد ضعيفة، فالأولى بالمؤمن أن لا يحتبي، ¬

(¬1) ابن ماجه، كتاب المساجد والجماعات، باب ما جاء في الحلق يوم الجمعة قبل الصلاة والاحتباء والإمام يخطب، برقم 1134، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 1/ 187. (¬2) سنن الترمذي مع تحفة الأحوذي، 3/ 46. (¬3) نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 525. (¬4) تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي، 3/ 47. (¬5) سمعته منه أثناء تعليقه على كلام المباركفوري في تحفة الأحوذي، 3/ 47.

28 - المنبر: مرقاة الخطيب سمي منبرا

أما احتباء بعض الصحابة؛ فلأنه لم يبلغهم هذا الحديث)) (¬1). 28 - المنبر: مرقاة الخطيب سمي منبراً؛ لارتفاعه وعلوه (¬2)، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ منبراً في مسجده، فعن أبي حازم قال: سألوا سهل بن سعد - رضي الله عنه - من أي شيء المنبر؟ فقال: ((ما بقي بالناس أعلم مني: هو من أثل الغابة عمله فلان مولى فلانة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -)). وفي لفظ: ((بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى امرأة أن مُري غلامك النجار يعمل لي أعواداً أجلس عليهن)). وفي لفظ: ((والله إني لأعرف مما هو، ولقد رأيته أول يوم وضع، وأول يوم جلس عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى فلانة امرأة من الأنصار: ((مُري غلامك النجار أن يعمل لي أعواداً أجلس عليهنّ إذا كلمتُ الناس)) فأمرته فعملها من طرفاءِ الغابة، ثم جاء بها فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمر بها فوضعت هاهنا ... )) (¬3). وعن جابر - رضي الله عنه - أن امرأة قالت: يا رسول الله، ألا أجعل لك شيئاً تقعد عليه؟ فإن لي غلاماً نجاراً، قال: ((إن شئت)). وفي لفظ: ((كان جذع يقوم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما وُضِع له المنبر سمعنا للجذع مثل أصوات العشار حتى نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده عليه)). وفي لفظ: ((فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت أن تنشق، فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أخذها فضمها إليه، فجعلت تئنّ أنين الصبي الذي يسكَّت حتى استقرت، قال: بكت على ما كانت تسمع من الذكر)) (¬4). ¬

(¬1) سمعته منه أثناء تقريره على الحديث رقم 514 من سنن الترمذي. (¬2) لسان العرب، لابن منظور، باب الراء، فصل الميم، 5/ 189. (¬3) البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة في السطوح والمنبر والخشب، برقم 377، وباب الاستعانة بالنجار والصناع في أعواد المنبر والمسجد، برقم 448، وكتاب الجمعة، باب الخطبة على المنبر، 917. (¬4) البخاري، كتاب الصلاة، باب الاستعانة بالنجار والصناع في أعواد المنبر والمسجد، برقم 449، وكتاب الجمعة، باب الخطبة على المنبر، برقم 918، وكتاب البيوع، باب النجار، برقم 2095، وكتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، برقم 3585.

29 - الإخلاص عند إتيان المسجد، ليفوز بالثواب العظيم

وفي لفظ: ((كان المسجد مسقوفاً على جذوع من النخل، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوم إلى جذع منها، فلما صنع له المنبر فكان عليه ... )) الحديث. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لَمّا بدَّن (¬1) قال له تميم الداري: ألا أتخذ لك منبراً يجمع أو يحمل عظامك؟ قال: ((بلى)) فاتخذ له منبراً مرقاتين)) (¬2). وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى امرأة: ((انظري غلامك النجار يعمل لي أعواداً أكلم الناس عليها)) فعمل هذه الثلاث درجات، ثم أمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضعت هذا الموضع (¬3). وعن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال: ((وكان بين المنبر والقبلة قدر ممر الشاة)) (¬4). وعن سهل - رضي الله عنه -: ((أنه كان بين جدار المسجد مما يلي القبلة وبين المنبر ممر الشاة)) (¬5). 29 - الإخلاص عند إتيان المسجد، ليفوز بالثواب العظيم؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أتى المسجد لشيء فهو حظه)) (¬6). وهذا يدلّ على أن من أتى المسجد لقصد حصول شيء أخروي أو دنيوي فذلك الشيء حظه ونصيبه؛ لأن لكل امرئ ما نوى، وفيه تنبيه على تصحيح النية في إتيان المسجد، لئلا يكون مختلطاً بغرض دنيوي: كالتمشية والمصاحبة مع الأصحاب، بل ينوي ¬

(¬1) بدَّن: بدَّن الرجل بالتشديد: إذا كبر، وبالتخفيف: ((بَدَنَ)) إذا سمن. جامع الأصول، لابن الأثير، 11/ 188. (¬2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب اتخاذ المنبر، برقم 1081، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 202. (¬3) مسلم، كتاب المساجد، باب جواز الخطوة والخطوتين في الصلاة، برقم 544. (¬4) مسلم، كتاب الصلاة، باب دنوّ المصلي من السترة، برقم 509. (¬5) البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما ذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وحض على اتفاق أهل العلم وما يجتمع عليه الحرمان: مكة والمدينة، وما كان بهما من مشاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين والأنصار، ومصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والمنبر، برقم 7334. (¬6) أبو داود، كتاب الصلاة، باب فضل القعود في المسجد، برقم 472، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 94، وحسنه الأرنؤوط في حاشيته على جامع الأصول لابن الأثير، 11/ 211.

30 - يحذر من هجر المسجد الذي يليه إلا لعذر

الاعتكاف، والعزلة والانفراد، والعبادة، وزيارة بيت الله، واستفادة علم وإفادته، ونحوها (¬1). 30 - يحذر من هجر المسجد الذي يليه إلا لعذر؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليصلّ أحدكم في مسجده ولا يتتبع المساجد)) (¬2). قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: ((وما ذاك إلا لأنه ذريعة إلى هجر المسجد الذي يليه، وإيحاش صدر الإمام، وإن كان الإمام لا يتم الصلاة، أو يُرْمَى ببدعة، أو يُعلن بفجورٍ، فلا بأس بتخطيه إلى غيره)) (¬3). وهجر المسجد القريب إذا كثر من أهل الحي يؤدي أيضاً إلى خلوّه عن الجماعة، ويؤدي إلى إساءة الظن بالإمام، أما إذا وُجد غرضٌ صحيح: كأن يحضر محاضرة، أو درساً، أو يكون المسجد الأبعد يبكر بالصلاة والمأموم محتاج إلى ذلك فلا بأس (¬4). أو يكون الإنسان في المدينة أو مكة، فإن الأفضل أن يصلي في المسجد الحرام في مكة، وفي المسجد النبوي في المدينة؛ لأنه امتاز المسجد الأبعد بخاصية فيه (¬5). 31 - يحذر من تخطي رقاب الناس؛ لحديث عبد الله بن بسر - رضي الله عنه - قال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اجلس فقد آذيت)) (¬6). ¬

(¬1) انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود، للعلامة محمد شمس الحق العظيم آبادي، 2/ 136. (¬2) الطبراني في المعجم الكبير، 12/ 270، برقم 13373، وصححه الألباني في صحيح الجامع، 5/ 105، برقم 5332، وانظر: الأحاديث الصحيحة للألباني، 5/ 234، برقم 2200. (¬3) إعلام الموقعين عن رب العالمين، 3/ 160. (¬4) انظر: أحكام حضور المساجد، لعبد الله بن فوزان، ص176، وكيف نعيد للمسجد مكانته، للدكتور محمد أحمد لوح، ص41، والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 214 - 215. (¬5) الشرح الممتع للعلامة ابن عثيمين،4/ 214 - 215. (¬6) أبو داود، كتاب الصلاة، باب تخطي رقاب الناس يوم الجمعة، برقم 1118، والنسائي، كتاب الجمعة، باب النهي عن تخطي رقاب الناس، والإمام على لمنبر يوم الجمعة، برقم 1399، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 208.

32 - لا يفرق بين اثنين

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب فجعل يتخطى الناس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اجلس فقد آذيت وآنيت (¬1))) (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: ((ليس لأحد أن يتخطَّى رقاب الناس؛ ليدخل في الصف، إذا لم يكن بين يديه فرجة، لا يوم الجمعة ولا غيره؛ لأن هذا من الظلم، والتعدي لحدود الله)) (¬3). 32 - لا يُفرّق بين اثنين؛ لحديث سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهّر ما استطاع من الطّهر، ويدهن من دهنه، أو يمسّ من طيب بيته، ثم يخرج فلا يُفرّق بين اثنين، ثم يصلّي ما كُتب له، ثم يُنصت إذا تكلّم الإمام إلا غُفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)) (¬4). 33 - لا يمر بين يدي المصلي وسترته؛ لحديث أبي جهيم - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو يعلم المارُّ بين يدي المصلي ماذا عليه، لكان أن يقف أربعين خير له من أن يمرَّ بين يديه))، قال أبو النضر: لا أدري قال: أربعين يوماً، أو شهراً، أو سنة (¬5). 34 - لا يتخذ مكاناً خاصاً لا يصلي إلا فيه؛ لحديث عبد الرحمن بن شبل - رضي الله عنه - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نقرة الغراب، وافتراش السبع، وأن ¬

(¬1) آنيت: أي أخرت المجيء وأبطأت. شرح السندي، لسنن ابن ماجه، 2/ 22. (¬2) ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في النهي عن تخطي الناس يوم الجمعة، برقم 1115، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 184. (¬3) الاختيارات الفقهية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص81. (¬4) البخاري، كتاب الجمعة، باب الدهن للجمعة، برقم 883. (¬5) متفق عليه: البخاري، برقم 510،ومسلم، برقم 507،وتقدم تخريجه في صفة الصلاة.

35 - لا يقيم أحدا من مكانه ليجلس فيه

يوطن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير (¬1). 35 - لا يقيم أحداً من مكانه ليجلس فيه؛ لحديث جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يقيمنَّ أحدُكم أخاه يوم الجمعة ثم ليخالف إلى مقعده، فيقعد فيه، ولكن يقول: افسحوا)) (¬2). وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يقيمنّ أحدُكم الرجلَ من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن تفسّحوا وتوسّعوا)) قال نافع: الجمعة؟ قال الجمعة وغيرها (¬3)، وهذا عام في جميع المجالس. 36 - يُنْصتُ للخطبة يوم الجمعة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت)) (¬4). 37 - لا يشغل الوقت بين الأذان والإقامة بالكلام مع الناس، فيضيع هذا الوقت العظيم بالقيل والقال وكثرة السؤال في أمور الدنيا، والإعراض عن قراءة القرآن والذكر، فقد ورد عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يرفعه: ((سيكون في آخر الزمان قوم يجلسون في المساجد حلقاً حلقاً، إمامهم الدنيا، فلا تُجالسوهم؛ فإنه ليس لله فيهم حاجة)) (¬5). 38 - لا يحجز مكاناً بسجادة ونحوها، لا يوم الجمعة ولا غيره؛ لأنه غصب بقعة في المسجد بفرش ذلك المفروش فيها، ومنع غيره من المصلين الذين يسبقونه إلى المسجد أن يصلي في ذلك المكان، والمأمور به أن يسبق بنفسه إلى المسجد، فإذا قدَّم المفروش وتأخر هو فقد خالف ¬

(¬1) سنن أبي داود، برقم 862، وأحمد، 5/ 446 - 447، والحاكم، 1/ 229، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 163، وتقدم تخريجه، في مكروهات الصلاة. (¬2) مسلم، كتاب السلام، باب تحريم إقامة الإنسان من موضعه المباح الذي سبق إليه، برقم 2178. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الجمعة، باب لا يقيم الرجل أخاه يوم الجمعة ويقعد مكانه، برقم 911، ومسلم، كتاب السلام، باب تحريم إقامة الإنسان من موضعه المباح الذي سبق إليه، برقم 2178. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الجمعة، باب الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب، برقم 934، ومسلم، كتاب الجمعة، باب الإنصات يوم الجمعة في الخطبة، برقم 851. (¬5) الطبراني في الكبير، 10/ 199،برقم 10452،وأورده الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1163.

39 - لا يجلس الجنب والحائض في المسجد

الشريعة من جهتين: من جهة تأخره وهو مأمور بالتقدم، ومن جهة غصبه لطائفة من المسجد ومنعه السابقين إلى المسجد أن يصلّوا فيه، وأن يتمّوا الصف الأول، ثم إنه يتخطّى الناس إذا حضروا (¬1).وأفتى بعدم جواز ذلك العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله، وبيَّن أنه لا يحلّ؛ لأنه مخالف للشرع، ومخالف لما كان عليه الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعون لهم بإحسان (¬2). 39 - لا يجلس الجنب والحائض في المسجد، لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} (¬3). والمعنى: لا تقربوا المصلى للصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوه جنباً إلا عابري سبيل: يعني إلا مجتازين فيه الخروج منه، فقد أقيمت الصلاة هنا مقام المصلى والمسجد إذا كانت صلاة المسلمين في مساجدهم، ورجح هذا التفسير الإمام ابن جرير رحمه الله (¬4).وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: ((ومن هذه الآية احتجّ كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد، ويجوز له المرور، وكذا الحائض والنفساء أيضاً في معناه)) (¬5)، ولكن على الحائض والنفساء أن تتحفظ حتى لا تلوث المسجد، وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: ((ناوليني الخمرة (¬6) من المسجد))، فقالت: إني حائض، فقال: ((إن حيضتك ليست في يدك)) (¬7). وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد قال: ((يا عائشة ناوليني الثوب))، فقالت: ¬

(¬1) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام، ابن تيمية، 24/ 216 - 217، و27/ 88. (¬2) انظر: الفتاوى السعدية، ص182، وقد سمعت شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله يفتي بعدم جواز ذلك، إلا إذا كان الإنسان في المسجد ثم خرج للوضوء ثم يعود. (¬3) سورة النساء، الآية: 43. (¬4) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن،8/ 382 - 385. (¬5) تفسير القرآن العظيم، ص327. (¬6) الخمرة: السجادة أو ما في معناها. (¬7) مسلم، كتاب الحيض، باب الاضطجاع مع الحائض في لحاف واحد، برقم 298.

40 - المواضع المنهي عن الصلاة فيها

إني حائض، فقال: ((حيضتك ليست في يدك)) (¬1). أما حديث عائشة رضي الله عنها ترفعه: ((وجّهوا هذه البيوت عن المسجد، فإني لا أُحلّ المسجد لحائض ولا جنب)) (¬2).فهذا في حق من يجلس في المسجد، وقد قال بعض أهل العلم بجواز جلوس الجنب في المسجد إذا توضأ، لخبر زيد بن أسلم أن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا إذا توضؤوا جلسوا في المسجد (¬3)، ولكن قال غيرهم من أهل العلم لا يجلس مطلقاً لعموم الآية: {وَلا جُنُباً إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} (¬4).والوضوء لا يخرجه من كونه جنباً؛ ولعموم الحديث المذكور آنفاً، وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز -حمه الله -قول: ((وهذا هو أظهر وأقوى، وفعل من جلس من الصحابة يحمل على أنه خفي عليه الدليل الدالّ على أنه يمنع الجنب من الجلوس في المسجد، والأصل الأخذ بالدليل، وزيد بن أسلم وإن روى له مسلم ففي القلب منه شيء إذا تفرد بالحديث)) (¬5). 40 - المواضع المنهي عن الصلاة فيها؛ مما لا شك فيه أن الله قد جعل الأرض مسجداً وطهوراً للنبي محمد عليه الصلاة والسلام وأمته، إلا المقبرة، والحمّام، ومعاطن الإبل، ومواضع النجاسة، ومواضع الخسف والعذاب؛ لحديث أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمّام)) (¬6). فالمقبرة لا يُصلى فيها ¬

(¬1) مسلم، في كتاب الحيض، الباب السابق، برقم 299. (¬2) أبو داود، كتاب الطهارة، بابٌ في الجنب يدخل المسجد، برقم 232، قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير، 1/ 140، قال أحمد: ما أرى به بأساً، وقد صححه ابن خزيمة، وحسنه ابن القطان، وسمعت شيخنا الإمام ابن باز أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 132، يقول: ((سنده لا بأس به)). وحسنه الأرنؤوط في حاشيته على جامع الأصول، 11/ 205. (¬3) رواه سعيد بن منصور، وحنبل بن إسحاق، كما في المنتقى لابن تيمية، 1/ 141 - 142، وشرح العمدة لابن تيمية، 1/ 391. (¬4) سورة النساء، الآية: 43. (¬5) سمعته منه رحمه الله أثناء تقريره على المنتقى للمجد ابن تيمية، الحديث رقم 396. (¬6) أبو داود، كتاب الصلاة، باب المواضع التي لا تجوز الصلاة فيها، برقم 492، والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام، برقم 317، وابن ماجه، كتاب المساجد والجماعات، باب المواضع التي تكره الصلاة فيها، برقم 745، وأحمد، 3/ 83، 96، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 97، وفي صحيح سنن الترمذي، 1/ 102، وفي صحيح سنن ابن ماجه، 1/ 125، وسمعت الإمام ابن باز رحمه الله يقول: ((الصواب أن الحديث موصول؛ لأن الوصل مقدم على الإرسال، فالحكم لمن وصل. سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 229.

ولا تصحُّ فيها الصلاة، سواء كانت الصلاة على القبر، أو بين القبور، أو في مكان منفرد عن القبور: كالبيت داخل المقبرة، ولا يُصلَّى في الحمام، ولا تصح الصلاة فيه؛ لأن النهي يدل على فساد المنهي عنه، وكل ما صدق عليه لفظ المقبرة والحمام لا يُصلَّى فيه (¬1). وحكمة المنع من الصلاة في المقبرة قيل: هو لِمَا تحت المصلي من النجاسة، وقيل: لحرمة الموتى، وأما الحمام فحكمة المنع من الصلاة فيه؛ لأنه تكثر فيه النجاسات، وقيل: إنه مأوى الشياطين (¬2). وسمعت الإمام شيخنا عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله يقول: ((والحمامات: المعدّة للغسل، والصلاة في المقبرة، والصلاة إليها ممنوعة، والعلة أن الصلاة في المقبرة أو إليها وسيلة إلى الشرك، أما الحمام فهو مظنة النجاسات، أو لأنه بيت الشيطان، والله أعلم بالعلة)) (¬3). والصلاة على القبور ممنوعة؛ لحديث أبي مرثد الغنوي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها)) (¬4). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه، فتخلص إلى جلده خيرٌ له من أن يجلس على قبر)) (¬5). ¬

(¬1) انظر: نيل الأوطار للشوكاني، 1/ 670، وسبل السلام للصنعاني، 2/ 119. (¬2) انظر: نيل الأوطار للشوكاني، 1/ 670، وسبل السلام، 2/ 119. (¬3) سمعته منه أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 229. (¬4) مسلم، كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه، برقم 972. (¬5) مسلم، كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه، برقم 971.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبوراً)) (¬1). والمراد بالصلاة في البيوت: النوافل؛ لأن الفرائض تقام مع الجماعة في المسجد، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ولا تتخذوها قبوراً))؛لأن القبور ليست بمحل للصلاة، وقد استنبط البخاري من هذا الحديث كراهية الصلاة في المقابر (¬2). ولا يُصلّي المسلم في معاطن الإبل وهي مبارك الإبل؛ لحديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في مبارك الإبل؟ فقال: ((لا تصلوا في مبارك الإبل؛ فإنها من الشياطين)). وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم؟ فقال: ((صلوا فيها فإنها بركة)) (¬3). وعن عبد الله بن مغفل المزني - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل، فإنها خُلقت من الشياطين)) (¬4). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل)) (¬5). وعن سبرة بن معبد الجهني - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يُصلَّى في أعطان الإبل، ويُصلّى في مراح الغنم)) (¬6). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب كراهية الصلاة في المقابر، 432، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة النافلة في بيته، برقم 777. (¬2) انظر: نيل الأوطار، 1/ 672. (¬3) أبو داود، كتاب الصلاة، باب النهي عن الصلاة في مبارك الإبل، برقم 493، ورقم 184، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 97. (¬4) النسائي، كتاب المساجد، باب ذكر نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في أعطان الإبل، برقم 736، وابن ماجه بلفظه، كتاب المساجد والجماعات، باب الصلاة في أعطان الإبل ومُراح الغنم، برقم 769، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 1/ 158، وفي صحيح سنن ابن ماجه، 1/ 128. (¬5) الترمذي بلفظه، كتاب الصلاة، باب ما جاء في الصلاة في مرابض الغنم، وأعطان الإبل، برقم 348، وابن ماجه، كتاب المساجد والجماعات، باب الصلاة في أعطان الإبل ومراح الغنم، برقم 768، وأحمد، 4/ 150، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 110، وصحيح ابن ماجه، 1/ 128. (¬6) ابن ماجه، كتاب المساجد والجماعات، باب الصلاة في أعطان الإبل، برقم 770، وقال الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 128: ((حسن صحيح)).

وعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: ((إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا تتوضأ)) قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: ((نعم فتوضأ من لحوم الإبل)). قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: ((نعم)). قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: ((لا)) (¬1). جاء في معظم الأحاديث التعبير بمعاطن الإبل، ووقع في بعضها ((مبارك الإبل)) وفي بعضها: ((أعطان الإبل)). وفي بعضها: ((مناخ الإبل)). وفي بعضها: ((مرابد الإبل)). وفي بعضها: ((مزابل الإبل)) والأحاديث تدل على جواز الصلاة في مرابض الغنم، وعلى تحريم الصلاة في معاطن الإبل، وإليه ذهب الإمام أحمد فقال: ((لا تصح بحال)) ومن صلى في معاطن الإبل أعاد لهذه الأحاديث، وذهب الجمهور إلى حمل النهي على الكراهة، والصواب أن النهي يقتضي التحريم، وقد نقل ابن حزم أن أحاديث النهي عن الصلاة في أعطان الإبل متواترة، بنقل متواتر يوجب العلم. وقد قيل: إن حكمة النهي: كونها خلقت من الشياطين، وقيل: لكونها لا تخلو غالباً عن نجاسة من يستتر بها عند قضاء الحاجة؛ أو لئلا يتعرض لنفارها في صلاته فتؤدي إلى قطعها أو أذى يحصل له منها، أو تشوّش عليه فتزيل الخشوع، وهذا كله مما يؤكد على المصلي أن يجتنب الصلاة في معاطنها (¬2). ولا يصلي المسلم في مواضع الخسف والعذاب؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، لا يصيبكم ¬

(¬1) مسلم، كتاب الحيض، باب الوضوء من لحوم الإبل، برقم 360. (¬2) انظر: المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي، 1/ 606، وشرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 289، وفتح الباري، لابن حجر، 1/ 527، ونيل الأوطار للشوكاني، 1/ 677، وسبل السلام للصنعاني، 2/ 120.

41 - حلقات العلم في المساجد من أعظم القربات لله تعالى

ما أصابهم)) (¬1). وفي لفظ: لَمّا مرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحِجر قال: ((لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين)). ثم رفع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي)) (¬2). أما جعل الإبل سترة في غير المعاطن فلا حرج، فقد كان ابن عمر رضي الله عنهما يصلي إلى بعيره، وقال: ((رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله)) (¬3). 41 - حلقات العلم في المساجد من أعظم القربات لله تعالى؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من نَفَّسَ عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نَفَّسَ الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطَّأ به عمله لم يسرع به نسبه)) (¬4). وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا يقعد قوم يذكرون الله - عز وجل - إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده)) (¬5). وهذا حديث عظيم جامع لأنواع من العلوم، والقواعد، والآداب، وفيه فضل قضاء حوائج المسلمين، ونفعهم بما تيسَّر: من علم، أو مال، أو معاونة، أو إشارة بمصلحة، أو نصيحة وغير ذلك، وفضل الستر على ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب، برقم 433، ومسلم، كتاب الزهد، باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين، برقم 2980. (¬2) البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة في مواضع الإبل، برقم 435. (¬3) البخاري، برقم 4419 و4702، ومسلم، برقم 2980 - 2981. (¬4) مسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، برقم 2699. (¬5) مسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، برقم 2700.

المسلمين، وفضل إنظار المعسر، وفضل المشي في طلب العلم، ويلزم من ذلك الاشتغال بالعلم الشرعي، بشرط أن يقصد به وجه الله تعالى، وفيه فضل الاجتماع على تلاوة القرآن في المسجد، ويلحق بالمسجد في تحصيل هذه الفضيلة الاجتماع في مدرسة، أو بيت ونحوهما إن شاء الله تعالى، ويدل عليه الحديث الثاني؛ فإنه مطلق يتناول جميع المواضع، ويكون التقييد في الحديث الأول خرج على الغالب، وفي الحديث أن من كان عمله ناقصاً لم يلحقه بمرتبة أصحاب الأعمال، فينبغي أن لا يتكل على شرف النسب، وفضيلة الآباء (¬1). وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: خرج معاوية - رضي الله عنه - على حلقة في المسجد فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أسْتَحْلِفْكُم تُهمةً لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقل عنه حديثاً مني، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على حلقةٍ من أصحابه فقال: ((ما أجلسكم؟)) قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنَّ به علينا، قال: ((آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟)) قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: ((أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله - عز وجل - يباهي بكم الملائكة)) (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا: هلمّوا إلى حاجتكم، قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، قال: فيسألهم ربهم - عز وجل - وهو أعلم بهم، ما يقول عبادي؟ قال: تقول: يسبحونك، ويكبرونك، ويحمدونك، ويمجدونك، قال: فيقول: هل رأوني؟ قال فيقولون: لا، والله ما رأوك، قال: فيقول: كيف لو رأوني؟ قال: يقولون: لو ¬

(¬1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 17/ 24. (¬2) مسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، برقم 2701.

رأوك كانوا أشدّ لك عبادة، وأشد لك تمجيداً، وأكثر لك تسبيحاً، قال: يقول: فما يسألوني؟ قال: يسألونك الجنة، قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا، والله يا رب ما رأوها، قال: فيقول: فكيف لو أنهم رأوها؟ قال: يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصاً وأشد لها طلباً، وأعظم فيها رغبة، قال: فممَ يتعوذون؟ قال: يقولون: من النار، قال: يقول: وهل رأوها؟ قال يقولون: لا، والله يا رب ما رأوها، قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشدّ منها فراراً، وأشد لها مخافة، قال: فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم، قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة، قال: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم)) (¬1). وفي لفظ مسلم: ((إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة فُضُلاً (¬2) يبتغون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكر قعدوا معهم، وحفَّ بعضهم بعضاً بأجنحتهم حتى يملؤوا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرَّقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء، قال: فيسألهم الله - عز وجل - وهو أعلم بهم، من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عبادٍ لكفي الأرض: يسبحونك، ويكبرونك، ويهللونك، ويحمدونك، ويسألونك ... )) الحديث. وفيه: ((قد غفرت لهم، وأعطيتهم ما سألوا، وأجرتهم مما استجاروا، قال: يقولون: رب فيهم فلان عبدٌ خطّاء إنما مرّ فجلس معهم، قال: فيقول: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسُهم)) (¬3). وسمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((وهذا ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الدعوات، باب فضل ذكر الله عز وجل، برقم 6408، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب فضل مجالس الذكر، برقم 2689. (¬2) سيارة: معناه: سياحون في الأرض، وأما معنى ((فضلاً)) على جميع الروايات: أنهم ملائكة زائدون على الحفظة وغيرهم من المرتبين مع الخلائق، فهؤلاء السيارة لا وظيفة لهم، وإنما مقصودهم حلق الذكر. شرح النووي على صحيح مسلم، 17/ 18، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 11/ 209. (¬3) مسلم، برقم 2689، وتقدم تخريجه في الهامش الذي قبل السابق.

فضل عظيم نسأل الله أن يتقبّل، ومجالس العلم أعظم من مجالس التسبيح)) (¬1). وعن أبي واقد الليثي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينما هو جالس في المسجد والناس معه، فأقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذهب واحد، قال: فوقفا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأما أحدهما فرأى فُرْجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهباً، فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ألا أخبركم عن النفر الثلاثة: أما أحدهم فآوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه)) (¬2). وهذا الحديث فيه فوائد عظيمة، منها: جواز الإخبار عن أهل المعاصي، وأحوالهم للزجر عنها، وأن ذلك لا يعد من الغيبة، وفيه فضل ملازمة حلق العلم والذكر، وجلوس العالم والمذكّر في المسجد، وفيه: الثناء على المستحي، والجلوس حيث ينتهي به المجلس (¬3)، وسمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله يقول: ((وهذا يدل على أن العالم ينبغي له أن يكون له في مسجده حلقات، حتى يستفيد الناس، وفيه أن الطالب يشرع له أن يدخل في فرج الحلقات، وحضورها، والأولى الانضمام في الحلقة والدخول فيها)) (¬4). وسمعته أيضاً يقول: ((وهذا فيه الحرص على حلقات العلم، والقرب من المحدث، ويخشى على من يخرج من المواعظ أن يدخل في الإعراض)) (¬5). وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونحن في الصّفّة (¬6) ¬

(¬1) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 6408. (¬2) البخاري، كتاب الصلاة، باب الحلق والجلوس في المسجد، برقم 474، وكتاب العلم، باب من قعد حيث ينتهي به المجلس ومن رأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، برقم 66. (¬3) انظر: فتح الباري لابن حجر، 1/ 157. (¬4) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 66. (¬5) سمعته أثناء تقريره على الحديث رقم 474 من صحيح البخاري. (¬6) الصفة: سقيفة كانت في المسجد، يأوي إليها الفقراء. المفهم للقرطبي، 2/ 429.

فقال: ((أيكم يحب أن يغدو (¬1) كل يوم إلى بُطْحَانَ أو العقيق (¬2) فيأتي منه بناقتين كَوْمَاويْنِ (¬3) في غير إثمٍ ولا قطع رحمٍ؟)) فقلنا: يا رسول الله نحب ذلك، قال: ((أفلا يغدو أحدُكُم إلى المسجد فيعلَمُ أو يقرأُ آيتين من كتاب الله - عز وجل -، خير له من ناقتينِ، وثلاثٌ خيرٌ له من ثلاثٍ، وأربعٌ خيرٌ له من أربعٍ، ومن أعدادهن من الإبل)) (¬4). قال الإمام القرطبي رحمه الله: ((ومقصود الحديث: الترغيب في تعلُّمِ القرآن، وتعليمه، وخاطبهم على ما تعارفوه، فإنهم أهل إبل، وإلا فأقل جزءٍ من ثواب القرآن وتعليمه خيرٌ من الدنيا وما فيها)) (¬5)، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ولقاب قوس أحدكم (¬6) أو موضع قدمٍ خير من الدنيا وما فيها)) (¬7). ¬

(¬1) يغدو: يبكر. المفهم للقرطبي، 2/ 429. (¬2) بطحان، والعقيق، واديان بينهما وبين المدينة قريب من ثلاثة أميال، أو نحوها. المرجع السابق، 2/ 429، وشرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 337. (¬3) الكوماوان، تثنية كوماء: الناقة العظيمة السنام، كأنه كوم، انظر: المفهم للقرطبي، 2/ 429، وشرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 337. (¬4) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب فضل قراءة القرآن وتعلمه، برقم 803. (¬5) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 2/ 429. (¬6) لقاب قوس أحدكم: القاب القدر، أي موضعٌ قدره، وقيل: قدر ذراع، وفي لفظ للبخاري [برقم 2796] ((ولقاب قوس أحدكم من الجنة أو موضع قيدٍ يعني سوطه خيرٌ من الدنيا وما فيها))، وفي الترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -[برقم 3013] ((إن موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها)). وانظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص346، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب القاف مع الواو، 4/ 118. (¬7) متفق عليه. البخاري، واللفظ له، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، برقم 6568، ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الغدوة والروحة في سبيل الله، برقم 1880.

المبحث السادس والعشرون: الإمامة في الصلاة

المبحث السادس والعشرون: الإمامة في الصّلاة أولاً: مفهوم الإمامة والإمام: الإمامة: مصدر أمَّ الناس: صار لهم إماماً يتبعونه في صلاته (¬1). أي: تقدّم رجل المصلين ليقتدوا به في صلاتهم، والإمامة: رياسة المسلمين، والإمامة الكبرى: رياسة عامة في الدين والدنيا، خلافة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والخلافة هي الإمامة الكبرى، وإمام المسلمين: الخليفة ومن جرى مجراه (¬2). والإمامة الصغرى: ربط صلاة المؤتم بالإمام بشروط (¬3). الإمام: كل من اقتُدِي به، وقُدّم في الأمور، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إمام الأئمة، والخليفة: إمام الرعية، والقرآن إمام المسلمين، وإمام الجند: قائدهم. والإمام جَمْعُهُ: أئمة، والإمام في الصلاة: من يتقدم المصلين ويتابعونه في حركات الصلاة. والإمام: من يأتم به الناس من رئيس وغيره، محقّاً كان أو مبطلاً، ومنه: إمام الصلاة، والإمام: العالم المقتدى به، وإمام كل شيء: قيّمه والمصلح له (¬4). ثانياً: فضل الإمامة في الصلاة والعلم: 1 - الإمامة في الصلاة ولاية شرعية ذات فضل؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يؤمُّ القوم أقرؤهم لكتاب الله)) (¬5). ومعلوم أن الأقرأ أفضل، فقرنها بأقرأ يدل على أفضليتها (¬6). 2 - الإمام في الصلاة يُقتدى به في الخير، ويدلّ على ذلك عموم قول ¬

(¬1) حاشية الروض المربع، للعلامة عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، 2/ 296. (¬2) انظر: القاموس الفقهي لغة واصطلاحاً، لسعدي أبو حبيب، ص24. (¬3) انظر: المصدر السابق، ص24. (¬4) انظر: معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، كتاب الهمزة، باب الهمزة في الذي يقال له مضاعف، ص48، ولسان العرب، لابن منظور، باب الميم، فصل الهمزة، 12/ 25، ومفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني، مادة: ((أمَّ))، ص87، ومعجم لغة الفقهاء، للأستاذ الدكتور محمد رواس، ص68 - 69. (¬5) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة، برقم 673،من حديث أبي مسعود - رضي الله عنه -. (¬6) انظر: الشرح الممتع، للعلامة محمد بن صالح العثيمين، 2/ 36.

3 - دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - للأئمة بالإرشاد

الله - عز وجل - في وصفه لعباد الرحمن، وأنهم يقولون في دعائهم لربهم: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (¬1). المعنى: اجعلنا أئمة يُقتدى بنا في الخير، وقيل: المعنى: اجعلنا هُداةً مهتدين دعاةً إلى الخير (¬2). فسألوا الله أن يجعلهم أئمة التقوى يقتدي بهم أهل التقوى، قال ابن زيد كما قال لإبراهيم: {إِنّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاما (¬3)،وامتنّ الله - عز وجل - على من وفقه للإمامة في الدين فقال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} (¬4) أي لَمّا كانوا صابرين على أوامر الله - عز وجل - وترك نواهيه، والصبر على التعلم والتعليم والدعوة إلى الله، ووصلوا في إيمانهم إلى درجة اليقين - وهو العلم التام الموجب للعمل - كان منهم أئمة يهدون إلى الحق بأمر الله، ويدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر (¬5). 3 - دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - للأئمة بالإرشاد، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الإمام ضامنٌ والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين)) (¬6). 4 - الإمامة فضلها مشهور، تولاها النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه، وكذلك خلفاؤه الراشدون، وما زال يتولاها أفضل المسلمين علماً وعملاً، ولا يمنع هذا ¬

(¬1) سورة الفرقان، الآية: 74. (¬2) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للإمام الطبري، 19/ 319، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير، ص966. (¬3) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 19/ 319. (¬4) سورة السجدة، الآية: 24. (¬5) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 20/ 194، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير، ص1019، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص604، وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 23/ 340. (¬6) أبو داود، برقم 517، والترمذي، برقم 207، وابن خزيمة، برقم 528، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 105، وتقدم تخريجه في فضل الأذان.

5 - عظم شأن الإمامة وخطره على من استهان بأمرها ظاهر

الفضل العظيم أن يكون الأذان له ثواب أكثر؛ لِمَا فيه من إعلان ذكر الله تعالى، ولِمَا فيه من المشقّة، ولهذا اختلف العلماء في أيهما أفضل: الأذان أم الإمامة؟ فمنهم من قال: الإمامة أفضل، لِمَا سبق من الأدلة، ومنهم من قال: الأذان أفضل، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين)). ومنزلة الأمانة فوق منزلة الضمان وأعلى منه، والمدعو له بالمغفرة أفضل من المدعو له بالرشد، فالمغفرة أعلى من الإرشاد؛ لأن المغفرة نهاية الخير (¬1). واختار شيخ الإسلام - رحمه الله - أن الأذان أفضل من الإمامة (¬2). وأما إمامة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإمامة الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - فكانت متعينة عليهم؛ فإنها وظيفة الإمام الأعظم ولم يمكن الجمع بينها وبين الأذان، فصارت الإمامة في حقهم أفضل من الأذان؛ لخصوص أحوالهم، وإن كان لأكثر الناس الأذان أفضل (¬3). 5 - عظم شأن الإمامة وخطره على من استهان بأمرها ظاهر في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((يصلون لكم فإن أصابوا فلكم [ولهم] وإن أخطأوا فلكم وعليهم)) (¬4). والمعنى: ((يصلون)) أي الأئمة ((لكم)) أي لأجلكم، ((فإن أصابوا)) في الأركان والشروط، والواجبات، والسنن ((فلكم)) ثواب صلاتكم، ((ولهم)) ثواب صلاتهم، ((وإن أخطأوا)) أي ارتكبوا الخطيئة في صلاتهم، ككونهم محدثين ((فلكم))، ثوابها، ((وعليهم)) عقابها (¬5). وعن ¬

(¬1) انظر: المغني، لابن قدامة، 2/ 55، وشرح العمدة، لشيخ الإسلام ابن تيمية، 2/ 136 - 140، وحاشية عبد الرحمن القاسم على الروض المربع، 2/ 296، والشرح الممتع لابن عثيمين، 2/ 36. (¬2) انظر: شرح العمدة، 2/ 137، والاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص56، ورجح قول شيخ الإسلام العلامة ابن عثيمين في الشرح الممتع، 2/ 36. (¬3) الاختيارات الفقهية، لشيخ الإسلام ابن تيمية ص56،وشرح العمدة له، 2/ 139. (¬4) البخاري، كتاب الأذان، باب إذا لم يتم الإمام وأتم من خلفه، برقم 694 وما بين المعقوفين في نسخة دار السلام، وعند أحمد، 2/ 355. (¬5) انظر: فتح الباري لابن حجر، 2/ 187، وإرشاد الساري للقسطلاني، 2/ 341.

ثالثا: طلب الإمامة في الصلاة إذا صلحت النية لا بأس به

عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَن أمّ الناس فأصاب الوقت فله ولهم، ومن انتقص من ذلك شيئاً فعليه ولا عليهم)) (¬1). وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((الإمام ضامن فإن أحسن فله ولهم، وإن أساء - يعني - فعليه ولا عليهم)) (¬2). ثالثاً: طلب الإمامة في الصلاة إذا صلحت النية لا بأس به؛ لحديث عثمان بن أبي العاص - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله، اجعلني إمام قومي، فقال: ((أنت إمامهم واقتدِ بأضعفهم، واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً)) (¬3). والحديث يدلّ على جواز طلب الإمامة في الخير، وقد ورد في أدعية عباد الرحمن الذين وصفهم الله بتلك الأوصاف الجميلة أنهم يقولون: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (¬4). وليس ذلك من طلب الرياسة المكروهة؛ فإن ذلك فيما يتعلق برياسة الدنيا التي لا يعان من طلبها، ولا يستحق أن يُعطاها من سألها (¬5)، فإذا صلحت النية وتأكدت الرغبة في القيام بالواجب والدعوة إلى الله - عز وجل - فلا حرج من طلب ذلك. رابعاً: أولى الناس بالإمامة: الأقرأ (¬6) العالم فقه صلاته، فإن استووا ¬

(¬1) أحمد، 4/ 154، وابن ماجه، كتاب الصلاة، باب ما يجب على الإمام، برقم 983، أبو داود، كتاب الصلاة، باب جماع الإمامة وفضلها، برقم 580، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 115: ((حسن صحيح))، وصححه في صحيح سنن ابن ماجه، 1/ 293. (¬2) ابن ماجه، كتاب الصلاة، باب ما يجب على الإمام، برقم 981، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 1/ 292. (¬3) أبو داود، برقم 531، والترمذي، برقم 209، والنسائي، برقم 672، وتقدم تخريجه في الأذان، آداب المؤذن، وصححه الألباني في الإرواء، 5/ 315. (¬4) سورة الفرقان، الآية: 74. (¬5) انظر: سبل السلام، للصنعاني، 2/ 86، والمنهل العذب المورود في شرح سنن الإمام أبي داود، للشيخ محمود بن محمد بن خطاب السبكي، 4/ 208. (¬6) الأقرأ: قيل: الأقرأ: هو أكثرهم قرآناً، وقيل: أجودهم وأحسنهم وأتقنهم قراءة، والصواب القول الأول؛ لحديث عمرو بن سلمة وفيه: (( ... وليؤمكم أكثركم قرآناً))، [البخاري برقم 4302]؛ ولحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - وفيه: ((وأحقهم بالإمامة أقرؤهم))، [مسلم برقم 672]، ومعناه: أكثرهم قرآناً، ولكن لو استووا في القرآن بحيث قد استظهروا القرآن كله فيرجح من كان أتقنهم قراءة وأضبط لها، وأحسن ترتيلاً؛ لأنه الأقرأ بالنسبة لهؤلاء الذين استووا في كثرة الحفظ. [انظر: المفهم، للقرطبي، 2/ 297، والمغني، لابن قدامة، 2/ 14، ونيل الأوطار، للشوكاني، 2/ 390].

في القراءة وعلم فقه الصلاة (¬1) فأفقههم، فإن استووا فأقدمهم هجرة، فإن استووا فأقدمهم إسلاماً، لحديث أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يؤمُّ القوم أقرؤهم لكتاب الله (¬2) فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواءً فأقدمهم هجرة (¬3)، فإن كانوا في الهجرة سواءً فأقدمهم سلماً -وفي رواية- سنّاً (¬4) ولا يؤمّنَّ الرَّجلُ الرَّجلَ في ¬

(¬1) العالم فقه صلاته: أي يعلم شروطها، وأركانها، وواجباتها، ومبطلاتها، ونحو ذلك، قال الحافظ ابن حجر: ((ولا يخفى أن محل تقديم الأقرأ إنما هو حيث يكون عارفًا بما يتعين معرفته من أحوال الصلاة، فأما إذا كان جاهلاً بذلك فلا يقدم اتفاقاً)) فتح الباري، 2/ 171، وانظر: حاشية ابن قاسم على الروض المربع، 2/ 296، والشرح الممتع، لابن عثيمين، 4/ 291. (¬2) يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله: فيه دليل واضح على أنه يقدم الأقرأ على الأفقه، وهو مذهب الإمام أحمد، وأبي حنيفة، وبعض أصحاب الشافعي، وقال الإمام مالك والشافعي وأصحابهما: الأفقه مقدم على الأقرأ؛ لأن الذي يحتاج إليه من القراءة مضبوط والذي يحتاج إليه من الفقه غير مضبوط، وقد يعرض في الصلاة أمر لا يقدر على مراعاة الصواب فيه إلا كامل الفقه، لكن في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة)): دليل على تقديم الأقرأ مطلقاً، والصواب أن الأقرأ يقدم إذا كان عارفاً فقه صلاته. [انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 178، والمفهم في تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 2/ 297، والمغني لابن قدامة، 3/ 11 - 12، وفتح الباري لابن حجر، 2/ 171، ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 389، وحاشية ابن قاسم على الروض المربع، 2/ 296، والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 289 - 291، وسبل السلام للصنعاني، 3/ 95]. (¬3) فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة: الهجرة المقدَّم بها في الإمامة لا تختص بالهجرة في عصره - صلى الله عليه وسلم -، بل هي التي لا تنقطع إلى يوم القيامة كما ثبت ذلك في الأحاديث؛ لأن الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام قربة وطاعة، فقدم السابق إليها؛ لسبقه إلى الطاعة. انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 15، وشرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 179، ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 390، وسبل السلام للصنعاني، 3/ 96. (¬4) الأقدم سلماً وفي رواية ((سنّاً))، وفي الرواية الأخرى ((فأكبرهم سنّاً))، وهذا لفضيلة السبق إلى الإسلام، والرواية الأخرى ((سنّاً)) راجع إلى سبق السن بالإسلام؛ لأن الأكبر سبق الأصغر. [انظر: المفهم للقرطبي، 2/ 298] وسمعت شيخنا ابن باز يقول أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 436: ((ومن كان أقدم سلماً فهو أكبرهم سنّاً إلا أن يكونوا كفاراً ثم أسلموا، فأقدمهم إسلاماً هو من جنس أقدمهم هجرة)) [وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم،5/ 180، ونيل الأوطار للشوكاني،2/ 390،وسبل السلام للصنعاني،3/ 96،والمغني لابن قدامة،3/ 15].

سلطانه (¬1)، ولا يقعد في بيته على تكْرِمَتِه (¬2) إلا بإذنه)). وفي لفظ: ((يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله وأقدمهم قراءة، فإن كانت قراءتهم سواءً ... )) (¬3). أما حديث مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - الذي فيه: ((فإذا حضرت الصلاة فليؤذّن لكم أحدُكم ثم ليؤمَّكم أكبرُكم)) (¬4).فقدم الأكبر؛ لأنهم استووا في باقي الخصال والشروط؛ لأنهم هاجروا جميعاً، وصحبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولازموه عشرين ليلة، فاستووا في الأخذ عنه، ولم يبق ما يقدم به إلا السن (¬5). فالمراتب خمس: يقدم الأقرأ، فالأعلم بالسنة، فالأقدم هجرة، فالأقدم إسلاماً، فالأكبر سنّاً (¬6). ¬

(¬1) ولا يؤمّنّ الرجل الرجل في سلطانه أي في موضع سلطته، وهو ما يملكه أو يتسلط عليه بالتصرف فيه، ويدخل فيه صاحب البيت والمجلس، وإمام المسجد، وأعظم السلطة السلطان الأعظم؛ لأن ولايته عامة، وصاحب المكان أحق فإن شاء تقدم وإن شاء قدم من يريده، وإن كان ذلك الذي يقدمه مفضولاً بالنسبة للحاضرين؛ لأنه سلطانه فيتصرف فيه كيف شاء، والسلطان مقدم على إمام المسجد وصاحب البيت، ويستحب لصاحب البيت أن يأذن لمن هو أفضل منه. [انظر: المفهم للقرطبي، 2/ 299،والمغني لابن قدامة، 3/ 42،وشرح النووي، 5/ 180،ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 391، وسبل السلام للصنعاني، 3/ 97،والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 299]. (¬2) ((ولا يقعد على تكرمته إلا بإذنه))، وفي رواية: ((ولا تجلس على تكرمته في بيته إلا أن يأذن لك أو بإذنه))، والتكرمة: الفراش ونحوه مما يبسط لصاحب المنزل ويخص به، ووجه هذا المنع أنه مبني على منع التصرف في ملك الغير إلا بإذنه، غير أنه خص التكرمة بالذكر للتساهل في القعود عليها، وإذا منع القعود فمنع التصرف بنقلها أو بيعها أولى. المفهم للقرطبي، 2/ 299،وشرح النووي على صحيح مسلم،5/ 180. (¬3) صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة، برقم 673. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب من قال: ليؤذن في السفر مؤذن واحد، برقم 628، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من الأحق بالإمامة، برقم 674. (¬5) انظر: شرح النووي على مسلم، 5/ 181، والمفهم للقرطبي، 2/ 301. (¬6) انظر: الشرح الممتع، 4/ 296.

خامسا: أنواع الإمامة في الصلاة على النحو الآتي:

خامساً: أنواع الإمامة في الصلاة على النحو الآتي: 1 - إمامة الصبي جائزة على الصحيح (¬1)؛ لحديث عمرو بن سلمة قال: كنا بماء ممرّ الناس (¬2)، وكان يمرّ بنا الرّكبان فنسألهم ما للناس ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ (¬3) فيقولون: يزعم أن الله أرسله، أوحى إليه، أوحى الله بكذا، فكنت أحفظ ذاك الكلام، فكأنما يقرُّ في صدري، وكانت العرب تلوَّم بإسلامهم الفتح (¬4)، فيقولون اتركوه وقومه، فإن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم (¬5)، فلما قَدِمَ قال: ((جئتكم والله من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - حقّاً، فقال: ((صلّوا صلاة كذا في حين كذا، وصلّوا صلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصّلاة فليؤذّن أحدُكم، وليؤمَّكم أكثرُكم قرآناً)) فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآناً منّي؛ لِمَا كنت أتلقَّى من الركبان، فقدّموني بين أيديهم، وأنا ابن ست أو سبع سنين، وكانت عليَّ بردة، كنت إذا سجدت تقلَّصت عني (¬6)،فقالت امرأة من الحي: ألا تغطُّون عنا است قارئكم؟ فاشتروا (¬7) فقطعوا لي قميصاً فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص)).وفي أبي داود زيادة: ((قال عمرو بن سلمة: فما شهدت ¬

(¬1) اختلف أهل العلم في إمامة الصبي: فمذهب الشافعية أنها تصح مطلقاً في الفريضة والنفل، ومذهب المالكية، والحنفية، والحنابلة أن إمامة الصبي لا تصح في الفرض بالبالغ. انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 70، والشرح الكبير ومعه المقنع والإنصاف، 4/ 387، وفتح الباري لابن حجر، 8/ 23، ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 401. (¬2) بماء ممر الناس: موضع مرورهم. انظر: فتح الباري لابن حجر، 8/ 23، وإرشاد الساري للقسطلاني، 9/ 284. (¬3) ما هذا الرجل: يسألون عن حال النبي - صلى الله عليه وسلم - وحال العرب معه. فتح الباري لابن حجر، 8/ 23. (¬4) تلوَّم: تنتظر. فتح الباري لابن حجر، 8/ 23. (¬5) بدر: سبق. المرجع السابق، 8/ 23. (¬6) بردة: كساء صغير مربع ويقال كساء أسود، ومعنى: تقلصت: انكشفت عنه. انظر: فتح الباري لابن حجر، 8/ 23، ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 401. (¬7) فاشتروا: أي ثوباً، انظر: فتح الباري، 8/ 23.

2 - إمامة الأعمى صحيحة بلا كراهة

مجمعاً من جرم إلا كنت إمامهم، وكنت أصلي على جنائزهم إلى يومي هذا)) (¬1). وهذا هو الصّواب أنّ إمامة الصّبي تصحّ بالفرض والنّفل إذا قدّمه القوم وكان أكثرهم قرآناً، وقد بلغ سبع سنين؛ لأنه لا قياس في مقابلة النّصّ؛ ولأنّ إمامة عمرو بن سلمة بقومه كانت زمن الوحي، فلو كانت الصّلاة باطلة وعمله منكراً؛ لأنكره الله تعالى؛ ولأنّ الذين قدَّموا عمراً كانوا كلهم صحابة (¬2)، وقد قال جابر - رضي الله عنه -: ((كنّا نعزل والقرآن ينزل)) وفي لفظ: ((كنّا نعزل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (¬3). وفي رواية مسلم: ((كنّا نعزل والقرآن ينزل، ولو كان شيئاً ينهى عنه لنهانا عنه القرآن)). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يرجّح صحّة إمامة الصبي الذي بلغ سبع سنين في الفرض والنّفل، وأنه يعتدّ بالصّبي في المصافة في الصّلاة، وأنّ الأصل في الفرائض والنّوافل سواء إلا ما خصّه الدّليل (¬4). 2 - إمامة الأعمى صحيحة بلا كراهة؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - استخلف ابن أمّ مكتوم يؤمُّ الناس وهو أعمى (¬5)، وفي رواية عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) البخاري، كتاب المغازي، باب مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة زمن الفتح، برقم 4302، وزيادة أبي داود: ((فاشتروا لي قميصاً عُمانيّاً))، برقم 585،وزاد في روايته رقم 587: ((فما شهدت مجمعاً من جرم إلا كنت إمامهم، وكنت أصلي على جنائزهم إلى يومي هذا)). (¬2) انظر: نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 401، وفتح الباري لابن حجر، 8/ 23، و2/ 185، وسبل السلام للصنعاني، 3/ 94، ومجموع فتاوى ابن باز، 12/ 198، والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 317 - 318. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب النكاح، باب العزل، برقم 5207 - 5209، ومسلم، كتاب النكاح، باب حكم العزل، برقم 1440. (¬4) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام الحديث رقم 435، وأثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 4302. (¬5) ابو داود، كتاب الصلاة، باب إمامة الأعمى، برقم 595،وأحمد في المسند، 3/ 192، والبيهقي في السنن الكبرى، 3/ 88، وله شاهد عن عائشة رضي الله عنها عند ابن حبان في [الإحسان،5/ 506 برقم 2134]،وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 118: ((حسن صحيح)).

3 - إمامة العبد والمولى صحيحة

استخلف ابن أمّ مكتوم على المدينة مرتين (¬1). وقد عُدَّت مراتُ استخلاف ابن أم مكتوم فبلغت ثلاث عشرة مرة، وهذا دليل على صحّة إمامة الأعمى من دون كراهة في ذلك (¬2)، ويدلّ على ذلك ما رواه محمود بن الربيع الأنصاري - رضي الله عنه - أن عتبان بن مالك كان يؤمُّ قومَهُ وهو أعمى، وأنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يا رسول الله: إنها تكون الظلمة والسيل، وأنا رجل ضرير البصر، فصلّ يا رسول الله في بيتي مكاناً أتخذه مُصلَّى، فجاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أين تحبّ أن أصلّي))؟ فأشار إلى مكان من البيت فصلّى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). 3 - إمامة العبد والمولى صحيحة؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: لَمّا قَدِمَ المهاجرون الأوّلون العقبة - موضع بقباء - قبل مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يؤمُّهم سالم مولى أبي حذيفة - رضي الله عنه - وكان أكثرهما قرآناً (¬4). وفي رواية: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين الأولين وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسجد قباء، فيهم أبو بكر، وعمر، وأبو سلمة، وزيد، وعامر بن ربيعة (¬5). وكان سالم مولى امرأة من الأنصار فأعتقته، وكانت إمامته بهم قبل أن يُعتق، وإنما قيل له: مولى أبي حذيفة؛ لأنه لازم أبا حذيفة بعد أن أعتق فتبناه، فلما نهوا عن ذلك قيل له: مولاه، وسبب تقديمهم له؛ لأنه كان أكثرهم قرآناً (¬6)، قال البخاري - رحمه الله -: ((باب إمامة العبد المولى، وكانت عائشة يؤمها عبدها ذكوان من المصحف. وولد البغي والأعرابي والغلام الذي لم يحتلم، لقول ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الخراج، باب في الضرير يولَّى، برقم 2931، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 566. (¬2) انظر: سبل السلام للصنعاني، 3/ 120، ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 395. (¬3) البخاري، كتاب الأذان، باب الرخصة في المطر والعلة أن يصلي في رحله، برقم 667. (¬4) البخاري، كتاب الأذان، باب إمامة العبد والمولى، برقم 692. (¬5) البخاري، كتاب الأحكام، باب استقضاء الموالي واستعمالهم، برقم 7175. (¬6) انظر: فتح الباري لابن حجر، 2/ 186، ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 396.

4 - إمامة المرأة للنساء صحيحة

النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يؤمُّهم أقرؤهم لكتاب الله)) ولا يُمنع العبد من الجماعة بغير علة)) (¬1). 4 - إمامة المرأة للنساء صحيحة؛ لحديث أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يزورها في بيتها، وجعل لها مؤذناً يؤذن لها، وأمرها أن تؤمَّ أهل دارها. قال عبد الرحمن بن خلاَّد الراوي عنها: ((أنا رأيتُ مؤذنها شيخاً كبيراً)) (¬2). وهذا يدلّ على مشروعية صلاة النساء جماعة منفردات عن الرجال (¬3)، ورجح الإمام ابن القيم - رحمه الله - استحباب صلاة النساء جماعة؛ لحديث أم ورقة؛ ولأن عائشة رضي الله عنها أمَّت نسوة في المكتوبة فأمتهنَّ بينهن وسطاً (¬4)؛ ولأن أم سلمة رضي الله عنها أمَّت نساء فقامت وسطهن (¬5)، ولو لم يكن في المسألة إلا عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)) (¬6) لكفى (¬7). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول عن حديث ورقة: ((وأنه يدلّ على مشروعية ذلك، ولا بأس به، ويستحب ذلك، والحديث وإن كان في إسناده كلام، ولكن مثله نوع ¬

(¬1) البخاري، كتاب الأذان، باب إمامة العبد والمولى، قبل الحديث رقم 692. (¬2) أبو داود، بلفظه، كتاب الصلاة، باب إمامة النساء، برقم 592، وأحمد، 6/ 405، والحاكم، 1/ 203، والبيهقي، 3/ 130، والدارقطني، 1/ 403، وابن خزيمة في صحيحه،3/ 89،برقم 1676، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود،1/ 118. (¬3) اختلف العلماء في صلاة الجماعة للنساء منفردات عن الرجال في بيوتهن: فقيل: سنة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر ورقة أن تؤم أهل دارها، وقيل: مكروهة، وقالوا: بأن حديث ورقة ضعيف، وقيل: مباحة؛ لأن النساء من أهل الجماعة في الجملة؛ ولهذا أبيح لها أن تحضر في المسجد لإقامة الجماعة، فتكون إقامة الجماعة في بيتها مباحة مع ما في ذلك من التستر. انظر: المغني لابن قدامة 3/ 37، والشرح الممتع لابن عثيمين 4/ 198 - 199. (¬4) عبد الرزاق في المصنف، 3/ 141 برقم 5086، وابن أبي شيبة، 2/ 89، والحاكم 1/ 203، والدارقطني، 1/ 404، والبيهقي، 3/ 131، وابن حزم، 3/ 171. (¬5) عبد الرزاق في المصنف، 2/ 140،برقم 5082،وابن أبي شيبة، 2/ 88،والشافعي في المسند، 6/ 86، والدارقطني، 1/ 404، والبيهقي، 3/ 131، وابن حزم، 3/ 172. (¬6) متفق عليه، وتقدم تخريجه في فضل صلاة الجماعة. (¬7) إعلام الموقعين، 3/ 357.

5 - إمامة الرجل للنساء فقط صحيحة

مستقل ويعمل به، ويعضده ما جاء عن عائشة، وأم سلمة أنهما كانتا تؤمان أهل بيتهما، لكن تقف في وسط النساء، وصلاة الجماعة لا تجب عليهن، ولكن تستحب)) (¬1). 5 - إمامة الرجل للنساء فقط صحيحة؛ لأخبار وردت في ذلك (¬2)؛ ولأن الأصل صحة صلاة الجماعة وانعقادها بالنساء مع الرجل، بل بالمرأة مع الرجل ومن منع فعليه الدليل (¬3)، إلا إذا كانت أجنبية وحدها فإنه يحرم أن يؤمَّها؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه: ((لا يخلونَّ أحدُكم بامرأة إلا مع ذي محرم)) (¬4)، والصحيح أن إمامة النساء لا تكره إلا إذا خاف الفتنة؛ ابتعد عن ذلك؛ لأن ما كان ذريعة إلى حرام فهو حرام (¬5)، وقد كان ذكوان مولى عائشة رضي الله عنهما يؤمها من المصحف (¬6). 6 - إمامة المفضول للفاضل صحيحة؛ لحديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - حينما كان مع النبي في غزوة تبوك، وذكر وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه جاء معه قال: حتى نجد الناس قد قدَّموا عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم حين كان وقت الصلاة، قال: ووجدنا عبد الرحمن وقد صلى بهم ركعة من صلاة الفجر، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصفَّ مع المسلمين فصلى وراء عبد الرحمن بن عوف الركعة الثانية، فلما سلَّم عبد الرحمن قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتمُّ صلاته، قال: فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته أقبل عليهم ثم قال: ((أحسنتم))، أو ((قد أصبتم))، يغبطهم أن صلّوا الصلاة لوقتها (¬7)، وهذا يدلّ على صحّة ¬

(¬1) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 447،وانظر: مجموع فتاوى ومقالات له،12/ 130. (¬2) مسند أبي يعلى، 3/ 336 برقم 1801، وانظر: مجمع الزوائد للهيثمي، 2/ 74، وسبل السلام للصنعاني، 3/ 119. (¬3) انظر: نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 369. (¬4) متفق عليه: البخاري، برقم 1862،ومسلم، برقم 1341،وتقدم تخريجه في صلاة الجماعة. (¬5) انظر: الشرح الممتع، لابن عثيمين، 4/ 352. (¬6) البخاري، كتاب الأذان، باب إمامة العبد والمولى، قبل الحديث رقم 692. (¬7) متفق عليه: البخاري، برقم 182،ومسلم برقم 274،وتقدم تخريجه في صلاة الجماعة.

7 - إمامة المتيمم للمتوضئ جائزة

إمامة المفضول للفاضل. 7 - إمامة المتيمم للمتوضئ جائزة؛ لحديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((يا عمرو صلّيت بأصحابك وأنت جنب))؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيما} (¬1)، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل شيئاً (¬2). وفي رواية: ((فغسل مغابنه وتوضأ وضوءه للصلاة ثم صلّى بهم ... )) (¬3). قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: ((وقال البيهقي: يمكن الجمع بين الروايات بأنه توضأ ثم تيمم عن الباقي، وقال النووي: وهو متعيّن)) (¬4). وفي لفظ البخاري: ((فذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعنّف))، ووقع في رواية ((فلم يعنّفه))، قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: ((وفي هذا الحديث جواز التيمم لمن يتوقع من استعمال الماء الهلاك، سواء كان من أجل برد أو غيره، وجواز صلاة المتيمم بالمتوضئين .. )) (¬5). قال ابن قدامة - رحمه الله -: ((ويصحَّ ائتمام المتوضئ بالمتيمم لا أعلم فيه خللاً)) (¬6).ولكن لا يتيمم لشدة البرد من أمكنه أن يسخن الماء أو يستعمله على وجه يأمن الضرر منه (¬7). ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 29. (¬2) أبو داود، كتاب الطهارة، باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمم؟ برقم 334، وأحمد، 4/ 203، والدارقطني، 1/ 178، والحاكم، 1/ 177، والبيهقي، 1/ 226، وابن حبان، برقم 1315، والبخاري تعليقاً في كتاب التيمم، باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت أو خاف العطش تيمم، قبل الحديث رقم 345، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 68. (¬3) أبو داود في الكتاب والباب المذكور، برقم 335، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 68. (¬4) فتح الباري، 1/ 454. (¬5) فتح الباري 1/ 454، والمغني لابن قدامة، 3/ 66. (¬6) المغني، 3/ 66. (¬7) انظر: نيل الأوطار للشوكاني، 1/ 294.

8 - إمامة المسافر للمقيم صحيحة ويتم المقيم بعد سلام المسافر

8 - إمامة المسافر للمقيم صحيحة ويتم المقيم بعد سلام المسافر؛ للآثار في ذلك (¬1) والإجماع، قال الإمام ابن قدامة - رحمه الله -: ((أجمع أهل العلم على أن المقيم إذا ائتم بالمسافر وسلم المسافر من ركعتين أن على المقيم إتمام الصلاة)) (¬2). وعن عمر - رضي الله عنه - أنه كان إذا قدم بمكة صلى بهم ركعتين ثم يقول: ((يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قومٌ سفْرٌ)) (¬3). فظهر من ذلك أن المقيم إذا صلى خلف المسافر صلاة الفريضة: كالظهر، والعصر، والعشاء، فإنه يلزمه أن يكمل صلاته أربعاً، أما إذا صلى المقيم خلف المسافر طلباً لفضل الجماعة، وقد صلى المقيم فريضته، فإنه يصلي مثل صلاة المسافر: ركعتين؛ لأنها في حقه نافلة (¬4). وإذا أمّ المسافر المقيمين فأتمَّ بهم فصلاتهم تامّة صحيحة وخالف الأفضل (¬5). 9 - إمامة المقيم للمسافر صحيحة، ويتمّ المسافر مثل صلاة إمامه، سواء أدرك جميع الصلاة، أو ركعة، أو أقل، وحتى لو دخل معه في التشهد الأخير ¬

(¬1) روي عن عمران - رضي الله عنه - يرفعه: ((أنه - صلى الله عليه وسلم - أقام بمكة زمان الفتح ثماني عشرة ليلة يصلي بالناس ركعتين ركعتين إلا المغرب ثم يقول: يا أهل مكة قوموا فصلوا ركعتين أخريين فإنا سفر)) أحمد بلفظه، 4/ 430، وأبو داود، كتاب صلاة السفر، باب متى يتم المسافر، برقم 1229 ولفظه: ((يا أهل البلد صلوا أربعاً فإنا قوم سفر))، وفي سنده علي بن زيد بن جدعان ضعيف، قال الشوكاني: ((وإنما حسّن الترمذي حديثه (545) لشواهده))، نيل الأوطار، 2/ 402. (¬2) المغني، 3/ 146، وانظر: نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 403. (¬3) مالك في الموطأ موقوفاً، كتاب قصر الصلاة في السفر، باب صلاة المسافر إذا كان إماماً أو كان وراء الإمام، برقم 19، 1/ 149. قال الإمام الشوكاني في نيل الأوطار، 2/ 402: ((وأثر عمر رجال إسناده أئمة ثقات)). (¬4) انظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، للإمام ابن باز، 12/ 259 - 261. (¬5) انظر: المغني، لابن قدامة، 3/ 146، ومجموع فتاوى ابن باز، 12/ 260، وقد كان عثمان - رضي الله عنه - يتم بالناس في الحج في السنوات الأخيرة من خلافته، وثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تتم الصلاة في السفر، وتقول: إنه لا يشق عليها، فلا حرج في إتمام المسافر، ولكن الأفضل ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه المشرع المعلم - صلى الله عليه وسلم -. انظر: مجموع فتاوى ابن باز، 12/ 260، وحديث عثمان في مسلم، برقم 694، 695.

10 - إمامة من يؤدي الصلاة بمن يقضيها صحيحة على القول الصحيح من قولي أهل العلم

قبل السلام فإنه يتم، وهذا هو الصواب من قولي أهل العلم، لِمَا ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما من حديث موسى بن سلمة - رحمه الله - قال: كنّا مع ابن عباس بمكة فقلت: إنا إذا كُنّا معكم صلّينا أربعاً وإذا رجعنا إلى رحالنا صلينا ركعتين، قال: ((تلك سنّة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -)) (¬1). وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا صلّى مع الإمام صلّى أربعاً وإذا صلاها وحده صلّى ركعتين (¬2). وذكر الإمام ابن عبد البر - رحمه الله - أن في إجماع الجمهور من الفقهاء على أن المسافر إذا دخل في صلاة المقيمين فأدرك منها ركعة أنه يلزمه أن يصلي أربعاً (¬3). وقال: ((قال أكثرهم إنه إذا أحرم المسافر خلف المقيم قبل سلامه أنه تلزمه صلاة المقيم، وعليه الإتمام)) (¬4). ومما يدلّ على أنّ المسافر إذا صلى خلف المقيم يلزمه الإتمام عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما جُعل الإمام ليؤتمّ به فلا تختلفوا عليه، فإذا كبَّر فكبّروا ... (¬5))) (¬6). 10 - إمامة من يؤدي الصلاة بمن يقضيها صحيحة على القول الصحيح من قولي أهل العلم، مثال ذلك رجل وجد الناس يصلون ظهر اليوم وذكر أن عليه صلاة الظهر بالأمس، فإنه يدخل معهم خلف الإمام وينوي ظهر أمس؛ فصلاته صحيحة، لأنه قاضٍ صلى خلف مؤدٍّ؛ ولأنّ التّرتيب بين الصّلوات واجب فيصلي ¬

(¬1) أحمد في المسند، 1/ 216، قال الألباني في إرواء الغليل، 3/ 21: ((قلت وسنده صحيح رجاله رجال الصحيح))، والحديث أخرجه مسلم بلفظ: ((كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أصلّ مع الإمام؟ فقال: ((ركعتين سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -))، مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، برقم 688. (¬2) مسلم، الكتاب والباب السابق، برقم 17 (688)،وانظر آثاراً في موطأ الإمام مالك، 1/ 149 - 150. (¬3) التمهيد، 16/ 311 - 312. (¬4) التمهيد 16/ 315. (¬5) متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -:البخاري، كتاب الأذان، باب إقامة الصف من تمام الصلاة، برقم 722، ومسلم، كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، برقم 414. (¬6) انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 146، ومجموع فتاوى الإمام ابن باز، 12/ 159، 260، والشرح الممتع، لابن عثيمين 4/ 519.

11 - إمامة من يقضي الصلاة بمن يؤديها عكس المسألة السابقة صحيحة على القول الصحيح

الصّلاة بنيّة الفائتة ثم يصلي الحاضرة (¬1). 11 - إمامة من يقضي الصلاة بمن يؤديها عكس المسألة السابقة صحيحة على القول الصحيح، فيكون الإمام هو الذي يقضي والمأموم هو الذي يؤدي، مثال ذلك رجل عليه ظهر أمس فصلى فدخل معه من يصلي ظهر اليوم، فالإمام يصلي بنية ظهر أمس، والمأموم بنية ظهر اليوم، فصحّة المؤداة خلف المقضية وبالعكس؛ لأنّ الصلاة واحدة وإنما اختلف الزّمن (¬2). 12 - إمامة المفترض للمتنفل صحيحة بلا خلاف؛ لحديث أبي سعيد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبصر رجلاً يصلي وحده، فقال: ((ألا رجل يتصدّق على هذا فيصلي معه)) (¬3)؛ ولأحاديث إعادة صلاة الجماعة لمن أدرك الجماعة وقد صلى قبل ذلك (¬4)، ومنها حديث يزيد بن الأسود وفيه: ((إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة)) (¬5). قال الإمام ابن قدامة - رحمه الله -: ((ولا نعلم بين أهل العلم فيه ¬

(¬1) انظر: الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص104، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للمرداوي المطبوع مع المقنع والشرح الكبير، 4/ 408، وحاشية ابن قاسم على الروض المربع، 2/ 328، والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 357، ومجموع فتاوى الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز، 12/ 182. (¬2) انظر: الإنصاف لمعرفة الراجح من الخلاف للمرداوي، المطبوع مع المقنع والشرح الكبير، 4/ 409، والاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص104، وحاشية ابن قاسم على الروض المربع، 2/ 328، والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 357، ومجموع فتاوى الإمام ابن باز، 12/ 182، 184، 186، 188، 189، 191. (¬3) أبو داود، برقم 574، والترمذي، برقم 220، وأحمد 3/ 45، 64، وغيرهم، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 2/ 316، وتقدم تخريجه في الصلوات ذوات الأسباب آخر صلاة التطوع. (¬4) تقدم تخريجها في صلاة الجماعة فيمن صلى ثم أدرك جماعة أعادها معهم نافلة. (¬5) الترمذي، برقم 219، وأبو داود، برقم 575، والنسائي، برقم 858، وتقدم تخريجه في الصلوات ذوات الأسباب آخر صلاة التطوع.

13 - إمامة المتنفل للمفترض جائزة على القول الصحيح

اختلافاً)) (¬1). 13 - إمامة المتنفل للمفترض جائزة على القول الصحيح؛ لحديث جابر - رضي الله عنه - أن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - ((كان يصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء ثم يأتي مسجد قومه فيصلي بهم تلك الصلاة)) (¬2). ومعلوم أن الصلاة الأولى هي الفريضة والثانية لمعاذ هي النافلة، ولم ينكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض أنواع صلاة الخوف بالطائفة الأولى ركعتين، ثم سلم، ثم صلى بالطائفة الثانية ركعتين ثم سلم (¬3)، فالصلاة الأولى فرض النبي - صلى الله عليه وسلم -، والثانية نفلاً (¬4)، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (¬5). فعلى هذا تجوز صلاة العشاء خلف من يصلي صلاة التراويح وغيرها (¬6). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول عن هذين الحديثين: ((وهذا واضح في جواز إمامة المتنفل بالمفترض)) (¬7). 14 - إمامة من يصلي العصر أو غيرها بمن يصلي الظهر أو غيرها جائزة على القول الصحيح؛ لأنها فرع من إمامة المتنفل بالمفترض على الصحيح، وهي مثلها في الحكم، بل هنا أولى؛ لصحة صلاة من يصلي الظهر خلف من يصلي الجمعة، فلو أدرك المأموم الإمام في صلاة الجمعة بعد الرفع من الركوع في الركعة الثانية من صلاة الجمعة دخل معه بنية ¬

(¬1) المغني، 3/ 68. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب: إذا طول الإمام وكان للرجل حاجة فخرج وصلى، برقم 700، ومسلم بلفظه، كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء، برقم 180 و181 [464]. (¬3) النسائي، كتاب صلاة الخوف، برقم 1552، وصححه الألباني، في صحيح سنن النسائي 1/ 340. (¬4) انظر: سبل السلام للصنعاني، 3/ 210، ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 404، والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 310، وفتاوى الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز، 12/ 178، والإحكام شرح أصول الأحكام لابن قاسم، 1/ 381. (¬5) انظر: الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص104. (¬6) المغني لابن قدامة، 3/ 69،وانظر: مجموع فتاوى الإمام ابن تيمية، 23/ 386، ومجموع فتاوى ابن باز،12/ 181 جمع الشويعر، و4/ 413 - 414، 443 جمع الطيار. (¬7) سمعته منه أثناء تقريره على المنتقى من أحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الحديث رقم 1438.

الظهر فإذا سلم الإمام قام فصلى أربعاً ظهراً (¬1). وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وشيخنا الإمام ابن باز وغيرهما - رحمهم الله - (¬2). وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنّما جُعِل الإمام ليؤتمّ به فلا تختلفوا عليه ... )) (¬3). فالاختلاف المراد به في الحديث الاختلاف في الأفعال والأقوال (¬4)، كما جاء مفسراً بقوله: ((إنّما جُعل الإمام ليؤتمَّ به، فإذا كبّر فكبروا ولا تكبروا حتى يُكبّر، وإذا ركع فاركعوا ولا تركعوا حتى يركع، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربّنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا ولا تسجدوا حتى يسجد، وإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإذا صلّى قاعداً فصلّوا قعوداً أجمعون)) (¬5). قال الإمام الصنعاني - رحمه الله -: ((الحديث لم يشترط المساواة في النية، فدلّ أنها إذا اختلفت نية الإمام والمأموم - كأن ينوي أحدهما فرضاً والآخر نفلاً، أو ينوي هذا عصراً، والآخر ظهراً أنها تصحّ الصلاة جماعة)) (¬6). وسمعت سماحة شيخنا الإمام عبد العزيز ابن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول في شرحه لهذا الحديث: ((فقد ذكر الأفعال والأقوال ولم يذكر النية فدلّ على أن النية مغتفرة)) (¬7)، فعلى ذلك لا يؤثر اختلاف النية: فتصح إمامة من يصلي الظهر بمن يصلي العشاء، ¬

(¬1) انظر: حاشية ابن قاسم على الروض المربع، 2/ 330. (¬2) انظر: الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص104، ومجموع فتاوى ابن باز، 12/ 191، وهو مذهب الشافعي كما في المجموع للنووي، 4/ 150، واختاره أيضاً الشيخ محمد بن إبراهيم في فتاويه، 2/ 306. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم 722، ومسلم، برقم 414،وتقدم تخريجه في إمامة المقيم للمسافر. (¬4) انظر: الشرح الكبير لابن قدامة، 4/ 412، وحاشية ابن قاسم على الروض المربع، 2/ 329، والإحكام شرح أصول الأحكام لابن قاسم، 1/ 382، والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 365. (¬5) أبو داود بلفظه، كتاب الصلاة، باب الإمام يصلي من قعود، برقم 603، وهو حديث صحيح، وأصله متفق عليه: البخاري، برقم 722، ومسلم، برقم 414، وتقدم تخريجه في إمامة المقيم للمسافر. (¬6) سبل السلام شرح بلوغ المرام، 3/ 79. (¬7) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 429.

وإمامة من يصلي الظهر بمن يصلي العصر، ومن يصلي العصر بمن يصلي الظهر، ومن يصلي صلاة أكثر بمن يصلي أقل، ومن يصلي أقل بمن يصلي أكثر مثال من يصلي صلاة أكثر خلف من يصلي أقل: كمن يصلي العشاء خلف من يصلي المغرب، فإنه يصلي مع الإمام فإذا سلّم إمامه قام وأتى بركعة. ومثال من يصلي صلاة أقل خلف من يصلي صلاة أكثر، كمن يصلي المغرب خلف من يصلي العشاء، فإنه إن أدرك الإمام في الركعة الثانية فما بعدها فلا إشكال؛ لأنه يتابع إمامه ويسلم معه، وإن دخل في الركعة الثالثة أتى بعده بركعة، وإن دخل في الرابعة أتى بعده بركعتين، لكن إن أدرك الإمام في الركعة الأولى فإنه يلزمه إذا قام الإمام إلى الرابعة أن يجلس ولا يقوم معه بل ينتظر في التشهد حتى يسلم مع إمامه، هذا هو الأفضل، وإن نوى الانفراد وقرأ التشهد الأخير ثم سلم فلا حرج (¬1)، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (¬2)، وشيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز (¬3)، والشيخ العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ (¬4) رحمهم الله تعالى (¬5). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله يقول: (( ... وهكذا على الأرجح لو جاء وهم يصلون العشاء وهو لم يصل المغرب بسبب السفر أو المرض [فقد] اختلف العلماء: فقيل يصلي معهم العشاء نافلة ثم يصلي المغرب، وقيل: يجوز عدم الترتيب، وقيل: يصلي معهم المغرب بنية المغرب فإذا قاموا إلى الرابعة جلس ينتظرهم ثم يسلم معهم، وهذا قول حسن وجيد وهو معذور في الجلوس كما ¬

(¬1) انظر: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي، المطبوع مع المقنع والشرح الكبير 4/ 413 - 414 وذكر أنه اختيار المجد في شرحه، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. (¬2) انظر: الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص104 - 105. (¬3) انظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للإمام ابن باز، 12/ 186، 190. (¬4) انظر: فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم، 2/ 305 - 306. (¬5) وانظر: الشرح الممتع للعلامة ابن عثيمين، 4/ 364 - 368.

15 - إمامة الفاسق الذي تصح صلاته لنفسه صحيحة على القول الصحيح من قولي أهل العلم

يجلس المسبوق ثم يتم صلاته، حتى ولو لم يدرك إلا ركعة جلس معهم ثم أتم، فالتأخر لعذر والمتابعة لعذر شرعي)) (¬1). 15 - إمامة الفاسق الذي تصحّ صلاته لنفسه صحيحة على القول الصحيح من قولي أهل العلم، إذا كانت معصيته أو بدعته لا تخرجه عن الإسلام، لكن ينبغي أن لا يرتب إماماً في الصلاة وغيرها (¬2). ومما يدلّ على صحّة إمامة الفاسق حديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يُؤَخّرون الصلاة عن وقتها أو يميتون الصلاة عن وقتها))؟ قال: قلت فما تأمرني؟ قال: ((صلّ الصلاة لوقتها، فإذا أدركتها معهم فصلّ فإنها لك نافلة [ولا تقل إني قد صلّيت فلا أصلي])) (¬3)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((يصلّون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم)) (¬4)؛ ولأن جمعاً من الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يصلون الجمعة، والجماعة، والأعياد خلف الأئمة الفجار ولا يعيدون الصلاة، كما كان عبد الله بن عمر يصلي خلف الحجاج بن يوسف (¬5)، وابن عمر كان - رضي الله عنه - من أشدّ الناس تحرّياً لاتباع السنة، واحتياطاً لها، والحجاج معروف بأنه من أفسق الناس. وكذا أنس - رضي الله عنه - كان يصلي خلف الحجاج، وكذلك عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - وغيره من الصحابة كانوا يصلّون خلف الوليد بن أبي معيط، وقد صلّى بهم الصبح يوماً ركعتين، ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان عند عثمان - رضي الله عنه - فأقام عليه الحدّ، فجلده ¬

(¬1) سمعته أثناء تقريره على الحديث رقم 429 من بلوغ المرام. وانظر: مجموع الفتاوى له، 12/ 186، 190. (¬2) انظر: مجموع فتاوى الإمام ابن باز، 12/ 112، ومن 106 - 127، والمغني لابن قدامة، 3/ 22، والكافي لابن قدامة، 1/ 415. (¬3) مسلم، برقم 648،وتقدم تخريجه في الصلوات ذوات الأسباب في آخر صلاة التطوع. (¬4) البخاري، برقم 694، وتقدم تخريجه في فضل الإمامة. (¬5) البخاري، كتاب الحج، باب التهجير بالرواح يوم عرفة، برقم 1660، وباب الجمع بين الصلاتين بعرفة، برقم 1662، وباب قصر الخطبة بعرفة، برقم 1663.

أربعين، ثم قال: جلد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلٌّ سنة وهذا أحب إليّ (¬1). وفي الصحيح عن عبيد الله بن عدي بن خيار أنه دخل على عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وهو محصور فقال: إنك إمام عامة ونزل بك ما نرى ويصلي لنا إمام فتنة ونتحرج، فقال: ((الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم)) (¬2). وصلى أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - خلف مروان بن الحكم صلاة العيد في قصة تقديمه الخطبة على الصلاة (¬3). قال الإمام الشوكاني - رحمه الله -: (( ... وقد ثبت إجماع أهل العصر الأول من بقية الصحابة ومن معهم من التابعين إجماعاً فعليّاً، ولا يبعد أن يكون قوليّاً على الصلاة خلف الجائرين؛ لأن الأمراء في تلك الأعصار كانوا أئمة الصلوات الخمس، فكان الناس لا يؤمهم إلا أمراؤهم، في كل بلدة فيها أمير)) (¬4). وقال: ((والحاصل أن الأصل عدم اشتراط العدالة وأن كل من صحّت صلاته لنفسه صحت صلاته لغيره ... واعلم أن محلّ النّزاع إنما هو صحة الجماعة خلف من لا عدالة له، وأما أنها مكروهة فلا خلاف في ذلك)) (¬5).قال الإمام الطحاوي-رحمه الله-: ((ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة وعلى من مات منهم)) (¬6). وقد تكلم الشارح كلاماً نفيساً رجح فيه صحة الصلاة خلف الفاسق، وأن من أظهر بدعته وفسقه لا يرتب إماماً للمسلمين؛ لأنه يستحق التعزير حتى يتوب، وإن أمكن هجره حتى يتوب ¬

(¬1) مسلم، كتاب الحدود، باب حدّ الخمر، برقم 1707. (¬2) البخاري، كتاب الأذان، باب إمامة المفتون والمبتدع، برقم 695. (¬3) صحيح مسلم، كتاب صلاة العيدين، باب كتاب صلاة العيدين، برقم 889. (¬4) نيل الأوطار، 2/ 398. (¬5) نيل الأوطار، 2/ 399، وانظر الشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 407. (¬6) الطحاوية مع شرحها، ص421.

كان حسناً، وأما إذا كان ترك الصلاة خلفه يفوت المأموم الجمعة والجماعة، فهذا لا يترك الصلاة خلفه إلا مبتدع مخالف للصحابة - رضي الله عنهم - وكذلك إذا كان الإمام قد رتبه ولاة الأمور ليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية، فلا يترك الصلاة خلفه بل الصلاة خلفه أفضل، فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بحصول أعظمهما؛ فإن الشرائع جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، بحسب الإمكان، فتفويت الُجمَع والجماعات أعظم فساداً من الاقتداء فيهما بالإمام الفاجر، ولا سيما إذا كان التخلف عنها لا يدفع فجوراً فيبقى تعطيل المصلحة الشرعية دون دفع المفسدة. أما إذا أمكن فعل الجمعة والجماعة خلف البر فهذا أولى من فعلها خلف الفاجر. وحينئذٍ فإذا صلى خلف الفاجر من غير عذر فهو موضع اجتهاد العلماء: منهم من قال: يعيد، ومنهم من قال: لا يعيد (¬1)، والأقرب أنه لا يعيد (¬2).وسمعت شيخنا الإمام ابن باز - رحمه الله - يقول: ((من يسلم من الأئمة من الفسق ولا سيما آخر الزمان، فالقول بعدم صحة الصلاة خلف الفاسق فيه حرج عظيم، ومشقة كبيرة، فالصواب أنها تصح، ولكن على المسؤولين أن يختاروا)) (¬3) والله المستعان (¬4). ¬

(¬1) انظر: شرح العقيدة الطحاوية، ص423. (¬2) انظر: مجموع فتاوى الإمام ابن باز، 12/ 116، والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 307، والإحكام شرح أصول الأحكام لابن قاسم، 1/ 377 - 378، والاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص107، واختار أن الصلاة لا تصح خلف أهل الأهواء والبدع والفسقة مع القدرة على الصلاة خلف غيرهم. وانظر: حاشية ابن قاسم على الروض المربع، 3/ 307 - 308، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، 4/ 355. (¬3) سمعته أثناء تقريره على الأحاديث رقم 1429 - 1432 من المنتقى من أخبار المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، لأبي البركات ابن تيمية. (¬4) فكل من صحّت صلاته لنفسه صحّت إمامته، قال العلامة محمد بن عثيمين في الشرح الممتع، 4/ 307: ((وهذا القول لا يسع الناس اليوم إلا هو، لأننا لو طبقنا القول الأول على الناس ما وجدنا إماماً يصلح للإمامة)).

16 - إمامة من يكرهه أكثر الجماعة بحق مكروهة على أقل الأحوال

16 - إمامة من يكرهه أكثر الجماعة بحق مكروهة على أقل الأحوال؛ لحديث أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون)) (¬1). وعن عمرو بن الحارث بن المصطلق قال: كان يقال: أشدُّ الناس عذاباً [يوم القيامة] اثنان: امرأة عصت زوجها، وإمام قومٍ وهم له كارهون (¬2). قال الإمام الترمذي - رحمه الله تعالى -: ((وقد كره قوم من أهل العلم أن يؤمَّ الرجل قوماً وهم له كارهون، فإذا كان الإمام غير ظالم فإنما الإثم على من كرهه، وقال أحمد وإسحاق في هذا: إذا كَرِهَ واحدٌ، أو اثنان، أو ثلاثة فلا بأس أن يصلي بهم حتى يكرهه أكثر القوم)) (¬3). وذكر الشوكاني - رحمه الله -: أنه ذهب إلى التحريم قوم وإلى الكراهة آخرون، وقيّد جماعة من أهل العلم ذلك بالكراهة الدينية لسبب شرعي، فأما الكراهة لغير الدين فلا عبرة بها، وقيدوه بأن يكون الكارهون أكثر المأمومين، ولا اعتبار بكراهة الواحد، والاثنين، والثلاثة إذا كان المؤتمون جمعاً كثيراً، لا إذا كانوا اثنين أو ثلاثة، فإن كراهتهم ¬

(¬1) الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في من أمّ قوماً وهم له كارهون، برقم 360، وقال: ((هذا حديث حسن غريب))، والبيهقي، 3/ 128 وقال: ((إسناده ليس بالقوي))، وذكره المنذري في الترغيب والترهيب وذكر تحسين الترمذي له وأقرّه، 1/ 382، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 228، وله شاهد من حديث طلحة في صحيح الترغيب، 1/ 228، ومن حديث الذهلي، 1/ 228، وقد جاء لهذا شواهد: عن أنس عند الترمذي، برقم 358، وعن عبد الله بن عمرو عند أبي داود، برقم 593، وابن ماجه، برقم 970، وعن ابن عباس عند ابن ماجه، برقم 971. والحديث صححه أحمد شاكر في شرحه على سنن الترمذي، 2/ 193، وقال المباركفوري في تحفة الأحوذي، 2/ 348: ((قال النووي في الخلاصة: والأرجح هنا قول الترمذي)). وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 113، وقال الإمام الشوكاني في نيل الأوطار، 2/ 417: ((وأحاديث الباب يقوي بعضها بعضاً)). (¬2) الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء فيمن أمّ قوماً وهم له كارهون، برقم 359، وقال الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 113: ((صحيح الإسناد)). (¬3) سنن الترمذي، ص97.

17 - إمامة الزائر لقوم منهي عنها إلا بإذنهم

أو كراهة أكثرهم معتبرة، والاعتبار بكراهة أهل الدين دون غيرهم (¬1). وقال الترمذي - رحمه الله -: ((قال هنَّاد: قال جرير: قال منصور: فسألنا عن أمر الإمام؛ فقيل لنا: إنما عنى بهذا الأئمة الظلمة، فأما من أقام السنة فإنما الإثم على من كرهه)) (¬2). وسمعت شيخنا الإمام ابن باز - رحمه الله - يقول: ((ذكر أهل العلم - رحمهم الله - أن كراهة المأمومين فيها تفصيل: فمراد النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كرهوه بحق، أما إذا كانت كراهتهم له؛ لأنه صاحب سنة، أو [لأنه] يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر فلا وجه لكراهتهم، وهذا مأخوذ من الأدلة الشرعية، أما إذا كرهوه لشحناء بينهم، أو لفسقه، أو يشق عليهم، أو لعدم عنايته بالصلاة، أو عدم مواظبته، فلا ينبغي أن يصلي بهم؛ لأنه مسيء إليهم، فلا يجوز له أن يصلي بهم في هذه الحال، وهو داخل في هذا الوعيد في هذه الأحاديث)) (¬3). 17 - إمامة الزائر لقوم منهيٌّ عنها إلا بإذنهم؛ لحديث مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من زار قوماً فلا يؤمَّهم، وليؤُمَّهم رجل منهم)) (¬4). قال الإمام الترمذي - رحمه الله -: ((والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -،وغيرهم، قالوا: ((صاحب ¬

(¬1) انظر: نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 417 - 418، والاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص106 وقال: ((وإذا كان بين الإمام والمأمومين معاداة من جنس معاداة أهل الأهواء أو المذاهب لم ينبغ أن يؤمهم؛ لأن المقصود بالصلاة جماعة الائتلاف، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تختلفوا فتختلف قلوبكم)) [مسلم برقم 432]، فإن أمهم فقد أتى بواجب ومحرم يقاوم الصلاة فلم تقبل إذ الصلاة المقبولة ما يثاب عليها)) ص106 - 107، وانظر: حاشية ابن قاسم على الروض المربع، 2/ 327 والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 353 - 355. (¬2) الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء فيمن أم قوماً وهم له كارهون، بعد الحديث رقم 359، وانظر: المغني لابن قدامة، 3/ 171. (¬3) سمعته أثناء تقريره على المنتقى من أخبار المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لأبي البركات ابن تيمية، الأحاديث رقم 1456، 1457. (¬4) أبو داود، كتاب الصلاة، باب إمامة الزائر، برقم 596، والترمذي، كتاب الصلاة، باب فيمن زار قوماً فلا يصلي بهم، برقم 356، وقال: ((هذا حديث حسن صحيح))، والنسائي، كتاب الإمامة، باب إمامة الزائر، برقم 787، وأحمد، 5/ 53، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 112.

المنزل أحق بالإمامة من الزائر)). قال: ((وقال بعض أهل العلم: إذا أَذِنَ فلا بأس أن يصلي به)) (¬1). وقال أبو البركات ابن تيمية: ((وأكثر أهل العلم أنه لا بأس بإمامة الزائر بإذن رب المكان (¬2)؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي مسعود - رضي الله عنه -: ((إلا بإذنه)) (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يحلّ لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصلي وهو حقن حتى يتخفف)). وقال: ((ولا يحلّ لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يؤم قوماً إلا بإذنهم، ولا يختصّ نفسه بدعوة دونهم (¬4)، فإن فعل فقد خانهم)) (¬5). قال الإمام الشوكاني - رحمه الله -: ((وقوله في حديث أبي هريرة ((إلا بإذنهم)) يقتضي جواز إمامة الزائر عند رضا المزور، قال العراقي: ويشترط أن يكون المزور أهلاً للإمامة؛ فإن لم يكن أهلاً كالمرأة في صورة كون الزائر رجلاً، والأمي في صورة كون الزائر قارئاً ونحوهما فلا حق له في الإمامة)) (¬6). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((وفي حديث أبي مسعود في آخره: ((ولا يؤمَّنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه، ولا يقعدْ في بيته على تكرمته إلا بإذنه)) هذا يفيد أن من زار قوماً فلا يؤمّهم كما في حديث مالك بن الحويرث وإن كان في سنده ضعف لكن حديث أبي مسعود صحيح، فالزائر لا يؤم إلا بإذنٍ إذا زار [القوم] في مسجدهم أو في بيتهم، وحضرت الصلاة فالإمام صاحب البيت، وإن كان في ¬

(¬1) الترمذي، بعد الحديث رقم 356، وتقدم تخريجه في الذي قبله. (¬2) المنتقى من أخبار المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، بعد الحديث رقم 1422. (¬3) مسلم، برقم 673، وتقدم تخريجه في أولى الناس بالإمامة. (¬4) قوله: ((ولا يختص نفسه بدعوة دونهم)) أي الذي يؤمنون عليه خلفه: كالدعاء في القنوت وغيره والله أعلم. هكذا سمعته من شيخنا ابن باز. (¬5) أبو داود، كتاب الطهارة، باب أيصلي الرجل وهو حاقن؟ برقم 91، قال الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 35: ((صحيح إلا جملة الدعوة)). (¬6) نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 394.

18 - الإمامة في مسجد قبل إمامه لا تجوز إلا إذا تأخر عن الوقت المحدد أو بإذنه

المسجد فصاحب السلطان، فلا يتقدم عليه، وإن كان الزائر أعلم أو أكبر سنّاً، إلا أن يقدمه ويأذن له فلا بأس؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إلا بإذنه))، أما حديث: ((من زار قوماً)) لو صحَّ فهو محمول على بغير الإذن، وحديث: ((من زار قوماً)) تعضده الأدلة الأخرى، وبعض الناس قد يأذن حياءً، فينبغي للزائر أن لا يعجل في التقدم حتى يلحَّ عليه صاحب السلطان ويشدد ويلزم)) (¬1). 18 - الإمامة في مسجد قبل إمامه لا تجوز إلا إذا تأخر عن الوقت المحدد أو بإذنه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه)) (¬2). فلا يجوز للإنسان أن يؤم في مسجد له إمام راتب إلا بإذن الإمام، كأن يوكّله فيقول: صلّ بالناس، أو يقول للجماعة إذا تأخَّرْتُ عن موعد الإقامة فصلوا. ويجوز للجماعة إذا تأخر الإمام تأخراً ظاهراً أن يقدّموا أحدهم؛ لفعل الصّدّيق - رضي الله عنه - (¬3) وعبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - حين غاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أحسنتم)) (¬4)، وإذا أمَّ في مسجد قبل إمامه بدون إذن الإمام أو عذره فقيل: الصلاة لا تصحّ، ويجب عليهم الإعادة مع الإمام الرّاتب، وقيل: تصحّ مع الإثم وهذا هو الصواب؛ لأن الأصل الصّحّة حتى يقوم الدليل على الفساد (¬5). 19 - الإمامة من المصحف صحيحة على الصحيح من قولي أهل العلم؛ لأن عائشة رضي الله عنها كان يؤمُّها عبدُها ذكوان من المصحف (¬6). قال الإمام ابن باز - رحمه الله -: ((يجوز ذلك إذا دعت الحاجة إليه، كما يجوز ¬

(¬1) سمعته أثناء تقريره على المنتقى من أخبار المصطفى - صلى الله عليه وسلم -،الأحاديث 1414 - 1422. (¬2) مسلم، برقم 673، وتقدم تخريجه في أولى الناس بالإمامة. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم 684، ومسلم، برقم 421، ويأتي تخريجه في انتقال الإمام مأموماً. (¬4) متفق عليه: البخاري، برقم 182، ومسلم، برقم 274، وتقدم تخريجه في صلاة الجماعة. (¬5) انظر: الروض المربع مع حاشية ابن قاسم، 2/ 267 - 268، والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 218، ومجموع فتاوى الإمام ابن باز، 12/ 143. (¬6) البخاري، كتاب الأذان، باب إمامة العبد والمولى، في ترجمة الباب، قبل الحديث رقم 692.

سادسا: وقوف المأموم مع الإمام أنواع:

القراءة من المصحف في التراويح لمن لا يحفظ القرآن، وتطويل القراءة في صلاة الفجر سنة، فإذا كان الإمام لا يحفظ المفصل ولا غيره من بقية القرآن الكريم جاز له أن يقرأ من المصحف، ويشرع له أن يشتغل بحفظ القرآن وأن يجتهد)) (¬1). سادساً: وقوف المأموم مع الإمام أنواع: 1 - وقوف المأموم الواحد عن يمين الإمام؛ لحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وفيه: ((فقام النبي [- صلى الله عليه وسلم -] يصلي فقمت عن يساره، فأخذ بأذني فأدارني عن يمينه))، وهذا يدلّ على أن موقف الواحد مع الإمام عن يمينه، بدليل الإدارة، إذ لو كان اليسار موقفاً له لما أداره في الصلاة (¬2)،وهذا هو الأفضل والأكمل (¬3).وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((وهذا يدلّ على أن المأموم إذا كان واحداً يكون عن يمين الإمام مساوياً له لا يتقدم ولا يتأخر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل لابن عباس لا تتأخر عني)) (¬4).وسمعته - رحمه الله - يقول: ((لو صلى عن يسار الإمام صحت صلاته؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أمره بإعادة التحريمة، لكن السنة عن يمين الإمام)) (¬5). 2 - وقوف الاثنين فأكثر خلف الإمام؛ لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وفيه: ((جئت حتى قمت عن يسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذ بيدي فأدارني حتى ¬

(¬1) مجموع فتاوى الإمام ابن باز، جمع الطيار، 4/ 388، وحاشية ابن باز على فتح الباري، 2/ 185. (¬2) انظر: سبل السلام للصنعاني، 3/ 106، والمغني لابن قدامة، 3/ 53. (¬3) فإن صلى الواحد عن يسار الإمام أو صلى اثنان: واحد عن يمينه والآخر عن شماله أو صلى معه واحد أو أكثر عن شماله مع خلوّ يمينه صحّت الصلاة على الصحيح، وكان ذلك خلاف الأفضل. انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 53، والكافي لابن قدامة، 1/ 429، واختيارات السعدي، ص62، وسبل السلام للصنعاني، 3/ 106، ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 421، والشرح الممتع، 4/ 375. (¬4) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 697 مغرب الأحد بتاريخ 27/ 8/1419هـ. (¬5) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 728، ورقم 726، مغرب الأحد الموافق 7/ 10/1419هـ.

3 - وقوف الإمام تلقاء وسط الصف

أقامني عن يمينه، ثم جاء جبَّار بن صخر فتوضأ ثم جاء فقام عن يسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدينا جميعاً فدفعنا حتى أقامنا خلفه)) (¬1). وهذا يدلّ على أن موقف الرجلين فأكثر مع الإمام في الصلاة خلفه (¬2)، ومما يدل على ذلك حديث أنس - رضي الله عنه - وفيه: ((فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا، فصلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين ثم انصرف)) (¬3). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((فدلّ على جواز مصافّة الصغير وأن المرأة الواحدة تصلي خلف الصف)) (¬4). وسمعته يقول: ((فدلت السنة على أن الواحد يقف عن يمين الإمام كما في حديث جابر، وأنس، وابن عباس، في الفرض والنفل جميعاً، أما إذا كانوا اثنين فأكثر فإن السنة أن يكونوا خلفه. أما أثر ابن مسعود، وهو أنه جعل علقمة والأسود عن يمينه وشماله، ونقله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال العلماء فيه: إنه موقوف، وأعلّه بعضهم، وقال بعضهم: إنه منسوخ، والصواب أنه موقوف من اجتهاده أو منسوخ (¬5). 3 - وقوف الإمام تلقاء وسط الصف، العمل عليه عند أهل العلم، فينبغي أن يجعل الإمام مقابلاً لوسط الصف. وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((وسّطوا الإمام وسدوا الخلل)) (¬6): ¬

(¬1) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعائه بالليل، برقم 766، وفي كتاب الزهد والرقائق، باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر، برقم 3010. (¬2) انظر: نيل الأوطار للشوكاني،2/ 420،وسبل السلام للصنعاني، 3/ 107،والمغني لابن قدامة، 3/ 53. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم 380، ومسلم، برقم 658، وتقدم تخريجه في جواز صلاة التطوع جماعة أحياناً. (¬4) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 871، وذلك يوم الأحد بعد المغرب في مسجد سارة، الموافق 9/ 11/1419هـ، وانظر المغني لابن قدامة، 3/ 53، ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 427، وسبل السلام للصنعاني، 3/ 107. (¬5) سمعته أثناء تقريره على منتقى الأخبار لأبي البركات ابن تيمية، الأحاديث 1458 - 1464. (¬6) الحديث رواه أبو داود، برقم 681، وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود، ص56، قال: ((لكن الشطر الثاني منه صحيح)).

4 - وقوف المرأة الواحدة خلف الرجل

الحديث وإن كان فيه ضعف ولكن العمل عليه عند أهل العلم، فالسنة أن يكون الإمام وسطاً في المساجد، هذه السنة العملية التي درج عليها المسلمون (¬1))) (¬2). وقال رحمه الله: ((الصف يبدأ من الوسط مما يلي الإمام، ويمين كل صف أفضل من يساره، والواجب ألا يبدأ في صف حتى يكمل الذي قبله. ولا بأس أن يكون الناس في يمين الصف أكثر، ولا حاجة إلى التعديل، بل الأمر بذلك خلاف السنة، ولكن لا يُصفّ في الثاني حتى يكمل الأول، ولا في الثالث حتى يكمل الثاني، وهكذا بقية الصفوف؛ لأنه قد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأمر بذلك)) (¬3). 4 - وقوف المرأة الواحدة خلف الرجل؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - وفيه: ((وصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا)) (¬4). وقال الإمام ابن عبد البر - رحمه الله -: ((أجمع العلماء على أن المرأة تصلي خلف الرجل وحدها صفّاً، وأن سنتها الوقوف خلف الرجل لا عن يمينه)) (¬5). ولكن لا تجوز الخلوة بالمرأة وحدها كما تقدم (¬6). 5 - وقوف المرأة الواحدة أو أكثر خلف الرجال؛ لحديث أنس السابق؛ ولحديثه الآخر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليه وصلى به وبأمه وقال: ((فأقامني عن يمينه وأقام المرأة خلفنا)) (¬7).وإذا زاد النساء عن واحدة صلين خلف الرجال؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - وفيه: ((صليت أنا ويتيم في بيتنا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمي وأم سليم خلفنا)) (¬8).وإذا لم يوجد إلا الإمام صلى بالنساء وهن ¬

(¬1) سمعته أثناء تقريره على المنتقى للمجد أبي البركات ابن تيمية، الحديث رقم 1465. (¬2) وانظر: نيل الأوطار،2/ 422، وفتاوى ابن باز،12/ 205،والكافي لابن قدامة،1/ 434. (¬3) فتاوى ابن باز، 12/ 205. (¬4) متفق عليه، وتقدم قبل ست حواشٍ. (¬5) الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار، 6/ 249،وانظر: المغني لابن قدامة،3/ 53 - 54. (¬6) انظر: ما تقدم في صلاة الجماعة: انعقاد الجماعة باثنين. (¬7) مسلم، برقم 660، وتقدم تخريجه في جواز صلاة التطوع جماعة أحياناً. (¬8) البخاري، كتاب الأذان، باب المرأة وحدها تكون صفّاً، برقم 727، وهو طرف الحديث رقم 380.

6 - وقوف المرأة الواحدة مع المرأة كوقوف الرجل مع الرجل الواحد، تقف عن يمينها

خلفه إلا إذا خاف الفتنة فلا يصلي بهن؛ لأن ما كان ذريعة إلى الحرام فهو حرام (¬1). 6 - وقوف المرأة الواحدة مع المرأة كوقوف الرجل مع الرجل الواحد، تقف عن يمينها (¬2). 7 - وقوف النساء مع المرأة عن يمينها وشمالها، فإمامتهن تقوم وسطهن في صفهن، استحباباً؛ لأن أم سلمة رضي الله عنها كانت إذا أمَّت النساء وقفت في صفهن (¬3)، وعائشة رضي الله عنها أيضاً كانت إذا أمَّت النساء وقفت في صفهن (¬4)؛ لأن ذلك أستر للمرأة، والمرأة مطلوب منها الستر بقدر المستطاع (¬5)، وإذا كن عراة فكذلك تقوم إمامتهم وسطهن، وتجهر بالقراءة في الصلاة الجهرية (¬6). 8 - وقوف العراة مع إمامهم العاري عن يمينه وشماله، فيكون إمامهم وسط صفهم ولو طال الصف؛ لأن ذلك أستر له (¬7). قال الإمام ابن قدامة - رحمه الله - في المغني: ((وإذا شرعت الجماعة لعراة النساء مع أن الستر في حقهن آكد، والجماعة في حقهن أخف فللرجال أولى وأحرى، وغض البصر يحصل بكونهم صفّاً واحداً يستر بعضهم بعضاً، إذا ثبت هذا فإنهم يصلون صفّاً واحداً ويكون إمامهم وسطهم، ليكون أستر ¬

(¬1) انظر: الشرح الممتع للعلامة ابن عثيمين، 4/ 352. (¬2) انظر: المرجع السابق، 4/ 389، والكافي لابن قدامة، 1/ 434، والروض المربع، 2/ 340، ومجموع فتاوى ابن باز، 12/ 131، والاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص109. (¬3) أخرجه عبد الرزاق في المصنف، برقم 5082، وابن أبي شيبة، 2/ 88، والشافعي في المسند، 6/ 82، والدارقطني، 1/ 404،والبيهقي، 3/ 131،وابن حزم في المحلى واحتج به، 3/ 172. (¬4) أخرجه عبد الرزاق، برقم 5086، وابن أبي شيبة، 2/ 89، والحاكم، 1/ 203، والدارقطني،1/ 404، والبيهقي،3/ 131،وابن حزم في المحلى واحتج به، 3/ 171. (¬5) انظر: الإنصاف للمرداوي، مع الشرح الكبير، 4/ 462، والشرح الممتع، 4/ 370، و3/ 125، المغني لابن قدامة، 3/ 37، و2/ 319 - 320، وحاشية الروض لابن قاسم، 2/ 339. (¬6) مجموع فتاوى ابن باز، 12/ 130. (¬7) انظر: المغني لابن قدامة،2/ 318،والشرح الممتع، لابن عثيمين،4/ 370،و2/ 184.

9 - وقوف الرجال، والصبيان، والنساء مع الإمام على النحو الآتي:

له)) (¬1). وهذا على سبيل الوجوب إلا إذا كانوا عمياً، أو في ظلمة فإنه يصلي بهم أمامهم (¬2). 9 - وقوف الرجال، والصبيان، والنساء مع الإمام على النحو الآتي: أ- يصف الرجال خلف الإمام إن سَبقُوا. ب- ثم يصف الصبيان خلف الرجال ما لم يسبقوا أو يمنع مانع. ج- ثم يصف النساء خلف الصبيان. ويدل على هذا الترتيب حديث أبي مسعود - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: ((استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليلِني منكم أُولو الأحلام والنهى (¬3)،ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) (¬4).وفي حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ((ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم-ثلاثاً-وإياكم وهيشات (¬5) الأسواق)) (¬6).قال الإمام النووي-رحمه الله تعالى-: ((فالأفضل إلى الأمام؛ لأنه أولى بالإكرام؛ ولأنه ربما يحتاج الإمام إلى استخلاف فيكون هو أولى؛ ولأنه يتفطن لتنبيه الإمام على السهو لِمَا لا يتفطن له غيره؛ وليضبطوا صفة الصلاة ويحفظوها، وينقلوها ويُعلّموها للناس؛ وليقتدي بأفعالهم من وراءهم، ولا يختص هذا التقديم بالصلاة، بل السنة أن يقدم أهل الفضل في كل مجمع ¬

(¬1) المغني لابن قدامة، 2/ 318 - 320. (¬2) الشرح الممتع لابن عثيمين، 2/ 184، 4/ 370. (¬3) الأحلام والنهى: العقول والألباب، وهما بمعنى واحد: وهي العقول: واحدها: نهية؛ لأنه ينهى صاحبه عن الرذائل، انظر: المفهم للقرطبي، 2/ 62، وجامع الأصول لابن الأثير، 5/ 599. (¬4) مسلم، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، وإقامتها، وفضل الأول فالأول منها، والازدحام على الصف الأول، والمسابقة إليها، وتقديم أولي الفضل وتقريبهم من الإمام، برقم 122 - ((432)). (¬5) هيْشات الأسواق: اختلاطها، والمنازعة، والخصومات وارتفاع الأصوات، واللغط والفتن التي فيها. شرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 400. (¬6) مسلم، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها، وفضل الأول فالأول منها، والازدحام على الصف الأول، والمسابقة إليها، وتقديم أولي الفضل وتقريبهم من الإمام، برقم 123 - ((432)).

إلى الإمام وكبير المجلس: كمجالس العلم، والقضاء، والذكر، والمشاورة، ومواقف القتال، وإمامة الصلاة، والتدريس، والإفتاء، وإسماع الحديث، ونحوها، ويكون الناس فيها على مراتبهم في العلم والدين، والعقل، والشرف، والسن، والكفاءة في ذلك الباب، والأحاديث الصحيحة متعاضدة على ذلك)) (¬1). وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى في أصحابه تأخراً فقال: ((تقدّموا فائتمّوا بي وليأتمّ بكم مَنْ بعدكم (¬2)، لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم (¬3) الله)) (¬4). وفي لفظ أبي داود عن عائشة رضي الله عنها: ((لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول حتى يؤخرهم الله في النار)) (¬5). والمقصود فيما تقدم أن يتقدم الرجال، ثم بعد ذلك الصبيان؛ لأن الصبيان ذكور وقد فضّل الله الذكور على الإناث فهم أقدم من النساء، ثم بعد ذلك النساء؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خير صفوف الرجال أوّلها وشرّها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرّها أولها)) (¬6). ويلزم من ذلك تأخر صفوف النساء عن صفوف الرجال (¬7). أما ترتيب صفوف الصبيان فلا شك أن الأولى أن يكونوا خلف الرجال إلا إذا حصل بذلك تشويش على المصلين فإنا نجعل بين كل ¬

(¬1) شرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 399 - 400. (¬2) معنى وليأتم بكم من بعدكم: أي يقتدوا بي مستدلين على أفعالي بأفعالكم، ففيه جواز اعتماد المأموم في متابعة الإمام الذي لا يراه ولا يسمعه على مبلغ عنه، وصف قدامه يراه متابعاً للإمام. شرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 403. (¬3) لا يزال قوم يتأخرون: أي عن الصفوف الأول حتى يؤخرهم الله تعالى عن رحمته أو عظيم فضله ورفع المنزلة، وعن العلم ونحو ذلك، شرح النووي، 4/ 403. (¬4) مسلم، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها، برقم 438. (¬5) أبو داود، كتاب الصلاة، باب صف النساء وكراهية التأخر عن الصف الأول، برقم 479، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 200. (¬6) مسلم، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، برقم 440. (¬7) انظر: الشرح الممتع للعلامة ابن عثيمين، 4/ 390.

صبيين رجلاً بالغاً، ليخشع الناس في الصلاة (¬1). وتقديم الرجال ثم الصبيان يكون في ابتداء الأمر، كأن يجتمع الناس للصلاة في وقت واحد ولم يتقدم أحد قبل أحد، أما إذا جاء الصبي إلى الصفوف الأُوَل وسبق إلى مكانٍ فالصواب أنه أحق به من غيره (¬2)؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه)). وفي لفظ: ((نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقيم الرجل الرجل من مقعده ويجلس فيه)) فقيل لنافع: الجمعة؟ قال: الجمعة وغيرها (¬3). وفي لفظ لمسلم: ((لا يقيم الرجل الرجل من مقعده ثم يجلس فيه ولكن تفسّحوا وتوسّعوا)). وإقامة الصبي من مكانه وتأخيره يؤدي إلى تنفير الصبيان من المساجد، وكراهتهم للرجل الذي أخّرهم عن الصف (¬4)،وهذه مفسدة (¬5).قال الإمام شيخنا عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله -: ((إذا كان الصبي مميزاً عاقلاً فلا يؤخر من مكانه؛ لأنه قد سبق إلى ما لم ¬

(¬1) انظر: الشرح الممتع للعلامة ابن عثيمين، 4/ 391. (¬2) وهو اختيار أبي البركات جد شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال المرداوي في الإنصاف لمعرفة الراجح من الخلاف: ((وهو الصواب)) الإنصاف المطبوع مع المقنع والشرح الكبير، 3/ 406، و4/ 429 - 430. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الجمعة، باب لا يقيم الرجل أخاه يوم الجمعة ويقعد مكانه، برقم 911، وكتاب الاستئذان، باب لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه، برقم 6269، ومسلم، كتاب السلام، باب تحريم إقامة الإنسان من موضعه المباح الذي سبق إليه، برقم 2177. (¬4) رأيت رجلاً كبيراً في السن معه عكازه جاء متأخراً إلى الجامع الكبير بالرياض قبل عام 1405هـ فوجد صبياً في الصف الأول فقرعه في رأسه بالعصا وقال: تأخّر وجلس مكانه وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليلني منكم أولو الأحلام والنهى)) فاستغربت هذا العمل، وسألت العلامة شيخنا عبد العزيز ابن باز - رحمه الله - وكان إمام الجامع آنذاك فبيّن - رحمه الله - أن هذا خطأ ولا يجوز، وإنما تأخير الصبيان إذا جاء الناس للصلاة في وقت واحد ولم يتقدم أحد على أحد، وذكر أنه ينبغي لأولي الأحلام والنهى أن يتقدموا ويسبقوا إلى الصف الأول. (¬5) انظر: الشرح الممتع للعلامة ابن عثيمين، 3/ 20 - 21 و4/ 389 - 393، وحاشية ابن قاسم على الروض المربع، 2/ 341، والمغني لابن قدامة، 3/ 57، والإنصاف للمرداوي المطبوع مع المقنع والشرح الكبير، 4/ 429 - 430 و3/ 406، ونيل الأوطار، للشوكاني، 2/ 426.

سابعا: متى يقوم المأمومون لأداء الصلاة؟

يسبق إليه مسلم، فكان أولى؛ ولِمَا فيه من التشجيع للصبيان على المسابقة إلى الصلاة، وإذا كان دون التمييز أو غير عاقل فإنه يؤخر؛ لأن صلاته غير صحيحة)) (¬1). سابعاً: متى يقوم المأمومون لأداء الصلاة؟ وقت قيام المأمومين للصلاة ليس له حدّ محدود، والأمر فيه واسع: سواء كان في أول الإقامة، أو في أثنائها، أو في آخرها، والمطلوب أن يكبر تكبيرة الإحرام بعد تكبير الإمام ولا تفوته مع الإمام (¬2)، ولا يقوم المصلون إذا أخذ المؤذن في الإقامة حتى يخرج الإمام، لحديث أبي قتادة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني [قد خرجت])) (¬3)، وعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: ((كان بلال يؤذن إذا ¬

(¬1) مجموع فتاوى ابن باز، جمع الطيار، 4/ 416. (¬2) اختلف العلماء من السلف فمن بعدهم متى يقوم الناس للصلاة على أقوال: فقيل: يقوم المصلي عند ((حي على الفلاح)) يذكر عن أبي حنيفة، وقيل: عند ((حي على الصلاة)) يذكر عن أبي حنيفة أيضاً، وقيل: يستحب ألا يقوم حتى يفرغ المؤذن من الإقامة، ويذكر عن الشافعي، وقيل: يقوم إذا أخذ المؤذن في الإقامة، يذكر عن مالك، وقيل: القيام موكول إلى قدرة الناس، فإن منهم الثقيل والخفيف، وليس في ذلك حد محدود، ويذكر ذلك عن مالك في الموطأ أيضاً. وقيل: يقوم إذا قال المؤذن قد قامت الصلاة، يذكر ذلك عن أنس - رضي الله عنه -، وبه قال أحمد، وقيل: إذا كان الإمام معهم في المسجد لم يقوموا حتى تفرغ الإقامة، وإذا لم يكن الإمام في المسجد فلا يقوموا حتى يروه. انظر: شرح الإمام النووي على صحيح مسلم، 5/ 106، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي، 2/ 221، وفتح الباري لابن حجر، 2/ 120، والمغني لابن قدامة، 2/ 123، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للمرداوي، المطبوع مع المقنع والشرح الكبير، 3/ 401،ونيل الأوطار للشوكاني،2/ 438،وحاشية ابن قاسم على الروض المربع،2/ 6 - 7،والشرح الممتع لابن عثيمين،3/ 9 - 10،وصلاة الجماعة للسدلان، ص97،وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز - رحمه الله - يقول أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 637،وعلى الروض المربع حاشية ابن قاسم، 2/ 6: ((والصواب أنه لا حرج في القيام في أول الإقامة أو في أثنائها أو في آخرها، فالأمر واسع)). (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب متى يقوم الناس إذا رأوا الإمام عند الإقامة، برقم 637، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب متى يقوم الناس للصلاة، برقم 604، وما بين المعقوفين له.

دحضت الشمس (¬1) فلا يقيم حتى يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا خرج أقام الصلاة حين يراه)) (¬2). ويجمع بين هذا الحديث وحديث أبي قتادة السابق أن بلالاً - رضي الله عنه - كان يراقب خروج النبي - صلى الله عليه وسلم -،فيراه أول خروجه قبل أن يراه غيره أو إلا القليل، فعند أول خروجه - صلى الله عليه وسلم - يقيم بلال ولا يقوم الناس حتى يروا النبي - صلى الله عليه وسلم -،ثم لا يقوم الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى يُعدّلوا صفوفهم (¬3).قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى - بعد أن ذكر هذا الجمع: ((وبهذا الترتيب يصحّ الجمع بين الأحاديث المتعارضة في هذا المعنى)) (¬4). وأما حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((أن الصلاة كانت تقام لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيأخذ الناس مصافّهم قبل أن يقوم النبي - صلى الله عليه وسلم - مقامه)) (¬5) فقال الإمام النووي - رحمه الله - عنه: ((وقوله في رواية أبي هريرة - رضي الله عنه -: فأخذ الناس مصافهم قبل خروجه: لعله كان مرة أو مرتين ونحوهما لبيان الجواز، أو لعذر، ولعل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فلا تقوموا حتى تروني)) كان بعد ذلك، قال العلماء: ((والنهي عن القيام قبل أن يروه؛ لئلا يطول عليهم القيام؛ ولأنه قد يعرض له عارض فيتأخر بسببه)) (¬6). وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - عن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: (( ... يجمع بينه وبين حديث أبي قتادة بأن ذلك ربما وقع لبيان الجواز، وبأن صنيعهم في حديث أبي هريرة كان سبب النهي عن ذلك في حديث أبي ¬

(¬1) إذا دحضت الشمس: أي إذا زالت عن كبد السماء، وأصل الدحض: الزلق. المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 2/ 222. (¬2) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب متى يقوم الناس للصلاة، برقم 606. (¬3) انظر: المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم،2/ 222،وشرح النووي على صحيح مسلم،5/ 106. (¬4) المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 2/ 222. (¬5) متفق عليه واللفظ لمسلم، البخاري، كتاب الأذان، باب متى يقوم الناس إذا رأوا الإمام عند الإقامة، برقم 639، ومسلم، كتاب المساجد، باب متى يقوم الناس للصلاة، برقم 605. (¬6) شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 106،وانظر: بدائع الفوائد، لابن القيم، 3/ 69.

ثامنا: الصفوف في الصلاة والعناية بها:

قتادة، وأنهم كانوا يقومون ساعة تقام الصلاة ولو لم يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنهاهم عن ذلك؛ لاحتمال أن يقع له شغل يبطئ فيه عن الخروج فيشق عليهم انتظاره، ولا يرد هذا حديث أنس الآتي (¬1): أنه قام في مقامه طويلاً في حاجة بعض القوم؛ لاحتمال أن يكون ذلك وقع نادراً، أو فعله؛ لبيان الجواز)) (¬2). ثامناً: الصفوف في الصلاة والعناية بها: 1 - ترتيب الصفوف؛ لحديث أبي مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -،وفيه: ((لِيَلِني منكم أولو الأحلام والنُّهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) (¬3)، وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم -ثلاثاً -وإياكم وهيشات الأسواق)) (¬4). ففي هذا الحديث ترتيب الصفوف على حسب الأفضلية خلف الإمام: الرجال، ثم الصبيان، ثم النساء، ما لم يسبق الصبيان إلى الصفوف الأُوَل، أو يمنع مانع، فإن سبقوا فهم أولى بها، أما إذا كان المأموم واحداً، فإنه يقف على يمين الإمام، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما (¬5). وإذا كان المأمومون اثنين وقفا خلفه؛ لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في قصته وجبار بن صخر، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلهما خلفه (¬6)، وإذا كانت امرأة واحدة وقفت خلف الرجال؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - وفيه: ((فأقامني عن يمينه وأقام المرأة خلفنا)) (¬7). ¬

(¬1) حديث أنس: قال: ((أقيمت الصلاة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يناجي رجلاً في جانب المسجد، فما قام إلى الصلاة حتى نام القوم)) البخاري، برقم 642. (¬2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 2/ 120. (¬3) مسلم، برقم 432، وتقدم في موقف الرجال والصبيان والنساء مع الإمام. (¬4) مسلم، برقم 123 - (432)،وتقدم في موقف الرجال والصبيان والنساء مع الإمام. (¬5) متفق عليه: البخاري، برقم 6316، ومسلم، برقم 763، وتقدم تخريجه في صلاة التطوع جماعة. (¬6) مسلم، برقم 766، ورقم 3010، وتقدم تخريجه في موقف الاثنين خلف الإمام. (¬7) متفق عليه: البخاري، برقم 380،ومسلم واللفظ له، برقم 269 - (660) وتقدم تخريجه في صلاة التطوع.

2 - تسوية الصفوف تجب على الصحيح

وإذا كان المأمومون: امرأتين ورجلاً وقف الرجل على يمين الإمام والمرأتان خلف الإمام لرواية أنس، وفيها: ((ثم قام فصلى بنا ركعتين تطوعاً فقامت أمُّ سليم وأم حرام خلفنا)) قال: ((أقامني عن يمينه على بساط)) (¬1). 2 - تسوية الصفوف تجب على الصحيح؛ لحديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لتسوُّنَّ صفوفكم أو ليخالفنَّ الله بين وجوهكم)). وفي لفظ لمسلم: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسوّي صفوفنا حتى كأنما يسوي بها القداح (¬2) حتى رأى أنّا قد عقلنا عنه، ثم خرج يوماً فقام حتى كاد يكبر فرأى رجلاً بادياً صدره من الصف فقال: ((عباد الله لتسوُّنَّ صفوفكم أو ليخالفنَّ الله بين وجوهكم)) (¬3). وظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وجوب تسوية الصفوف؛ لهذا الحديث (¬4)؛ ولحديث أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((سوُّوا صفوفكم، فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة)). وفي لفظ مسلم: ((من تمام الصلاة)) (¬5)، وفي حديث أبي هريرة يرفعه: (( ... وأقيموا الصف في الصلاة، فإن إقامة الصف من حسن الصلاة)) (¬6). ومن ذكر الإجماع على استحباب تسوية الصفوف فمراده: ثبوت استحباب ذلك لا نفي وجوبه، والله أعلم (¬7).قال العلامة محمد بن صالح العثيمين - ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الرجلين يؤم أحدهما صاحبه كيف يقومان، برقم 608، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 182. (¬2) القداح: خشب السهام حينما تنحت وتبرى، واحدها: قدح بكسر القاف، معناه يبالغ في تسويتها حتى تصير كأنما يقوّم بها السهام لشدة استوائها واعتدالها. شرح النووي على صحيح مسلم،4/ 401. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب تسوية الصفوف عند الإقامة وبعدها، برقم 717، ومسلم، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها، برقم 436. (¬4) انظر: الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص75 - 76. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب إقامة الصف من تمام الصلاة، برقم 723، ومسلم، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها، برقم 433. (¬6) متفق عليه: البخاري واللفظ له، كتاب الأذان، باب إقامة الصف من تمام الصلاة، برقم 722، ومسلم، كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، برقم 414. (¬7) انظر: الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص76.

3 - ألفاظ النبي - صلى الله عليه وسلم - في تسوية الصفوف أنواع على النحو الآتي:

رحمه الله -: (( ... القول الراجح في هذه المسألة وجوب تسوية الصف، وأن الجماعة إذا لم يسوُّوا الصف فهم آثمون، وهذا هو ظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله)) (¬1). 3 - ألفاظ النبي - صلى الله عليه وسلم - في تسوية الصفوف أنواع على النحو الآتي: النوع الأول: ((أقيموا صفوفكم وتراصُّوا))؛لحديث أنس - رضي الله عنه - (¬2). النوع الثاني: ((سوُّوا صفوفكم فإنّ تسوية الصفوف من إقامة الصلاة))، لحديث أنس - رضي الله عنه - (¬3). النوع الثالث: ((سوُّوا صفوفكم فإن تسوية الصف من تمام الصلاة))، لحديث أنس - رضي الله عنه - (¬4). النوع الرابع: ((أقيموا الصف في الصلاة فإن إقامة الصف من حسن الصلاة))؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬5). النوع الخامس: ((استووا ولا تختلفوا فتختلفَ قلوبكم))؛ لحديث أبي مسعود، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، ولفظ حديث أبي مسعود: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول: الحديث)) (¬6). النوع السادس: ((أتموا الصفوف))، لحديث أنس - رضي الله عنه - يرفعه: ((أتموا الصفوف فإني أراكم خلف ظهري)) (¬7). ¬

(¬1) الشرح الممتع على زاد المستقنع، 4/ 11. (¬2) البخاري بلفظه، كتاب الأذان، باب إقبال الإمام على الناس عند تسوية الصفوف، برقم 719. (¬3) البخاري بلفظه، كتاب الأذان، باب إقامة الصف من تمام الصلاة، برقم 723. (¬4) مسلم، بلفظه، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، برقم 433. (¬5) مسلم، بلفظه، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، برقم 435، وأصله عند البخاري بلفظ: ((وأقيموا الصف في الصلاة؛ فإن إقامة الصف من حسن الصلاة))، كتاب الأذان، باب إقامة الصف من تمام الصلاة، برقم 722. (¬6) مسلم بلفظه، كتاب الصلاة باب تسوية الصفوف، برقم 122 - (432)،و123 - (432). (¬7) مسلم بلفظه، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، برقم 434.

النوع السابع: أقيموا الصفوف

النوع السابع: ((أقيموا الصفوف .. ))؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - يرفعه: ((أقيموا الصفوف فإني أراكم خلف ظهري))، وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه (¬1). النوع الثامن: ((أقيموا صفوفكم - ثلاثاً -))؛ لحديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال: أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس بوجهه فقال: ((أقيموا صفوفكم - ثلاثاً - والله لتقيمنَّ صفوفكم أو ليخالفنَّ الله بين قلوبكم)) قال: ((فرأيت الرجل يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبته، وكعبه بكعبه)) (¬2). النوع التاسع: ((أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدُّوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم (¬3)،ولا تذروا فُرجات للشيطان، ومن وصل صفّاً وصله الله، ومن قطع صفّاً قطعه الله))؛لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (¬4). النوع العاشر: ((رصُّوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق))؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - وفيه: ((فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف كأنها الحذف (¬5))) (¬6). وفي لفظ النسائي: ((فوالذي نفس محمد بيده إني لأرى ¬

(¬1) البخاري بلفظه، كتاب الصلاة، باب إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف، برقم 725. (¬2) أبو داود بلفظه، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، برقم 662، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 196. (¬3) لينوا بأيدي إخوانكم: قال أبو داود: ومعنى ولينوا بأيدي إخوانكم: إذا جاء رجل إلى الصف فذهب يدخل فيه، فينبغي أن يُلين له كل رجل منكبه حتى يدخل في الصف. سنن أبي داود، برقم 666، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 197. (¬4) أبو داود بلفظه، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، برقم 666، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 197. (¬5) الحذف: الغنم الصغار الحجازية، وقيل: غنم صغار ليس لها أذناب ولا آذان، يجاء بها من جُرَش اليمن، سميت حذفاً؛ لأنها محذوفة عن مقدار الكبار. جامع الأصول لابن الأثير، 5/ 609، وثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خياركم ألينكم مناكب في الصلاة))، أبو داود، برقم 672، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 198. (¬6) أبو داود، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، برقم 667، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 198.

النوع الحادي عشر: أتموا الصف المقدم، ثم الذي يليه، فما كان من نقص فليكن في الصف المؤخر

الشياطين تدخل من خلل الصف كأنها الحذف)) (¬1). النوع الحادي عشر: ((أتموا الصف المقدم، ثم الذي يليه، فما كان من نقص فليكن في الصف المؤخر))؛لحديث أنس - رضي الله عنه - (¬2). النوع الثاني عشر: ((استووا، استووا، استووا ... ))؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - (¬3). النوع الثالث عشر: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخلل الصف من ناحية إلى ناحية يمسح صدورنا ومناكبنا، ويقول: ((لا تختلفوا فتختلف قلوبكم)) (¬4). النوع الرابع عشر: ((أحسنوا إقامة الصفوف))؛لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬5). النوع الخامس عشر: ((ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها))؟ فقلنا يا رسول الله، وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: ((يتمون الصفوف الأُوَل ويتراصون في الصف)) (¬6). 4 - الصف الأول أفضل الصفوف؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا لاستهموا)) (¬7)؛ ولحديث أبيّ بن كعب - رضي الله عنه - يرفعه وفيه: ((وإن ¬

(¬1) النسائي، كتاب الإمامة، باب حث الإمام على رصّ الصفوف والمقاربة بينها، برقم 814، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 269. (¬2) أبو داود بلفظه، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، برقم 671، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 198. (¬3) سنن النسائي بلفظه، كتاب الإمامة، باب كم مرة يقول: استووا، برقم 812، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 269. (¬4) سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، برقم 664، عن البراء بن عازب، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 197. (¬5) أحمد في المسند،2/ 485،وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب،1/ 334. (¬6) مسلم، برقم 430، وتقدم تخريجه في فضل صلاة الجماعة. (¬7) متفق عليه: البخاري، برقم 615، ومسلم، برقم 137، 139، وتقدم تخريجه في فضل صلاة الجماعة وفي فضل الصلاة.

الصف الأول على مثل صف الملائكة)) (¬1)، أي في القرب من الله ونزول الرحمة، وإتمامه، واعتداله (¬2)، والصف الأول خير الصفوف؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه: ((خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها)) (¬3)، والله - عز وجل - وملائكته يصلون على الصف الأول؛ لحديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول، أو الصفوف الأولى)) (¬4)، وعن البراء - رضي الله عنه - يرفعه: ((إن الله وملائكته يصلون على الصفوف المتقدمة)) (¬5). والنبي - صلى الله عليه وسلم - صلّى على الصف الأول ثلاثاً وعلى الثاني مرة واحدة؛ لحديث العرباض - رضي الله عنه - يرفعه: ((كان يصلي على الصف الأول ثلاثاً وعلى الثاني واحدة)). ولفظ ابن ماجه: ((كان يستغفر للصف المقدم ثلاثاً، والثاني مرة)) (¬6)، وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التأخر عن الصفوف الأُوَل، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول حتى يؤخرهم الله في النار)) (¬7)، عن أبي سعيد - رضي الله عنه - يرفعه، وفيه: ((تقدموا فأتمُّوا بي وليأتمَّ بكم مَنْ بعدَكم، لا يزال قوم ¬

(¬1) أبو داود، برقم 554، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 165، وتقدم تخريجه في فضل صلاة الجماعة. (¬2) بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني، 5/ 171. (¬3) مسلم، برقم 440، وتقدم تخريجه في فضل صلاة الجماعة. (¬4) أحمد، 4/ 269، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 197، وتقدم تخريجه في فضل صلاة الجماعة. (¬5) النسائي، برقم 811، وابن ماجه، برقم 997، لكن بلفظ: ((إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول)) وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 175، وأبو داود، برقم 664، لكن بلفظ: ((إن الله وملائكته يصلون على الصفوف الأُوَل))، وتقدم تخريجه في فضل صلاة الجماعة. (¬6) النسائي، برقم 817، وابن ماجه، برقم 996، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 1/ 177، وتقدم تخريجه في فضل صلاة الجماعة. (¬7) أبو داود، برقم 479، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 220، وتقدم تخريجه في وقوف الرجال والصبيان والنساء مع الإمام.

5 - ميامن الصفوف أفضل

يتأخرون حتى يؤخرهم الله)) (¬1). 5 - ميامن الصفوف أفضل؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف)) (¬2)، وعن البراء - رضي الله عنه - قال: كنا إذا صلينا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - أحببنا أن نكون عن يمينه، يقبل علينا بوجهه، فسمعته يقول: ((رب قني عذابك يوم تبعث عبادك)) (¬3). 6 - وصل الصفوف رغَّب فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحذّر عن قطعها؛ لحديث عائشة رضي الله عنها ترفعه وفيه: ((إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلُون الصفوف، ومن سدَّ فرجةً رفعه الله بها درجة)) (¬4).وعن ابن عمر رضي الله عنهما يرفعه: ((من وصل صفّاً وصله الله، ومن قطع صفّاً قطعه الله)) (¬5). 7 - صلاة المنفرد خلف الصف لا تصح على القول الصحيح؛ لحديث وابصة - رضي الله عنه - ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد الصلاة)) (¬6)؛ ولحديث علي بن شيبان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً فَرْداً يصلي خلف الصف، فوقف حتى انصرف الرجل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((استقبل صلاتك فلا صلاة لرجل فرد خلف ¬

(¬1) مسلم، برقم 438، وتقدم تخريجه في وقوف الرجال والصبيان والنساء مع الإمام. (¬2) أبو داود، برقم 676، وابن ماجه، برقم 1005، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 199، لكن قال بلفظ: ((على الذين يصلون الصفوف))، قلت: وحسن إسناده ابن حجر في فتح الباري، 2/ 213، وتقدم تخريجه في فضل صلاة الجماعة. (¬3) مسلم، برقم 709، وتقدم تخريجه في صفة الصلاة. (¬4) ابن ماجه، بلفظه، برقم 995، وقال الألباني في صحيح الترغيب، 1/ 335، ((صحيح لغيره)). وتقدم تخريجه في فضل صلاة الجماعة. (¬5) النسائي، برقم 819 بلفظه، وأبو داود، برقم 666، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 335. (¬6) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الرجل يصلي وحده خلف الصف، برقم 682، والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في الصلاة خلف الصف وحده، برقم 230، 231، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب صلاة الرجل خلف الصف وحده، برقم 1004، وأحمد 4/ 228، وابن حبان، [الإحسان]، 5/ 576، برقم 2199، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 299، وفي إرواء الغليل، برقم 541.

الصف)) (¬1)، وهذان الحديثان يدلان على بطلان صلاة الرجل الذي صلى منفرداً وحده خلف الصف (¬2)، لكن من ركع دون الصف ثم دخل في ¬

(¬1) أحمد في المسند،4/ 23،وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب صلاة الرجل خلف الصف وحده، برقم 1003،وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود،1/ 299،وفي إرواء الغليل، 2/ 328. (¬2) اختلف السلف في صلاة الرجل المأموم خلف الصف وحده، على أقوال: القول الأول: لا يجوز ولا يصح، وممن قال بذلك النخعي، والحسن بن صالح، وأحمد، وإسحاق، وحماد، وابن أبي ليلى، ووكيع؛ لهذين الحديثين الثابتين الصريحين .. القول الثاني: يجوز للرجل الفرد أن يصلي خلف الصف، وممن قال بذلك، الحسن البصري، والأوزاعي، ومالك، والشافعي، وأصحاب الرأي، واستدلوا بحديث أبي بكرة، قالوا: لأنه أتى ببعض الصلاة خلف الصف ولم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإعادة، ومما تمسكوا به أيضاً: حديث ابن عباس عند البخاري، برقم 6316، ومسلم، برقم 763،وحديث جابر عند مسلم، برقم 766، إذ جاء كل واحد منهما فوقف عن يسار النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤتمّاً به وحده، فأدار كل واحد منهما حتى جعله عن يمينه، فعلى هذا فقد صار كل واحد منهما خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلك الإدارة. وهذا متمسك غير مفيد؛ لأن المدار من اليسار إلى اليمين لا يسمى مصليّاً خلف الصف، وإنما هو مصل عن اليمين، وهذا القول الثاني هو قول أكثر أهل العلم إن الصلاة منفرداً خلف الصف صحيحة سواء كان لعذر أو غير عذر، ولو كان في الصف سعة، وهو رواية عن أحمد أيضاً. القول الثالث: قال بعض العلماء: المسألة فيها تفصيل، فإن صلى خلف الصف منفرداً لعذر صحت الصلاة، وإن لم يكن له عذر لم تصح الصلاة. واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وعبد الرحمن بن ناصر السعدي، ومحمد بن صالح العثيمين. انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 49، ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 429، وسبل السلام للصنعاني، 3/ 110 - 111، والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 367 - 385، وفتاوى ابن باز، 12/ 219 - 229، والمختارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص108، وفتاوى ابن تيمية، 23/ 393 - 400، وإعلام الموقعين لابن القيم، 2/ 41، والفتاوى السعدية 1/ 171، والمختارات الجلية للسعدي، ص62. وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يرجح القول الأول وذلك أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 443 و444، فيقول: ((هذان الحديثان يدلان على أنه لا صلاة لمنفرد خلف الصف، وكما يدل عليه حديث أبي بكرة المتقدم: زادك الله حرصاً ولا تعد، والمراد: لا تركع خلف الصف، فدل ذلك على أن من ركع دون الصف ثم دخل في الصف أو جاء معه آخر قبل الاستمرار في السجود فلا حرج، أما إذا استمر وسجد، فإنه يؤمر بالإعادة جمعاً بين النصوص. وذهب الأكثرون إلى صحة الصلاة، وأنه من باب الأدب ومن الكمال، وليس من باب الإيجاب، والحق قول من قال: بالوجوب؛ لأن هذا هو الأصل في النفي ((لا صلاة لمنفرد خلف الصف)) هذا هو الأصل، ثم فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمره أن يعيد يوضح هذا المعنى، وأن المراد نفي الإجزاء، واحتج بعضهم بأن الإمام يصلي وحده، وهذه حجة باطلة؛ لأن الإمام مأمور بهذا فلا يقاس ما أمر به على ما نهي عنه)).

8 - صلاة الصفوف بين السواري مكروهة لغير حاجة

الصف أو دخل معه رجل آخر قبل السجود أجزأته الركعة وصلاته صحيحة؛ لحديث أبي بكرة - رضي الله عنه - أنه انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذُكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((زادك الله حرصاً ولا تعد)) (¬1)، ولم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بقضاء الركعة، فدل ذلك على إجزائها، وأن مثل هذا العمل مستثنى من قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا صلاة لمنفرد خلف الصف)) والله ولي التوفيق (¬2). 8 - صلاة الصفوف بين السواري مكروهة لغير حاجة؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - فعن عبد الحميد بن محمود قال: كنا مع أنس فصلينا مع أمير من الأمراء، فدفعونا حتى قمنا وصلينا بين ساريتين، فجعل أنس يتأخر، وقال: ((قد كنا نتقي هذا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)). وفي لفظ: ((صليت مع أنس بن مالك يوم الجمعة فدفعونا إلى السواري ... )) الحديث. وفي لفظ: ((صلينا خلف أمير من الأمراء، فاضطرَّنا الناس فصلينا بين الساريتين ... )) الحديث (¬3). وعن قرة - رضي الله عنه - قال: ((كنا نُنهى أن نصف بين السواري على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونُطردُ عنها طرداً)) (¬4)، ويجوز للإمام والمنفرد الصلاة بين السواري؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لَمّا دخل الكعبة صلى بين الساريتين)) (¬5). 9 - كمال الصفوف وتسويتها يشمل عدة أمور على النحو الآتي: ¬

(¬1) البخاري، كتاب الأذان، باب: إذا ركع دون الصف، برقم 783. (¬2) مجموع فتاوى الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز، 12/ 228. (¬3) النسائي، كتاب الإمامة، باب الصف بين السواري، برقم 820، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب الصفوف بين السواري، برقم 673، والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في كراهية الصف بين السواري، برقم 229، وأحمد، 3/ 831، والحاكم وصححه، 1/ 218، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 1/ 271. (¬4) سنن ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب الصلاة بين السواري في الصف، برقم 1002، والحاكم وصححه، 1/ 218، وقال الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 1/ 298: ((حسن صحيح)). (¬5) متفق عليه: البخاري، برقم 504،ومسلم، برقم 1329،وتقدم تخريجه في المساجد ((الصلاة بين السواري)).

الأمر الأول: أن يدنو أولو الفضل من الإمام

الأمر الأول: أن يدنوَ أُولو الفضل من الإمام؛ لحديث أبي مسعود وابن مسعود رضي الله عنهما في أول الباب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم ... )). الأمر الثاني: ترتيب الصفوف: الرجال، ثم الصبيان إن لم يسبق الصبيان إلى الصفوف الأُوَل، ثم النساء؛ لحديث أبي سعيد السابق. الأمر الثالث: تسوية محاذاة الصفوف وقد سبقت. الأمر الرابع: التراصّ في الصف؛ لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك. الأمر الخامس: إكمال الصف الأول فالأول. الأمر السادس: التقارب بين الصفوف، وبينها وبين الإمام، وأنهم جماعة والجماعة مأخوذة من الاجتماع، ولا اجتماع مع التباعد، وكلما قربت الصفوف بعضها إلى بعض، وقربت إلى الإمام كان أفضل وأجمل. الأمر السابع: تفضيل اليمين في الصفوف: يمين الإمام على شماله، ولكن ليس على سبيل الإطلاق. الأمر الثامن: أن تفرد النساء وحدهن بحيث يكون النساء خلف الرجال، ولا يختلط النساء بالرجال. الأمر التاسع: اقتداء كل صف بمن أمامه عند الحاجة إذا كان صوت الإمام خفيّاً، وليس هناك من يبلغ عنه، فكل صف يقتدي بمن أمامه. الأمر العاشر: عدم صلاة الفذ خلف الصف. الأمر الحادي عشر: عدم صلاة المأمومين بين السواري (¬1). 10 - جواز انفراد المأموم عن الإمام لعذر؛ لحديث صالح بن خوَّات عمن شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: ((أن طائفة ¬

(¬1) انظر: الشرح الممتع لابن عثيمين، 3/ 13 - 22، وتقدمت جميع الأدلة على ذلك.

صلّت معه وطائفة وجاه العدو فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائماً وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالساً وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم)) (¬1)؛ ولحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن معاذًا - رضي الله عنه - كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يأتي قومه فيصلي بهم الصلاة، فقرأ بهم البقرة، قال فتجوز رجل فصلى صلاة خفيفة، فبلغ ذلك معاذاً فقال: إنه منافق، فبلغ ذلك الرجل فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إنا قوم نعمل بأيدينا، ونسقي بنواضحنا (¬2)، وإن معاذاً صلى بنا البارحة فقرأ سورة البقرة، فتجوَّزت فزعم أني منافق؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((يا معاذ أفتّان أنت؟)) - ثلاثاً - اقرأ: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}، و {سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الأعلى}، ونحوهما)). وفي لفظ لمسلم: ((كان يصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء الآخرة ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة)) (¬3). وفي رواية لمسلم: ((كان معاذ يصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يأتي فيؤمّ قومه، فصلى ليلة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء ثم أتى قومه فأمّهم فافتتح بسورة البقرة، فانحرف رجل فسلم ثم صلى وحده وانصرف .. )) (¬4). وفي حديث أنس عند الإمام أحمد، وفيه: ((فلما رأى معاذاً طوَّل تجوَّز في صلاته ولحق بنخله يسقيه ... )) (¬5). وفي حديث بريدة الأسلمي - رضي الله عنه - ((أن معاذ بن جبل صلى بأصحابه العشاء فقرأ فيها: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَة}، فقام رجل من ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع، برقم 4129، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف، برقم 842. (¬2) النواضح: الإبل التي يستقى عليها. شرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 427. (¬3) متفق عليه: البخاري واللفظ له، كتاب الأدب، باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولاً أو جاهلاً، برقم 6106،ومسلم، كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء، برقم 81 (465). (¬4) مسلم، برقم 465، وتقدم تخريجه في الذي قبله. (¬5) الإمام أحمد، في المسند 3/ 101،وصحح إسناده ابن حجر في فتح الباري،2/ 194.

11 - انتقال المنفرد إماما لا بأس به

قبل أن يفرغ فصلى وذهب ... )) (¬1) دلّ حديث جابر بلفظ الإمام البخاري رحمه الله وحديث أنس وحديث بريدة الأسلمي بلفظ الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - على أن الرجل قطع القدوة فقط ولم يخرج من الصلاة؛ بل استمر فيها منفرداً حتى أتمها (¬2). ودلّت رواية الإمام مسلم على أن الرجل قطع الصلاة وابتدأها من جديد، ولهذا قال الإمام الشوكاني - رحمه الله - في شرحه لمنتقى الأخبار: ((استدلّ المصنف بحديث أنس وبريدة رضي الله عنهما المذكورين على جواز صلاة من قطع الائتمام بعد الدخول فيه لعذر وأتم لنفسه، وجُمِعَ بينه وبين ما في الصحيحين من أنه سلم، ثم استأنف بتعدد الواقعة)) (¬3). قال ابن تيمية - رحمه الله - في منتقى الأخبار: (( ... فَعُلِم بذلك أنهما قضيتان إما لرجل أو رجلين)) (¬4). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول عن حديث أنس وبريدة رضي الله عنهما: ((فيه الدلالة على جواز الانفراد عن الإمام لعذر، سواء أتمَّ لنفسه أو قطعها وابتدأها من جديد، كما في القصتين، وهذا عذر شرعي؛ لإطالة الإمام، ويظهر من هذا أنه ينبغي للإمام ألا يطول، ويراعي الناس حتى لا يشق عليهم)) (¬5). 11 - انتقال المنفرد إماماً لا بأس به؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في رمضان، فجئت فقمت إلى جنبه، وجاء رجل ¬

(¬1) أحمد في المسند، 5/ 355، وقوّى إسناده ابن حجر في فتح الباري، 2/ 193. (¬2) اختلف العلماء - رحمهم الله - هل الرجل استأنف صلاته أم أتمها خفيفة، وانظر: التحقيق في ذلك: فتح الباري لابن حجر، 2/ 194 - 195، 197، وشرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 426 - 428، ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 371 - 373. (¬3) نيل الأوطار، 2/ 371 - 373. (¬4) المنتقى من أخبار المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، لأبي البركات عبد السلام ابن تيمية الحراني، 1/ 609، على الحديث رقم 1386. (¬5) سمعته أثناء تقريره على منتقى الأخبار لأبي البركات ابن تيمية، الأحاديث رقم 1383 - 1386.

آخر فقام أيضاً، حتى كنَّا رهطاً، فلما حس النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا خلفه جعل يتجوز في الصلاة، ثم دخل رحله (¬1) فصلى صلاة لا يصليها عندنا، قال - قلنا له حين أصبحنا: أفطنت لنا الليلة؟ فقال: ((نعم ذلك الذي حملني على الذي صنعت)) (¬2)؛ ولحديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتخذ حُجرة في المسجد من حصير في رمضان، فصلى فيها ليالي، فصلى بصلاته ناس من أصحابه، فلما علم بهم، جعل يقعد فخرج إليهم فقال: ((قد عرفت الذي رأيت من صنيعكم، فصلوا أيها الناس في بيوتكم؛ فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)). وفي رواية: ((ثم جاؤوا ليلة فحضروا وأبطأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهم، فلم يخرج عليهم، فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، فخرج إليهم مغضباً، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنه سيكتب عليكم [ولو كتب عليكم ما قمتم به]، فعليكم بالصلاة في بيوتكم؛ فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة)) (¬3)؛ ولحديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل في حجرته وجدار الحجرة قصير، فرأى الناس شخص النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقام أناس يصلون بصلاته، فأصبحوا فتحدثوا بذلك، فقام ليلة الثانية فقام معه ناس يصلون بصلاته، صنعوا ذلك ليلتين أو ثلاثاً، حتى إذا كان بعد ذلك جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يخرج، فلما أصبح ذكر ذلك الناس فقال: ((إني خشيت أن تكتب عليكم صلاة الليل)) (¬4). قال أبو البركات - ابن تيمية - رحمه الله -: ((باب انتقال المنفرد إماماً ¬

(¬1) رحله: منزله، ويتجوز في صلاته: أي يخفف ويقتصر على الجائز المجزي مع بعض المندوبات. شرح النووي على صحيح مسلم، 7/ 221. (¬2) مسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن الوصال، برقم 1104. (¬3) البخاري، كتاب الأذان، باب صلاة الليل، برقم 731، وكتاب الأدب، باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله تعالى، برقم 6113، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال ومن تكلف ما لا يعنيه، برقم 7290. (¬4) البخاري، كتاب الأذان، بابٌ إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أو سترة، برقم 729.

12 - انتقال الإمام مأموما إذا استخلف فحضر مستخلفه

في النوافل)) ثم ساق الأحاديث السابقة (¬1). قال الإمام الشوكاني - رحمه الله -: ((والأحاديث المذكورة تدل على ما بوّب له المصنف - رحمه الله - من جواز انتقال المنفرد إماماً في النوافل، وكذلك في غيرها لعدم الفارق)) (¬2). 12 - انتقال الإمام مأموماً إذا استُخلف فحضر مستَخْلِفُه؛ لحديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذهب إلى بني عمرو بن عوف، ليصلح بينهم فحانت الصلاة فجاء المؤذن إلى أبي بكر فقال: أتصلي للناس فأقيمَ؟ قال: نعم، فصلى أبو بكر، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس في الصلاة، فتخلَّص حتى وقف في الصف، فصفق الناس، وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته، فلما أكثر الناس التصفيق التفت فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأشار إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن امكث مكانك، فرفع أبو بكر - رضي الله عنه - يديه، فحمد الله على ما أمره به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك، ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف، وتقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما انصرف قال: ((يا أبا بكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟)) فقال أبو بكر: ما كان لابن أبي قُحافة أن يصلي بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما لي رأيتكم أكثرتم التصفيق؟ من رابَهُ (¬3) شيء في صلاته فليسبح؛ فإنه إذا سبح التُفت إليه، وإنما التصفيق للنساء)). وفي رواية: ((أن هذه الصلاة هي صلاة العصر، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاء وأبو بكر يصلي بالناس شق الصفوف حتى قام خلف أبي بكر فتقدم في الصف الذي يليه ... )) (¬4). ¬

(¬1) المنتقى من أخبار المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، 1/ 609. (¬2) نيل الأوطار، 2/ 375. (¬3) وفي رواية للبخاري، برقم 1218: ((من نابه شيء في صلاته)) والمعنى: من أصابه شيء يحتاج فيه إلى إعلام الغير)). (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام الأول فتأخر الأول أو لم يتأخر جازت صلاته، برقم 684، وكتاب الأحكام، باب الإمام يأتي قوماً يصلح بينهم، برقم 7190، ومسلم، كتاب الصلاة، باب تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام ولم يخافوا مفسدة بالتقديم، برقم 421.

والحديث يدل على جواز انتقال الإمام مأموما إذا استخلف فحضر مستخلفه

والحديث يدلّ على جواز انتقال الإمام مأموماً إذا استُخلف فحضر مستخلفهُ (¬1). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((فيه الدلالة على أنه لا بأس أن يتأخر الإمام إذا كان خليفة وجاء المستخلف، فيكون في أول [الصلاة إماماً] وفي أثنائها مأموماً، لا حرج في ذلك، كما فعل الصّدّيق لمَّا حضر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو استمر إماماً فلا حرج؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار إليه أن يستمر، ولكنه كره ذلك وقال: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي حديث عبد الرحمن بن عوف عند مسلم في غزوة تبوك (¬2) أنه صلى بالناس وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصلى خلفه، وكان عبد الرحمن قد صلى بالناس ركعة من صلاة الفجر، فلمَّا سلم عبد الرحمن قام النبي فقضى ركعة هو والمغيرة، فإذا جاء الإمام والمستخلف قد صلى ركعة فينبغي له ألا يتقدم؛ بل يصلي مع الناس، أما إذا كان في أولها فهو مخير إن شاء تقدم وتأخر الخليفة، وإن شاء تركه يكمل وصلى مع الناس، والأفضل أن يتركه يكمل؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر الصّدّيق أن يكمل ولكن الصّدّيق تأدَّب)) (¬3). ويدل على ذلك أيضاً حديث عائشة رضي الله عنها: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته وجد خفة فخرج فوجد أبا بكر يصلي بالناس فأراد أبو بكر أن يتأخر فأومأ إليه أن مكانك، ثم جيء به - صلى الله عليه وسلم - يُهادى بين رجلين حتى جلس إلى جنبه عن يسار أبي بكر، وكان أبو بكر يصلي قائماً، وكان رسول الله ¬

(¬1) نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 377، وانظر: المغني لابن قدامة، 3/ 65. (¬2) مسلم، برقم 274، وتقدم تخريجه في صلاة الجماعة. (¬3) سمعته أثناء تقريره على المنتقى من أخبار المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، الحديث رقم 1390.

13 - انتقال المأموم إماما إذا استخلفه الإمام لا بأس به

- صلى الله عليه وسلم - قاعداً، يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والناس بصلاة أبي بكر)). وفي لفظ للبخاري: أنها صلاة الظهر، وفي لفظ لمسلم: ((وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالناس وأبو بكر يسمعهم التكبير)) (¬1). 13 - انتقال المأموم إماماً إذا استخلفه الإمام لا بأس به؛ لحديث عمرو بن ميمون قال: ((إني لقائم ما بيني وبين عمر - غداة أصيب - إلا عبد الله بن عباس، فما هو إلا أن كبَّر فسمعته يقول: قتلني أو أكلني الكلب حين طعنه، وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدَّمه، فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة)) (¬2). قال الإمام الشوكاني - رحمه الله -: ((وفيه جواز الاستخلاف للإمام عند عروض عذر يقتضي ذلك؛ لتقرير الصحابة لعمر على ذلك، وعدم الإنكار من أحد منهم فكان إجماعاً، وكذلك فعل علي وتقريرهم له على ذلك)) (¬3). والله - عز وجل - أعلم (¬4). تاسعاً: الاقتداء وشروطه ولوازمه على النحو الآتي: 1 - صفة الاقتداء بالإمام وعدم سبقه ومقارنته؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما جعل الإمام ليؤتمَّ به، [فلا تختلفوا عليه] فإذا كبر فكبروا، ولا تكبّروا حتى يكبّر، وإذا ركع فاركعوا، ولا تركعوا حتى يركع، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، ولا تسجدوا حتى يسجد، وإذا صلى قائماً فصلوا ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، باب الرجل يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم، برقم 713، ومسلم، كتاب الصلاة، باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر، برقم 418. (¬2) البخاري مختصراً، كتاب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان بن عفان، برقم 3700. (¬3) نيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار، 2/ 416. (¬4) وتأتي أحكام الاستخلاف، وأحكام الاقتداء بمن أخطأ بترك شرطٍ أو ركن، والاقتداء بمن ذكر أنه محدث، بعد صفحات.

2 - مسابقة الإمام

قياماً، وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعون)) (¬1). هذا الحديث دل على أن شرعية الإمامة؛ ليُقتدَى بالإمام، ومن شأن التابع والمأموم أن لا يتقدم متبوعه، ولا يساويه، ولا يتقدم عليه في موقفه، بل يراقب أحواله ويأتي على إثرها بنحو فعله، ومقتضى ذلك أن لا يخالفه في شيء من الأحوال، وقد فصَّل الحديث ذلك، ويقاس ما لم يذكر من أحواله: - كالتسليم - على ما ذكر، فمن خالفه في شيء مما ذكر فقد أثم (¬2). 2 - مسابقة الإمام. قد توعّد النبي - صلى الله عليه وسلم - من سابق إمامه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أمَا يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يُحوَّل رأسُهُ رأس حمار))، وفي لفظ البخاري: ((أن يجعل الله رأسه رأس حمار، أو يجعل الله صورته صورة حمار)) (¬3)، وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، فلما قضى الصلاة أقبل علينا بوجهه فقال: ((أيها الناس إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع، ولا بالسجود، ولا بالقيام، ولا بالانصراف (¬4)؛ فإني أراكم أمامي ومن خلفي، والذي نفسي بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)) قالوا: ما رأيت يا رسول الله؟ قال: ((الجنة والنار)) (¬5). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - موقوفاً عليه: ((الذي يرفع رأسه ويخفضه قبل الإمام إنما ناصيته بيد شيطان)) (¬6). قال الإمام مالك - رحمه الله - فيمن سها فرفع رأسه قبل ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الإمام يصلي من قعود، برقم 603، وأصله في صحيح البخاري، كتاب الأذان، باب إقامة الصف من تمام الصلاة، برقم 722، ومسلم، كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، برقم 414، وما بين المعقوفين من لفظ البخاري ومسلم. (¬2) سبل السلام للصنعاني، 3/ 78، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 2/ 209، 217، وشرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 377. (¬3) متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -:البخاري، كتاب الأذان باب إثم من رفع رأسه قبل الإمام، برقم 691،ومسلم، كتاب الصلاة، باب تحريم سبق الإمام بركوع وسجود أو نحوهما، برقم 427. (¬4) الانصراف: المراد به السلام. (¬5) مسلم، كتاب الصلاة، باب تحريم سبق الإمام: بركوع، أو سجود، أو نحوهما، برقم 426. (¬6) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الصلاة، باب ما يفعل من رفع رأسه قبل الإمام، 1/ 92، برقم 57، وانظر: فتح الباري، 2/ 183.

الإمام في الركوع أو السجود: ((إن السنة في ذلك أن يرجع راكعاً أو ساجداً، ولا ينتظر الإمام، وذلك خطأ ممن فعله؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنّما جُعِلَ الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه)). وقال أبو هريرة: الذي يرفع رأسه ويخفضه قبل الإمام: ((إنما ناصيته بيد شيطان)) (¬1).وعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: ((كنا نصلي خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا قال: ((سمع الله لمن حمده)) لم يحنِ أحدٌ منَّا ظهره حتى يضع النبي - صلى الله عليه وسلم - جبهته على الأرض [ثم يخرّ من وراءه ساجداً])) (¬2). وعن معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تبادروني بركوع ولا بسجود، إنه مهما أسبقكم به إذا ركعت تدركوني إذا رفعت إني قد بدَّنت (¬3))) (¬4). وعن عمرو بن حريث - رضي الله عنه - قال: ((صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - الفجر، فسمعته يقرأ: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} (¬5)، وكان لا يحني رجل منا ظهره حتى يستتم ساجداً)) (¬6). قال النووي - رحمه الله -: ((في هذا الحديث وغيره ما يقتضي مجموعه أن السنة للمأموم التأخر عن الإمام قليلاً بحيث يشرع في الركن بعد شروعه وقبل فراغه منه والله أعلم)) (¬7). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - ¬

(¬1) موطأ مالك، كتاب الصلاة، باب ما يفعل من رفع رأسه قبل الإمام، 1/ 92. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، اب متى يسجد مَن خلف الإمام؟ برقم 690،وباب رفع البصر إلى الإمام في الصلاة، برقم 747،وباب السجود على سبعة أعظم، برقم 811،ومسلم، كتاب الصلاة، باب متابعة الإمام والعمل بعده، برقم 474،واللفظ للبخاري، وما بين المعقوفين لمسلم. (¬3) بدَّنت: بدَّن الرجل: إذا كبر، وبَدُن: إذا سمن. جامع الأصول لابن الأثير، 5/ 629. (¬4) أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يؤمر به المأموم من اتباع الإمام، برقم 619، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 184: ((حسن صحيح)). (¬5) سورة التكوير، الآيتان: 15 - 16. (¬6) مسلم، كتاب الصلاة، باب متابعة الإمام والعمل بعده، برقم 475. (¬7) شرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 436.

3 - أحوال المأموم مع إمامه: أربعة أحوال

يقول عن حديث أبي هريرة أول هذه الأحاديث: ((المقصود أنهم يتأخرون عنه قليلاً لا كثيراً، إذا انتهى صوته مكبراً كبروا، وإذا استوى راكعاً ركعوا، وإذا استوى ساجداً سجدوا في غير مهلة، وقد ذكر الأفعال والأقوال ولم يذكر النية، فدل على أن النية مغتفرة)) (¬1). 3 - أحوال المأموم مع إمامه: أربعة أحوال: مسابقة، وموافقة أو مقارنة، وتأخر، ومتابعة، وتفصيل ذلك على النحو الآتي: الحال الأول: المسابقة: وهي أن يسبق المأموم إمامه في شيء من الأفعال أو الأقوال في الصلاة، مثل: أن يتقدمه في تكبير، أو ركوع، أو رفع، أو سجود، أو سلام، أو غير ذلك من الأفعال أو الأقوال داخل الصلاة (¬2). ومسابقة الإمام حرام متوعَّد عليها بالعقوبة، باتفاق العلماء؛ للأدلة السابقة آنفاً، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: (( ... أما مسابقة الإمام فحرام باتفاق الأئمة: لا يجوز لأحد أن يركع قبل إمامه، ولا يرفع قبله، ولا يسجد قبله)) (¬3). ثم قال: ((ومن فعل ذلك استحق العقوبة والتعزير الذي يردعه وأمثاله، كما رُوي عن عمر: أنه رأى رجلاً يسابق الإمام، فضربه، وقال: لا وحدك صليت ولا بإمامك اقتديت)) (¬4). ¬

(¬1) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 429. (¬2) انظر: المغني، لابن قدامة، 2/ 208 - 212،والمقنع لابن قدامة مع الشرح الكبير، 4/ 217 - 327، والشرح الكبير لابن قدامة مع المقنع،4/ 317 - 327،والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للمرداوي مع المقنع والشرح الكبير،4/ 317 - 326،ومنتهى الإرادات مع حاشية النجدي، 1/ 287 - 293، وحاشية الروض المربع لابن قاسم، 2/ 4، وإرشاد أولي البصائر والألباب لنيل الفقه بأقرب الطرق وأيسر الأسباب، للسعدي، ص56 - 58، والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 257 - 270، وصلاة الجماعة، للسدلان، ص174 - 181، والمختارات الجلية للسعدي، ص55، والإقناع لطالب الانتفاع، لأبي النجا الحجاوي،1/ 251 - 252، ونيل الأوطار للشوكاني،2/ 363 - 366،ومنار السبيل للضويان،1/ 164، 165. (¬3) مجموع فتاوى ابن تيمية، 23/ 336. (¬4) مجموع فتاوى ابن تيمية، 23/ 337.

قال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي - رحمه الله تعالى -: ((والصواب أن مسابقة الإمام عمداً، إذا كان المسابق عالماً بالحال والحكم، أنها مبطلة للصلاة بمجرد ذلك، سواء سبقه إلى ركن (¬1)، أو بركن (¬2)، أو ركنين (¬3)، وسواء كان ذلك ركوعاً، أو سجوداً، أو غيرهما، وسواء أدركه الإمام أو رجع إلى ترتيب الصلاة (¬4)؛ لأن النهي والوعيد يتناول هذا، وما نهي عنه لخصوص العبادة كان من مفسداتها، وأما القول: بأن ذلك محرَّم، والإبطال يتوقف على السبق بركن الركوع، أو بركنين غيره، فهذا القول لا دليل عليه، وكما أنه خلاف النص؛ فإنه خلاف نص الإمام أحمد كما صرح بذلك في رسالته المشهورة)) (¬5). وقال العلامة عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - أيضاً: ((وأما إذا وقع السبق نسياناً أو جهلاً فلا يخلو: إما أن يرجع فيأتي بما سبق به مع الإمام أو لا، فإن رجع صحت ركعته مطلقاً؛ سواء كان السبق إلى ركن، أو بركن، أو ركنين، أو أكثر، فإن لم يرجع حتى لحقه الإمام فإن كان سبقه إلى ركن الركوع: بأن ركع ساهياً أو جاهلاً قبل إمامه، ثم ركع الإمام والسابق في ركوعه صحت ركعته واعتد بها، ومثله السبق بركن واحد غير الركوع، وإن كان السبق بركن الركوع، أو بركنين غير الركوع ¬

(¬1) سبقه إلى ركن، مثل: أن يركع أو يسجد أو يرفع قبل إمامه. (¬2) سبقه بركن، مثل: أن يركع ويرفع قبل ركوع إمامه [ولا يعد سابقاً بركن حتى يتخلص منه، فلا يعد سابقاً بالركوع حتى يرفع، ولا بالرفع حتى يهوي إلى السجود] حاشية منتهى الإرادات للنجدي، 1/ 289. (¬3) سبقه بركنين، مثل: أن يسجد المأموم قبل سجود إمامه ثم يرفع، ثم يسجد الثانية قبل أن يصله الإمام. (¬4) أو رجع إلى ترتيب الصلاة، مثل: أن يرجع إلى ما سبق به إمامه فيأتي به بعده. انظر هذه الأمثلة: إرشاد أولي البصائر للسعدي، ص57، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للمرداوي، المطبوع مع المقنع والشرح الكبير، 4/ 322، وحاشية ابن قاسم على الروض المربع، 2/ 287. (¬5) المختارات الجلية للسعدي، ص55، وانظر: المغني لابن قدامة، 2/ 210، أما رسالة الإمام أحمد: فهي الرسالة السنية، انظر: مجموعة الحديث النجدية، ص 446.

الحال الثاني: الموافقة أو المقارنة

فإن رجع قبل وصول الإمام له صحت أيضاً ركعته، وإن لحقه الإمام لغت الركعة التي وقع فيها السبق)) (¬1). وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله -: ((والصحيح أنه متى سبق إمامه عالماً ذاكراً فصلاته باطلة بكل أقسام السبق (¬2)، وإن كان جاهلاً أو ناسياً فصلاته صحيحة إلا أن يزول عذره (¬3) قبل أن يدركه الإمام، فإنه يلزمه الرجوع ليأتي بما سبق فيه بعد إمامه، فإن لم يفعل عالماً ذاكراً بطلت صلاته وإلا فلا)) (¬4). الحال الثاني: الموافقة أو المقارنة، وهي أن يوافق المأموم الإمام عند الانتقال إلى ركن، كأن يركع أو يسجد معه سواء بسواء، وهي مكروهة في غير تكبيرة الإحرام؛ لأن تكبيرة الإحرام يشترط أن يأتي بها بعد إمامه فلو أتى بها معه لم يعتد بها. والموافقة قسمان: الموافقة في الأقوال والموافقة في الأفعال: القسم الأول: الموافقة في الأقوال، لا تضر إلا في تكبيرة الإحرام والسلام. أما تكبيرة الإحرام؛ فإن المأموم لا يكبر إلا بعد أن يتم الإمام تكبيرة الإحرام؛ فإن كبر قبل انتهاء إمامه نهائياً منها لم تنعقد صلاته. وأما الموافقة في السلام فيكره أن يسلم مع الإمام، فالأولى أن يسلم المأموم عقب فراغ الإمام من التسليمتين (¬5). ¬

(¬1) إرشاد أولي البصائر والألباب، ص57 - 58. (¬2) أقسام السبق: السبق إلى ركن، والسبق بركن الركوع، والسبق بركن غير الركوع، والسبق بركنين غير الركوع. انظر: الشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 261 - 262. (¬3) والعذر: كالجهل والنسيان. (¬4) الشرح الممتع، 4/ 263. (¬5) انظر: المغني لابن قدامة، 2/ 208، ومنار السبيل، للضويان، 1/ 164، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للمرداوي، 4/ 323، وقال في هذا الموضع: قال ابن رجب في شرح البخاري: ((الأولى أن يسلم المأموم عقيب فراغ الإمام من التسليمتين، فإن سلم بعد الأولى جاز عند من يقول إن الثانية غير واجبة، ولم يجز عند من يرى أن الثانية واجبة لا يخرج من الصلاة بدونها)) وانظر: حاشية ابن قاسم على الروض المربع، 2/ 286، والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 267 - 268، وصلاة الجماعة للسدلان، ص178، والتمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر، 6/ 147 - 148.

القسم الثاني: الموافقة في الأفعال

القسم الثاني: الموافقة في الأفعال، مكروهة على القول الصحيح من قولي أهل العلم، مثل: أن يركع المأموم مع الإمام، أو يسجد، أو يرفع؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( ... إذا ركع الإمام فاركعوا، ولا تركعوا حتى يركع، وإذا سجد فاسجدوا ولا تسجدوا حتى يسجد)) (¬1). فإن قارن المأموم إمامه في أفعاله كره له ذلك (¬2). الحال الثالث: التأخر أو التخلف عن متابعة الإمام، مثل: أن يتخلف عنه بركن، أو بركنين، أو ركعة أو ركعتين، أو أقل أو أكثر (¬3). والتخلف عن الإمام قسمان: تخلف بعذر، وتخلف بغير عذر: القسم الأول: التخلف بعذر، مثل: النوم والسهو، والزحام، والجهل، والنسيان، أو لم يسمع الإمام حتى سبقه، أو عجلة إمام؛ فإن المأموم في هذه الحالة يأتي بما تخلف به عن الإمام؛ سواء كان: ركناً، أو ركنين، أو أقل، أو أكثر، ويدرك إمامه فيتابعه ولا شيء عليه، إلا إذا وصل الإمام إلى المكان الذي هو فيه، فإنه لا يأتي به ويبقى مع الإمام وتصح له ركعة ملفقة من ركعتي إمامه: الركعة التي تخلف فيها، والركعة التي وصل إليها الإمام وهو في مكانه، فإذا سلم الإمام قام المتخلف فأتى بركعة كاملة. ¬

(¬1) أبو داود، برقم 603، وأصله في البخاري برقم 722، ومسلم، برقم 414، وتقدم تخريجه في أول الاقتداء وشروطه قبل صفحات. (¬2) انظر: الإنصاف للمرداوي،4/ 323،وحاشية الروض المربع، لابن قاسم، 2/ 286. (¬3) المغني لابن قدامة، 2/ 211، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للمرداوي 4/ 324، وحاشية الروض المربع لابن قاسم، 2/ 288، والشرح الممتع، لابن عثيمين،4/ 264، وصلاة الجماعة للسدلان، ص178.

القسم الثاني: تخلف أو تأخر بغير عذر

أما إذا تخلف عن إمامه بركعة أو ركعتين أو أكثر، فإنه يتابع إمامه، وبعد سلام الإمام يقضي ما تخلف به عن إمامه (¬1). القسم الثاني: تخلف أو تأخر بغير عذر، فإما أن يكون تخلفاً في ركن أو تخلفاً بركن، والتخلف في ركن: هو أن يتأخر المأموم في المتابعة لكن يدرك الإمام في الركن الذي انتقل إليه، مثل: أن يركع الإمام وقد بقي على المأموم آية أو آيتين فيكملها ثم يدرك الإمام في ركوعه قبل أن يرفع، فالركعة هنا صحيحة لكن الفعل مخالف للسنة. أما التخلف بالركن، فهو: أن يتأخر المأموم حتى يسبقه الإمام بركن، مثل: أن يركع ويرفع من الركوع قبل أن يركع المأموم، فهذا كما قال الفقهاء - رحمهم الله -: ((التخلف عن الإمام كسبقه))، فهذا تكون صلاته باطلة على الصحيح، سواء كان الركن ركوعاً أو سجوداً أو غيرهما؛ لأن المأموم تخلف بغير عذر (¬2). الحال الرابع: المتابعة، وهي أن يشرع المأموم في أفعال الصلاة، من: الركوع، والرفع، والسجود بعد فراغ الإمام، وكذلك يتابعه في التكبير فلا يكبر حتى يكبر. وهذا هو السنة، وهو المطلوب من المأموم (¬3)؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما جُعل الإمام ليُؤْتَمَّ به، فلا تختلفوا عليه، فإذا كبّر فكبّروا، ولا تكبروا حتى يكبر، وإذا ركع فاركعوا ولا تركعوا حتى يركع، ¬

(¬1) انظر: المغني لابن قدامة، 2/ 211 - 212، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للمرداوي، 4/ 324 - 325، وحاشية ابن قاسم على الروض المربع، 2/ 288 - 289، والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 264 - 265، وصلاة الجماعة، للسدلان، ص178 - 179. (¬2) انظر: الشرح الممتع، لابن عثيمين، 4/ 265 - 267، وصلاة الجماعة للسدلان، ص178 - 188، وينظر أيضاً: المغني لابن قدامة، 2/ 211 - 212، والإنصاف للمرداوي، 4/ 324 - 325، وحاشية الروض المربع لابن قاسم، 2/ 288 - 289. (¬3) انظر: المغني لابن قدامة، 2/ 161، 2/ 208 - 209، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي، 4/ 323، والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 269 - 270، وحاشية الروض المربع، لابن قاسم، 2/ 285.

4 - ارتفاع مكان الإمام اليسير على المأمومين لا يضر

وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا ولا تسجدوا حتى يسجد، وإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعون)) (¬1). 4 - ارتفاع مكان الإمام اليسير على المأمومين لا يضر؛ لحديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - وفيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلس على المنبر في أول يوم وُضِعَ فكبر وهو عليه، ثم ركع، ثم نزل القهقرى (¬2) فسجد في أصل المنبر، ثم عاد فلما فرغ أقبل على الناس فقال: ((أيها الناس، إنما صنعت هذا؛ لتأتموا بي؛ ولتعلَّموا صلاتي)). وفي لفظ: ((وقام عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين عمل ووُضِع فاستقبل القبلة، كبَّر وقام الناس خلفه فقرأ وركع، وركع الناس خلفه، ثم رفع رأسه ثم رجع القهقرى حتى سجد بالأرض، ثم عاد إلى المنبر، ثم قرأ، ثم ركع، ثم رفع رأسه، ثم رجع القهقرى حتى سجد بالأرض، فهذا شأنه، قال أبو عبد الله (¬3): قال علي بن المديني: سألني أحمد بن حنبل - رحمه الله - عن هذا الحديث، قال: فإنما أردت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أعلى من الناس بهذا الحديث ... )) (¬4)؛ ولحديث أنس - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سقط عن فرسه فجحش (¬5) ساقه أو كتفه، وآلى من نسائه (¬6) شهراً، فجلس في مَشْرُبة (¬7) له درجتها من جذوع، فأتاه أصحابه ¬

(¬1) أبو داود برقم 603،والبخاري، برقم 722،ومسلم، برقم 414،وتقدم تخريجه في الاقتداء وشروطه. (¬2) القهقرى: المشي إلى الخلف، والحامل عليه المحافظة على استقبال القبلة، انظر: نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 443. (¬3) هو الإمام البخاري رحمه الله. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة في السطوح، والمنبر، والخشب، برقم 377، وكتاب الجمعة، باب الخطبة على المنبر، برقم 917، ومسلم، كتاب المساجد، باب جواز الخطوة والخطوتين في الصلاة، وأنه لا كراهة في ذلك إذا كان لحاجة، وجواز صلاة الإمام على موضع أرفع من المأمومين للحاجة كتعليم الصلاة أو غير ذلك، برقم 544. (¬5) الجحش: الخدش، أو أشد منه قليلاً. فتح الباري لابن حجر، 1/ 487. (¬6) آلى من نسائه: أي حلف لا يدخل عليهن شهراً. فتح الباري لابن حجر،1/ 489. (¬7) مشربة: الغرفة المرتفعة: فتح الباري لابن حجر، 1/ 488.

يعودونه فصلى بهم جالساً وهم قيام، فلما سلم قال: ((إنما جعل الإمام ليؤتمَّ به، فإذا كبَّر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإن صلى قائماً فصلوا قياماً)) (¬1). وهذان الحديثان فيهما جواز الارتفاع اليسير لمكان الإمام على المأموم عند الحاجة لذلك. أما حديث أبي مسعود: ((أن حذيفة - رضي الله عنه - أمَّ الناس بالمدائن (¬2) على دكان (¬3) فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه، فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال: بلى، قد ذكرت حين مددْتني)) (¬4). وحديث حذيفة في قصته مع عمار بن ياسر وأخذه على يديه وإنزاله من الصلاة على الدكان المرتفع، فاتَّبعه عمار حتى أنزله حذيفة فلما فرغ عمار من صلاته قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا أمَّ الرجل القوم، فلا يقم في مكان أرفع من مقامهم)) أو نحو ذلك (¬5)، فهذان الحديثان وما في معناهما يدلان على كراهة علوّ الإمام على المأموم علوّاً أكثر مما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، جمعاً بين الأخبار (¬6)، والله أعلم (¬7).وسمعت شيخنا الإمام ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 378، ومسلم، برقم 411، ويأتي تخريجه في اقتداء الجالس القادر على القيام بالجالس المعذور. (¬2) المدائن: مدينة قديمة على دجلة تحت بغداد. نيل الأوطار للشوكاني،2/ 441. (¬3) الدكان: الدكة، وهو الموضع المرتفع يجلس عليه، جامع الأصول لابن الأثير،5/ 633. (¬4) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الإمام يقوم مكاناً أرفع من مكان المأموم، برقم 597، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 178. (¬5) أبو داود، الصلاة، باب الإمام يقوم مكاناً أرفع من مكان المأموم، برقم 598، قال عنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 179: ((حسن بما قبله إلا ما خالفه)). (¬6) انظر: المغني، لابن قدامة،3/ 48،والإنصاف مع شرح الكبير والمقنع، 4/ 455،وحاشية ابن قاسم على الروض المربع،2/ 350 - 351،والكافي لابن قدامة، 1/ 437،وفتح الباري لابن حجر،2/ 486 - 488، ومنتهى الإرادات مع حاشية النجدي، 1/ 317، والشرح الممتع، لابن عثيمين،4/ 423 - 426، ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 440 - 442،ومنار السبيل للضويان،1/ 173،وفتاوى الإمام ابن باز، 12/ 94. (¬7) اختلف العلماء - رحمهم الله - في مسألة علوّ الإمام على المأموم، فقيل: يمنع ارتفاع الإمام على المأموم مطلقاً، وأما صلاته - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فقيل إنه إنما فعل ذلك لغرض التعليم، وقيل: الصلاة على مكان مرتفع من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: إنه لا يكره مطلقاً؛ لأن الحديث ضعيف. والصواب أن الذي يكره هو الارتفاع الكثير، أما اليسير فلا بأس به. انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 47 - 48، والإنصاف مع الشرح الكبير والمقنع، 4/ 453، والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 426.

عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((يكره العلو الكثير من الإمام على المأمومين، أما العلو اليسير فلا بأس به عند أحمد وجماعة، ولعل الحكمة في ذلك والله أعلم؛ لأنه قد يؤثر في نفس الإمام شيئاً، فمن التواضع أن يصلي مساوياً لهم، وهذا إذا لم يكن حاجة، أما إذا كان هناك حاجة [مثل]: الزحمة، زالت الكراهة، ثم إذا كان معه بعض الصفوف زالت الكراهة، أما علو المأموم فلا كراهة في ذلك، كما يفعل الناس أيام الجمع من الصلاة فوق السطوح، وإنما جاءت الكراهة للإمام، وإذا كان العلو للتعليم والتوجيه زالت الكراهة)) (¬1). أما إذا كان مع الإمام في المكان المرتفع بعض الصفوف من المأمومين زال المنع فلا حرج ولا كراهة؛ لأن الإمام في هذه الحالة لم ينفرد بمكانه (¬2)، فحينئذ يُصلى معه وفوقه، وتحته (¬3). أما علوّ المأموم على الإمام فلا بأس به، مثل أن يصلي على السطوح أو في مكان أعلى من الإمام بحيث لا يكون فذّاً وحده؛ لأن أبا هريرة - رضي الله عنه - صلى على سقف المسجد بصلاة الإمام (¬4)؛ ولما جاء من الآثار عن ابن عمر رضي الله عنهما والحسن البصري (¬5). أما إذا كان المؤتم فوق الإمام ¬

(¬1) سمعته أثناء تقريره على منتقى الأخبار، لأبي البركات المجد ابن تيمية، الأحاديث: 1496 - 1498، وذلك يوم الإثنين الموافق 11/ 11/1410هـ. (¬2) انظر: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، 4/ 457،وفتاوى الإمام ابن باز، 12/ 94 و95، والشرح الممتع للعلامة ابن عثيمين، 4/ 350. وحاشية ابن قاسم على الروض المربع، 2/ 350. (¬3) سمعته من شيخنا عبد العزيز ابن باز، أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 377. (¬4) البخاري معلقاً مجزوماً به، كتاب الصلاة، باب الصلاة في السطوح والمنبر والخشب، قبل الحديث رقم 377. (¬5) البخاري، قبل الحديث رقم 377.

5 - الاقتداء بالإمام داخل المسجد وخارجه، والحوائل بينه وبين المأمومين على النحو الآتي:

وكان ارتفاعه ارتفاعاً مفرطاً بحيث يكون فوق ثلاثمائة ذراع على وجه لا يمكن المؤتم العلم بأفعال الإمام فهو ممنوع بالإجماع، وإن كان دون ذلك فالأصل الجواز حتى يقوم الدليل على المنع، ويعتضد هذا الأصل بفعل أبي هريرة - رضي الله عنه - ولم ينكر عليه (¬1). وقيل يكره دخول الإمام في الطاق الذي يقال له: المحراب؛ لآثار وردت في ذلك عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وغيره من السلف الصالح (¬2)؛ ولأنه إذا دخل في الطاق استتر عن بعض المأمومين فلا يرونه لو أخطأ في الركوع أو السجود، فإن لم يمنع المحراب رؤية الإمام لم يكره، وكذلك إذا احتاج إليه الإمام لكثرة الزحام فلا بأس أن يتقدم فيدخل (¬3) فيه (¬4). 5 - الاقتداء بالإمام داخل المسجد وخارجه، والحوائل بينه وبين المأمومين على النحو الآتي: أولاً: يصح اقتداء المأموم بالإمام في المسجد وإن لم يره ولا من وراءه إذا سمع التكبير؛ حتى لو لم تتصل الصفوف؛ لأنهم في موضع الجماعة ويمكنهم الاقتداء به بسماع التكبير، أشبه المشاهدة، ولو كان بينهما حائل إذا علم حال الإمام بالتكبير أو غيره (¬5)؛ لحديث عائشة ¬

(¬1) انظر: نيل الأوطار، للشوكاني،2/ 442، والروض المربع مع حاشية ابن قاسم، 2/ 351، والشرح الكبير مع الإنصاف، 4/ 456، ومنار السبيل لابن ضويان، 1/ 174، والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 426، 4/ 419. (¬2) انظر: مصنف ابن أبي شيبة،2/ 59 - 60،والروض المربع مع حاشية ابن قاسم، 2/ 351. (¬3) اختلف في صلاة الإمام في الطاق الذي يقال له: المحراب، فقيل: يكره لما تقدم، وقيل: لا يكره، وقيل: تستحب الصلاة فيه، ومحل الخلاف في الكراهة إذا لم تكن له حاجة، فإن كان ثَمّ حاجة، كضيق المسجد زالت الكراهة، ومحلّ الخلاف إذا كان المحراب يمنع رؤية المأمومين للإمام فإن كان لا يمنعه، كالخشب ونحوه لم يكره الوقوف فيه. انظر: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للمرداوي، مع الشرح الكبير، 4/ 457 - 458. (¬4) انظر: الشرح الممتع، لابن عثيمين، 4/ 427. (¬5) انظر: الروض المربع من حاشية ابن قاسم، 2/ 347، ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 443، وفتاوى ابن باز، 12/ 213، والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 419، والشرح الكبير مع الإنصاف، 4/ 445، والمغني لابن قدامة، 3/ 44.

ثانيا: إذا كان المأموم خارج المسجد والإمام داخله صح الاقتداء

رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل في حجرته (¬1) وجدار الحجرة قصير، فرأى الناس شخص النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام أناس يصلون بصلاته ... )) الحديث (¬2). ثانياً: إذا كان المأموم خارج المسجد والإمام داخله صحّ الاقتداء إن رأى المأموم الإمام أو بعض المأمومين الذين وراء الإمام ولو كانت الرؤية في بعض الصلاة، أو من شباك ونحوه (¬3)، والله - عز وجل - أعلم (¬4). ثالثاً: إذا كان المأموم خارج المسجد والإمام داخله وفصل بينهم نهر أو طريق كبير لم تتصل فيه الصفوف مع رؤية المأمومين للإمام أو بعض الصفوف خلفه فقيل تصحّ (¬5)،وقيل لا تصح (¬6). قال الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله -: ((إذا كان المأمومون خارج المسجد ويرون بعض الصفوف أمامهم ولو فصل بينهم بعض الشوارع فلا حرج في ذلك؛ لوجوب الصلاة في الجماعة، وتمكنهم منها بالرؤية للإمام أو بعض ¬

(¬1) حجرته: قيل حجرة بيته وهو الظاهر، ويحتمل أن المراد الحجرة التي احتجرها في المسجد. فتح الباري لابن حجر، 2/ 214. (¬2) البخاري، كتاب الأذان، بابٌ إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أو سترة، برقم 729. (¬3) ينظر: الروض المربع مع حاشية ابن قاسم، 2/ 448، والشرح الكبير مع الإنصاف، 4/ 445، والمغني لابن قدامة، 3/ 45. (¬4) قال بعض أهل العلم: لابد أيضاً من اتصال الصفوف في هذه الحالة، وقال بعضهم: لا يشترط اتصال الصفوف وإنما رؤية المأموم للإمام أو بعض المأمومين هي المشروطة. انظر المغني لابن قدامة، 3/ 44، والإنصاف مع الشرح الكبير، 4/ 445 - 447، والشرح الممتع، لابن عثيمين، 4/ 419 - 422، وحاشية ابن قاسم على الروض المربع، 2/ 348، وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 23/ 404 - 410، وفتاوى ابن باز، 12/ 212، 215، 217. (¬5) انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 44 - 45، والإنصاف مع الشرح الكبير، 4/ 446، وحاشية ابن قاسم على الروض المربع، 2/ 349، والمختارات الجلية للسعدي، ص62، وإرشاد أولي البصائر له، ص60،والشرح الممتع لابن عثيمين،4/ 412 - 422. (¬6) انظر: المراجع السابقة في الصفحات المشار إليها نفسها.

المأمومين، لكن ليس لأحد أن يصلي أمام الإمام؛ لأن ذلك ليس موقفاً للمأموم)) (¬1).وقد جاء بعض الآثار في ذلك عن بعض السلف الصالح، قال الإمام البخاري - رحمه الله -: ((بابٌ: إذا كان بين الإمام وبين القوم حائطٌ أو سُترةٌ)). وقال الحسن: ((لا بأس أن تُصلّي وبينك وبينه نهر)) (¬2). وقال أبو مجلز: ((يأتم بالإمام - وإن كان بينهما طريق أو جدار - إذا سمع تكبير الإمام)) (¬3). ورجح العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي - رحمه الله -: ((أن المأموم إذا أمكنه الاقتداء بإمامه أوسماع الصوت، أنه يصح اقتداؤه به؛ سواء كان في المسجد، أو خارج المسجد، وسواء حال بينهما نهر، أو طريق؛ لأنه لا دليل على المنع، ولا على التفريق، وإن قدَّرنا أن الطريق لا تصح فيه الصلاة فلا يضر حيلولته بينه وبين إمامه، إذا كان الموضع الذي يصلي فيه الإمام لا مانع فيه، والذي يصلي فيه المأموم كذلك)) (¬4).وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((من أهل العلم من يقول: لا يجوز الحائل ولو في المسجد، ولو سمع الصوت؛ لأنه قد ينقطع الصوت، وهناك من يقول: إذا كان في المسجد فلا بأس؛ لأنه محل التعبد؛ ولأنه قد لا ينقطع الصوت عنه، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة. ولعل الأقرب أنه لا حرج إذا كانوا في المسجد، بخلاف خارج المسجد فلابد من رؤية الإمام أو المأموم، ولو سمع الصوت، ولا بأس لو انقطعت الصفوف، لأنه يرى المأمومين)) (¬5). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى، 12/ 212. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب الأذان، باب إذا كان بين الإمام وبين المأموم حائط أو سترة، الباب رقم 80، قبل الحديث رقم 729، 2/ 213. (¬3) البخاري مع الفتح في الكتاب والباب السابقين، قبل الحديث رقم 729، 2/ 213. (¬4) المختارات الجلية للسعدي، ص62 - 63، وقرر هذا القول أيضاً في كتاب: إرشاد أولي البصائر والألباب، ص60 - 61. (¬5) سمعته أثناء تقريره على المنتقى لأبي البركات، الحديث رقم 1499،يوم الأحد 11/ 4/1411هـ.

6 - المسبوق إذا أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة

6 - المسبوق إذا أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وفيه: ((من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة)) (¬1).وعنه - رضي الله عنه - يرفعه: ((إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئاً، ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة)) (¬2).وفي لفظ لابن خزيمة والدارقطني والبيهقي: ((من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها قبل أن يقيم الإمام صلبه)) (¬3). والمسبوق يصلي ما أدرك مع الإمام، فإذا سلم إمامه صلى ما بقي من صلاته من غير زيادة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما تأخر هو والمغيرة في غزوة تبوك، صلى عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - بالناس صلاة الفجر، فأدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - والمغيرة الركعة الثانية، فلما سلم عبد الرحمن قاما فقضى كل واحد منهما ركعة (¬4). وما يدركه المأموم مع الإمام هو أول صلاته؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)) (¬5). والمأموم إذا أتى والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام، ثم يتم ما فاته من صلاته (¬6). 7 - اقتداء الصف الأول ومن بعده بالإمام، واقتداء الثاني بالأول، والصف الثالث بالثاني، ونحوه أو بمن يبلغ عن الإمام؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى في أصحابه تأخراً فقال لهم: ((تقدموا فأتموا بي وليأتمَّ بكم مَنْ بعدَكم، لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرَّهم الله)) (¬7). ولفظ أبي داود: ((لا يزال قوم يتأخّرون عن الصف ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 580،ومسلم، برقم 607، وتقدم تخريجه في صلاة الجماعة. (¬2) أبو داود، برقم 893، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 169، وتقدم تخريجه في صلاة الجماعة. (¬3) الدارقطني،1/ 346، وسنن البيهقي الكبرى، 2/ 89، وصحيح ابن خزيمة، 3/ 45، وتقدم تخريجه في صلاة الجماعة، وانظر: الإرواء، الحديث رقم 89، 2/ 260. (¬4) القصة متفق عليها: البخاري، برقم 182، ومسلم، برقم 274، وتقدم تخريجها في صلاة الجماعة. (¬5) متفق عليه: البخاري، برقم 636،ومسلم، برقم 908،وتقدم تخريجه صلاة الجماعة. (¬6) تقدم البحث عن أحكام المسبوق في صلاة الجماعة. (¬7) مسلم، برقم 438، وتقدم تخريجه في وقوف الرجال والصبيان والنساء مع الإمام.

8 - الاقتداء بمن أخطأ بترك شرط أو غير ذلك ولم يعلم المأموم

الأول حتى يؤخرَّهم الله في النار)) (¬1). قال الإمام النووي - رحمه الله -: ((معنى وليأتمّ بكم مَنْ بعدكم: أي يقتدوا بي مستدلين على أفعالي بأفعالكم، ففيه جواز اعتماد المأموم في متابعة الإمام الذي لا يراه ولا يسمعه على مُبلّغ عنه، أو صف قدامه يراه متابعاً للإمام)) (¬2). 8 - الاقتداء بمن أخطأ بترك شرط أو غير ذلك ولم يعلم المأموم؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((يصلون لكم فإن أصابوا فلكم [ولهم] وإن أخطأوا فلكم وعليهم)) (¬3)؛ ولحديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((الإمام ضامن فإن أحسن فله ولهم، وإن أساء - يعني - فعليه ولا عليهم)) (¬4)؛ ولحديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من أمَّ الناس فأصاب الوقت فله ولهم، ومن انتقص من ذلك شيئاً فعليه ولا عليهم)) (¬5). وقد ثبت عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه صلى بالناس الصبح ثم غدا إلى أرضه بالجرف (¬6) فوجد في ثوبه احتلاماً، فاغتسل وغسل الاحتلام من ثوبه، وأعاد صلاته بعد أن طلعت الشمس ولم يعد الناس (¬7). ¬

(¬1) أبو داود، برقم 479، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 220، وتقدم تخريجه في وقوف الرجال والصبيان والنساء مع الإمام. (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم،4/ 403،وانظر: سبل السلام للصنعاني،3/ 84. (¬3) البخاري، برقم 694، وأحمد، 2/ 355، وتقدم تخريجه في عظم شأن الإمامة. (¬4) ابن ماجه، برقم 981، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 292، وتقدم تخريجه في عظم شأن الإمامة. (¬5) أبو داود، برقم 580، وابن ماجه، برقم 983، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 1/ 293، وتقدم تخريجه في عظم شأن الإمامة. (¬6) الجُرف: موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام. معجم البلدان، 1/ 128. (¬7) موطأ الإمام مالك، 1/ 49، برقم 81، 82، وعبد الرزاق في المصنف، 2/ 348، برقم 3648، 3649، قال العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ في كتابه التكميل لما فات تخريجه من إرواء الغليل، ص24: ((بإسناد صحيح)) والدارقطني، 1/ 364.

وكذلك عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - (¬1)،وروي عن علي - رضي الله عنه - من قوله (¬2). وقد دلّت هذه الأحاديث والآثار على أن صلاة الإمام إذا فسدت لم تفسد صلاة المأمومين إذا لم يعلموا فساد صلاة إمامهم، وحتى لو علموا بعد انتهاء الصلاة لا يؤثر ذلك في صحة صلاتهم، ويعيد الإمام ولا يعيد المأمومون (¬3). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((والإمام إذا أخل بشيء عن اجتهاد، أو تأويل، أو عن جهل، أو نسيان، ولم يعلم به المأمومون فصلاتهم صحيحة، وعليه الإعادة هو، إذا كان ما فعله يوجب الإعادة، كمن صلى ناسياً حدثه، ولم يعلم إلا بعد الصلاة، أو علم واستحى ولم يقل لهم شيئاً (¬4) فإنه يعيد ولا يعيدون، وهكذا لو اعتقد أن ما خرج منه لا ينقض وضوءه: كالحجامة، فإن الجمهور يرون أنها لا تنقض الوضوء، فصلاة المأمومين صحيحة، وصلى عمر بالناس ثم ذكر أنه جنب فأعاد ولم يعيدوا، وهكذا فعل عثمان وعلي، فمن صلى صلاة يعتقد أنها مجزئة فصلاة المأمومين صحيحة، أو صلاها يعتقد طهارته ثم بان أنه على غير وضوء، فإنه يعيد ولا يعيدون؛ فهم معذورون؛ لأنهم ما علموا، وإذا علم أثناء الصلاة فلا يجوز له أن يمضي [في صلاته]، [ولكن] لو جهل ومضى ولم ينبههم فصلاتهم صحيحة، [حتى] لو علموا بعد الصلاة لا يعيدون، [و] ¬

(¬1) ابن المنذر في الأوسط،4/ 212،والدارقطني في سننه،1/ 364،ورواه الأثرم كما ساقه ابن عبد البر في التمهيد،1/ 182،ولفظه: ((أن عثمان بن عفان صلى بالناس صلاة الفجر فلما أصبح وارتفع النهار فإذا هو بأثر الجنابة فقال: كبرت والله، كبرت والله، فأعاد الصلاة ولم يأمرهم أن يعيدوا)). (¬2) مصنف ابن أبي شيبة،2/ 45،والأثرم في سننه كما في التمهيد لابن عبد البر،1/ 182. (¬3) انظر: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 23/ 369، وفتح الباري، لابن حجر، 2/ 187 - 188، وفتاوى الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز، 12/ 134 - 142، ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 413 - 414، وحاشية ابن قاسم على الروض المربع، 2/ 576 - 577، والشرح الممتع لابن عثيمين، 2/ 312 - 318، و4/ 337 - 342، والاختيارات الفقهية لابن تيمية، ص105، والاختيارات الجلية للسعدي، ص45، والمغني لابن قدامة، 2/ 504 - 512. (¬4) ولكن هذا حرام عليه أن يستمر في صلاته.

9 - الاقتداء بمن ذكر أنه محدث أو خرج لحدث سبقه وحكم الاستخلاف:

الواجب عليه إذا علم أنه ليس على طهارة أو سبقه الحدث (¬1) [أن] يستخلف: يقدم واحداً يكمل بهم الصلاة، كما فعل عمر لما طُعِنَ قَدّم عبد الرحمن بن عوف وصلى بالناس. وقال بعض أهل العلم: إنه إن دخل بغير وضوء ينتظرونه ويستأنف بهم الصلاة، أو يقدم واحداً يستأنف بهم الصلاة، ولكن الصواب لا يستأنف، [بل] يقدم واحداً يكمل بهم ما بقي؛ لأنهم معذورون، ما أخطأوا هم، لكن لو أعاد بهم من جديد صحت إذا كان يرى هذا المذهب وهذا الرأي فلا بأس، لكن الأفضل أن يكمل بهم)) (¬2). 9 - الاقتداء بمن ذكر أنه مُحدث أو خرج لحدث سبقه وحكم الاستخلاف: عن أبي بكرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استفتح الصلاة فكبّر ثم أومأ أن مكانكم، ثم دخل فخرج ورأسه يقطر فصلى بهم، فلما قضى صلاته قال: ((إنما أنا بشر وإني كنت جنباً)) (¬3). وفي لفظ أبي داود: ((دخل في صلاة الفجر [فكبر] فأومأ بيده أن مكانكم، ثم جاء ورأسه يقطر فصلى بهم فلما قضى الصلاة قال: ((إنما أنا بشر مثلكم، وإني كنت جنباً)) (¬4). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ((أقيمت الصلاة وعُدّلت الصفوف قياماً فخرج إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلمّا قام في مصلاه ذكر أنه جنب، فقال لنا: ((مكانكم))، ثم رجع فاغتسل ثم خرج إلينا ورأسه يقطر فكبر فصلينا ¬

(¬1) سبقه الحدث: أي غلبه فأحدث أثناء الصلاة. انظر: حاشية ابن قاسم على الروض المربع، 2/ 576، والشرح الممتع لابن عثيمين، 2/ 314. (¬2) سمعته أثناء تقريره على المنتقى من أخبار المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، الحديث رقم 1450، ورقم 1451. (¬3) أحمد في المسند، 5/ 41. (¬4) أبو داود، كتاب الطهارة، باب في الجنب يصلي بالقوم، برقم 233، ورقم 234، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 70.

معه)) (¬1). وفي رواية: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج وقد أقيمت الصلاة وعُدّلَت الصفوف حتى إذا قام في مصلاه انتظرنا أن يكبر انصرف، قال: ((على مكانكم ... )) (¬2). وفي لفظ لمسلم: ((حتى إذا قام في مصلاه قبل أن يكبر ذكر فانصرف، وقال لنا: ((مكانكم)) فلم نزل قياماً ننتظره حتى خرج إلينا وقد اغتسل ينطف رأسه ماءً فكبر فصلى بنا)). وفي لفظ: ((فأومأ إليهم بيده أن مكانكم)) (¬3). في حديث أبي بكرة دلالة على أن الإمام إذا صلى بالناس وهو جنب وهم لا يعلمون بجنابته أن صلاتهم صحيحة ولا إعادة عليهم، وعلى الإمام الإعادة، وذلك أن الظاهر أنهم قد دخلوا في الصلاة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم استوقفهم إلى أن اغتسل وجاء فأتم الصلاة بهم (¬4). وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - دلالة صريحة على أنه - صلى الله عليه وسلم - انصرف بعدما قام في مصلاه وقبل أن يكبر، وحديث أبي هريرة هذا معارض لحديث أبي بكرة (¬5)،وقد أشكل ذلك على كثير من العلماء فقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: ((ويمكن الجمع بينهما بحمل قوله ((كبّر)) على أراد أن يكبر، أو بأنهما واقعتان، أبداه عياض والقرطبي احتمالاً، وقال النووي إنه الأظهر، وجزم به ابن حبان كعادته، فإن ثبت وإلا فما في الصحيح أصح)) (¬6).وقال النووي-رحمه الله - عن حديث أبي بكرة: ((فتحمل هذه ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الغسل، باب إذا ذكر في المسجد أنه جنب يخرج كما هو برقم 275، وباب: إذا قال الإمام مكانكم حتى نرجع انتظروه، برقم 640، ومسلم، كتاب المساجد، باب متى يقوم الناس للصلاة، برقم 605. (¬2) البخاري، الطرف رقم 639. (¬3) مسلم، برقم 605 و158 - (605). (¬4) معالم السنن للخطابي المطبوع مع مختصر المنذري لسنن أبي داود، 1/ 159. (¬5) انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود، لمحمد شمس الحق العظيم آبادي، 1/ 396 - 398. (¬6) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 2/ 122.

الرواية على أن المراد بقوله: دخل في الصلاة أنه قام في مقامه للصلاة وتهيأ للإحرام بها، ويحتمل أنهما قضيتان وهو الأظهر)) (¬1). وقال القرطبي - رحمه الله -: ((وقد أشكل هذا الحديث على هذه الرواية على كثير من العلماء؛ ولذلك سلكوا فيه مسالك: فمنهم من ذهب إلى ترجيح الرواية الأولى (¬2) ورأى أنها أصح وأشهر، ولم يعرج على هذه الرواية (¬3). ومنهم من رأى أن كلتيهما صحيح، وأنه لا تعارض بينهما إذ يحتمل أنهما نازلتان في وقتين فيقتبس من كل واحدة منهما ما تضمنته من الأحكام)) (¬4). وعن عمرو بن ميمون قال: ((إني لقائم ما بيني وبين عمر - غداة أصيب - إلا عبد الله بن عباس، فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلني أو أكلني الكلب حين طعنه، وتناول عمر عبد الرحمن بن عوف فقدمه فصلى بهم صلاة خفيفة)) (¬5). وعن أبي رزين قال: ((صلى عليٌّ - رضي الله عنه - ذات يوم فرعُف، فأخذ بيد رجل فقدمه ثم انصرف)) (¬6). وقال أحمد بن حنبل - رحمه الله -: ((إن استخلف الإمام فقد استخلف عمر وعليّ، وإن صلوا وحداناً فقد طُعن معاوية وصلى الناس وحداناً من حيث طعن أتموا صلاتهم)) (¬7). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - ¬

(¬1) شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 107. (¬2) أي حديث أبي هريرة في الصحيحين. (¬3) أي حديث أبي بكرة في سنن أبي داود ومسند أحمد. (¬4) المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 2/ 229. (¬5) البخاري، رقم 3700، وتقدم تخريجه في انتقال المأموم إماماً. (¬6) ذكره أبو البركات ابن تيمية في منتقى الأخبار، برقم 1455،وعزاه إلى سعيد بن منصور في سننه. (¬7) ذكره المجد أبو البركات ابن تيمية في منتقى الأخبار، بعد الحديث رقم 1455.

يقول: ((هذه الأحاديث فيما يتعلق بصلاة الإمام وهو محدث، أو سبقه الحدث بعدما دخلها وهو على طهارة: حديث أبي بكرة وما جاء في معناه كلها تدل على أن الإمام إذا دخل وهو على غير طهارة ثم ذكر أنه على غير طهارة فإنه ينفتل ويتطهر ويأتيهم على حالهم ويكمل بهم؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مكانكم)) وبقوا صفوفاً. وقد اختلفت الروايات في هذا، ففي روايات أبي بكرة وبعض روايات أبي هريرة أنه كبَّر ودخل في الصلاة، وفي رواية في الصحيحين أنه وقف وانتظر الناس تكبيرهُ ثم قال لهم: ((مكانكم)) قبل أن يكبر وذهب واغتسل. اختلف العلماء في ذلك: هل هما قصتان أو قصة واحدة؟ فذهب قوم إلى أنهما قصة واحدة ورجحوا رواية الصحيحين وأنه لم يكبر وإنما ذكر قبل أن يكبر ثم ذهب واغتسل وجاء عليه الصلاة والسلام. وقال آخرون: كالنووي، وابن حبان، وجماعة: إنهما قصتان: قصة فيها أنه كبَّر، وقصة فيها أنه لم يكبر، وكل واحدة لها حكمها، فالتي فيها أنه كبر بنى على صلاته بالنسبة إليهم، فإنهم بقوا على حالهم، فلما جاء كبر وصلى بهم فدل ذلك على أن صلاتهم لا تبطل بسبقه الحدث، أو تَذَكَّر أنه محدث وهذا هو الصواب، فإذا صلى بهم مثلاً: ركعة أو ركعتين ثم بان له أنه ليس على طهارة فإن شاء قال: مكانكم، ثم ذهب فتطهر، ثم جاء وكمل بهم، ثم ينتظرونه حتى يكمل ما عليه. وإن شاء استخلف كما استخلف عمر لما طعن قدّم عبد الرحمن وصلى بالناس وهذا أرفق بالناس، ولا سيما إذا كان مكانه بعيداً؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مكانه قريب في المسجد؛ ولهذا ذهب بسرعة ورجع عليه الصلاة والسلام وصلى بهم. وإن صلوا وحداناً كلٌّ صلى لنفسه، وكمَّل لنفسه كما فُعِل في قصة معاوية فلا حرج، لكن الأفضل أن يفعل كما فعل عمر، وأن يقدّم من

10 - اقتداء الجالس القادر على القيام بالجالس المعذور

يصلّي بهم، فيتم ما بقي على الإمام؛ ولا ينتظرون؛ لأن الانتظار قد يكون فيه مشقة كبيرة في بعض الأحيان. أما إذا تذكر وهو واقف قبل أن يكبّر فحينئذ إن أمرهم أن ينتظروه فلا بأس، وإن أمرهم أن يصلوا حتى لا يشق عليهم فعل، والناس يحتاجون مثل هذا: منهم من يكون محله قريباً يستطيع أن يرجع عليهم بسرعة، ومنهم من يكون محله بعيداً يشق عليهم الانتظار، فالإمام ينظر ما هو الأصلح، وفعله - صلى الله عليه وسلم - يدل على أن انتظارهم هو الأولى إذا كان قريباً ولا مشقة في ذلك؛ لأنه قال: ((مكانكم)) ولم يستخلف، فيدل على أن هذا هو الأفضل إذا تيسر ولم يكن فيه مشقة، أما إذا كان هناك مشقة فالأدلة الشرعية تدل على أنه يشرع الرفق بالجماعة، وعدم المشقة، والاستخلاف يكون أصلح في هذه الحالة وأرفق بالمأمومين، كما فعل عمر - رضي الله عنه -)) (¬1)، والله أعلم (¬2). 10 - اقتداء الجالس القادر على القيام بالجالس المعذور؛ لحديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته وهو شَاكٍ فصلى جالساً وصلى وراءه قوم قياماً فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف قال: ((إنما جُعل الإمامُ ليؤتمَّ به فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً)) (¬3). وعن أنس - رضي الله عنه - قال: سقط النبي - صلى الله عليه وسلم - عن فرس فجُحِشَ شقّه الأيمن فدخلنا عليه نعوده فحضرت الصلاة فصلى بنا قاعداً فصلينا وراءه قعوداً، فلما قضى الصلاة قال: ((إنما جُعل الإمامُ ليؤتمَّ به، فإذا كبر ¬

(¬1) سمعته أثناء تقريره على المنتقى من أخبار المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، لأبي البركات ابن تيمية، الأحاديث رقم 1452 - 1455. (¬2) انظر: التمهيد لابن عبد البر،1/ 173 - 190،والمغني لابن قدامة،2/ 504 - 512، وحاشية ابن قاسم على الروض المربع، 2/ 576، والشرح الممتع لابن عثيمين، 2/ 312 - 318، و4/ 337 - 342، وفتاوى ابن باز، 12/ 132 - 142. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب: إنما جعل الإمام ليؤتم به، برقم 688، ومسلم، كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، برقم 412.

فكبروا، [فإذا صلى قائماً فصلوا قياماً] وإذا سجد فاسجدوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعون)) (¬1). وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: اشتكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يسمع الناس تكبيره، فالتفت إلينا فرآنا قياماً فأشار إلينا فقعدنا، فصلينا بصلاته قعوداً، فلما سلم قال: ((إن كدتم آنفاً لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم، إن صلى قائماً فصلوا قياماً، وإن صلى قاعداً فصلوا قعوداً)) (¬2).وفي حديث أبي هريرة: ((وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون)) (¬3). وهذه الأحاديث فيها حجة على أن الإمام إذا عجز عن القيام صلى جالساً ويصلي الناس قعوداً متابعة له، أما صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - جالساً في مرضه والناس قياماً فهذا يدل على الجواز، ولكن الأفضل إذا صلى الإمام قاعداً أن يصلي المأمومون خلفه قعوداً (¬4). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب: إنما جعل الإمام ليؤتم به، برقم 689، ومسلم، كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، برقم 411. (¬2) مسلم، كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، برقم 413. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب إقامة الصف من تمام الصلاة، برقم 722، ومسلم، كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، برقم 414. (¬4) اختلف العلماء في الجلوس خلف الإمام المعتل الذي لا يقدر على القيام. فقال قوم: يجب أن يصلي المأمومون خلفه قعوداً، وقال بعضهم: لا تصح صلاة القائم خلف القاعد لا قائماً ولا قاعداً. وقال آخرون: تصح صلاة القائم خلف القاعد، ولا يتابعه في القعود؛ لأن الصحابة - رضي الله عنهم - صلوا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته قياماً فكان ذلك ناسخاً لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقعود؛ فإن ذلك كان في صلاته حين جحش وانفكت قدمه فكان هذا آخر الأمرين، وقيل: الأمر بالجلوس للاستحباب، وقيل: إذا ابتدأ الإمام الصلاة قاعداً لمرض يرجى برؤه، فإنهم يصلون خلفه قعوداً، وإذا ابتدأ الإمام الصلاة قائماً لزم المأمومين أن يصلوا خلفه قياماً. انظر: فتح الباري لابن حجر، 2/ 175 - 176،والمغني لابن قدامة،3/ 60 - 65،وسبل السلام للصنعاني، 3/ 80 - 83، ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 408 - 411. وسمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((قوله وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً .. )) هذا فيه حجة على أن الإمام إذا اعتل فلا بأس أن يصلي قاعداً والناس قعوداً متابعة له، وصرف هذا الأمر عن الوجوب ما فعل آخر حياته - صلى الله عليه وسلم -، فقد صلى بالناس قاعداً والناس قياماً يقتدون بأبي بكر مبلغاً، وهذا يدل على جواز قيام المأمومين، فالراجح أن الصلاة مع الإمام القاعد قعوداً أفضل، وإذا صلوا خلفه قياماً جاز، وقيل: هذا ناسخ للجلوس، والصواب أنه ليس بناسخ؛ لأن القاعدة أن الجمع مقدم إذا أمكن، والجمع ممكن، وهو أن الجلوس أفضل متابعة للإمام، وإن قاموا وصلوا قياماً كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - آخر حياته فلا بأس، وقيل: إن شرع الإمام قائماً ثم اعتل أتموا قياماً، وإن شرع جالساً صلوا جلوساً)). سمعته منه - رحمه الله - أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 429.

11 - اقتداء القائم بالجالس المعذور جائز

11 - اقتداء القائم بالجالس المعذور جائز؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((مُروا أبا بكر فليصلّ بالناس))، فخرج أبو بكر يصلي فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفسه خفة فخرج يهادى (¬1) بين رجلين، فأراد أبو بكر أن يتأخر، فأومأ إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن مكانك، ثم أتيا به حتى جلس إلى جنبه عن يسار أبي بكر، وكان أبو بكر يصلي قائماً، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي قاعداً، يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،والناس بصلاة أبي بكر)).وفي لفظ للبخاري: ((فخرج يهادى بين رجلين في صلاة الظهر)).وفي لفظ لمسلم: ((وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالناس وأبو بكر يسمعهم التكبير)) (¬2).قال الإمام الشوكاني- رحمه الله -: ((وقد استدل بحديث الباب القائلون بجواز ائتمام القائم بالقاعد)) (¬3). وقرر الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: أن الروايات تضافرت عن عائشة رضي الله عنها بالجزم بما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان هو الإمام في تلك الصلاة، ثم بيّن بعد أن ذكر الخلاف أن من العلماء من سلك الترجيح فقدّم الرواية التي فيها أن أبا بكر كان مأموماً للجزم بها، ومنهم من سلك عكس ذلك ورجّح أنّ أبا بكر كان إماماً، ومنهم من سلك الجمع فحمل القصة على التعدد، وأنه - صلى الله عليه وسلم - صلى تارة إماماً وتارة مأموماً في ¬

(¬1) يهادى: أي يعتمد على رجلين متمايلاً يميناً وشمالاً في مشيته من شدة الضعف. انظر: المفهم للقرطبي، 2/ 51، ونيل الأوطار، 2/ 378. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 713، ومسلم، برقم 418، وتقدم تخريجه في انتقال الإمام مأموماً. (¬3) نيل الأوطار، 2/ 379.

12 - اقتداء الجالس المعذور بالقائم لا بأس به

مرض موته هذا (¬1). 12 - اقتداء الجالس المعذور بالقائم لا بأس به؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: ((صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه خلف أبي بكر قاعداً في ثوب متوشحاً به)) (¬2)؛ ولحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلف أبي بكر في مرضه الذي مات فيه قاعداً)) (¬3). قال الإمام الشوكاني - رحمه الله - عن هذين الحديثين: ((فيهما دليل على جواز صلاة القاعد لعذر خلف القائم، ولا أعلم فيه خلافاً)) (¬4). وقد تقدم الجمع بين الأحاديث التي تُبَيّن هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الصلاة إماماً أو مأموماً (¬5). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((لا بأس أن يصلي القاعد خلف القائم، يكون الإمام قائماً والمأموم قاعداً إذا عجز عن ذلك ولا حرج، كالعكس: كما يصلي المأموم قائماً والإمام قاعداً، لا حرج أن يكون الإمام قاعداً والمأموم قائماً كما تركهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأحيان لم يأمرهم بالجلوس، وفي بعض الأحيان أمرهم بالجلوس، فقال: ((إذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعون)) (¬6). ¬

(¬1) انظر: فتح الباري لابن حجر، 2/ 155، و176، وسبل السلام للصنعاني، 3/ 89، ونيل الأوطار، للشوكاني، 2/ 378 - 379، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 2/ 51، وتحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، 2/ 353 - 357. (¬2) الترمذي، كتاب الصلاة، باب منه، برقم 363، والنسائي، كتاب الإمامة، باب صلاة الإمام خلف رجل من رعيته، برقم 785، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 211، وفي صحيح النسائي، 1/ 260. (¬3) الترمذي، كتاب الصلاة، باب منه، برقم 362، والنسائي، كتاب الإمامة، برقم 786، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 211، وفي صحيح سنن النسائي، 1/ 260. (¬4) نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 406. (¬5) انظر: ما تقدم في الصفحات السابقة. (¬6) مسلم، برقم 413، من حديث أنس - رضي الله عنه -، وتقدم تخريجه في اقتداء الجالس القادر على القيام بالجالس المعذور.

13 - قراءة المأموم خلف الإمام واجبة على القول الصحيح في الصلاة السرية والجهرية

والمحفوظ في الصحيحين أن صلاته - صلى الله عليه وسلم - مع أبي بكر كان هو الإمام، وكان الصديق مأموماً مبلغاً عنه، أما رواية من روى أنه كان مأموماً ففيها نظر، وإنما المحفوظ أنه كان مأموماً في قصة عبد الرحمن بن عوف في تبوك، لما جاء وقد صلى بهم عبد الرحمن الركعة الأولى من صلاة الفجر، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - هو والمغيرة معهم الركعة الثانية، فلما سلم عبد الرحمن قاما فقضيا ما عليهما، ولما سلم - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أصبتم وأحسنتم)) (¬1). ويحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى خلف أبي بكر في مرض موته في بعض الأحيان، حينما كان أبو بكر إماماً للناس)) (¬2). 13 - قراءة المأموم خلف الإمام واجبة على القول الصحيح في الصلاة السرية والجهرية؛ لحديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - يرفعه، وفيه: ((لعلكم تقرؤون خلف إمامكم؟)) قلنا: نعم هذّاً يا رسول الله، قال: ((لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها)) (¬3)؛ ولحديث محمد بن أبي عائشة عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لعلكم تقرؤون والإمام يقرأ؟)) قالوا: إنا لنفعل، قال: ((لا، إلا أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب)) (¬4). وقد اختلف العلماء - رحمهم الله تعالى - في حكم قراءة الفاتحة خلف الإمام في صلاة الجماعة على أقوال ثلاثة: فقيل: القراءة خلف الإمام واجبة فيما يجهر فيه وفيما لا يجهر فيه، وقيل: لا يقرأ المأموم في الصلاة الجهرية ولا في السرية، وقيل: يقرأ المأموم فيما أسرّ به الإمام، ولا يقرأ ¬

(¬1) مسلم، برقم 374، وتقدم تخريجه في صلاة الجماعة. (¬2) سمعته أثناء تقريره على المنتقى من أحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لأبي البركات، الحديث رقم 1441 و1442. (¬3) أبو داود، برقم 823، والترمذي، برقم 311، وتقدم تخريجه في صفة الصلاة. (¬4) أحمد في المسند، 5/ 410، وحسن إسناده ابن حجر في التلخيص الحبير، 1/ 231.

عاشرا: آداب الإمام في الصلاة على النحو الآتي:

فيما جهر به (¬1). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((هذه الروايات تدل على أن قراءة الفاتحة فرض، واختلف في قراءتها للمأموم: فقيل: فرض مطلقاً، وهذا أرجح الأقوال وأظهرها في الدليل، وقيل لا تجب مطلقاً، وقيل: إنها فرض في السرية لا في الجهرية، والراجح القول الأول، لكن إن تركها المأموم جهلاً، أو نسياناً، أو تقليداً صحت صلاته، أما إذا تركها عمداً مع علمه بالأدلة فهذا محل الخطر)) (¬2). عاشراً: آداب الإمام في الصلاة على النحو الآتي: 1 - تخفيف الصلاة مع الكمال والتمام؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا أمَّ أحدكم الناس فليخفف؛ فإن فيهم الصغير، والكبير، والضعيف، والمريض [وذا الحاجة] فإذا صلى وحده فليصلّ كيف شاء)) (¬3)؛ولحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة العشاء ثم يرجع فيؤمُّ قومه، فصلى العشاء فقرأ بالبقرة، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((يا معاذ أفتانٌ أنت؟ أو فاتنٌ أنت؟)) ثلاث مرات. ((فلولا صليت بـ {سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الأعلى}، و {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}؛فإنه يصلي وراءك: الكبير، والضعيف، وذو الحاجة)) (¬4)؛ ولحديث أبي مسعود - رضي الله عنه - قال: جاء رجل ¬

(¬1) انظر: فتح البر في الترتيب الفقهي لتمهيد ابن عبد البر، 5/ 108، وصلاة الجماعة للسدلان، ص165، وفتاوى ابن تيمية، 23/ 265 - 330، والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 245 - 255، وحاشية ابن قاسم على الروض، 2/ 278، والمغني لابن قدامة، 2/ 259 - 268. (¬2) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام لابن حجر، الأحاديث رقم: 294 - 296، وانظر مجموع فتاوى ابن باز للطيار، 4/ 382. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب باب إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء، برقم 703، ومسلم، كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام، برقم 467، واللفظ لمسلم. (¬4) متفق عليه: البخاري واللفظ له، كتاب الأذان، باب من شكا إمامه إذا طول، برقم 705، ومسلم، كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء برقم 465.

إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: والله يا رسول الله إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان، مما يطيل بنا، فما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - غضب في موعظة قطّ أشدَّ مما غضب يومئذٍ، ثم قال: ((أيها الناس، إن منكم منفّرين (¬1)، فأيكم أمَّ الناس فليخفف؛ فإن فيهم [المريض]، والضعيف، والكبير، وذا الحاجة)) (¬2)؛ ولحديث أبي قتادة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطوّل فيها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوَّز (¬3) في صلاتي كراهية أن أشق على أمّه)) (¬4)؛ ولحديث عثمان بن أبي العاص، وفيه: ((أمَّ قومك، فمن أمَّ قوماً فليخفف؛ فإن فيهم الكبير، وإن فيهم المريض، وإن فيهم الضعيف، وإن فيهم ذا الحاجة، وإذا صلى أحدكم وحده فليصل كيف شاء)) (¬5)؛ ولحديث أنس - رضي الله عنه - قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوجز في الصلاة ويكمّلُها)) (¬6). والتخفيف أمر نسبي يُرجع فيه إلى ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم -، وواظب عليه، وهديه الذي واظب عليه هو الحاكم على كل ما تنازع فيه الناس، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة تبيّن قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلوات الخمس، وسبق بيان ذلك في صفة الصلاة، فَفِعل النبي - صلى الله عليه وسلم - هو التخفيف الذي أمر به؛ ولهذا قال ابن عمر رضي الله عنهما: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالتخفيف ¬

(¬1) منفرين: المنفر الذي يذكر للإنسان شيئاً يخافه ويكرهه فينفر منه. جامع الأصول لابن الأثير،5/ 591. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب تخفيف الإمام في القيام، وإتمام الركوع والسجود، برقم 702، ومسلم، كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام، برقم 466، وما بين المعقوفين من رواية للبخاري، برقم 90. (¬3) فأتجوز: التجوز في الأمر: التخفيف والتسهيل. جامع الأصول لابن الأثير،5/ 591. (¬4) البخاري، كتاب الأذان، باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي، برقم 707، وثبت أيضاً من حديث أنس عند البخاري، برقم 709، ومسلم، برقم 473. (¬5) مسلم، كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام، برقم 468. (¬6) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب الإيجاز في الصلاة وإكمالها، برقم 706، ومسلم، كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام، برقم 469.

القسم الأول: تخفيف لازم

ويؤمُّنا بالصافات)) (¬1)، قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: ((فالقراءة بالصافات من التخفيف الذي أُمِرَ به والله أعلم)) (¬2). والتخفيف المطلوب من الإمام ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: تخفيف لازم، وهو ألا يتجاوز ما جاءت به السنة؛ فإن تجاوز ما جاءت به السنة فهو مطول، والدليل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أمَّ أحدكم الناس فليخفف)) (¬3). القسم الثاني: تخفيف عارض، وهو أن يكون هناك سبب يقتضي الإيجاز عما جاءت به السنة فيخفف أكثر مما جاءت به السنة، والدليل على ذلك تخفيف النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة عند سماعه بكاء الصبي مخافة أن يشقَّ على أمه (¬4)، وهذان النوعان كلاهما من السنة (¬5). 2 - تطويل الركعة الأولى أكثر من الثانية؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: ((لقد كانت صلاة الظهر تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته، ثم يأتي أهله فيتوضأ، ثم يرجع إلى المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الركعة الأولى مما يطيلها)) (¬6). واستثنى العلماء مسألتين: المسألة الأولى: إذا كان الفرق يسيراً فلا حرج، مثل: سبح والغاشية في يوم الجمعة وفي يوم العيد؛ فإن الغاشية أطول، ولكن الطول يسيراً. المسألة الثانية: الوجه الثاني في صلاة الخوف؛ فإن من الأوجه أو ¬

(¬1) النسائي، كتاب الإمامة، باب الرخصة للإمام في التطويل، برقم 826، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 1/ 272. (¬2) زاد المعاد، 1/ 214. (¬3) البخاري، برقم 703، ومسلم، برقم 467، وتقدم تخريجه في أول آداب الإمام. (¬4) البخاري، رقم 707، وتقدم تخريجه في أول آداب الإمام. (¬5) الشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 271. (¬6) مسلم، كتاب الصلاة، باب القراءة في الظهر والعصر، برقم 454.

3 - تطويل الركعتين الأوليين وتقصير الأخريين من كل صلاة

الأنواع التي وردت أن الإمام يقسم الجيش إلى قسمين، قسم يبقون أمام العدو، وقسم يدخل مع الإمام يصلي، فإذا قام إلى الركعة الثانية انفرد الذين يصلون معه وأتموا صلاتهم، والإمام واقف، ثم انصرفوا إلى مكان الطائفة الثانية، وجاءت الطائفة الثانية ودخلوا مع الإمام وصلوا معه الركعة التي بقيت، فإذا جلس للتشهد قاموا وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم. فهذا جاءت به السنة مراعاة للطائفة الثانية (¬1). 3 - تطويل الركعتين الأوليين وتقصير الأخريين من كل صلاة؛ لحديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه - وفيه أن سعداً - رضي الله عنه - قال لعمر بن الخطاب: ((إني لأصلي بهم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمدُّ في الأوليين وأحذف في الأخريين، ولا آلو ما اقتديت به من صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (¬2). 4 - مراعاة مصلحة المأمومين بشرط ألا يخالف السنة؛ لحديث جابر - رضي الله عنه - فقد راعى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - مصلحة الناس فيؤخر العشاء إذا لم يجتمع أصحابه، قال جابر: ((والعشاء أحياناً وأحياناً: إذا رآهم اجتمعوا عجَّل، وإذا رأهم أبطؤوا أخَّر)) (¬3).فالصلاة هنا يسن تأخيرها، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يراعي أحوالهم ولا يشق عليهم فيقدمها إذا اجتمعوا، أما غير العشاء من الصلوات الأخرى فكان يصليها في أول وقتها ما عدا الظهر في شدة الحر (¬4). فظهر أن أحوال المأمومين يراعيها الإمام إذا لم يخالف بمراعاته السنة، ومما يدل على هذه المراعاة: إيجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة عند سماعه بكاء الصبي مخافة أن يشقَّ على أمه، وتطويله الركعة الأولى في الصلاة؛ ليدرك الناس الركعة الأولى، وانتظاره الطائفة الثانية في صلاة ¬

(¬1) انظر: الشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 275 - 276. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب يطوّل في الأوليين ويحذف في الأخريين، برقم 770، ومسلم، كتاب الصلاة، باب القراءة في الظهر والعصر، برقم 453. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم 560،ومسلم، برقم 646،وتقدم تخريجه في شروط الصلاة. (¬4) انظر: الشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 276 - 277.

5 - لا يصلي في موضعه الذي صلى فيه المكتوبة

الخوف، ويؤخذ من هذا استحباب انتظار الداخل أثناء الركوع حتى يدرك الركوع ما لم يشق على المأمومين، والله أعلم (¬1). 5 - لا يصلي في موضعه الذي صلى فيه المكتوبة؛ لما روي عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - يرفعه: ((لا يصلي الإمام في الموضع الذي صلى فيه، حتى يتحوّل)) (¬2). وقد جاءت آثار في كراهة تطوع الإمام في مكانه الذي أمَّ فيه الناس حتى يتحوّل من مكانه، فعن علي - رضي الله عنه - قال: ((إذا سلم الإمام لم يتطوع حتى يتحول من مكانه أو يفصل بينهما بكلام)) (¬3). وعن ابن عمر: ((أنه كره إذا صلى الإمام أن يتطوع في مكانه ولم ير به لغير الإمام بأساً)) (¬4). وعن عبد الله بن عمرو: ((أنه كره للإمام أن يصلي في مكانه الذي صلى فيه الفريضة)) (¬5). وعن سعيد بن المسيب والحسن أنهما كانا يعجبهما إذا سلم الإمام أن يتقدم)) (¬6). وعن علي - رضي الله عنه - قال: ((لا يتطوع الإمام في المكان الذي أمَّ فيه القوم حتى يتحوّل أو يفصل بكلام)) (¬7). قال الإمام البخاري - رحمه الله تعالى -: ((قال لنا آدم، ¬

(¬1) انظر: الروض المربع مع حاشية ابن قاسم، 2/ 291 - 292، والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 276 - 283. (¬2) أبو داود، في كتاب الصلاة، باب الإمام يتطوع في مكانه، برقم 616، وابن ماجه في كتاب الصلاة، باب ما جاء في الصلاة النافلة حيث تصلى المكتوبة، برقم 1428، وصححه الألباني فقال في مشكاة المصابيح، 1/ 300، بعد أن ذكر انقطاعه وعلته: ((لكن الحديث صحيح، فإن له شاهدين ذكرتهما في صحيح أبي داود، 629)). وصححه الألباني أيضاً لهذين الشاهدين في صحيح سنن أبي داود، 1/ 184، وفي صحيح سنن ابن ماجه، 1/ 429. وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز أثناء تقريره على المنتقى للمجد ابن تيمية، الحديث رقم 1503 يقول: ((حديث ضعيف، لكن المعنى صحيح؛ لهذا ثبت عن علي - رضي الله عنه - قال: ((من السنة أن لا يصلي الإمام في مكانه)) بل يقوم من مكانه، حتى لا يظن أنه في الفريضة، وهذا أولى [و] من السنة)). (¬3) المصنف لابن أبي شيبة، كتاب الصلوات، باب من كره للإمام أن يتطوع في مكانه،2/ 209. (¬4) المصنف لابن أبي شيبة، كتاب الصلوات، باب من كره للإمام أن يتطوع في مكانه 2/ 209. (¬5) المرجع السابق، 2/ 209. (¬6) المرجع السابق، 2/ 209. (¬7) المرجع السابق، 2/ 210.

حدثنا شعبة عن أيوب عن نافع قال: كان ابن عمر يصلي في مكانه الذي صلى فيه الفريضة، وفعله القاسم (¬1)، ويذكر عن أبي هريرة رفعه: ((لا يتطوع الإمام في مكانه، ولم يصح)) (¬2). قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: ((وروى ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن علي قال: ((من السنة أن لا يتطوع الإمام حتى يتحول من مكانه)) (¬3). وحكى الإمام ابن قدامة في المغني عن الإمام أحمد أنه كره ذلك (¬4). قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: ((وكأن المعنى في كراهة ذلك: خشية التباس النافلة بالفريضة)) (¬5). وعن السائب بن يزيد أن معاوية - رضي الله عنه - قال له: ((إذا صليت الجمعة فلا تَصِلْها بصلاة حتى تتكلم أو تخرج؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بذلك: أن لا توصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج)) (¬6).قال الإمام النووي-رحمه الله-: ((هذا فيه دليل لما قاله أصحابنا أن النافلة الراتبة وغيرها يستحب أن يتحوّل لها عن موضع الفريضة إلى موضع آخر، وأفضله التحوّل إلى بيته، وإلا فموضع آخر من المسجد، أو غيره؛ ليكثر مواضع سجوده؛ ولتنفصل صورة النافلة عن صورة الفريضة، وقوله: ((حتى يتكلم)) دليل إلى أن الفصل بينهما يحصل بالكلام أيضاً، ولكن بالانتقال أفضل، لما ذكرناه والله أعلم)) (¬7). وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: ((ففي هذا إرشاد إلى طريق ¬

(¬1) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق. فتح الباري لابن حجر، 2/ 335. (¬2) البخاري، كتاب الأذان، باب مكث الإمام في مصلاه بعد السلام، قبل الحديث رقم 848، ورقم الباب 157. (¬3) فتح الباري،2/ 335، وانظر: مصنف ابن أبي شيبة، 2/ 209 - 210. (¬4) المغني لابن قدامة، 2/ 257 - 258. (¬5) فتح الباري، 2/ 335. (¬6) مسلم، برقم 883،وتقدم تخريجه في صلاة التطوع: الفصل بين النوافل والفرائض بخروج أو كلام. (¬7) شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 420.

الأمن من الالتباس، وعليه تحمل الأحاديث المذكورة ويؤخذ من مجموع الأدلة: أن للإمام أحوالاً؛ لأن الصلاة: إما أن تكون مما يتطوع بعدها أو لا يتطوع، الأول: اختلف فيه هل يتشاغل قبل التطوع بالذكر المأثور ثم يتطوع؟ وهذا الذي عليه عمل الأكثر. وعند الحنفية يبدأ بالتطوع. وحجة الجمهور حديث معاوية، ويمكن أن يقال: لا يتعين الفصل بين الفريضة والنافلة بالذكر؛ بل إذا تنحَّى من مكانه كفى، فإن قيل لم يثبت الحديث في التنحي؟ قلنا: قد ثبت في حديث معاوية: ((أو تخرج)) (¬1)، ويترجح تقديم الذكر المأثور بتقييده في الأخبار الصحيحة بدبر الصلاة))، ثم قال - رحمه الله -: ((وأما الصلاة التي لا يُتطوع بعدها فيتشاغل الإمام ومن معه بالذكر المأثور، ولا يتعين له مكان، بل إن شاؤوا انصرفوا وذكروا، وإن شاؤوا مكثوا وذكروا .. )) (¬2). وعن أبي هريرة مرفوعاً: ((أيعجز أحدكم أن يتقدم أو يتأخر، أو عن يمينه أو عن شماله في الصلاة)) يعني في السبحة (¬3). وقال الإمام الشوكاني - رحمه الله - بعد الكلام على حديث المغيرة، وحديث أبي هريرة هذا: ((والحديثان يدلان على مشروعية انتقال المصلي عن مصلاه الذي صلى فيه لكل صلاة يفتتحها من أفراد النوافل، أما الإمام بنص الحديث الأول، وبعموم الثاني، وأما المؤتم والمنفرد فبعموم الحديث الثاني، وبالقياس على الإمام، والعلة في ذلك تكثير مواضع ¬

(¬1) فتح الباري، 2/ 335. (¬2) فتح الباري، 2/ 335. (¬3) أبو داود، برقم 1006، وابن ماجه، برقم 1427، وأحمد، 2/ 425، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 279، الطبعة الجديدة والطبعة القديمة، 1/ 188. وسمعت العلامة ابن باز يقول أثناء تقريره على المنتقى لأبي البركات، الحديث رقم 1504: ((حديث ضعيف، لكن بعض السلف كان يتحول من مكانه، من باب الحرص على تعدد البقاع، وكان ابن عمر يصلي في مكانه، وجاء في أبي داود أنه كان يتحول يوم الجمعة، فمن تحول فلا بأس، ومن بقي مكانه فلا بأس، والأمر في هذا واسع بعد الفريضة أو النافلة)).

6 - يمكث في مكانه بعد السلام يسيرا

العبادة، كما قال البخاري والبغوي؛ لأن مواضع السجود تشهد له ... وهذه العلة تقتضي أن ينتقل إلى الفرض من موضع نفله، وأن ينتقل لكل صلاة يفتتحها من أفراد النوافل، فإن لم ينتقل فينبغي أن يفصل بالكلام؛ لحديث النهي عن أن توصل صلاة بصلاة حتى يتكلم المصلي أو يخرج. أخرجه مسلم وأبو داود)) (¬1)، والله تعالى أعلم)) (¬2) وأحكم (¬3). 6 - يمكث في مكانه بعد السلام يسيراً؛ لحديث أمّ سلمة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه، ومكث يسيراً قبل أن يقوم)).وفي لفظ: ((كان يسلم فينصرف النساء فيدخلن بيوتهن من قبل أن ينصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)).قال ابن شهاب: فأرى والله أعلم أن مكثه لكي ينفذ النساء قبل أن يدركهن من انصرف من القوم (¬4). قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: ((وفي الحديث مراعاة الإمام أحوال المأمومين، والاحتياط في اجتناب ما قد يفضي إلى المحذور، وفيه اجتناب مواضع التهم، وكراهة مخالطة الرجال للنساء في الطرقات فضلاً عن البيوت)) (¬5). ولفظ النسائي: ((أن النساء في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنَّ إذا سلّمْنَ من الصلاة قمْنَ وثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن صلى من الرجال ما شاء الله، فإذا ¬

(¬1) مسلم، برقم 883، وتقدم تخريجه في صلاة التطوع. (¬2) نيل الأوطار، 2/ 446. (¬3) سبق الكلام مع الأدلة في الفصل بين الرواتب والفرائض بخروج أو كلام، في صلاة التطوع، وانظر للفائدة: فتح الباري لابن حجر، 2/ 335، والمصنف لابن أبي شيبة، 2/ 208 - 210، ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 445 - 446، وسبل السلام للصنعاني، 3/ 182 - 183، والمغني لابن قدامة، 2/ 257 - 258، والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 429 - 430،وحاشية الروض المربع لابن قاسم،2/ 352. (¬4) البخاري، كتاب الأذان، باب التسليم، برقم 837، وباب مكث الإمام في مصلاه بعد السلام، برقم 849، 850. (¬5) فتح الباري، لابن حجر، 2/ 336.

7 - يستقبل المأمومين بوجهه إذا سلم

قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام الرجال)) (¬1). 7 - يستقبل المأمومين بوجهه إذا سلم؛ لحديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه)) (¬2)،والمعنى: إذا صلى صلاة ففرغ منها وسلم استقبل المأمومين بوجهه؛ لأن استدبار الإمام المأمومين إنما هو لحقّ الإمامة، فإذا انقضت الصلاة زال السبب، فاستقبالهم حينئذ يرفع الخيلاء والترفع على المأمومين. والله أعلم (¬3). 8 - لا يخصّ نفسه بالدعاء الذي يؤمن عليه المأمومون دونهم؛ لِمَا روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه، وفيه: ((لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يؤمَّ قوماً إلا بإذنهم، ولا يختصَّ نفسه بدعوة دونهم (¬4)؛فإن فعل فقد خانهم)) (¬5). 9 - لا يصلي في مكان مرتفع جدّاً عن المأمومين إلا أن يكون معه بعض الصفوف فلا حرج، أما المأموم فلا يكره إذا كان الإمام هو الذي في الأسفل (¬6). 10 - لا يصلي في مكان يستتر فيه عن جميع المأمومين (¬7). 11 - لا يطيل القعود بعد السلام مستقبل القبلة؛ لحديث عائشة ¬

(¬1) النسائي، كتاب السهو، باب جلسة الإمام بين التسليم والانصراف، برقم 1333، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 428. (¬2) البخاري، كتاب الأذان، باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم، برقم 845. (¬3) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 2/ 334. (¬4) ولا يختص نفسه بدعوة دونهم: أي الذي يؤمنون عليه: كالدعاء في القنوت وغيره، والله أعلم، هكذا سمعته من شيخنا ابن باز - رحمه الله -. (¬5) أبو داود، برقم 91، وله شاهد عند الترمذي، برقم 357، وأحمد، 2/ 250، من حديث ثوبان، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 35: ((صحيح إلا جملة الدعوة)) وتقدم تخريجه في إمامة الزائر. (¬6) تقدم الدليل على كراهة ارتفاع الإمام على المأموم في ارتفاع مكان الإمام اليسير على المأمومين. وانظر: المغني لابن قدامة، 3/ 48، والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 423 - 426. (¬7) انظر: مصنف ابن أبي شيبة، 2/ 59 - 60، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي، المطبوع مع الشرح الكبير، 4/ 457 - 458، والشرح الممتع، 4/ 427 - 428، وحاشية الروض المربع لابن قاسم، 2/ 351.

12 - ينصرف إلى الناس بعد السلام تارة عن يمينه وتارة عن شماله، لا حرج في شيء من ذلك

رضي الله عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقعد إلا مقدار ما يقول: ((اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام)) (¬1) ثم يستقبل الناس بوجهه كما تقدم في حديث سمرة - رضي الله عنه - (¬2). 12 - ينصرف إلى الناس بعد السلام تارة عن يمينه وتارة عن شماله، لا حرج في شيء من ذلك؛ لحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: ((لا يجعل أحدكم للشيطان شيئاً من صلاته يرى أن حقّاً عليه أن لا ينصرف إلا عن يمينه، لقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ينصرف عن يساره)). ولفظ مسلم: ((أكثر ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينصرف عن شماله)) (¬3). وعن أنس - رضي الله عنه - قال: ((أما أنا فأكثر ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينصرف عن يمينه)). وفي رواية لمسلم: ((كان ينصرف عن يمينه)) (¬4). قال الإمام النووي - رحمه الله -: ((وجه الجمع بينهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل تارة هذا، وتارة هذا، فأخبر كل واحد بما اعتقد أنه الأكثر فيما يعلمه، فدلّ على جوازهما، ولا كراهة في واحد منهما، وأما الكراهة التي اقتضاها كلام ابن مسعود فليست بسبب أصل الانحراف عن اليمين أو الشمال، وإنما هي في حق من يرى أن ذلك لابد منه؛ فإن من اعتقد وجوب واحد من الأمرين مخطئ؛ ولهذا قال: يرى أن حقّاً عليه؛ فإنما ذم من رآه حقّاً عليه، ومذهبنا أنه لا كراهة في واحد من الأمرين، لكن يستحب أن ينصرف في جهة حاجته، سواء كانت عن يمينه أو شماله، فإن استوت الجهتان في الحاجة وعدمها فاليمين أفضل لعموم الأحاديث المصرحة بفضل اليمين في باب المكارم ونحوها. هذا ¬

(¬1) مسلم، برقم 591، وتقدم تخريجه في صفة الصلاة. (¬2) البخاري، برقم 845، وتقدم تخريجه في البند السابع. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب الانفتال والانصراف عن اليمين وعن الشمال، برقم 852، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب جواز الانصراف من الصلاة عن اليمين والشمال، برقم 707. (¬4) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب جواز الانصراف من الصلاة عن اليمين والشمال، برقم 708.

13 - يتخذ سترة؛ لأنها سترة له ولمن خلفه

صواب الكلام في هذين الحديثين، وقد يقال فيهما خلاف الصواب، والله أعلم)) (¬1). 13 - يتخذ سترة؛ لأنها سترة له ولمن خلفه؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - يرفعه: ((إذا صلى أحدكم فليصلّ إلى سترة وليدنُ منها)) (¬2)؛ ولأن ابن عباس رضي الله عنهما سار بحماره بين يدي بعض الصف الأول ثم نزل عنه ولم ينكر ذلك أحد (¬3)، فدل ذلك على أن سترة الإمام سترة لمن خلفه (¬4). الحادي عشر: آداب المأموم في الصلاة على النحو الآتي: 1 - إذا سمع الإقامة فلا يسرع وعليه السكينة والوقار؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)). وفي لفظ: ((إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون، وأتوها تمشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)) (¬5). 2 - لا يركع قبل الدخول في الصف؛ لحديث أبي بكرة - رضي الله عنه - أنه انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((زادك الله حرصاً ولا تعد)) (¬6). 3 - لا يقوم المأموم إذا أقيمت الصلاة حتى يخرج الإمام؛ لحديث ¬

(¬1) شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 227 - 228، وانظر: فتح الباري، لابن حجر، 2/ 338. (¬2) أبو داود، برقم 698، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 135: ((حسن صحيح)) وتقدم تخريجه في صفة الصلاة في سترة المصلي. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم 493،ومسلم، برقم 504،وتقدم تخريجه في صفة الصلاة. (¬4) وانظر: الأحاديث في سترة المصلي: صفة الصلاة فقد ذكرت هناك جملة منها. (¬5) متفق عليه: البخاري، برقم 636، ورقم 908، ومسلم، برقم 602، وتقدم تخريجه في آداب المشي إلى صلاة الجماعة. (¬6) البخاري، برقم 783،وتقدم تخريجه في صلاة الجماعة، في إدراك الجماعة بإدراك ركعة.

4 - يبلغ صوت الإمام عند الحاجة

أبي قتادة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني [قد خرجت])). وفي لفظ للبخاري: ((وعليكم السكينة)) (¬1). 4 - يُبَلّغ صوتَ الإمام عند الحاجة؛ لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ((صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر وأبو بكر خلفه، فإذا كبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبَّر أبو بكر يُسمعنا)) (¬2). وأصله في البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها وفيه: ((وكان أبو بكر يصلي قائماً وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي قاعداً يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والناس بصلاة أبي بكر)). وفي لفظ لمسلم: ((وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالناس وأبو بكر يسمعهم التكبير)) (¬3). 5 - يقول خلف الإمام ((ربنا لك الحمد)) بعد قول الإمام ((سمع الله لمن حمده))؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه وفيه: ((وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا لك الحمد .. )) (¬4)؛ ولقول عامر الشعبي: ((لا يقول القوم خلف الإمام: سمع الله لمن حمده، ولكن يقولون: ربنا لك الحمد)) (¬5). 6 - إذا تأخر الإمام تأخراً ظاهراً قدَّم المأمومون أفضلهم؛ لحديث سهل بن سعد في تقديم الصحابة - رضي الله عنهم - لأبي بكر حينما ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلح بين بني عمرو بن عوف فتأخر (¬6)؛ ولحديث المغيرة بن شعبة في تقديم الصحابة لعبد الرحمن بن عوف في غزوة تبوك، فصلى بهم صلاة ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 637،ومسلم برقم 604،وتقدم تخريجه في وقت قيام المأمومين للصلاة. (¬2) النسائي، كتاب الإمامة، باب الائتمام بمن يأتم بالإمام، برقم 798، ورقم 1199، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 264. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم 713، ومسلم، برقم 418، وتقدم تخريجه في انتقال الإمام مأموماً. (¬4) متفق عليه: البخاري، برقم 722،ومسلم، برقم 414،وتقدم تخريجه في الاقتداء وشروطه. (¬5) أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع، برقم 849، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 239: ((حسن مقطوع)). (¬6) متفق عليه: البخاري، برقم 684،ومسلم، برقم 421،وتقدم تخريجه في انتقال المأموم إماماً.

7 - إذا أقيمت الصلاة فلا يصلي إلا المكتوبة

الفجر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أحسنتم أو قد أصبتم)) (¬1). 7 - إذا أقيمت الصلاة فلا يصلي إلا المكتوبة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)) (¬2). 8 - لا يتطوع مكان المكتوبة حتى يفصل بينهما بكلام أو يخرج؛ لحديث السائب بن يزيد عن معاوية أنه قال له: إذا صليت الجمعة فلا تَصِلْها بصلاة حتى تتكلم أو تخرج؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بذلك: ((أن لا نصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج)) (¬3). 9 - لا ينصرف قبل الإمام، بل ينتظر حتى يستقبل الإمام الناس؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم يوماً فلما قضى الصلاة أقبل عليهم بوجهه فقال: ((أيها الناس إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع، ولا بالسجود، ولا بالقيام، ولا بالانصراف (¬4))) (¬5). فيستحب أن لا ينصرف المأموم قبل انصراف إمامه عن القبلة؛ لئلا يذكر سهواً فيسجد، إلا أن يخالف إمامه السنة في إطالة الجلوس مستقبل القبلة، فلا بأس بانصراف المأموم حينئذٍ (¬6). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 182، ومسلم، برقم 284، وتقدم تخريجه في مسألة المسبوق يصلي ما بقي من صلاته. (¬2) مسلم، برقم 710،وتقدم تخريجه في صلاة التطوع في ترك الرواتب وغيرها إذا أقيمت الصلاة. (¬3) مسلم، برقم 883،وتقدم تخريجه في صلاة التطوع في الفصل بين الرواتب والفرائض بخروج أو كلام. (¬4) ولا بالانصراف: قال النووي: المراد بالانصراف السلام، شرح النووي،4/ 394، وقال القرطبي في المفهم: ((وذهب الحسن والزهري إلى أن حق المأموم ألا ينصرف حتى ينصرف الإمام أخذاً بظاهر هذا الحديث، والجمهور على خلافهما؛ لأن الاقتداء بالإمام قد تم بالسلام من الصلاة، ورأوا أن ذلك خاصّاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ويحتمل أن يريد بالانصراف المذكور: التسليم؛ فإنه يقال: انصرف من الصلاة: أي سلم منها))، المفهم، 2/ 2159. (¬5) مسلم، كتاب الصلاة، باب تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود ونحوهما، برقم 426. (¬6) انظر: المغني، لابن قدامة، وفتاوى ابن تيمية،22/ 505،2/ 257،والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، 4/ 461،وحاشية ابن قاسم على الروض المربع،2/ 354 - 355،والكافي لابن قدامة، 1/ 325.

10 - لا يصف في صف بين السواري إلا لحاجة

10 - لا يصفّ في صفٍّ بين السواري إلا لحاجة؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: ((قد كنا نتقي هذا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (¬1)؛ ولحديث قرة - رضي الله عنه -: ((كُنّا نُنهى أن نصفَّ بين السواري على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونُطرد عنها طرداً)) (¬2). 11 - يدخل مع الإمام إذا سبقه على أي حال يدركه؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه وفيه: ((فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)) (¬3). 12 - لا يلازم بقعة بعينها في المسجد لا يصلي إلا فيها؛ لحديث عبد الرحمن بن شبل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثلاث: ((عن نقرة الغراب، وافتراش السبع، وأن يوطن الرجل المقام للصلاة كما يوطن البعير)) (¬4). 13 - الفتح على الإمام إذا لُبّس عليه في القراءة؛ لحديث المسور بن يزيد المالكي - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي لفظ: شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الصلاة، فترك شيئاً لم يقرأه، فقال له رجل: يا رسول الله، تركت آية كذا وكذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هلا أذْكَرْتَنِيها))؟ [قال: كنت أُرَاها نسخت])) (¬5). عن عبد الله بن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة فقرأ فيها فَلُبِسَ عليه، فلما انصرف قال: لأبيٍّ: ((أصليت معنا))؟ قال: نعم، قال: ((فما منعك))؟ (¬6). ¬

(¬1) النسائي، برقم 820، وأبو داود، برقم 229، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 177، وتقدم تخريجه في الصلاة بين السواري. (¬2) ابن ماجه، برقم 1002، وقال الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 298: ((حسن صحيح))، وتقدم تخريجه في الصلاة بين السواري. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم 636، ومسلم، برقم 908، وتقدم في صلاة الجماعة. (¬4) النسائي، كتاب التطبيق، باب النهي عن نقرة الغراب، برقم 1111، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في توطين المكان في المسجد يصلي فيه، برقم 1429،وأبو داود، كتاب الصلاة، باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، برقم 862،وأحمد في المسند، 5/ 446 - 447، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي،1/ 229،وحسنه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 360. (¬5) سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب الفتح على الإمام في الصلاة، برقم 907 ((أ))، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 254. (¬6) سنن أبي داود، الكتاب والباب المشار إليهما آنفاً برقم 907 ((ب))، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 254.

14 - لا يصلي قدام الإمام

14 - لا يصلي قدَّام الإمام (¬1)؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه، وفيه: ((إنما جُعل الإمام ليؤتمَّ به)) (¬2). وذكر المرداوي رحمه الله: أن ذلك في غير الكعبة؛ فإن المأمومين إذا استداروا حول الكعبة والإمام منها على ذراعين والمقابلون له على ذراع صحَّت صلاتهم، وذكر أن المجد قال في شرحه: لا أعلم فيه خلافاً. وقال أبو المعالي: صحت إجماعاً. هذا إذا كانوا في جهات، أما إذا كانوا في جهة فلا يجوز تقدم المأمومين عليه (¬3). والله - عز وجل - أعلم وأحكم. ¬

(¬1) وهو مذهب الحنابلة، والشافعية والحنفية: أن من صلى قدَّام الإمام فصلاته باطلة؛ لحديث أبي هريرة: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به))؛ ولأنه يحتاج إلى الالتفات إلى ورائه. أما مالك وإسحاق فقالا: تصح لأن ذلك لا يمنع الاقتداء. واختار ابن تيمية قولاً ثالثاً وقال: إنه رواية عن أحمد أنها تصح صلاة المأموم قدام الإمام مع العذر. انظر: فتاوى ابن تيمية، 23/ 404 - 406، والاختيارات الفقهية له، ص108، ورجحه ابن عثيمين في الشرح الممتع، 4/ 372، ورجحه ابن القيم في إعلام الموقعين، 2/ 22، أما صاحب المغني، 3/ 52، والشرح الكبير، 4/ 418، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، 4/ 418 فكلهم قال ببطلان صلاة من صلى قدَّام الإمام مطلقاً، وقال الإمام ابن باز: ((ليس لأحد أن يصلي أمام الإمام؛ لأن ذلك ليس موقفاً للمأموم، والله ولي التوفيق)) الفتاوى له، 12/ 212. (¬2) البخاري، برقم 722، ومسلم، برقم 414، وتقدم تخريجه في الاقتداء وشروطه. (¬3) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي، 4/ 419،المطبوع مع المقنع والشرح الكبير، 4/ 419.

المبحث السابع والعشرون: صلاة المريض

المبحث السابع والعشرون: صلاة المريض أولاً: مفهوم المرض: المرض: السُّقم، نقيض الصحة، ويقال: المرض والسُّقم في البدن والدين جميعًا، كما يقال الصحة في البدن والدين جميعًا، والمرض في القلب يطلق على كل ما خرج به الإنسان عن الصحة في الدين، وأصل المرض: النقصان، يقال: بدن مريض: ناقص القوة، ويقال: قلب مريض: ناقص الدين، والمرض في القلب: فتورٌ عن الحق، وفي الأبدان، فتورُ الأعضاء (¬1)، والمرض: جمع أمراض؛ فساد المزاج وسوء الصحة بعد اعتدالها، ومرض الموت: العلة التي يقرر الأطباء أنها علة مميتة (¬2). وعلى هذا فالمريض: هو الذي اعتلت صحته، سواء كانت في جزء من بدنه أو في جميع بدنه (¬3). ثانيًا: صبر المريض واحتسابه. المريض يجب عليه أن يصبر ويحتسب على الله - عز وجل - الثواب الذي وعده سبحانه الصابرين، قال الله - عز وجل -: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬4).وقال - عز وجل -: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (¬5). وقال - سبحانه وتعالى -: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (¬6). وقال - عز وجل -: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا ¬

(¬1) انظر: لسان العرب لابن منظور، باب الضاد، فصل الميم، 7/ 231 - 232، والقاموس المحيط للفيروزآبادي، باب الضاد، فصل الميم، ص843، والمعجم الوسيط، 2/ 863، ومختار الصحاح، مادة ((مرض))، ص259. (¬2) انظر: معجم لغة الفقهاء، للأستاذ الدكتور محمد روّاس، ص391. (¬3) انظر: الشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 459. (¬4) سورة الزمر، الآية: 10. (¬5) سورة محمد، الآية: 31. (¬6) سورة الأنبياء، الآية: 35.

فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَالله لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (¬1). وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ الله وَمَن يُؤْمِن بِالله يَهْدِ قَلْبَهُ وَالله بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬2). وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ*أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مّن رَّبّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (¬3). وقال تعالى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (¬4). وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ} (¬5). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( ... والصبر ضياء)) (¬6). وعن صهيب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضّراء صبر فكان خيرًا له)) (¬7). وعن أنس - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله - عز وجل - قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوَّضته منهما الجنة)) يريد عينيه (¬8). وعن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الطاعون فأخبرها ((أنه كان عذابًا يبعثه الله على من شاء فجعله رحمة للمؤمنين (¬9)، فليس من عبد ¬

(¬1) سورة الحديد، الآيتان: 22 - 23. (¬2) سورة التغابن، الآية: 11. (¬3) سورة البقرة، الآيات: 155 - 157. (¬4) سورة الشورى، الآية: 43. (¬5) سورة البقرة، الآية: 153. (¬6) مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، برقم 223، من حديث أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه -. (¬7) مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير، برقم 2999. (¬8) البخاري، كتاب المرض، باب فضل من ذهب بصره، برقم 5653. (¬9) الطاعون: قيل هو الموت العام، وقيل: المرض العام الذي يفسد له الهواء، وتفسد به الأمزجة والأبدان، وقيل: هو الوباء، وقيل: هو المرض الذي يعم الكثير من الناس في جهة من الجهات، وقيل: أصل الطاعون: القروح الخارجة في الجسد، والوباء عموم الأمراض، فسميت طاعونًا لشبهها بها في الهلاك، وإلا فكل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعونًا، انظر: فتح الباري لابن حجر، 10/ 180، وقال النووي في تهذيب الأسماء واللغات، 3/ 186: ((مرض معروف هو بثر وورم مؤلم جدًا يخرج مع لهب ويسودّ ما حواليه، أو يخضرّ أو يحمرّ حمرة بنفسجية كدرة يحصل معه خفقان القلب والقيء، ويخرج في المراق والآباط غالبًا والأيدي والأصابع وسائر الجسد)) ورجح ابن حجر في فتح الباري، 10/ 181 ((أن الطاعون يكون من طعن الجن وقرعه))، واستشهد لذلك بأدلة وصحح بعضها.

يقع في الطاعون فيمكث في بلده صابرًا محتسبًا يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد)) (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: (( ... إنما الصبر عند الصدمة الأولى)) (¬2). وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما يصيب المسلم من نصب (¬3)، ولا وصب (¬4)، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غمّ، حتى الشوكة يُشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)) (¬5). وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مسلم يُصيبه أذى من مرض فما سواه إلاّ حطَّ الله سيئاته كما تحطّ الشجرة ورقها)) (¬6). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها، إلا كُتب له بها درجة ومُحيت عنه بها خطيئة)) (¬7). ¬

(¬1) البخاري، كتاب الطب، باب أجر الصابر على الطاعون، برقم 5734. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الجائز، باب زيارة القبور، برقم 1283، ومسلم، كتاب الجنائز، باب الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى، برقم 926. (¬3) النصب: التعب. (¬4) الوصب: المرض. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرض، برقم 5641، 5642، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه، برقم 2573. (¬6) متفق عليه: البخاري، كتاب المرضى، باب شدة المرض، برقم 5647، 5648، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه، برقم 2571. (¬7) مسلم، كتاب البر والصلة، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه، برقم 2572.

ثالثا: المسلم يسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من يُرد الله به خيرًا يُصبْ (¬1) منه)) (¬2). وعن أنس - رضي الله عنه - يرفعه: ((إن عِظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السُّخط)) (¬3). وعن مصعب بن سعد عن أبيه - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: ((الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صُلبًا، اشتدَّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقةٌ ابتلي على حسب دينه، فما يبرحُ البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة)) (¬4). ثالثًا: المسلم يسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة، ولا يسأل البلاء؛ لحديث العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله علمني شيئًا أسأله الله؟ قال: ((سل الله العافية))، فمكثت أيامًا ثم جئت فقلت: يا رسول الله علمني شيئًا أسأله الله، فقال لي: ((يا عباسُ يا عمَّ رسول الله: ((سل الله العافية في الدنيا والآخرة)) (¬5)؛ ولحديث أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أن ¬

(¬1) يصب منه: معناه يبتليه بالمصائب، ليثيبه عليها، وقيل: يوجه إليه البلاء فيصيبه. فتح الباري لابن حجر، 10/ 108، وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 5645: ((أي يصيبه بالمصائب بأنواعها، وحتى يتذكر فيتوب، ويرجع إلى ربه)). (¬2) البخاري، كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرض، برقم 5645. (¬3) الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، برقم 2396، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، برقم 4031، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 564، وفي صحيح ابن ماجه، 3/ 320، وفي الصحيحة، برقم 146. (¬4) الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، برقم 2398، وابن ماجه في كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، برقم 4023، وقال الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 565، وفي صحيح ابن ماجه، 3/ 318، وفي الصحيحة، برقم 143، 2280: ((حسن صحيح)). (¬5) الترمذي، كتاب الدعوات، بابٌ: حدثنا يوسف بن عيسى، برقم 3514، وقال: هذا حديث صحيح، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 446، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1523.

رابعا: الاجتهاد في حال الصحة في الأعمال الصالحة

النبي - صلى الله عليه وسلم - قال على المنبر: ((سلوا الله العفو والعافية؛ فإن أحدًا لم يُعْطَ بعد اليقين خيرًا من العافية)) (¬1)؛ ولحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان من دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك)) (¬2)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((كان يتعوذ من سوء القضاء، ومن درك الشقاء، ومن شماتة الأعداء، ومن جهد البلاء)) (¬3). رابعًا: الاجتهاد في حال الصحة في الأعمال الصالحة؛ لتكتب له كاملة في حال عجزه عن العمل؛ لحديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا مرض العبد أو سافر كُتِبَ له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا)) (¬4) خامسًا: يُسْر الشريعة الإسلامية وسهولتها، وكمالها، قال الله - عز وجل -: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬5). وقال سبحانه: {يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬6). وقال تعالى: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬7). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((دعوني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)) (¬8).وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الدين يسر)) (¬9). ¬

(¬1) الترمذي، كتاب الدعوات، بابٌ: حدثنا محمد بن بشار، برقم 3558، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب الدعاء بالعفو والعافية، برقم 3849، وقال الألباني في صحيح سنن الترمذي، 3/ 464: ((حسن صحيح))،وفي صحيح ابن ماجه،3/ 259: ((صحيح)). (¬2) مسلم، كتاب الرقاق، باب أكثر أهل الجنة الفقراء، برقم 2739. (¬3) مسلم، كتاب الذكر والدعاء، بابٌ: في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء، وغيره، برقم 2707. (¬4) البخاري، كتاب الجهاد والسير، بابٌ: يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة، برقم 2996. (¬5) سورة الحج، الآية: 78. (¬6) سورة البقرة، الآية: 185. (¬7) سورة التغابن، الآية: 16. (¬8) متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، برقم 7288، ومسلم، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، برقم 1337. (¬9) البخاري، كتاب الإيمان، بابٌ: الدين يسر، برقم 39 من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

سادسا: كيفية طهارة المريض على النحو الآتي:

سادسًا: كيفية طهارة المريض على النحو الآتي: 1 - يجب على المريض أن يتوضأ من الحدث الأصغر: (نواقض الوضوء)، ويغتسل من الحدث الأكبر: (موجبات الغسل). 2 - يجب أن يزيل ما على السبيلين من النجاسة بالماء قبل الوضوء؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يستنجي بالماء (¬1). والاستجمار بالحجارة، أو ما يقوم مقامها يقوم مقام الاستنجاء بالماء، ويقوم مقام الحجارة ما في معناها من كل جامد طاهر ليس له حرمة: كالخشب، والخرق، والمناديل، وكل ما أنقى به فهو كالحجارة على الصحيح (¬2)؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن؛ فإنها تجزئ عنه)) (¬3). ولابد في الاستجمار من ثلاثة أحجار أو ما يقوم مقامها فأكثر؛ لحديث سلمان - رضي الله عنه - يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، أو نستنجي باليمين، أو نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو نستنجي برجيع (¬4) أو بعظم)) (¬5). فإن لم تكفِ ثلاثة أحجار زاد رابعًا، وخامسًا حتى ينقي المحل، والأفضل أن يقطع الاستجمار على وتر؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن ¬

(¬1) متفق عليه من حديث أنس - رضي الله عنه -، البخاري، كتاب الوضوء، باب الاستنجاء بالماء، برقم 150، ومسلم، كتاب الطهارة، باب الاستنجاء بالماء من التبرز، برقم 271. (¬2) انظر: المغني لابن قدامة، 1/ 213. (¬3) أبو داود، من حديث عائشة رضي الله عنها برقم 40، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 10، وتقدم تخريجه في الطهارة في آداب قضاء الحاجة. (¬4) الرجيع: الروث والعذرة. (¬5) مسلم، برقم 262، وتقدم تخريجه في الطهارة، في آداب قضاء الحاجة.

3 - إذا كان المريض لا يستطيع الحركة

النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: ((ومن استجمر فليوتر)) (¬1). والأفضل أن يستجمر الإنسان بالحجارة ثم يتبعها بالماء؛ لأن الحجارة تزيل عين النجاسة والماء يطهر المحل، فيكون أبلغ في الطهارة، وهو مخير بين الاستجمار بالحجارة، أو الاستنجاء بالماء أو الجمع بينهما وهو الأفضل، وإن أراد الاقتصار على أحدهما فالماء أفضل؛ لأنه يطهر المحل ويزيل العين والأثر. والاستنجاء يكون من الخارج الرطب من السبيلين: كالبول والغائط، أما النوم، والريح، وأكل لحم الإبل، ومس الفرج فلا يُستنجى منها؛ لأن الاستنجاء إنما شرع لإزالة النجاسة من السبيلين (¬2). 3 - إذا كان المريض لا يستطيع الحركة؛ فإنه يوضئه شخص آخر، وإذا كان عليه حدث أكبر ساعده في الغسل، ولا ينظر إلى عورته. 4 - فإن كان المريض لا يستطيع أن يتطهر بالماء؛ لخوفه تلف النفس، أو تلف عضو، أو حدوث مرض، أو لعجزه، أو خوف زيادة المرض أو تأخر برئه؛ فإنه يتيمم؛ لقول الله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (¬3). وكيفية التيمم: أن ينوي رفع الحدث، ثم يضرب بيديه على التراب الطاهر ضربة واحدة فيمسح جميع وجهه، بباطن أصابعه، ثم يمسح كفيه براحتيه؛ لقول الله تعالى: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مّنكُم مّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النساء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ الله كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} (¬4)؛ ولقوله تعالى: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مَّنكُم مّنَ الْغَائِطِ أَوْ ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 162،ومسلم، برقم 237،وتقدم تخريجه في الطهارة، آداب قضاء الحاجة. (¬2) انظر: فتاوى سماحة الشيخ ابن باز، 12/ 236. (¬3) سورة النساء، الآية: 29. (¬4) سورة النساء، الآية: 43.

5 - فإن لم يستطع أن يتيمم بنفسه

لاَمَسْتُمُ النساء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مّنْهُ مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬1). 5 - فإن لم يستطع أن يتيمم بنفسه؛ فإنه ييممه من عنده من المرافقين أو الحاضرين، يحضر التراب الطاهر ثم ييممه به. 6 - من به جروح أو كسر أو مرض يضره استعمال الماء؛ فإنه يتيمم سواء كان محدثًا حدثًا أصغر أو أكبر، لكن لو أمكنه أن يغسل الصحيح من جسده أو أعضائه وجب عليه ذلك وتيمم للباقي؛ لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬2)؛ ولقوله - سبحانه وتعالى -: {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (¬3). 7 - إذا كان في بعض أعضاء الطهارة جرح يستطيع أن يغسله بالماء غسله، فإن كان الغسل بالماء يؤثر عليه مسحه بالماء مسحًا، فإن كان المسح يؤثر عليه أيضًا فإنه يشد عليه جبيرة أو لزقة ويمسح عليها، فإن عجز فحينئذ يتيمم عنه بعد الطهارة. أما إذا كان الجرح مستورًا بجبس أو لزقة أو جبيرة، أو ما أشبه ذلك ففي هذا الحال يمسح على الساتر ويغنيه عن الغسل، ولا يشترط لبس الجبيرة على طهارة على القول الراجح، وليس للمسح على الجبيرة توقيت؛ لأن مسحها لضرورة فيقدر بقدرها، ويمسح عليها في الحدث الأكبر والأصغر (¬4).والصواب أنه إذا مسح على العضو يكفيه عن التيمم، فلا يجمع بين المسح والتيمم إلا إذا كان هناك عضو آخر لم يستطع المسح ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية 6. (¬2) سورة التغابن، الآية: 16. (¬3) سورة البقرة، الآية: 286. (¬4) انظر: ما تقدم في الطهارة: المسح على الجبائر.

8 - إذا تيمم لصلاة وبقي على طهارته إلى وقت الصلاة الأخرى

عليه (¬1). 8 - إذا تيمم لصلاة وبقي على طهارته إلى وقت الصلاة الأخرى؛ فإنه يصليها بالتيمم الأول؛ ولا يعيد التيمم للصلاة الثانية؛ لأنه لم يزل على طهارته ولم يحصل ما يبطلها من نواقض الطهارة؛ لأن التيمم لا يبطل إلا بما يبطل الوضوء. 9 - يجب على المريض أن يطهر بدنه وثيابه، وموضع صلاته من النجاسات، فإن عجز عن شيء من ذلك ولم يجد من يقوم بتطهير النجاسة صلى على حسب حاله وصلاته صحيحة ولا إعادة عليه، ولكن لو استطاع أن يبدل ثيابه النجسة بثياب أخرى طاهرة أو يفرش على الفراش النجس فراشًا طاهرًا وجب عليه ذلك. 10 - لا يجوز للمريض أن يؤخر الصلاة عن وقتها من أجل العجز عن الطهارة، بل يتطهر بقدر ما يستطيع، ويطهر بدنه وثوبه والبقعة التي يصلي عليها؛ فإن عجز عن استعمال الماء تيمم، فإن عجز عن استعمال التيمم سقطت عنه الطهارة وصلى على حسب حاله (¬2). 11 - المريض المصاب بسلس البول، أو استمرار خروج الدم، أو الريح، ولم يبرأ بمعالجته، عليه أن يتوضأ لكل صلاة بعد دخول وقتها، ويغسل ما يصيب بدنه، وثوبه، أو يجعل للصلاة ثوبًا طاهرًا إن تيسر له ذلك، ويحتاط لنفسه احتياطًا يمنع انتشار البول أو الدم في ثوبه أو جسمه، أو مكان صلاته، وله أن يفعل في وقت الصلاة ما تيسر من صلاة، وقراءة في المصحف حتى يخرج الوقت فإذا خرج الوقت فعليه أن يعيد الوضوء أو التيمم إن عجز عن الوضوء؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر المستحاضة ¬

(¬1) انظر: فتاوى العلامة ابن باز،12/ 240،وفتاوى العلامة ابن عثيمين،11/ 155، 172. (¬2) انظر: ما تقدم في الطهارة: التيمم، ومن يجوز له التيمم، ونواقض التيمم ومبطلاته، وفاقد الطهورين: الماء والتراب. وانظر: فتاوى العلامة ابن باز،12/ 239،وفتاوى العلامة ابن عثيمين، 11/ 156.

سابعا: كيفية صلاة المريض على النحو الآتي:

أن تتوضأ لوقت كل صلاة (¬1)؛ولقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬2)، وهذا فيه الدلالة على يسر الشريعة وسماحتها (¬3). سابعًا: كيفية صلاة المريض على النحو الآتي: 1 - يجب على المريض الذي لا يخاف زيادة مرضه أن يصلي الفريضة قائمًا؛ لقول الله تعالى: {وَقُومُواْ لله قَانِتِينَ} (¬4). 2 - إن قدر المريض على القيام بأن يتكئ على عصا أو يستند إلى حائط أو يعتمد على أحد جانبيه لزمه القيام؛ لحديث وابصة - رضي الله عنه - عن أم قيس رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أسنَّ وحمل اللحم اتخذ عمودًا في مصلاه يعتمد عليه (¬5)؛ ولأنه قادر على القيام من غير ضرر؛ لحديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: ((صلّ قائمًا ... )) (¬6). 3 - إن قدر المريض على القيام إلا أنه يكون منحنيًا على هيئة الراكع؛ كالأحدب، أو الكبير الذي انحنى ظهره وهو يستطيع القيام لزمه القيام؛ لحديث عمران - رضي الله عنه - المتقدم. 4 - المريض الذي يقدر على القيام لكنه يعجز عن الركوع أو السجود لا يسقط عنه القيام، وعليه أن يصلي قائمًا ويومئ بالركوع قائمًا إن عجز عنه، وإن لم يمكنه أن يحني ظهره حنى رقبته، وإن تقوّس ظهره فصار كأنه راكع زاد في انحنائه قليلاً، ثم يجلس فيومئ بالسجود جالسًا إن عجز ¬

(¬1) تقدمت الأدلة في الطهارة في أحكام السلس والاستحاضة، وانظر فتاوى العلامة ابن باز، 12/ 240. (¬2) سورة التغابن، الآية: 16. (¬3) انظر: مجموع فتاوى العلامة ابن باز، 12/ 235 - 241، ومجموع فتاوى ورسائل العلامة ابن عثيمين، 11/ 154 - 156. (¬4) سورة البقرة، الآية: 238. (¬5) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الرجل يعتمد في الصلاة على عصا، برقم 948، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 264، وفي الأحاديث الصحيحة، برقم 319. (¬6) البخاري، برقم 1117، وتقدم تخريجه في صفة الصلاة.

5 - المريض الذي يزيد القيام في مرضه، أو يشق عليه مشقة شديدة، أو يضره

عنه ويقرب وجهه إلى الأرض في السجود أكثر ما يمكنه؛ لقول الله تعالى: {وَقُومُواْ لله قَانِتِينَ} (¬1)؛ ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمران بن حصين رضي الله عنهما: ((صلّ قائمًا)) (¬2)؛ ولأن القيام ركن قدر عليه فلزمه الإتيان به (¬3). 5 - المريض الذي يزيد القيام في مرضه، أو يشق عليه مشقة شديدة، أو يضره، أو يخاف زيادة مرضه يصلي قاعدًا؛ لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬4)؛ ولقوله - عز وجل -: {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (¬5)؛ ولقوله - سبحانه وتعالى -: {يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬6)، ولقوله سبحانه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬7)؛ ولحديث عمران بن حصين رضي الله عنهما وفيه: ((صلّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا ... )) (¬8)؛ ولحديث أنس - رضي الله عنه - قال: سقط النبي - صلى الله عليه وسلم - عن فرس فجُحش شقه الأيمن فدخلنا عليه نعوده فحضرت الصلاة فصلى بنا قاعدًا (¬9). وقد أجمع العلماء على أن من لا يطيق القيام له أن يصلي جالسًا (¬10). 6 - الأفضل للمريض إذا صلى جالسًا أن يكون متربعًا في موضع القيام، والصحيح أنه إذا ركع يركع وهو متربع؛ لأن الراكع قائم؛ ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 238. (¬2) البخاري، برقم 1117، وتقدم تخريجه. (¬3) انظر: المغني لابن قدامة،2/ 572،575، 576، والشرح الكبير، لعبد الرحمن بن قدامة، 5/ 13، والإنصاف للمرداوي مع الشرح الكبير، 5/ 5. (¬4) سورة التغابن، الآية: 16. (¬5) سورة البقرة، الآية: 286. (¬6) سورة البقرة، الآية: 185. (¬7) سورة الحج، الآية: 78. (¬8) البخاري، برقم 1117، وتقدم تخريجه. (¬9) متفق عليه: البخاري، برقم 689،ومسلم، برقم 411،وتقدم تخريجه في الإمامة في الاقتداء. (¬10) المغني لابن قدامة، 2/ 570، والشرح الكبير، 5/ 6، والإنصاف، 5/ 6.

7 - إن عجز المريض عن الصلاة قاعدا صلى على جنبه مستقبل القبلة بوجهه

لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي متربعًا)) (¬1)، والسنة له أن يجعل يديه على ركبتيه في حال الركوع، أما في حال السجود فالواجب أن يسجد على الأرض، فإن لم يستطع وجب عليه أن يجعل يديه على الأرض وأومأ بالسجود؛ لما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة - وأشار بيده على أنفه - واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين)) (¬2)؛ فإن لم يستطع جعل يديه على ركبتيه وأومأ بالسجود وجعله أخفض من الركوع؛ لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬3)؛ ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: (( ... وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم (¬4))) (¬5). 7 - إن عجز المريض عن الصلاة قاعدًا صلى على جنبه مستقبل القبلة بوجهه، والأفضل أن يصلي على جنبه الأيمن؛ لحديث عمران - رضي الله عنه - وفيه: ((صلّ قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب)) (¬6)؛ ولحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعُّله، وترجُّله، وطهوره، وفي شأنه كله)) (¬7). 8 - فإن عجز المريض عن الصلاة على جنبه صلى مستلقيًا رجلاه إلى ¬

(¬1) النسائي، كتاب قيام الليل، باب كيف صلاة القاعد، برقم 1662، وابن خزيمة، برقم 1238، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 1/ 258، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 538. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب السجود على الأنف في الطين، برقم 812، ومسلم، في كتاب الصلاة، باب أعضاء السجود برقم 490. (¬3) سورة التغابن، الآية: 16. (¬4) متفق عليه: البخاري، برقم 7288،ومسلم، برقم 1337،وتقدم تخريجه في أول المبحث. (¬5) انظر: المغني لابن قدامة، 2/ 572، ومجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز، 12/ 242 - 247، ومجموع فتاوى العلامة محمد بن صالح العثيمين، 11/ 329. (¬6) البخاري، برقم 1117، وتقدم تخريجه. (¬7) متفق عليه: البخاري، كتاب الوضوء، باب التيمن في الوضوء والغسل، برقم 168، ومسلم، كتاب الطهارة، باب التيمن في الطهور وغيره، برقم 168.

9 - فإن عجز المريض عن الصلاة إلى القبلة ولم يوجد من يوجهه إليها

القبلة؛ لحديث عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال له: ((صلّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب)) (¬1)، زاد النسائي: ((فإن لم تستطع فمستلقياً لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها)) (¬2). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله يقول: ((وزاد النسائي: ((فإن لم تستطع فمستلقيًا))، ثم قال: فكانت الصفات: ((قائمًا، جالسًا، على جنب، مستلقيًا)) (¬3). 9 - فإن عجز المريض عن الصلاة إلى القبلة ولم يوجد من يوجهه إليها صلى على حسب حاله؛ لقوله تعالى: {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (¬4). 10 - فإن عجز المريض عن الصلاة مستلقيًا صلى على حسب حاله على أي حال كان؛ لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬5). 11 - فإن عجز المريض عن جميع الأحوال السابقة صلى بقلبه: فيكبّر، ويقرأ، وينوي الركوع والسجود، والقيام والقعود بقلبه، فإن الصلاة لا تسقط عنه مادام عقله ثابتًا بأي حال من الأحوال؛ للأدلة السابقة (¬6). 12 - إذا قدر المريض في أثناء صلاته على ما كان عاجزًا عنه: من قيام أو قعود، أو ركوع، أو سجود، أو إيماء انتقل إليه وبنى على ما مضى من ¬

(¬1) البخاري، برقم 1117. (¬2) عزاه إليه ابن حجر في التلخيص الحبير، 1/ 225 برقم 334، وعزاه إليه أيضًا المجد ابن تيمية في منتقى الأخبار، برقم 1507،وقال شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز: ((وزاد النسائي)) ثم ذكر الزيادة، انظر: مجموع الفتاوى، 12/ 242، وقال في الفتاوى أيضًا بعد أن ساق اللفظ كاملاً: ((وهذا لفظ النسائي))، 12/ 247، ولم يعزه المزي في تحفة الأشراف إلى النسائي، 8/ 185، برقم 10833. (¬3) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 347. (¬4) سورة البقرة، الآية: 286. (¬5) سورة التغابن، الآية: 16. (¬6) انظر: المغني لابن قدامة، 2/ 576، ومجموع فتاوى ابن باز، 12/ 243، ومجموع فتاوى ابن عثيمين، 11/ 232.

13 - إن عجز المريض عن السجود على الأرض؛ فإنه يومئ بالسجود في الهواء

صلاته، وهكذا لو كان قادرًا فعجز أثناء الصلاة أتم صلاته على حسب حاله؛ لأن ما مضى من الصلاة كان صحيحًا فبنى عليه كما لو لم يتغير حاله (¬1). 13 - إن عجز المريض عن السجود على الأرض؛ فإنه يومئ بالسجود في الهواء ولا يتخذ شيئًا يسجد عليه؛ لحديث جابر - رضي الله عنه - يرفعه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاد مريضًا فرآه يصلي على وسادة فأخذها فرمى بها، فأخذ عودًا ليصلي عليه فأخذه فرمى به، قال: ((صلّ على الأرض إن استطعت وإلا فأومِ إيماءً واجعل سجودك أخفض من ركوعك)) (¬2). 14 - يجب على المريض أن يصلي كل صلاة في وقتها، ويفعل كل ما يقدر عليه مما يجب فيها؛ فإن شق عليه فعل كل صلاة في وقتها فله الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، إما جمع تقديم بحيث يقدم العصر مع الظهر، والعشاء مع المغرب، وإما جمع تأخير بحيث يؤخر الظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء، حسبما يكون أيسر له، أما صلاة الفجر فلا تجمع مع ما قبلها ولا مع ما بعدها؛ لأن وقتها منفصل عما قبلها وعما بعدها (¬3)، ومما يدل على جواز الجمع للمريض الذي ¬

(¬1) انظر: المغني لابن قدامة، 2/ 577، والشرح الكبير، 5/ 15، والإنصاف، 5/ 15، ومجموع فتاوى ابن باز، 12/ 243. (¬2) البيهقي في السنن الكبرى، 2/ 306، قال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام: ((رواه البيهقي بسند قوي، ولكن صحح أبو حاتم وقفه))، وسمعت شيخنا الإمام ابن باز يقول أثناء تقريره على الحديث رقم 348 من بلوغ المرام: ((إسناده قوي))، ومال إلى رفعه؛ لأنه يقدم قول من رفع على من وقف إذا كان من رفع ثقة؛ للقاعدة، وانظر: التلخيص الحبير لابن حجر، 1/ 226 - 227، والحديث رواه الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما في المعجم الكبير، 12/ 269، برقم 13082، وذكره الألباني في الأحاديث الصحيحة، وذكر طرقه ثم قال في الحديث رقم 323 في المجلد الأول: ((والذي لا شك فيه أن الحديث بمجموع طرقه صحيح والله تعالى هو الموفق))، ثم ذكر رواية أخرى عن ابن عمر موقوفًا، ثم قال: ((وسنده صحيح على شرط الشيخين)). وانظر: صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - للألباني، ص68. (¬3) انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 135، وفتاوى العلامة ابن باز، 12/ 244، ومجموع فتاوى العلامة ابن عثيمين، 11/ 230.

15 - لا يجوز للمريض ترك الصلاة بأي حال من الأحوال مادام عقله ثابتا

يشق عليه فعل الصلاة في وقتها ويضعف عن ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا في غير خوف ولا سفر)). وفي لفظ: ((جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر)) فسئل ابن عباس لم فعل ذلك؟ فقال: ((أراد أن لا يحرج أحدًا من أمته))، وفي لفظ: ((أراد أن لا يحرج أمته)) (¬1). والصواب في تأويل هذا الحديث قول من قال: هو محمول على الجمع بعذر المرض أو نحوه مما هو في معناه من الأعذار (¬2). وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر حمنة بنت جحش رضي الله عنها لما كانت مستحاضة بتأخير الظهر وتعجيل العصر، وتأخير المغرب وتعجيل العشاء (¬3)، وهذا هو الجمع الصوري. 15 - لا يجوز للمريض ترك الصلاة بأي حال من الأحوال مادام عقله ثابتًا، بل يجب على المكلف أن يحرص على الصلاة أيام مرضه أكثر من حرصه عليها أيام صحته ويصليها في وقتها المشروع حسب استطاعته، فإذا تركها متعمدًا وهو عاقل عالم بالحكم الشرعي مكلف يقوى على أدائها ولو إيماءً فهو آثم، وقد ذهب جمع من أهل العلم إلى كفره بذلك (¬4)؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)) (¬5)؛ ولحديث جابر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((بين ¬

(¬1) مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر، برقم 49 - (705)، 50 - (705)، 54 - (705). (¬2) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 226، والمغني لابن قدامة، 3/ 135، وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يقول بهذا القول. (¬3) أبو داود، برقم 287، والترمذي، برقم 128، وابن ماجه، برقم 627، وحسنه الألباني في إرواء الغليل، برقم 188، وتقدم تخريجه في الطهارة في أحكام المستحاضة. (¬4) انظر: مجموع فتاوى الإمام ابن باز، 12/ 244. (¬5) الترمذي عن بريدة - رضي الله عنه -، برقم 2621، والنسائي، برقم 463، وابن ماجه، برقم 1079، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 156، وتقدم تخريجه في منزلة الصلاة، حكم تارك الصلاة.

16 - إذا نام المريض عن صلاته، أو نسيها وجب عليه أن يصليها حال استيقاظه

الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)) (¬1)؛ ولحديث معاذ - رضي الله عنه - وفيه: ((رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد)) (¬2). 16 - إذا نام المريض عن صلاته، أو نسيها وجب عليه أن يصليها حال استيقاظه، أو ذكره لها، ولا يجوز له تركها إلى دخول وقت مثلها ليصليها فيه؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من نسي صلاته فليصلّها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك))، وفي لفظ لمسلم: ((من نسي صلاته أو نام عنها ... )) الحديث (¬3). ويقضي الصلاة المغمى عليه ثلاثة أيام فأقل؛ لأنه يلحق بالنائم، أما إذا كانت المدة أكثر من ذلك فلا قضاء عليه؛ لأنه يلحق بالمجنون لجامع زوال العقل (¬4). 17 - إذا كان المريض مسافرًا يعالج في غير بلده، فإنه يقصر الصلاة الرباعية، فيصلي الظهر، والعصر، والعشاء، ركعتين ركعتين مادام مسافرًا لم يُجمِعْ على إقامة أكثر من أربعة أيام (¬5)،أما صلاة المغرب فيصليها ثلاثًا سفرًا وحضرًا، وهكذا صلاة الفجر يصليها اثنتين سفرًا وحضرًا، ويصلي سنة الفجر قبلها: ركعتين؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصليهما حضرًا وسفرًا، قالت عائشة رضي الله عنها: ((لم يكن يدعهما أبدًا)) (¬6)،ويصلي الوتر كذلك؛ لحديث ¬

(¬1) مسلم، برقم 76، وتقدم تخريجه في منزلة الصلاة، حكم تارك الصلاة. (¬2) الترمذي، برقم 2616، وابن ماجه، برقم 3973، وحسنه الألباني في إرواء الغليل، 2/ 138. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم 597، ومسلم، برقم 684، وتقدم تخريجه في منزلة الصلاة. (¬4) انظر: المغني لابن قدامة، 2/ 50 - 52،والشرح الكبير، 3/ 8، ومجموع فتاوى ابن باز، 2/ 457. (¬5) انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 104 - 134، والشرح الكبير، 5/ 26 - 84، والإنصاف في المطبوع مع الشرح الكبير،5/ 26 - 84 وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية،8/ 90 - 93، 95، 98، وفتاوى ابن باز، 12/ 264 - 280. (¬6) متفق عليه: البخاري، برقم 1159، ومسلم، برقم 724، وتقدم تخريجه في التطوع.

ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به يومئ إيماءً صلاة الليل إلا الفرائض، ويوتر على راحلته)). وفي لفظ: ((كان يوتر على راحلته)) (¬1). أما السنن الرواتب فالسنة أن لا يصليها في السفر؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله)) (¬2). أما التطوع المطلق فمشروع في الحضر والسفر مطلقًا، مثل: صلاة الضحى، وصلاة الليل، وسنة الوضوء وغيرها من النوافل، قال النووي رحمه الله: ((وقد اتفق العلماء على استحباب النوافل المطلقة في السفر ... )) (¬3). وهذا لمن لم يعزم على إقامة أكثر من أربعة أيام، أو لا يدري متى يرتحل؛ فإنَّ له أحكام السفر حتى يعزم على إقامة أكثر من أربعة أيام أو يرجع إلى وطنه. والأحوط للمسلم أن لا يقصر في أقل من مسافة يوم وليلة للإبل والمشاة بالسير العادي، وذلك يقارب ثمانين كيلو تقريبًا؛ لأن هذه المسافة تعتبر سفرًا عُرفًا عند الجمهور، فإن عزم على الإقامة أكثر من أربعة أيام، أو كانت المسافة أقل من مسيرة يوم وليلة فالأحوط للمؤمن أن لا يأخذ بأحكام السفر، بل يتم الصلاة أربعًا كالمقيمين: الظهر، والعصر، والعشاء (¬4) والله الموفق (¬5). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 999، ومسلم، برقم 700، وتقدم تخريجه في التطوع. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 1011، ومسلم، برقم 689، وتقدم تخريجه في التطوع. (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 205. (¬4) انظر: مجموع فتاوى الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله، 12/ 264 - 280، وانظر: المغني لابن قدامة، 3/ 104 - 134. (¬5) انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 104 - 134، والشرح الكبير، 5/ 26 - 84، والإنصاف للمرداوي المطبوع مع المقنع والشرح الكبير، 5/ 26 - 84، وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، 8/ 90، 92، 95، 98، 99، 100، 107، 110، 113، 8/ 90 - 118، وفتاوى الإمام ابن باز رحمه الله، 12/ 264 - 280، وانظر للفائدة: فتاوى ابن تيمية، 24/ 7 - 162، ومجموع فتاوى ابن عثيمين، 15/ 252 - 448، والشرح الممتع له، 4/ 490 - 547.

ثامنا: الصلاة في السفينة والطائرة، والقطار، والسيارة، أو على الراحلة على النحو الآتي:

ثامنًا: الصلاة في السفينة والطائرة، والقطار، والسيارة، أو على الراحلة على النحو الآتي: 1 - تصح صلاة الفرض في السفينة والباخرة والقطار، قائمًا عند القدرة؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: ((سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في السفينة، فقال: كيف أصلي في السفينة؟ قال: ((صلّ فيها قائمًا إلا أن تخاف الغرق)) (¬1). وعن عبد الله بن أبي عتبة قال: ((صحبت جابر بن عبد الله، وأبا سعيد الخدري، وأبا هريرة في سفينة فصلوا قيامًا في جماعة، أمّهم بعضهم، وهم يقدرون على الجُدَّ (¬2))) (¬3)،قال الإمام الشوكاني رحمه الله: ((والمراد أنهم يقدرون على الصلاة في البر، وقد صحت صلاتهم في السفينة مع اضطرابها، وفيه جواز الصلاة في السفينة وإن كان الخروج إلى البر ممكنًا)) (¬4). ولا تصح صلاة الفرض في السفينة قاعدًا لقادر على القيام، فإن عجز عن القيام صلى جالسًا؛ لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬5)، فيصلي على حسب حاله ويأتي بما يقدر عليه من القيام وغيره على حسب ما تقدم في صفة صلاة المريض (¬6)،ويصلون فيها جماعة على حسب استطاعتهم، ويستقبلون القبلة في الفرض، وكلما انحرفت السفينة ¬

(¬1) الحاكم، 1/ 275، وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، 1/ 275، والدارقطني في السنن، 1/ 395، وذكره الألباني في صفة الصلاة، ص68، ونقل تصحيح الحاكم وموافقة الذهبي، وقال الشيخ محمد شمس الحق في التعليق المغني على الدارقطني: ((فيه بشر بن فأفأ ضعفه الدارقطني، كذا في الميزان، لكن ما بين وجه الضعف فهو جرح مبهم))، 1/ 395. (¬2) الجدَّ: شاطئ البحر. انظر: نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 449. (¬3) الحديث أخرجه سعيد بن منصور في سننه كما عزاه إليه المجد بن تيمية في منتقى الأخبار، رقم1510. (¬4) نيل الأوطار، 2/ 449. (¬5) سورة التغابن، الآية: 16. (¬6) انظر: الشرح الكبير، لعبد الرحمن بن قدامة المقدسي، 5/ 20، والإنصاف للمرداوي المطبوع مع المقنع والشرح الكبير، 5/ 20.

2 - الصلاة المفروضة في الطائرة صحيحة

عن القبلة اتجهوا إليها (¬1). 2 - الصلاة المفروضة في الطائرة صحيحة؛ لأن الطائرة في الجو على متن الهواء كالباخرة في البحر على متن الماء، ولكن يجب على المسلم أن يفعل ما يجب عليه في الصلاة: من القيام بالأركان، والواجبات، والشروط مثل: الطهارة، واستقبال القبلة، والقيام، والقعود، والركوع، والسجود، وغير ذلك مما يجب، وإذا كان لا يستطيع القيام بذلك فلا يصلي في الطائرة بل ينتظر حتى تهبط إلا إذا علم أن الهبوط بعد خروج الوقت، وكانت الصلاة التي أدركته في الجو لا يمكن جمعها مع ما بعدها، مثل: العصر والفجر ويعلم بأن هبوط الطائرة بعد خروج وقتها لزمه أن يصليها في الطائرة ولا يؤخرها عن وقتها، فيصليها كالصلاة في السفينة كما تقدم، فإن استطاع أن يصلي قائمًا صلى قائمًا، فإن لم يستطع صلى قاعدًا ويكون مستقبل القبلة ويدور مع القبلة حيث دارت، ويومئ بالركوع والسجود ويكون أخفض من الركوع، ويقوم بما يستطيع؛ لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ}} (¬2)، أما إذا كانت الصلاة مما يجمع جمع تقديم أو تأخير، فإن الأفضل للمسلم أن يصليها إذا أدركه وقت الأولى قبل الإقلاع، فيصلي التي أدركه وقتها كالظهر مثلاً ثم يصلي العصر، وهكذا المغرب والعشاء إذا كان مسافرًا قد خرج من بلده، أما إذا لم يدخل وقت الأولى وأقلعت الطائرة أو القطار أو السفينة قبل دخول الوقت فإنه يؤخرها إلى وقت الثانية فيصلي جمع تأخير مع قصر الرباعية إذا كان مسافرًا. أما إذا دخل الوقت أثناء السير وهو يعلم أن وقت الصلاة الثانية يخرج قبل الهبوط وجب عليه أن يصليها قبل خروج وقت الثانية على حسب استطاعته. ¬

(¬1) الإنصاف مع الشرح الكبير، 5/ 20، والروض المربع حاشية ابن قاسم، 2/ 373. (¬2) سورة التغابن، الآية: 16.

3 - الصلاة في السيارة أو على الراحلة على النحو الآتي:

3 - الصلاة في السيارة أو على الراحلة على النحو الآتي: أ- إذا كانت السيارة كبيرة وفيها مكان واسع للصلاة يستطيع الإنسان أن يصلي الفرض قائمًا راكعًا ساجدًا، مستقبل القبلة، وقد تطهر، فلا حرج عليه أن يصلي فيها، كما يصلي في السفينة والطائرة والقطار كما تقدم. ب- إذا كان لا يستطيع أن يقوم بما يجب عليه في صلاة الفريضة فإنه لا يصلي في السيارة إلا إذا لم يستطع النزول منها وخشي خروج وقت الصلاة، فإنه حينئذ يصلي على حسب حاله كما تقدم. جـ- أما الصلاة على الرواحل: كالإبل، والخيل، والبغال، وغيرها فلا تصح إلا عند خشية التأذي بمطر، أو وحل إذا نزل على الأرض ولا يستقر في صلاته فإنه حينئذ يصلي ولكن يستقبل القبلة، ويعمل ما يستطيع في صلاته، وكذا يصح الفرض على الراحلة إذا خاف انقطاعًا عن رفقته بنزوله، أو خاف على نفسه من عدو أو عجز عن ركوب إن نزل، وعليه أن يستقبل القبلة إن قدر على ذلك، وعليه أن يركع ويسجد ويجعل سجوده أخفض من ركوعه؛ لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ}} (¬1)، ولقوله سبحانه: {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (¬2). 4 - صلاة النافلة في السفر تصح على جميع وسائل النقل، سواء كانت: من السفن، أو البواخر، أو الطائرات، أو السيارات، أو الراحلة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي النافلة وهو على راحلته حيث توجهت به، وقد رآه ابن عمر رضي الله عنهما يصلي الوتر كذلك على الراحلة (¬3)؛ لكن الأفضل ¬

(¬1) سورة التغابن، الآية: 16. (¬2) سورة البقرة، الآية 286. (¬3) متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، البخاري، برقم 999، ورقم 1000، 1095، و1096، 1098، و1105، ومسلم، برقم 700، وتقدم تخريجه في صلاة التطوع.

أن يستقبل القبلة عند تكبيرة الإحرام ثم يصلي كيفما توجهت به (¬1) السفينة، أو الطائرة، أو الراحلة أو غير ذلك (¬2)، ولو لم يستقبل القبلة في النافلة عند تكبيرة الإحرام فلا حرج في ذلك، ولكن هذا من باب الاستحباب. والله - عز وجل - أعلم وأحكم، وهو الموفق - سبحانه وتعالى -. ¬

(¬1) أبو داود، برقم 1225،وحسنه الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام، الحديث رقم 228، وتقدم تخريجه في صلاة التطوع. (¬2) انظر: الصلاة في السفينة والطائرة، والقطار، والسيارة، وعلى الراحلة ما في المغني لابن قدامة، 2/ 323، 326، 2/ 97 - 98، والشرح الكبير، 5/ 20، والإنصاف مع المقنع والشرح الكبير، 5/ 20، والروض المربع، مع شرح ابن قاسم، 2/ 373، والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 484 - 489، والفتاوى له، 15/ 244 - 255، وفتاوى الإمام ابن باز جمع عبد الله الطيار، 4/ 461 - 464، وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، 8/ 119 - 127.

المبحث الثامن والعشرون: صلاة المسافر

المبحث الثامن والعشرون: صلاة المسافر أولاً: مفهوم السفر، والمسافر: السُّفْرُ: جمع سافر، والمسافرون: جمع مسافر، والسفر والمسافرون بمعنىً. وسُمّي المسافر مسافرًا؛ لكشفه قناع الكنّ عن وجهه، ومنازل الحضَرِ عن مكانه، ومنزل الخفض عن نفسه، وبروزه إلى الأرض الفضاء، وسمي السفر سفرًا؛ لأنه يسفر عن وجوه المسافرين وأخلاقهم، فيظهر ما كان خافيًا منها (¬1)، فظهر أن السفر: قطع المسافة؛ سمي بذلك؛ لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، ومنه قولهم: سفرت المرأة عن وجهها: إذا أظهرته، والسفر هو الخروج عن عمارة موطن الإقامة قاصدًا مكانًا يبعد مسافة يصحُّ فيها قصر الصلاة (¬2). ثانيًا: أنواع السفر على النحو الآتي: 1 - سفرٌ حرام، وهو أن يسافر لفعل ما حرمه الله أو حرمه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، مثل: من يسافر للتجارة في الخمر، والمحرمات، وقطع الطريق، أو سفر المرأة بدون محرم (¬3). 2 - سفر واجب، مثل: السفر لفريضة الحج، أو السفر للعمرة الواجبة، أو الجهاد الواجب. 3 - سفر مستحب، مثل: السفر للعمرة غير الواجبة، أو السفر لحج التطوع، أو جهاد التطوع. 4 - سفر مباح، مثل: السفر للتجارة المباحة، وكل أمر مباح. ¬

(¬1) لسان العرب لابن منظور، باب الراء، فصل السين،4/ 368. وقيل: السفر لغة: قطع المسافة، وشرعًا: هو الخروج على قصد مسيرة ثلاثة أيام ولياليها فما فوقها بسير الإبل ومشي الأقدام. التعريفات للجرجاني، ص157، وقال: المسافر: هو من قصد سيرًا وسطًا ثلاثة أيام ولياليها، وفارق بيوت بلده، التعريفات للجرجاني، ص266. (¬2) معجم لغة الفقهاء، للدكتور محمد رواس، ص219. (¬3) انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 115،والشرح الممتع لابن عثيمين رحمه الله،4/ 492.

5 - سفر مكروه

5 - سفر مكروه، مثل: سفر الإنسان وحده بدون رفقة إلا في أمر لابد منه (¬1)؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده)) (¬2). فهذه أنواع السفر التي ذكرها أهل العلم، فيجب على كل مسلم أن لا يسافر إلى سفر محرم، وينبغي له أن لا يتعمد السفر المكروه، بل يقتصر في جميع أسفاره على السفر الواجب، والمستحب، والمباح (¬3). ثالثًا: آداب السفر والعمرة والحج: الآداب التي ينبغي للمسافر والمعتمر والحاج المسافر معرفتها والعمل بها؛ ليحصل على عمرة مقبولة، ويُوفَّق لحج مبرور، وسفر مبارك آداب كثيرة منها: آداب واجبة وآداب مستحبة، وأذكر منها على سبيل المثال لا الحصر الآداب الآتية: ¬

(¬1) انظر: المغني لابن قدامة،3/ 114 - 117،والشرح الممتع للعلامة ابن عثيمين،4/ 491 - 492. (¬2) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب السير وحده، برقم 2998،من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬3) اختلف العلماء في نوع السفر الذي تختص به رخص السفر: من القصر، والجمع، والفطر، والمسح على الخفين والعمائم ثلاثة أيام، والصلاة على الراحلة تطوعًا على أقوال: 1 - فقيل: رخص السفر: من القصر، والجمع، والفطر في رمضان، والمسح ثلاثًا، والصلاة على الراحلة تطوعًا تكون في السفر الواجب، والمندوب، والمباح، أما السفر المحرم والمكروه فلا تباح فيه هذه الرخص. 2 - وقيل: لا يقصر إلا في الحج والعمرة والجهاد؛ لأن الواجب لا يترك إلا لواجب، أما السفر المباح والمحرم والمكروه فلا. 3 - وقيل لا يقصر إلا في سفر الطاعة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قصر في سفر واجب أو مندوب. 4 - وذهب الإمام أبو حنيفة وشيخ الإسلام ابن تيمية، وجماعة كثيرة من العلماء إلى أنه يجوز القصر حتى في السفر المحرم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((والحجة مع من جعل القصر والفطر مشروعًا في جنس السفر ولم يخص سفرًا دون سفر، وهذا القول هو الصحيح، فإن الكتاب والسنة قد أطلقا السفر)). مجموع الفتاوى، 24/ 109، وانظر: المغني لابن قدامة، 3/ 115 - 117، والأخبار العلمية، من الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص110، والكافي لابن قدامة، 1/ 447، والشرح الكبير المطبوع مع المقنع، 5/ 30، والإنصاف للمرداوي المطبوع مع الفتح والشرح الكبير،5/ 34،والشرح الممتع لابن عثيمين،4/ 493،والفتاوى له، 15/ 260، 274 - 281.

1 - يستخير الله سبحانه في الوقت، والراحلة، والرفيق، وجهة الطريق

1 - يستخير الله سبحانه في الوقت، والراحلة، والرفيق، وجهة الطريق إن كثرت الطرق، ويستشير في ذلك أهل الخبرة والصلاح. أما الحج؛ فإنه خير لا شك فيه. وصفة الاستخارة أن يصلي ركعتين ثم يدعو بالوارد (¬1). 2 - يجب على الحاج والمعتمر أن يقصد بحجه وعمرته وجه الله تعالى، والتقرب إليه، وأن يحذر أن يقصد حطام الدنيا أو المفاخرة، أو حيازة الألقاب، أو الرياء والسمعة؛ فإن ذلك سبب في بطلان العمل وعدم قبوله. قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (¬2). {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدًا} (¬3). والمسلم هكذا لا يريد إلا وجه الله والدار الآخرة؛ ولهذا قال الله - عز وجل -: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا} (¬4)، وفي الحديث القدسي: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)) (¬5). وقد خاف النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته من الشرك الأصغر فقال: ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)) فسُئل عنه فقال: ((الرياء)) (¬6). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من سمَّع سمَّع الله به، ومن يُرائي يُرائي الله به)) (¬7). قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا ¬

(¬1) انظر الاستخارة في البخاري، 7/ 162، وحصن المسلم، ص45، للمؤلف. (¬2) سورة الأنعام، الآيتان: 162 - 163. (¬3) سورة الكهف، الآية: 110. (¬4) سورة الإسراء، الآية: 18. (¬5) مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله، برقم 2985. (¬6) أحمد في المسند،5/ 428 وحسنه الألباني في صحيح الجامع،2/ 45. (¬7) متفق عليه من حديث جندب - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب الرقاق، باب الرياء والسمعة، برقم 6499، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله، برقم 2987.

3 - على الحاج والمعتمر التفقه في أحكام العمرة والحج، وأحكام السفر قبل أن يسافر

إِلا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيّمَة} (¬1). 3 - على الحاج والمعتمر التفقه في أحكام العمرة والحج، وأحكام السفر قبل أن يسافر: من القصر، والجمع، وأحكام التيمم، والمسح على الخفين، وغير ذلك مما يحتاجه في طريقه إلى أداء المناسك قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)) (¬2). 4 - التوبة من جميع الذنوب والمعاصي، سواء كان حاجًّا أو معتمرًا، أو غير ذلك فتجب التوبة من جميع الذنوب والمعاصي، وحقيقة التوبة: الإقلاع عن جميع الذنوب وتركها، والندم على فعل ما مضى منها، والعزيمة على عدم العودة إليها، وإن كان عنده للناس مظالم ردّها وتحللهم منها، سواء كانت: عرضًا أو مالاً، أو غير ذلك من قبل أن يُؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أُخِذَ من سيئات أخيه فطرحت عليه (¬3). 5 - على الحاج أو المعتمر أن ينتخب المال الحلال لحجه وعمرته؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيّبًا؛ ولأن المال الحرام يسبب عدم إجابة الدعاء (¬4)، وأيما لحم نبت من سحت فالنار أولى به (¬5). 6 - يستحب للمسافر أن يكتب وصيته، وما له وما عليه فالآجال بيد الله تعالى: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ ¬

(¬1) سورة البينة، الآية: 5. (¬2) البخاري، من حديث معاوية - رضي الله عنه -،كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، برقم 71. (¬3) انظر: سورة النور، الآية: 31، والبخاري، كتاب الرقاق، باب القصاص يوم القيامة، برقم 6534، 6535. (¬4) انظر: صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب، برقم 1015. (¬5) أبو نعيم في الحلية بنحوه، 1/ 31، وأحمد في الزهد بمعناه، ص164 وفي المسند، 3/ 321، والدارمي، 2/ 229، وغيرهم، وصححه الألباني في صحيح الجامع، 4/ 172، وانظر: فتح الباري، 3/ 113.

7 - يستحب للمسافر أن يوصي أهله بتقوى الله تعالى، وهي وصية الله تعالى

وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده)) (¬2). ويشهد عليها، ويقضي ما عليه من الديون، ويرد الودائع إلى أهلها أو يستأذنهم في بقائها. 7 - يستحب للمسافر أن يوصي أهله بتقوى الله تعالى، وهي وصية الله تعالى للأولين والآخرين: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ الله وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ الله غَنِيًّا حَمِيدًا} (¬3). 8 - يستحب للمسافر أن يجتهد في اختيار الرفيق الصالح، ويحرص أن يكون من طلبة العلم الشرعي؛ فإن هذا من أسباب توفيقه وعدم وقوعه في الأخطاء في سفره وفي حجه وعمرته؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ((الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)) (¬4)؛ولقوله - صلى الله عليه وسلم - ((لا تصاحب إلا مؤمنًا ولا يأكل طعامك إلا تقي)) (¬5)، وقد مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - الجليس الصالح بحامل المسك، والجليس السوء بنافخ الكير (¬6). ¬

(¬1) سورة لقمان، الآية: 34. (¬2) متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: البخاري، كتاب الوصايا، باب الوصايا، برقم 2738، ومسلم، كتاب الوصية، برقم 1627. (¬3) سورة النساء، الآية: 131. (¬4) أبو داود، كتاب الأدب، باب من يؤمر أن يجالس، برقم 4833، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 3/ 188. (¬5) أبو داود، كتاب الأدب، باب من يؤمر أن يجالس، برقم 4832، والترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في صحبة المؤمن، برقم 2395، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، برقم 4832، وصحيح الترمذي، برقم 2519. (¬6) متفق عليه من حديث أبي موسى - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب المسك، برقم 5534، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب استحباب مجالسة الصالحين، ومجانبة قرناء السوء، برقم 2628.

9 - يستحب للمسافر أن يودع أهله، وأقاربه، وأهل العلم: من جيرانه

9 - يستحب للمسافر أن يودع أهله، وأقاربه، وأهل العلم: من جيرانه، وأصحابه، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من أراد سفرًا فليقل لمن يخلّف: أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه)) (¬1)، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يودع أصحابه إذا أراد أحدهم سفرًا فيقول: ((أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك)) (¬2)، وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول لمن طلب منه أن يوصيه من المسافرين: ((زوَّدك الله التقوى، وغفر ذنبك، ويسَّر لك الخير حيثُ ما كنتَ)) (¬3). وجاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يريد سفرًا فقال: يا رسول الله أوصني، فقال: ((أوصيك بتقوى الله والتكبير على كل شرف))، فلما مضى قال: ((اللهم ازوِ له الأرض، وهوّن عليه السفر)) (¬4). 10 - لا يصطحب معه الجرس والمزامير والكلب في السفر؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس)) (¬5).وعنه - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الجرس مزامير الشيطان)) (¬6). 11 - إذا أراد السفر بإحدى زوجاته إن كان له أكثر من واحدة أقرع بينهن فأي زوجة وقعت عليها القرعة خرجت معه؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج ¬

(¬1) أحمد، 2/ 403، ابن ماجه، الجهاد، باب تشييع الغزاة ووداعهم، برقم 2825، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 16، 2547، وصحيح سنن ابن ماجه، 2/ 133. (¬2) أبو داود، كتاب الجهاد، باب في الدعاء عند الوداع، برقم 2600،والترمذي، كتاب الدعوات، باب ما جاء فيما يقول إذا ودع إنسانًا، برقم 3442، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 155. (¬3) الترمذي، كتاب الدعوات، باب ما يقول إذا ودع إنسانًا، برقم 3444، وقال الألباني في صحيح سنن الترمذي، 3/ 419: ((حسن صحيح)). (¬4) الترمذي، كتاب الدعوات، باب منه وصيته - صلى الله عليه وسلم - المسافر بتقوى الله والتكبير على كل شرف، برقم 3445 وابن ماجه، كتاب الجهاد، باب فضل الحرس والتكبير في سبيل الله، برقم 2771. وأحمد، والحاكم، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 156، وصحيح ابن ماجه، 2/ 124، وصحيح ابن خزيمة، 4/ 149. (¬5) أخرجه مسلم، كتاب اللباس والزينة: باب كراهة الكلب والجرس في السفر، (برقم 2113). (¬6) أخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة، باب كراهة الكلب والجرس في السفر، (رقم 2114)، وأحمد في مسنده، (2/ 372)،وأبو داود في كتاب الجهاد، باب في تعليق الأجراس، (رقم 2556).

12 - يستحب له أن يخرج للسفر يوم الخميس من أول النهار؛ لفعله - صلى الله عليه وسلم -

سهمها خرج بها معه)) (¬1). وهذا هو السنة، إذا أراد أن يسافر ببعض نسائه، فالقرعة فيها راحة عظيمة (¬2). 12 - يستحب له أن يخرج للسفر يوم الخميس من أول النهار؛ لفعله - صلى الله عليه وسلم - قال كعب بن مالك - رضي الله عنه -: ((لقلَّما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج إذا خرج في سفر إلا يوم الخميس)) (¬3). ودعا لأمته - صلى الله عليه وسلم - بالبركة في أول النهار فقال: ((اللهم بارك لأمتي في بكورها)) (¬4). 13 - يستحبُّ له أن يدعو بدعاء الخروج من المنزل فيقول عند خروجه: ((بسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله (¬5)، اللهم إني أعوذ بك أن أضِلَّ أو أُضَلَّ، أو أزلَّ أو أُزَلَّ، أو أظلِمَ أو أُظلَمَ، أو أجهلَ أو يُجهلَ عليَّ)) (¬6). 14 - يستحبّ له أن يدعو بدعاء السفر، إذا ركب دابته، أو سيارته، أو الطائرة، أو غيرها من المركوبات فيقول: ((الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر)) ¬

(¬1) متفق عليه، البخاري، كتاب الهبة، باب هبة المرأة لغير زوجها، برقم 2593، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عائشة رضي الله عنها، برقم 2445. (¬2) سمعته من شيخنا الإمام ابن باز أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 2879. (¬3) البخاري، كتاب الجهاد، باب من أراد غزوة فورّى بغيرها ومن أحب الخروج يوم الخميس، برقم 2948. (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب في الابتكار في السفر (رقم 2606)، والترمذي في كتاب البيوع، باب ما جاء في التبكير بالتجارة، (رقم 1212)، وابن ماجه في كتاب التجارات، باب ما يرجى من البركة في البكور، (رقم 2236)، وأحمد في مسنده، (1/ 154، 3/ 416)، قال أبو عيسى: حديث حسن، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 2/ 494، وصحيح الترمذي، 2/ 7 - 8. (¬5) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب ما يقول إذا خرج من بيته، (رقم 5095)، والترمذي في كتاب الدعوات، باب ما يقول إذا خرج من بيته، (رقم 3426)، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 410، وصحيح أبي داود، 3/ 959. (¬6) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب ما يقول إذا خرج من بيته، (رقم 5094)، والترمذي في كتاب الدعوات، باب منه، (رقم 3427)، والنسائي في كتاب الاستعاذة، باب الاستعاذة من دعاء لا يستجاب، (رقم 5536)، وابن ماجه في كتاب الدعوات، باب ما يدعو الرجل إذا خرج من بيته، (رقم 3884)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 3/ 959، وصحيح الترمذي، 3/ 410 - 411.

15 - يستحب له أن لا يسافر وحده بلا رفقة

{سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ*وَإِنَّا إِلَى رَبّنَا لَمُنقَلِبُونَ} (¬1)، ((اللهمّ إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهمّ هوّن علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهمّ أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهمّ إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب: في المال، والأهل .. )) وإذا رجع من سفره قالهن وزاد فيهن: ((آيبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون)) (¬2). 15 - يستحبّ له أن لا يسافر وحده بلا رفقة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده)) (¬3).وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، الثلاثة ركب)) (¬4). 16 - يؤمِّر المسافرون أحدَهم؛ ليكون أجمعَ لشملهم، وأدعى لاتفاقهم، وأقوى لتحصيل غرضهم، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمّروا أحدهم)) (¬5). 17 - يستحب إذا نزل المسافرون منزلاً أن ينضمّ بعضهم إلى بعض، فقد كان بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نزلوا منزلاً تفرقوا في الشعاب والأودية، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان)) (¬6). فكانوا بعد ذلك ينضمُّ بعضُهم إلى بعض حتى لو بسط ¬

(¬1) سورة الزخرف، الآيتان: 13 - 14. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره، (رقم 1342). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب السير وحده، (رقم 2998). (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب في الرجل يسافر وحده، (رقم 2607)،والترمذي في كتاب الجهاد، باب ما جاء في كراهية أن يسافر الرجل وحده، (رقم 1674)،وقال: حديث حسن صحيح. وأحمد في مسنده، (2/ 186، 214)،والحاكم في المستدرك، (2/ 102) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وحسّنه الألباني في الصحيحة، (رقم 62)،وصحيح الترمذي، 2/ 245. (¬5) أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب في القوم يسافرون يؤمرون أحدهم، (رقم 2608، 2609)، وحسّنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 494، 495. (¬6) أبو داود، كتاب الجهاد، باب ما يؤمر من انضمام العسكر وسعته، برقم 2628، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 130.

18 - يستحب إذا نزل منزلا في السفر أو غيره من المنازل أن يدعو بما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم -

عليهم ثوب لوسعهم. 18 - يستحبّ إذا نزل منزلاً في السفر أو غيره من المنازل أن يدعو بما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم -: ((أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق))؛ فإنه إذا قال ذلك لم يضرَّه شيء حتى يرتحل من منزله ذلك (¬1). 19 - يستحبّ له أن يكبّر على المرتفعات ويسبح إذا هبط المنخفضات والأودية، قال جابر - رضي الله عنه -: ((كنا إذا صعدنا كبرنا وإذا نزلنا سبحنا)) (¬2)، ولا يرفعوا أصواتهم بالتكبير، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إنه معكم، إنه سميع قريب)) (¬3). 20 - يستحبّ له أن يدعوَ بدعاء دخول القرية أو البلدة فيقول إذا رآها: ((اللهم ربَّ السموات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما ذرين، أسألك خير هذه القرية وخير أهلها، وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها)) (¬4). 21 - يستحبّ له السير أثناء السفر في الليل وخاصة أوله؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((عليكم بالدُّلجة؛ فإن الأرض تُطوَى بالليل)) (¬5). ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره، (رقم 2709). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب التسبيح إذا هبط واديًا، (رقم 2993). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير، (رقم 2992)، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب خفض الصوت بالذكر، (رقم 2704). (¬4) أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة، (رقم 544)، وابن السني في عمل اليوم والليلة، (رقم 524)،وابن حبان كما في موارد الظمآن، (رقم 2377)،وابن خزيمة في صحيحه، (رقم 2565)، والحاكم في المستدرك، (1/ 446، 2/ 100)، وصححه ووافقه الذهبي، وحسّنه الحافظ ابن حجر. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، (10/ 137):رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن. وقال ابن باز رحمه الله في تحفة الأخيار، ص37: ((رواه النسائي بإسناد حسن)). (¬5) أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب في الدلجة، (رقم 2571)،والحاكم في مستدركه، (1/ 445)، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، والبيهقي في سننه الكبرى، (5/ 256)، وصححه الألباني في الصحيحة، (رقم 681)، وفي صحيح سنن أبي داود، 2/ 469.

22 - يستحب له أن يقول في السحر إذا بدا له الفجر

22 - يستحبّ له أن يقول في السحر إذا بدا له الفجر: ((سمّع سامعٌ بحمد الله وحسن بلائه علينا. ربنا صاحبنا، وأفضل علينا عائذًا بالله من النار)) (¬1). 23 - يستحبّ له أن يكثر من الدعاء في السفر؛ فإنه حريٌّ بأن تجاب دعوته، ويُعطى مسألته؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده)) (¬2)، ويكثر الحاج من الدعاء كذلك على الصفا والمروة، وفي عرفات، وفي المشعر الحرام بعد الفجر، وبعد رمي الجمرة الصغرى، والوسطى أيام التشريق؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر في هذه المواطن الستة من الدعاء ورفع يديه (¬3). 24 - يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر على حسب طاقته وعلمه، ولابد من أن يكون على علم وبصيرة فيما يأمر وفيما ينهى عنه، ويلتزم الرفق واللين، ولا شك أنه يُخشى على من لم ينكر المنكر أن يعاقبه الله - عز وجل - بعدم قبول دعائه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر أو ليوشكنَّ الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم)) (¬4). 25 - يبتعد عن جميع المعاصي، فلا يؤذي أحدًا بلسانه، ولا بيده، ولا يزاحم الحجاج والمعتمرين زحامًا يؤذيهم، ولا ينقل النميمة ولا يقع في ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل، (رقم 2718). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الوتر، باب الدعاء بظهر الغيب، (رقم 1536)، والترمذي في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في دعوة الوالدين، (رقم 1905)، وابن ماجه في كتاب الدعاء، باب دعوة الوالد ودعوة المظلوم، (رقم 3862)، وأحمد، 3/ 258، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 4/ 344، وغيره. (¬3) انظر: زاد المعاد لابن القيم، 2/ 227 و286. (¬4) أخرجه الترمذي، كتاب الفتن، باب ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، برقم 2169، وابن ماجه، وأحمد،5/ 388، وحسنه الترمذي، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 460.

26 - يحافظ على جميع الواجبات، ومن أعظمها الصلاة في أوقاتها مع الجماعة

الغيبة، ولا يجادل مع أصحابه وغيرهم إلا بالتي هي أحسن، ولا يكذب، ولا يقول على الله ما لا يعلم، وغير ذلك من أنواع المعاصي والسيئات قال سبحانه: {الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} (¬1)،وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} (¬2)، والمعاصي في الحرم ليست كالمعاصي في غيره، قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬3). 26 - يحافظ على جميع الواجبات، ومن أعظمها الصلاة في أوقاتها مع الجماعة، ويكثر من الطاعات: كقراءة القرآن، والذكر، والدعاء، والإحسان إلى الناس بالقول والفعل، والرفق بهم، وإعانتهم عند الحاجة. قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) (¬4). 27 - يتخلق بالخلق الحسن، ويخالق به الناس، والخلق الحسن يشمل: الصبر، والعفو، والرفق، واللين، والحلم، والأناة وعدم العجلة في الأمور، والتواضع، والكرم والجود، والعدل، والثبات، والرحمة، والأمانة، والزهد والورع، والسماحة، والوفاء، والحياء، والصدق، والبر والإحسان، والعفة، والنشاط، والمروءة؛ ولعظم فضل حسن الخلق قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا .. )) (¬5)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 198. (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 58. (¬3) سورة الحج، الآية: 25. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، برقم 6011، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، (رقم 2586). (¬5) أخرجه أبو داود في كتاب السنة، باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه، (رقم 4682)، والترمذي في كتاب الرضاع، باب ما جاء في حق المرأة على زوجها، (رقم1162)، وقال: حديث حسن صحيح. وأحمد في مسنده، (2/ 250، 472)، والحاكم في مستدركه، (1/ 3)، وقال: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في الصحيحة، (رقم 284)، وصحيح الترمذي، 1/ 594.

28 - يعين الضعيف، والرفيق في السفر: بالنفس، والمال، والجاه

الصائم القائم)) (¬1). 28 - يعين الضعيف، والرفيق في السفر: بالنفس، والمال، والجاه، ويواسيهم بفضول المال وغيره مما يحتاجون إليه، فعن أبي سعيد - رضي الله عنه - ((أنهم كانوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فقال: ((من كان معه فضل ظهر فليعُدْ به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل زاد فليعُدْ به على من لا زاد له))، فذكر من أصناف المال حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل)) (¬2). وعن جابر - رضي الله عنه - قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخلف في المسير فيزجي الضعيف (¬3)، ويردف، ويدعو لهم)) (¬4). وهذا يدل على رأفته - صلى الله عليه وسلم - وحرصه على مصالحهم؛ ليقتدي به المسلمون عامة، والمسؤولون خاصة. 29 - يتعجّل في العودة ولا يطيل المكث في السفر لغير حاجة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه، ونومه، فإذا قضى أحدكم نهمته فليعجل إلى أهله)) (¬5). 30 - يستحبّ له أن يقول أثناء رجوعه من سفره ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا قفل من غزو، أو حج، أو عمرة، يكبّر على كل شرف من ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في حسن الخلق، (رقم 4798)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، (3/ 911)، وفي صحيح الجامع، (رقم 1932). (¬2) أخرجه مسلم في كتاب اللقطة، باب استحباب المؤاساة بفضول المال، (رقم 1728). (¬3) ومعنى يزجي الضعيف: أي يسوقه ويدفعه حتى يلحق بالرفاق. انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، 2/ 297. (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب في لزوم الساقة، (رقم 2639)، والحاكم في المستدرك، (2/ 115)،وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في صحيح أبي داود، (2/ 500)، وفي الصحيحة، (رقم 2120). (¬5) أخرجه البخاري في كتاب العمرة، باب السفر قطعة من العذاب، (رقم 1804)، ومسلم في كتاب الإمارة، باب السفر قطعة من العذاب واستحباب تعجيل المسافر إلى أهله بعد قضاء شغله، (رقم 1927)، والنهمة: هي الحاجة.

31 - يستحب له إذا رأى بلدته أن يقول: آيبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون

الأرض ثلاث تكبيرات ثم يقول: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون، تائبون، عابدون، ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)) (¬1). 31 - يستحبّ له إذا رأى بلدته أن يقول: ((آيبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون)). ويردّد ذلك حتى يدخل بلدته؛ لفعله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). 32 - لا يقدم على أهله ليلاً إذا أطال الغَيْبة لغير حاجة إلا إذا بلَّغهم بذلك، وأخبرهم بوقت قدومه ليلاً؛ لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: ((نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يطرق (¬3) الرجل أهله ليلاً)) (¬4). ومن الحكمة في ذلك ما فسرته الرواية الأخرى: ((حتى تمتشط الشعثة، وتستحدَّ المغيَّبة))، وفي أخرى: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يطرق الرجل أهله ليلاً يتخوّنهم، أو يلتمس عثراتهم)) (¬5). 33 - يستحبّ للقادم من السفر أن يبتدئ بالمسجد الذي بجواره ويصلي فيه ركعتين؛ لفعله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه ((كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين)) (¬6). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب العمرة، باب ما يقول إذا رجع من الحج، (رقم 1797)، ومسلم في كتاب الحج، باب ما يقول إذا قفل من سفر الحج وغيره، (رقم 1344). (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره، (رقم 1342). (¬3) لا يطرق أهله: أي لا يدخل عليهم ليلاً إذا قدم من سفر. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب العمرة، باب لا يطرق أهله إذا بلغ المدينة، (رقم 1801)، ومسلم في كتاب الإمارة، باب كراهة الطروق وهو الدخول ليلاً لمن ورد من سفر، (رقم 1928/ 184). (¬5) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب كراهة الطروق وهو الدخول ليلاً لمن ورد من سفر، (رقم 1928/ 184). (¬6) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب الصلاة إذا قدم من سفر بعد الحديث رقم 443، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب الركعتين في المسجد لمن قدم من سفر أول قدومه، (رقم 716).

34 - يستحب للمسافر إذا قدم من سفر أن يتلطف بالولدان من أهل بيته وجيرانه ويحسن إليهم

34 - يستحب للمسافر إذا قدم من سفر أن يتلطف بالوِلْدَان من أهل بيته وجيرانه ويحسن إليهم إذا استقبلوه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة استقبله أُغيلمة بني عبد المطلب فحمل واحدًا بين يديه والآخر خلفه (¬1).وقال عبد الله بن جعفر - رضي الله عنه -: ((كان - صلى الله عليه وسلم - إذا قدم من سفر تُلُقّي بنا، فَتُلُقّيَ بي وبالحسن أو بالحسين فحمل أحدنا بين يديه والآخر خلفه حتى دخلنا المدينة)) (¬2). 35 - تستحبّ الهدية، لما فيها من تطييب القلوب وإزالة الشحناء، ويستحب قبولها، والإثابة عليها، ويكره ردّها لغير مانع شرعي؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ((تهادوا تحابّوا)) (¬3)، والهدية سبب من أسباب المودة بين المسلمين؛ ولهذا قال بعضهم: هدايا الناس بعضهم لبعض ... تولد في قلوبهم الوصالا وقد ذُكِرَ أن أحد الحجاج عاد إلى أهله فلم يقدّم لهم شيئًا فغضب واحد منهم وأنشد شعرًا فقال: كأن الحجيج الآن لم يقربوا منى ... ولم يحملوا منها سواكًا ولا نعلاً أتونا فما جادوا بعود أراكة ... ولا وضعوا في كف طفل لنا نقلا (¬4) ومن أجمل الهدايا ماء زمزم؛ لأنها مباركة، قال - صلى الله عليه وسلم - في ماء زمزم: ((إنها ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب العمرة، باب استقبال الحاج القادمين والثلاثة على الدابة، (رقم 1798)، وفي كتاب اللباس، باب الثلاثة على الدابة، (رقم 5965). (¬2) أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما، (رقم 2428/ 67)، وأبو داود في كتاب الجهاد، باب في ركوب ثلاثة على دابة، (رقم 2566)،وابن ماجه في كتاب الأدب، باب ركوب ثلاثة على دابة، (رقم 3773)، وانظر فتح الباري، (10/ 396). (¬3) أخرجه أبو يعلى في مسنده، (رقم 6148)، والبيهقي في سننه الكبرى، (6/ 169)، وفي شعب الإيمان، (رقم 8976)، والبخاري في الأدب المفرد، (رقم 594)، وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير، (3/ 70): إسناده حسن. وكذا حسّنه الألباني في إرواء الغليل، (رقم 1601). (¬4) انظر: المنهاج للمعتمر والحاج لسعود بن إبراهيم الشريم، ص124.

36 - إذا قدم المسافر إلى بلده استحبت المعانقة

مباركة، إنها طعام طعم [وشفاء سقم])) (¬1). وعن جابر - رضي الله عنه - يرفعه: ((ماء زمزم لما شُرِبَ له)) (¬2). ويُذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((كان يحمل ماء زمزم في الأداوي والقرب، فكان يصب على المرضى ويسقيهم)) (¬3). 36 - إذا قدم المسافر إلى بلده استحبت المعانقة؛ لما ثبت عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال أنس - رضي الله عنه -: ((كانوا إذا تلاقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفر تعانقوا)) (¬4). 37 - يستحب جمع الأصحاب وإطعامهم عند القدوم من السفر؛ لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة نحر جزورًا أو بقرة)). زاد معاذ عن شعبة عن محارب سمع جابر بن عبد الله يقول: ((اشترى مني النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيرًا بأوقيتين ودرهم أو درهمين، فلما قدم صرارًا (¬5) أمر ببقرة فذبحت فأكلوا منها ... )) الحديث (¬6). وهذا الطعام يقال له: (النقيعة)، وهي طعام يتخذه القادم من السفر (¬7)، وهذا الحديث وما جاء في معناه يدل على إطعام الإمام ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي ذر - رضي الله عنه -، (رقم 2473)، وما بين المعقوفين عند البزار، والبيهقي والطبراني، وإسناده صحيح، انظر: مجمع الزوائد، 3/ 286. (¬2) أخرجه ابن ماجه في كتاب المناسك، باب الشرب من زمزم، (رقم 3062)،والبيهقي في السنن الكبرى، (5/ 202)، وأحمد في المسند، (3/ 372)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 3/ 59، وإرواء الغليل، (رقم 1123)، والصحيحة، (رقم 883). (¬3) أخرجه الترمذي في كتاب الحج، باب رقم 115، (رقم 963) مختصرًا، والحاكم في المستدرك، (1/ 485)، وصححه الألباني في الصحيحة، (رقم 883)، وصحيح الجامع، (رقم 4931). (¬4) الطبراني في الأوسط (مجمع البحرين في زوائد المعجمين)، 5/ 262، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، 8/ 36، وقال: رجاله رجاله الصحيح. (¬5) صرار: موضع بظاهر المدينة على ثلاثة أميال منها من جهة المشرق. فتح الباري، 6/ 194. (¬6) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب الطعام عند القدوم، (رقم 3089)، واللفظ له، ومسلم مختصرًا في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب الركعتين في المسجد لمن قدم من سفر أول قدومه، (رقم 715/ 72). (¬7) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، 5/ 109 والقاموس المحيط، ص992، وانظر: المغني لابن قدامة، 1/ 191.

رابعا: الأصل في قصر الصلاة في السفر: الكتاب والسنة والإجماع:

والرئيس أصحابه عند القدوم من السفر، وهو مستحب عند السلف (¬1). رابعًا: الأصل في قصر الصلاة في السفر: الكتاب والسنة والإجماع: 1 - أما الكتاب فقول الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا} (¬2). وعن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} فقد أمن الناس، فقال: عجبتُ مما عجبت منه، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: ((صدقةٌ تصدَّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)) (¬3). 2 - وأما السنة فقد تواترت الأخبار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر في أسفاره: حاجًّا، ومعتمرًا، وغازيًا، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ((صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكر، وعمر، وعثمان كذلك، - رضي الله عنهم -)) (¬4). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((فرض الله الصلاة حين فرضها: ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فَأُقرَّت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر)). وفي لفظ للبخاري: ((فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - ففرضت أربعًا وتركت صلاة السفر على الأولى)) (¬5). زاد أحمد: إلا المغرب، فإنها وتر النهار، وإلا الصبح، فإنها تطول فيها ¬

(¬1) قاله ابن بطال كما في فتح الباري، 6/ 194. (¬2) سورة النساء، الآية: 101. (¬3) مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، برقم 686. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب التقصير، باب من لم يتطوع في السفر دبر الصلاة، برقم 1102، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، برقم 689. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء، برقم 350، وكتاب التقصير، باب يقصر إذا خرج من موضعه، برقم 1090، وكتاب مناقب الأنصار، باب التاريخ من أين أرَّخوا التاريخ، برقم 3935، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة المسافرين وقصرها، برقم 1570.

3 - وأما الإجماع

القراءة)) (¬1). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((فرض الله الصلاة على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم - في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة)) (¬2)، وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ((صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان)). وفي لفظ: ((صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين، ومع أبي بكر - رضي الله عنه - ركعتين، ومع عمر - رضي الله عنه - ركعتين، ثم تفرقت بكم الطرق، يا ليت حظي من أربع: ركعتان متقبلتان)) (¬3). 3 - وأما الإجماع، فقد أجمع أهل العلم على أن من سافر سفرًا تقصر في مثله الصلاة: في حج، أو عمرة، أو جهاد أن له أن يقصر الرباعية فيصليها ركعتين (¬4)، وأجمعوا على أن لا يقصر في المغرب ولا في صلاة الصبح (¬5). خامسًا: القصر في السفر أفضل من الإتمام؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله يحب أن تؤتى رُخصُه كما يكره أن تؤتى معصيته)) (¬6)، وفي رواية: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصُه كما يحب أن تؤتى عزائمُه)) (¬7). ولكن لو أتم المسافر الصلاة ¬

(¬1) مسند أحمد، 6/ 241، وابن خزيمة، برقم 305، وابن حبان، برقم 2738. (¬2) مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، برقم 687. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب التقصير، باب الصلاة بمنى، برقم 1084، وكتاب الحج، باب الصلاة بمنى، برقم 1656،ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب قصر الصلاة بمنى، برقم 695. (¬4) انظر: الإجماع لابن المنذر، ص46، والمغني لابن قدامة، 3/ 105. (¬5) انظر: الإجماع لابن المنذر، ص46. (¬6) أخرجه الإمام أحمد في المسند، 2/ 108، وصححه الألباني في إرواء الغليل، برقم 564. (¬7) أخرجه ابن حبان من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، 2/ 69، برقم 354، والطبراني في المعجم الكبير، برقم 11880، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 3/ 11، برقم 564.

الرباعية أربعًا فصلاته صحيحة ولكنه خالف الأفضل؛ لأن عائشة رضي الله عنها كانت تتم في السفر بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأتم عثمان - رضي الله عنه - بمنى (¬1)، ولكن ما داوم عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أسفاره أفضل بلا شك (¬2)، وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله يقول: ((أصل الصلاة ركعتان كما فرضها الله تعالى، ثم زاد فيها سبحانه في الحضر بعد الهجرة ثنتين، في العشاء، والظهر، والعصر، وبقيت صلاة السفر على حالها: الظهر، والعصر، والعشاء ركعتان، وهذا يؤيد الأصل، والمغرب والفجر بقيت على أصلها، فالقصر سنة مؤكدة، ولكن لا مانع من الإتمام في السفر، والقصر صدقة من الله، فمن صلى أربعًا فلا حرج، وقد كانت عائشة رضي الله عنها تتم في السفر، وتأولت أنه لا يشق عليها، ولم ينكر عليها الصحابة، وهي من أعلم الناس)) (¬3). ¬

(¬1) إتمام عائشة رضي الله عنها في السفر رواه مسلم، في كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة المسافرين وقصرها، برقم 3 - (685)، وإتمام عثمان - رضي الله عنه - في منى رواه البخاري في كتاب التقصير، باب الصلاة بمنى، برقم 1084، وكتاب الحج، باب الصلاة بمنى، برقم 1656، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب قصر الصلاة بمنى، برقم 695. (¬2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((وقد تنازع العلماء في التربيع [في السفر] هل هو محرم أو مكروه أو ترك الأولى؟ أو مستحب؟ أو هما سواء؟ على خمسة أقوال: ((أحدها: قول من يقول: الإتمام أفضل، كقولٍ للشافعي، والثاني: قول من يسوي بينهما كبعض أصحاب مالك، والثالث: قول من يقول القصر أفضل، كقول الشافعي الصحيح، وإحدى الروايتين عن أحمد، والرابع: قول من يقول: القصر واجب، كقول أبي حنيفة ومالك في رواية، وأظهر الأقوال: قول من يقول: إنه سنة والإتمام مكروه؛ ولهذا لا تجب نية القصر عند أكثر العلماء: كأبي حنيفة، ومالك، وأحمد في أحد القولين عنه في مذهبه)). مجموع الفتاوى، 24/ 9، 10، 21 - 22. (¬3) سمعته منه أثناء تقريره على بلوغ المرام، على الأحاديث ذات الأرقام 452، 453، 454، 455، وقال على حديث عائشة رضي الله عنها: ((إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر في السفر ويتم ويصوم ويفطر)) قال أهل العلم ليس بمحفوظ، بل هو شاذ، والمحفوظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في السفر أنه كان يقصر، فقد خالفت هذه الرواية رواية الثقات كأنس وغيره، لكن فعل عائشة يدل على الجواز كما تقدم، ولكن ما سار عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - هو أولى وأفضل، وقد كان عثمان يقصر ثم أتم بعد ذلك، وصلى معه بعض أصحابه.

سادسا: مسافة قصر الصلاة في السفر

وإذا نسي صلاة الحضر فذكرها في السفر فعليه أن يصليها صلاة حضر تامة من غير قصر إجماعًا؛ لأن الصلاة تعيَّن عليه فعلها أربعًا، فلم يجز له النقصان من عددها؛ ولأنه إنما يقضي ما فاته وقد فاته أربعٌ، وأما إن نسي صلاة السفر فذكرها في الحضر، فقال الإمام أحمد: عليه الإتمام احتياطًا، وبه قال الأوزاعي، وداود، والشافعي في أحد قوليه، وقال مالك والثوري وأصحاب الرأي: يصليها صلاة سفر؛ لأنه إنما يقضي ما فاته، ولم يفته إلا ركعتان (¬1)، والله - عز وجل - أعلم (¬2). وإن نسيها في سفر وذكرها فيه أو ذكرها في سفر آخر قضاها مقصورة؛ لأنها وجبت في السفر وفُعلت فيه (¬3). سادسًا: مسافة قصر الصلاة في السفر: قال البخاري رحمه الله: ((بابٌ: في كم يقصرُ الصلاة، وسمَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا وليلة سفرًا، وكان ابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهم - يقصران ويفطران في أربعة برد وهي ستة عشر فرسخًا)) (¬4)، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: ((قوله: بابٌ في كم ¬

(¬1) المغني لابن قدامة، 3/ 141 - 142، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف المطبوع مع المقنع والشرح الكبير، 5/ 53 - 54، وحاشية الروض المربع لابن قاسم، 2/ 387. (¬2) اختار العلامة محمد بن صالح العثيمين أن الراجح فيمن نسي صلاة سفر فذكرها في حضر صلاها قصرًا؛ لأنها صلاة وجبت عليه في سفر وصلاة السفر مقصورة فلا يلزمه إتمامها، وعلى هذا فللمسألة أربع صور: 1 - ذكر صلاة سفر في سفر، يقصر. 2 - ذكر صلاة حضر في حضر، يتم. 3 - ذكر صلاة سفر في حضر، يقصر على الصحيح. 4 - ذكر صلاة حضر في سفر، يتم. انظر: الشرح الممتع لابن عثيمين،4/ 517 - 519 و5/ 542 - 543. (¬3) المغني لابن قدامة، 3/ 142. (¬4) البخاري، كتاب التقصير، باب: في كم يقصر الصلاة؟ قبل الحديث رقم 1086، قال الحافظ ابن حجر عن أثر بن عمر وابن عباس: ((وصله ابن المنذر من رواية يزيد بن أبي حبيب عن عطاء بن أبي رباح: أن ابن عمر وابن عباس كانا يصليان ركعتين ويفطران في أربعة برد فما فوق ذلك)) فتح الباري، 2/ 566، وقال الألباني عن أثر ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما: ((صحيح ... وصله البيهقي في سننه، 3/ 137: إن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما كانا يصليان ركعتين ركعتين ويفطران في أربعة برد فما فوق ذلك وإسناده صحيح)). إرواء الغليل، 3/ 17.

يقصر الصلاة؟ يريد بيان المسافة التي إذا أراد المسافر الوصول إليها ساغ له القصر، ولا يسوغ له في أقل منها ... وقد أورد المصنف الترجمة بلفظ الاستفهام وأورد ما يدل على اختياره أن أقل مسافة القصر يوم وليلة)) (¬1). وقول البخاري رحمه الله: ((وسمى النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا وليلة سفرًا)). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((والمعنى سمى مدة اليوم والليلة سفرًا، كأنه يشير إلى حديث أبي هريرة المذكور عنده في الباب)) (¬2)، قلت: وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة)) (¬3)، وفي لفظ لمسلم: ((لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رجل ذو محرم منها)). وفي لفظ: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم)). وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم))، وفي لفظ: ((لا تسافر المرأة ثلاثًا إلا مع ذي محرم)). وفي لفظ لمسلم: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ثلاث ليال إلا ومعها ذو محرم)) (¬4). وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرًا يكون ثلاثة أيام فصاعدًا إلا ومعها أبوها، أو ابنها، أو زوجها، أو أخوها، أو ذو محرم منها)) (¬5). ومن حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يخلونَّ رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم)) (¬6). ¬

(¬1) فتح الباري، 2/ 566. (¬2) المرجع السابق، 2/ 566. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب التقصير، بابٌ: في كم يقصر الصلاة، برقم 1088، ومسلم، كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، برقم 1339. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب التقصير، بابٌ: في كم يقصر الصلاة، برقم 1086، ومسلم، كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره برقم 1338. (¬5) مسلم، كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، برقم 1341. (¬6) متفق عليه: البخاري، كتاب النكاح، باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، برقم 5233، ومسلم، كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى الحج وغيره، برقم 1341.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: ((فإن حُمل اليوم المطلق أو الليلة المطلقة على الكامل: أي يوم بليلته، أو ليلة بيومها قل الاختلاف واندرج في الثلاث فيكون أقل المسافة يومًا وليلة)) (¬1)،وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله: ((لا تقصر إلى عرفة وبطن نخلة، واقصر إلى عسفان (¬2)، والطائف، وجدة، فإذا قدمت على أهل أو ماشية فأتمَّ)) (¬3). والخلاصة أن الجمهور من أهل العلم على أن مسافة السفر التي تقصر فيها الصلاة أربعة بُرُد، والبريد مسيرة نصف يوم، وهو أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، فإذا كانت مسافة سفر الإنسان ستة عشر فرسخًا أو ثمانية وأربعين ميلاً فله أن يقصر عند الجمهور (¬4)، وهذا هو الأحوط للمسلم، وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله يقول (¬5): ((الأولى في هذا أن ما يعد سفرًا تلحقه أحكام السفر: من قصر وجمع، وفطر، وثلاثة أيام للمسح على الخفين؛ لأنه يحتاج إلى الزاد والمزاد: أي ما يعد سفرًا وما لا فلا، ولكن إذا عمل المسلم ¬

(¬1) فتح الباري، 2/ 566. (¬2) عسفان: منهلة من مناهل الطريق بين الجحفة ومكة. معجم البلدان، 4/ 121. (¬3) البيهقي في السنن الكبرى، 3/ 137،وابن أبي شيبة في مصنفه واللفظ له، 2/ 445، قال الألباني في إرواء الغليل، 3/ 14: ((وإسناده صحيح)). (¬4) المسافة التي إذا أراد المسافر الوصول إليها ساغ له القصر إذا خرج عن جميع بيوت قريته من الأمور التي اختلف فيه العلماء حتى حكاه ابن المنذر وغيره فيها نحوًا من عشرين قولاً، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن العلماء تنازعوا هل يختص القصر بسفر دون سفر، أو يجوز في كل سفر، واختار أن أظهر الأقوال أنه يجوز في كل سفر قصيرًا كان أو طويلاً، كما قصر أهل مكة خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة ومنى، وبين مكة وعرفة نحو بريد: أربعة فراسخ، ولكن لابد أن يكون ذلك مما يعد سفرًا مثل: أن يتزود له، ويبرز للصحراء، وتنازع العلماء في قصر أهل مكة، فقيل: كان ذلك لأجل النسك، وقيل: كان ذلك لأجل السفر، وكلا القولين قال به بعض أصحاب أحمد، والقول الثاني هو الصواب، وهو أنهم قصروا لأجل سفرهم؛ ولهذا لم يكونوا يقصرون بمكة وكانوا محرمين، والقصر معلق بالسفر وجودًا وعدمًا. انظر مجموع فتاوى ابن تيمية، 24 - 11 - 41. والمغني لابن قدامة، 3/ 105 - 109، وفتح الباري لابن حجر، 2/ 566 - 568. (¬5) سمعته منه أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 457.

بقول الجمهور وهو أنَّ ما يُعدُّ سفرًا هو يومين قاصدين (¬1)، أما البريد والفراسخ الثلاثة فلا تعد عندهم سفرًا، فلو عمل الإنسان بهذا القول فهذا حسن من باب الاحتياط؛ لئلا يتساهل الناس فيصلوا قصرًا فيما لا ينبغي لهم ذلك؛ لكثرة الجهل، وقلة البصيرة، ولا سيما عند وجود السيارات؛ فإن هذا قد يفضي إلى التساهل حتى يفطر في ضواحي البلد، واليومان هما سبعون كيلو أو ثمانون كيلو تقريبًا)) (¬2). وقال شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله تعالى: ((وقال بعض أهل العلم إنه يحدد بالعُرف ولا يحدد بالمسافة المقدرة بالكيلوات، فما يُعدُّ سفرًا في العُرف يسمى سفرًا، وما لا فلا (¬3)، والصواب ما قرره جمهور أهل ¬

(¬1) اليومان القاصدان هما أربعة برد، والبريد مسيرة نصف يوم، ومعنى القاصدين: أي لا يسير فيها الإنسان ليلاً ونهارًا سيرًا بحتًا، ولا يكون كثير النزول والإقامة، والبريد قدروه بأربعة فراسخ، فتكون أربعة برد ستة عشر فرسخًا، والفرسخ قدروه بثلاثة أميال، فتكون ثمانية وأربعين ميلاً، والميل المعروف ألف وستمائة متر، فتكون الأربعة برد =76.8 كيلو تقريبًا، وقيل: 80.64 كيلو، وقيل: 72، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: والميل المعروف = كيلو وستين في المائة. انظر: الشرح الممتع،4/ 496، تيسير العلام للبسام،1/ 273،والفتح الرباني للبنا، 5/ 108. (¬2) واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما تقدم أنه لا حدّ للسفر بالمسافة بل كل ما يعد سفرًا يتزود له ويبرز للصحراء فهو سفر، ورجحه العلامة ابن عثيمين، بل واختاره ابن قدامة في المغني. انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 109، ومجموع فتاوى ابن تيمية،24/ 11 - 135،ومجموع فتاوى ابن عثيمين،15/ 252 - 451، والاختيارات للسعدي، ص65. (¬3) ذكر ابن تيمية رحمه الله: أن حد السفر الذي علق عليه الشارع الفطر، والقصر اضطرب الناس فيه، فقيل: ثلاثة أيام، وقيل يومين، وقيل أقل من ذلك، حتى قيل: ميل، والذين حددوا ذلك بالمسافة، منهم من قال: ثمانية وأربعون ميلاً، ومنهم من قال: ستة وأربعون، وقيل: خمسة وأربعون، وقيل: أربعون، فالذين قالوا ثلاثة أيام، احتجوا بحديث يمسح المسافر ثلاثة أيام، وحديث لا تسافر المرأة مسيرة ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم ... والذين قالوا: يومين اعتمدوا على قول ابن عمر وابن عباس. مجموع الفتاوى، 24/ 38 - 40. وذكر ابن تيمية أيضًا أن ابن حزم قال: ((لم نجد أحدًا يقصر في أقل من ميل)). فتاوى ابن تيمية، 24/ 41. وعن أنس - رضي الله عنه - قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو فراسخ صلى ركعتين)) مسلم، في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، برقم 691، وقوله: ((ثلاثة أميال أو فراسخ)) شك من الراوي، وقال الظاهرية: مسافة القصر ثلاثة أميال، وأجيب عليهم بأنه مشكوك فيه فلا يحتج به على الثلاثة الأميال، نعم يحتج به على التحديد بالثلاثة الفراسخ إذ يحتج به على الثلاثة الأميال، نعم يحتج به على التحديد بالثلاثة الفراسخ إذ الأميال داخلة فيها فيؤخذ بالأكثر احتياطًا. انظر: فتح الباري لابن حجر، 2/ 567، وسبل السلام للصنعاني، 3/ 134، وسمعت هذا المعنى من شيخنا ابن باز أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 457. وقال ابن قدامة في المغني، 3/ 108: ((يحتمل أنه أراد إذا سافر سفرًا طويلاً قصر إذا بلغ ثلاثة أميال، كما قال في لفظه الآخر ((إن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالمدينة أربعًا وبذي الحليفة ركعتين)) وقال الصنعاني في سبل السلام،3/ 133: ((المراد من قوله إذا خرج: إذا كان قصده مسافة هذا القدر لا أن المراد أنه كان إذا أراد سفرًا طويلاً فلا يقصر إلا بعد هذه المسافة)).

سابعا: يقصر المسافر إذا خرج عن جميع بيوت قريته أو مدينته

العلم وهو التحديد بالمسافة التي ذكرت، وهذا الذي عليه أكثر أهل العلم فينبغي الالتزام بذلك)) (¬1). سابعًا: يقصر المسافر إذا خرج عن جميع بيوت قريته أو مدينته إذا كان سفره تقصر في مثله الصلاة، قال ابن المنذر رحمه الله: ((وأجمعوا على أن للذي يريد السفر أن يقصر الصلاة إذا خرج عن جميع البيوت من القرية التي خرج منها)) (¬2)، وهذا مذهب جمهور أهل العلم أن المسافر إذا أراد سفرًا تقصر في مثله الصلاة لا يقصر حتى يفارق جميع البيوت (¬3)، قال أنس - رضي الله عنه -: ((صليت الظهر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة أربعًا، وبذي الحليفة ركعتين))، وفي لفظ: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر بالمدينة أربعًا، وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين)) (¬4)، وهذا فيه دلالة على أنه ليس لمن نوى السفر أن يقصر حتى يخرج من عامر بيوت قريته أو مدينته أو خيام قومه ويجعلها وراء ظهره (¬5).وخرج علي - رضي الله عنه - فقصر وهو يرى البيوت، فلما رجع قيل له: هذه الكوفة؟ قال: لا، حتى ندخلها (¬6). ¬

(¬1) مجموع فتاوى ابن باز، 12/ 267. (¬2) الإجماع لابن المنذر، ص47. (¬3) انظر: فتح الباري لابن حجر، 2/ 569. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب تقصير الصلاة، باب يقصر إذا خرج من موضعه برقم 1089،وكتاب الحج، باب من بات بذي الحليفة حتى أصبح، برقم 1546، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، برقم 690. (¬5) انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 111، والشرح الكبير مع المقنع، 5/ 44، والإنصاف مع المقنع والشرح الكبير، 5/ 44، والشرح الممتع لابن عثيمين،4/ 512. (¬6) البخاري، كتاب التقصير، بابٌ: يقصر إذا خرج من موضعه، قبل الحديث رقم 1089.

ثامنا: إقامة المسافر التي يقصر فيها الصلاة

وإذا سافر بعد دخول وقت الصلاة فله قصرها؛ لأنه سافر قبل خروج وقتها، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن له قصرها، وهذا قول مالك، والأوزاعي، والشافعي، وأصحاب الرأي، وهو إحدى الروايتين في مذهب الحنابلة (¬1) والله أعلم (¬2). ثامنًا: إقامة المسافر التي يقصر فيها الصلاة، قال ابن المنذر رحمه الله: ((وأجمع أهل العلم لا اختلاف بينهم على أن لمن سافر سفرًا يقصر في مثله الصلاة وكان سفره في حج أو عمرة، أو غزو أن له أن يقصر مادام مسافرًا)) (¬3). فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ((خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين، قلت: كم أقام بمكة (¬4)؟ قال: عشرًا)) (¬5). قال ابن قدامة رحمه الله: ((وجملة ذلك أن من لم يُجمع إقامة مدة تزيد على إحدى وعشرين صلاة فله القصر ولو أقام سنين)) (¬6). أما إذا نوى الإقامة في بلد أكثر من أربعة أيام؛ فإنه يتم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم مكة في حجة الوداع يوم الأحد من ذي الحجة، وأقام فيها الأحد، والإثنين، والثلاثاء، والأربعاء، ثم خرج إلى منى يوم الخميس، فقد قدم لصبح رابعة، فأقام اليوم الرابع، والخامس، والسادس، والسابع، وصلى الفجر بالأبطح يوم الثامن، فكان يقصر الصلاة في هذه الأيام، وقد أجمع على إقامتها، فإذا أجمع المسافر أن يقيم كما أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - قصر، وإذا أجمع ¬

(¬1) المغني لابن قدامة، 3/ 143، وانظر: الإنصاف للمرداوي المطبوع مع المقنع، والشرح الكبير، 5/ 53، والرواية الثانية عند الحنابلة وهي الرواية الصحيحة من مذهبهم أنه يتمها. انظر: الإنصاف المطبوع مع المقنع والشرح الكبير، 5/ 53، المغني لابن قدامة، 3/ 143. (¬2) واختار العلامة ابن عثيمين القصر فقال: ((لو دخل وقت وهو في بلده ثم سافر فإنه يقصر، ولو دخل وقت الصلاة وهو السفر ثم دخل بلده فإنه يتم، اعتبارًا بحال فعل الصلاة)) الشرح الممتع، 4/ 523. (¬3) الإجماع لابن المنذر، ص47. (¬4) السائل هو الراوي عن أنس: يحيى بن أبي إسحاق. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب تقصير الصلاة، باب ما جاء في التقصير وكم يقيم حتى يقصر، برقم 1081، ومسلم كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة المسافرين وقصرها، برقم 693. (¬6) المغني لابن قدامة، 3/ 153.

على أكثر من ذلك أتمَّ (¬1)،قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لصبح رابعة يلبُّون بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة إلا من معه الهدي)) (¬2). قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله: ((إذا نوى أن يقيم بالبلد أربعة أيام فما دونها قصر الصلاة كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخل مكة، فإنه أقام بها أربعة أيام يقصر الصلاة، وإن كان أكثر ففيه نزاع، والأحوط أن يتم الصلاة، وأما إن قال غدًا أسافر، أو بعد غد أسافر، ولم ينوِ المقام فإنه يقصر؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام بمكة بضعة عشر يومًا، يقصر الصلاة، وأقام بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة. والله أعلم)) (¬3). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله يقول عن إقامة النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح بمكة تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة (¬4): ¬

(¬1) انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 147 - 148، والشرح الكبير المطبوع مع المقنع، 5/ 68، والإنصاف المطبوع مع الشرح الكبير، 5/ 168،وحاشية ابن قاسم على الروض المربع،2/ 390. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب التقصير، باب كم أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجته، برقم 1085. (¬3) مجموع الفتاوى لابن تيمية، 24/ 17، وسئل رحمه الله عن رجل يعلم أنه يقيم شهرين فهل يجوز له القصر فأجاب: ((الحمد لله هذه مسألة فيها نزاع بين العلماء منهم من يوجب الإتمام، ومنهم من يوجب القصر، والصحيح أن كليهما سائغ فمن قصر فلا ينكر عليه، ومن أتم لا ينكر عليه، وكذلك تنازعوا في الأفضل، فمن كان عنده شك في جواز القصر فأراد الاحتياط فالإتمام أفضل، وأما من تبينت له السنة، وعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشرع للمسافر أن يصلي إلا ركعتين، ولم يحد السفر بزمان أو بمكان، ولا حد الإقامة أيضًا بزمن محدود، لا ثلاثة، ولا أربعة، ولا اثنا عشر، ولا خمسة عشر، فإنه يقصر كما كان غير واحد من السلف يفعل، حتى كان مسروق قد ولَّوه ولاية لم يكن يختارها، فأقام سنين يقصر الصلاة، وقد أقام المسلمون بنهاوند ستة أشهر يقصرون الصلاة، وكانوا يقصرون الصلاة مع علمهم أن حاجتهم لا تنقضي في أربعة أيام ولا أكثر كما أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بعد فتح مكة قريبًا من عشرين يومًا يقصرون الصلاة، وأقاموا بمكة أكثر من عشرة أيام يفطرون في رمضان، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فتح مكة يعلم أنه يحتاج أن يقيم بها أكثر من أربعة أيام، وإذا كان التحديد لا أصل له فمادام المسافر مسافرًا يقصر الصلاة ولو أقام في مكان شهورًا والله أعلم)).مجموع الفتاوى، 24/ 17 - 18، وانظر: مواضع أخرى في الفتاوى، 24/ 140،و24/ 137، وانظر: الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص110، والشرح الممتع لابن عثيمين،4/ 529 - 539، والاختيارات الجلية للسعدي، ص66. (¬4) البخاري، كتاب التقصير، باب ما جاء في التقصير ولم يقيم حتى يقصر، برقم 1080، وفي كتاب المغازي، برقم 4298، 4299.

تاسعا: قصر الصلاة بمنى لأهل مكة وغيرهم من الحجاج

((وقد أقام - صلى الله عليه وسلم - في مصالح الإسلام والمسلمين، وهذه الإقامة لم يكن مجمعاً عليها؛ لهذه الأغراض، فلما حصل المقصود ارتحل إلى المدينة، ومن المعلوم أن المهاجر لا يقيم في بلده أكثر من ثلاثة أيام، ولكنه أقام لهذه المصالح، فإذا أقام المسافر إقامة لم يُجمعها قصر)) (¬1). وسمعته يقول عن إقامة النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة (¬2): ((وإقامته - صلى الله عليه وسلم - عشرين يومًا في تبوك ينظر فيما يتعلق بحرب الروم، هل يتقدم أم يرجع، ثم أذن الله له أن يرجع، واحتج بهذه القصة وقصة الفتح على أنه لا بأس بالقصر مدة الإقامة العارضة، ولو طالت، حتى قال أهل العلم: لو مكث سنين مادام لم يجمع إقامة؛ فإنه في سفر، وله أحكام السفر، وهذا هو الصواب، أما إذا أجمع إقامة فاختلف العلماء في مقدارها هل تقدر بعشرين يومًا، أو بتسعة عشر يومًا، أو بثلاثة أيام، أو أربعة أيام على أقوال: وأحسن ما قيل في ذلك: أربعة أيام؛ لأنها إقامة النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، فإذا أجمع الإقامة أكثر من أربعة أيام أتمَّ، وإن كانت أربعة فأقلّ قصر؛ لأنها إقامة معزوم عليها، وعليه الشافعي، وأحمد، ومالك، وبقول الشافعي وأحمد ومالك، تنتظم الأدلة، ويكون ذلك صيانة من تلاعب الناس، وهذا هو الأحوط، كما قال الجمهور: أربعة أيام؛ لأن ما زاد عنها غير مجمع عليه، وما نقص من هذا مجمع عليه: أي داخل في المجمع عليه)) (¬3). وبهذا يخرج المسلم من الخلاف ويترك ما يريبه إلى ما لا يريبه، والله - عز وجل - أعلم (¬4). تاسعًا: قصر الصلاة بمنى لأهل مكة وغيرهم من الحجاج؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: ((صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى ¬

(¬1) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 459،وانظر: فتح الباري لابن حجر، 2/ 562. (¬2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب إذا أقام بأرض العدو يقصر، برقم 1235، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 336. (¬3) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 461. (¬4) انظر: مجموع فتاوى الإمام ابن باز، 12/ 276، وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 8/ 99.

ركعتين، وأبي بكر، وعمر، ومع عثمان صدرًا من إمارته، ثم أتمها أربعًا)) (¬1).وعن عبد الرحمن بن يزيد قال: ((صلى بنا عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بمنى أربع ركعات، فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - فاسترجع، قال: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان)) (¬2). وعن يحيى بن أبي إسحاق عن أنس - رضي الله عنه - قال: ((خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة، قلت: أقمت بمكة شيئًا؟ قال: أقمنا بها عشرًا))، وفي لفظ مسلم: ((كم أقام بمكة؟ قال: عشرًا)). وفي لفظ لمسلم: ((خرجنا من المدينة إلى الحج ... )) (¬3). وحديث أنس هذا لا يعارض حديث ابن عباس: ((أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسعة عشر يقصر فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا وإن زدنا أتممنا)) (¬4)؛ لأن حديث ابن عباس كان في فتح مكة وحديث أنس في حجة الوداع، وقد قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لصبح رابعة من ذي الحجة، ولا شك أنه - صلى الله عليه وسلم - خرج من مكة صبح الرابع عشر فتكون مدة الإقامة بمكة وضواحيها في حجة الوداع عشرة أيام بلياليها كما قال أنس - رضي الله عنه - (¬5). وعن حارثة بن وهب الخزاعي - رضي الله عنه - قال: ((صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى والناس أكثر ما كانوا فصلى ركعتين في حجة الوداع)) (¬6). فهذه سنة ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب التقصير، باب الصلاة بمنى، برقم 1082، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب قصر الصلاة بمنى، برقم 694. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 1084، ومسلم، برقم 695، وتقدم تخريجه. (¬3) البخاري، كتاب تقصير الصلاة، باب ما جاء في التقصير وكم يقيم حتى يقصر؟ برقم 1580. (¬4) البخاري، كتاب تقصير الصلاة، باب ما جاء في التقصير، وكم يقيم حتى يقصر؟ برقم 1080. (¬5) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر، 2/ 562 - 563، وشرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 210. (¬6) متفق عليه: البخاري، كتاب تقصير الصلاة، باب الصلاة بمنى، برقم 1083، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب قصر الصلاة بمنى، برقم 696.

عاشرا: جواز التطوع على المركوب في السفر الطويل والقصير:

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فينبغي العمل بها واتباعها (¬1). عاشرًا: جواز التطوع على المركوب في السفر الطويل والقصير: يصح التطوع على المركوب في السفر: من راحلة، وطائرة، وسيارة، وسفينة وغيرها من وسائل النقل، أما الفريضة فلابد من النزول لها إلا عند العجز؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به، يومئ [برأسه] إيماء صلاة الليل إلا الفرائض ويوتر على راحلته)). وفي لفظ: ((غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة)) (¬2)؛ ولحديث عامر بن ربيعة - رضي الله عنه - قال: ((رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي على راحلته حيث توجهت به)). وفي لفظ: ((ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع ذلك في المكتوبة)). وفي لفظ: ((أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي السبحة بالليل في السفر على ظهر راحلته حيث توجهت به)) (¬3)؛ولحديث جابر - رضي الله عنه - قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على ¬

(¬1) أما إتمام عثمان - رضي الله عنه - فله تأويلات كثيرة ذكر الإمام ابن القيم منها ستة تأويلات يعتذر له بها، منها: أن الأعراب كثروا في ذلك العام، وقد قال له بعضهم: إنه صلى ركعتين فقال: ((يا أمير المؤمنين مازلت أصليها منذ رأيتك عام أول ركعتين)) فأحب عثمان - رضي الله عنه - أن يعلم الأعراب أن الصلاة أربع، وغير ذلك من التأويلات. أما عائشة رضي الله عنها، فقد قيل إنها تأولت أن القصر رخصة وأن الإتمام لمن لا يشق عليه أفضل، فعن عروة عن أبيه أنها كانت تصلي في السفر أربعًا فقلت لها: لو صليت ركعتين؟ فقالت: يا ابن أخي إنه لا يشق علي)) رواه البيهقي في السنن الكبرى، 3/ 143، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري، 2/ 571: ((إسناده صحيح)). وانظر: للفائدة لاستكمال الاعتذار لعثمان - رضي الله عنه - ولعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: زاد المعاد لابن القيم، 1/ 465 - 472، وفتح الباري لابن حجر، 2/ 570 - 571. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الوتر، باب الوتر في السفر، برقم 999، 1000، ورقم 1095، 1096، 1098، 1105، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت، برقم 700. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم 1093، 1104، ومسلم، برقم 701، وتقدم تخريجه.

راحلته حيث توجهت به، فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة)) (¬1).وفي لفظ: ((كان يصلي على راحلته نحو المشرق، فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل فاستقبل القبلة)). وفي هذا أحاديث أخرى كحديث أنس - رضي الله عنه - (¬2). ويستحب استقبال القبلة عند تكبيرة الإحرام؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سافر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة، فكبر، ثم صلى حيث وجهه ركابه)) (¬3)، فإذا لم يفعل ذلك فالصلاة صحيحة عملاً بالأحاديث الصحيحة كما رجحه شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله (¬4). وذكر الإمام النووي رحمه الله ((أن التنفل على الراحلة في السفر الذي تُقصر فيه الصلاة جائز بإجماع المسلمين ... )) (¬5). وأما السفر الذي لا تقصر فيه الصلاة فالصواب جواز ذلك، وهو مذهب الجمهور (¬6)؛ لقول الله تعالى: {وَلله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله إِنَّ الله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (¬7)، وقد رجح الإمام ابن جرير رحمه الله أن هذه الآية تدخل فيها صلاة التطوع في السفر على الراحلة حيثما توجهت بك راحلتك (¬8). وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله عن الإمام الطبري رحمه الله أنه احتج للجمهور: أن الله جعل التيمم رخصة للمريض والمسافر، وقد أجمعوا على أن من كان خارج المصر على ميل أو أقل ونيته العود إلى منزله لا إلى سفر آخر ولم يجد ماءً أنه ¬

(¬1) البخاري، برقم 400، 1094، 1099، 4140، وتقدم تخريجه. (¬2) صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب جواز صلاة النافلة على الدابة، برقم 702. (¬3) أبو داود برقم 1225، وحسنه الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام، الحديث رقم 228، وتقدم تخريجه. (¬4) سمعته يرجح ذلك أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 228. (¬5) شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 216. (¬6) انظر: فتح الباري لابن حجر،2/ 575، وشرح النووي، 5/ 217، والمغني لابن قدامة، 2/ 96. (¬7) سورة البقرة، الآية: 115. (¬8) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن،3/ 530،و533،وانظر: المغني لابن قدامة،2/ 95 - 96.

الحادي عشر: السنة ترك الرواتب في السفر إلا سنة الفجر

يجوز له التيمم، فكما جاز له التيمم في هذا القدر جاز له التنفل على الدابة لاشتراكهما في الرخصة (¬1). الحادي عشر: السنة ترك الرواتب في السفر إلا سنة الفجر، والوتر؛ لحديث حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، قال: صحبت ابن عمر في طريق مكة، قال: فصلى لنا الظهر ركعتين، ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جاء رحله، وجلس وجلسنا معه، فحانت منه التفاتةٌ نحوَ (¬2) حيثُ صلى، فرأى ناسًا قيامًا، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون، قال: لو كنت مسبحًا أتممت صلاتي، يا ابن أخي إني صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، ثم صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (¬3). أما سنة الفجر، والوتر فلا تُترك لا في الحضر ولا في السفر؛ لحديث عائشة رضي الله عنها في سنة الفجر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((لم يكن يدعهما أبدًا)) (¬4)؛ ولحديث أبي قتادة - رضي الله عنه - في نوم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في السفر عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس، وفيه: ((ثم أذن بلال بالصلاة فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين، ثم صلى الغداة فصنع كما كان يصنع كل يوم)) (¬5). وأما سنة الوتر؛ فلحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 2/ 575، وقد ذكر صاحب المغني أن الأحكام التي يستوي فيها السفر الطويل والقصير ثلاثة: التيمم، وأكل الميتة في المخمصة، والتطوع على الراحلة، وبقية الرخص تختص بالسفر الطويل. المغني لابن قدامة، 2/ 69. (¬2) المقصود: حصلت منه التفاتةٌ إلى جهة المكان الذي صلَّى فيه. انظر: شرح النووي، 5/ 204. (¬3) متفق عليه: البخاري بنحوه، كتاب التقصير، باب من لم يتطوع في السفر دبر الصلاة، برقم 1101، 1102، ومسلم بلفظه، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة المسافرين وقصرها، برقم 689. (¬4) متفق عليه: البخاري، برقم 1159، ومسلم، برقم 724، وتقدم تخريجه. (¬5) أخرجه مسلم، برقم 681، وتقدم تخريجه.

يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به، يومئ إيماء صلاة الليل إلا الفرائض، ويوتر على راحلته)). وفي لفظ: ((كان يوتر على البعير)) (¬1). قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((وكان تعاهده - صلى الله عليه وسلم - ومحافظته على سنة الفجر أشد من جميع النوافل ولم يكن يدعها هي والوتر سفرًا ولا حضرًا ... ولم ينقل عنه في السفر أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى سنة راتبة غيرهما)) (¬2). وأما التطوع المطلق فمشروع في الحضر والسفر مطلقًا، مثل: صلاة الضحى، والتهجد بالليل، وجميع النوافل المطلقة، والصلوات ذوات الأسباب: كسنة الوضوء، وسنة الطواف، وصلاة الكسوف، وتحية المسجد وغير ذلك (¬3). قال الإمام النووي رحمه الله: ((وقد اتفق العلماء على استحباب النوافل المطلقة في السفر ... )) (¬4). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الوتر، باب الوتر على الدابة، برقم 999، وباب الوتر في السفر، برقم 1000، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت به، برقم 700. (¬2) زاد المعاد في هدي خير العباد، 1/ 315. (¬3) انظر: مجموع فتاوى ومقالات للإمام ابن باز، 11/ 390 - 391. (¬4) شرح النووي صحيح مسلم، 5/ 205، وقال: ((واختلفوا في استحباب النوافل الراتبة فكرهها ابن عمر وآخرون، واستحبها الشافعي وأصحابه والجمهور، ودليله الأحاديث المطلقة في ندب الرواتب))، 5/ 205، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 2/ 577، وقال ابن قدامة: فأما سائر السنن والتطوعات قبل الفرائض وبعدها فقال أحمد: أرجو أن لا يكون بالتطوع في السفر بأس، وروي عن الحسن، قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسافرون فيتطوعون قبل المكتوبة وبعدها، وروي ذلك عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وجابر، وأنس، وابن عباس، وأبي ذر، وجماعة من التابعين كثير، وهو قول مالك، والشافعي، وإسحاق، وأبي ثور، وابن المنذر، وكان ابن عمر لا يتطوع مع الفريضة قبلها ولا بعدها، إلا من جوف الليل، ونقل ذلك عن سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعلي بن الحسين ... ثم قال: وحديث الحسن عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ذكرناه [مصنف ابن أبي شيبة، 1/ 382]، فهذا يدل على أنه لا بأس بفعلها، وحديث ابن عمر يدل على أنه لا بأس بتركها، فيجمع بين الأحاديث والله أعلم. المغني، 3/ 155 - 157. قلت: والصواب ما رجحه شيخنا الإمام ابن باز - رحمه الله -:أن المشروع ترك الرواتب في السفر، وهذا هو السنة أن يترك راتبة الظهر، والمغرب، والعشاء، ما عدا الوتر وسنة الفجر، فلا يتركهما؛ لحديث ابن عمر وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدع الرواتب في السفر، أما النوافل المطلقة فمشروعة في السفر والحضر، وهكذا ذوات الأسباب. انظر: فتاوى الإمام ابن باز، 11/ 390 - 391.

الثاني عشر: صلاة المقيم خلف المسافر صحيحة

الثاني عشر: صلاة المقيم خلف المسافر صحيحة ويتمُّ المقيم بعد سلام المسافر؛ للآثار في ذلك (¬1)،والإجماع، قال ابن قدامة رحمه الله: ((أجمع أهل العلم على أن المقيم إذا ائتمّ بالمسافر، وسلم المسافر من ركعتين أن على المقيم إتمام الصلاة)) (¬2). وعن عمر - رضي الله عنه - أنه كان إذا قدم مكة صلى بهم ركعتين ثم يقول: ((يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قومٌ سفرٌ)) (¬3). فظهر من ذلك أن المقيم إذا صلى خلف المسافر صلاة الفريضة: كالظهر، والعصر، والعشاء، فإنه يلزمه أن يكمل صلاته أربعًا، أما إذا صلى المقيم خلف المسافر طلبًا لفضل الجماعة، وقد صلى المقيم فريضته، فإنه يصلي مثل صلاة المسافر: ركعتين؛ لأنها في حقه نافلة (¬4). وإذا أمّ المسافر المقيمين فأتم بهم فصلاتهم تامة صحيحة وخالف الأفضل (¬5). الثالث عشر: صلاة المسافر خلف المقيم صحيحة، ويتم المسافر مثل صلاة إمامه، سواء أدرك جميع الصلاة، أو ركعة، أو أقل، وحتى لو ¬

(¬1) روي عن عمران - رضي الله عنه - يرفعه: ((أنه - صلى الله عليه وسلم - أقام بمكة زمان الفتح ثماني عشرة ليلة يصلي بالناس ركعتين ركعتين إلا المغرب ثم يقول: يا أهل مكة قوموا فصلوا ركعتين أخريين فإنا سفر)) أحمد بلفظه، 4/ 430، وأبو داود، كتاب صلاة السفر، باب متى يتم المسافر، برقم 1229، ولفظه: ((يا أهل البلد صلوا أربعًا فإنا قوم سفر)) وفي سنده علي بن زيد بن جدعان ضعيف، قال الشوكاني: ((وإنما حسّن الترمذي حديثه (545) لشواهده))، نيل الأوطار، 2/ 402. (¬2) المغني، 3/ 146، وانظر: نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 403. (¬3) مالك في الموطأ موقوفًا، كتاب قصر الصلاة في السفر، باب صلاة المسافر إذا كان إمامًا أو كان وراء الإمام، برقم 19، 1/ 149، قال الإمام الشوكاني في نيل الأوطار، 2/ 402: ((وأثر عمر رجال إسناده أئمة ثقات)). (¬4) انظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، للإمام ابن باز، 12/ 259 - 261. (¬5) انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 146،ومجموع فتاوى ابن باز، 12/ 260،وقد كان عثمان - رضي الله عنه - يتم بالناس في الحج في السنوات الأخيرة من خلافته، وثبت عن عائشة أنها كانت تتم الصلاة في السفر، وتقول: إنه لا يشق عليها، فلا حرج في إتمام المسافر، ولكن الأفضل ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه المشرع المعلم - صلى الله عليه وسلم -،انظر: مجموع فتاوى ابن باز،12/ 260،وحديث عثمان في مسلم، برقم 694، 695.

الرابع عشر: نية القصر أو الجمع عند افتتاح الصلاة والموالاة

دخل معه في التشهد الأخير قبل السلام فإنه يتم، وهذا هو الصواب من قولي أهل العلم؛ لما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما من حديث موسى بن سلمة رحمه الله قال: كنا مع ابن عباس بمكة فقلت: إنا إذا كنا معكم صلينا أربعًا وإذا رجعنا إلى رحالنا صلينا ركعتين، قال: ((تلك سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -)) (¬1). وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا صلى مع الإمام صلى أربعًا وإذا صلاها وحده صلى ركعتين (¬2). وذكر الإمام ابن عبد البر رحمه الله أن في إجماع الجمهور من الفقهاء على أن المسافر إذا دخل في صلاة المقيمين فأدرك منها ركعة أنه يلزمه أن يصلي أربعًا (¬3). وقال: ((قال أكثرهم إنه إذا أحرم المسافر خلف المقيم قبل سلامه أنه تلزمه صلاة المقيم، وعليه الإتمام)) (¬4). ومما يدل على أن المسافر إذا صلى خلف المقيم يلزمه الإتمام عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما جُعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه، فإذا كبَّر فكبّروا ... )) (¬5) (¬6). الرابع عشر: نية القصر أو الجمع عند افتتاح الصلاة والموالاة بين الصلاتين المجموعتين: اختلف العلماء هل يشترط للقصر والجمع نية؟ قال شيخ الإسلام ابن ¬

(¬1) أحمد في المسند، 1/ 216، قال الألباني في إرواء الغليل، 3/ 21: ((قلت وسنده صحيح رجاله رجال الصحيح))، والحديث أخرجه مسلم بلفظ: ((كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أصلّ مع الإمام))؟ فقال: ((ركعتين سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -))، مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، برقم 688. (¬2) مسلم، الكتاب والباب السابق، برقم 17 (688)، وانظر آثارًا في موطأ الإمام مالك، 1/ 149 - 150. (¬3) التمهيد، 16/ 311 - 312. (¬4) المرجع السابق، 16/ 315. (¬5) متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب الأذان، باب إقامة الصف من تمام الصلاة، برقم 722، ومسلم، كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، برقم 414. (¬6) انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 346، ومجموع فتاوى الإمام ابن باز، 12/ 159، 260، والشرح الممتع، لابن عثيمين،4/ 519.

تيمية رحمه الله: ((الجمهور لا يشترطون النية: كمالك، وأبي حنيفة، وهو أحد القولين في مذهب أحمد، وهو مقتضى نصوصه، والثاني تشترط: كقول الشافعي، وكثير من أصحاب أحمد: كالخرقي وغيره، والأول أظهر، ومن علم بأحد القولين لم ينكر عليه)) (¬1). وقال رحمه الله: ((والأول هو الصحيح الذي تدل عليه سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه كان يقصر بأصحابه ولا يعلمهم قبل الدخول في الصلاة أنه يقصر، ولا يأمرهم بنية القصر ... وكذلك لما جمع بهم لم يعلمهم أنه جمع قبل الدخول، بل لم يكونوا يعلمون أنه يجمع حتى يقضي الصلاة الأولى، فعلم أيضًا أن الجمع لا يفتقر إلى أن ينوي حين الشروع في الأولى)) (¬2)، وقال رحمه الله: ((والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان يصلي بأصحابه جمعًا وقصرًا لم يكن يأمر أحدًا منهم بنية الجمع والقصر، بل خرج من المدينة إلى مكة يصلي ركعتين من غير جمع، ثم صلى بهم الظهر بعرفة ولم يعلمهم أنه يريد أن يصلي العصر بعدها ثم صلى بهم العصر، ولم يكونوا نووا الجمع، وهذا جمع تقديم، وكذلك لما خرج من المدينة صلى بهم بذي الحليفة ركعتين ولم يأمرهم بنية قصر)) (¬3). وقال سماحة شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله: (( ... والراجح أن النية ليست بشرط عند افتتاح الصلاة الأولى، بل يجوز الجمع بعد الفراغ من الأولى إذا وجد شرطه: من خوف، أو مطر، أو مرض)) (¬4). فظهر أن الصحيح من قولي أهل العلم أن النية ليست بشرط عند افتتاح الصلاة في القصر والجمع (¬5). ¬

(¬1) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 24/ 16، وانظر: المغني لابن قدامة، 3/ 119. (¬2) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية،24/ 21،وانظر: الإنصاف المطبوع مع المقنع والشرح الكبير، 5/ 102. (¬3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 24/ 50. (¬4) مجموع فتاوى ابن باز، 12/ 294. (¬5) ورجح ذلك شيخ الإسلام كما تقدم، والإمام ابن باز، والسعدي في المختارات الجلية، ص67، والمرداوي في الإنصاف، المطبوع مع المقنع والشرح الكبير، 5/ 62، وابن عثيمين في الشرح الممتع، 4/ 523 - 525، و566، وانظر: الاختيارات الفقهية لابن تيمية، ص113.

الخامس عشر: رخص السفر:

أما الموالاة بين الصلاتين المجموعتين فقد اشترطها بعضهم، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، والعلامة السعدي، عدم اشتراط الموالاة (¬1). وقال شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله: ((الواجب في جمع التقديم الموالاة بين الصلاتين، ولا بأس بالفصل اليسير عُرفًا؛ لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) (¬2). أما جمع التأخير فالأمر فيه واسع؛ لأن الثانية تفعل في وقتها؛ ولكن الأفضل هو الموالاة بينهما تأسيًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، والله ولي التوفيق)) (¬3) والله أعلم (¬4). الخامس عشر: رخص السفر: من قواعد الشريعة: ((المشقة تجلب التيسير)) (¬5)، ولما كان السفر قطعة من العذاب؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه، ونومه، فإذا قضى نهمته فليعجل إلى أهله)) (¬6)، رتّب الشارع ما ¬

(¬1) انظر: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 24/ 51، و54، والاختيارات الفقهية له، ص112، والمختارات الجلية للسعدي، ص68، والإنصاف للمرداوي، 5/ 104. (¬2) البخاري، كتاب الأذان، برقم 631. (¬3) مجموع فتاوى الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز، 12/ 295. (¬4) قال العلامة ابن عثيمين: ((واختار شيخ الإسلام ابن تيمية: أنه لا تشترط الموالاة بين المجموعتين، وقال: إن معنى الجمع هو الضم بالوقت: أي ضم وقت الثانية للأولى بحيث يكون الوقتان وقتًا واحدًا ... وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله نصوصًا عن الإمام أحمد تدل على ما ذهب إليه من أنه لا تشترط الموالاة في الجمع بين الصلاتين تقديمًا كما أن الموالاة لا تشترط بالجمع بينهما تأخيرًا، والأحوط أن لا يجمع إذا لم يتصل، ولكن رأي شيخ الإسلام له قوة)) الشرح الممتع،4/ 568 - 569. والأقوال ثلاثة: الأول: الموالاة ليست شرطًا في جمع التقديم ولا في جمع التأخير، وهذا رأي شيخ الإسلام ابن تيمية. الثاني: الموالاة شرط في الجمعين؛ لأن الجمع هو الضم، وهو قول بعض العلماء. الثالث: تشترط الموالاة في جمع التقديم ولا تشترط في جمع التأخير، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة. الشرح الممتع لابن عثيمين،4/ 578. (¬5) انظر: إرشاد أولي البصائر والألباب للعلامة السعدي، ص113،ورسالة القواعد الفقهية له، ص49 - 50. (¬6) البخاري، كتاب العمرة، باب السفر قطعة من العذاب، برقم 1804.

1 - القصر؛ ولذلك ليس للقصر من الأسباب غير السفر

رتّب من الرخص، حتى ولو فُرِض خلوُّه من المشاق؛ لأن الأحكام تعلَّق بعللها العامة، وإن تخلفت في بعض الصور والأفراد، فالحكم الفرد يُلحق بالأعم، ولا يفرد بالحكم، وهذا معنى قول الفقهاء رحمهم الله: ((النادر لا حكم له))، يعني لا ينقض القاعدة ولا يخالف حكمه حكمها، فهذا أصل يجب اعتباره، فأعظم رخص السفر وأكثرها حاجة ما يأتي: 1 - القصر؛ ولذلك ليس للقصر من الأسباب غير السفر؛ ولهذا أضيف السفر إلى القصر لاختصاصه به، فتقصر الرباعية من أربع إلى ركعتين. 2 - الجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في وقت إحداهما، والجمع أوسع من القصر؛ ولهذا له أسباب أُخر غير السفر: كالمرض، والاستحاضة، والمطر، والوحل، والريح الشديدة الباردة، ونحوها من الحاجات، والقصر أفضل من الإتمام، بل يكره الإتمام لغير سبب، وأما الجمع في السفر فالأفضل تركه إلا عند الحاجة إليه، أو إدراك الجماعة، فإذا اقترن به مصلحة جاز. 3 - الفطر في رمضان من رخص السفر. 4 - الصلاة النافلة على الراحلة أو وسيلة النقل إلى جهة سيره. 5 - وكذلك المتنفل الماشي. 6 - المسح على الخفين، والعمامة، والخمار، ونحوها، ثلاثة أيام بلياليها؛ لحديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، قال: ((جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم)) (¬1). وأما التيمم فليس سببه السفر، وإن كان الغالب أن الحاجة إليه في السفر أكثر منه في ¬

(¬1) مسلم، كتاب الطهارة، باب التوقيت في المسح على الخفين، برقم 276.

7 - ترك الرواتب في السفر، ولا يكره له ذلك

الحضر، وكذلك أكل الميتة للمضطر عام في السفر والحضر، ولكن في الغالب وجود الضرورة في السفر. 7 - ترك الرواتب في السفر، ولا يكره له ذلك، مع أنه يكره تركها في الحضر، أما راتبة الفجر وصلاة الوتر، والصلوات المطلقة فتصلى حضرًا وسفرًا. 8 - من رخص السفر ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إذا مرض العبد أو سافر كُتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا)) (¬1). فالأعمال التي يعملها في حضره: من الأعمال القاصرة على نفسه، والمتعدية يجري له أجرها إذا سافر، وكذلك إذا مرض، فيا لها من نعمة ما أجلها وأعظمها. وأما صلاة الخوف فليس سببه السفر، ولكنه فيه أكثر (¬2). السادس عشر: الجمع وأنواعه ودرجاته: 1 - الجمع بعرفة؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((إنهم كانوا يجمعون بين الظهر والعصر في السُّنّة)) (¬3)، ((وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا فاتته الصلاة مع الإمام جمع بينهما)) (¬4). وعن جابر - رضي الله عنه - في حديثه في حجة الوداع، وفيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى بطن الوادي فخطب الناس، ثم أذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصلّ بينهما شيئًا)) (¬5). ومما يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين حديث أنس - رضي الله عنه - قال: ((خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة)). وفي لفظ لمسلم: ((خرجنا من المدينة ¬

(¬1) البخاري، كتاب الجهاد والسير، بابٌ: يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة، برقم 2996. (¬2) انظر: إرشاد أولي البصائر والألباب لنيل الفقه بأقرب الطرق وأيسر الأسباب، للعلامة السعدي، ص113 - 116 بتصرف يسير. (¬3) البخاري، كتاب الحج، باب الجمع بين الصلاتين بعرفة، برقم 1662. (¬4) البخاري، كتاب الحج، باب الجمع بين الصلاتين بعرفة، قبل الحديث رقم 1662. (¬5) مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 1218.

2 - الجمع بمزدلفة

إلى الحج .. )) (¬1). 2 - الجمع بمزدلفة؛ لحديث جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما أفاض من عرفة: ((أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما (¬2) شيئًا)) (¬3)؛ ولحديث أسامة بن زيد - رضي الله عنه -، وفيه: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاء المزدلفة نزل فتوضأ، فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء فصلاها، ولم يصلّ بينهما شيئًا)) (¬4)؛ ولحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المغرب والعشاء بِجَمْعٍ، ليس بينهما سجدة، وصلى المغرب ثلاث ركعات وصلى العشاء ركعتين)) (¬5). 3 - الجمع في الأسفار الأخرى أثناء السير في وقت الأولى أو الثانية أو بينهما؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين صلاة الظهر والعصر، إذا كان على ظهر سير (¬6)، ويجمع بين المغرب والعشاء)) (¬7)، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين المغرب والعشاء إذا جدَّ به السير (¬8))) (¬9)، وعن أنس - رضي الله عنه - قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 1081، ومسلم، برقم 693، وتقدم تخريجه في قصر الصلاة بمنى. (¬2) ولم يسبح بينهما: لم يصلّ صلاة النافلة. جامع الأصول لابن الأثير، 5/ 721. (¬3) مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 1218. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الحج، باب الجمع بين الصلاتين بمزدلفة، برقم 1672، ومسلم، كتاب الحج، باب الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة واستحباب صلاتي المغرب والعشاء جميعًا بالمزدلفة في هذه الليلة، برقم 1280. (¬5) مسلم، كتاب الحج، باب الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة واستحباب صلاتي المغرب والعشاء جميعًا بالمزدلفة في هذه الليلة، برقم 1288. (¬6) إذا كان على ظهر سير: أي إذا كان سائرًا. فتح الباري لابن حجر، 2/ 580. (¬7) البخاري، كتاب تقصر الصلاة، باب الجمع في السفر بين المغرب والعشاء، برقم 1107. (¬8) إذا جد به السير: أي إذا اهتم به وأسرع فيه. النهاية في غريب الحديث، 1/ 244، وقال الحافظ: ((إذا جد به السير: أي اشتد)). فتح الباري، 2/ 580. (¬9) متفق عليه: البخاري، كتاب التقصير، باب الجمع في السفر بين المغرب والعشاء برقم 1106، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر، برقم 703.

يجمع بين صلاة المغرب والعشاء في السفر)) (¬1). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((أورد فيه ثلاثة أحاديث (¬2): حديث ابن عمر وهو مقيد بما إذا جد السير، وحديث ابن عباس، وهو مقيد بما إذا كان سائرًا، وحديث أنس وهو مطلق، واستعمل المصنف الترجمة مطلقة إشارة إلى العمل بالمطلق؛ لأن القيد فرد من أفراده، وكأنه رأى جواز الجمع بالسفر: سواء كان سائرًا، أم لا، وسواء كان سيره مُجدًّا أم لا)) (¬3) وعلى ذلك كثير من الصحابة - رضي الله عنهم - (¬4)، وهو الذي تدل عليه الأحاديث الصحيحة الصريحة (¬5)، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان النبي ¬

(¬1) البخاري، كتاب تقصير الصلاة، باب الجمع في السفر بين المغرب والعشاء، برقم 1108. (¬2) يعني البخاري رحمه الله في قوله: ((باب الجمع في السفر بين المغرب والعشاء)). (¬3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 2/ 580. (¬4) اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في الجمع بين الصلاتين في السفر على أقوال: 1 - جواز الجمع مطلقًا في السفر في قول أكثر أهل العلم في وقت إحدى الصلاتين: الظهر والعصر، أو المغرب والعشاء، وعليه كثير من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكثير من التابعين، ومن الفقهاء: الثوري، والشافعي، وأحمد، ومالك. 2 - ومذهب أبي حنيفة لا يجوز الجمع إلا في يوم عرفة بعرفة، وليلة مزدلفة بها. 3 - وقيل يجوز جمع التأخير فقط وهو رواية عن أحمد، ومالك، واختاره ابن حزم. والصواب الذي تدل عليه الأدلة الصحيحة الصريحة هو القول الأول. انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 127، والشرح الكبير المطبوع مع المقنع والإنصاف، 5/ 85، وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 24/ 22، وفتح الباري لابن حجر، 2/ 580، وشرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 220، والإعلام بفوائد عمدة الأحكام لابن الملقن، 4/ 71. (¬5) قرَّر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن فعل كل صلاة في وقتها قصرًا أفضل في السفر إذا لم يكن به حاجة إلى الجمع؛ فإن غالب صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي كان يصليها في السفر إنما يصليها في أوقاتها، وإنما كان الجمع منه مرات قليلة، أما الجمع في عرفة ومزدلفة، فمتفق عليه ومنقول بالتواتر، وهو السنة، والجمع ليس كالقصر؛ فإن القصر سنة راتبة، وأما الجمع فإنه رخصة عارضة يختص بمحل الحاجة. انظر: فتاوى ابن تيمية، 24/ 19، و24/ 23، 27، وقال رحمه الله: ((ومن سوّى من العامة بين القصر والجمع فهو جاهل بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبأقوال علماء المسلمين)) مجموع الفتاوى، 24/ 27، وانظر: حاشية الروض المربع، لابن قاسم 2/ 396. وذكر المرداوي في الإنصاف المطبوع مع الشرح الكبير، 5/ 85: أن ترك الجمع أفضل على الصحيح من مذهب الحنابلة، وقيل: الجمع أفضل. وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين: ((الصحيح أن الجمع سنة إذا وجد سببه؛ لوجهين: الوجه الأول: أنه من رخص الله - عز وجل -، والله سبحانه يحب أن تؤتى رخصه. الوجه الثاني: أن فيه اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه كان يجمع عند وجود السبب المبيح للجمع)) الشرح الممتع، 4/ 548.

- صلى الله عليه وسلم - إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس (¬1) أخّر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، وإذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب)) (¬2)، وفي رواية للحاكم في الأربعين: ((صلى الظهر والعصر، ثم ركب)) (¬3)؛ ولأبي نعيم في مستخرج مسلم: ((كان إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا ثم ارتحل)) (¬4). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله يقول: ((هذا يدل على أن الجمع يراعى فيه الرحيل قبل الوقت وبعد الوقت، فإن كان الرحيل قبل الوقت جمع جمع تأخير، وإن كان بعد الوقت جمع جمع تقديم، هذا هو الأفضل، وكيفما جمع جاز؛ لأن الوقتين صارا وقتًا واحدًا، فلو صلى أول الوقت، أو آخره، فلا بأس، ففي حالة السفر والمرض يكون وقت الظهر والعصر وقتًا واحدًا، والمغرب والعشاء وقتًا واحدًا، ولكن الأفضل ما تقدم)) (¬5). ومما يدل على مشروعية جمع التقديم حديث معاذ - رضي الله عنه - قال: ((خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، فكان يصلي الظهر والعصر جميعًا، ¬

(¬1) تزيغ الشمس: زاغت الشمس، تزيغ: إذا مالت عن وسط السماء إلى الغرب. جامع الأصول لابن الأثير، 5/ 710. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب تقصير الصلاة، بابٌ: يؤخر الظهر إلى العصر إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس، برقم 1111،وبابٌ: إذا ارتحل بعدما زاغت الشمس صلى الظهر ثم ركب، برقم 1112. (¬3) قال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام، الحديث رقم 462، في رواية الحاكم في الأربعين: ((بإسناد صحيح)). وانظر: فتح الباري لابن حجر، 2/ 583، وزاد المعاد لابن القيم، 1/ 477 - 480. (¬4) عزاه إليه ابن حجر في بلوغ المرام، وقال الصنعاني في سبل السلام،3/ 144 في رواية المستخرج على صحيح مسلم: ((لا مقال فيها)).وقال الألباني في إرواء الغليل بعد ذكره للطرق: ((فقد تبيّن مما سبق ثبوت جمع التقديم في حديث أنس من طرق ثلاثة عنه)) إرواء الغليل، 3/ 34، و3/ 32 - 33. (¬5) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 462.

4 - درجات الجمع في السفر ثلاث

والمغرب والعشاء جميعًا)) (¬1). وقد فصل هذا الإجمال رواية الترمذي وأبي داود عن معاذ - رضي الله عنه -: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل زيغ الشمس أخّر الظهر إلى أن يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعًا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس عجل العصر إلى الظهر، وصلى الظهر والعصر جميعًا، ثم سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخّر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجّل العشاء فصلاها مع المغرب)) (¬2). 4 - درجات الجمع في السفر ثلاث (¬3): الدرجة الأولى: إذا كان المسافر سائرًا في وقت الصلاة الأولى فإنه ينزل في وقت الثانية فيصلي جمع تأخير في وقت الثانية (¬4)،فهذا هو الجمع الذي ثبت في الصحيحين من حديث أنس، وابن عمر، كما تقدم، وهو نظير جمع مزدلفة. الدرجة الثانية: إذا كان المسافر نازلاً في وقت الصلاة الأولى ويكون سائرًا في وقت الصلاة الثانية؛ فإنه يصلي جمع تقديم في وقت الأولى، ¬

(¬1) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر، برقم 106. (¬2) الترمذي، كتاب الجمعة، باب ما جاء في الجمع بين الصلاتين برقم 553، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب الجمع بين الصلاتين، برقم 1208، و1120، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 3/ 38، برقم 578، وفي صحيح سنن الترمذي، 1/ 307، وصحيح سنن أبي داود، 1/ 330. (¬3) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية،24/ 63. (¬4) وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: أن الجمع جائز في الوقت المشترك، فتارة يجمع في أول الوقت، كما جمع - صلى الله عليه وسلم - بعرفة، وتارة يجمع في وقت الثانية كما جمع - صلى الله عليه وسلم - بمزدلفة: وفي بعض أسفاره، وتارة يجمع فيما بينهما في وسط الوقتين، وقد يقعان معًا في آخر وقت الأولى، وقد يقعان معًا في أول وقت الثانية، وقد تقع هذه في هذا وهذه في هذا، وكل هذا جائز؛ لأن أصل هذه المسألة أن الوقت عند الحاجة مشترك، والتقديم، والتوسط، والتأخير بحسب الحاجة والمصلحة، ففي عرفة ونحوها يكون التقديم هو السنة، وكذلك جمع المطر: السنة أن يجمع للمطر في وقت المغرب، حتى اختلف مذهب أحمد هل يجوز أن يجمع للمطر في وقت الثانية؟ ... انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية،24/ 56.

الدرجة الثالثة: إذا كان المسافر نازلا في وقت الصلاتين جميعا نزولا مستمرا

وهذا نظير الجمع بعرفة، وهذا الذي ثبت من حديث أنس - رضي الله عنه - في رواية الحاكم ومستخرج مسلم لأبي نعيم، وثبت من حديث معاذ - رضي الله عنه - في سنن الترمذي وأبي داود كما تقدّم. الدرجة الثالثة: إذا كان المسافر نازلاً في وقت الصلاتين جميعًا نزولاً مستمرًا، فالغالب من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يجمع بينهما وإنما يصلي كل صلاة في وقتها مقصورة كما فعل - صلى الله عليه وسلم - في منى وفي أكثر أسفاره، ولكن قد يجمع أحيانًا أثناء نزوله نزولاً مستمرًا كما جاء عن معاذ - رضي الله عنه - أنهم خرجوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، ((فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، فأخّر الصلاة يومًا ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعًا، ثم دخل، ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعًا)) (¬1)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((ظاهره أنَّه كان نازلاً في خيمة في السفر، وأنه أخّر الظهر ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعًا، ثم دخل إلى بيته ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعًا، فإن الدخول والخروج إنما يكون في المنزل، وأما السائر فلا يقال: دخل وخرج بل نزل وركب ... وهذا دليل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع أحيانًا في السفر وأحيانًا لا يجمع، وهو الأغلب على أسفاره ... وهذا يبيّن أن الجمع ليس من سنة السفر كالقصر، بل يفعل للحاجة، سواء كان في السفر أو الحضر؛ فإنه قد جمع أيضًا في الحضر؛ لئلا يحرج أمته، فالمسافر إذا احتاج إلى الجمع جمع، سواء كان ذلك سيره وقت الثانية، أو وقت الأولى وشقَّ النزول عليه، أو كان مع نزوله لحاجة أخرى: مثل أن يحتاج إلى النوم والاستراحة وقت الظهر، ووقت العشاء، فينزل وقت ¬

(¬1) النسائي، كتاب المواقيت، باب الوقت الذي يجمع فيه المسافر بين الظهر والعصر، برقم 587، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب الجمع بين الصلاتين، برقم 1206، وموطأ الإمام مالك، كتاب قصر الصلاة، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر والسفر،1/ 143 - 144 وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 330، وفي صحيح سنن النسائي،1/ 196.

الظهر وهو تعبان، سهران، جائع محتاج إلى راحة وأكل ونوم، فيؤخر الظهر إلى وقت العصر، ثم يحتاج أن يقدم العشاء مع المغرب وينام بعد ذلك؛ ليستيقظ نصف الليل لسفره، فهذا ونحوه يباح له الجمع. وأما النازل أيامًا في قرية أو مصر وهو في ذلك كأهل المصر: فهذا وإن كان يقصر؛ لأنه مسافر فلا يجمع)) (¬1). واستُدِلَّ على أن المسافر يجمع بين الصلاتين عند الحاجة في نزوله في السفر بحديث أبي جحيفة - رضي الله عنه -:أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو نازل بمكة بالأبطح في حجة الوداع في قبة له حمراء من أدم، قال: فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - بالهاجرة عليه حلة حمراء، فتوضأ وأذن بلال، ثم رُكِزَت له عنزة فتقدم فصلى بهم بالبطحاء الظهر ركعتين، والعصر ركعتين ... )) (¬2)،قال النووي رحمه الله: ((فيه دليل على القصر والجمع في السفر، وفيه أن الأفضل لمن أراد الجمع وهو نازل في وقت الأولى أن يقدم الثانية إلى الأولى، وأما من كان في وقت الأولى سائرًا فالأفضل تأخير الأولى إلى وقت الثانية)) (¬3)،والله تعالى أعلم (¬4). ¬

(¬1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 24/ 64 - 65، وأما تلميذه ابن القيم فلا يرى الجمع وقت النزول، انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد، 1/ 481، وأما شيخنا عبد العزيز ابن باز، فيرى أن الجمع للمسافر وقت النزول لا بأس به، ولكن تركه أفضل. انظر: مجموع فتاوى ابن باز، 12/ 297. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الوضوء، باب استعمال فضل وضوء الناس، برقم 187، ومسلم، كتاب الصلاة، باب سترة المصلي، برقم 503. (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 468. (¬4) ذكر العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله خلاف العلماء في مسألة جمع المسافر أثناء السير والنزول: قال: أ - فمنهم من يقول: لا يجوز الجمع للمسافر إلا إذا كان سائرًا لا إذا كان نازلاً، وذكر أدلتهم. ب - والقول الثاني: أنه يجوز الجمع للمسافر سواء كان نازلاً، أم سائرًا واستدلوا بما يلي: 1 - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بغزوة تبوك وهو نازل. 2 - ظاهر حديث أبي جحيفة - رضي الله عنه - الثابت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان نازلاً بالأبطح في حجة الوداع فصلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين. 3 - عموم حديث ابن عباس: ((جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء في المدينة من غير خوف ولا سفر)). 4 - أنه إذا جاز الجمع للمطر ونحوه فجوازه في السفر من باب أولى. 5 - أن المسافر يشق عليه أن يفرد كل صلاة في وقتها: إما للعناء أو قلة الماء أو غير ذلك. قال رحمه الله: ((والصحيح أن الجمع للمسافر جائز لكنه في حق السائر مستحب وفي حق النازل جائز غير مستحب، إن جمع فلا بأس وإن ترك فهو أفضل)) الشرح الممتع، 4/ 550 - 553.

5 - الجمع للمريض الذي يلحقه بتركه مشقة وضعف جائز

5 - الجمع للمريض الذي يلحقه بتركه مشقة وضعف جائز؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر))، وفي لفظ: ((صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا، في غير خوف ولا سفر))، وسئل ابن عباس لِمَ فعل ذلك؟ قال: ((أراد أن لا يحرج أمته))، وفي لفظ: ((أراد أن لا يحرج أحدًا من أمته)) (¬1). وعنه - رضي الله عنه - قال: ((صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة ثمانيًا جميعًا، وسبعًا جميعًا، الظهر والعصر، والمغرب والعشاء)) (¬2). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((فانتفى أن يكون الجمع المذكور: للخوف، أو السفر، أو المطر، وجوز بعض العلماء أن يكون الجمع المذكور للمرض .. )) (¬3)، قال الإمام النووي رحمه الله: (( ... ومنهم من قال: هو محمول على الجمع بعذر المرض أو نحوه مما هو في معناه من الأعذار ... وهو المختار في تأويله لظاهر الحديث، ولفعل ابن عباس وموافقة أبي هريرة؛ ولأن المشقة فيه أشد من المطر ... )) (¬4). وقال شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله: ((الصواب حمل ¬

(¬1) مسلم، برقم 49 - (705)، ورقم 54 - (705)، وتقدم تخريجه في صلاة المريض. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب تأخير الظهر إلى العصر، برقم 543، وكتاب التطوع، باب من لم يتطوع بعد المكتوبة، برقم 1174، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر، برقم 55 - (705)، ورقم 65 - (705). (¬3) فتح الباري لابن حجر، 2/ 24. (¬4) شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 225 - 226، وانظر الإعلام بفوائد عمدة الأحكام للإمام عمر بن علي المعروف بابن الملقن، 4/ 80.

6 - الجمع في المطر الذي تحصل به المشقة على الناس

الحديث المذكور على أنه - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الصلوات المذكورة لمشقة عارضة ذلك اليوم: من مرض غالب، أو برد شديد، أو وحل، ونحو ذلك، ويدل على ذلك قول ابن عباس لما سئل عن علة هذا الجمع قال: ((لئلا يحرج أمته))، وهذا جواب عظيم، سديد، شافٍ. والله أعلم)) (¬1). وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر حمنة بنت جحش لما كانت مستحاضة بتأخير الظهر وتعجيل العصر، وتأخير المغرب وتعجيل العشاء (¬2)، وهذا هو الجمع الصوري (¬3). والمرض المبيح للجمع هو ما يلحقه به بتأدية كل صلاة في وقتها مشقة وضعف، والمريض مخير في جمع التقديم والتأخير على حسب ما يكون أيسر له، فإن استوى عنده الأمران فالتأخير أولى (¬4). والله الموفق (¬5). 6 - الجمع في المطر الذي تحصل به المشقة على الناس؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر)). وفي لفظ: ((في غير خوف ولا ¬

(¬1) تعليق الإمام ابن باز على فتح الباري لابن حجر، 2/ 24. (¬2) أبو داود، برقم 287، والترمذي، برقم 128، وحسنه الألباني في إرواء الغليل، برقم 188، وقد تقدم تخريجه في صلاة المريض، وفي الطهارة في أحكام المستحاضة. (¬3) وقال ابن قدامة، رحمه الله: ((وقد روي عن أبي عبد الله أنه قال في حديث ابن عباس: هذا عندي رخصة للمريض والمرضع)) وقال ابن قدامة أيضًا: ((وكذلك يجوز الجمع للمستحاضة، ولمن به سلسل البول، ومن في معناهما)) المغني لابن قدامة، 3/ 135 - 136، وانظر: الشرح الكبير المطبوع مع المقنع والإنصاف، 5/ 90. (¬4) انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 135 - 136 والشرح الكبير المطبوع مع المقنع، والإنصاف المطبوع مع المقنع والشرح الكبير، 5/ 90، والكافي لابن قدامة، 1/ 460 - 462، وفتاوى ابن تيمية، 1/ 233، 22/ 292، و24/ 14، 29. (¬5) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (( ... فلهذا كان مذهب الإمام أحمد وغيره من العلماء كطائفة من أصحاب مالك وغيره: أنه يجوز الجمع بين الصلاتين إذا كان عليه حرج، فيجمع بينهما المريض، وهو مذهب مالك وطائفة من أصحاب الشافعي ... )) مجموع فتاوى شيخ الإسلام،1/ 433،وانظر: حاشية ابن قاسم على الروض المربع، 2/ 398 - 400،وانظر: التمهيد لابن عبد البر،12/ 211 - 214.

سفر))، فسئل لِمَ فعل ذلك؟ قال: ((أراد أن لا يحرج أمته)) (¬1). قال المجد ابن تيمية رحمه الله: ((وهذا يدل بفحواه على الجمع للمطر، والخوف، والمرض، وإنما خولف ظاهر منطوقه في الجمع لغير؛ للإجماع؛ ولأخبار المواقيت، فيبقى فحواه على مقتضاه، وقد صح الحديث في الجمع للمستحاضة، والاستحاضة نوع مرض)) (¬2). وقال العلامة الألباني رحمه الله عن قول ابن عباس رضي الله عنهما: ((في غير خوف ولا مطر)) (( ... يشعر أن الجمع في المطر كان معروفًا في عهده - صلى الله عليه وسلم -، ولو لم يكن كذلك لما كان ثمة فائدة من نفي المطر كسبب مبرر للجمع فَتَأمَّل)) (¬3). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن قول ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا: ((من غير خوف ولا مطر))، ((ولا سفر)): ((والجمع الذي ذكره ابن عباس لم يكن بهذا ولا هذا، وبهذا استدل أحمد به على الجمع لهذه الأمور بطريق الأولى؛ فإن هذا الكلام يدل على أن الجمع لهذه الأمور أولى، وهذا من باب التنبيه بالفعل؛ فإنه إذا جمع يرفع الحرج الحاصل بدون الخوف، والمطر، والسفر، فالحرج الحاصل بهذه أولى أن يرفع، والجمع لها أولى من الجمع لغيرها)) (¬4). وقد جاء في الجمع بسبب المطر آثار (¬5) عن الصحابة والتابعين، فعن نافع أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء في المطر جمع معهم)) (¬6). وعن هشام بن عروة أن أباه عروة، وسعيد بن المسيب، وأبا بكر بن ¬

(¬1) مسلم، برقم 705، وتقدم تخريجه في صلاة المريض. (¬2) المنتقى من أخبار المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، باب جمع المقيم لمطر أو غيره، 2/ 4. (¬3) إرواء الغليل، 3/ 40. (¬4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 24/ 76. (¬5) انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 132. (¬6) موطأ الإمام مالك، كتاب قصر الصلاة في السفر، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر والسفر، برقم 5، 1/ 145، والبيهقي، 3/ 168، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 3/ 41، برقم 583.

عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي، كانوا يجمعون بين المغرب والعشاء في الليلة المطيرة إذا جمعوا بين الصلاتين، ولا ينكرون ذلك)) (¬1). وعن موسى بن عقبة أن عمر بن عبد العزيز كان يجمع بين المغرب والعشاء الآخرة إذا كان المطر، وأن سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وأبا بكر بن عبد الرحمن، ومشيخة ذلك الزمان كانوا يصلون معهم ولا ينكرون ذلك)) (¬2)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((فهذه الآثار تدل على أن الجمع للمطر من الأمر القديم المعمول به بالمدينة زمن الصحابة والتابعين، مع أنه لم ينقل أن أحدًا من الصحابة والتابعين أنكر ذلك فعلم أنه منقول عندهم بالتواتر جواز ذلك، لكن لا يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجمع إلا للمطر، بل إذا جمع لسبب هو دون المطر مع جمعه أيضًا للمطر، كان قد جمع من غير خوف ولا مطر، كما أنه إذا جمع في السفر، وجمع في المدينة كان قد جمع في المدينة من غير خوف ولا سفر، فقول ابن عباس: جمع من غير كذا ولا كذا ليس نفيًا منه للجمع بتلك الأسباب، بل إثبات منه؛ لأنه جمع بدونها، وإن كان قد جمع بها أيضًا)) (¬3). والله أعلم (¬4)،قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((والمطر المبيح للجمع هو ما يبل الثياب وتلحق المشقة بالخروج فيه، وأما الطل والمطر الخفيف الذي لا يبل الثياب، فلا يبيح، والثلج كالمطر في ذلك؛ لأنه في ¬

(¬1) البيهقي في الكبرى، 3/ 168، وصحح إسناده الألباني في إرواء الغليل، 3/ 40. (¬2) البيهقي في السنن الكبرى،3/ 168،وصحح إسناده الألباني في إرواء الغليل،3/ 40. (¬3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 24/ 83. (¬4) يذكر بعض الفقهاء عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: جمع بين المغرب والعشاء في ليلة مطيرة. قالوا: رواه النجَّاد بإسناده، وذكر الألباني في إرواء الغليل، 3/ 39 أنه ضعيف جدًّا. رواه الضياء المقدسي، أما النجاد الذي عُزي إليه الحديث فله مسند، وكتاب كبير في السنن، ولم يعثر الألباني إلى على أجزاء يسيرة من أحاديث ولم يجد الحديث فيها فلعله في الأجزاء المفقودة. الإرواء 3/ 40.

7 - الجمع لأجل الوحل الشديد

معناه، وكذلك البَرَد)) (¬1). والجمع للمطر، ونحوه الأفضل أن يقدم في وقت الأولى؛ لأن السلف إنما كانوا يجمعون في وقت الأولى؛ ولأنه أرفق بالناس، ولا شك أنه إذا جاز الجمع صار الوقتان وقتًا واحدًا (¬2). 7 - الجمع لأجل الوحل الشديد (¬3)، والريح الشديدة الباردة؛ لحديث عبد الله بن عباس أنه قال لمؤذنه في يوم مطير: إذا قلت أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله فلا تقل حي على الصلاة، قل: صلوا في بيوتكم، فكأن الناس استنكروا ذلك فقال: أتعجبون من ذا؟ فقد فعل ذا من هو خير مني إن الجمعة عزمة (¬4)، وإني كرهت أن أُحرجكم فتمشوا في الطين والدحض)). وفي لفظ: ((أذن مؤذّن ابن عباس في يوم الجمعة في يوم مطير ... وقال: وكرهت أن تمشوا في الدحض والزلل (¬5))) (¬6). ذكر النووي رحمه الله أن هذا الحديث دليل على تخفيف أمر الجماعة في المطر ونحوه من الأعذار، وأنها متأكدة إذا لم يكن عذر، وأنها مشروعة لمن ¬

(¬1) المغني لابن قدامة، 3/ 133. (¬2) انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 136، وفتاوى شيخ الإسلام، 25/ 230، 24/ 56، والشرح الممتع لابن عثيمين،4/ 563. (¬3) الوحل: الطين الرقيق الملوث بالرطوبة، وهو الزلق، والوحل، والدحض، والزلل، والزلق، الردغ كله بمعنى واحد، وقيل: هو المطر الذي يبل وجه الأرض. شرح النووي على صحيح مسلم،5/ 215، وانظر: حاشية الروض المربع لابن قاسم،2/ 403. (¬4) الجمعة عزمة: أي واجبة متحتمة: شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 244. (¬5) مسلم، برقم 699، وتقدم تخريجه في صلاة الجماعة: في أعذار ترك الجماعة. (¬6) والخلاصة أن الجمع بين الصلاتين يجوز في حالات: 1 - في سفر القصر. 2 - ولمريض يلحقه بترك الجمع مشقة، والمستحاضة. 3 - المرضع إذا كان يشق عليها غسل الثوب في وقت كل صلاة. 4 - في المطر. 5 - والدحض الشديد. 6 - والريح الشديدة الباردة. 7 - ولكل عذر يبيح ترك الجمعة والجماعة. انظر: الشرح الممتع، 4/ 558، والاختيارات الفقهية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص112، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف المطبوع مع المقنع والشرح الكبير، 5/ 90. والجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر، مجموع فتاوى ابن تيمية،24/ 84،و22/ 31،53، 54.

تكلف الإتيان إليها، وتحمل المشقة؛ لقوله في الرواية الأخرى: ((ليصلّ من شاء في رحله)) (¬1)، وأنها مشروعة في السفر. والحديث دليل على سقوط الجمعة بعذر المطر ونحوه (¬2). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((فأما الوحل فبمجرد فقال القاضي: قال أصحابنا: هو عذر؛ لأن المشقة تلحق بذلك في النعال، والثياب كما تلحق بالمطر، وهو قول مالك ... )) (¬3) ثم إن هذا القول أصح؛ لأن الوحل يلوث الثياب والنعال، ويتعرض الإنسان للزلق، فيتأذى بنفسه وثيابه، وذلك أعظم من البلل، وقد ساوى المطر في العذر في ترك الجمعة والجماعة، فدل على تساويهما في المشقة المرعية في الحكم)) (¬4). وكذلك الريح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة يجوز الجمع فيها؛ لحصول المشقة (¬5). وسُئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن صلاة الجمع في المطر بين العشائين: هل يجوز من البرد الشديد، أو الريح الشديدة، أم لا يجوز إلا من المطر خاصة؟ فأجاب: ((الحمد لله رب العالمين، يجوز الجمع بين العشائين للمطر، والريح الشديدة الباردة، والوحل الشديد، وهذا أصح قولي العلماء، وهو ظاهر مذهب أحمد، ومالك، وغيرهما، والله أعلم)) (¬6)، ثم قال: ((وذلك أولى من أن يصلُّوا في بيوتهم، بل ترك الجمع مع الصلاة في البيوت بدعة مخالف للسنة، إذ السنة أن تصلى الصلوات الخمس في المساجد جماعة، وذلك أولى من الصلاة في ¬

(¬1) مسلم، برقم 698، وتقدم تخريجه في أعذار ترك الجماعة. (¬2) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 213 - 216. (¬3) المغني، 3/ 133. (¬4) المغني، 3/ 133 - 134. (¬5) انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 134. (¬6) مجموع فتاوى شيخ الإسلام، 24/ 29.

البيوت باتفاق المسلمين)) (¬1). وقد اختلف العلماء في جواز الجمع بين الظهر والعصر، في الأعذار المبيحة للجمع في الحضر، فقال قوم: لا يجوز الجمع إلا للمغرب والعشاء؛ لأن الألفاظ وردت بالجمع في الليلة المطيرة، والقول الثاني: جواز الجمع بين الظهر والعصر؛ لأن الألفاظ لا تمنع أن يجمع في يوم مطير؛ لأن العلة هي المشقة، فإذا وجدت المشقة في ليل أو نهار جاز الجمع (¬2)، وقال العلامة محمد بن قاسم رحمه الله: ((الوجه الآخر يجوز [الجمع] بين الظهرين كالعشائين، اختاره القاضي، وأبو الخطاب، والشيخ، وغيرهم، ولم يذكر الوزير عن أحمد غيره، وقدمه، وجزم به، وصححه غير واحد، وهو مذهب الشافعي)) (¬3)، وقال العلامة السعدي رحمه الله: ((والصحيح جواز الجمع إذا وجد العذر، ولا يشترط غير وجود العذر، لا موالاة ولا نية ... )) (¬4) وقال شيخنا عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله: ((أما الجمع فأمره أوسع؛ فإنه يجوز للمريض، ويجوز أيضًا للمسلمين في مساجدهم عند وجود المطر، أو الدحض، بين المغرب والعشاء، وبين الظهر والعصر، ولا يجوز لهم القصر؛ لأن القصر مختص بالسفر فقط، وبالله التوفيق)) (¬5). وبيّن رحمه الله أن الضابط في الجمع بين الصلاتين وجود العذر، فإذا وجد العذر جاز أن يجمع بين الصلاتين: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، لعذر المرض، والسفر، والمطر الشديد في أصح قولي العلماء ¬

(¬1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام، 24/ 30. (¬2) انظر: الشرح الممتع، لابن عثيمين،4/ 558. (¬3) حاشية الروض المربع، لابن قاسم، 2/ 402، وذكر القولين ابن قدامة في المغني، 3/ 132، وفي الكافي، 1/ 459، والمرداوي في الإنصاف المطبوع مع المقنع والشرح الكبير، 5/ 96. (¬4) المختارات الجلية، ص68. (¬5) مجموع فتاوى ابن باز، 2/ 289 - 290.

وبعض أهل العلم يمنع الجمع بين الظهر والعصر في البلد للمطر ونحوه: كالدحض الذي تحصل به مشقة، والصواب جواز ذلك كالجمع بين المغرب والعشاء، إذا كان الدحض أو المطر شديدًا تحصل به المشقة، فإذا جمع بين الظهر والعصر جميع تقديم فلا بأس كالمغرب والعشاء، سواء جمع في أول الوقت، أو في وسطه)) (¬1). وأما صلاة العصر في جميع الأعذار فلا يصح أن تجمع إلى صلاة الجمعة؛ لأن الجمعة صلاة منفردة مستقلة في شروطها، وهيئاتها، وأركانها، وثوابها، والسنة إنما وردت في الجمع بين الظهر والعصر، ولم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه جمع العصر إلى الجمعة، فلا يصح أن تقاس الجمعة على الظهر، ولكن لو صلى المسافر ظهرًا يوم الجمعة ولم يصل الجمعة مع المقيمين فلا حرج أن يجمع إليها العصر؛ لأن المسافر لا جمعة عليه؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الظهر والعصر في حجة الوداع، يوم الجمعة يوم عرفة، بأذان واحد وإقامتين ولم يصل جمعة، ومن جمع من أهل الأعذار صلاة العصر مع الجمعة فعليه أن يعيد صلاة العصر؛ لأنه صلى قبل الوقت على وجه لا يجوز فيه الجمع، فلا يجوز الجمع بين صلاة الجمعة والعصر: لا في سفر، ولا مطر، ولا وحل، ولا غير ذلك، وإنما يجب على من صلى الجمعة من أهل الأعذار أن يصلي العصر في وقتها (¬2). ¬

(¬1) انظر: مجموع فتاوى ابن باز 2/ 292. (¬2) انظر: مجموع فتاوى الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز 12/ 300، و12/ 301 - 303، والشرح الممتع للعلامة محمد بن صالح العثيمين،4/ 572.

المبحث التاسع والعشرون: صلاة الخوف

المبحث التاسع والعشرون: صلاة الخوف أولاً: مفهوم صلاة الخوف: الصلاة: لغة الدعاء، واصطلاحًا: عبادة لله ذات أقوال وأفعال معلومة، مخصوصة، مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم، وسميت صلاة لاشتمالها على: دعاء العبادة، ودعاء المسألة (¬1). والخوف لغة: الفزع والذُّعر، قال ابن فارس رحمه الله: ((الخاء، والواو، والفاء أصل واحد يدل على الذُّعر والفزع، يقال: خفت الشيء خوفًا، وخيفة .. )) (¬2) مصدر خاف. واصطلاحًا: اضطراب في النفس؛ لتوقع نزول مكروه، أو فوات محبوب، ومنه إخافة السبيل (¬3). قال الإمام الحافظ المعروف بابن الملقن رحمه الله: ((والخوف غمٌّ على ما سيكون، والحزن غمٌّ على ما مضى)) (¬4). ثانيًا: سماحة الإسلام ويسر الشريعة ومحاسنها مع الكمال ورفع الحرج، لا شك أن دين الإسلام: دين الرحمة، والبركة، والإحسان، والحكمة، ودين فطرة، ودين العقل، والصلاح، والفلاح، والشرع الإسلامي لا يأتي بما تحيله العقول، ولا بما ينقضه العلم الصحيح، وهذا من أكبر الأدلة على أن ما عند الله - عز وجل - محكم ثابت، صالح لكل زمان ومكان (¬5). ¬

(¬1) انظر: لسان العرب، لابن منظور، باب الياء، فصل الصاد، 14/ 465، والمغني لابن قدامة، 3/ 5، وتقدم التفصيل في مفهوم الصلاة في منزلة الصلاة في الإسلام. (¬2) معجم المقاييس في اللغة؛ لابن فارس، كتاب الخاء، باب الخاء والواو، وما يثلثهما، ص336. (¬3) معجم لغة الفقهاء، للأستاذ الدكتور محمد رواس، ص180. (¬4) الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، 4/ 281، 349. (¬5) انظر: الدرة المختصرة في محاسن الدين الإسلامي، للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ص17، 19، 39.

أ - من القرآن الكريم آيات كثيرة وهي على نوعين:

وقد دلت الأدلة من القرآن العظيم، والسنة النبوية الشريفة على يسر الشريعة الإسلامية وسماحتها، وعلى رفع الحرج، ومن هذه الأدلة ما يأتي: أ - من القرآن الكريم آيات كثيرة وهي على نوعين: النوع الأول: الآيات الكريمة التي تنص على نفي الحرج، ومنها: 1 - قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬1)، أي لم يجعل عليكم في الدين مشقةً، وعسراً، بل يسره غاية التيسير، وسهّله غاية السهولة، فلم يُلزم إلا بما هو سهل على النفوس: لا يُثقلها، ثم إذا عرض بعض الأسباب الموجبة للتخفيف خفَّف - سبحانه وتعالى - ما أمر به: إما بإسقاطه، أو إسقاط بعضه، ويؤخذ من هذه الآية قاعدة شرعية: وهي أن المشقة تجلب التيسير، والضرورات تبيح المحظورات، فيدخل في ذلك من الأحكام الفرعية شيء كثير معروف في كتب الأحكام (¬2). 2 - قال الله - عز وجل -: {مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬3) لم يجعل الله - سبحانه وتعالى - علينا فيما شرع لنا من حرج، ولا مشقة، ولا عسر، وإنما هو رحمة منه بعباده (¬4). 3 - قال تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لله وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬5)،وهذه الآية أصل في سقوط التكاليف عن ¬

(¬1) سورة الحج، الآية: 78. (¬2) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص547. (¬3) سورة المائدة، الآية: 6. (¬4) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير المنان، للسعدي، ص224. (¬5) سورة التوبة، الآية:91،وانظر: سورة النور:61،وسورة الأحزاب: 37 - 38،وسورة الفتح: 17.

النوع الثاني: الآيات التي تدل على التيسير والتخفيف، ومنها:

العاجز، فكل من عجز عن شيء سقط عنه، فتارة إلى بدل هو فعل، وتارة إلى عزم هو غرم، ولا فرق بين العجز من جهة المال، والعجز من جهة القوة (¬1)، ويستدل بهذه الآية على قاعدة وهي: أن من أحسن إلى غيره في نفسه أو في ماله، ونحو ذلك، ثم ترتب على إحسانه نقص أو تلف أنه غير ضامن، ولا سبيل على المحسنين، كما أنه يدل على أن غير المحسن وهو السيئ: كالمفرط والمتعدي أن عليه الضمان (¬2). 4 - قال الله تعالى: {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (¬3)، فأصل الأوامر والنواهي ليست الأمور التي تشق على النفوس، بل هي غذاء للأرواح، ودواء للأبدان، وحمية عن الضرر، فالله أمر العباد بما أمرهم به رحمة وإحسانًا، ومع هذا إذا حصل بعض الأعذار التي هي مظنة المشقة حصل التخفيف والتسهيل، إما بإسقاطه عن المكلف أو إسقاط بعضه، كما في التخفيف عن المريض، والمسافر، والخائف، وغيرهم (¬4) وغير ذلك من الآيات. النوع الثاني: الآيات التي تدل على التيسير والتخفيف، ومنها: 1 - قال الله - عز وجل -: {يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬5) أي يريد الله تعالى أن ييسّر عليكم الطرق الموصلة إلى رضوانه أعظم تيسير، ويسهّلها أبلغ تسهيل؛ ولهذا كان جميع ما أمر به عباده في غاية السهولة في أصله، وإذا حصلت بعض العوارض الموجبة لثقله سهَّله تسهيلاً آخر: إما ¬

(¬1) انظر: رفع الحرج في الشريعة الإسلامية، للدكتور صالح بن حميد، ص61. (¬2) انظر: تيسير الكريم الرحمن، للسعدي، ص348. (¬3) سورة البقرة، الآية: 286، والأعراف: 42، والمؤمنون: 57 - 62، والبقرة: 33، والطلاق: 71، والأنعام: 152. (¬4) انظر: تيسير الكريم الرحمن، للسعدي، ص120. (¬5) سورة البقرة، الآية: 185.

بإسقاطه، أو تخفيفه بأنواع التخفيفات، وهذه جملة لا يمكن تفصيلها؛ لأن تفاصيلها جميع الشرعيات، ويدخل فيها جميع الرخص والتخفيفات (¬1). 2 - قال تبارك وتعالى: {يُرِيدُ الله أَن يُخَفّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفًا} (¬2) أي بسهولة ما أمركم به وما نهاكم عنه، ثم مع حصول المشقة في بعض الشرائع أباح لكم ما تقتضيه حاجاتكم، وذلك لرحمته التامة، وإحسانه الشامل، وعلمه، وحكمته بضعف الإنسان من جميع الوجوه: ضعف البنية، وضعف الإرادة، وضعف العزيمة، وضعف الإيمان، وضعف الصبر، فناسب ذلك أن يخفف الله عنه ما يَضْعُف عنه، وما لا يطيقه إيمانه وصبره وقوته (¬3). 3 - قال تعالى: {وَنُيَسّرُكَ لِلْيُسْرَى} (¬4) وهذه بشارة كبيرة أن الله - عز وجل - ييسّر رسوله - صلى الله عليه وسلم - لليسرى في جميع أموره، ويجعل شرعه ودينه يسرًا (¬5). 4 - قال - عز وجل -: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (¬6) هذه بشارة عظيمة أنه كل ما وُجد عسر وصعوبة فإن اليسر يقارنه، حتى لو دخل العسر جحر ضب لدخل عليه اليسر فأخرجه، كما قال الله تعالى: {سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} (¬7) وتعريف ((العسر)) في الآيتين يدل أنه واحد، وتنكير ((اليسر)) يدل على تكراره، فلن يغلب عسرٌ يسرين، وفي تعريف العسر بالألف واللام الدالة على استغراق العموم يدل على أن ¬

(¬1) انظر: تيسير الكريم الرحمن، للسعدي، ص87. (¬2) سورة النساء، الآية: 28. (¬3) انظر: تيسير الكريم الرحمن، للسعدي، ص175. (¬4) سورة الأعلى، الآية: 8. (¬5) انظر: تيسير الكريم الرحمن، ص921. (¬6) سورة الشرح، الآيتان: 5 - 6. (¬7) سورة الطلاق، الآية: 7.

ب - الأدلة من السنة على اليسر والسماحة والسهولة كثيرة منها:

كل عسر وإن بلغ من الصعوبة ما بلغ فإن في آخره التيسير ملازم له (¬1). ب - الأدلة من السنة على اليسر والسماحة والسهولة كثيرة منها: 1 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الدين يسر، ولن يشادَّ الدين أحدٌّ إلا غلبه (¬2)، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا: بالغدوة، والروحة، وشيء من الدُّلجة (¬3) [القصد القصد (¬4) تبلغوا))] (¬5). 2 - قال الإمام البخاري رحمه الله: بابٌ: الدين يسرٌ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة)) (¬6)، والمقصود أن أحب خصال ¬

(¬1) انظر: تيسير الكريم الرحمن، ص 929. (¬2) ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه: المعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيُغلَب، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة؛ فإنه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته كمن بات يصلي الليل كله ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقت المختار، أو إلى أن خرجت الشمس فخرج وقت الفريضة. فتح الباري للحافظ ابن حجر، 1/ 94. (¬3) الغدوة: أول النهار، والروحة: آخر النهار بعد الزوال، والدلجة السير آخر الليل، وقيل: سير الليل كله، وهذه الأوقات أطيب أوقات المسافر، وكأنه - صلى الله عليه وسلم - خاطب مسافرًا إلى مقصد، فنبهه على أوقات نشاطه؛ لأن المسافر إذا سافر الليل والنهار جميعًا عجز وانقطع، وإذا تحرى السير في هذه الأوقات المنشطة أمكنه المداومة من غير مشقة، وحسن هذه الاستعارة أن الدنيا في الحقيقة دار نقلة إلى الآخرة، وأن هذه الأوقات بخصوصها أروح ما يكون فيها البدن للعبادة. فتح الباري لابن حجر، 1/ 95. (¬4) القصد، القصد: بالنصب فيهما الإغراء، والقصد: الأخذ بالأمر الأوسط، فالأولى للعبد أن لا يجهد نفسه بحيث يعجز عن العمل وينقطع، بل يعمل بتلطف وتدرج ليدوم عمله ولا ينقطع. فتح الباري للحافظ ابن حجر، 1/ 95. (¬5) البخاري، كتاب الإيمان، باب الدين يسر، برقم 39، وما بين المعقوفين من كتاب الرقاق، باب: كيف كان عيش النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وتخليهم عن الدنيا، برقم 6463. (¬6) البخاري، كتاب الإيمان، باب: الدين يسر، قبل الحديث رقم 39،قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري، 1/ 94: ((وهذا الحديث المعلق لم يسنده المؤلف في هذا الكتاب (يعني صحيح البخاري) لأنه ليس على شرطه، نعم وصله في كتاب الأدب المفرد [رقم 287، وكذا وصله أحمد بن حنبل برقم 2107] وغيره، بإسناد حسن، فتح الباري،1/ 94،وحسنه الألباني لغيره في صحيح الأدب المفرد، ص122، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 881،وانظر: أيضًا سلسلة الأحاديث الصحيحة، رقم 1635.

الدين الحنيفية، وخصال الدين كلها محبوبة، لكن ما كان منها سمحًا - أي سهلاً - فهو أحب إلى الله تعالى، والحنيفية: ملة إبراهيم، والحنيف في اللغة ما كان على ملة إبراهيم، وسمي إبراهيم حنيفًا؛ لميله عن الباطل إلى الحق؛ لأن أصل الحنف الميل، والسمحة: السهلة: أي إنها مبنية على السهولة (¬1). 3 - وعن أسامة بن شريك - رضي الله عنه - قال: شهدتُ الأعراب يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم -: أعلينا حرج في كذا؟ أعلينا حرج في كذا؟ فقال لهم: ((عباد الله وضع الله الحرج إلا من اقترض من عرض أخيه شيئًا فذلك الذي حرج)) (¬2)، فقالوا: يا رسول الله، هل علينا جناح أن نتداوى؟ قال: ((تداووا عباد الله، فإن الله سبحانه لم يضع داءً إلا وضع معه شفاء، إلا الهرم)) قالوا: يا رسول الله، ما خير ما أُعطي العبد؟ قال: ((خلق حسن)) (¬3). 4 - وعن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يسّروا ولا تعسّروا، وبشّروا ولا تنفّروا)) (¬4). 5 - وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه ومعاذ بن جبل إلى اليمن فقال: ((يسّرا ولا تُعسّرا، وبشّرا ولا تُنفّرا، وتطاوعا ولا تختلفا)) (¬5). قال الإمام النووي رحمه الله: ((إنما جمع هذه الألفاظ بين الشيء وضده؛ لأنه قد يفعلهما في وقتين، فلو اقتصر على ((يسّروا)) لصدق ذلك على من يسر مرة أو مرات وعسر في معظم الحالات، فإذا قال ((ولا تُعسّروا)) انتفى ¬

(¬1) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 1/ 94. (¬2) فذلك الذي حرج: أي الذي حُرم. (¬3) ابن ماجه بلفظه، في كتاب الطب، باب ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاء، برقم 4336، وأحمد، 4/ 278، والحاكم، 4/ 198، وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 3/ 158، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 433. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب العلم، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا، برقم 69، ومسلم، كتاب الجهاد، باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير، برقم 1734. (¬5) مسلم، كتاب الجهاد، باب الأمر بالتيسير وترك التنفير، برقم 1733.

ج - منهج الصحابة - رضي الله عنهم - ومن تبعهم بإحسان

التعسير في جميع الأحوال من جميع وجوهه وهذا هو المطلوب، وكذلك يقال في ((يسّرا ولا تُعسّرا، وتطاوعا ولا تختلفا)) (¬1).وغير ذلك من السنة كثير (¬2). ج - منهج الصحابة - رضي الله عنهم - ومن تبعهم بإحسان: اتباع اليُسر والسماحة، والصحابة - رضي الله عنهم - هم الذين يطبقون الكتاب والسنة، وقد جاء عنهم أخبار كثيرة طبقوا فيها الإسلام كما جاء، وعملوا بالتيسير وتركوا التعسير؛ وذلك لفهم الكتاب والسنة، وعدم التنطع في الدين؛ ولهذا جاء عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: ((من كان منكم مستنًّا فليستنَّ بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد؛ فإنهم كانوا أبرَّ هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلَّها تكلُّفًا، وأقومَها هديًا، اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه، [ولإقامة دينه] فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم؛ فإنهم كانوا على الهدى المستقيم)) (¬3). وما تقدم من أدلة الكتاب والسنة، وهدي الصحابة يدل على رفع الحرج عن الأمة، وأن الإسلام دين اليسر والسماحة (¬4). ثالثًا: الأصل في مشروعية صلاة الخوف: الكتاب والسنة، والإجماع: 1 - أما الكتاب؛ فلقول الله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ ¬

(¬1) شرح النووي على صحيح مسلم، 11/ 284. (¬2) انظر: رفع الحرج في الشريعة الإسلامية، للدكتور صالح بن عبد الله بن حميد، ص75 - 86، فقد ذكر ثلاثين دليلاً من السنة على رفع الحرج. (¬3) جاء هذا الأثر في عدة روايات، أخرجها ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله،2/ 946، برقم 1807، 1810،وانظر: إغاثة اللهفان لابن القيم،1/ 159،ومجمع الزوائد للهيثمي، 1/ 181. (¬4) انظر: رفع الحرج، لابن حميد، ص87، ورفع الحرج في الشريعة الإسلامية دراسة أصولية تأصيلية للدكتور يعقوب عبد الوهاب، ص68.

2 - وأما السنة

وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} (¬1). 2 - وأما السنة، فقد ثبتت الأحاديث الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه صلاة الخوف مرات متعددة على صفات متنوعة (¬2). 3 - وأما الإجماع، فأجمع الصحابة على فعلها، فكان الصحابة في الخوف يصلون صلاة الخوف، جاء ذلك عن علي - رضي الله عنه - ليلة صِفّين، وجاء عن أبي هريرة، وأبي موسى الأشعري، وعن سعيد بن العاص، وحذيفة - رضي الله عنهم - (¬3) ولا ينظر إلى الأقوال الشاذة التي تخالف ذلك (¬4). رابعًا: أنواع صلاة الخوف: جاءت صلاة الخوف في أحاديث كثيرة، وأشكال متباينة (¬5)، والصواب أن كل صفة ثبتت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جائزة ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 102. (¬2) انظر: المغني لابن قدامة،3/ 296،والشرح الكبير لابن قدامة المطبوع مع المقنع والإنصاف،5/ 114. (¬3) انظر: المغني، 3/ 297، والشرح الكبير، 5/ 114، وحاشية ابن قاسم على الروض المربع، 2/ 411، وتيسير العلام شرح عمدة الأحكام، للبسام، 1/ 348، والإعلام بفوائد عمدة الأحكام، لابن الملقن، 4/ 350، والشرح الكبير المطبوع مع المقنع والإنصاف، 5/ 115. (¬4) كقول من يقول: إن صلاة الخوف مختصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وبمن صلى معه وذهبت بوفاته، وهذا يذكر عن أبي يوسف، وقوله لا حجة فيه؛ لأن الله قد أمر باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - والتأسي به ويلزمنا ذلك مطلقًا حتى يدل الدليل على الخصوص؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) البخاري برقم 6008، ومسلم برقم 674؛ ولأن الصحابة - رضي الله عنهم - لم يقولوا بالخصوص، وادعى المزني: نسخ صلاة الخوف؛ لأنها لم تفعل يوم الخندق، والجواب: أنها لم تشرع حينذاك وإنما شرعت بعد ذلك. وانفرد مالك فقال: لا يجوز فعلها في الحضر، وقد ذكر الإمام القرطبي في المفهم أنه صلاها ببطن نخل على باب المدينة، ومن العلماء من رأى أن الصلاة تؤخر إلى وقت الأمن ولا تصلى في حال الخوف، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق، والجواب: أن فعله - صلى الله عليه وسلم - كان قبل نزول صلاة الخوف بالإجماع. انظر: الإعلام بفوائد عمدة الأحكام لابن الملقن، 4/ 350 - 351، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 2/ 469 - 474، وشرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 372 - 378. (¬5) جاءت صلاة الخوف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنواع مختلفة، ذكر الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم أنها جاءت في أحاديث يبلغ مجموعها ستة عشر نوعًا، وهي مفصلة في صحيح مسلم، وبعضها في سنن أبي داود، واختار الشافعي منها ثلاثة أنواع: بطن نخل، وذات الرقاع، وعسفان. شرح النووي، 6/ 375، والإعلام بفوائد عمدة الأحكام، 4/ 351. وذكر الحاكم في مستدركه، 1/ 335، 338، ثمانية أنواع منها. وصحح ابن حزم في صفتها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة عشر نوعًا [المحلى، 5/ 33، 42، وابن خزيمة، 2/ 293، 307، وذكر القرطبي في المفهم عشرة أحاديث منها وتكلم عليها. المفهم، 2/ 468 - 476، قال أبو داود: جميع ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخوف جائز، لا نرجح بعضه على بعض، وقال الإمام أحمد: ما أعلم في هذا الباب إلا حديثًا صحيحًا، واختار حديث سهل بن أبي حثمة. الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، لابن الملقن، 4/ 352، وانظر: المغني، لابن قدامة، 3/ 311 - 314، وقال الإمام ابن القيم بعد أن ذكر ست صفات من أنواع صلاة الخوف، وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - صفات أخرى ترجع كلها إلى هذه، وهذه أصولها، وربما اختلف بعض ألفاظها، وقد ذكر بعضهم عشر صفات، وذكرها أبو محمد بن حزم نحو خمس عشرة صفة، والصحيح ما ذكرناه أولاً، وهؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة في قصة، جعلوا ذلك وجوهًا من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو من اختلاف الرواة، والله أعلم)) زاد المعاد، 1/ 532.

النوع الأول: ما يوافق ظاهر القرآن: يقسم الأمير أو القائد من معه

حسب مواطنها، يتحرَّى المسلمون فيها ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة، فهي على اختلاف صورها متفقة المعنى، ومن هذه الأنواع الثابتة في الأحاديث الصفات الآتية: النوع الأول: ما يوافق ظاهر القرآن: يقسم الأمير أو القائد من معه إلى طائفتين: طائفة وجاه العدو؛ لئلا يهجم، وطائفة تصلي معه، فيصلي بهذه الطائفة ركعة، فإذا قام إلى الركعة الثانية نووا الانفراد وأتموا لأنفسهم ركعة والإمام واقف، وسلموا قبل ركوعه، ثم ذهبوا إلى الطائفة التي وجاه العدو، ثم تأتي الطائفة التي كانت تحرس وجاه العدو إلى الإمام فتجده ينتظرها واقفًا في الركعة الثانية فتدخل معه فيها وتصلي معه هذه الركعة، فإذا جلس للتشهد قامت فقضت ركعة والإمام ينتظرها في التشهد، فإذا تشهدت سلم بهم؛ لحديث صالح بن خوَّات عمن صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1) يوم ذات الرقاع (¬2) صلاة الخوف، أن طائفة ¬

(¬1) وفي رواية لمسلم برقم 841، عن صالح بن خوات بن جبير، عن سهل بن أبي حثمة، فصرح به في هذه الرواية، وفي رواية أبهمه. (¬2) ذات الرقاع: غزوة معروفة، قال النووي: ((سميت ذات الرقاع؛ لأن أقدام المسلمين نقبت من الحفاء فلفوا عليها الخرق هذا هو الصحيح في سبب تسميتها)) وقال: ((كانت سنة خمس)) شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 376، وذكر ابن القيم رحمه الله أن أهل السير قالوا: كانت في السنة الرابعة جمادى الأولى، وقيل محرم، ورجح أنها كانت بعد خيبر، وسمعت شيخنا ابن باز يرد هذا القول ويرجح أنها قبل الخندق. انظر: زاد المعاد، 3/ 250 - 253، وانظر للفائدة: الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، 4/ 352، 7/ 417، 464.

النوع الثاني: إذا كان العدو في جهة القبلة ولا يخفى بعضهم

صفت معه وطائفة وجاه (¬1) العدو فصلى بالذين معه ركعة، ثم ثبت قائمًا وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسًا وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم)) (¬2)، وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله يقول: ((وهذا أيسر الأنواع، والصحابي المبهم في سند الحديث هو سهل بن أبي حثمة)) (¬3) وهذا النوع اختاره الإمام أحمد بن حنبل، لموافقته ظاهر القرآن، وأقر جميع الأنواع الأخرى، وأن كل حديث صح في صلاة الخوف يجوز العمل به (¬4). النوع الثاني: إذا كان العدو في جهة القبلة ولا يخفى بعضهم على المسلمين صف الإمام المسلمين خلفه صفين، فيكبر ويكبروا جميعًا، ثم يركع فيركعوا جميعًا، ثم يرفع من الركوع ويرفعوا جميعًا معه، ثم ينحدر فيسجد ويسجد معه الصف الأول الذي يليه، ويبقى الصف الثاني قائمًا يحرس مواجهة العدو، فإذا صلى بالصف الأول سجدتين وقام إلى الركعة الثانية سجد الصف الثاني الذي كان يحرس سجدتين، ثم قاموا فتقدموا إلى مكان الصف الأول، وتأخر الصف الأول مكانهم، ثم يركع الإمام ويركعوا معه جميعًا، ثم يرفع ويرفعوا جميعًا، ثم يسجد ويسجد ¬

(¬1) وجاه العدو: يقال: وجاه وتجاه: أي قبالته، والطائفة: الفرقة. شرح النووي،6/ 377. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع، برقم 4129، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف، برقم 842. (¬3) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 499. (¬4) انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 299، 311، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، 5/ 125، والمقنع مع الشرح الكبير والإنصاف، 5/ 117، والكافي، 1/ 467.

النوع الثالث: يقسم الإمام أصحابه إلى طائفتين

معه الصف الأول الذي كان في الركعة الأولى هو الثاني، فإذا سجد سجدتين وجلس للتشهد سجد الصف الثاني ولحقوه في التشهد، وتشهدوا جميعًا، ثم سلم بهم جميعًا (¬1)؛ لحديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف فصفنا صفين: صف خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والعدو بيننا وبين القبلة فكبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكبرنا جميعًا، ثم ركع وركعنا جميعًا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو (¬2) فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - السجود وقام الصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم ركع النبي - صلى الله عليه وسلم - وركعنا جميعًا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرًا في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا، ثم سلم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسلمنا جميعًا)) (¬3). النوع الثالث: يقسم الإمام أصحابه إلى طائفتين: فرقة تجاه العدو وفرقة تصلي معه، فيصلي بإحدى الطائفتين ركعة ثم تنصرف قبل أن تسلم وهي في صلاتها إلى مكان الفرقة الأخرى، ثم تأتي الفرقة الأخرى إلى مكان هذه خلف الإمام فتصلي معه الركعة الثانية، ثم يسلم ¬

(¬1) المغني، 3/ 312، والشرح الكبير، 5/ 118، وزاد المعاد، 1/ 529، والشرح الممتع، 4/ 583، والكافي لابن قدامة، 1/ 471. (¬2) في نحر العدو: أي في مقابله، ونحر كل شيء أوله. شرح النووي، 6/ 376. (¬3) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف، برقم 840، وفي رواية أنها صلاة العصر، ولأبي داود في سننه عن أبي عياش الزرقي في كتاب الصلاة، باب صلاة الخوف، برقم 1236، أن هذه الصلاة كانت بعسفان، وعسفان موضع على مرحلتين من مكة، كما في القاموس المحيط، ص1082، والمصباح المنير، ص155، قال الإمام ابن القيم: ((ولا خلاف بينهم أن غزوة عسفان كانت بعد الخندق)) زاد المعاد، 3/ 252.

وحده، وتقضي كل طائفة ركعة؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: غزوت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قِبَل نجدٍ فوازينا (¬1) العدو، فصاففناهم، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي لنا، فقامت طائفة معه وأقبلت طائفة على العدو، فركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمن معه وسجد سجدتين، ثم انصرفوا مكان الطائفة (¬2) التي لم تصلّ، فجاؤوا فركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهم ركعة وسجد سجدتين، ثم سلَّم، فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة (¬3) وسجد سجدتين)) وفي لفظ لمسلم: ((ثم سلم النبي - صلى الله عليه وسلم -،ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة)) وفي لفظ لمسلم أيضًا: ((ثم قضت الطائفتان: ركعة ركعة)) (¬4)، وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يقول: ((صلى بهم ركعة ثم انصرفوا، وجاءت الطائفة الثانية فركع بهم ركعة ثم سلم، فقام كل واحد فركع لنفسه ركعة، قضوا الركعة كلهم بعد سلام النبي - صلى الله عليه وسلم -،وسمح لهم في ¬

(¬1) الإزاء: المقابل، فوازينا العدو: أي قابلناهم: فتح الباري لابن حجر، 2/ 430. (¬2) ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصلّ: أي فقاموا في مكانهم. فتح الباري لابن حجر، 2/ 430. (¬3) ((فقام كل واحد فركع لنفسه ركعة)) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((لم تختلف الطرق عن ابن عمر في هذا، وظاهره أنهم أتموا لأنفسهم في حالة واحدة، ويحتمل أنهم أتموا على التعاقب وهو الراجح من حيث المعنى، وإلا فيستلزم تضييع الحراسة المطلوبة، وإفراد الإمام وحده، ويرجحه ما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود ولفظه: ((ثم سلم فقام هؤلاء - أي الطائفة - فقضوا لأنفسهم ركعة، ثم سلموا، ثم ذهبوا ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا، [سنن أبي داود برقم 1244، 1245]،وظاهره أن الطائفة الثانية والت بين ركعتيها، ثم أتمت الطائفة الأولى بعدها ووقع في الرافعي تبعًا من كتب الفقه أن في حديث ابن عمر هذا أن الطائفة الثانية تأخرت وجاءت الطائفة الأولى فأتموا ركعة، ثم تأخروا وعادت الطائفة الثانية فأتموا، ولم نقف على ذلك في شيء من الطرق، وبهذه الكيفية أخذ الحنفية، واختار الكيفية التي في حديث ابن مسعود: أشهب والأوزاعي، وهي الموافقة لحديث سهل بن أبي حثمة من رواية مالك عن يحيى بن سعيد، واستدل بقوله طائفة على أنه لا يشترط استواء الفريقين في العدد، لكن لابد أن تكون التي تحرس يحصل الثقة بها في ذلك، والطائفة تطلق على القليل والكثير، فلو كانوا ثلاثة ووقع لهم خوف جاز لأحدهم أن يصلي بواحد ويحرس واحد، ثم يصلي بالآخر)) فتح الباري لابن حجر، 2/ 431. (¬4) متفق عليه واللفظ للبخاري: البخاري، كتاب صلاة الخوف، باب صلاة الخوف، برقم 942،ورقم 4133،ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف، برقم 839.

النوع الرابع: أن يصلي الإمام بكل طائفة صلاة منفردة

هذه الحركة؛ للحاجة، وانصراف الطائفة الأولى قبل سلامهم، وهذا جائز والنوع الأول أسهل)) (¬1). النوع الرابع: أن يصلي الإمام بكل طائفة صلاة منفردة: فيصلي بالطائفة الأولى ركعتين ثم يسلم بها، ثم تأتي الطائفة الثانية فيصلي بهم ركعتين ثم يسلم بهم؛ لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بطائفة من أصحابه ركعتين، ثم سلم، ثم صلى بآخرين أيضًا ركعتين، ثم سلم)) (¬2)؛ ولحديث أبي بكرة - رضي الله عنه -، قال: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في خوفٍ الظهر فصف بعضهم خلفه وبعضهم بإزاء العدو، فصلى بهم ركعتين ثم سلم، فانطلق الذين صلوا معه فوقفوا موقف أصحابهم، ثم جاء أولئك فصلوا خلفه، فصلى بهم ركعتين، ثم سلم، فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعًا، ولأصحابه ركعتين)) وبذلك كان يفتي الحسن، قال أبو داود في المغرب؛ يكون للإمام ستُّ ركعات، وللقوم ثلاث ثلاث)) (¬3). وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يقول: ((يصلي بالطائفة الأولى ركعتين، ثم يسلم، ويصلي بالطائفة الثانية ركعتين، ثم يسلم، وروى مسلم ما رواه النسائي وأبو داود، ورواه البخاري معلقًا مجزومًا به، وهذا دليل على جواز إمامة المتنفل)) (¬4). وعن جابر - رضي الله عنه -، قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فجاء رجل من المشركين وسيف النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 500. (¬2) سنن النسائي، كتاب صلاة الخوف، برقم 1551، ورقم 1553، وصححه العلامة الألباني في صحيح النسائي، 1/ 503، 504. (¬3) أبو داود، كتاب الصلاة، باب من قال يصلي بكل طائفة ركعتين، وتكون للإمام أربعًا، برقم 1248،والنسائي، كتاب صلاة الخوف، برقم 1554،1550، وصححه الألباني في صحيح أبي داود،1/ 342،وصحيح النسائي،1/ 503، 504. (¬4) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 503، ورقم 504.

النوع الخامس: يصلي الإمام بإحدى الطائفتين ركعة

معلق بالشجرة فاخترطه فقال له: تخافني؟ فقال له: ((لا)) قال: فمن يمنعك مني؟ قال: ((الله)) فتهدده أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقيمت الصلاة فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، وكان للنبي - صلى الله عليه وسلم - أربعٌ وللقوم ركعتان)) (¬1)، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((وهذا مثل الوجه الذي قبله (¬2) إلا أنه لا يسلم في الركعتين الأوليين)) (¬3). وقال الإمام النووي رحمه الله عن حديث جابر هذا ((صلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع ركعات وللقوم ركعتان)). قال [النووي] ((صلى بالطائفة الأولى ركعتين وسلم وسلموا، وبالثانية كذلك .. )) (¬4). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله يقول: ((هذه صفة من أنواع صلاة الخوف: صلى ركعتين ثم سلم، ثم صلى بطائفة أخرى ركعتين ثم سلم، وهذا هو الصواب، ومن قال: إنه صلى بدون سلام فقد غلط، ومن أهم شيء عند طالب العلم إذا أشكل عليه بعض الأحاديث أن يجمع الروايات وطرقها حتى يتضح له الأمر)) (¬5). النوع الخامس: يصلي الإمام بإحدى الطائفتين ركعة ثم تذهب ولا تقضي شيئًا، ثم تأتي الطائفة الأخرى فتصف خلفه ويصلي بهم ركعة ثم يسلم ولا تقضي شيئًا؛ ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع، برقم 4136، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف، برقم 843. (¬2) يعني بذلك رحمه الله نفس النوع الرابع الذي دل عليه حديث جابر عند النسائي، برقم 1551. (¬3) المغني لابن قدامة، 3/ 313، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، 5/ 138، والكافي لابن قدامة، 1/ 469، وزاد المعاد لابن القيم، 1/ 529، وكل هذه المراجع ذكر أصحابها أن حديث جابر في الصحيحين بدون سلام للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ولهذا عدُّوه نوعًا خامسًا لا يدخل في النوع الرابع، والله أعلم. (¬4) شرح النووي على صحيح مسلم،6/ 378،وكذلك اختار المجد ابن تيمية أن حديث جابر في الصحيحين تكون كل ركعتين بسلام [انظر: الحديث رقم 1314 من منتقى الأخبار المطبوع مع نيل الأوطار]. (¬5) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 4136.

لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف بذي قرد: أرض من أرض بني سليم (¬1)، فصلى الناس خلفه صَفَّين: صفًّا يوازي العدو، وصفًّا خلفه، فصلى بالصف الذي يليه ركعة، ثم نهض هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، وهؤلاء إلى مصاف هؤلاء فصلى بهم ركعة أخرى)). ولفظ النسائي: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بذي قرد فصفّ الناس خلفه صَفَّين: صفًّا خلفه وصفًّا موازي العدو، فصلى بالذين خلفه ركعة ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ولم يقضوا)) (¬2)؛لحديث حذيفة - رضي الله عنه -: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الخوف بهؤلاء ركعة، وبهؤلاء ركعة، ولم يقضوا)) (¬3)،وسمعت شيخنا الإمام يقول: ((صلى بطائفة ركعة وبطائفة ركعة، ولم يقضوا فكان له ركعتان)) (¬4). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((فرض الله الصلاة على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم -: في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة)) (¬5)،قال الإمام الصنعاني رحمه الله: ((صلاة الخوف ركعة واحدة في حق الإمام والمأموم)) (¬6)، وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يقول عن هذا النوع: ((صلاة الخوف ركعة على أي حال كان، يعني للإمام والمأمومين)) (¬7)، وهذه الأنواع الستة ثبتت، وذكرها أهل العلم (¬8). ¬

(¬1) ذو قرد: ماء على ليلتين من المدينة، بينها وبين خيبر، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إليه لما خرج في طلب عيينة حين أغار على لقاحه. معجم البلدان، 4/ 55. (¬2) أحمد، 5/ 385، والنسائي، كتاب صلاة الخوف، برقم 1532، والبخاري بنحوه، في كتاب صلاة الخوف، باب: يحرس بعضهم بعضًا في صلاة الخوف، برقم 944، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 1/ 496. (¬3) أحمد، 5/ 399، والنسائي، كتاب الخوف، برقم 1528، وأبو داود، كتاب صلاة السفر، باب صلاة الخوف، برقم 1246، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 342، وصحيح النسائي، 1/ 495. (¬4) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 505. (¬5) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، برقم 687. (¬6) سبل السلام، 3/ 213. (¬7) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 507. (¬8) انظر: المغني لابن قدامة،3/ 298 - 326،والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، 5/ 117 - 144، والكافي لابن قدامة، 1/ 267 - 272، وزاد المعاد، لابن القيم، 1/ 529 - 531.

خامسا: صلاة الخوف في الحضر تؤدى بدون قصر

خامسًا: صلاة الخوف في الحضر تؤدى بدون قصر، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخوف أن أباح الله - سبحانه وتعالى - قصر أركان الصلاة وعددها إذا اجتمع الخوف والسفر، وقصر العدد وحده إذا كان سفر لا خوف معه، وقصر الأركان وحدها إذا كان خوف لا سفر معه، وهذا كان من هديه - صلى الله عليه وسلم - وبه تُعلم الحكمة في تقييد القصر في الآية بالضرب في الأرض والخوف)) (¬1). وهذا يبيّن أن صلاة الخوف جائزة في الحضر إذا احتاج الناس إلى ذلك؛ لنزول العدو قريبًا من البلد (¬2). فإن خاف الناس وقت الإقامة صلَّى الإمام الصلاة الرباعية بكل طائفة ركعتين وأتمت الطائفة الأولى بالحمد لله في كل ركعة، والطائفة الثانية تتم بالحمد لله وسورة (¬3). قال الخرقي رحمه الله: ((وإن كانت الصلاة مغربًا، صلى الإمام بالطائفة الأولى ركعتين، وأتمت لأنفسها ركعة تقرأ فيها بالحمد لله، ويصلي بالطائفة الأخرى ركعة وأتمت لأنفسها ركعتين، تقرأ فيهما بالحمد لله وسورة)) (¬4). ¬

(¬1) زاد المعاد في هدي خير العباد، 1/ 529. (¬2) وذكر عن الإمام مالك أن صلاة الخوف لا تجوز في الحضر، لأن الآية إنما دلّت على صلاة ركعتين، وصلاة الحضر أربعًا؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعلها في الحضر، وخالفه أصحابه فقالوا كقولنا، ولنا من الأدلة أن الله تعالى قال: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ} وهذا عام في كل حال، وترك النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلها في الحضر إنما كان لغناه عن فعلها في الحضر. انظر: المغني، 3/ 305، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، 5/ 130، والكافي لابن قدامة، 1/ 573. (¬3) وهل تفارقه الطائفة الأولى في التشهد أو حين يقوم إلى الثالثة على وجهين: أحدها: حين يقوم إلى الثالثة، وهو قول مالك الأوزاعي. والثاني: تفارقه في التشهد؛ لتدرك الطائفة الثانية جميع الركعة الثالثة وعلى أي الصفتين فعل كان جائزًا. انظر: المغني لابن قدامة،3/ 305،والمقنع مع الشرح الكبير والإنصاف،5/ 130 - 131،والكافي لابن قدامة،1/ 473. (¬4) المغني، 3/ 309. وبهذا قال مالك، والأوزاعي، وسفيان والشافعي في أحد قوليه، وقال في القول الآخر: يصلي بالأولى ركعة، وبالثانية ركعتين، قال المرداوي في الإنصاف: ((وإن كانت الصلاة مغربًا صلى بالأولى ركعتين وبالثانية ركعة بلا نزاع، ونص عليه. ولو صلى بالأولى ركعة وبالثانية ركعتين عكس الصفة الأولى صحت على الصحيح من المذهب، وعليه الأصحاب ونص عليه)) 5/ 129. قال الحافظ ابن حجر في الفتح، 2/ 424: ((لم يقع في شيء من الأحاديث المروية في صلاة الخوف تعرض لكيفية صلاة المغرب، وقد أجمعوا على أنه لا يدخلها القصر، واختلفوا هل الأولى أن يصلي بالأولى ثنتين والثانية واحدة أو العكس)) وقال الشوكاني: ((وحكي عن الشافعي التخيير، قال وفي الأفضل وجهان أصحهما ركعتان بالأولى، واستدل له بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس للنبي فعل في صلاة المغرب ولا قول كما عرفت)). نيل الأوطار، 2/ 630.

سادسا: صلاة الخوف حال القتال والتحام الحرب

والله أعلم (¬1). قال الإمام الحافظ ابن المنذر رحمه الله: ((ويصلي صلاة الخوف في الحضر، يجعلهم طائفتين، فيصلي بالطائفة الأولى ركعتين، وينتظرهم في التشهد جالسًا، ويتمون لأنفسهم، وينصرفون، وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم ركعتين، ويثبت جالسًا ويصلون لأنفسهم، فإذا جلسوا وتشهدوا سلم بهم، وإذا كانت صلاة المغرب صلى بالطائفة الأولى ركعتين، وبالطائفة الثانية ركعة على هذا المثال)) (¬2)، والله - سبحانه وتعالى - أعلم (¬3). سادسًا: صلاة الخوف حال القتال والتحام الحرب، قال الله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لله قَانِتِينَ * فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ ¬

(¬1) وهل تفارق الإمام الطائفة الأولى في التشهد الأول أو في الركعة الثالثة على وجهين: أحدهما حين قيامه إلى الثالثة، وهو قول مالك والأوزاعي. والوجه الثاني تفارقه في التشهد، قيل وكلا الأمرين جائز. انظر: الشرح الكبير مع المقنع والإنصاف،5/ 131 - 132،والمغني،3/ 310،والكافي،1/ 473. (¬2) الإقناع للإمام ابن المنذر، 1/ 123. (¬3) وإذا صلى [الإمام] بالطائفة الثانية الركعة الثالثة وجلس للتشهد فإن الطائفة تقوم ولا تتشهد معه، ذكره القاضي؛ لأنه ليس بموضع تشهدٍ لها بخلاف الرباعية، ويحتمل أن تتشهد معه؛ لأنها تقضي ركعتين متواليتين على إحدى الروايتين، فيفضي إلى أن تصلي ثلاث ركعات بتشهد واحد، ولا نظير لهذا في الصلوات، فعلى هذا الاحتمال تتشهد معه التشهد الأول ثم تقوم كالصلاة الرباعية سواء)) المغني لابن قدامة، 3/ 310، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، 5/ 129 - 130، والكافي، 1/ 473، وقال الإمام المرداوي: ((فائدة: لا تتشهد الطائفة الثانية بعد ثالثة المغرب على الصحيح من المذهب؛ لأنه ليس محل تشهدها، وقيل: تتشهد معه، إن قلنا: تقضي ركعتين متواليتين؛ لئلا تصلي المغرب بتشهد واحد، قلت: فعلى الأول إن قلنا: تقضي ركعتين متواليتين يعايى بها، لكن يظهر بعد هذا أن يُقال: لا تتشهد بعد الثالثة، وإذا قضت تقضي ركعتين متواليتين، ويتصور في المغرب أيضًا ست تشهدات بأن يدرك المأموم الإمام في التشهد الأول، فيتشهد معه، ويكون على الإمام سجود سهو محله بعد السلام، فيتشهد معه ثلاث تشهدات، ثم يقضي فيتشهد عقب ركعة، وفي آخر صلاته، وسهو لما يجب سجوده بعد السلام، وبأن يسلم قبل إتمام صلاته، فيعايى بها)) الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير، 5/ 132 - 133.

رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ الله كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} (¬1). قال الإمام ابن كثير رحمه الله: ((لما أمر الله تعالى عباده بالمحافظة على الصلوات والقيام بحدودها، وشدد الأمر بتأكيدها ذكر الحال التي يشتغل الشخص فيها عن أدائها على الوجه الأكمل، وهي حال القتال والتحام الحرب، فقال: {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا} أي فصلوا على أي حال كان: رجالاً أو ركبانًا، يعني مستقبلي القبلة وغير مستقبليها (¬2)، كما قال مالك عن نافع: إن ابن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها، ثم قال: فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالاً قيامًا على أقدامهم، أو ركبانًا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها، قال مالك: قال نافع: لا أرى عبد الله بن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -))، ولفظ مسلم: ((فإذا كان خوف أكثر من ذلك فصلّ راكبًا، أو قائمًا، تومئ إيماءً)) (¬3)، وفي حديث عبد الله بن أنيس - رضي الله عنه - لما بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خالد بن سفيان الهذلي وكان نحو عرنة وعرفات فقال: ((اذهب فاقتله)) قال فرأيته وقد حضرت صلاة العصر، فقلت: إني لأخاف أن يكون بيني وبينه ما يؤخر الصلاة فانطلقت أمشي وأنا أصلي، وأومئ إيماءً نحوه ... )) الحديث (¬4). وقال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: ((باب صلاة الطالب والمطلوب راكبًا وإيماءً، وقال الوليد: ذكرت للأوزاعي صلاة شرحبيل بن السمط ¬

(¬1) سورة البقرة، الآيتان: 238 - 239. (¬2) تفسير القرآن العظيم، ص197. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب التفسير، باب قوله: {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ}، برقم 4535 [و942، 943]، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف، برقم 306 - (839). (¬4) أحمد، 3/ 496، وأبو داود، كتاب صلاة السفر، باب صلاة الطالب، برقم 1249، قال الإمام الحافظ ابن كثير في تفسيره، ص197: ((رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد)). وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري، 2/ 437: ((وإسناده حسن)) وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود، ص97، برقم 1249.

وأصحابه على ظهر الدابة، فقال: كذلك الأمر عندنا إذا تُخُوّفَ الفوت، واحتج الوليد بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة)) (¬1) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قال ابن المنذر: كل من نحفظ عنه من أهل العلم يقول: إن المطلوب يصلي على دابته يومئ إيماءً، وإن كان طالبًا نزل فصلى على الأرض، قال الشافعي: إلا أن ينقطع عن أصحابه فيخاف عود المطلوب عليه، فيجزئه ذلك، وعرف بهذا أن الطالب فيه التفصيل، بخلاف المطلوب، ووجه الفرق أن شدة الخوف في المطلوب ظاهرة؛ لتحقق السبب المقتضي لها، وأما الطالب فلا يخاف استيلاء العدو عليه، وإنما يخاف أن يفوته العدو، وما نقله ابن المنذر متعقب بكلام الأوزاعي؛ فإنه قيده بخوف الفوت ولم يستثنِ طالبًا من مطلوب)) (¬2)، ثم ذكر ابن حجر رحمه الله حديث عبد الله بن أنيس المتقدم وحسّن إسناده (¬3). وقال البخاري رحمه الله تعالى: ((باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو. وقال الأوزاعي: إن كان تهيّأ الفتح وعقدوا على الصلاة صلوا إيماءً كل امرئ لنفسه، فإن لم يقدروا على الإيماء أخّروا الصلاة حتى ينكشف القتال، أو يأْمَنوا فيصلوا ركعتين، فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين، فإن لم يقدروا فلا يجزيهم التكبير ويؤخرونها حتى يأْمَنوا، وبه قال مكحول. وقال أنس بن مالك: حضرت عند مناهضة حصن تُستر (¬4) عند إضاءة الفجر - واشتد اشتعال القتال - فلم يقدروا على الصلاة، فلم نصلّ إلا بعد ارتفاع النهار فصليناها ونحن مع أبي موسى فَفُتِحَ لنا، وقال ¬

(¬1) البخاري، كتاب صلاة الخوف، باب صلاة الطالب والمطلوب، قبل الحديث رقم 946، والحديث الذي احتج به الوليد، هو نفسه رقم 946، ورقم 4119. (¬2) فتح الباري، 2/ 436 - 437. (¬3) انظر: المرجع السابق، 2/ 437. (¬4) تستر: بلد معروف من بلاد الأهواز، وذكر خليفة أن فتحها كان في سنة عشرين في خلافة عمر - رضي الله عنه -، فتح الباري لابن حجر، 2/ 435.

أنس: وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها)) (¬1)،ثم ساق البخاري عن جابر بن عبد الله قال: جاء عمر يوم الخندق فجعل يسب كفار قريش، ويقول: يا رسول الله، ما صليت العصر حتى كادت الشمس أن تغيب. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وأنا والله ما صليتها بعد)) قال: فنزل إلى بطحان فتوضأ وصلى العصر بعدما غابت الشمس، ثم صلى المغرب بعدها)) (¬2). مما تقدم من الأدلة على صلاة الخوف عند اشتداد الحرب اختلف العلماء على قولين: 1 - قال جمهور العلماء: لا تؤخر الصلاة عند اشتداد الحرب والتحام القوم بعضهم ببعض، بل يصلون على حسب أحوالهم على أي صفة كانوا ولو ركعة واحدة إيماءً سواء كانوا مستقبلين القبلة أو مستدبرين، وسواء كانوا رجالاً على الأقدام أو ركبانًا على الخيل والإبل وغيرها، فقالوا تكون الصلاة على ما ورد به القرآن ووردت به الأحاديث، وأن الصلاة لا تؤخر، أما تأخير الصلاة يوم الخندق؛ فلأن صلاة الخوف لم تشرع بعد (¬3). 2 - وذهب قوم من أهل العلم إلى أن صلاة الخوف في اشتداد القتال يجوز تأخيرها إلى الفراغ من التحام القتال إذا لم يستطع المجاهدون أن يعقلوا صلاتهم، وهذا أحد القولين في مذهب الإمام أحمد رحمه الله وغيره، واختاره البخاري، والأوزاعي، ومكحول، وهو الذي عمل به الصحابة - رضي الله عنهم - زمن عمر بن الخطاب في فتح تستر، وقد اشتهر ولم ينكر عليهم تأخير صلاة الفجر إلى أن ¬

(¬1) البخاري، كتاب صلاة الخوف، باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو، قبل الحديث رقم 945. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب صلاة الخوف، باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو، برقم 945، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هي العصر، برقم 631. (¬3) انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 316،والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، 5/ 125، وزاد المعاد، 3/ 253، والكافي لابن قدامة، 1/ 425، ومنتهى الإرادات، 1/ 345، ونيل الأوطار، 2/ 631، ومنار السبيل، 1/ 185، والإقناع لابن المنذر، 1/ 122، والإقناع لطالب الانتفاع، للحجاوي، 1/ 288، والروض المربع مع حاشية ابن قاسم، 2/ 415.

استتم الفتح ضحى فصلوها بعد ارتفاع الشمس (¬1)، ورجح شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله أنه يجوز تأخير الصلاة في حال المسايفة إلى أن يتمكن من فعلها، فسمعته يقول: ((والصواب أن غزوة ذات الرقاع قبل الأحزاب، وأنه إذا اشتد الخوف أخّر الصلاة كما فعل الصحابة يوم تستر أخَّروا صلاة الفجر إلى الضحى لشدة الحرب)) (¬2).ورجح ذلك أيضًا العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله، وبيّن أنه يجوز تأخير الصلاة إذا اشتد الخوف بحيث لا يتدبر الإنسان ما يقول، وذكر أن تأخير صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب ليس منسوخًا، بل هو محكم إذا دعت الضرورة القصوى إلى ذلك، بحيث لا يقر للمقاتلين قرار، ثم قال: ((ونحن في هذا المكان لا ندركه وإنما يدركه من كان في ميدان المعركة)) (¬3)، قال ابن رشيد رحمه الله: ((من باشر الحرب، واشتغال القلب، والجوارح، إذا اشتغلت عرف كيف يتعذر الإيماء)) (¬4). ¬

(¬1) انظر فتح الباري، لابن حجر، 2/ 434 - 436، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ص197 - 198، والإعلام بفوائد عمدة الأحكام، لابن الملقن، 4/ 374، والشرح الممتع للعلامة ابن عثيمين، 4/ 585، وزاد المعاد، لابن القيم، 3/ 253، ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 631. (¬2) سمعته أثناء تقريره على زاد المعاد، 3/ 253. (¬3) الشرح الممتع بتصرف يسير، 4/ 586. (¬4) نقلاً عن فتح الباري لابن حجر، 2/ 434.

المبحث الثلاثون: صلاة الجمعة

المبحث الثلاثون: صلاة الجمعة أولاً: مفهومها: الجمعة لغة: قال ابن فارس رحمه الله: ((الجيم، والميم، والعين أصل واحد يدل على تضامّ الشيء، يقال جمعت الشيء جمعاً)). ((وتقول: استجمع الفرس جرياً. وجَمْع: مكة سُمّي لاجتماع الناس فيه، وكذلك يوم الجمعة)) (¬1). سمّي به لاجتماع الناس فيه (¬2)، وجمعة جمعها: جُمَع، وجُمُعات، والذين قالوا: الجمعة ذهبوا بها إلى صفة اليوم، ويقال: الجمعة، والجُمَعة (¬3) (¬4). ¬

(¬1) معجم المقاييس في اللغة، كتاب الجيم، باب الجيم والميم وما بينهما، ص224. (¬2) انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، باب الجيم مع الميم، 287، وقال: ((وفي حديث الجمعة: أول جمعة جمّعت بعد المدينة بجواثى جمعت: بالتشديد أي صليت، ويوم الجمعة سمي به لاجتماع الناس فيه)) النهاية، 1/ 297. (¬3) انظر: لسان العرب لابن منظور، باب العين، فصل الجيم، 8/ 58، والقاموس المحيط، باب العين، فصل الجيم، ص917. (¬4) وسميت بالجمعة؛ لاجتماع الناس لها، وقيل: لِمَا جمع فيها من الخير، وقيل: لجمعها الخلق الكثير، وقيل: لأن آدم جمع مع حواء فيها، وقيل: لأنه اليوم الذي اجتمعت فيه المخلوقات وكمالها، وقيل: سمي يوم الجمعة؛ لأن آدم جمع خلقه فيها، ونقل المرداوي عن مجمع البحرين أن هذا القول أولى، وقال عبد الرحمن بن محمد بن قاسم: قال الحافظ: هو أصحها، ويليه: لاجتماع الناس لها. قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله: ((باب ذكر العلة التي أحسب لها سميت الجمعة جمعة)) ثم أورد حديث سلمان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا سلمان ما يوم الجمعة))؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: ((يا سلمان ما يوم الجمعة))؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((يا سلمان ما يوم الجمعة))؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((يا سلمان يوم الجمعة به جمع أبوك - أو أبوكم - أنا أحدثك عن يوم الجمعة، ما من رجل يتطهر يوم الجمعة كما أمرتم يخرج من بيته حتى يأتي الجمعة، فيقعد، فينصت حتى يقضي صلاته إلا كان كفارة لِمَا قبله من الجمعة)) صححه ابن خزيمة، 3/ 117 - 118، برقم 1732، وقال العلامة الألباني: ((إسناده حسن))، والحديث أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، 6/ 237،برقم 6089،وأحمد في المسند،5/ 439 - 440،وفي الفتح الرباني،6/ 45،قال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 174: ((روى النسائي بعضه [3/ 104]، ورواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن)) انتهى. وفي لفظ أحمد: (( ... لا يتطهر الرجل فيحسن طهوره ثم يأتي يوم الجمعة فينصت حتى يقضي الإمام صلاته إلا كان كفارة له ما بينه وبين الجمعة المقبلة ما اجتنبت المقتلة)) 5/ 439، وفي لفظ لأحمد أيضاً: (( ... ألا أحدثك عن يوم الجمعة؟ لا يتطهر رجل مسلم ثم يمشي إلى المسجد ثم ينصت حتى يقضي الإمام صلاته إلا كانت كفارة لِمَا بينها وبين الجمعة التي بعدها ما اجتنبت المقتلة)) 5/ 440. وقد كان يوم الجمعة يسمَّى في الجاهلية: ((العروبة))؛ لأن العرب كانت تعظمه، وقيل [ذكره السهيلي في الروض الأنف، 1/ 8، 2/ 196]: أول من سمى العروبة كعب بن لؤي، فكانت قريش تجتمع إليه في هذا اليوم، فيخطبهم، ويذكرهم بمبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعلمهم بأنه من ولده، ويأمرهم باتباعه والإيمان به)) انظر: الكشاف للزمخشري، 4/ 97، والوسائل في مسامرة الأوائل، للسيوطي، 19، والإعلام بفوائد عمدة الأحكام، لابن الملقن، 4/ 102 - 103، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للمرداوي،5/ 175،وحاشية ابن قاسم على الروض المربع،2/ 418، وسبل السلام، 3/ 153.

ثانيا: الأصل في وجوب صلاة الجمعة: الكتاب والسنة والإجماع

والجمعة اصطلاحاً: بضم الجيم والميم، ويجوز سكون الميم وفتحها، يوم من أيام الأسبوع، تُصلَّى فيه صلاة خاصة هي صلاة الجمعة (¬1). وصلاة الجمعة: صلاة مستقلة بنفسها، تخالف الظهر: في الجهر، والعدد، والخطبة، والشروط المعتبرة لها، وتوافقها في الوقت (¬2). وأول جمعةٍ جُمّعَتْ بعد جمعةٍ في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجد عبد القيس بجواثى من البحرين)) (¬3). ثانياً: الأصل في وجوب صلاة الجمعة: الكتاب والسنة والإجماع:1 - أما الكتاب فقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجمعة فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬4) فأمر بالسعي، ومقتضى الأمر الوجوب، ولا يجب السعي إلا إلى واجب، ونهى عن البيع؛ لئلا يشتغل به عنها، فلو لم تكن فرضاً لَمَا نهى ¬

(¬1) معجم لغة الفقهاء، للدكتور محمد روَّاس، ص145، وانظر: الإعلام بفوائد عمدة الأحكام لابن الملقن، 4/ 101. (¬2) انظر: زاد المعاد، لابن القيم، 1/ 432 - 434، والإنصاف للمرداوي المطبوع مع المقنع والشرح الكبير، 5/ 159 - 160، والشرح الكبير المطبوع مع المقنع والإنصاف، 5/ 178، وحاشية عبد الرحمن بن محمد بن قاسم على الروض المربع، 2/ 420. (¬3) البخاري، كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن، برقم 892، 4371. (¬4) سورة الجمعة، الآية: 9.

2 - وأما السنة

عن البيع من أجلها، والمراد بالسعي هنا الذهاب إليها لا الإسراع؛ فإن السعي في كتاب الله لم يُرَدْ به العَدْوُ (¬1).2 - وأما السُّنَّة؛ فلحديث ابن عمر وأبي هريرة - رضي الله عنهم - أنهما سمعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لينتهينَّ أقوام عن وَدْعهم (¬2) الجُمُعاتِ أو ليختمنَّ الله على قلوبهم، ثم ليكونُنَّ من الغافلين)) (¬3)؛ ولحديث أبي الجعد الضمري - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من ترك ثلاث جُمَع تَهَاوُناً بها طبع الله على قلبه)) (¬4)، ولفظ الترمذي وابن ماجه: ((من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاوناً بها طبع الله على قلبه)) (¬5). وعن حفصة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((رواح الجمعة واجب على كل محتلم)) (¬6).3 - وأما الإجماع، فأجمع المسلمون على وجوب الجمعة (¬7)، وقال ابن المنذر رحمه الله: ((وأجمعوا على أن الجمعة واجبة على الأحرار، ¬

(¬1) انظر: المغني لابن قدامة،، 3/ 158، والشرح الكبير، 5/ 157. (¬2) ودعهم: الودع: الترك، وهو مصدر: ودع يدع ودعاً، وزعم بعض النحويين أن مصدر مثل هذا الفعل: متروك، وكذلك أفعالها الماضية، وأنهم يستغنون عن ((ودع)) بترك، وعن الودع بالترك، ونحو ذلك، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفصح وأعرف بالعربية. جامع الأصول لابن الأثير،642، 5/ 667. (¬3) مسلم، كتاب الجمعة، باب التغليظ في ترك الجمعة، برقم 865. (¬4) طبع الله على قلبه: الطبع والختم واحد، والمراد أنه بتركه الجمعة قد أغلق قلبه وختم عليه فلا يصل إليه شيء من الخير. جامع الأصول لابن الأثير، 5/ 666. (¬5) أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب التشديد في ترك الجمعة، برقم 1052، والنسائي، كتاب الجمعة، باب التشديد في التخلف عن الجمعة، برقم 1370، والترمذي، كتاب الجمعة، باب ما جاء في ترك الجمعة من غير عذر، برقم 500، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلوات، باب فيمن ترك الجمعة من غير عذر، برقم 1125،والحديث حسنه الترمذي، وقال الألباني في صحيح سنن النسائي،1/ 442: ((حسن صحيح)) وقال عبد القادر الأرناؤوط في تحقيقه لجامع الأصول، 5/ 666: ((وصححه جماعة، وهو حديث صحيح بشواهده))، ورواه النسائي من حديث جابر - رضي الله عنه - برقم 1368، وابن ماجه برقم 1126، بلفظ: ((من ترك الجمعة ثلاثاً من غير ضرورة طبع الله على قلبه))، وقال الألباني في صحيح النسائي، 1/ 442: ((حسن صحيح)). (¬6) النسائي، كتاب الجمعة، باب التشديد في التخلف عن الجمعة، برقم 1370، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 443. (¬7) المغني لابن قدامة، 3/ 159.

ثالثا: حكم صلاة الجمعة: من تجب عليه، ومن لا تجب عليه:

البالغين، المقيمين الذين لا عذر لهم)) (¬1). ثالثاً: حكم صلاة الجمعة: من تجب عليه، ومن لا تجب عليه: صلاة الجمعة فرض عين على كل مسلم، بالغ، عاقل، حُرٍّ (¬2)، مستوطن ببناء يشمله اسم واحد ولا تفرق يسيراً، فإن كان في البلد الذي تقام فيه الجمعة لزمته، ولو كان بينه وبين موضعها فراسخ، ولو لم يسمع النداء؛ لأن البلد كالشيء الواحد مثل: اسم: مكة، والمدينة، والرياض، فما دام البناء يشمله اسم واحد فهو بلد واحد، ولو فرض أن هذا البلد اتسع وصار بين أطرافه أميال كثيرة، أو فراسخ فتلزم الجمعة من بأقصاه الشرقي، كما تلزم من بأقصاه الغربي، وهكذا الشمال والجنوب؛ لأنه بلد واحد ليس بينه وبين المسجد أكثر من ثلاثة أميال ¬

(¬1) الإجماع لابن المنذر، ص44. (¬2) وقيل: تجب على المملوك؛ لأنه داخل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9]. وهي رواية عن أحمد، وقيل: إذا أذن له سيده لزمته وإذا لم يأذن له لا تلزمه، وهي رواية ثالثة عن أحمد، انظر: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي، 5/ 171، والمغني لابن قدامة، 3/ 217، والشرح الكبير، 5/ 160، وقال السعدي رحمه الله: ((الصواب أن الجمعة والجماعة تجب على العبيد الأرقاء؛ لأن النصوص عامة في دخولهم، ولا دليل يدل على إخراج العبيد، وأما حديث طارق بن شهاب: ((الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة))، فذكر منهم العبد المملوك فهو حديث ضعيف الإسناد ... وأصح منه حديث حفصة في سنن النسائي مرفوعاً: ((رواح الجمعة واجب على كل محتلم)) [برقم 1370، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 443] وهو عام في الحر والمملوك، والأصل أن المملوك حكمه حكم الحر في جميع العبادات البدنية المحضة التي لا تعلق لها بالمال)). الاختيارات الجلية، ص69، واختار تلميذه محمد بن صالح العثيمين رحمه الله القول الثالث، وهو أن الجمعة تلزم العبد إذا أذن له سيده، وقال: ((وهذا القول قول وسط بين قول من يلزمه جمعة مطلقاً وقول من لا يلزمه مطلقاً)) الشرح الممتع، 5/ 9، ولكن سماحة شيخنا الإمام ابن باز ذكر أن حديث طارق بن شهاب صحيح؛ وأن مرسل الصحابي لا يضر، وهو مقبول وقد ذكر غير واحد إجماع أهل العلم على قبول مرسل الصحابي، وقد صرح بالسماع عن أبي موسى الأشعري فزال ما يخشى منه معنى كلامه رحمه الله، وسيأتي نصه إن شاء الله مع تخريج الحديث. وقال شيخ الإسلام في الفتاوى،24/ 184: ((وجوبها على العبد قوي إما مطلقاً وإما إذا أذن له سيده)).

1 - أما الإسلام

تقريباً إذا لم يكن له عذر؛ لأن الموضع الذي يسمع منه النداء في الغالب، إذا كانت الأصوات هادئة، والموانع منتفية، والريح ساكنة، والمؤذن صيّتاً على موضع عال، والمستمع غير ساهٍ ثلاثة أميال أو ما يقاربها، فحُدَّ بذلك تقريباً، والله أعلم (¬1). هذا إذا كان خارج البلد، أما إذا كان البلد واحداً، فإن الجمعة تلزمه ولو كان بينه وبين موضع الجمعة فراسخ كما تقدم. وخلاصة القول: أن صلاة الجمعة تلزم من توفرت فيه هذه الثمانية شروط، وهي: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والذكورية، والحرية، والاستيطان، وإمكان سماع النداء إذا كان لا يشمل المستمع اسم البلد، وانتفاء الأعذار (¬2). 1 - أما الإسلام؛ فلأن الكافر لا تصح منه الصلاة، ولا أي عبادة؛ لقول الله - عز وجل -: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} (¬3)، وقوله تعالى: {ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬4)، والكافر مخاطب بفروع الشريعة الإسلامية كما هو مخاطب بأصولها، ولكن لو عمل بفروع الشريعة ولم يدخل في الإسلام لا تقبل منه حتى يدخل في الإسلام (¬5). 2 - وأما البلوغ؛ فلحديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، ¬

(¬1) انظر: المغني، 3/ 244 - 446، والشرح الكبير، لابن قدامة، 5/ 160 - 164، والإنصاف للمرداوي، 5/ 160 - 166، والروض المربع مع حاشية ابن قاسم، 2/ 418 - 424، والشرح الممتع للعلامة ابن عثيمين، 5/ 7 - 19. (¬2) انظر: الشرح الكبير، 5/ 160، والكافي لابن قدامة، 1/ 477 - 478. (¬3) سورة الفرقان، الآية:23. (¬4) سورة الأنعام، الآية: 88. (¬5) انظر: حاشية ابن قاسم على الروض المربع،2/ 421،والشرح الممتع، لابن عثيمين، 5/ 10 - 11.

3 - وأما العقل

وعن المجنون حتى يعقل)) (¬1)؛ ولحديث عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق)) (¬2). 3 - وأما العقل؛ فلحديث علي وعائشة رضي الله عنهما كما تقدم.4 - وأما الذكورية، فذكر ابن المنذر الإجماع على أنه ليس على النساء جمعة (¬3). 5 - وأما الحرية؛ فلحديث طارق بن شهاب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض)) (¬4). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله يقول: ((هذا يدل على أن الجمعة حق واجب)) (¬5). ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، كتاب الحدود، بابٌ في المجنون يسرق أو يصيب حداً، برقم 443، واللفظ له، والترمذي، كتاب الحدود، باب من جاء فيمن لا يجب عليه الحد، رقم 1423، وابن ماجه، كتاب الطلاق، باب طلاق المعتوه والصغير والنائم، برقم 2042، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 3/ 56، وإرواء الغليل 2/ 5 - 6، وغيرهما. (¬2) النسائي، كتاب الطلاق، باب من لا يقع طلاقه من الأزواج، برقم 3432، وأبو داود، كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حداً، برقم 4398، وابن ماجه، كتاب الطلاق، باب طلاق المجنون والصغير والنائم، برقم 2042، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 55، وفي إرواء الغليل، برقم 297. (¬3) انظر: الإجماع لابن المنذر، ص44. (¬4) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الجمعة للمملوك والمرأة، برقم 1067، قال أبو داود: طارق بن شهاب قد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمع منه شيئاً. وصحح الحديث العلامة الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 294، ورواه الحاكم عن طارق بن شهاب عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، 1/ 288، وقال: ((هذا حديث صحيح على شرط الشيخين))، ووافقه الذهبي. وسمعت شيخنا ابن باز يقول: ((لمرسل مرسل صحابي وقد ذكر غير واحد إجماع أهل العلم على قبول مرسل الصحابي، وقد صرح بالسماع عن أبي موسى الأشعري فزال ما يخشى، وإن صلى هؤلاء الأربعة أجزأتهم)) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 494. (¬5) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 494.

6 - الاستيطان ببناء معتاد

6 - الاستيطان ببناء معتاد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((كل قوم كانوا مستوطنين ببناء متقارب، لا يظعنون عنه شتاءً ولا صيفاً، تقام فيه الجمعة إذا كان مبنياً بما جرت به عادتهم: من مدر (¬1) وخشب، أو قصب، أو جريد، أو سعف، أو غير ذلك؛ فإن أجزأ البناء ومادته لا تأثير لها في ذلك، إنما الأصل أن يكونوا مستوطنين، ليسوا كأهل الخيام، والحلل الذين يتتبعون في الغالب مواقع القطر، ويتنقلون في البقاع، وينقلون بيوتهم معهم، إذا انتقلوا، وهذا مذهب جمهور العلماء ... وقال الإمام أحمد: ليس على البادية جمعة؛ لأنهم ينتقلون، فعلَّل سقوطها بالانتقال، فكل من كان مستوطناً لا ينتقل باختياره فهو من أهل القرى)) (¬2). والمسافر لا جمعة عليه؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسافر أسفاراً كثيرة: قد اعتمر ثلاث عمر سوى عمرة حجته، وحج حجة الوداع، ومعه ألوف مؤلفة، وغزا أكثر من عشرين غزوة ولم ينقل عنه أحد قط أنه صلى في السفر لا جمعة ولا عيداً، بل كان يصلي ركعتين ركعتين في جميع أسفاره، ويوم الجمعة يصلي ركعتين كسائر الأيام، وكان يوم عرفة في حجة الوداع يوم الجمعة، وصلى ظهراً، ففي صحيح مسلم من حديث جابر - رضي الله عنه -: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لَمّا وصل بطن الوادي يوم عرفة نزل فخطب الناس، ثم بعد الخطبة أذَّن بلال، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر)) (¬3). وهذا نص واضح صريح صحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصلّ الجمعة، وإنما صلى ¬

(¬1) مدر: الطين اليابس. القاموس المحيط، فصل الميم، باب الراء، ص609. (¬2) فتاوى ابن تيمية 24/ 166، 169، وقال ابن تيمية رحمه الله: ((وتجب الجمعة على من أقام في غير بناء: كالخيام وبيوت الشعر ونحوها، وهو أحد قولي الشافعي، وحكاه الأزجي رواية عن أحمد ... )) وقال أبو العباس ابن تيمية في موضع آخر: ((يشترط مع إقامتهم في الخيام ونحوها أن يكونوا يزرعون كما يزرع أهل القرية)) الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص119،وانظر: المغني لابن قدامة، 3/ 203. (¬3) مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 1218.

7 - سماع النداء

ظهراً (¬1) هذا هو الحق الذي لا شك فيه (¬2). 7 - سماع النداء؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجمعة فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬3) فالمعتبر في رواية عن الإمام أحمد: إمكان سماع النداء، ويمكن سماعه في الغالب على بعد فرسخ، وهو: ثلاثة أميال تقريباً إذا كانت الأصوات هادئة، والموانع منتفية، والريح ساكنة، والمؤذن صيّتاً، على موضع عالٍ، والمستمع غير ساهٍ، وهذا إذا كان خارج البلد، أما إذا كان داخل البلد، ويشمل موضعه اسم البلد وجبت ¬

(¬1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، 24/ 178 - 179 بتصرف يسير، والشرح الممتع لابن عثيمين، 5/ 13، والشرح الكبير، 5/ 169. (¬2) وحكي عن الزهري، والنخعي، أن صلاة الجمعة تجب على المسافر؛ لأن الجماعة تجب عليه فالجمعة أولى، والصواب ما تقدم. انظر: الشرح الكبير، 5/ 169، والمغني لابن قدامة، 3/ 216، لكن إذا أجمع المسافر إقامة تمنع القصر ولم يرد استيطاناً لبلد: كطالب العلم، أو التاجر الذي يقيم ليبيع متاعه، أو مشتري شيء لا ينجز إلا في مدة طويلة ففيه وجهان عند الحنابلة: الوجه الأول: تلزمه الجمعة لعموم الآية، ودلالة الأخبار؛ فإن الأخبار جاءت بوجوب الجمعة إلا على خمسة: المريض، والمسافر، والمرأة، والصبي، والمملوك، وليس المسافر المقيم إقامة تمنع القصر من هؤلاء الخمسة. الوجه الثاني: لا تجب عليه؛ لأنه ليس بمستوطن، والاستيطان من شروط الوجوب؛ ولأنه لم ينوِ الإقامة في هذا البلد على الدوام، فأشبه أهل القرية الذين يسكنونها صيفاً ويظعنون عنها شتاء. انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 218، والشرح الكبير، المطبوع مع المقنع والإنصاف، 5/ 170. والصواب أن المسافر الذي أقام إقامة تمنع القصر ولم ينو الاستيطان أن وجوب صلاة الجمعة عليه فيه تفصيل: أ - إذا أقام المسافرون إقامة تمنع القصر في مكان لا تقام فيه صلاة الجمعة فلا تجب عليهم صلاة الجمعة؛ لأنهم أشبه بالمسافرين وسكان البادية، والجمعة إنما تجب على المستوطنين. ب - إذا أقاموا في مكان تقام فيه صلاة الجمعة من المسلمين المستوطنين فالمشروع أن يصلوا معهم؛ لأن الجمعة تلزمهم بغيرهم، ورجحه المرداوي في الإنصاف قال: ((فالصحيح من المذهب أن الصلاة تلزمه بغيره)) الإنصاف، 5/ 170، وهذا ما أفتى به شيخنا ابن باز أهل الغربة في مجموع الفتاوى، 12/ 376 - 377، وانظر: المغني لابن قدامة، 3/ 218، والشرح الكبير، 5/ 170، والشرح الممتع لابن عثيمين، 5/ 25، وحاشية ابن قاسم مع الروض المربع، 2/ 426. (¬3) سورة الجمعة، الآية: 9.

8 - انتفاء الأعذار

عليه الجمعة ولو كان بينه وبينها فراسخ (¬1)، ولو لم يسمع النداء؛ لأن البلد كالشيء الواحد (¬2). 8 - انتفاء الأعذار، فإذا كان من توفرت فيه شروط الجمعة غير معذور وجبت عليه، أما إذا كان معذوراً فلا تجب عليه الجمعة، وقد ذكرت هذه الأعذار بأدلتها في آخر صلاة الجماعة (¬3)، وهذه الشروط تنقسم إلى أربعة أقسام: القسم الأول: شرط للصحة والانعقاد، وهو: الإسلام والعقل. القسم الثاني: شروط للوجوب والانعقاد، وهي: الحرية على قول، والذكورية، والبلوغ، والاستيطان. القسم الثالث: شرط لوجوب السعي فقط، وهو انتفاء الأعذار. القسم الرابع: شرط الانعقاد: وهو الإقامة بمكان الجمعة على قول (¬4). رابعاً: من حضر الجمعة ممن لا تجب عليه من المسلمين العقلاء، أجزأته عن الظهر، وانعقدت به، وصحّ أن يؤم فيها على الصحيح؛ إلا المرأة، فلا يصح أن تكون خطيباً ولا إماماً، ولا تنعقد بها الجمعة: أي لا تحسب من العدد الذي تصح به صلاة الجمعة، ولكن لو حضرتها أجزأتها عن صلاة الظهر، قال ابن المنذر - رحمه الله -: ((وأجمعوا على أنهن إذا حضرن الإمام ¬

(¬1) تقدم غير مرة: أن الفرسخ ثلاثة أميال. (¬2) انظر: الإنصاف للمرداوي، 5/ 160، والمغني لابن قدامة، 3/ 244، والشرح الكبير لابن قدامة، 5/ 160، والروض المربع مع حاشية ابن قاسم، 2/ 218 - 424، والشرح الممتع لابن عثيمين، 5/ 7 - 19، وصحيح البخاري، رقم 902. (¬3) وقد سبق أن الأعذار التي تسقط بها الجمعة والجماعة ثمانية أشياء: المرض، والخوف على النفس أو المال أو العرض، والمطر، والدحض، والريح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة، وحضور الطعام والنفس تتوق إليه، ومدافعة أحد الأخبثين، وأن يكون له قريب يخاف موته ولا يحضره، وتقدمت الأدلة على ذلك في الأعذار المسقطة لصلاة الجماعة. (¬4) انظر: الكافي لابن قدامة، 1/ 478 - 479.

خامسا: عقوبة تارك صلاة الجمعة عظيمة

فصلين معه أن ذلك يجزئ عنهن)) (¬1) (¬2). خامساً: عقوبة تارك صلاة الجمعة عظيمة؛ لحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: ((لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس ثم أُحرّق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم)) (¬3)، ولحديث أبي هريرة وابن عمر - رضي الله عنهم - أنهما سمعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لينتهينَّ أقوام عن ودعهم الجُمعات أو ليختمنَّ الله على قلوبهم، ثم ليكونُنَّ من الغافلين)) (¬4)؛ ولحديث أبي الجعد الضمري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من ترك ثلاث جُمع تهاوناً بها طبع الله على قلبه)) (¬5). سادساً: حكم السفر في يوم الجمعة لمن تلزمه: لا يجوز إذا أذن المؤذن بعد دخول وقتها؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجمعة فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬6) (¬7) إلا إذا خاف فوات رفقته، فإن خاف فواتهم فله أن ¬

(¬1) الإجماع لابن المنذر، ص44. (¬2) اختلف أهل العلم في إمامة المسافر في صلاة الجمعة، وكذلك إمامة المملوك، فقال قوم لا يؤم المسافر ولا المملوك في صلاة الجمعة، ولا يعتبر بهما في العدد المشروط، وقال آخرون: بل تصح إمامتهما ويعتبر بهما في العدد المشروط، واختار شيخ الإسلام أن العبد والمسافر تنعقد بهما الجمعة، وتصح إمامتهما؛ لأن من صحت منه انعقدت به، وصحت إمامته. نقله ابن قاسم في حاشية الروض، 2/ 427 وبين أن إمامة المرأة والخنثى لا تصح بلا نزاع، وأما إمامة العبد والمسافر فتجوز وفاقاً إلا مالكاً في العبد، وجمهور العلماء على خلافه، ونقل أبو حامد إجماع المسلمين على صحتها خلف المسافر، حاشية ابن قاسم على الروض المربع، 2/ 427، وذكر المرداوي أن من حضرها منهم أجزأته عن الظهر بلا نزاع، وذكر رواية عن الإمام أحمد أن صلاة الجمعة تنعقد بالعبد ويؤم فيها، وقال في الصبي المميز إن قلنا تجب عليه انعقدت به وأم فيها. انظر الإنصاف، 5/ 173 - 174، والمغني، 3/ 220، والشرح الكبير، 5/ 173،ورجح العلامة ابن عثيمين أن الصحيح أن الجمعة تنعقد بالمسافر والعبد ويصح أن يكونوا أئمة وخطباء؛ لأن القول بعدم صحة ذلك لا دليل عليه. الشرح الممتع، 5/ 23. (¬3) مسلم، كتاب المساجد، باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها، برقم 652. (¬4) مسلم، برقم 865، وتقدم تخريجه في الأصل في وجوب صلاة الجمعة. (¬5) أبو داود، برقم 1052، والنسائي، برقم 1370، والترمذي، برقم 500، وتقدم تخريجه في الأصل في وجوب الجمعة. (¬6) سورة الجمعة، الآية: 9. (¬7) يعبر الفقهاء بقولهم: ((لا يجوز لمن تلزمه الجمعة السفر في يومها بعد الزوال)) المغني لابن قدامة، 3/ 247، والشرح الكبير، 5/ 182، والمقنع، 5/ 182، ولكن قال العلامة ابن عثيمين: ((الأولى أن يعلق الحكم بما علقه الله به وهو النداء إلى الجمعة؛ لأنه من الجائز أن يتأخر الإمام عن الزوال ... فلا ينادى للجمعة إلا عند حضور الإمام، ولكن الغالب أن الإمام يحضر إذا زالت الشمس)) الشرح الممتع، 5/ 29 - 30.

سابعا: فضائل يوم الجمعة، له فضائل كثيرة، منها ما يلي:

يسافر؛ لأن هذا عذر في ترك الجمعة نفسها، فكذلك يكون عذراً في السفر بعد دخول وقت الجمعة بعد الزوال. وكذلك يجوز له السفر إذا كان يمكنه أن يأتي بصلاة الجمعة في طريقه في مسجد آخر من غير كراهة (¬1)، والله - عز وجل - أعلم (¬2). سابعاً: فضائل يوم الجمعة، له فضائل كثيرة، منها ما يلي: 1 - هداية هذه الأمة ليوم الجمعة فضل عظيم؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ¬

(¬1) انظر: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للمرداوي،5/ 182،185،والشرح الممتع،5/ 30. (¬2) اختلف العلماء في جواز السفر يوم الجمعة على أقوال: أولاً: اختلفوا في جوازه من طلوع الفجر إلى الزوال على خمسة أقوال: القول الأول: الجواز، وهو قول أكثر العلماء، كعمر بن الخطاب، والزبير بن العوام، وأبي عبيدة، وابن عمر، والحسن، وابن سيرين، والزهري، وأبي حنيفة، ومالك في المشهور عنه، والأوزاعي، وأحمد بن حنبل في المشهور عنه، وهو القول القديم للشافعي، وحكاه ابن قدامة عن أكثر أهل العلم. القول الثاني: المنع منه، وهو قول الشافعي في الجديد، ورواية عن أحمد، ورواية عن مالك. القول الثالث: جواز السفر للجهاد دون غيره، وهو رواية عن أحمد. القول الرابع: جواز السفر الواجب دون غيره، وهو اختيار أبي إسحاق المروزي من الشافعية، ومال إليه إمام الحرمين. القول الخامس: جواز سفر الطاعة واجباً كان أو مسنوناً، وهو قول كثير من الشافعية، وصححه الرافعي. ثانياً: اختلفوا في جواز السفر يوم الجمعة بعد الزوال، فذهب أبو حنيفة والأوزاعي إلى جوازه كسائر الصلوات، وقال عامة العلماء بعدم جوازه وفرقوا بين الجمعة وغيرها. والصواب في ذلك إن شاء الله تعالى أن السفر يوم الجمعة لا يجوز بعد الأذان الذي بعد دخول وقت الجمعة إلا أن يخشى حصول مضرة من تخلفه للجمعة: كالانقطاع عن الرفقة التي لا يتمكن من السفر إلا معها، وما شابه ذلك من الأعذار، وقد جاز التخلف عن الجمعة لعذر المطر الشاق فجوازه لما كان أدخل في المشقة منه أولى. وكذلك يجوز السفر بعد الزوال إذا تيقن أن يأتي بصلاة الجمعة في طريقه في مسجد آخر، والله أعلم. انظر: نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 492 - 493، وزاد المعاد لابن القيم، 1/ 382 - 385، والمغني لابن قدامة، 3/ 247 - 248، والمقنع مع الشرح الكبير والإنصاف، 5/ 182، وحاشية ابن قاسم على الروض المربع، 2/ 430.

2 - يوم الجمعة خير يوم طلعت عليه الشمس

قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد (¬1) أنهم أُوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم اختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع: اليهود غداً، والنصارى بعد غدٍ)) وفي لفظ للبخاري: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد كل أمة أُوتوا الكتاب من قبلنا وأُوتيناه من بعدهم ... )) ولفظ مسلم: ((نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة، بيد أنهم أُوتوا الكتاب من قبلنا وأُوتيناه من بعدهم، فاختلفوا فهدانا الله لِمَا اختلفوا فيه من الحق، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه هدانا الله له - قال يوم الجمعة (¬2) - فاليوم لنا، وغداً لليهود، وبعد غد للنصارى)) (¬3). وقد فسرته الرواية الأخرى عند مسلم من حديث حذيفة - رضي الله عنه - ((أضلّ الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة، والسبت، والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة المقضيُّ لهم قبل الخلائق)).وفي رواية واصل: ((المقضي بينهم)) (¬4). 2 - يوم الجمعة خير يوم طلعت عليه الشمس؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة: فيه خُلِقَ آدم، وفيه أُدْخِلَ الجنة، وفيه أُخْرِجَ منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة)) (¬5)، ولفظ أبي داود: ((خير يوم طلعت فيه الشمس يوم ¬

(¬1) بيد أنهم: أي غير أنهم؛ فإن بيد تأتي: بمعنى غير، وبمعنى على، وبمعنى من أجل. وقيل: ميد بمعنى غير أيضاً. انظر: المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 2/ 491. (¬2) قال: أي قال الراوي، ويفسره ما في النسائي: ((يعني يوم الجمعة)). (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة، برقم 876، ورقم 3486،ومسلم، كتاب الجمعة، باب هداية الله هذه الأمة ليوم الجمعة، برقم 855. (¬4) مسلم، كتاب الجمعة، باب هداية الله هذه الأمة ليوم الجمعة، برقم 856. (¬5) مسلم، كتاب الجمعة، باب في الساعة التي يوم الجمعة، برقم 854.

3 - يوم الجمعة سيد الأيام

الجمعة: فيه خُلِق آدم، وفيه أُهبط، وفيه تِيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مسيخة (¬1) يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقاً من الساعة، إلا الجن والإنس، وفي ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله حاجة إلا أعطاه إياها)) قال كعب: ذلك في كل سنة يوم؟ فقلت: بل في كل جمعة، قال: فقرأ كتب التوراة فقال: صدق النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال أبو هريرة: ثم لقيت عبد الله بن سلام فحدثته بمجلسي مع كعب، فقال عبد الله بن سلام: قد علمت أي ساعة هي! قال أبو هريرة: فقلت له: أخبرني بها؟ فقال عبد الله بن سلام: هي آخر ساعة من يوم الجمعة، فقلت: كيف هي آخر ساعة من يوم الجمعة وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي)) وتلك الساعة لا يُصلَّى فيها؟ فقال عبد الله بن سلام: ألم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من جلس مجلساً ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصلي)) قال: فقلت: بلى، قال: هو ذاك)) (¬2). 3 - يوم الجمعة سيد الأيام؛ لحديث أبي لبابة بن عبد المنذر، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن يوم الجمعة سيد الأيام، وأعظمها عند الله، وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى، ويوم الفطر، فيه خمس خلال: خلق الله فيه آدم، وأُهبط فيه آدم إلى الأرض، وفيه تَوفَّى الله آدم، وفيه ساعة لا يسأل اللهَ فيها العبدُ شيئاً إلا أعطاه ما لم يسأل حراماً، وفيه تقوم الساعة، ما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض، ولا رياح، ولا جبال، ولا بحر إلا وهن يشفقن من يوم الجمعة)) (¬3). ¬

(¬1) مسيخة، وروي مصيخة، والسين بدلاً من الصاد، ومعناهما: منتظرة لقيام الساعة. (¬2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة، رقم 1046، واللفظ له، 1/ 290، والترمذي، كتاب الجمعة، باب ما جاء في الساعة التي ترجى في يوم الجمعة، برقم 491، والنسائي، كتاب الجمعة، باب ذكر الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة، برقم 1429، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 290، وصحيح الترمذي، 1/ 278 وغيرهما. (¬3) ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب فضل يوم الجمعة، 1084، وأحمد، 3/ 430، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 321، ومشكاة المصابيح، 1/ 400.

4 - يوم الجمعة أفضل الأيام

4 - يوم الجمعة أفضل الأيام؛ لحديث أوس بن أوس - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فيه خُلِق آدم، وفيه قُبِضَ، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه؛ فإن صلاتكم معروضة عليَّ)). قال: قالوا: يا رسول الله! وكيف تُعرض صلاتنا عليك وقد أرَمْتَ؟ - يقولون: بليت - فقال: ((إن الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)) (¬1). 5 - يوم الجمعة عيد الأسبوع، ويوم المزيد لأهل الجنة؛ لحديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: عرضت الجمعة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جاء جبريل في كفه كالمرآة البيضاء، في وسطها كالنكتة السوداء، فقال: ((ما هذه يا جبريل))؟ قال: هذه الجمعة يعرضها عليك ربك لتكون لك عيداً ولقومك من بعدك، ولكم فيها خير، تكون أنت الأول، ويكون اليهود والنصارى من بعدك، وفيها ساعة لا يدعو أحد ربه بخير هو قِسْمٌ إلا أعطاه، أو يتعوذ من شر إلا دفع عنه ما هو أعظم منه، ونحن ندعوه في الآخرة يوم المزيد، وذلك أن ربك اتخذ في الجنة وادياً أفيح من مسك أبيض، فإذا كان يوم الجمعة نزل من عليين فجلس على كرسيه، وحُفّ الكرسي بمنابر من نور، فجلس عليها النبيون، وحُفَّ المنابر بكراسي من ذهب مكللة بالجواهر، وجاء الصديقون والشهداء، فجلسوا عليها، وجاء أهل الغرف من غرفهم حتى يجلسوا على الكثيب وهو كثيب أبيض من مسك أذفر، ثم يتجلَّى لهم ذو الجلال والإكرام، فيقول: أنا الذي صدقتكم وعدي، وأتممت عليكم نعمتي، وهذا محل كرامتي فسلوني، فيسألونه الرضى، [فيقول: رضاي أحلكم داري، وأنالكم كرامتي، فسلوني، فيسألونه الرضا] فيشهد عليهم على ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة، برقم 1047، والنسائي، كتاب الجمعة، باب إكثار الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة، برقم 1373، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب فضل الجمعة، برقم 1085، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 290، وصحيح ابن ماجه، 1/ 322، وصحيح النسائي، 1/ 443.

الرضا ثم يفتح لهم ما لم ترَ عينٌ، ولم يخطر [على] قلب بشر، إلى مقدار منصرفهم من الجمعة، وهي زبرجدة خضراء، أو ياقوتة حمراء، مُطَّرِدة فيها أنهارها متدلية فيها ثمارها، فيها أزواجها وخدمها، فليس هم في الجنة بأشوق منهم إلى يوم الجمعة، ليزدادوا نظراً إلى ربهم - عز وجل - وكرامته، ولذلك دعي يوم المزيد)) (¬1). وعن أنس - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن في الجنة لسوقاً يأتونها كل جمعة، فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم، فيزدادون حسناً وجمالاً، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسناً وجمالاً، فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً)) (¬2). قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: ((وسمي سوقاً؛ لقيام الناس فيها على ساق، وقيل: لسوق الناس بضائعهم إليها، فيحتمل أن يكون سوق الجنة عبارة عن مجتمع أهل الجنة، ومحل تزاورهم، وسمّي سوقاً بالمعنى الأول، ويؤيد هذا أن أهل الجنة لا يفقدون شيئاً حتى يحتاجوا إلى شرائه من السوق، ويحتمل أن يكون سوقاً مشتملاً على محاسن ومشتهيات مستلذات تجتمع هنالك مرتبة، محسَّنة، كما تجتمع في الأسواق، حتى إذا جاء أهل الجنة فرأوها فمن اشتهى شيئاً وصل إليه من غير مبايعة ولا معاوضة، ونعيم الجنة وخيرها أعظم وأوسع من ذلك كله، وخصّ يوم الجمعة بذلك لفضيلته، ولِمَا خصّه الله تعالى به من الأمور التي تقدم ذكرها؛ ولأنه يوم المزيد: أي الذي يُوفَّى لهم ما وُعِدوا من الزيادة، وأيام الجنة تقديرية إذ لا ليل ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في الأوسط [مجمع البحرين في زوائد المعجمين، برقم 4879، 8/ 154، وبرقم 944 مختصراً، 2/ 197]، قال المنذري في الترغيب والترهيب: ((رواه الطبراني في الأوسط بإسناد جيد))، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 435: ((حسن صحيح))، وقال في موضع آخر في صحيح الترغيب والترهيب، 3/ 525: ((حسن لغيره)). (¬2) مسلم، كتاب الجنة ونعيمها، باب في سوق الجنة وما ينالون فيها من النعيم والجمال، برقم 2833.

6 - يوم الجمعة فيه ساعة إجابة الدعوات

هناك ولا نهار، وإنما هناك أنوار متوالية لا ظلمة معها)) (¬1). 6 - يوم الجمعة فيه ساعة إجابة الدعوات؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: ((إن في الجمعة لساعة لا يوافقها [عبد] مسلم قائم يصلي يسأل الله خيراً إلا أعطاه إياه)) وقال بيده يُقَلّلُها يُزهّدها. وفي لفظ للبخاري: وأشار بيده يقللها. وفي رواية لمسلم: ((وهي ساعة خفيفة)) (¬2). وقد اختلف الناس في تعيين ساعة الإجابة يوم الجمعة أي ساعة هي (¬3)؟ قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ((وأرجح هذه الأقوال قولان تضمنتهما الأحاديث الثابتة وأحدهما أرجح من الآخر)) (¬4)، ثم ذكر أنها من جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة، والقول الآخر: أنها آخر ساعة بعد العصر (¬5)، والقولان تفصيلاً على النحو الآتي: القول الأول: إنها من جلوس الإمام على المنبر إلى انقضاء الصلاة، وحجة هذا القول؛ حديث أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، قال: قال لي عبد الله بن عمر: أسمعت أباك يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شأن ساعة الجمعة؟ قال: قلت: نعم، سمعته يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((هي ما ¬

(¬1) المفهم لِمَا أشكل من تلخيص مسلم، 7/ 178. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الجمعة، باب الساعة التي في يوم الجمعة، برقم 935، ومسلم، كتاب الجمعة، بابٌ في الساعة التي في يوم الجمعة، برقم 852. (¬3) ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري،2/ 416 - 421:ثلاثة وأربعين قولاً في اختلاف العلماء في ساعة الجمعة، ثم قال: ((ولا شك أن أرجح الأقوال المذكورة حديث أبي موسى وحديث عبد الله بن سلام ... وقد اختلف السلف أيهما أرجح)). ثم بيّن أن أكثر العلماء كأحمد وغيره رجحوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة، ثم مال ابن حجر في آخر كلامه إلى قول ابن القيم أن الإجابة ترجى في ساعة الصلاة أيضاً، فكلاهما ساعة إجابة، وإن كان الساعة المخصوصة هي آخر ساعة بعد العصر. انظر: الفتح، 2/ 416 - 422. (¬4) زاد المعاد لابن القيم، 1/ 389 - 390. (¬5) انظر: المرجع السابق، 1/ 390، وشرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 388.

القول الثاني: إن ساعة الإجابة في يوم الجمعة آخر ساعة بعد العصر

بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة)) (¬1). القول الثاني: إن ساعة الإجابة في يوم الجمعة آخر ساعة بعد العصر، قال الإمام ابن القيم: ((وهذا أرجح القولين وهو قول: عبد الله بن سلام، وأبي هريرة، والإمام أحمد، وخلق)) (¬2)، وحجة هذا القول أحاديث كثير، منها، حديث جابر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة [فيها ساعة] لا يوجد فيها عبد مسلم يسأل الله شيئاً إلا آتاه إياه، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر)) (¬3)، وحديث عبد الله بن سلام قال: ¬

(¬1) مسلم، كتاب الجمعة، باب في الساعة التي في يوم الجمعة، برقم 853، قال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام (488): ((ورجح الدارقطني أنه من قول أبي بردة))، قال النووي: ((هذا الحديث مما استدركه الدارقطني على مسلم، وقال: لم يسنده غير مخرمة عن أبيه عن أبي بردة، ورواه جماعة عن أبي بردة من قوله، ومنهم من بلغ به أبا موسى ولم يرفعه، قال: [القائل الدارقطني]: ((والصواب أنه من قول أبي بردة، كذلك رواه يحيى القطان عن الثوري عن أبي إسحاق عن أبي بردة وتابعه واصل الأحدب ومخالد روياه عن أبي بردة من قوله، وقال النعمان بن عبد السلام عن الثوري عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبيه موقوف ولا يثبت قوله عن أبيه، وقال أحمد بن حنبل عن حماد بن خالد: قلت لمخرمة سمعت من أبيك شيئاً؟ قال: لا. هذا كلام الدارقطني. وهذا الذي استدركه [القائل النووي] بناه على القاعدة المعروفة له ولأكثر المحدثين أنه إذا تعارض في رواية الحديث: وقف ورفع، أو إرسال واتصال حكموا بالوقف والإرسال، وهي قاعدة ضعيفة ممنوعة، والصحيح طريقة الأصوليين، والفقهاء، والبخاري، ومسلم، ومحققي المحدثين أنه يحكم بالرفع والاتصال؛ لأنها زيادة ثقة، وقد سبق التنبيه على مثل هذا في الفصول السابقة في مقدمة الكتاب، وسبق التنبيه على مثل هذا في مواضع أخرى بعدها، وقد روينا في سنن البيهقي عن أحمد بن سلمة قال: ذاكرت مسلم بن الحجاج حديث مخرمة هذا فقال مسلم: هو أجود حديث وأصحه في بيان ساعة الجمعة)) انتهى كلام النووي رحمه الله. شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 390، وسمعت شيخنا الإمام ابن باز يقول عن حديث أبي بردة عن أبي موسى أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 488: ((القاعدة أن زيادة الثقة مقبولة، وهذا ما لا يقال بالرأي فلا يمنع أن يكون مرفوعاً))، وسمعته يقول أثناء تقريره على صحيح مسلم، الحديث رقم 853: ((والصواب مع مسلم، فإن زيادة الثقة مقبولة، وهو صحيح مرفوعاً)). (¬2) زاد المعاد لابن القيم، 1/ 390. (¬3) أخرجه النسائي بلفظه، كتاب الجمعة، باب وقت الجمعة، برقم 1387،وما بين المعقوفين من السنن الكبرى له، 1/ 256/1697،وأبو داود، كتاب الصلاة، باب الإجابة، أية ساعة هي في يوم الجمعة، برقم 1048،والحاكم وصححه ووافقه الذهبي،1/ 279،وحسن إسناده الحافظ ابن حجر في فتح الباري، 2/ 420، وصححه الألباني في صحيح النسائي،1/ 448،وفي صحيح أبي داود، 1/ 290.

قلت - ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس -: إننا لنجد في كتاب الله تعالى في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يصلي يسأل الله فيها شيئاً إلا قضى له حاجته. قال عبد الله: فأشار إليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أو بعض ساعة)) فقلت: صدقت، أو بعض ساعة. قلت: أي ساعة هي؟ قال: ((هي آخر ساعات النهار)) قلت: إنها ليست ساعة صلاة؟ قال: ((بلى، إن العبد المؤمن إذا صلى ثم جلس لا يحبسه إلا الصلاة فهو في صلاة)) (¬1)؛ ولحديث: ((التمسوا الساعة التي ترجى في يوم الجمعة بعد العصر إلى غيبوبة الشمس)) (¬2)؛ ولحديث أبي سعيد، وأبي هريرة رضي الله عنهما (¬3)، وحديث أبي هريرة عن عبد الله بن سلام من قوله، وفيه مناظرة أبي هريرة له في ذلك، واحتجاج عبد الله بن سلام بأن منتظر الصلاة في صلاة (¬4)، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن أن ناساً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اجتمعوا فتذاكروا ساعة الجمعة ثم افترقوا فلم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة)) (¬5)، والله الموفق (¬6). ¬

(¬1) ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الساعة التي ترجى في الجمعة، برقم 1139،وقال العلامة الألباني في صحيح ابن ماجه،1/ 337: ((حسن صحيح)) وكذلك في مشكاة المصابيح، برقم 1359. (¬2) الترمذي، كتاب الجمعة، باب ما جاء في الساعة التي ترجى في يوم الجمعة، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 1/ 277، وفي صحيح الترغيب، 1/ 238. (¬3) أحمد في المسند، 2/ 272، ويشهد له حديث جابر السابق. (¬4) أبو داود، برقم 1046،والترمذي، برقم 491، والنسائي، برقم 1429، والإمام مالك في الموطأ، 1/ 182، 183، وصححه الألباني، وتقدم تخريجه في يوم الجمعة خير يوم طلعت عليه الشمس. (¬5) نقلاً عن فتح الباري لابن حجر، 2/ 421، وزاد المعاد لابن القيم، 1/ 391. (¬6) وذكر الحافظ أن كثيراً من الأئمة رجحوا هذا القول كأحمد وإسحاق، ومن المالكية الطرطوشي، وحكى العلائي أن شيخه ابن الزملكاني شيخ الشافعية في وقته كان يختاره ويحكيه عن نص الشافعي، وأجابوا عن كونه ليس في أحد الصحيحين بأن الترجيح بما في الصحيحين أو أحدهما إنما هو حيث لا يكون مما انتقده الحفاظ: كحديث أبي موسى هذا فإنه أُعل بالانقطاع والاضطراب. أما الانقطاع؛ فلأن مخرمة لم يسمع من أبيه، قاله أحمد عن حماد بن خالد عن مخرمة نفسه، وكذا قال سعيد بن أبي مريم عن موسى بن سلمة عن مخرمة، وزاد إنما هي كتب كانت عندنا، وقال علي بن المديني: لم أسمع أحداً من أهل المدينة يقول عن مخرمة إنه قال في شيء من حديثه سمعت أبي، ولا يقال مسلم يكتفي في المعنعن بإمكان اللقاء مع المعاصرة، وهو كذلك هنا؛ لأنا نقول وجود التصريح عن مخرمة بأنه لم يسمع من أبيه كافٍ في دعوى الانقطاع. وأما الاضطراب فقد رواه أبو إسحاق وواصل الأحدب ومعاوية بن قرة وغيرهم عن أبي بردة من قوله، وهؤلاء من أهل الكوفة، وأبو بردة كوفي فهم أعلم بحديثه من بكير المدني، وهم عدد وهو واحد، وأيضاً فلو كان عن أبي بردة مرفوعاً لم يُفتِ فيه برأيه بخلاف المرفوع، ولهذا جزم الدارقطني بأن الموقوف هو الصواب)) فتح الباري، 2/ 422.

وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ((وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس - رضي الله عنهم -، قال: الساعة التي تذكر يوم الجمعة ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس. وكان سعيد بن جبير إذا صلى العصر لم يكلم أحداً حتى تغرب الشمس، وهذا قول أكثر السلف وعليه أكثر الأحاديث. ويليه القول بأنها ساعة الصلاة وبقية الأقوال لا دليل عليها)) (¬1). قال ابن القيم: ((وعندي أن ساعة الصلاة ساعة تُرجى فيها الإجابة أيضاً، فكلاهما ساعة إجابة، وإن كانت الساعة المخصوصة هي آخر ساعة بعد العصر فهي ساعة معينة من اليوم لا تتقدم ولا تتأخر، وأما ساعة الصلاة فتابعة للصلاة تقدمت أو تأخرت؛ لأن لاجتماع المسلمين، وصلاتهم، وتضرعهم، وابتهالهم إلى الله تعالى تأثيراً في الإجابة، فساعة اجتماعهم ساعة ترجى فيها الإجابة، وعلى هذا تتفق الأحاديث كلها ... )) (¬2). وقال رحمه الله: ((وهذه الساعة هي آخر ساعة بعد العصر، يُعَظّمُها جميع أهل الملل، وعند أهل الكتاب هي ساعة الإجابة، وهذا مما عرض لهم في تبديله وتحريفه، وقد اعترف به مؤمنهم)) (¬3). وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يقول عند بيانه لفضل ¬

(¬1) زاد المعاد في هدي خير العباد، 1/ 394. (¬2) المرجع السابق، 1/ 394. (¬3) المرجع السابق، 1/ 396.

ثامنا: فضائل صلاة الجمعة كثيرة متعددة، منها ما يأتي:

الجمعة: ((هذا يبين أنه ينبغي للمسلم أن يعتني بيوم الجمعة، ففيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يدعو الله بشيء إلا أعطاه إياه، وهي بعد العصر، وربما تكون بعد جلوس الإمام على المنبر، فإذا جاء الإنسان وجلس بعد العصر ينتظر المغرب ويدعو فهو حري بالإجابة، وكذلك بعد صعود الإمام على المنبر، فيدعو الإنسان في سجوده، وجلوسه، فإنه حريٌّ بالإجابة)) (¬1). ثامناً: فضائل صلاة الجمعة كثيرة متعددة، منها ما يأتي: 1 - التبكير إليها من أعظم الصدقات والقربات العظيمة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر)) (¬2). وعنه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس الإمام طووا الصحف، وجاؤوا يستمعون الذكر، ومثل المهجّر كمثل الذي يهدي البدنة، ثم كالذي يهدي بقرة، ثم كالذي يهدي الكبش، ثم كالذي يهدي الدجاجة، ثم كالذي يهدي البيضة)). ولفظ البخاري: ((إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول فالأول، ومثل المهجّر كمثل الذي يهدي بدنة، ثم كالذي يهدي بقرة، ثم كبشاً، ثم دجاجة، ثم بيضة، ثم إذا خرج الإمام طووا صحفهم ويستمعون الذكر)) (¬3). ¬

(¬1) سمعته أثناء تقريره على صحيح مسلم، الحديث رقم 853. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الجمعة، باب فضل الجمعة، برقم 881، ومسلم، كتاب الجمعة، باب الطيب والسواك يوم الجمعة، برقم 850. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الجمعة، باب الاستماع إلى الخطبة يوم الجمعة، برقم 929، ومسلم، كتاب الجمعة، باب فضل التهجير يوم الجمعة، برقم 24 - (850). وسمعت شيخنا ابن باز يقول أثناء تقريره على صحيح مسلم، الحديث رقم 850: ((والساعة الأولى تبدأ من ارتفاع الشمس؛ لأن المصلي له أن يجلس بعد صلاة الفجر إلى الشروق في المسجد)).

2 - القائم بآداب صلاة الجمعة يغفر له عشرة أيام

2 - القائم بآداب صلاة الجمعة يغفر له عشرة أيام؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من اغتسل، ثم أتى الجمعة، فصلى ما قدّر له، ثم أنصت حتى يفرغ من خطبته، ثم يصلي معه، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وفضل ثلاثة أيام)). وفي رواية أخرى: ((من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة، فاستمع وأنصت (¬1) غفر له ما بين الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام، ومن مسّ الحصى فقد لغا)) (¬2) (¬3). وعن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من الطهر (¬4) ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)) (¬5). وعن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من اغتسل يوم الجمعة فأحسن غسله، وتطهر فأحسن طهوره، ولبس من أحسن ثيابه، ومس ما كتب الله له من طيب أهله، ثم أتى الجمعة ولم يلغُ، ولم يفرق بين اثنين، غُفِرَ له ما بينه وبين الجمعة ¬

(¬1) استمع وأنصت: هما شيئان متمايزان وقد يجتمعان: فالاستماع الإصغاء والإنصات السكوت؛ ولهذا قال الله تعالى: {وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ} (الأعراف: 180)، شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 396. (¬2) من مس الحصى فقد لغا: أي تكلم، واتفقت أقوال المفسرين على أن اللغو: ما لا يحسن من الكلام، وقيل: خبت من الأجر، وقيل: بطلت فضيلة جمعتك، وقيل: صارت جمعتك ظهراً، انظر: فتح الباري لابن حجر، 2/ 414، والنهاية في غريب الأثر لابن الأثير، 4/ 258، وجامع الأصول له، 5/ 687. (¬3) مسلم، كتاب الجمعة، باب فضل من استمع وأنصت في الخطبة برقم 857. (¬4) ويتطهر ما استطاع من الطهر: المراد به المبالغة في التنظيف، أو المراد به التنظيف بأخذ الشارب، والظفر، والعانة، أو المراد بالغسل غسل الجسد والتطهر غسل الرأس، وقوله: ((ويدهن)) المراد به إزالة شعث الرأس. فتح الباري لابن حجر،2/ 371. (¬5) البخاري، كتاب الجمعة، باب الدهن للجمعة، برقم 883.

3 - المتأدب بآداب صلاة الجمعة يكتب له بكل خطوة عمل سنة

الأخرى)) (¬1). وعن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة رضي الله عنهما، قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من اغتسل يوم الجمعة، ولبس من أحسن ثيابه، ومسّ من طيب إن كان عنده، ثم أتى الجمعة فلم يتخطَّ أعناق الناس، ثم صلى ما كتب الله له، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يفرغ من صلاته، كانت كفارة لما بينها وبين جمعته التي قبلها)) قال: ويقول أبو هريرة: وزيادة ثلاثة أيام، ويقول: إن الحسنة بعشر أمثالها (¬2)؛ ولحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من اغتسل يوم الجمعة، ومسّ من طيب امرأته - إن كان لها - ولبس من صالح ثيابه، ثم لم يتخط رقاب الناس، ولم يلغُ عند الموعظة، كانت كفارة لِمَا بينهما، ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً)) (¬3)، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يحضر الجمعة ثلاثة نفر: رجل حضرها يلغو وهو حظه منها، ورجل حضرها يدعو فهو رجل دعا الله - عز وجل - إن شاء أعطاه وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يتخط رقبة مسلم، ولم يؤذ أحداً، فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها، وزيادة ثلاثة أيام، وذلك بأن الله تعالى - عز وجل - يقول: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ})) (¬4). 3 - المتأدب بآداب صلاة الجمعة يكتب له بكل خطوة عمل سنة أجر ¬

(¬1) ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في الزينة يوم الجمعة، برقم 1097، وقال الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 326: ((حسن صحيح)). (¬2) أبو داود، كتاب الطهارة، باب في الغسل يوم الجمعة، برقم 343، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 103. (¬3) أبو داود، كتاب الطهارة، باب في الغسل يوم الجمعة، برقم 347، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 104. (¬4) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الكلام والإمام يخطب، برقم 1113، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 305.

4 - الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما

صيامها وقيامها؛ لحديث أوس بن أوس الثقفي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من غسَّل يوم الجمعة واغتسل، ثم بكَّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغُ، كان له بكل خطوة عمل سنة: أجر صيامها، وقيامها)) وفي رواية لأبي داود: ((من غسّل رأسه يوم الجمعة واغتسل))،وفي سنن الترمذي قال محمود: [هو ابن غيلان شيخ الترمذي]: قال وكيع: اغتسل هو وغسَّل امرأته، قال: ويروى عن عبد الله بن المبارك أنه قال في هذا الحديث: ((من غسَّل واغتسل)) (¬1) يعني غسل رأسه واغتسل. وفي لفظ النسائي: ((من غسَّل واغتسل، وغدا وابتكر ... )) (¬2). 4 - الجمعة إلى الجمعة كفارة لِمَا بينهما؛ لحديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان ¬

(¬1) واختلف العلماء في معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((غسَّل واغتسل، وبكَّر وابتكر فقيل: هو من الكلام المتظاهر الذي يراد به التوكيد، ولم تقع المخالفة بين المعنيين لاختلاف اللفظين، ألا تراه يقول: ((ومشى ولم يركب)) ومعناهما واحد، وإلى هذا ذهب الأثرم صاحب أحمد. وقيل: قوله: ((غسل)) معناه غسل الرأس خاصة؛ لأن العرب لهم شعور، فأفرد غسل الرأس من أجل ذلك، وإلى هذا ذهب مكحول، وقيل: ((اغتسل)) معناه غسل سائر الجسد، وقال بعضهم: ((غسَّل)) معناه: أصاب أهله قبل خروجه إلى الجمعة؛ ليكون أملك لنفسه، وأحفظ في طريقه لبصره، فأوجب على أهله الغسل، فكأنه غسل زوجته واغتسل، وقيل: غسَّل للجنابة واغتسل للجمعة، وقيل: غسَّل بالغ في النظافة والدلك، واغتسل: صب الماء عليه، وقيل: حمل غيره على الغسل بالحث والترغيب، والتذكير. وقوله: ((بكَّر)) أي راح في أول الوقت، ((وابتكر)) أي أدرك أول الخطبة، وقيل: كرره للتأكيد، وقيل: ((غسَّل)) إسباغ الوضوء وإكماله، ثم اغتسل بعد الوضوء للجمعة، وقيل: غسل الرجل امرأته إذا جامعها، وقال الإمام ابن خزيمة في صحيحه: ((من قال في الخبر: غسّل واغتسل (يعني بالتشديد) معناه: جامع فأوجب الغسل على زوجته، أو أمته واغتسل، ومن قال: ((غَسَلَ واغتسل (بالتخفيف) أراد غسل رأسه. واغتسل: فضل سائر الجسد، لخبر طاوس عن ابن عباس. انظر: معالم السنن للخطابي، 1/ 213، والمفهم للقرطبي، 1/ 484، وجامع الأصول لابن الأثير، 3/ 430، والترغيب للمنذري، 1/ 434، وتحفة الأحوذي، 3/ 3 - 4. (¬2) أبو داود، كتاب الطهارة، باب في الغسل يوم الجمعة، برقم 345،والترمذي، كتاب الجمعة، باب ما جاء في فضل الغسل يوم الجمعة، برقم 496،وابن ماجه، كتاب إقامة الصلوات، باب ما جاء في الغسل يوم الجمعة، برقم 1087، والنسائي، كتاب الجمعة، باب فضل غسل يوم الجمعة، برقم 1380،وصححه الألباني في صحيح النسائي،1/ 445،وفي صحيح المراجع السابقة، وفي غيرها، وفي صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 433.

تاسعا: آداب صلاة الجمعة: الواجبة والمستحبة، كثيرة، منها ما يلي:

إلى رمضان، مكفرات ما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر)) (¬1). تاسعاً: آداب صلاة الجمعة: الواجبة والمستحبة، كثيرة، منها ما يلي: 1 - الغسل يوم الجمعة سنَّة مؤكدة جداً؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل)) (¬2)،وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بينما هو قائم في الخطبة يوم الجمعة إذ جاء رجل من المهاجرين الأولين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فناداه عمر: أية ساعة هذه؟ قال: إني شغلت فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين فلم أزد على أن توضأت، فقال: والوضوء أيضاً، وقد علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بالغسل)).وفي لفظ البخاري: ((ألم تسمعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا راح أحدكم إلى الجمعة فليغتسل)) وفي لفظ لمسلم: ((بينما عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يخطب يوم الجمعة إذ دخل عثمان بن عفان - رضي الله عنه -،فعرَّض به عمر، فقال: ما بال رجال يتأخرون بعد النداء؟ فقال عثمان: يا أمير المؤمنين ما زدت حين سمعت النداء أن توضأت ثم أقبلت، فقال عمر: والوضوء أيضاً؟ ألم تسمعوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل)) (¬3). وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: ((أشهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((غسل الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يستنَّ (¬4)، وأن يمس طيباً إن ¬

(¬1) مسلم، كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لِمَا بينهن، ما اجتنبت الكبائر، برقم 233. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الجمعة، باب فضل الغسل يوم الجمعة وهل على الصبي شهود الجمعة أو على النساء، برقم 877، وبابٌ هل على من لم يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان وغيرهم، برقم 894، وباب الخطبة على المنبر، برقم 919، ومسلم، كتاب الجمعة، باب كتاب الجمعة، برقم 844. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الجمعة، باب فضل الغسل يوم الجمعة، وهل على الصبي شهود يوم الجمعة، أو على النساء؟ برقم 878، وباب: حدثنا أبو نعيم، برقم 882، ومسلم، كتاب الجمعة، باب كتاب الجمعة، برقم 845. (¬4) وأن يستن: أي يدلك أسنانه بالسواك. فتح الباري لابن حجر، 2/ 364.

وُجد)) قال عمرو: أما الغسل فأشهد أنه واجب، وأما الاستنان والطيب فالله أعلم أواجب هو أم لا؟ ولكن هكذا في الحديث)). وفي لفظ مسلم: ((غسل الجمعة واجب على كل محتلم، وسواكٌ، ويمسُّ من الطيب ما قَدَرَ عليه)) (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((حقٌّ على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً، يغتسل فيه رأسه وجسده)). وفي رواية للبخاري: ((لله تعالى على كل مسلم حقٌّ أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً)) (¬2). وفي لفظ النسائي عن جابر - رضي الله عنه - يرفعه: ((على كل رجل مسلم في كل سبعة أيام غسل يوم، وهو يوم الجمعة)) (¬3). وقال ابن عمر رضي الله عنهما: ((إنما الغسل على من تجب عليه الجمعة)) (¬4). وهذه الأحاديث استدل بها جمع من أهل العلم على وجوب الغسل يوم الجمعة على من يحضر صلاة الجمعة؛ لهذه الأخبار الصحيحة، وقال جمع آخر من أهل العلم: غسل يوم الجمعة لمن يشهد صلاة الجمعة سنة مؤكدة جداً، ولا يجب؛ لحديث سمرة بن جُندب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل)) (¬5)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من توضأ ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الجمعة، باب الطيب، برقم 880، ومسلم، كتاب الجمعة، باب الطيب والسواك يوم الجمعة، برقم 846. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الجمعة، بابٌ: هل على من لم يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان وغيرهم، برقم 897، 898، ومسلم، كتاب الجمعة، باب الطيب والسواك يوم الجمعة، برقم 849. (¬3) النسائي، كتاب الجمعة، باب إيجاب الغسل يوم الجمعة، برقم 1377، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 44، وفي إرواء الغليل، 1/ 173. (¬4) البخاري، كتاب الجمعة، بابٌ: هل على من لم يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان وغيرهم. قبل الحديث رقم 894. (¬5) أبو داود، كتاب الطهارة، باب الرخصة في ترك الغسل، برقم 354، والترمذي، كتاب الجمعة، باب ما جاء في الوضوء يوم الجمعة، برقم 497، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلوات، باب ما جاء في الرخصة في ذلك، برقم 1091، والنسائي، كتاب الجمعة، باب الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة، برقم 1379، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 445، وفي جميع المواضع السابقة في التخريج.

فأحسن الوضوء، ثم أتى يوم الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصا فقد لغا)) (¬1). ورجح شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله: أن غسل الجمعة سنة مؤكدة، ينبغي للمسلم أن يحافظ عليه خروجاً من خلاف من قال بالوجوب، وأقوال العلماء في غسل الجمعة ثلاثة: منهم من قال بالوجوب مطلقاً، وهذا قول قوي، ومنهم من قال: بأنه سنة مؤكدة مطلقاً، ومنهم من فصَّل فقال: غسل يوم الجمعة يجب على أصحاب الأعمال الشاقة؛ لما يحصل لهم من بعض التعب والعرق، ومستحب في حق غيرهم، وهذا قول ضعيف، والصواب أن غسل الجمعة سنة مؤكدة، أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((غسل الجمعة واجب على كل محتلم)) [ف] معناه عند أكثر أهل العلم: متأكد كما تقول العرب: ((العدة دين وحق عليَّ واجب))،ويقول بعضهم: ((حقك عليَّ واجب)) أي متأكد، ويدل على هذا المعنى اكتفاؤه - صلى الله عليه وسلم - بالأمر بالوضوء في بعض الأحاديث ... وهكذا الطيب، والاستياك، ولبس الحسن من الثياب، والتبكير إلى الجمعة كله من السنن المرغَّب فيها، وليس شيء منها واجب (¬2)، والقول بأن غسل الجمعة سنة مؤكدة هو قول أكثر أهل العلم (¬3). ¬

(¬1) مسلم، برقم 27 - (857)، وتقدم تخريجه في فضائل صلاة الجمعة. (¬2) اقتبست هذا كله من فتاوى سماحة شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله، انظر: مجموع الفتاوى له، 12/ 404، والفتاوى الإسلامية، 1/ 419، وسمعته في تقريراته الكثيرة أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 818 وصحيح مسلم، الحديث رقم 844، ومنتقى الأخبار، الأحاديث ذات الرقم 400 - 407، وبلوغ المرام، الحديث رقم 120، ورقم 123. (¬3) وقد ذكر ذلك الإمام الترمذي بعد أن ساق حديث سمرة بن جندب ((من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل))، قال الترمذي: ((والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم اختاروا الغسل يوم الجمعة. ورأوا أن يجزئ الوضوء من الغسل يوم الجمعة. قال الشافعي [القائل الترمذي] ومما يدل على أن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالغسل يوم الجمعة أنه على الاختيار لا على الوجوب حديث عمر حيث قال لعثمان: والوضوء أيضاً، وقد علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالغسل يوم الجمعة؟ فلو علما أن أمره - صلى الله عليه وسلم - على الوجوب لا على الاختيار لم يترك عثمان حتى يرده، ويقول له: ارجع فاغتسل، ولما خفي على عثمان ذلك مع علمه، ولكن دل في هذا الحديث أن الغسل يوم الجمعة، فيه فضل من غير وجوب يجب على المرء في ذلك)) [الترمذي بعد إخراجه لحديث سمرة بن جندب، برقم 497]. وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله في الغسل يوم الجمعة: ((لا خلاف في استحباب ذلك وفيه آثار صحيحة ... وليس بواجب في قول أكثر أهل العلم ... وهو قول الأوزاعي، والثوري، ومالك، والشافعي، وابن المنذر، وأصحاب الرأي، وقيل: إن هذا إجماع)) [المغني لابن قدامة، 3/ 225] ... وقال الإمام ابن عبد البر: ((وأجمع العلماء على أن غسل الجمعة ليس بواجب إلا طائفة من أهل الظاهر قالوا بوجوبه وشددوا في ذلك، وأما سائر العلماء والفقهاء، فإنما هم فيه على قولين: أحدهما أنه سنة، والآخر أنه مستحب، وأن الأمر به كان لعلة فسقط، والطيب يجزئ عنه)) [التمهيد، 14/ 151 - 152]، قال الإمام ابن قدامة: ((وحكي عن أحمد رواية أخرى أنه واجب)) [المغني، 3/ 225]. وقال الإمام النووي رحمه الله: ((اختلف العلماء في غسل الجمعة فحكى وجوبه عن طائفة من السلف حكوه عن بعض الصحابة، وبه قال أهل الظاهر، وحكاه ابن المنذر عن مالك، وحكاه الخطابي عن الحسن البصري ومالك، وذهب جمهور من العلماء من السلف والخلف، وفقهاء الأمصار، إلى أنه سنة مستحبة ليس بواجب، قال القاضي: وهو المعروف من مذهب مالك، وأصحابه، واحتج من أوجبه بظواهر هذه الأحاديث، واحتج الجمهور بأحاديث صحيحة، منها حديث الرجل الذي دخل وعمر يخطب، وقد ترك الغسل، وقد ذكره مسلم، وهذا الرجل هو عثمان بن عفان جاء مبيناً في الرواية الأخرى، ووجه الدلالة أن عثمان فعله وأقره عمر، وحاضروا الجمعة، وهم أهل الحل والعقد، ولو كان واجباً لما تركه، ولألزموه، ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من توضأ فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل)) حديث حسن في السنن مشهور، وفيه دليل على أنه ليس بواجب، ومنها، قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو اغتسلتم يوم الجمعة)) [ولفظه عند مسلم: عن عائشة أنها قالت: كان الناس ينتابون الجمعة من منازلهم من العوالي، فيأتون في العباء، ويصيبهم الغبار، فتخرج منهم الريح، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنسان منهم وهو عندي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا)) وفي لفظ: ((لو اغتسلتم يوم الجمعة)) برقم 847]. وهذا اللفظ يقتضي أنه ليس بواجب؛ لأن تقديره لكان أفضل وأكمل، ونحو هذا ... وأجابوا عن الأحاديث الواردة في الأمر به أنها محمولة على الندب جمعاً بين الأحاديث، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((واجب على كل محتلم)) أي متأكد في حقه، كما يقول الرجل لصاحبه: حقك واجب عليّ: أي متأكد، لا أن المراد الواجب المتحتم المعاقب عليه)) [شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 381 - 382]. وذكر الإمام القرطبي رحمه الله أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم))، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل)) ظاهر في وجوب غسل الجمعة، وبه قال أهل الظاهر، وحكي عن بعض الصحابة، وعن الحسن، وحكاه الخطابي عن مالك، ومعروف مذهبه وصحيحه: أنه سنة، وهو مذهب عامة أئمة الفتوى، وحملوا تلك الأحاديث على أنه واجب وجوب السنن المؤكدة، ودلهم على ذلك أمور: أحدها: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة: ((من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع، وأنصت، غفر له ... )) [مسلم، برقم 857]. فذكر فيه الوضوء واقتصر عليه دون الغسل، ورتب الصحة والثواب عليه، فدل على أن الوضوء كافٍ من غير غسل، وأن الغسل ليس بواجب [بل سنة مؤكدة]. وثانيها: تقرير عمر والصحابة لعثمان - رضي الله عنهم - على صلاة الجمعة بالوضوء من غير غسل، ولم يأمروه بالخروج، ولم ينكروا عليه، فصار ذلك كالإجماع منهم على أن الغسل ليس بشرط في صحة الجمعة ولا واجب. وثالثها: قوله لهم - صلى الله عليه وسلم - حين وجد منهم الريح الكريهة: ((لو اغتسلتم ليومكم هذا)) وهذا عرض، وتحضيض، وإرشاد للنظافة المستحسنة، ولا يقال مثل ذلك اللفظ في الواجب. ورابعها: ما يقطع مادة النزاع ويحسم كل إشكال حديث الحسن عن سمرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل)) [أبو داود، برقم 354، والترمذي، برقم 497، والنسائي، برقم 1379، وابن ماجه، برقم 1091، وتقدم تخريجه قبل صفحات]، وهذا نص في موضع الخلاف، غير أن سماع الحسن من سمرة مختلف فيه، وقد صح عنه أنه سمع منه حديث العقيقة، فيحمل حديثه عنه على السماع إلى أن يدل دليل على غير ذلك، والله تعالى أعلم. وخامسها: أنه عليه الصلاة والسلام قد قال: ((غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وسواك، ويمسك من الطيب ما قدر عليه)) [متفق عليه: البخاري، برقم 880، ومسلم، برقم 846]، وظاهر هذا وجوب السواك، والطيب، وليس كذلك بالاتفاق، يدل على أن قوله: ((واجب ليس على ظاهره، بل المراد به: ندب المؤكد، إذ لا يصح تشريك ما ليس بواجب مع الواجب في لفظ ((الواو)) والله تعالى أعلم)). [المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 2/ 479 - 480] [وانظر: فتح الباري، لابن حجر، 2/ 356 - 364، وزاد المعاد، 1/ 376 - 377]. وقال الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى على حديث أبي هريرة المتفق عليه: ((حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً، يغسل فيه رأسه وجسده)) [البخاري، برقم 897، 898، ومسلم، برقم 849]، وحديث جابر: ((على كل رجل مسلم في كل سبعة أيام غسل يوم، وهو يوم الجمعة)) [النسائي، برقم 1377]. قال رحمه الله: ((وهذا في أحد قولي العلماء هو غسل راتب مسنون للنظافة في كل أسبوع، وإن لم يشهد الجمعة، بحيث يفعله من لا جمعة عليه ... وأما الأحاديث في غسل يوم الجمعة [فـ] متعددة، وذلك يعلل باجتماع الناس بدخول المسجد وشهود الملائكة، ومع العبد ملائكة، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)) [مسلم، كتاب المساجد، باب نهي من أكل ثوماً أو بصلاً أو كراثاً أو نحوها مما له رائحة كريهة عن حضور المسجد حتى يذهب ذلك الريح وإخراجه من المسجد، برقم 564]. مجموع فتاوى ابن تيمية، 1/ 307 - 308. واختار شيخ الإسلام ابن تيمية: ((أن غسل الجمعة يجب على من له عرق أو ريح يتأذى به غيره، وهو بعض مذهب من يوجبه مطلقاً بطريق الأولى)) الاختيارات العلمية من الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص30، والمستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية، جمع محمد بن عبد الرحمن بن قاسم، 3/ 41. وقال الإمام ابن القيم رحمه الله عن غسل يوم الجمعة: ((وهو أمر مؤكد جداً، ووجوبه أقوى من وجوب الوتر، وقراءة البسملة في الصلاة، ووجوب الوضوء من مس النساء، ووجوب الوضوء من مس الذكر، ووجوب الوضوء من القهقهة في الصلاة، ووجوب الوضوء من الرعاف والحجامة، والقيء، ووجوب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأخير، ووجوب القراءة على المأموم، وللناس في وجوبه ثلاثة أقوال: النفي، والإثبات، والتفصيل بين من به رائحة يحتاج إلى إزالتها فيجب عليه، ومن هو مستغن عنه فيستحب له، والثلاثة لأصحاب أحمد)) زاد المعاد، 1/ 376 - 377،وممن أوجب غسل الجمعة من العلماء المتأخرين المعاصرين فضيلة العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله، فقد رجح وجوب غسل الجمعة وانتصر له في كتابه [الشرح الممتع، 5/ 108 - 110]، أما شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله فقد سبق قوله أن القول بالوجوب قول قوي، ولكن رجح أن غسل الجمعة سنة مؤكدة. والذي أراه أنه ينبغي للمسلم أن يعتني بغسل يوم الجمعة قبل الصلاة؛ لعظم الأمر؛ وللفضل العظيم في ذلك، وخروجاً من خلاف من قال بوجوبه مطلقاً، والله الموفق. وذكر الحافظ ابن رجب أن أكثر العلماء على أن غسل الجمعة يستحب وليس بواجب، وقد حكي عن عمر، وعثمان، وابن مسعود، وعائشة، وغيرهم من الصحابة - رضي الله عنهم -، وبه قال جمهور فقهاء الأمصار: الثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة، والشافعي، وأحمد في ظاهر مذهبه، وإسحاق، ورواه ابن وهب عن مالك، وأما الأمر بالغسل فمحمول على الاستحباب. [فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن رجب، 8/ 78 - 82 بتصرف].

2 - الطيب لصلاة الجمعة

2 - الطيب لصلاة الجمعة؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وسواك، ويمس من الطيب ما قدر عليه)) (¬1). 3 - السواك لصلاة الجمعة؛ لحديث أبي سعيد السابق؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لولا أن أشق على الناس لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة)) وفي لفظ: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك)) (¬2)؛ ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه: ((إن هذا يوم عيد جعله الله للمسلمين فمن جاء إلى الجمعة فليغتسل، وإن كان طيب فليمس منه، وعليكم بالسواك)) (¬3). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 880، ومسلم واللفظ له، برقم 846، وتقدم في الأدب الأول من آداب الجمعة. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الجمعة، باب السواك يوم الجمعة، برقم 887، وكتاب التمني، باب ما يجوز من اللهو، برقم 7240، ومسلم، كتاب الطهارة، باب السواك، برقم 252. (¬3) ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الزينة يوم الجمعة، برقم 1098، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه 1/ 326.

4 - الدهن لصلاة الجمعة

4 - الدهن لصلاة الجمعة؛ لحديث سلمان الفارسي - رضي الله عنه -، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من الطهر، ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كُتِبَ له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)) (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ويتطهر ما استطاع من الطهر)) المراد به المبالغة في التنظيف، ويؤخذ من عطفه على الغسل أن إفاضة الماء تكفي في حصول الغسل، أو المراد بالتنظيف: بأخذ الشارب، والظفر، والعانة، أو المراد بالغسل غسل الجسد، وبالتطهر غسل الرأس، وأما قوله: ((ويدهن)) فالمراد به إزالة شعث الرأس به، وفيه إشارة إلى التزين يوم الجمعة (¬2). 5 - يلبس لصلاة الجمعة أحسن ما يجد من الثياب؛ لحديث أبي ذر - رضي الله عنه - يرفعه: ((من اغتسل يوم الجمعة فأحسن غسله، وتطهر فأحسن طهوره، ولبس من أحسن ثيابه، ومس ما كتب الله له من طيب أهله، ثم أتى الجمعة، ولم يلغُ، ولم يفرق بين اثنين، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)) (¬3)؛ ولحديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما: ((من اغتسل يوم الجمعة، ولبس من أحسن ثيابه، ومس من طيب إن كان عنده، ثم أتى الجمعة فلم يتخطَّ أعناق الناس، ثم صلى ما كتب له، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يفرغ من صلاته، كانت كفارة لما بينها وبين جمعته التي قبلها)). ويقول أبو هريرة: وزيادة ثلاثة أيام، ويقول: ((إن الحسنة بعشر أمثالها)) (¬4)؛ ولحديث عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رأى حلة سيراء (¬5) عند باب المسجد فقال: يا رسول الله! لو اشتريت ¬

(¬1) البخاري، برقم 883، 910، وتقدم تخريجه في فضائل صلاة الجمعة. (¬2) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 2/ 371. (¬3) ابن ماجه، برقم 1097، وتقدم تخريجه في فضائل صلاة الجمعة. (¬4) أبو داود، برقم 343، وتقدم تخريجه في فضائل صلاة الجمعة. (¬5) حلة سيراء: أي حرير، وسميت سيراء؛ لأنها مأخوذة من السيور، هذا وجه التشبيه. فتح الباري لابن حجر، 2/ 374.

6 - يستقبل الإمام بوجهه أثناء الخطبة

هذه فلبستها يوم الجمعة، وللوفد إذا قدموا عليك؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة)) (¬1). ووجه الاستدلال به من جهة تقريره - صلى الله عليه وسلم - لعمر على أصل التجمل للجمعة، وللوفد، وقصر الإنكار على لبس مثل تلك الحلة؛ لكونها كانت حريراً (¬2)، وعن محمد بن يحيى بن حبَّان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما على أحدكم إن وجد - أو: ما على أحدكم إن وجدتم - أن يتخذ ثوبين يوم الجمعة سوى ثوبي مهنته)). وعن ابن سلام أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك على المنبر (¬3). 6 - يستقبل الإمام بوجهه أثناء الخطبة؛ لحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا)) (¬4). وعن ثابت - رضي الله عنه - قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام على المنبر استقبله أصحابه بوجوههم)) (¬5). قال الإمام الترمذي رحمه الله: ((والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم: يستحبون استقبال الإمام إذا خطب، وهو قول: سفيان الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق)) (¬6). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الجمعة، باب يلبس أحسن ما يجد، برقم 886، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم لبس الحرير، برقم 2068. (¬2) انظر: فتح الباري لابن حجر 2/ 374. (¬3) أبو داود، كتاب الصلاة، باب اللبس للجمعة، برقم 1078، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 297. (¬4) الترمذي، كتاب الجمعة، باب ما جاء في استقبال الإمام إذا خطب، برقم 509، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 1/ 287، وفي الصحيحة، برقم 2080. (¬5) ابن ماجه، كتاب إقامة الصلوات، باب ما جاء في استقبال الإمام وهو يخطب، برقم 1136،وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه،1/ 336،وفي الصحيحة، برقم 2080. (¬6) سنن الترمذي، في آخر الحديث رقم 509.

7 - يبكر إلى الجمعة

7 - يُبَكّر إلى الجمعة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة، فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر)) (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من اغتسل يوم الجمعة ثم راح)) يدل على أن الغسل المستحب للجمعة أوله طلوع الفجر، وآخره الرواح إلى الجمعة، فإن اغتسل قبل دخول يوم الجمعة لم يأت بسنة الغسل، كما لو اغتسل بعد صلاة الجمعة، وبهذا قال مالك، والشافعي، وأحمد، وأكثر العلماء (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((غسل الجنابة)) قيل: المراد تعميم الجسد بالغسل كما يعمه بغسل الجنابة، فيكون المعنى: اغتساله للجمعة كاغتساله للجنابة في المبالغة وتعميم البدن بالماء، وهذا قول أكثر الفقهاء من الشافعية وغيرهم. وقيل: المراد به غسل الجنابة حقيقة، وأنه يستحب لمن له زوجة أو مملوكة أن يطأها يوم الجمعة ثم يغتسل؛ لأنه أغض لبصره (¬3). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثم راح فكأنما قرب بدنة)) المراد راح في الساعة الأولى، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ومن راح في الساعة الثانية)) وقد صرح الإمام مالك في روايته للحديث بذكر الساعة الأولى، وقد اختلف العلماء في المراد بهذه الساعة، فقيل: المراد بها الساعة التي بعد زوال الشمس؛ لأن حقيقة الرواح إنما تكون بعد الزوال، والغدوّ يكون قبله، كما قال الله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 881، ومسلم، برقم 850، وتقدم تخريجه في فضل صلاة الجمعة. (¬2) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن رجب، 8/ 89. (¬3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن رجب، 8/ 90.

الرّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} (¬1)، وهذا قول مالك وأكثر أصحابه، ووافقهم طائفة من الشافعية على ذلك. وعلى هذا تكون الساعات أجزاء من الساعة السادسة بعد الزوال. وقيل: المراد بالساعات من أول النهار، وأولها من طلوع الفجر، وهو ظاهر مذهب الشافعي، وأحمد. وقيل: أول الساعات من طلوع الشمس، ذُكِرَ عن الثوري، وأبي حنيفة، ورجحه الخطابي وغيره؛ لأن ما قبله وقت للسعي إلى صلاة الفجر، ورجح هذا القول عبد الملك بن حبيب المالكي، وهؤلاء حملوا الساعات على ساعات النهار المعهودة، وهو الظاهر المتبادر إلى الفهم؛ فإن ظاهر الحديث يدل على تقسيم نهار الجمعة إلى اثنتي عشرة ساعة مع طول النهار وقصره، ولا يكون المراد به الساعات المعروفة من تقسيم الليل والنهار إلى أربع وعشرين ساعة؛ فإن ذلك يختلف باختلاف طول النهار وقصره، ويدل على هذا حديث جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة [فيها ساعة] لا يوجد فيها عبد مسلم يسأل الله شيئاً إلا آتاه الله إياه، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر)) (¬2). وأما ذكر الرواح فيجاب عنه بجوابين: الأول: أنه لما كان آخر الساعات بعد الزوال هو رواح حقيقي سُميت كلها رواحاً، كما يسمى الخارج للحج والجهاد: حاجّاً وغازياً قبل تلبسه بالحج والغزو؛ لأن أمره ينتهي إلى ذلك. الثاني: أن الرواح أريد به هنا القصد والذهاب مع قطع النظر عن كونه قبل الزوال أو بعده؛ فإن الرواح والغدو عند العرب يستعملان في السير ¬

(¬1) سورة سبأ، الآية: 12. (¬2) النسائي، برقم 1387، والسنن الكبرى للنسائي، 1/ 526، وأبو داود، برقم 1048، وتقدم تخريجه في ساعة الجمعة.

8 - المشي على الأقدام

أي وقت كان من ليل أو نهار، يقال: راح في أول النهار وآخره، وغدا بمعناه (¬1)، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: ((الغدوّ يكون من أول النهار، والرواح: يكون من آخره بعد الزوال، وقد يعبَّر بأحدهما عن الخروج والمشي، سواء كان قبل الزوال أو بعده)) (¬2). وذكر ابن قاسم: أن ذكر الساعات في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة)) ذكر للحث على التبكير إلى الجمعة، والترغيب في فضيلة السبق، وتحصيل فضيلة الصف الأول، وانتظارها بالتنفل، والقراءة والذكر (¬3). وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يرجح أن التبكير إلى الجمعة أول ساعة بعد ارتفاع الشمس؛ لأن للمسلم أن يجلس بعد الفجر إلى ارتفاع الشمس (¬4) (¬5). 8 - المشي على الأقدام؛ لحديث أوس بن أوس - رضي الله عنه -، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من غسَّل يوم الجمعة واغتسل، ثم بكّر وابتكر، ¬

(¬1) اقتبسته من فتح الباري للحافظ ابن رجب، 8/ 89 - 100. (¬2) المرجع السابق، 6/ 53. (¬3) حاشية ابن قاسم على الروض المربع، 2/ 475، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 385. (¬4) سمعته أثناء تقريره على صحيح مسلم، الحديث رقم 850. (¬5) انظر: خلاف العلماء في متى تكون ساعات التبكير: المغني لابن قدامة، 3/ 169، ورجح أن وقت سعي الفضيلة يكون من أول النهار. وشرح النووي على صحيح مسلم 6/ 385، ورجح عند أصحابه أن تعيين الساعات من طلوع الفجر. والمفهم للقرطبي 2/ 485، ورجح قول الإمام مالك وأن تعيين الساعات يكون بعد الزوال. والمقنع والشرح الكبير، 5/ 275، ورجح كما رجح صاحب المغني. والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للمرداوي، 5/ 275، ورجح أن التبكير الأفضل بعد طلوع الفجر. ونيل الأوطار، 2/ 506، وقال: ((ومجموع الروايات يدل على أن المراد بالرواح: الذهاب، وما ذكرته المالكية أقرب إلى الصواب، وذكر الأقوال. وانظر: تفصيل جميع الأقوال في فتح الباري، لابن حجر، 2/ 366 - 370، ورجح ابن القيم في زاد المعاد، 1/ 398 - 407 أن الساعات من أول النهار، وأن الذي يصلي الفجر يجلس في مكانه ينتظر صلاة الجمعة أفضل من الذي يذهب ثم يجيء في وقتها، وبين أن لفظ: ((التهجير إلى الجمعة)) هو التبكير والمبادرة إلى كل شيء وهي لغة أهل الحجاز ومن جاورهم. والرواح هو الذهاب والمضي.

9 - القراءة فجر يوم الجمعة بـ (الم) السجدة في الركعة الأولى وفي الركعة الثانية بسورة الإنسان

ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام واستمع ولم يلغُ، كان له بكل خطوة عمل سنة: أجر صيامها، وقيامها)) (¬1). فقال: ((ومشى ولم يركب))؛ ولحديث عباية بن رفاعة قال: أدركني أبو عبس وأنا أذهب إلى الجمعة فقال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من اغبرَتْ قدماه في سبيل الله حَرَّمه الله على النار)) (¬2). وقد أورد البخاري هذا الحديث هنا؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((في سبيل الله)) فدخلت فيه الجمعة؛ ولكون راوي الحديث استدل به على ذلك، وقد جعل أبو عبس حكم السعي إلى الجمعة حكم الجهاد وليس العدو من مطالب الجهاد، فكذلك الجمعة (¬3)؛ ولأن كل خطوة يخطوها يكتب له بها درجة (¬4)، لكن لو كان منزله بعيداً يشق عليه المشي، أو كان ضعيفاً أو مريضاً، فالأولى ألا يشق على نفسه. 9 - القراءة فجر يوم الجمعة بـ {الم} السجدة في الركعة الأولى وفي الركعة الثانية بسورة الإنسان؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في فجر يوم الجمعة: {الم، تَنزِيلُ} السجدة، و {هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان} (¬5). 10 - القراءة في صلاة الجمعة بسورتي الجمعة والمنافقون؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ((أنه صلى بها في صلاة الجمعة، فسئل عن ذلك؟ فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بهما في يوم الجمعة)) (¬6). أو يقرأ بسبح، والغاشية؛ لحديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه -، قال: ((كان ¬

(¬1) أبو داود، برقم 345،والترمذي، برقم 496،وابن ماجه، برقم 1087، والنسائي، برقم 1380، وتقدم تخريجه في فضل صلاة الجمعة. (¬2) البخاري، كتاب الجمعة، باب المشي إلى الجمعة ... برقم 907. (¬3) انظر: فتح الباري لابن حجر، 2/ 391 - 392. (¬4) انظر: المرجع السابق، 2/ 291 - 292، والمغني لابن قدامة، 3/ 168. (¬5) متفق عليه: البخاري: كتاب الجمعة، باب ما يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة، برقم 891، ومسلم، كتاب الجمعة، باب ما يقرأ في يوم الجمعة، برقم 879. (¬6) مسلم، كتاب الجمعة، باب ما يقرأ في صلاة الجمعة، برقم 877.

11 - يكثر الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة، وليلة الجمعة

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في العيدين وفي الجمعة بـ {سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الأعلى}، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية}، قال: وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم يقرأ بهما أيضاً في الصلاتين)) (¬1). أو يقرأ بسورتي الجمعة والغاشية؛ لرواية مسلم عن النعمان - رضي الله عنه - أنه سئل: أي شيء قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة سوى سورة الجمعة؟ فقال: ((كان يقرأ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية})) ولفظ أبي داود: ماذا كان يقرأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة على إثر سورة الجمعة؟ فقال: ((كان يقرأ بـ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية})) (¬2). 11 - يكثر الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة، وليلة الجمعة؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أكثروا الصلاة عليَّ يوم الجمعة وليلة الجمعة، فمن صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه عشراً)) (¬3)؛ ولحديث أوس بن أوس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة: فيه خُلِقَ آدم، وفيه قُبِضَ، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه؛ فإن صلاتكم معروضة عليَّ)) قال: قالوا: يا رسول الله! وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ - يقولون بليت - فقال: ((إن الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)) (¬4). ¬

(¬1) مسلم، كتاب الجمعة، باب ما يقرأ في صلاة الجمعة، برقم 878. (¬2) مسلم، كتاب الجمعة، باب ما يقرأ في صلاة الجمعة، برقم 63 - (878)، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقرأ به في الجمعة، برقم 1124. (¬3) البيهقي في الكبرى، كتاب الجمعة، باب ما يؤمر به في ليلة الجمعة ويومها من كثرة الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،3/ 249.وذكر العلامة الألباني طرقه في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 3/ 397، برقم 1407،ثم قال: ((وبالجملة فالحديث بهذه الطرق حسن على أقل الدرجات، وهو صحيح بدون ذكر ليلة الجمعة؛ لحديث أوس)) وانظر: تمام المنة في التعليق على فقه السنة للألباني، ص324. (¬4) أبو داود، برقم 1047،والنسائي، برقم 1373،وابن ماجه، برقم 1085،وصححه الألباني في هذه المواضع، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، رقم 1527،وتقدم تخريجه في فضل يوم الجمعة، رقم 3.

12 - يكثر الدعاء يوم الجمعة؛ لعله يوافق ساعة الإجابة

12 - يكثر الدعاء يوم الجمعة؛ لعله يوافق ساعة الإجابة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: ((إن في الجمعة لساعةً لا يوافقها عبد مسلم قائم يصلي يسأل الله خيراً إلا أعطاه إياه)) (¬1). وقد تقدمت الأقوال في تعيين هذه الساعة، ولكن ينبغي للعبد المسلم أن يكثر من الدعاء في جميع ساعات الجمعة لعله أن يُوفَّق لها (¬2). 13 - لا يُفرّق بين اثنين أثناء دخوله الجامع؛ لحديث سلمان الفارسي - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من اغتسل يوم الجمعة، وتطهر ما استطاع من طهر، ثم ادهن، أو مس من طيب، ثم راح فلم يفرّقْ بين اثنين، فصلى ما كتب له، ثم إذا خرج الإمام أنصت، غُفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)) (¬3). 14 - لا يتخطى رقاب الناس؛ لحديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما، قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من اغتسل يوم الجمعة، ولبس أحسن ثيابه، ومس من طيب إن كان عنده، ثم أتى الجمعة فلم يتخطَّ أعناق الناس، ثم صلى ما كتب الله له، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يفرغ من صلاته كانت كفارة لما بينها وبين جمعته التي قبلها)) قال: ويقول أبو هريرة: وزيادة ثلاثة أيام، ويقول: إن الحسنة بعشر أمثالها)) (¬4)؛ ولحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من اغتسل يوم الجمعة، ومس من طيب امرأته - إن كان لها - ولبس من صالح ثيابه، ثم لم يتخط رقاب الناس، ولم يلغُ عند الموعظة، كانت كفارة لما ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 935،ومسلم، برقم 852،وتقدم تخريجه في فضل يوم الجمعة برقم6. (¬2) تقدمت أقوال أهل العلم في هذه الساعة في فضل يوم الجمعة برقم 6. وانظر: المغني لابن قدامة، 3/ 237 - 239. (¬3) البخاري، برقم 910، ورقم 883، وتقدم تخريجه في فضائل صلاة الجمعة. (¬4) أبو داود، برقم 343، وتقدم تخريجه في فضائل صلاة الجمعة.

15 - لا يقيم أخاه ويقعد مكانه

بينهما، ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً)) (¬1)؛ولحديث أبي الزاهرية قال: كنا مع عبد الله بن بسر - صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة، فجاء رجل يتخطى رقاب الناس، فقال عبد الله بن بُسر: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اجلس فقد آذيت)) (¬2). 15 - لا يقيم أخاه ويقعد مكانه؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: ((نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقيم الرجلُ الرجلَ من مقعده، ويجلس فيه)) فقيل لنافع وهو الراوي عن ابن عمر: الجمعة؟ قال: الجمعة وغيرها)) (¬3).وفي رواية لمسلم: ((لا يقيم الرجلُ الرجلَ من مقعده ثم يجلس فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا)) (¬4)؛ ولحديث جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يُقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم ليخالف إلى مقعده فيقعد فيه، ولكن يقول: تفسّحوا)) (¬5). 16 - إذا دخل المسجد والإمام يخطب فلا يجلس حتى يصلي ركعتين؛ لحديث جابر - رضي الله عنه - قال: دخل رجل والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس يوم الجمعة، فقال: ((أصليت يا فلان؟)) فقال: لا. قال: ((قم فاركع)). وفي رواية للبخاري: ((فصلّ ركعتين))، وفي لفظ للبخاري أيضاً: ((إذا جاء أحدكم والإمام يخطب أو قد خرج فليصلّ ركعتين)). وفي لفظ لمسلم: ((جاء سُليكٌ الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب فجلس فقال ¬

(¬1) أبو داود، برقم 347، وتقدم تخريجه في فضائل صلاة الجمعة. (¬2) النسائي، كتاب الجمعة، باب النهي عن تخطي رقاب الناس والإمام على المنبر يوم الجمعة، برقم 1398، وأبو داود بلفظه، كتاب الصلاة، باب تخطي رقاب الناس يوم الجمعة، برقم 1118، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 451، وصحيح أبي داود، 1/ 307. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الجمعة، بابٌ: لا يقيم الرجل أخاه يوم الجمعة ويقعد مكانه، برقم 911، ومسلم، كتاب السلام، باب تحريم إقامة الإنسان من موضعه المباح الذي سبق إليه برقم 2177. (¬4) مسلم، برقم 28 - (2177)، وتقدم تخريجه. (¬5) مسلم، كتاب السلام، باب تحريم إقامة الإنسان من موضعه المباح الذي سبق إليه، برقم 2178.

17 - ينصت للخطبة

له: ((يا سليكٌ قم فاركع ركعتين وتجوَّز فيهما))، ثم قال: ((إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوَّز فيهما)) (¬1). 17 - ينصت للخطبة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت)) (¬2)،وفي حديث أبي هريرة الآخر عند مسلم: ((ومن مس الحصى فقد لغا)) (¬3)،وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يحضر الجمعة ثلاثة نفر: رجل حضرها يلغو وهو حظه منها ... )) الحديث (¬4)؛ ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من تكلم والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً، والذي يقول: له أنصت ليس له جمعة)) (¬5)، ومعنى لا جمعة له: أي لا جمعة له كاملة، ولكنها تجزئه عن صلاة الظهر كما في حديث ابن عمر عند أبي داود كما تقدم، وهذا للإجماع على إسقاط فرض الوقت عنه (¬6). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الجمعة، باب إذا رأى الإمام رجلاً جاء وهو يخطب أمره أن يصلي ركعتين، برقم 930، وباب من جاء والإمام يخطب صلى ركعتين خفيفتين، برقم 931، وكتاب التهجد، باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى، برقم 1166، ومسلم، كتاب الجمعة، باب التحية والإمام يخطب، برقم 875. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الجمعة، باب الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب، برقم 934، ومسلم، كتاب الجمعة، باب الإنصات يوم الجمعة في الخطبة، برقم 851. (¬3) مسلم، برقم 857، وتقدم تخريجه في فضائل الجمعة. (¬4) أبو داود، برقم 1113، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 305، وتقدم تخريجه بتمامه في فضائل صلاة الجمعة. (¬5) أحمد في المسند، 1/ 230، وقال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام، الحديث رقم 478: ((رواه أحمد بإسناد لا بأس به، وهو يفسر حديث أبي هريرة في الصحيح مرفوعاً: ((إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت)) ا. هـ. وأورده الحافظ ابن حجر أيضاً في فتح الباري،2/ 414،وقال عقبه: ((وله شاهد قوي في جامع حماد بن سلمة عن ابن عمر موقوفاً)) أهـ. وقال العلامة أحمد شاكر في شرحه وترقيمه لمسند أحمد، برقم 2033: ((إسناده حسن))،وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 2/ 184: ((رواه أحمد والبزار، والطبراني في الكبير، وفيه مجالد بن سعيد وقد ضعفه الناس، ووثقه النسائي في رواية)).والحديث ضعفه الألباني في مشكاة المصابيح، وفي تمام المنة، ص337. (¬6) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 2/ 414، وسبل السلام للصنعاني، 3/ 172.

18 - لا تتخذ الحلقات في المسجد قبل صلاة الجمعة

وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله يقول عن حديث ابن عباس السابق وحديث أبي هريرة في الصحيحين: ((هذان الحديثان يدلان على وجوب الإنصات، ومعنى ليس له جمعة: أي يفوته فضلها، وإلا فهي تجزئه، وفي مسلم: ((ومن مس الحصى فقد لغا))، ولكن لا مانع [من] الإشارة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الإشارة لا مانع منها في الصلاة للحاجة)) (¬1). 18 - لا تتخذ الحلقات في المسجد قبل صلاة الجمعة؛ لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التحلُّق يوم الجمعة قبل الصلاة، وعن الشراء والبيع في المسجد)). ولفظ الترمذي: ((نهى عن تناشد الأشعار في المسجد، وعن البيع والشراء فيه، وأن يتحلق الناس فيه يوم الجمعة قبل الصلاة)) (¬2). 19 - يتحول إذا نعس من مجلسه إلى مقعد آخر؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا نعس أحدكم وهو في المسجد فليتحوَّلْ من مجلسه ذلك إلى غيره))، ولفظ الترمذي: ((إذا نعس أحدكم يوم الجمعة فليتحوَّل عن مجلسه)).ولفظ أحمد: ((إذا نعس أحدكم في مجلسه يوم الجمعة فليتحوَّل إلى غيره)).وفي لفظ آخر لأحمد: ((إذا نعس أحدكم في المسجد يوم الجمعة فليتحوَّل من مجلسه ذلك إلى غيره)) (¬3). 20 - لا يحتبئ في المسجد قبل صلاة الجمعة والإمام يخطب؛ لحديث معاذ بن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نهى عن الحُبوة يوم الجمعة ¬

(¬1) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام لابن حجر، الحديث رقم478. (¬2) النسائي، برقم 714،وأبو داود، برقم 1079، والترمذي، برقم 322، وابن ماجه، برقم 1133، وحسنه الألباني في هذه المواضع كلها، وتقدم تخريجه في المساجد: أحكام المساجد، برقم 16. (¬3) أبو داود، برقم 1119، والترمذي، برقم 526، وأحمد في المسند، 2/ 22، 32، 135، وصححه الألباني في سنن أبي داود، 1/ 208، وقد صرح محمد بن إسحاق بالسماع في رواية أحمد، 2/ 135، وتقدم تخريجه في المساجد، أحكام المساجد، برقم 17.

21 - الدنو من الإمام عند الموعظة والخطبة

والإمام يخطب)) (¬1).وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الاحتباء يوم الجمعة)) يعني والإمام يخطب (¬2). 21 - الدنوُّ من الإمام عند الموعظة والخطبة؛ لحديث سمرة بن جندب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((احضروا الذكر، وادنوا من الإمام؛ فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها)) (¬3)؛ولحديث أوس بن أوس - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من غسَّل واغتسل، ثم بكَّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة: أجر صيامها وقيامها)) (¬4). 22 - إذا وافق يوم عيد يوم الجمعة حضر الإمام ومن شاء من الناس، وصلى بهم؛ لحديث إياس بن أبي رملة الشامي، قال: شهدت معاوية بن أبي سفيان وهو يسأل زيد بن أرقم، قال: أشهدت مع محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عيدين اجتمعا في يوم؟ قال: نعم، قال: فكيف صنع؟ قال: صلى العيد ثم رخص في الجمعة، فقال: ((من شاء أن يصلي فليصلّ)) (¬5)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((قد اجتمع في ¬

(¬1) أبو داود، برقم 1110،والترمذي، برقم 514،وقال: هذا حديث حسن، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود،1/ 206،وتقدم تخريجه في المساجد: أحكام المساجد، برقم 21. (¬2) ابن ماجه، برقم 1134،وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه،1/ 187،وتقدم تخريجه في المساجد. (¬3) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الدنو من الإمام عند الموعظة، برقم 1108، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 304. (¬4) أبو داود، برقم 345، والترمذي، برقم 496، وابن ماجه برقم 1087، والنسائي، برقم 1380، وصححه الألباني في هذه المواضع كلها. وتقدم تخريجه في فضائل صلاة الجمعة. (¬5) أبو داود، كتاب الصلاة، باب إذا وافق يوم الجمعة يوم عيد، برقم 1070، النسائي، كتاب صلاة العيدين، باب الرخصة في التخلف عن الجمعة لمن شهد العيد، برقم 1590،وابن ماجه، كتاب إقامة الصلوات، باب ما جاء فيما إذا اجتمع العيدان في يوم، برقم 1310،وأحمد،4/ 372، والحاكم، 1/ 288، وصححه ووافقه الذهبي، وصححه ابن خزيمة في صحيحه، 2/ 359، برقم 1464، وصححه ابن المديني كما في تلخيص الحبير، 2/ 88، وصححه الألباني في صحيح أبي داود،1/ 295، وصحيح النسائي، 1/ 516، وصحيح ابن ماجه، 1/ 392.

يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإنا مجمّعون)) (¬1)؛ ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((اجتمع عيدان في يومكم هذا فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون (¬2) إن شاء الله)) (¬3)؛ ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: اجتمع عيدان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،فصلى بالناس ثم قال: ((من شاء أن يأتي الجمعة فليأتها، ومن شاء أن يتخلف فليتخلف)) (¬4). وهذه الأحاديث تدل على أن صلاة الجمعة بعد صلاة العيد تصير رخصة: يجوز فعلها وتركها، وهو خاص بمن صلى العيد دون من لم يصلّها، ومن لم يحضر صلاة الجمعة، فإنه يصلي ظهراً؛ لأن الظهر هي الفرض الأصلي المفروض ليلة الإسراء، والجمعة متأخر فرضها، وهي بدل عن الظهر، ثم إن الجمعة إذا فاتت في غير يوم العيد وجب صلاة الظهر إجماعاً فهي البدل عنها (¬5). أما الإمام فلا تسقط عنه على الصحيح، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وإنا مجمعون))؛ ولأنه لو تركها لامتنع فعل الجمعة في حق من تجب عليه، ومن يريدها، بخلاف غيره من الناس (¬6). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله يقول عن حديث زيد بن أرقم: [هذا] ((يدل على أنه لا بأس أن يترك الجمعة من حضر صلاة العيد، لكن يصلي ظهراً، ومن قال: لا يصلي ظهراً فقد ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب إذا وافق يوم الجمعة يوم عيد، برقم 1073، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 296. (¬2) وإنا مجمعون: أي مصلون الجمعة. (¬3) ابن ماجه، كتاب إقامة الصلوات، باب ما جاء فيما إذا اجتمع العيدان في يوم، برقم 1311، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 392. (¬4) ابن ماجه، كتاب إقامة الصلوات، باب ما جاء فيما إذا اجتمع العيدان في يوم، برقم 1313، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 392. (¬5) انظر: سبل السلام للصنعاني، 3/ 179 - 180 بتصرف يسير. (¬6) المغني، لابن قدامة، 3/ 243.

23 - قراءة سورة الكهف يوم الجمعة

غلط، وهو كالإجماع من أهل العلم)) (¬1). 23 - قراءة سورة الكهف يوم الجمعة؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له نور ما بينه وبين الجمعتين)) (¬2). 24 - النداء الأول لصلاة الجمعة؛ لحديث السائب بن يزيد، قال: كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -،وأبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، فلما كان عثمان - رضي الله عنه -،وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء (¬3)،وفي رواية: التأذين الثاني)).وفي لفظ: ((إن الأذان يوم الجمعة كان أوله حين يجلس الإمام يوم الجمعة على المنبر، في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما كان في خلافة عثمان - رضي الله عنه - وكثر الناس أمر عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث فأذن به على الزوراء، فثبت الأمر على ذلك)) (¬4). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((قوله: زاد النداء الثالث: في رواية وكيع عن ابن أبي ذئب: فأمر عثمان بالأذان الأول، ونحوه للشافعي من ¬

(¬1) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 483. وسمعته يقول أثناء تقريره على الحديث رقم 1644 من منتقى الأخبار للمجدّ ابن تيمية عن فعل ابن الزبير - رضي الله عنه - حينما ترك الظهر اكتفاءً بصلاة العيد: ((وهذا اجتهاد ابن الزبير، والصواب أنه لابد من صلاة الظهر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - صلى العيد وصلى الجمعة في يوم واحد، وهذا الذي ينبغي للأمة أن يصلوا العيد ويصلوا الجمعة)).وانظر: المغني لابن قدامة،3/ 243. (¬2) الحاكم، 2/ 368، وصحح إسناده، وأخرجه البيهقي، 3/ 249، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 3/ 93، برقم 626، وفي صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 445، والحديث له عدة ألفاظ ذكرها العلامة الألباني في الإرواء، 3/ 63 - 65، وانظر: صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 209، برقم 225، 1/ 455،برقم 736، وانظر: زاد المعاد لابن القيم، 1/ 377، والشرح الممتع لابن عثيمين، 5/ 120 - 122، والمغني لابن قدامة، 3/ 236. (¬3) الزوراء: قال البخاري رحمه الله: ((موضع بالسوق بالمدينة)) البخاري، برقم 912. (¬4) البخاري، كتاب الجمعة، باب الأذان يوم الجمعة، برقم 912،وباب المؤذن الواحد يوم الجمعة، برقم 913،وباب التأذين عند الخطبة، برقم 916،وباب الجلوس على المنبر عند التأذين، برقم 915.

هذا الوجه، ولا منافاة بينهما؛ لأنه باعتبار كونه مزيداً يسمى ثالثاً، وباعتبار كونه مقدماً على الأذان والإقامة يسمى أولاً. [أما رواية] أن التأذين الثاني أمر به عثمان وتسميته ثانياً أيضاً متوجه بالنظر إلى الأذان الحقيقي، لا الإقامة)) (¬1). والنداء الأول للجمعة الذي جعله عثمان - رضي الله عنه - ليس ببدعة؛ لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - باتباع الخلفاء الراشدين، بقوله: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ)) (¬2). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله بعد كلامه على رويات الأذان الذي جعله عثمان: ((وتبين بما مضى أن عثمان أحدثه لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة قياساً على بقية الصلوات، فألحق الجمعة بها وأبقى خصوصيتها بالأذان بين يدي الخطيب)) (¬3). وعلق القسطلاني في شرحه للبخاري على حديث السائب بن يزيد، فذكر بأن النداء الذي زاده عثمان هو عند دخول الوقت، وسماه ثالثاً باعتبار كونه مزيداً على الأذان بين يدي الإمام والإقامة للصلاة، وأطلق على الإقامة أذاناً تغليباً بجامع الإعلام فيهما، وكان هذا الأذان لما كثر المسلمون، فزاده اجتهاداً منه وموافقة سائر الصحابة له بالسكوت، وعدم الإنكار فصار إجماعاً)) (¬4). وقال الإمام شيخنا ابن باز رحمه الله: ((إن الناس كثروا في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - في المدينة، فرأى أن يزاد الأذان ¬

(¬1) فتح الباري لابن حجر، 2/ 394. (¬2) أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في لزوم السنة، برقم 4607، والترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، برقم 2676، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه، المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، برقم 42 - 44، وأحمد، 4/ 46 - 47، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 3/ 119 وغيره. (¬3) فتح الباري، لابن حجر، 2/ 394. (¬4) انظر: إرشاد الساري شرح صحيح البخاري، للقسطلاني، 2/ 585، وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، 8/ 198.

25 - السنة أن يصلي بعد الجمعة أربع ركعات

الثالث، ويقال له الأذان الأول؛ لأجل تنبيه الناس على أن اليوم يوم الجمعة حتى يستعدوا ويبادروا إلى الصلاة ... )) (¬1). 25 - السنة أن يصلي بعد الجمعة أربع ركعات، أما قبل صلاة الجمعة فيصلي صلاة مطلقة، وليس لها قبلها سنة راتبة مقدرة، بل يشتغل بالتطوع المطلق، والذكر حتى يخرج الإمام (¬2). أما راتبة الجمعة التي بعدها؛ فلحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه حفظ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السنن الرواتب وفيه: (( ... وركعتين بعد الجمعة في بيته)) (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا صلى أحدكم الجمعة فليصلّ بعدها أربعاً)).وفي لفظ: ((إذا صليتم بعد الجمعة فصلوا أربعاً))،وفي لفظ ثالث: ((من كان منكم مصلياً بعد الجمعة فليصلّ أربعاً)).قال سهيل أحد رواة الحديث: ((فإن عجل بك شيء فصلّ ركعتين في المسجد، وركعتين إذا رجعت)) (¬4). وذكر ابن القيم أن ابن تيمية قال: ((إن صلى في المسجد صلى أربعاً، وإن صلى في بيته صلى ركعتين)) (¬5). وكان ابن عمر رضي الله عنهما: ((إن صلى في المسجد صلى أربعاً، وإن صلى في بيته صلى ركعتين)) (¬6). وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يذكر خلاف العلماء في ذلك ثم قال: ((وقال آخرون: أقلها اثنتان وأكثرها أربع، ولا فرق بين كونها تصلى في البيت أو في المسجد، وهذا القول أظهر؛ لأن القول مقدم على الفعل، والأربع ¬

(¬1) مجموع فتاوى ابن باز، 12/ 348. (¬2) انظر: زاد المعاد، لابن القيم، 1/ 277، 436، 378. (¬3) البخاري، برقم 182، وتقدم تخريجه في صلاة التطوع: السنن الرواتب. (¬4) مسلم، برقم 881، وتقدم تخريجه في صلاة التطوع: راتبة الجمعة. (¬5) زاد المعاد، 1/ 440. (¬6) أبو داود، برقم 1130، وتقدم تخريجه في صلاة التطوع: راتبة الجمعة.

26 - لا تعدد صلاة الجمعة في القرية الواحدة أو البلد الواحد إلا لحاجة لابد منها

أفضل؛ لأنه يتعلق بها الأمر)) (¬1). 26 - لا تُعدَّدُ صلاة الجمعة في القرية الواحدة أو البلد الواحد إلا لحاجة لابد منها: كسعة البلد، وكثرة سكانه، أو بُعد الجامع، أو ضيقه، أو خوف فتنة، فيجوز إقامة أكثر من جمعة؛ لهذه الأعذار؛ ولغيرها من الأعذار التي تشق على الناس، قال الخرقي رحمه الله تعالى: ((وإذا كان البلد كبيراً يحتاج إلى جوامع فصلاة الجمعة في جميعها جائزة)) (¬2). وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: ((وجملته أن البلد متى كان كبيراً، يشق على أهله الاجتماع في مسجد واحد، ويتعذر ذلك لتباعد أقطاره، أو ضيق مسجده عن أهله ... جازت إقامة الجمعة فيما يحتاج إليه من جوامعها ... )) (¬3). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (( ... فإقامة الجمعة في المدينة الكبيرة في موضعين للحاجة يجوز عند أكثر العلماء)) (¬4). وقال رحمه الله: ((ويجوز إقامة جمعتين في بلد واحد؛ لأجل الشحناء، بأن حضروا كلهم وقعت الفتنة، ويجوز ذلك للضرورة إلى أن تزول الفتنة)) (¬5). أما إذا لم يكن لذلك حاجة فلا يجوز؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يجمع إلا في مسجد واحد هو مسجده بالمدينة (¬6). ولا يشترط على الصحيح إذن الإمام لإقامة الجمعة، ورجح العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: أن إذن الإمام ¬

(¬1) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 484، وانظر للفائدة ما تقدم في صلاة التطوع: راتبة الجمعة. (¬2) مختصر الخرقي المطبوع مع المغني لابن قدامة، 3/ 212. (¬3) المغني لابن قدامة، 3/ 212 - 213. (¬4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 24/ 208. (¬5) المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، لمحمد بن قاسم، 3/ 127. (¬6) انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 212 - 215، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، 5/ 252 - 255، والروض المربع مع حاشية ابن قاسم، 2/ 462 - 464، والكافي لابن قدامة، 1/ 496 - 497، ومجموع فتاوى العلامة ابن باز، 12/ 351 - 358،وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء،8/ 256 - 263، 264، 266،والشرح الممتع للعلامة ابن عثيمين،5/ 92، 93.

27 - إذا أحدث في صلاته أخذ بأنفه ثم انصرف

يشترط في تعدد الجمعة، أما لإقامة الجمعة فلا يشترط كما تقدم (¬1). 27 - إذا أحدث في صلاته أخذ بأنفه ثم انصرف؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أحدث أحدكم في صلاته؛ فليأخذ بأنفه ثم ينصرف)) (¬2). 28 - لا يصلي المأمومون بين السواري إلا لحاجة؛ لحديث أنس (¬3)، وحديث قرة (¬4) رضي الله عنهما. 29 - لا يتخذ مكاناً خاصَّاً لا يصلي إلا فيه؛ لحديث عبد الرحمن بن شبل - رضي الله عنه - (¬5). 30 - لا يمرُّ بين يدي المصلي وسترته؛ لحديث أبي جهم - رضي الله عنه - (¬6). 31 - لا يحجز مكاناَ بسجادة ونحوها، وإنما يتقدم بنفسه (¬7). 32 - لا يرفع صوته بالقراءة إذا كان ذلك يشوش على الناس؛ لحديث أبي سعيد - رضي الله عنه - (¬8). 33 - يستحضر المشي إلى الصلاة وما أعد الله لذلك (¬9). 34 - يلتزم بآداب المشي إلى المسجد (¬10). 35 - لا حرج في تكلم الخطيب وتكليمه للمصلحة؛ لحديث جابر ¬

(¬1) الشرح الممتع، 5/ 33، و170. (¬2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب استئذان المحدث للإمام، برقم 1114، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 306. (¬3) الحاكم وصححه، 1/ 218، وتقدم تخريجه في المساجد، أحكام المساجد، برقم 15. (¬4) الحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 1/ 218 وتقدم في أحكام المساجد، برقم 15. (¬5) أبو داود، برقم 862 وغيره، وتقدم تخريجه في أحكام المساجد، برقم 28. (¬6) متفق عليه: البخاري، برقم 510،ومسلم، برقم 507،وتقدم تخريجه في أحكام المساجد، برقم 27. (¬7) تقدم في المساجد: أحكام المساجد، برقم 38. (¬8) أبو داود، برقم 1332، وغيره، وتقدم في أحكام المساجد، برقم 14. (¬9) تقدم فضل المشي في المساجد من رقم 1 - 16. (¬10) تقدمت آداب المشي إلى المساجد في المساجد من رقم 1 - 16.

36 - السجود أثناء الزحام

- رضي الله عنه - (¬1)، وحديث أبي الزاهرية (¬2)، وحديث أنس - رضي الله عنه - (¬3). 36 - السجود أثناء الزحام: ((من كبرتكبيرة الإحرام مع الإمام ثم حصل له زحام شديد لا يستطيع السجود؛ فإنه يسجد على حسب استطاعته، فقيل: يسجد على ظهر إنسان أو رجله ويُمَكّن الجبهة والأنف، لقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ((إذا اشتد الزحام فليسجد على ظهر أخيه)) (¬4). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((وهذا قاله بمحضر من الصحابة وغيرهم في يوم جمعة، ولم يظهر له مخالف فكان إجماعاً؛ ولأنه أتى بما يمكنه حال العجز فصح كالمريض)) (¬5). وقيل: لا يسجد على ظهر أحد ولا على رجله، ولكنه يومئ غاية الإمكان (¬6). وقيل: إن شاء سجد على ظهر إنسان أو رجله، وإن شاء انتظر الزحام والأفضل السجود (¬7). وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يرجح أن الإنسان إذا حصل له زحام شديد في الحرم فلم يستطع السجود فإنه ينتظر حتى يقوم الناس ثم يسجد. ¬

(¬1) وتقدم تخريجه في الأدب، رقم 17 من هذه الآداب. (¬2) وتقدم تخريجه في الأدب، رقم 17 من هذه الآداب. (¬3) البخاري، برقم 1029، ومسلم، برقم 897. (¬4) أخرجه أحمد في المسند، 1/ 32، والبيهقي في السنن، 3/ 182 - 183، والطيالسي في المسند، برقم 70، وعبد الرزاق في المصنف، كتاب الجمعة، باب من حضر الجمعة فزحم فلم يستطع يركع مع الإمام، 3/ 233، برقم 5465، و5469، قال العلامة الألباني في تمام المنة في التعليق على فقه السنة، ص341: ((وصله البيهقي، وإسناده صحيح)). (¬5) المغني لابن قدامة، 3/ 186، فذكره عن أحمد وقال: ((وبهذا قال الثوري، وأبو حنيفة، والشافعي، وأبو ثور، وابن المنذر، وقال عطاء والزهري ومالك لا يفعل، قال مالك: وتبطل الصلاة)). وانظر: الشرح الكبير، 5/ 209 - 211. (¬6) نقله المرداوي في الإنصاف، 5/ 210 عن ابن عقيل. (¬7) نقله المرداوي في الإنصاف، 5/ 210.

37 - لا يصلي في موضعه الذي صلى فيه الجمعة

ورجح العلامة ابن عثيمين ((أنه يومئ بالسجود إيماء؛ لأن الإيماء في السجود قد جاءت به السنة، ويليه القول بأنه ينتظر ثم يسجد ... )) (¬1). 37 - لا يصلي في موضعه الذي صلى فيه الجمعة، حتى يتكلم أو يخرج؛ لحديث السائب بن يزيد عن معاوية - رضي الله عنه - (¬2). والله - عز وجل - أعلم. عاشراً: خصائص الجمعة كثيرة متعددة، منها ما يأتي: 1 - يقرأ في فجرها بسورتي: {الم، تَنزِيلُ} ((السجدة))، و {هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان}. 2 - استحباب كثرة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة وليلة الجمعة (¬3). 3 - صلاة الجمعة من آكد فروض الإسلام، ومن أعظم مجامع المسلمين. 4 - الأمر بالاغتسال في يومها، وهو أمر مؤكد جداً. 5 - التطيب فيه وهو أفضل من التطيب في غيره من أيام الأسبوع. 6 - السواك فيه وله مزية على السواك في غيره. 7 - التبكير للصلاة. 8 - أن يشتغل بالصلاة، والذكر، والقراءة حتى يخرج الإمام. 9 - الإنصات للخطبة إذا سمعها وجوباً في أصح القولين. 10 - قراءة سورة الكهف في يومها. 11 - لا يكره فعل الصلاة في يومها وقت الزوال لمن ينتظر الصلاة. 12 - قراءة سورة الجمعة وسورة المنافقون، أو سبح والغاشية، أو ¬

(¬1) الشرح الممتع، 5/ 64، وانظر: حاشية ابن قاسم على الروض المربع، 2/ 442 - 443. (¬2) مسلم برقم 710، وتقدم تخريجه في آداب الإمام، وفي آداب المأموم في الإمامة. (¬3) لحديث أنس - رضي الله عنه - يرفعه: ((أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة)) رواه البيهقي وحسّن إسناده الأرناؤوط في تخريج زاد المعاد لابن القيم، 1/ 376.

13 - يوم الجمعة يوم عيد متكرر في الأسبوع

الجمعة والغاشية في صلاة الجمعة. 13 - يوم الجمعة يوم عيد متكرر في الأسبوع. 14 - يستحب أن يلبس فيه أحسن الثياب التي يقدر عليها. 15 - يستحب فيه تجمير المسجد، لما رواه سعيد بن منصور عن عمر أنه أمر بذلك. 16 - لا يجوز السفر في يومها لمن تلزمه إذا دخل وقتها وأذن لها إلا لعذر. 17 - للماشي إلى الجمعة بكل خطوة أجر سنة صيامها وقيامها. 18 - يوم تكفير السيئات ما لم تُؤتَ الكبائر. 19 - جهنم تُسجَّر كل يوم إلا يوم الجمعة؛ لحديث أبي قتادة في ذلك (¬1). 20 - في يوم الجمعة ساعة الإجابة لا يسأل الله عبد مسلم شيئاً فيها إلا أعطاه. 21 - فيه صلاة الجمعة التي خصت من بين سائر الصلوات المفروضات بخصائص لا توجد في غيرها، من الاجتماع، والعدد المخصوص، واشتراط الإقامة، والاستيطان، والجهر بالقراءة. 22 - في يوم الجمعة الخطبة التي فيها الثناء على الله وتذكير العباد. 23 - يوم الجمعة هو اليوم الذي يستحب أن يتفرغ فيه للعبادة. 24 - جعل الله سبحانه التعجيل فيه إلى المسجد بدلاً من القربان وقائم مقامه، فيجتمع للرائح فيه الصلاة والقربان. 25 - للصدقة فيه مزية عليها في سائر الأيام (¬2). 26 - أنه يوم يتجلى الله - عز وجل - فيه لأوليائه المؤمنين في الجنة. ¬

(¬1) زاد المعاد لابن القيم، 1/ 387. (¬2) ذكر ذلك الإمام ابن القيم في زاد المعاد، 1/ 407.

27 - أنه قد فسر الشاهد الذي أقسم الله به بيوم الجمعة

27 - أنه قد فُسّر الشاهد الذي أقسم الله به بيوم الجمعة. 28 - أنه اليوم الذي تفزع منه السموات والأرض والجبال والبحار والخلائق كلها إلا الإنس والجن، وذلك لخوفهم أن تقوم القيامة. 29 - أنه اليوم الذي ادَّخره الله لهذه الأمة وأضل عنه أهل الكتاب قبلهم. 30 - أنه خيرة الله من أيام الأسبوع، كما أن رمضان خيرته من شهور العام، وليلة القدر خيرته من الليالي، ومكة خيرته من الأرض، ومحمد خيرته من خلقه. 31 - ذكر ابن القيم أن الموتى تدنو أرواحهم من قبورهم وتوافيها في يوم الجمعة فيعرفون زوارهم ومن يمرُّ بهم ويسلّم عليهم. وذكر في ذلك آثاراً عن بعض السلف. قلت: وهذا يحتاج إلى دليل صحيح عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم -. 32 - أنه يكره إفراد يوم الجمعة بالصوم إلا أن يكون في صيام كان يصومه كمن يصوم يوماً ويفطر يوماً. ويكره أيضاً إفراد ليلتها بالقيام إلا ما كان يفعله المسلم في غير ليلة الجمعة فلا حرج من ذلك. 33 - أنه يوم اجتماع الناس وتذكيرهم بالمبدأ والمعاد، ويتذكر المسلمون اجتماع اليوم الأكبر (¬1). الحادي عشر: شروط صحة الجمعة على النحو الآتي: الشرط الأول: الوقت، فلا تصح صلاة الجمعة إلا في وقتها المشروع، ومما يدل على وقت صلاة الجمعة حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس)) (¬2). وحديث ¬

(¬1) زاد المعاد لابن القيم، 1/ 375 - 425 بتصرف يسير فكل هذه الخصائص لخصتها من هذا الكتاب القيم لابن القيم، فانظر أدلتها هناك. (¬2) البخاري، كتاب الجمعة، باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس، برقم 904.

سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه -، قال: ((كنا نجمّع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء)) (¬1). وفي لفظ: ((كنا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمعة، فنرجع وما نجد للحيطان فيئاً نستظل به)). وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ((كنا نبكر بالجمعة، ونقيل بعد الجمعة)) (¬2). وفي لفظ: ((كنا نبكر إلى الجمعة ثم نقيل)). وعن جعفر بن محمد عن أبيه أنه سأل جابر بن عبد الله: متى كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الجمعة؟ قال: ((كان يصلي ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها)). زاد عبد الله في حديثه: حين تزول الشمس: يعني النواضح. وفي رواية: ((كنا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،ثم نرجع فنريح نواضحنا (¬3)،قال حسن: فقلت لجعفر: في أي ساعة تلك؟ قال: زوال الشمس (¬4). وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: ((ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة)). زاد ابن حُجر: ((في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (¬5). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قوله: ((كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس)) فيه إشعار بمواظبته - صلى الله عليه وسلم - على صلاة الجمعة إذا زالت الشمس، وأما رواية أبي حميد التي بعدها عن أنس: ((كنا نبكر بالجمعة ونقيل بعد الجمعة، فظاهره أنهم كانوا يصلون الجمعة باكر النهار، لكن طريق ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية، برقم 4168، ومسلم، كتاب الجمعة، باب صلاة الجمعة حين تزول الشمس، برقم 860. (¬2) البخاري، كتاب الجمعة، باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس، برقم 905، وباب القائلة بعد الجمعة، برقم 940. (¬3) نريح نواضحنا: هو جمع ناضح وهو البعير الذي يستقى به، سمي بذلك؛ لأنه ينضح الماء: أي يصبه، ومعنى نريح: أن نريحها من العمل وتعب السقي ونخليها منه، شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 398. (¬4) مسلم، كتاب الجمعة، باب صلاة الجمعة حين تزول الشمس، برقم 858. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الجمعة، باب قول الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ الله وَاذْكُرُوا الله كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10]، برقم 941، ومسلم، كتاب الجمعة، باب صلاة الجمعة حين تزول الشمس، برقم 859.

الجمع أولى من دعوى التعارض، وقد تقرر فيما تقدم أن التبكير يطلق على فعل الشيء في أول وقته، أو تقديمه على غيره، وهو المراد هنا، والمعنى: أنهم كانوا يبدؤون بالصلاة قبل القيلولة، بخلاف ما جرت به عادتهم في صلاة الظهر في الحر؛ فإنهم كانوا يقيلون ثم يصلون؛ لمشروعية الإبراد)) (¬1). قال الإمام البخاري رحمه الله: ((باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس، وكذلك يُروَى عن عمر، وعلي، والنعمان بن بشير، وعمر بن حريث - رضي الله عنهم -)) (¬2). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قوله: ((باب وقت الجمعة)) أي أوله، ((إذا زالت الشمس)) جزم بهذه المسألة مع وقوع الخلاف فيها لضعف دليل المخالفة عنده)) (¬3)، ثم وصل الحافظ ابن حجر رحمه الله الآثار عن هؤلاء الصحابة، فقال: ((فأما الأثر عن عمر، فروى أبو نعيم شيخ البخاري في كتاب الصلاة له، وابن أبي شيبة من رواية عبد الله بن سيدان، قال: ((شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت صلاته وخطبته إلى نصف النهار، وشهدتها مع عمر فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: انتصف النهار)) رجاله ثقات إلا عبد الله بن سيدان ... فإنه تابعي كبير، إلا أنه غير معروف العدالة، قال ابن عدي: شبه المجهول، وقال البخاري: ((لا يتابع على حديثه، بل عارضه ما هو أقوى منه، فروى ابن أبي شيبة من طريق سويد بن غفلة أنه صلى مع أبي بكر وعمر حين زالت الشمس، وإسناده قوي)). وفي الموطأ عن مالك بن أبي عامر قال: ((كنت أرى طنفسة (¬4) لعقيل بن أبي طالب تطرح يوم الجمعة إلى جدار المسجد الغربي فإذا غشيها ظل الجدار خرج عمر)) إسناده صحيح. وهو ¬

(¬1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر، 2/ 387. (¬2) البخاري، كتاب الجمعة، باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس، قبل الحديث رقم 903. (¬3) فتح الباري لابن حجر، 2/ 387. (¬4) الطنفسة: كساء له خمل يجلس عليه، جامع الأصول لابن الأثير، 5/ 673.

ظاهر في أن عمر كان يخرج بعد زوال الشمس ... والذي يظهر [أن الطنفسة] كانت تفرش داخل المسجد، وعلى هذا فكان عمر يتأخر بعد الزوال قليلاً، وفي حديث السقيفة عن ابن عباس قال: ((فلما كان يوم الجمعة زالت الشمس خرج عمر فجلس على المنبر))، وأما علي فروى ابن أبي شيبة من طريق أبي إسحاق أنه: ((صلى خلف عليّ الجمعة بعدما زالت الشمس)). إسناده صحيح. وروى أيضاً من طريق أبي رزين قال: ((كنا نصلي مع علي الجمعة، فأحياناً نجد فيئاً وأحياناً لا نجد)). وهذا محمول على المبادرة عند الزوال، أو التأخير قليلاً. وأما النعمان بن بشير، فروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن سماك بن حرب قال: ((كان النعمان بن بشير يصلي بنا الجمعة بعدما تزول الشمس)). قلت: [القائل ابن حجر] وكان النعمان أميراً على الكوفة في أول خلافة يزيد بن معاوية. وأما عمرو بن حريث فأخرجه ابن أبي شيبة أيضاً، من طريق الوليد بن العِزار قال: ((ما رأيت إماماً كان أحسن صلاة للجمعة من عمرو بن حريث، فكان يصليها إذا زالت الشمس)) إسناده صحيح أيضاً، وكان عمرو ينوب عن زياد وعن ولده في الكوفة أيضاً ... )) (¬1). وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((المستحب إقامة الجمعة بعد الزوال؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك ... ؛ ولأن في ذلك خروجاً من الخلاف؛ فإن علماء الأمة اتفقوا على أن ما بعد الزوال وقت للجمعة، وإنما الخلاف فيما قبله، ولا فرق في استحباب إقامتها عقيب الزوال ¬

(¬1) فتح الباري، لابن حجر، 2/ 387: نقل هذه الآثار عن الصحابة وصححها كما ترى. ثم ذكر ما يعارض هذه الآثار، ومنها أن عبد الله بن مسعود صلى الجمعة ضحى، وضعفه، ومنها ما نقل أن معاوية صلى الجمعة ضحى، وضعفه أيضاً. وقال في احتجاج بعض الحنابلة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن هذا يوم جعله الله عيداً للمسلمين)) فلما سماه عيداً جازت الصلاة فيه وقت العيد كالفطر والأضحى، وتعقب بأنه لا يلزم من تسمية يوم الجمعة عيداً أن يشتمل على جميع أحكام العيد، بدليل أن يوم العيد يحرم صومه مطلقاً سواء صام قبله أو بعده بخلاف يوم الجمعة باتفاقهم)) فتح الباري لابن حجر، 2/ 387.

بين شدة الحر وبين غيره؛ فإن الجمعة يجتمع لها الناس، فلو انتظروا الإبراد شق عليهم، وكذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعلها إذا زالت الشمس في الشتاء والصيف (¬1) على ميقات واحد (¬2)،وهذا هو الأفضل والأكمل والأحوط (¬3). ¬

(¬1) وأما حديث أنس - رضي الله عنه -: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتد البرد بكر بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة)) يعني الجمعة [البخاري، برقم 906]، فقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قوله: ((بابٌ إذا اشتد الحر يوم الجمعة)) لما اختلف ظاهر النقل عن أنس وتقرر أن طريق الجمع أن يحمل الأمر على اختلاف الحال بين الظهر والجمعة كما قدمناه جاء عن أنس حديث آخر يوهم خلاف ذلك ترجم المصنف هذه الترجمة لأجله ... قوله: ((وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة، يعني الجمعة)) لم يجزم المصنف بحكم الترجمة لاحتمال الواقع في قوله: يعني الجمعة؛ لاحتمال أن يكون من كلام التابعي، أو من دونه، وهو ظن ممن قاله، والتصريح عن أنس في رواية حميد الماضية أنه كان يبكر بها مطلقاً من غير تفصيل، ويؤيده الرواية المعلقة الثانية فإن فيها البيان: بأن قوله: ((يعني الجمعة))، إنما أخذه قائله مما فهمه من التسوية بين الجمعة والظهر عند أنس حيث استدل لما سئل عن الجمعة: ((كان يصلي الظهر)) وأوضح من ذلك رواية الإسماعيلي من طريق أخرى عن حرمي ولفظه: ((سمعت أنساً - وناداه يزيد الضبي يوم الجمعة يا أبا حمزة قد شهدت الصلاة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكيف كان يصلي الجمعة -؟ فذكره ولم يقل يعني الجمعة ... وعرف بهذا أن الإبراد بالجمعة عند أنس إنما هو بالقياس على الظهر، لا بالنص، لكن أكثر الأحاديث تدل على التفرقة بينهما)) [فتح الباري لابن حجر، 2/ 389]. (¬2) المغني لابن قدامة، 3/ 159 - 160،والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف،5/ 190. (¬3) اختلف العلماء في أول وقت صلاة الجمعة هل يجوز قبل الزوال، أو لا يجوز إلا بعده. قال الإمام القرطبي رحمه الله على قوله: ((كنا نجمع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا زالت الشمس)) دليل للجمهور على أحمد بن حنبل وإسحاق، إذ قالا: إنه يجوز أن تصلى الجمعة قبل الزوال، وهذا الحديث مبين للأحاديث التي بعده، ولا متمسك لأحمد وإسحاق في شيء منها مع هذا النص، فإنها كلها محتملة، وهو القاضي عليها المبيّن لها)) [المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 2/ 495]. وقال الإمام النووي رحمه الله: ((وهذه الأحاديث ظاهرة في تعجيل الجمعة، وقد قال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وجماهير العلماء: من الصحابة، والتابعين، فمن بعدهم لا تجوز الجمعة إلا بعد الزوال، ولم يخالف في هذا إلا أحمد بن حنبل، وإسحاق، فجوّزاها قبل الزوال، قال القاضي: وروي في هذا أشياء عن الصحابة لا يصح منها شيء إلا ما عليه الجمهور، وحمل الجمهور هذه الأحاديث على المبالغة في تعجيلها، وأنهم كانوا يؤخرون الغداء والقيلولة في هذا اليوم إلى ما بعد صلاة الجمعة؛ لأنهم ندبوا إلى التبكير إليها، فلو اشتغلوا بشيء من ذلك قبلها خافوا فواتها أو فوت التبكير إليها، وقوله: ((نتتبع الفيء)) إنما كان ذلك لشدة التبكير، وقصر حيطانه، وفيه تصريح بأنه كان قد صار فيء يسير، وقوله: ((ما نجد فيئاً نستظل به)) موافق لهذا؛ فإنه لم ينف الفيء من أصله، وإنما نفى ما يستظل به، وهذا مع قصر الحيطان ظاهر في أن الصلاة كانت بعد الزوال متصلة به)) [شرح النووي على صحيح مسلم،6/ 397 - 398]. وقال الإمام ابن الملقن عن حديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه -: ((فيه دلالة على أن وقت الجمعة وقت الظهر لا يجوز إلا بعد الزوال، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وجماعة العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، ولم يخالف في ذلك إلا أحمد وإسحاق، فقالا: بجوازها قبل الزوال، قال الخرقي في السادسة تمسكاً بهذا الحديث)) [الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، /179]. وقال الخرقي: ((وإن صلوا الجمعة قبل الزوال في الساعة السادسة أجزأتهم)) قال الإمام ابن قدامة: ((وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجوز صلاتها فيما قبل السادسة، وروي عن ابن مسعود، وجابر، وسعيد، ومعاوية، أنهم صلوا قبل الزوال. وقال القاضي وأصحابه: يجوز فعلها في وقت صلاة العيد، وقال مجاهد: ما كان للناس عيد إلا في أول النهار، وروي عن ابن مسعود، ومعاوية أنهما صليا الجمعة ضحى، وقالا: إنما عجلنا خشية الحر عليكم، ولأنها عيد فجاز في وقت العيد: كالفطر والأضحى، والدليل على أنها عيد قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن هذا يوم عيد جعله الله للمسلمين ... )) [ابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 326] وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((قد اجتمع لكم في يومكم هذا عيدان)) [أبو داود وغيره، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 296] وقال أكثر أهل العلم: وقتها وقت الظهر إلا أنه يستحب تعجيلها في أول وقتها؛ لقول سلمة بن الأكوع: ((كنا نجمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء)) متفق عليه. وقال أنس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الجمعة حين تميل الشمس. رواه البخاري؛ ولأنهما صلاتا وقت فكان وقتهما واحداً، كالمقصورة والتامة؛ ولأن إحداهما بدل عن الأخرى، وقائمة مقامها، فأشبها الأصل المذكور؛ ولأن آخر وقتهما واحد، فكان أوله واحداً: كصلاة الحضر والسفر. ولنا على جوازها في السادسة: السنة والإجماع، أما السنة فما روي عن جابر بن عبد الله قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي - يعني الجمعة - ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حين تزول الشمس)). أخرجه مسلم. وعن سهل بن سعد قال: ((ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)). متفق عليه. قال ابن قتيبة: ((لا يسمى غداء، ولا قائلة بعد الزوال)). وعن سلمة بن الأكوع قال: ((كنا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمعة، ثم ننصرف وليس للحيطان فيء نستظل به)). رواه أبو داود. وأما الإجماع فروى الإمام أحمد عن وكيع، عن جعفر بن برقان، عن ثابت بن الحجاج، عن عبد الله بن سيدان قال: ((شهدت يوم الجمعة مع أبي بكر، وكانت صلاته وخطبته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر، وكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول زال النهار، فما رأيت أحداً عاب ذلك ولا أنكره)) [رواه الدارقطني، 2/ 17، وقال في التعليق المغني على الدارقطني: رواته كلهم ثقات إلا عبد الله بن سيدان متكلم فيه ... قال البخاري: لا يتابع على حديثه، وقال أبو القاسم اللالكائي: مجهول، وقال ابن عدي شبه مجهول ... ] وكذلك روي عن ابن مسعود، وجابر، وسعيد، ومعاوية أنهم صلوا قبل الزوال، وأحاديثهم تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلها بعد الزوال في كثير من أوقاته، ولا خلاف في جوازه، وأنه الأفضل، والأولى، وأحاديثنا تدل على جواز فعلها قبل الزوال، ولا تنافي بينهما، وأما في أول النهار، فالصحيح أنها لا تجوز؛ لما ذكره أهل العلم؛ ولأن التوقيت لا يثبت إلا بدليل: من نص أو ما يقوم مقامه، وما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن خلفائه أنهم صلوها في أول النهار؛ ولأن مقتضى الدليل كون وقتها وقت الظهر، وإنما جاز تقديمها عليه بما ذكرنا من الدليل، وهو مختص بالساعة السادسة فلم يجز تقديمها عليها، والله أعلم؛ ولأنها لو صليت في أول النهار لفاتت أكثر المصلين؛ لأن العادة اجتماعهم لها عند الزوال، وإنما يأتيها ضحىً آحاد من الناس وعدد يسير، كما روي عن ابن مسعود أنه أتى الجمعة فوجد أربعة قد سبقوه فقال: رابع أربعة وما رابع أربعة ببعيد. إذا ثبت هذا فالأولى أن لا تصلى إلا بعد الزوال؛ ليخرج من الخلاف، ويفعلها في الوقت الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعلها فيه في أكثر أوقاته، ويجعلها في أول وقتها في الشتاء والصيف؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعجلها، بدليل الأخبار التي رويناها؛ ولأن الناس يجتمعون لها في أول وقتها، ويبكرون إليها قبل وقتها، فلو انتظر الإبراد بها لشق على الحاضرين، وإنما يجعل الإبراد بالظهر في شدة الحر رفعاً للمشقة التي يحصل أعظم منها بالإبراد بالجمعة)) انتهى كلام ابن قدامة. [المغني، 3/ 239 - 242]، وانظر: الشرح الكبير،5/ 186 - 190،والإنصاف للمرداوي، 5/ 185 - 190]. ومما يستدل به على أن الجمعة تصح في الساعة السادسة قبل الزوال بساعة حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ثم ذكر: الثانية، والثالثة، والرابعة، ثم الخامسة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر، فيكون حضور الإمام على مقتضى حديث أبي هريرة في الساعة السادسة [انظر: الشرح الممتع لابن عثيمين، 5/ 41]. وذكر العلامة ابن عثيمين رحمه الله الأقوال الثلاثة: القول الأول: أول وقت صلاة الجمعة وقت صلاة العيد بعد ارتفاع الشمس، ثم قال: بأن أثر عبد الله بن سيدان ضعيف كما تقدم، وإن صح فليس فيه دليل؛ لأن قوله: كانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار يدل على أنها قريبة من النصف، ولو كانت في أول النهار، لقال: كانت صلاته في أول النهار، وهذا يدل على أن صلاة أبي بكر - رضي الله عنه - كانت قريبة من الزوال، والقول بأن صلاة الجمعة تصح قبل الزوال هو المذهب، بل هو من المفردات. القول الثاني: أنها لا تصح إلا بعد الزوال، وهذا مذهب الأئمة الثلاثة. القول الثالث: أنها تصح في الساعة السادسة قبل الزوال بساعة استناداً لحديث أبي هريرة: ((من راح في الساعة الأولى)) ... وهذا القول هو الراجح أنها لا تصح في أول النهار إنما تصح في السادسة، والأفضل على القول بأنها تصح في السادسة أن تكون بعد الزوال وفاقاً لأكثر العلماء. [الشرح الممتع، 5/ 41 - 42]. وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يقول على حديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه -: ((وهذا الحديث يدل على أن وقتها وقت الظهر، لكن بمراعاة التبكير في أول وقت الظهر، وبهذا قال جمهور أهل العلم، وقال آخرون: يجوز أن تقدم قبل الزوال، واختلفوا: فبعضهم قال: يكون وقتها بعد ارتفاع الشمس، وقال آخرون: الساعة السادسة قُبيل الزوال، وهذا أظهر؛ لما جاء في الأحاديث الصحيحة من فضل التبكير، وأن في الساعة السادسة يخرج الإمام، والساعة السادسة قُبيل الزوال، والتبكير بالجمعة قبل الزوال لا حرج فيه [يعني في الساعة السادسة] والأحوط، والأولى، والأفضل الخروج من الخلاف، وأن تصلى بعد الزوال عملاً بالأحاديث كلها، وخروجاً من الخلاف، واحتياطاً لهذه العبادة العظيمة)) [سمعته من سماحة الإمام رحمه الله أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 470، وأثناء تقريره على صحيح مسلم، الحديث رقم 858، وسمعته مرة يضعف القول بأن أول وقت الجمعة بعد ارتفاع الشمس كصلاة العيد]. وقال الإمام الشوكاني عن قول الجمهور: لا تصح الصلاة قبل الزوال حتى في الساعة السادسة: ((واستدلالهم بالأحاديث القاضية بأنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الجمعة بعد الزوال لا ينفي الجواز قبله)) [نيل الأوطار، 2/ 539].

وآخر وقت الجمعة هو آخر وقت صلاة الظهر وهو أن يكون ظل الشيء كطوله بعد في الزوال، فإذا خرج وقت صلاة الظهر قبل إدراك ركعة بعد أداء الواجب من الخطبتين صليت ظهراً؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة)) (¬1)، وهذا هو الصواب أنها لا تدرك إلا بإدراك ركعة (¬2)، فإذا أدرك من الوقت ما يمكنه أن يخطب ثم يصلي ركعة فله أن يفعل ذلك (¬3) وإلا صليت ظهراً (¬4). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 580،ومسلم، برقم 607،وتقدم تخريجه في صلاة الجماعة. (¬2) وقيل: تدرك بإدراك تكبيرة الإحرام في الوقت، قال العلامة ابن عثيمين: ((الصحيح أن جميع الإدراكات لا تكون إلا بركعة؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة)) هذا منطوق الحديث، ومفهومه أن من لم يدرك ركعة لم يدرك الصلاة، وهذا عام في جميع الإدراكات. [الشرح الممتع، 5/ 43] وهو الذي اختاره الخرقي رحمه الله في مختصره قال: ((ومتى دخل وقت العصر وقد صلوا ركعة أتموا بركعة أخرى، وأجزأتهم جمعة)) انظر: مختصر الخرقي مع المغني 3/ 191، والشرح الكبير، 5/ 190 - 193، والإنصاف، 5/ 190. (¬3) المغني لابن قدامة، 3/ 192. (¬4) اختلف العلماء بما تدرك به صلاة الجمعة في الوقت على النحو الآتي: ظاهر كلام الخرقي أن الجمعة لا تدرك إلا بإدراك ركعة في وقتها. واختاره ابن قدامة. وقال القاضي: متى دخل وقت العصر بعد إحرامه أتمها جمعة، ونحو هذا قال أبو الخطاب؛ لأنه أحرم بها في وقتها أشبه ما لو أتمها فيه. والمنصوص عن أحمد أنه إذا دخل وقت العصر بعد تشهده وقبل سلامه سلم وأجزأته، وهذا قول أبي يوسف، ومحمد، وظاهر هذا أنه متى دخل الوقت قبل ذلك بطلت أو انقلبت ظهراً. وقال أبو حنيفة: إذا خرج الوقت قبل فراغه منها بطلت ولا يبني عليها ظهراً؛ لأنهما صلاتان مختلفتان فلا يبني إحداهما على الأخرى كالظهر والعصر، والظاهر أن مذهب أبي حنيفة في هذا كما ذكرنا عن أحمد؛ لأن السلام عنده ليس من الصلاة. وقال الشافعي: لا يتمها جمعة ويبني عليها ظهراً، لأنهما صلاتا وقت واحد فجاز بناء إحداهما على الأخرى، كصلاة الحضر والسفر، واحتجوا على أنه لا يتمها جمعة بأن ما كان شرطاً في بعضها كان شرطاً في جميعها: كالطهارة وسائر الشروط. والصواب ما قاله الخرقي وابن قدامة؛ ولهذا قال ابن قدامة: ((ولنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أدرك من الجمعة ركعة فقد أدرك الصلاة)) [متفق عليه]؛ ولأنه أدرك من الجمعة ركعة فكان مدركاً لها، كالمسبوق بركعة؛ ولأن الوقت شرط يختص بالجمعة فاكتفي به في ركعة كالجمعة، وما ذكروه ينتقض بالجماعة فإنه يكتفى بإدراكها في ركعة)) المغني، 3/ 191 - 192.

الشرط الثاني: الجماعة، فلا تنعقد صلاة الجمعة إلا بحضور جماعة

الشرط الثاني: الجماعة، فلا تنعقد صلاة الجمعة إلا بحضور جماعة، والصواب أنها تنعقد بثلاثة: واحد يخطب واثنان يستمعان؛ لأن اسم الجمع يتناول الثلاثة؛ ولأن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجمعة فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬1) بصيغة الجمع فيدخل فيه الثلاثة (¬2)؛ ولعموم حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كانوا ثلاثة فليؤمّهم أحدهم، وأحقّهم بالإمامة أقرؤهم)) (¬3)، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية، فَنُقِلَ عنه في الاختيارات: ((وتنعقد الجمعة بثلاثة: واحد يخطب، واثنان يستمعان، وهو إحدى الروايات عن أحمد (¬4)،وقول طائفة من العلماء)) (¬5)،وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله يقول: ((واختلف الناس في عدد الجمعة، فقيل: أربعون، وقيل: خمسون، وقيل: اثنا عشر، وقيل: أربعة، وقيل: ثلاثة، وقيل: اثنان، وأحسن ما قيل: إنها تنعقد بثلاثة: إمام ومأمومَيْن، ¬

(¬1) سورة الجمعة، الآية: 9. (¬2) انظر: الشرح الكبير، لابن قدامة مع المقنع والإنصاف، 5/ 199. (¬3) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة، برقم 672. (¬4) الاختيارات العلمية من الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص119 - 120، وانظر: الإنصاف لمعرفة الراجح من الخلاف للمرداوي المطبوع مع المقنع والشرح الكبير، 5/ 199، والإحكام شرح أصول الأحكام للعلامة عبد الرحمن بن محمد القاسم، 1/ 442 - 444. (¬5) اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في العدد الذي تقوم بهم الجمعة، وقد ذكر الحافظ ابن حجر خمسة عشر قولاً: فقيل: تصح من الواحد، وقيل: اثنان كالجماعة، وقيل: اثنان مع الإمام، وقيل: ثلاثة مع الإمام، وقيل: سبعة، وقيل: تسعة، وقيل: اثنا عشر، وقيل: اثنا عشر غير الإمام، وقيل: عشرون، وقيل: ثلاثون، وقيل: أربعون بالإمام، وقيل: أربعون غير الإمام، وقيل: خمسون، وقيل: ثمانون، وقيل: جمع كثير بغير قيد، قال ابن حجر: ولعل هذا الأخير أرجحها من حيث الدليل، ويمكن أن يزداد العدد باعتبار زيادة شرط: كالذكورة، والحرية، والبلوغ، والإقامة، والاستيطان، فيكمل بذلك عشرين قولاً. انظر فتح الباري لابن حجر، 2/ 423، بتصرف.

الشرط الثالث: أن يكونوا بقرية مستوطنين بها مبنية بما جرت به العادة لا يرحلون عنها صيفا ولا شتاء

واختاره ابن تيمية، وهذا فيه احتياط وبرأة للذمة)) (¬1)،وسمعته مرة أخرى يقول: ((والصواب أن صلاة الجمعة تصح بثلاثة: الإمام، واثنان معه)) (¬2)، قلت: وهذا القول الذي لا تطمئن النفس إلا إليه)) (¬3). الشرط الثالث: أن يكونوا بقرية مستوطنين بها مبنية بما جرت به العادة لا يرحلون عنها صيفاً ولا شتاء، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((فأما القرية فيعتبر أن تكون مبنية بما جرت به العادة ببنائها به: من حجر، أو طين، أو لَبِن، أو قصب، أو شجر ونحوه، فأما أهل الخيام وبيوت الشعر ... فلا جمعة عليهم ولا تصح منهم؛ لأن ذلك لم ينصب للاستيطان غالباً، وكذلك كانت قبائل العرب حول المدينة فلم يقيموا جمعة، ولا أمرهم بها ¬

(¬1) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام لابن حجر، الحديث رقم 491. (¬2) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 936. (¬3) وقد استدل الإمام الشافعي، والإمام أحمد وعمر بن عبد العزيز وغيرهم في اشتراط الأربعين لصلاة الجمعة، بما رواه أبو داود، برقم 1069، وابن ماجه، برقم 1082 عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك وكان قائد أبيه بعدما عمي بصره، عن أبيه كعب بن مالك أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحّم لأسعد بن زرارة، فقلت له: إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة؟ قال: لأنه أوّل من جمّع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يقال له نقيع الخصمان، قلت: كم كنتم يومئذ؟ قال: أربعون)) [وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 295، وصحيح ابن ماجه 1/ 320، والعلامة ابن باز في مجموع الفتاوى، 12/ 361. وقال الشوكاني: وصحح الحافظ إسناده]. وذكر الإمام الشوكاني أيضاً: ((بأنه لا دلالة في الحديث على اشتراط الأربعين؛ لأن هذه واقعة عين، وذلك أن الجمعة فرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة قبل الهجرة كما أخرجه الطبراني عن ابن عباس، فلم يتمكن من إقامتها هنالك من أجل الكفار، فلما هاجر من هاجر من أصحابه إلى المدينة كتب إليهم يأمرهم أن يجمّعوا، واتفق أن عدتهم إذن كانت أربعين، وليس فيه ما يدل على أن ما دون الأربعين لا تنعقد بهم الجمعة، وقد تقرر في الأصول أن وقائع الأعيان لا يحتج بها على العموم ... وما أخرجه الطبراني عن أبي مسعود الأنصاري قال: أول من قدم المدينة من المهاجرين مصعب بن عمير وهو أول من جمع بها يوم الجمعة قبل أن يقدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهم اثنا عشر رجلاً، وفي إسناده صالح بن أبي الأخضر وهو ضعيف. قال الحافظ: ويجمع بينه وبين حديث الباب بأن أسعد كان أميراً، ومصعب كان إماماً ... )) انتهى كلام الشوكاني في نيل الأوطار، 2/ 494 - 495. وأما ما أخرجه الدراقطني عن جابر - رضي الله عنه -: ((مضت السنَّة أن في كل أربعين فما فوق جمعة وأضحى وفطر)). فقال العلامة الألباني في إرواء الغليل، 3/ 69: ((ضعيف جداً)). وسمعت شيخنا ابن باز يقول أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 491: ((ضعيف))؛ بل قد ضعفه ابن حجر في البلوغ أيضاً.

النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان ذلك لم يخفَ ولم يُترك نقله مع كثرته وعموم البلوى به، لكن إن كانوا مقيمين بموضع يسمعون النداء لزمهم السعي إليها، كأهل القرية الصغيرة إلى جانب المصر ... ويشترط في القرية أن تكون مجتمعة البناء بما جرت به العادة في القرية الواحدة، فإن كانت متفرقة المنازل تفرقاً لم تجرِ العادة به لم تجب عليهم الجمعة)) (¬1)، ولكن لو اجتمع في القرية الصغيرة ما تنعقد به الجمعة وجبت عليهم ويتبعهم الباقون، ولا يشترط اتصال البناء بعضه ببعض، ومتى كانت القرية لا تجب عليهم الجمعة، ولكن كانوا يسمعون النداء من المدينة؛ فإنه يلزمهم السعي إليها لعموم الآية (¬2)، وقد تقدم شيء من التفصيل في ذلك، في حكم صلاة الجمعة: من تجب عليه ومن لا تجب عليه (¬3). وقد أقيمت الجمعة في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قرية بالبحرين، فعن ابن عباس أنه قال: ((إن أول جمعة جُمّعت بعد جمعة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجد عبد القيس بجوثى من البحرين)) يعني قرية من البحرين (¬4)، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((ووجه الاستدلال منه أن الظاهر أن عبد القيس لم يُجَمّعوا إلا بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لما عُرِفَ من عادة الصحابة من عدم الاستبداد بالأمور الشرعية في زمن نزول الوحي؛ ولأنه لو كان ذلك لا يجوز لنزل فيه القرآن، كما استدل جابر وأبو سعيد على جواز العزل بأنهم فعلوه والقرآن ينزل فلم يُنهَوا عنه)) (¬5)، وتقدم أن أسعد بن زرارة أول من جَمَّعَ في المدينة قبل مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - في قرية ¬

(¬1) المغني، لابن قدامة، 3/ 203. (¬2) المرجع السابق، 3/ 203. (¬3) انظر: الشرط السادس من شروط فرضية الجمعة. (¬4) البخاري، كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن، برقم 892، وكتاب المغازي، باب وفد عبد القيس، برقم 4371. (¬5) فتح الباري، لابن حجر، 2/ 380، وذكر آثاراً عن الصحابة في إقامة الجمع في القرى. وانظر: نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 498.

الشرط الرابع: تقدم خطبتين

يقال لها: هزم النبيت في حرة بني بياضة على ميل من المدينة (¬1)، وقد فَصَّل شيخ الإسلام تفصيلاً واضحاً عن الاستيطان وقد ذكرته في شروط فرضية الجمعة وأنها فرض عين بشروط ثمانية (¬2). الشرط الرابع: تقدم خطبتين؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب قبل صلاة الجمعة خطبتين يقعد بينهما، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب خطبتين يقعد بينهما)). وفي لفظ: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب قائماً ثم يقعد، ثم يقوم كما يفعلون اليوم)) (¬3). وعن جابر بن سمرة قال: ((كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - خطبتان يجلس بينهما، يقرأ القرآن ويذكر الناس)). وفي لفظ: ((كان يخطب قائماً ثم يجلس ثم يقوم فيخطب قائماً، فمن نبأك أنه كان يخطب جالساً فقد كذب، فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة)) (¬4)؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( ... صلوا كما رأيتموني أصلي)) (¬5). وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجمعة فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬6)، والذكر هو الخطبة؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ترك الخطبة للجمعة في حال من الأحوال (¬7)، وجاء عن عمر - رضي الله عنه - قال: ((إنما جعلت الخطبة مكان الركعتين)) (¬8)، وجاء ذلك عن عطاء، ¬

(¬1) أبو داود، برقم 1069،وابن ماجه، برقم 1082،وتقدم في شرط الجماعة في صلاة الجمعة في الهامش. (¬2) تقدم تحت حكم صلاة الجمعة من تجب عليه ومن لا تجب عليه، رقم 6، وانظر: فتاوى ابن تيمية، 24/ 160، 190، واختيارات ابن تيمية، ص119، وانظر أيضاً: الإحكام في شرح أصول الأحكام لابن قاسم، 1/ 445، والشرح الممتع لابن عثيمين، 5/ 55. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الجمعة، باب الخطبة قائماً، برقم 920، وباب القعدة بين الخطبتين يوم الجمعة، برقم 928، ومسلم، كتاب الجمعة، باب ذكر الخطبتين قبل الصلاة وما فيهما من الجلسة، برقم 861. (¬4) مسلم، كتاب الجمعة، باب ذكر الخطبتين وما فيهما من الجلسة، برقم 862. (¬5) البخاري، كتاب الأذان، باب الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة، برقم 631. (¬6) سورة الجمعة، الآية: 9. (¬7) المغني لابن قدامة، 3/ 171، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، 5/ 219. (¬8) أخرجه ابن أبي شيبة في باب الرجل تفوته الخطبة، من كتاب الصلاة في المصنف،2/ 128.

1 - أن الله أمر بالسعي إلى ذكر الله من حين النداء

وطاوس، ومجاهد، ومكحول (¬1)، وهذا مذهب عامة العلماء أن صلاة الجمعة لا تصح إلا بخطبتين قبلها (¬2)، فظهر أن الخطبتين لصلاة الجمعة شرط من شروط صحتها، ويؤكد ذلك الأمور التالية: 1 - أن الله أمر بالسعي إلى ذكر الله من حين النداء، والتواتر القطعي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أذن المؤذن يوم الجمعة خطب خطبتين، فالسعي إلى الخطبة واجب، وما كان السعي إليه واجباً فهو واجب. 2 - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرم الكلام والإمام يخطب وهذا يدل على وجوب الاستماع إلى الخطبة، ووجوب الاستماع إليهما يدل على وجوبهما. 3 - مواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - موظبة دائمة وهذا الدوام المستمر صيفاً وشتاء، شدة ورخاء يدل على جوبهما. 4 - أنه لو لم تجب لها خطبتان لكانت كغيرها من الصلوات ولا يستفيد الناس من التجمع لها، ومن أهم الأغراض لهذه الصلاة: الموعظة وتذكير الناس (¬3). ويشرع أن تشتمل الخطبة على أربعة أمور (¬4): ¬

(¬1) مصنف ابن أبي شيبة، كتاب الصلاة، باب الرجل تفوته الخطبة، 2/ 128. (¬2) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 398، والمغني لابن قدامة، 3/ 171، 173، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، 5/ 219. (¬3) انظر: الشرح الممتع، لابن عثيمين، 5/ 66. (¬4) من أهل العلم من جعل هذه الأربعة الأمور من شروط صحة الخطبتين فلا تصح إلا بها، فقال: ((من شرط صحة الخطبتين: حمد الله، والصلاة على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقراءة آية، والوصية بتقوى الله تعالى، وقال الإمام ابن قدامة، رحمه الله: ((ومن شرط صحتهما: حمد الله تعالى، والصلاة على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وقراءة آية، والوصية بتقوى الله تعالى، وحضور العدد المشترط)) [المقنع مع الشرح الكبير والإنصاف، 5/ 218، وانظر: المغني له، 3/ 173 - 176]. وقال الشيخ العلامة الزركشي: ((واعلم أن هذه الأربع: من الحمد، والصلاة، والقراءة، والموعظة أركان للخطبتين، لا تصح واحدة من الخطبتين إلا بهن)) [شرح الزركشي على مختصر الخرقي، 2/ 178] وذكر الإمام النووي أنه يشترط عند الشافعي في الخطبة: الوعظ، والقرآن، وأن الخطبتين لا تصح إلا بحمد الله تعالى، والصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والوعظ قال: ((وهذه الثلاثة واجبات في الخطبتين، وتجب قراءة آية من القرآن في إحداهما على الأصح، ويجب الدعاء للمؤمنين في الثانية على الأصح، وقال مالك وأبو حنيفة والجمهور: يكفي من الخطبة ما يقع عليه الاسم)) [شرح النووي على صحيح مسلم،6/ 399]، وذكر عن ابن تيمية أن ذم الدنيا وذكر الموت لا يكفي في الخطبة، بل لابد من مسمى الخطبة عرفاً، ولا تحصل باختصار يفوت به المقصود، ويجب في الخطبة أن يشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وأوجب في موضع آخر الشهادتين، وتردد في وجوب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخطبة وقال في موضع آخر ويحتمل - وهو الأشبه - أن الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - فيها واجبة مع الدعاء، ولا تجب مفردة؛ لقول عمر وعلي رضي الله عنهما: الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى تصلي على نبيك - صلى الله عليه وسلم -، وتقديم الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - على الدعاء؛ لوجوب تقديمه على النفس، وبين أن الأمر بتقوى الله واجب إما بالمعنى وهو أشبه من أن يقال الواجب لفظ التقوى، وصرح بوجوب القراءة في الخطبة. [انظر: الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص120 - 121]. وانظر: الإنصاف لمعرفة الراجح من الخلاف مع المقنع والشرح الكبير، 5/ 220 - 221، وقال العلامة السعدي رحمه الله: ((وأما اشتراط تلك الشروط في الخطبتين: الحمد، والصلاة على رسول الله، وقراءة آية من كتاب الله فليس على اشتراط ذلك دليل، والصواب أنه إذا خطب خطبة يحصل بها المقصود والموعظة، أن ذلك كافٍ وإن لم يلتزم بتلك المذكورات، نعم من كمال الخطبة الثناء فيها على الله وعلى رسوله، وأن تشتمل على قراءة شيء من كتاب الله، أما كون هذه الأمور شروطاً لا تصح إلا بها سواء تركها عمداً أو خطأ أو سهواً ففيه نظر ظاهر، وكذلك كون مجرد الإتيان بهذه الأركان الأربعة من دون موعظة تحرك القلوب يجزئ ويسقط الواجب وذلك لا يحصل به مقصود فغير صحيح)) [المختارات الجلية، ص70].

حمد الله تعالى، والصلاة على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقراءة آية من كتاب الله تعالى، والأمر بتقوى الله تعالى؛ لحديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس: يحمد الله، ويثني عليه بما هو أهله ... )) (¬1)؛ ولأن كل أمر لا يبدأ فيه بحمد الله تعالى، فهو أقطع، أبتر، أجذم، ناقص البركة والخير (¬2)؛ ولقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ((إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك - صلى الله عليه وسلم -)) (¬3)؛ ولقول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ((كل دعاء محجوب حتى تصلي على محمد - صلى الله عليه وسلم - وآل محمد)) (¬4)؛ ولحديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: ((كانت ¬

(¬1) مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، برقم 867. (¬2) انظر: مسند الإمام أحمد، 2/ 359، وسنن أبي داود، برقم 4840، وابن ماجه، برقم 1894، وابن حبان، برقم 1993 (موارد). (¬3) الترمذي، كتاب الوتر، باب ما جاء في فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 486، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 1/ 274، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة تحت الحديث رقم 2035. (¬4) الطبراني في الأوسط 4/ 448 مصورة الجامعة الإسلامية، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة لكثرة طرقه، الحديث رقم 2035.

للنبي - صلى الله عليه وسلم - خطبتان يجلس بينهما، يقرأ القرآن ويذكر الناس)) (¬1). ولفظ أبي داود: ((كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قصداً، وخطبته قصداً، يقرأ آيات من القرآن ويذكر الناس)) (¬2)؛ ولحديث أم هشام بنت حارثة بن النعمان رضي الله عنها قالت: ((لقد كانت تنورنا وتنور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحداً (¬3)، سنتين أو سنة وبعض سنة، وما أخذت {ق*وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} إلا عن لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس)) (¬4)، وعن صفوان بن يعلى عن أبيه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ على المنبر: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ} (¬5) (¬6)، قال الإمام النووي رحمه الله: ((فيه القراءة في الخطبة وهي مشروعة بلا خلاف، واختلفوا في وجوبها، والصحيح عندنا وجوبها، وأقلها آية)). قوله: ((ما حفظت (ق) إلا من فِيّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب بها كل جمعة)) قال العلماء: ((سبب اختيار ق أنها مشتملة على البعث، والموت، والمواعظ الشديدة، والزواجر الأكدية، وفيه دليل للقراءة في الخطبة كما سبق، وفيه استحباب قراءة (ق) أو بعضها في كل خطبة)) (¬7)، وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنه منذر ¬

(¬1) مسلم، برقم 862، وتقدم تخريجه في الشرط الرابع من شروط صحة صلاة الجمعة. (¬2) سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب الرجل يخطب على قوس، برقم 1101، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود،1/ 303،وأصله في صحيح مسلم، برقم 866. (¬3) التنور: الكانون يخبز فيه. القاموس المحيط، ص456. (¬4) مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة، والخطبة، برقم 873. (¬5) سورة الزخرف، الآية: 77. (¬6) متفق عليه: البخاري، كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم: آمين والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه، برقم 3230، ومسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة، والخطبة، برقم 871. (¬7) شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 410.

جيش يقول: صبحكم ومساكم (¬1)، ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين إصبعين: السبابة والوسطى، ويقول: أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي (¬2) هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)). ثم يقول: ((أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك ديناً أو ضياعاً (¬3) فإليَّ وعليَّ)). وفي لفظ: ((كانت خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة: يحمد الله، ويثني عليه، ثم يقول على إثر ذلك وقد علا صوته ... )). وفي لفظ: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس: يحمد الله، ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وخير الحديث كتاب الله ... )) (¬4). وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن ضماداً (¬5) قدم مكة، وكان من أزد شنوءة وكان يرقي من هذه الريح (¬6) فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمداً مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي، قال: فلقيه فقال: يا محمد إني أرقي من هذه الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء فهل لك؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أما بعد)) قال: ¬

(¬1) منذر جيش: المنذر: المعلم المعروف للقوم بما يكون قد دهمهم من عدو أو غيره، وهو المخوف. جامع الأصول لابن الأثير، 5/ 680. (¬2) الهدي: السيرة والطريقة. جامع الأصول، 5/ 680،قال النووي: ((لفظ الهدي له معنيان: أحدهما بمعنى الدلالة والإرشاد، وهو الذي يضاف إلى الرسل والقرآن والعباد. والثاني: بمعنى اللطف والتوفيق والعصمة والتأييد وهو الذي تفرد الله به)) شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 403. (¬3) الضياع: العيال، جامع الأصول لابن الأثير، 5/ 680. والضياع: الأطفال والعيال. شرح النووي، 6/ 404. (¬4) مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، برقم 867. (¬5) ضماد: هو ضماد بن ثعلبة الأزدي من أزد شنوءة، تمييز الصحابة لابن حجر، 2/ 210. (¬6) الريح: أي الأرواح الخبيثة [الجن].

فقال أعد عليّ كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثلاث مرات، قال: فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس البحر (¬1)، قال: فقال: هات يدك أبايعك على الإسلام، قال: فبايعه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وعلى قومك؟)) قال: ((وعلى قومي، قال: فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية فمروا بقومه، فقال صاحب السرية للجيش: هل أصبتم من هؤلاء شيئاً؟ فقال رجل من القوم: أصبت منه مطهرة (¬2)، فقال: ردُّوها؛ فإن هؤلاء قوم ضماد)) (¬3). قال النووي رحمه الله عن حديث جابر - رضي الله عنه -، قوله: ((إذا خطب احمرّت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش)) يستدل بهذا على أنه يستحب للخطيب أن يفخم أمر الخطبة، ويرفع صوته، ويجزل كلامه، ويكون مطابقاً للفصل الذي يتكلم فيه: من ترغيب أو ترهيب، ولعل اشتداد غضبه كان عند إنذاره أمراً عظيماً، وتحديده خَطْباً جسيماً ... ثم قال [و] ((فيه استحباب قول أما بعد في خطب: الوعظ، والجمعة، والعيد، وغيرها، وكذا في خطب الكتب المصنفة، وقد عقد البخاري باباً في استحبابه وذكر فيه جملة من الأحاديث ... وقوله: ((كانت خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة: يحمد الله ويثني عليه)) فيه دليل للشافعي - رضي الله عنه - أنه يجب حمد الله تعالى في الخطبة ويتعين لفظه، ولا يقوم غيره مقامه)) (¬4). ¬

(¬1) ناعوس البحر: قيل: لجته، وقيل: وسطه، وقيل: قعره الأقصى، وقيل: عمقه ولجته. شرح النووي على مسلم، 6/ 406 - 407. (¬2) مطهرة: الميضأة والمطهرة: ما يتوضأ به ويتطهر فيه من الآنية، تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص112. (¬3) مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، برقم 868. (¬4) شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 405 - 406.

وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: أُتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جوامع الخير وخواتمه - أو قال: فواتح الخير - فعلَّمنا خطبة الصلاة وخطبة الحاجة: خطبة الصلاة: التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وخطبة الحاجة: إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (¬1). {يَا أَيُّهَا الناس اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ الله الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬3) (¬4). [أما بعد] (¬5). وكان أحياناً لا يذكر هذه الآيات الثلاث (¬6)؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 102. (¬2) سورة النساء، الآية: 1. (¬3) سورة الأحزاب، الآيتان: 70 - 71. (¬4) ابن ماجه، كتاب النكاح، باب خطبة النكاح، برقم 1892، والترمذي، كتاب النكاح، باب ما جاء في خطبة النكاح، برقم 1105، وأبو داود، كتاب النكاح، باب في خطبة النكاح، برقم 2118، والنسائي، كتاب الجمعة، باب كيفية الخطبة، برقم 1403، واللفظ لابن ماجه، وصححه الألباني في هذه المواضع كلها. (¬5) هذه من رواية ابن عباس الآتية، وتقدمت أيضاً في قصة ضماد من حديث ابن عباس. (¬6) انظر تمام المنة في التعليق على فقه السنة للألباني، ص335.

فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أما بعد)) (¬1). وينبغي أن يقول أحياناً بعد قوله: أما بعد (¬2): ((فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة [وكل ضلالة في النار])) (¬3)، وفي لفظ النسائي: (( ... إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)) (¬4). قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في خصائص يوم الجمعة: (( ... إن فيه الخطبة التي يقصد بها الثناء على الله، وتمجيده، والشهادة له بالوحدانية، ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة، وتذكير العباد بأيامه، وتحذيرهم من بأسه ونقمته، ووصيتهم بما يقربهم إليه، وإلى جناته، ونهيهم عما يقربهم من سخطه وناره، فهذا هو مقصود الخطبة، والاجتماع لها)) (¬5). وقال رحمه الله في موضوع آخر: ((وكان مدار خطبه على حمد الله، والثناء عليه بآلائه، وأوصاف كماله، ومحامده، وتعليم قواعد الإسلام، وذكر الجنة والنار، والمعاد، والأمر بتقوى الله، وتبيين موارد غضبه، ومواقع رضاه، فعلى هذا كان مدار خطبه، وكان يخطب في كل وقت بما تقتضيه حاجة المخاطبين، ومصلحتهم، ولم يكن يخطب خطبة إلا افتتحها بحمد الله، ويتشهد فيها بكلمتي الشهادة، ويذكر فيها نفسه باسمه العام، وثبت عنه أنه ¬

(¬1) ابن ماجه، كتاب النكاح، باب خطبة النكاح، برقم 1893، وصححه الألباني في هذا الموضع، وفي خطبة الحاجة (31)، وأصله في صحيح مسلم، برقم 868 في قصة ضماد، وتقدمت. (¬2) انظر: تمام المنة في التعليق على فقه السنة، للألباني، ص335. (¬3) مسلم، من حديث جابر، برقم 867،وتقدم وما بين المعقوفين من سنن النسائي، برقم 1577. (¬4) النسائي، كتاب صلاة العيدين، باب كيف الخطبة، برقم 1577، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 512، وهو في مسلم كما تقدم إلا ((وكل ضلالة في النار)). (¬5) زاد المعاد، 1/ 398، وانظر هديه - صلى الله عليه وسلم - في خطبته في زاد المعاد،1/ 186 - 191 و1/ 425 - 440.

وسنن خطبة الجمعة كثيرة، منها ما يأتي:

قال: ((كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء)) (¬1) (¬2). فظهر مما تقدم أهمية مشروعية اشتمال الخطبة على ما يأتي: حمد الله تعالى والثناء عليه بما هو أهله. الشهادة لله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة. الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وخاصة مع الدعاء. قراءة بعض الآيات من كتاب الله تعالى. الوصية بتقوى الله - عز وجل -. وسنن خطبة الجمعة كثيرة، منها ما يأتي: 1 - يسلم على المأمومين. والسلام هنا نوعان: النوع الأول: يسلم سلاماً خاصاً إذا دخل المسجد على من يلاقيه وهذا من السنة بناءً على النصوص العامة التي يؤمر فيها بالسلام على من يقابل من المسلمين؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في حقوق المسلم على المسلم: ((وإذا لقيته فسلم عليه)) (¬3)، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أفشوا السلام بينكم)) (¬4). النوع الثاني: يسلم تسليماً عاماً إذا صعد المنبر، قبل أن يجلس؛ لأن ذلك روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬5)، وثبت من فعل أبي بكر، وعمر (¬6)، ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الأدب، باب في الخطبة، برقم 4841،والترمذي، في كتاب النكاح، باب ما جاء في خطبة النكاح، برقم 1106، وقال: حديث حسن صحيح غريب، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 3/ 189، وصحيح سنن الترمذي، 1/ 562، وهو في مسند أحمد، 2/ 302 - 343. (¬2) زاد المعاد، فصل في هديه - صلى الله عليه وسلم - في خطبته، 1/ 188 - 189. (¬3) متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب الجنائز، باب الأمر باتباع الجنائز، برقم 1240، ومسلم، كتاب السلام، باب من حق المسلم على المسلم رد السلام، برقم 2162. (¬4) مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، برقم 54. (¬5) روي ذلك عن جابر يرفعه: ((كان إذا صعد المنبر سلم)) ابن ماجه، برقم 1109، وفيه ابن لهيعة. (¬6) عن عطاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صعد المنبر، أقبل بوجهه على الناس، فقال: السلام عليكم. مصنف عبد الرزاق، 3/ 192 مرسلاً، برقم 5281. وعن الشعبي قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صعد المنبر [يوم الجمعة] أقبل على الناس بوجهه وقال: ((السلام عليكم))، فكان أبو بكر وعمر يفعلان ذلك بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -. مصنف عبد الرزاق، 3/ 193، برقم 5282، وابن أبي شيبة، 2/ 114، واللفظ له، وصحح مرسل عطاء الأرناؤوط في تحقيق زاد المعاد، 1/ 187، وقال الألباني في الأحاديث الصحيحة تحت الحديث رقم 2076 عن مرسل الشعبي: ((هو مرسل لا بأس به في الشواهد))، وقال عن مرسل عطاء: ((ورجاله ثقات رجال الشيخين)). وقال الألباني أيضاً في تمام المنة، ص333: ((هذان المرسلان ... يقويان حديث جابر ولا سيما وقد جرى عمل الخلفاء عليه كما حققته في الصحيحة (2076) بما لا تراه في مكان آخر إن شاء الله تعالى)).

2 - يخطب على منبر أو موضع عال مرتفع

وعثمان (¬1)، وعمر بن عبد العزيز (¬2) - رضي الله عنهم -. قال العلامة الألباني رحمه الله تعالى: ((ومما يشهد للحديث ويقويه جريان عمل الخلفاء عليه)) (¬3)،وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: (( ... وإن كان الحديث المرفوع فيه ضعيفاً لكن الأمة عملت به، واشتهر بينها أن الخطيب إذا جاء وصعد المنبر فإنه يسلم على الناس، وهذا التسليم العام. أما الخاص فإنه إذا دخل المسجد سلم على من يلاقيه أولاً، وهذا من السنة بناء على النصوص العامة: أن الإنسان إذا أتى قوماً فإنه يسلم عليهم)) (¬4)، والله الموفق (¬5). 2 - يخطب على منبر أو موضع عالٍ مرتفع، والأفضل أن يكون ثلاث درجات، وأن يكون عن يمين القبلة؛ لأن منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ¬

(¬1) عن أبي نضرة قال: كان عثمان قد كبر فإذا صعد المنبر سلم فأطال قدر ما يقرأ إنسان أم الكتاب)) ابن أبي شيبة، 2/ 114، وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 5/ 107، تحت الحديث رقم 2076: ((وإسناده صحيح)). (¬2) عن عمر بن هاجر أن عمر بن عبد العزيز كان إذا استوى على المنبر سلم على الناس وردوا عليه. ابن أبي شيبة، 2/ 114، وقال الألباني في الصحيحة، 5/ 107، برقم 2076: ((وسنده صحيح)). وروى البيهقي عن ابن عمر قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دنا من منبره يوم الجمعة سلم على من عنده من الجلوس، فإذا صعد المنبر استقبل الناس بوجهه ثم سلم)). البيهقي في الكبرى،3/ 205، وقال: ((وروي في ذلك عن ابن عباس، وابن الزبير، ثم عن عمر بن عبد العزيز، 3/ 205. وقد أشار العلامة الألباني إلى هذا الشاهد لما سبق بقوله: ((وللحديث شاهد آخر من حديث ابن عمر مرفوعاً به وفيه زيادة أوردته من أجلها في الضعيفة (4194) من رواية البيهقي وابن عساكر)) الأحاديث الصحيحة، 5/ 107. (¬3) الأحاديث الصحيحة، 5/ 107. (¬4) الشرح الممتع، 5/ 80. (¬5) انظر: الشرح الكبير، لابن قدامة، 5/ 236، وزاد المعاد لابن القيم،1/ 186.

كذلك (¬1)،قال العلامة ابن القاسم: ((وأجمع المسلمون على ذلك في كل عصر ومصر)) (¬2). والمنبر: مرقاة الخطيب سمي منبراً؛ لارتفاعه وعلوه (¬3)، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ منبراً في مسجده، فعن أبي حازم قال: سألوا سهل بن سعد - رضي الله عنه - من أي شيء المنبر؟ فقال: ((ما بقي بالناس أعلم مني: هو من أثل الغابة عمله فلان مولى فلانة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -)). وفي لفظ: ((بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى امرأة أن مُري غلامك النجار يعمل لي أعواداً أجلس عليهن)). وفي لفظ: ((والله إني لأعرف مما هو، ولقد رأيته أول يوم وضع، وأول يوم جلس عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى فلانة امرأة من الأنصار: ((مُري غلامك النجار أن يعمل لي أعواداً أجلس عليهن إذا كلمت الناس)) فأمرته فعملها من طرفاءِ الغابة، ثم جاء بها فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمر بها فوضعت هاهنا ... )) (¬4). وعن جابر - رضي الله عنه - أن امرأة قالت: يا رسول الله، ألا أجعل لك شيئاً تقعد عليه؟ فإن لي غلاماً نجاراً، قال: ((إن شئت)). وفي لفظ: ((كان جذع يقوم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما وُضِعَ له المنبر سمعنا للجذع مثل أصوات العشارحتى نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده عليه))، وفي لفظ: ((فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت أن تنشق، فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أخذها فضمها إليه، فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكَّت حتى استقرت، قال: ¬

(¬1) قال ابن قدامة في الشرح الكبير، 5/ 235: ((ويستحب أن يكون المنبر عن يمين القبلة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هكذا صنع)) وقال المرداوي في الإنصاف: ((لكن يكون المنبر عن يمين مستقبلي القبلة)) وعبر عنه: ((عن يمين مستقبل القبلة بالمحراب يلي جنبه من جهة يمين المصلي في المحراب)) حاشية ابن قاسم على الروض المربع،20/ 452. (¬2) حاشية ابن قاسم على الروض المربع، 2/ 452. (¬3) لسان العرب، لابن منظور، باب الراء، فصل الميم، 5/ 189. (¬4) البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة في السطوح والمنبر والخشب، برقم 377،وباب الاستعانة بالنجار والصناع في أعواد المنبر والمسجد، برقم 448،وكتاب الجمعة، باب الخطبة على المنبر، برقم 917.

3 - يجلس إذا سلم على المأمومين حتى يفرغ المؤذن

بكت على ما كانت تسمع من الذكر)) (¬1)، وفي لفظ: ((كان المسجد مسقوفاً على جذوع من النخل، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوم إلى جذع منها، فلما صُنِعَ له المنبر فكان عليه ... )) الحديث. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بدَّن (¬2) قال له تميم الداري: ألا أتخذ لك منبراً يجمع أو يحمل عظامك؟ قال: ((بلى)) فاتخذ له منبراً مرقاتين)) (¬3).وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى امرأة: ((انظري غلامك النجار يعمل لي أعواداً أكلم الناس عليها)) فعمل هذه الثلاث درجات، ثم أمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَوُضِعَتْ هذا الموضع (¬4). وعن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال: ((وكان بين المنبر والقبلة قدر ممر الشاة)) (¬5). وعن سهل - رضي الله عنه -: ((أنه كان بين جدار المسجد مما يلي القبلة وبين المنبر ممر الشاة)) (¬6). 3 - يجلس إذا سلم على المأمومين حتى يفرغ المؤذن؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب خطبتين: كان يجلس إذا صعد المنبر، حتى يفرغ - أراه قال - المؤذن، ثم يقوم فيخطب، ثم يجلس فلا يتكلم، ثم يقوم فيخطب)) (¬7). ¬

(¬1) البخاري، كتاب الصلاة، باب الاستعانة بالنجار والصناع في أعواد المنبر والمسجد، برقم 449، وكتاب الجمعة، باب الخطبة على المنبر، برقم 918،وكتاب البيوع، باب النجار، برقم 2095، وكتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، برقم 3585. (¬2) بدَّن: بدَّن الرجل بالتشديد: إذا كبر، وبالتخفيف: ((بَدَنَ)) إذا سمن. جامع الأصول لابن الأثير، 11/ 188. (¬3) أبو داود، كتاب الصلاة، باب اتخاذ المنبر، برقم 1081، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 202. (¬4) مسلم، كتاب المساجد، باب جواز الخطوة والخطوتين في الصلاة، برقم 544. (¬5) مسلم، كتاب الصلاة، باب دنوّ المصلي من السترة، برقم 509. (¬6) البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما ذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وحض على اتفاق أهل العلم وما يجتمع عليه الحرمان: مكة والمدينة، وما كان بهما من مشاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين والأنصار، ومصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والمنبر، برقم 7334. (¬7) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الجلوس إذا صعد المنبر، برقم 1092،وصححه الألباني في صحيح أبي داود،1/ 301،وأصل الحديث متفق عليه: البخاري، برقم 920، ومسلم، برقم 862،وتقدم تخريجه في الشرط الرابع من شروط صحة صلاة الجمعة.

4 - يخطب قائما

4 - يخطب قائماً؛ لحديث جابر بن سمرة، قال: ((كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - خطبتان يجلس بينهما، يقرأ القرآن ويذكّر الناس)). وفي لفظ: ((كان يخطب قائماً ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائماً، فمن نبأك أنه كان يخطب جالساً فقد كذب، فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة)) (¬1)، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب قائماً يوم الجمعة فجاء عير (¬2) من الشام فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً، فأنزلت هذه الآية التي في الجمعة: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ الله خَيْرٌ مّنَ اللهوِ وَمِنَ التّجَارَةِ وَالله خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (¬3)، وفي لفظ لمسلم: ((فابتدرها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى لم يبق معه إلا اثنا عشر رجلاً فيهم أبو بكر وعمر ... )) (¬4). وعن أبي عبيدة عن كعب بن عجرة قال: دخل المسجد وعبد الرحمن بن أم الحكم يخطب قاعداً، فقال: ((انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعداً وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ الله خَيْرٌ مّنَ اللهوِ وَمِنَ التّجَارَةِ وَالله خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (¬5). 5 - يجلس بين الخطبتين جلسة خفيفة؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما ¬

(¬1) مسلم، برقم 862، وتقدم تخريجه في الشرط الرابع من شروط صحة الجمعة، وقوله: ((ألفي صلاة: المراد الصلوات الخمس لا الجمعة؛ فإنها أقل من ذلك. انظر: شرح النووي، 6/ 400. (¬2) العير: الإبل التي تحمل الطعام. شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 400. (¬3) سورة الجمعة، الآية: 11. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الجمعة، باب إذا نفر الناس عن الإمام في صلاة الجمعة فصلاة الإمام ومن بقي جائزة، برقم 936، ومسلم، كتاب الجمعة، باب قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ الله خَيْرٌ مّنَ اللهوِ وَمِنَ التّجَارَةِ وَالله خَيْرُ الرَّازِقِينَ}، برقم 863. (¬5) مسلم، كتاب الجمعة، باب قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ الله خَيْرٌ مّنَ اللهوِ وَمِنَ التّجَارَةِ وَالله خَيْرُ الرَّازِقِينَ}،برقم 864.

6 - يعتمد على عصا أو قوس

قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب قائماً ثم يقعد، ثم يقوم)) (¬1)، وهذه الجلسة سنة عند جمهور أهل العلم (¬2). 6 - يعتمد على عصا أو قوس؛ لحديث الحكم بن حَزْن الكلفي، قال: وفدت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سابع سبعة أو تاسع تسعة، فدخلنا عليه، فقلنا: يا رسول الله! زرناك فادع الله لنا بخير، فأمر بنا أو أمر لنا بشيء من التمر والشأن إذ ذاك دونٌ، فأقمنا بها أياماً شهدنا فيها الجمعة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقام متوكئاً على عصاً أو قوس، فحمد الله وأثنى عليه: كلمات، خفيات، طيبات، مباركات، ثم قال: ((أيها الناس إنكم لن تطيقوا - أو لن تفعلوا - كلما أمرتم به، ولكن سدّدوا، وأبشروا)) (¬3). وعن البراء - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نُووِلَ يوم العيد قوساً فخطب عليه (¬4). والحديث فيه مشروعية الاعتماد على عصا أو قوس، قيل: والحكمة في ذلك: الاشتغال عن العبث، وقيل: إنه أربط للجأش (¬5)، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((ولم يكن يأخذ بيده سيفاً ولا غيره، وإنما كان يعتمد على قوس أو عصا قبل أن يتخذ المنبر، وكان في الحرب يعتمد ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 920، ومسلم، برقم 861، وتقدم تخريجه في الشرط الرابع من شروط صحة الجمعة. (¬2) ذهب الإمام الشافعي إلى أن خطبة الجمعة لا تصح من القادر على القيام إلا قائماً في الخطبتين، ولا يصح حتى يجلس بينهما، وأن الجمعة لا تصح إلا بخطبتين ... وقال أبو حنيفة ومالك والجمهور: الجلوس بين الخطبتين سنة ليس بواجب ولا شرط. شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 398 - 399، وذكر ابن قدامة أن الجلسة بين الخطبتين ليست بواجبة في قول أكثر أهل العلم، وذكر قول الشافعي بالوجوب. ثم رجح أنها مستحبة؛ لأنه قد سرد الخطبة جماعة منهم: المغيرة بن شعبة، وأبي بن كعب، وعلي؛ ولأن جلوس النبي - صلى الله عليه وسلم - كان للاستراحة فلم تكن واجبة. المغني لابن قدامة، 3/ 176 - 177. (¬3) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الرجل يخطب على قوس، برقم 1096، وحسن إسناده في التلخيص، 2/ 65، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 302. (¬4) أبو داود، كتاب الصلاة، باب يخطب على قوس، برقم 1145، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 314. (¬5) انظر: نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 551.

7 - يقصر الخطبة ويطيل الصلاة

على قوس، وفي الجمعة يعتمد على عصا)) (¬1). وسمعت شيخنا عبد العزيز ابن باز رحمه الله يقول: ((إن اعتمد على عصاً فلا بأس، وإن لم يعتمد على شيء فلا بأس)) (¬2). 7 - يقصر الخطبة ويطيل الصلاة؛ لحديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يطيل الموعظة يوم الجمعة؛ إنما هي كلمات يسيرات)) (¬3). وعن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - قال: ((أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإقصار الخطب)) (¬4)؛ لحديث عمار - رضي الله عنه - قال أبو وائل: ((خطبنا عمار بن ياسر فأوجز وأبلغ، فلما نزل قلنا: يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت، فلو كنت تنفست، فقال لي: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنَّ طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنةٌ من فقهه، فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة، وإن من البيان سحرا)) (¬5). وعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: ((كنت أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكانت صلاته قصداً وخطبته قصداً)) (¬6). وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر الذكر، ويقل اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصر الخطبة، ولا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي له الحاجة)) (¬7). وهذه الأحاديث تدل على مشروعية إقصار الخطبة وإكمال الصلاة، وقوله: ((فكانت صلاته قصداً وخطبته قصداً)) أي بين الطول الظاهر ¬

(¬1) زاد المعاد، 1/ 429. (¬2) أشكلت علي هذه المسألة في زاد المعاد، 1/ 429، فسألته فأجاب رحمه الله. (¬3) أبو داود، كتاب الصلاة، باب إقصار الخطب، برقم 1107،وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 303. (¬4) أبو داود، كتاب الصلاة، باب إقصار الخطب، برقم 1106،وصححه الألباني في صحيح أبي داود،1/ 303. (¬5) مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، برقم 869. (¬6) مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، برقم 866. (¬7) النسائي، كتاب الجمعة، باب ما يستحب من تقصير الخطبة، برقم 1414، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 456.

8 - يرفع صوته حسب طاقته ويفخم أمر الخطبة

والتخفيف الماحق (¬1). وطول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه: أي علامة ظاهرة على فقهه، قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة)) قال الإمام النووي رحمه الله: ((س5 في واقصروا همزة وصل، وليس هذا الحديث مخالفاًَ للأحاديث المشهورة في الأمر بتخفيف الصلاة؛ لقوله في الرواية الأخرى: وكانت صلاته قصداً وخطبته قصداً؛ لأن المراد بالحديث الذي نحن فيه أن الصلاة تكون طويلة بالنسبة إلى الخطبة لا تطويلاً يشق على المأمومين، وهي حينئذ قصد: أي معتدلة، والخطبة قصد بالنسبة إلى وضعها، وقوله: ((وإن من البيان لسحراً)) قيل: من الفهم وذكاء القلب. وقيل فيه تأويلان: الأول: أنه ذم؛ لأنه إمالة القلوب وصرفها بمقاطع الكلام إليه حتى يكسب من الإثم به كما يكسب بالسحر. والثاني: أنه مدح؛ لأن الله تعالى امتن على عباده بتعليمهم البيان، وشبهه بالسحر، لميل القلوب إليه وأصل السحر: الصرف: فالبيان يصرف القلوب ويميلها إلى ما تدعو إليه، واختار الإمام النووي رحمه الله أن هذا هو الصحيح (¬2). وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يذكر أن قوله: ((إن من البيان لسحراً)) على معنيين: إن استخدم في الحق وبيانه وإيضاحه فهو محمود وحلال، وإن استخدم في رد الحق وتزيين الباطل فهو مذموم لا يجوز. وفي تقصير الخطبة ثلاث فوائد: لا يحصل الملل للسامعين، وأوعى للسامع فيحفظ ما سمع، وفي ذلك اتباع السنة (¬3). 8 - يرفع صوته حسب طاقته ويفخم أمر الخطبة ويظهر غاية غضبه ¬

(¬1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 402. (¬2) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 402 - 408. (¬3) انظر: الشرح الممتع لابن عثيمين، 5/ 86.

9 - يستحب أن يؤذن المؤذن إذا جلس الإمام على المنبر

على حسب نوع الخطبة، ويجزل كلامه؛ لحديث جابر - رضي الله عنه - قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمرَّت عيناه، وعلا صوتُه، واشتدّ غضبُه حتى كأنه منذر جيش ... )) (¬1).قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: ((يستدل بهذا على أنه يستحب للخطيب أن يفخّم أمر الخطب، ويرفع صوته، ويجزل كلامه، ويكون مطابقاً للفصل الذي يتكلم فيه: من ترغيب أو ترهيب)) (¬2). 9 - يستحب أن يؤذن المؤذن إذا جلس الإمام على المنبر، لحديث السائب بن يزيد - رضي الله عنه - قال: كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، فلما كان عثمان - رضي الله عنه - وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء)) (¬3). 10 - لا يرفع يديه على المنبر في الدعاء بل يشير بإصبعه ولا يحرك يديه عند الانفعال؛ لحديث حصين عن عمارة بن رؤيبة قال: ((رأى بشر بن مروان على المنبر رافعاً يديه، فقال: قبح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بإصبعه المسبحة)) (¬4). ولفظ الترمذي: ((عن حصين قال: سمعت عمارة بن رؤيبة الثقفي وبشر بن مروان يخطب فرفع يديه في الدعاء، فقال عمارة: قبح الله هاتين اليدين القصيرتين، لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما يزيد على أن يقول: هكذا - وأشار هشيم بالسبابة)) (¬5). وفي لفظ أبي داود: ((رأى عمارةُ بنُ رؤيبة بشَر بنَ مروان وهو يدعو ¬

(¬1) مسلم، برقم 867، وتقدم تخريجه في الشرط الرابع من شروط صحة الخطبة. (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 405 - 406. (¬3) البخاري، برقم 912، 913، 915، 916،وتقدم تخريجه في آداب الجمعة، رقم 23. (¬4) مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، برقم 874. (¬5) الترمذي، كتاب الجمعة، باب كراهية رفع الأيدي على المنبر، برقم 515.

في يوم الجمعة ... )) (¬1). قال الإمام النووي رحمه الله: ((هذا فيه أن السنة أن لا يرفع اليد في الخطبة وهو قول مالك وأصحابنا وغيرهم، وحكى القاضي عن بعض السلف وبعض المالكية إباحته؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه في خطبة الجمعة حين استسقى (¬2).وأجاب الأولون بأن هذا الرفع كان لعارض)) (¬3). قلت: وهو أنه دعا للاستسقاء، فعن أنس - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء، فإنه كان يرفع يديه حتى يُرى بياض إبطيه)) (¬4)، فلا يرفع الإمام ولا المأموم اليدين في الدعاء أثناء الخطبة إلا إذا كان الدعاء في الخطبة للاستسقاء، وكذلك في جميع المواضع التي يخطب ويوعظ فيها. أما غير ذلك فإن رفع اليدين حال الدعاء سنة، ومن أسباب قبول الدعاء واستجابته؛ ولهذا قال الإمام النووي رحمه الله على قوله: ((كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء)): ((هذا الحديث يوهم ظاهره أنه لم يرفع - صلى الله عليه وسلم - إلا في الاستسقاء، وليس الأمر كذلك، بل قد ثبت رفع يديه في الدعاء في مواطن غير الاستسقاء، وهي أكثر من أن تحصر، وقد جمعت منها نحواً من ثلاثين حديثاً، من الصحيحين أو أحدهما، وذكرتها في أواخر باب صفة الصلاة من شرح المهذب، ويتأول هذا الحديث على أنه لم يرفع الرفع البليغ، بحيث يرى بياض إبطيه إلا في الاستسقاء، أو أن المراد: لم أره رفع وقد رآه غيره رفع فيقدم المثبتون في مواضع كثيرة - وهم جماعات - على ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب رفع اليدين على المنبر، برقم 1104،وأحمد،4/ 136. (¬2) البخاري، برقم 1029، ومسلم، برقم 897، وتقدم تخريجه. (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 411. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الاستسقاء، باب رفع الإمام يده في الاستسقاء، برقم 1031، وكتاب المناقب، باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 3565، ومسلم، كتاب الاستسقاء، باب رفع اليدين بالدعاء في الاستسقاء، برقم 895.

أ - مواضع وأحوال رفع فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -

واحد لم يحضر ذلك، ولابد من تأويله لما ذكرناه، والله أعلم)) (¬1). وعلى كل حال: فلا يرفع يديه الإمام والمأموم أثناء الدعاء في جميع الخطب والمواعظ إلا في خطبة الاستسقاء، أو إذا استسقى الإمام في خطبة الجمعة أما غير ذلك فيكون رفع الأيدي وعدمه في مواضع: أ - مواضع وأحوال رفع فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنحن نرفع فيها، والأصل في الدعاء رفع اليدين. ب - مواضع أو أحوال لم يرفع فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد وجد سبب الرفع فنحن لا نرفع فيها، مثل الدعاء في الخطبة، والذكر أدبار الصلوات المفروضة: قبل السلام، وبعد السلام، أما رفع الأيدي بعد السلام من النوافل فلا حرج كالدعاء بعد صلاة الاستخارة وغيرها (¬2). 11 - يخطب مترسلاً معرباً من غير عجلة ولا تمطيط؛ لأنه أبلغ وأحسن؛ حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((كان يحدّث حديثاً لو عدّه العادُّ لأحصاه)).وفي لفظ للبخاري: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يسرد الحديث كسردكم)) (¬3).والمعنى: لو عد العادّ كلماته، أو مفرداته، أو حروفه لأطاق ذلك وبلغ آخرها، والمراد بذلك المبالغة في الترتيل، والتفهيم (¬4)، وقوله: ((لم يكن يسرد الحديث كسردكم)) أي لم يكن يتابع الحديث استعجالاً بعضه إثر بعض؛ لئلا يلتبس على المستمع، إنما كان حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:فصلاً، ¬

(¬1) شرح النووي على صحيح مسلم،6/ 442،وانظر: فتح الباري لابن حجر،2/ 517. (¬2) سمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يذكر أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 6341 أن الأصل في الدعاء رفع اليدين إلا المواطن التي لم يرفع فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد وجدت أسباب الرفع فلم يرفع فنحن لا نرفع. وذكر العلامة ابن عثيمين أنه لا يحرك الخطيب يديه عند الانفعال. الشرح الممتع،5/ 85. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 3567، 3568، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي هريرة الدوسي - رضي الله عنه -، برقم 160 - (2493) وكتاب الزهد، باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم، برقم 71 - (2493). (¬4) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 6/ 578 - 579.

12 - يقصد تلقاء وجهه

فهماً، تفهمه القلوب، واعتذر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - بأنه كان واسع الرواية، كثير المحفوظ، فكان لا يتمكن من المهل عند إرادة التحديث، كما قال بعض البلغاء: أريد أن أقتصر فتتزاحم القوافي على فِيَّ (¬1). فالسنة للخطيب أن لا يُكثر الحديث؛ لئلا يمل الناس، ولا يستعجل في المتابعة بل يتثبت ويتأنّى (¬2). 12 - يقصد تلقاء وجهه؛ لأن في التفاته إلى أحد جانبيه إعراضاً عن الجانب الآخر، ويذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك يخطب مستقبل المأمومين، ونقل عن ابن المنذر أنه قال: هذا كالإجماع، وقال النووي: لا يلتفت يميناً ولا شمالاً، قال ابن حجر: لأن ذلك بدعة (¬3)، وأما المأمومون فإنهم ينحرفون إلى الإمام ويستقبلونه بوجوههم؛ لحديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا)) (¬4)؛ ولحديث ثابت - رضي الله عنه -: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام على المنبر استقبله أصحابه بوجوههم)) (¬5). 13 - يدعو للمسلمين؛ لأن الدعاء لهم مسنون في غير الخطبة، ففيها أولى، وإن دعا للسلطان فحسن؛ لأن صلاحه نفع للمسلمين، فالدعاء له دعاء لهم (¬6). الثاني عشر: صفة صلاة الجمعة: صلاة الجمعة ركعتان بالنص وبإجماع المسلمين، فعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: ((صلاة الجمعة ركعتان، ¬

(¬1) فتح الباري، لابن حجر، 6/ 578 - 579. (¬2) انظر: شرح النووي، 16/ 287، و18/ 339، والكافي لابن قدامة، 1/ 493. (¬3) نقلاً عن حاشية ابن قاسم على الروض المربع، 2/ 456، وانظر: الشرح الكبير، 5/ 240، والمغني لابن قدامة، 3/ 179، والكافي، 1/ 492. (¬4) الترمذي، برقم 509، وتقدم تخريجه في آداب الجمعة برقم 6. (¬5) ابن ماجه، برقم 1136، وتقدم تخريجه في آداب الجمعة برقم 6. (¬6) الكافي لابن قدامة، 1/ 494، والشرح الكبير، 5/ 243، وحاشية ابن قاسم على الروض المربع، والشرح الممتع، وكأنه توقف عن السنية حتى يأتي الدليل، وبين بأنه إذا لم يكن دليل فهو جائز. الشرح الممتع، 5/ 87.

وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة السفر ركعتان، تمام غير قصر على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -)) (¬1).وقال الإمام ابن المنذر: ((وأجمعوا على أن صلاة الجمعة ركعتان، وأجمعوا على أن من فاتته الجمعة من المقيمين أن يصلوا أربعاً)) (¬2)،إذا فرغ الإمام من خطبة الجمعة نزل وأخذ المؤذن في الإقامة، ثم أمر الإمام بتسوية الصفوف، ثم صلى ركعتين يجهر فيهما بالقراءة، ويستحب أن يقرأ في الركعة الأولى بسورة ((الجمعة)) وفي الركعة الثانية بسورة ((المنافقون)) (¬3)، أو ((بسبح والغاشية)) (¬4) أو ((بالجمعة والغاشية)) (¬5) كل ذلك ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬6). ومن أدرك مع الإمام منها ركعة بركوعها وسجدتيها أضاف إليها ركعة أخرى، وكانت له جمعة، ومن أدرك مع الإمام أقل من ركعة دخل معه بنية الظهر وأتمها ظهراً إذا كان قد دخل وقت الظهر؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة)) (¬7)؛ولحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أدرك ركعة من صلاة الجمعة أو غيرها فقد أدرك الصلاة)).ولفظ النسائي: ((من أدرك ركعة من الجمعة أو غيرها فلقد تمت صلاته)).وفي لفظ للنسائي أيضاً: ((من أدرك ركعة من صلاة من الصلوات فقد أدركها، ¬

(¬1) النسائي، كتاب الجمعة، باب عدد صلاة الجمعة، برقم 1419، وكتاب تقصير الصلاة في السفر، برقم 1239، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلوات، باب تقصير الصلاة، برقم 1063، 1064، وأحمد، 1/ 37، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 457، 464، وفي صحيح ابن ماجه، 1/ 315، وفي إرواء الغليل، 3/ 105، برقم 638. (¬2) الإجماع لابن المنذر، ص45، برقم 73، وانظر: الشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، 5/ 248، وحاشية ابن قاسم على الروض المربع، 2/ 460، والشرح الممتع لابن عثيمين، 5/ 88. (¬3) مسلم، برقم 877، وتقدم تخريجه في آداب الجمعة برقم 11. (¬4) مسلم، برقم 877، وتقدم تخريجه في آداب الجمعة برقم 11. (¬5) رواية لمسلم، برقم 63 (878). (¬6) انظر: الشرح الكبير، لابن قدامة،5/ 249،وحاشية ابن قاسم على الروض،2/ 460. (¬7) متفق عليه: البخاري، برقم 580،ومسلم، برقم 607،وتقدم تخريجه في صلاة الجماعة.

يقضي ما فاته)).ولفظ الدارقطني: ((من أدرك ركعة من صلاة الجمعة وغيرها فليضف إليها أخرى وقد تمت صلاته)) (¬1). وتدرك الركعة بإدراك ركوعها مع الإمام قبل أن يرفع، وهذا هو الصواب وبالله التوفيق (¬2). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: ((أما من أدرك أقل من ركعة، فإنه لا يكون مدركاً للجمعة ويصلي ظهراً أربعاً)) (¬3). والسنة أن يصلي بعد الجمعة أربع ركعات في بيته، وإن صلاها في المسجد فلا بأس، وإن صلى ركعتين فلا بأس؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما (¬4)، ولكن الأفضل أن يصلي أربعاً؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬5) والله الموفق (¬6). وصلى الله وسلم، وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. ¬

(¬1) ابن ماجه، كتاب إقامة الصلوات، باب ما جاء فيمن أدرك من الجمعة ركعة، برقم 1123، والنسائي، كتاب المواقيت، باب من أدركه من الصلاة، برقم 556، 557، والدارقطني،2/ 12،برقم 12،وصححه الألباني في إرواء الغليل،3/ 84،برقم 622. (¬2) قال الإمام ابن قدامة: ((أكثر أهل العلم يرون أن من أدرك ركعة من الجمعة مع الإمام فهو مدرك لها ويضيف إليها أخرى، ويجزئه، وهذا قول ابن مسعود، وابن عمر، وأنس، وسعيد بن المسيب، والحسن، وعلقمة، والأسود، وعروة، والزهري، والنخعي، ومالك، والشافعي، والثوري، وإسحاق، وأبي ثور، وأصحاب الرأي، وقال: عطاء، وطاوس، ومجاهد، ومكحول: من لم يدرك الخطبة صلى أربعاً؛ لأن الخطبة شرط للجمعة فلا تكون جمعة في حق من لم يوجد في حقه شرطها)) ثم رجح ابن قدامة رحمه الله: أن من أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة، ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولا مخالف لهم في عصرهم [المغني لابن قدامة، 3/ 183 - 184] وانظر: الشرح الكبير لابن قدامة، 5/ 204 - 206، والشرح الممتع، 5/ 61 - 62. (¬3) المغني لابن قدامة، 3/ 184. (¬4) البخاري، برقم 182، وتقدم تخريجه في صلاة التطوع. (¬5) مسلم، برقم 881، وتقدم تخريجه في صلاة التطوع. (¬6) تقدم الكلام عن سنة الجمعة بعدها في آداب الجمعة، برقم 26.

المبحث الحادي والثلاثون: صلاة العيدين

المبحث الحادي والثلاثون: صلاة العيدين أولاً: مفهوم العيدين: العيدُ: كل يوم فيه جمع، والعيد: ما عاد عليك، ويقال: عيَّدوا: شهدوا العيد. واشتقاقه من عاد يعود، كأنهم عادوا إليه، وقيل اشتقاقه من العادة؛ لأنهم اعتادوه، والجمع: أعياد، ويقال: عيَّد المسلمون: شهدوا عيدهم، قال الأزهري: ((العيد عند العرب: الوقت الذي يعود فيه الفرح والحزن)).وقال ابن الأعرابي: ((سمي العيد عيداً؛ لأنه يعود كل سنة بفرح مجدَّد)) (¬1).قال الإمام النووي رحمه الله: ((قالوا: وسمي عيداً، لعوده، وتكرره، وقيل: لعود السرور فيه، وقيل: تفاؤلاً بعوده على من أدركه، كما سميت القافلة حين خروجها تفاؤلاً لقفولها سالمة، وهو رجوعها وحقيقتها الراجعة)) (¬2).وقيل: سمي عيداً؛ لكثرة عوائد الله تعالى على عباده في ذلك اليوم؛ لأن له عوائد الإحسان على عباده في ذلك اليوم كل عام (¬3). واصطلاحاً: العيد: جمع أعياد: يوم الاحتفال بذكرى سارَّة، أو إعادة الاحتفال بذكرى سارة وأحد العيدين: يوم الفطر، والآخر يوم الأضحى (¬4)، والمسلمون لهم ثلاثة أعياد لا رابع لها: عيد الفطر، وعيد الأضحى، ويوم الجمعة (¬5). ثانياً: الأصل في صلاة العيدين: الكتاب، والسنة، والإجماع: 1 - أما الكتاب فقول الله تعالى: {فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ} (¬6). والمشهور في ¬

(¬1) لسان العرب لابن منظور، باب الدال، فصل العين، 13/ 317 - 319، وانظر: القاموس المحيط للفيروزآبادي، ص386. (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 421. (¬3) انظر: الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، لابن الملقن،، 4/ 192، وحاشية الروض المربع، لابن قاسم، 2/ 492. (¬4) معجم لغة الفقهاء، للدكتور محمد روَّاس، ص294. (¬5) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، 8/ 317. (¬6) سورة الكوثر، الآية: 2.

2 - وأما السنة

التفسير أن المراد بذلك صلاة العيد (¬1). 2 - وأما السنة، فثبت بالتواتر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُصلّي صلاة العيدين (¬2)، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((شهدت العيد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، وعمر، وعثمان - رضي الله عنهم -، فكلهم كانوا يصلون قبل الخطبة)) (¬3). وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكر، وعمر رضي الله عنهما يصلون العيدين قبل الخطبة)) (¬4). 3 - وأما الإجماع، فأجمع المسلمون على صلاة العيدين (¬5). ثالثاً: حكم صلاة العيدين: قيل: صلاة العيد فرض كفاية، والصواب أن صلاة العيد فرض عين (¬6)؛ لقول الله تعالى: {فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَر} (¬7)؛ ولحديث أم عطية قالت: أمرنا - تعني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نُخرج في العيدين: العواتق (¬8)، وذوات ¬

(¬1) المغني لابن قدامة، 3/ 253. (¬2) المرجع السابق، 3/ 253. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب العيدين، باب الخطبة بعد العيد، برقم 962. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب العيدين، باب الخطبة بعد العيد، برقم963. (¬5) المغني لابن قدامة، 2/ 253. (¬6) اختلف العلماء رحمهم الله في حكم صلاة العيد على ثلاثة أقوال: أ - ظاهر مذهب الإمام أحمد أن صلاة العيد فرض كفاية إذا قام بها من يكفي سقطت عن الباقين. ب- مذهب الإمام أبي حنيفة ورواية عن الإمام أحمد أن صلاة العيد فرض عين. ج- وقال ابن أبي موسى: قيل: إنها سنة مؤكدة غير واجبة، وبه قال الإمام مالك، وأكثر أصحاب الإمام الشافعي؛ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي حين ذكر خمس صلوات، قال: هل عليّ غيرهن؟ قال: (لا، إلا أن تطوع) [البخاري، برقم 2678، ومسلم، برقم 11]. انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 253 - 254، والشرح الكبير، 5/ 316، وحاشية ابن قاسم على الروض المربع، 2/ 493، والإعلام بفوائد عمدة الأحكام، لابن الملقن، 4/ 194، وشرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 428. (¬7) سورة الكوثر، الآية: 2. (¬8) العواتق: جمع عاتق، وهي الجارية البالغة، وقيل: التي قاربت البلوغ، وقيل: هي ما بين أن تبلغ إلى أن تعنس ما لم تتزوج، والتعنيس طول المقام في بيت أبيها بلا زوج حتى تطعن في السن، وقالوا: سميت عاتقاً؛ لأنها عتقت من امتهانها في الخدمة والخروج في الحوائج. شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 428.

الخدور (¬1)، وأمر الحيَّض أن يعتزلن مصلى المسلمين (¬2)، ومما يؤكد فرضيتها، وأنها واجبة على الأعيان: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - واظب عليها، وقد اشتهر في السّير أن أول صلاة صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عيد الفطر في السنة الثانية للهجرة، ولم يزل يواظب عليها حتى فارق الدنيا، صلوات الله وسلامه عليه، وواظب عليها الخلفاء بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي من أعلام الدين وشعائره الظاهرة، وهذا كله يؤيد الوجوب (¬3). قال العلامة السعدي رحمه الله: ((والصحيح أن صلاة العيد فرض عين، والدليل الذي استدلوا به على فرض الكفاية هو دليل على أنها فرض عين؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُحرّض عليها حتى يأمر بإخراج العواتق وذوات الخدور، وأمر الحيَّض أن يعتزلن المصلى، ولولا رجحان مصلحتها على كثير من الواجبات لم يحضَّ أمته هذا الحضّ عليها، فدل على أنها من آكد فروض الأعيان)) (¬4). وقال شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله: ((صلاة العيد فرض كفاية عند كثير من أهل العلم ويجوز التخلف من بعض الأفراد عنها، لكن حضوره لها ومشاركته لإخوانه المسلمين سنة مؤكدة لا ينبغي تركها إلا لعذر شرعي. وذهب بعض أهل العلم إلى أن صلاة العيد فرض عين: كصلاة الجمعة، فلا يجوز لأي مكلف من الرجال الأحرار المستوطنين أن يتخلف عنها، وهذا القول أظهر في الأدلة وأقرب إلى ¬

(¬1) ذوات الخدور: وهن الأبكار، والخدور: البيوت، وقيل: الخدر: ستر يكون في ناحية البيت. شرح النووي على صحيح مسلم،6/ 428،وانظر: الإعلام لابن الملقن،4/ 250. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب العيدين، باب إذا لم يكن لها جلباب في العيد، برقم980، ومسلم،، كتاب صلاة العيدين، باب إباحة خروج النساء في العيدين إلى المصلى وشهود الخطبة مفارقات للرجال، برقم890. (¬3) انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 254، وحاشية ابن قاسم على الروض المربع، 2/ 493، والشرح الممتع لابن عثيمين، 5/ 151 - 152. (¬4) المختارات الجلية من المسائل الفقهية، ص72.

رابعا: آداب صلاة العيد على النحو الآتي:

الصواب، ويسن للنساء حضورها مع العناية بالحجاب والستر، وعدم التطيُّب)) (¬1)،وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في القول: إن صلاة العيد فرض عين: ((وهذا عندي أقرب الأقوال)) (¬2)، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى القول بأن صلاة العيد فرض عين (¬3)، وقال رحمه الله: (( ... ولهذا رجحنا أن صلاة العيد واجبة على الأعيان كقول أبي حنيفة وغيره، وهو أحد أقوال الشافعي وأحد القولين في مذهب أحمد)) (¬4)، واختاره تلميذه الإمام ابن القيم رحمه الله (¬5). رابعاً: آداب صلاة العيد على النحو الآتي: 1 - الغسل يوم العيد، ثبت من فعل الصحابة - رضي الله عنهم -، فعن نافع أن عبد الله بن عمر كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو إلى المصلى (¬6). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله يقول: ((لم يرد في ذلك حديث صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -))، وقال العلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله: ((وأحسن ما يستدل به على استحباب الاغتسال للعيدين، ما روى البيهقي من طريق الشافعي عن زاذان، قال: سأل رجل عليَّاً عن الغسل؟ قال: ((اغتسل كل يوم إن شئت)) فقال: لا، الغسل الذي هو الغسل؟ قال: ((يوم الجمعة، ويوم عرفة (¬7)، ويوم النحر، ¬

(¬1) مجموع الفتاوى، 13/ 7،وقرره رحمه الله أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 513. (¬2) الشرح الممتع، 5/ 151 - 152. (¬3) الاختيارات العلمية من الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص123. (¬4) مجموع الفتاوى لابن تيمية، 23/ 161. (¬5) كتاب الصلاة للإمام ابن القيم، ص11، وانظر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، 8/ 284. (¬6) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب العيدين، باب العمل في غسل العيدين، والنداء فيهما والإقامة، برقم 2، وانظر: آثاراً نقلت في وقفات للصائمين، للشيخ سليمان بن فهد العودة، ص97. (¬7) أي يوم عرفة للحاج.

2 - يستحب أن يتنظف، ويتطيب، ويتسوك، كما ذكر في الجمعة

ويوم الفطر)) (¬1). وعن سعيد بن المسيب أنه قال: ((سنة الفطر ثلاث: المشي إلى المصلى، والأكل قبل الخروج، والاغتسال)) (¬2). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((يستحب أن يتطهر بالغسل للعيد، وكان ابن عمر يغتسل يوم الفطر، وروي ذلك عن علي - رضي الله عنه -،وبه قال: علقمة، وعروة، وعطاء، والنخعي، والشعبي، وقتادة، وأبو الزناد، ومالك، والشافعي، وابن المنذر ... )) (¬3)،وقال ابن قدامة أيضاً: ((وروي أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في جمعة من الجمع: ((إن هذا يوم عيد جعله الله للمسلمين، فمن جاء إلى الجمعة فليغتسل، وإن كان طيبٌ فليمسَّ منه، وعليكم بالسواك)) (¬4)،فلعل هذه الأشياء بكون الجمعة عيداً؛ ولأنه يوم يجتمع الناس فيه للصلاة فاستحب الغسل فيه كيوم الجمعة، وإن اقتصر على الوضوء أجزأه؛ لأنه إذا لم يجب الغسل للجمعة مع الأمر به فيها فغيرها أولى)) (¬5). 2 - يستحب أن يتنظف، ويتطيب، ويتسوك، كما ذكر في الجمعة؛ لحديث ابن عباس المذكور آنفاً، وفيه: ((وإن كان طيب فليمسَّ منه وعليكم بالسواك)) (¬6). 3 - يلبس أحسن ما يجد؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ عمر جبة (¬7) من إستبرق (¬8) تباع في السوق، فأخذها فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ¬

(¬1) قال في إرواء الغليل، 1/ 177: ((وسنده صحيح)) أي موقوف على علي - رضي الله عنه -. (¬2) قال الألباني في إرواء الغليل، 3/ 104: ((رواه الفريابي وإسناده صحيح)). (¬3) المغني لابن قدامة، 3/ 256. (¬4) ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الزينة يوم الجمعة، برقم 1098، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه،1/ 326. (¬5) المغني لابن قدامة، 3/ 257، وانظر: زاد المعاد لابن القيم، 1/ 442. (¬6) الحديث تقدم تخريجه في الذي قبله، وانظر: المغني لابن قدامة، 3/ 257. (¬7) جبة: ثوب جمعه: جبَبٌ وجباب. القاموس المحيط، ص83. (¬8) إستبرق: هو ما غلظ من الديباج، والديباج: هي الثياب المتخذة من إبريسم. هدي الساري مقدمة فتح الباري لابن حجر، ص78، وص114.

4 - يستحب أن يأكل قبل خروجه إلى المصلى في عيد الفطر تمرات

يا رسول الله ابتع هذه فتجمَّل بها للعيد والوفود، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما هذه لباس من لا خَلاقَ (¬1) له)) (¬2)، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: ((وهذا يدل على أن التجمُّل عندهم في هذه المواضع كان مشهوراً ... وقال مالك: سمعت أهل العلم يستحبون الطيب والزينة في كل عيد، والإمام بذلك أحق؛ لأنه المنظور إليه من بينهم)) (¬3). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((روى ابن أبي الدنيا والبيهقي بإسناد صحيح إلى ابن عمر أنه كان يلبس أحسن ثيابه في العيدين)) (¬4)، وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((وكان يلبس للخروج إليهما أجمل ثيابه، فكان له حلة يلبسها للعيدين والجمعة، ومرة كان يلبس بُردين أخضرين (¬5)، ومرة بُرداً أحمر، وليس هو أحمر مُصمتاً (¬6) كما يظنه بعض الناس، فإنه لو كان كذلك لم يكن برداً، وإنما فيه خطوط حمر كالبرود اليمنية فسمي أحمر باعتبار ما فيه من ذلك ... )) (¬7). 4 - يستحب أن يأكل قبل خروجه إلى المصلى في عيد الفطر تمرات، والأفضل أن تكون وتراً، أما عيد الأضحى فالأفضل أن لا يأكل حتى يرجع من المصلى، فيأكل من أضحيته (¬8)، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات، ويأكلهن وتراً)) (¬9). ¬

(¬1) من لا خلاق له، الخلاق: النصيب. تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص42. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب العيدين، بابٌ: في العيدين والتجمل فيه، برقم 948، ومسلم، كتاب اللباس، باب تحريم لبس الحرير وغير ذلك للرجال، برقم 2068. (¬3) المغني لابن قدامة، 3/ 257 - 258. (¬4) فتح الباري، 2/ 439. (¬5) البُردُ: ثوب مخطط، القاموس المحيط، ص341. (¬6) مصمتاً: الثوب المصمت: هو الذي لا يخالط لونه لون. القاموس المحيط، ص199. (¬7) زاد المعاد، 1/ 441. (¬8) زاد المعاد، 1/ 441. (¬9) البخاري، كتاب العيدين، باب الأكل يوم الفطر قبل الخروج، برقم 953.

5 - يخرج إلى العيد ماشيا وعليه السكينة والوقار

وعن بريدة - رضي الله عنه - قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم، ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي)) (¬1)، وقد قيل: الحكمة في الأكل قبل صلاة الفطر: أن لا يظن ظان لزوم الصوم حتى يصلي العيد، فكأنه أراد سد هذه الذريعة، وقيل: لما وقع وجوب الفطر عقب وجوب الصوم استحب تعجيل الفطر مبادرة إلى امتثال أمر الله تعالى، ويشعر بذلك اقتصاره على القليل من ذلك، ولو كان لغير الامتثال لأكل قدر الشبع، وقيل: لأن الشيطان الذي يُحبس في رمضان لا يطلق إلا بعد صلاة العيد، فاستحب تعجيل الفطر بِداراً إلى السلامة من وسوسته، وقيل: وقع أكله - صلى الله عليه وسلم - في كل من العيدين في الوقت المشروع لإخراج صدقتهما الخاصة بهما، فإخراج صدقة الفطر قبل الغدوّ إلى المصلى، وإخراج صدقة الأضحية بعد ذبحها، فاجتمعا من جهة وافترقا من جهة أخرى (¬2)، وذكر ابن قدامة رحمه الله أن الحكمة من الإفطار يوم الفطر؛ لأن يوم الفطر حرم فيه الصيام عقب وجوبه فاستحب تعجيل الفطر؛ لإظهار المبادرة إلى طاعة الله تعالى، وامتثال أمره في الفطر على خلاف العادة، والأضحى بخلافه؛ ولأن في الأضحى شرع الأضحية، والأكل منها، فاستحب أن يكون فطره على شيء منها (¬3). 5 - يخرج إلى العيد ماشياً وعليه السكينة والوقار، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((وممن استحب المشي: عمر بن عبد العزيز، والنخعي، والثوري، والشافعي وغيرهم)) (¬4)، وقد جاء في ذلك أخبار: ¬

(¬1) الترمذي، كتاب الجمعة، باب ما جاء في الأكل يوم الفطر قبل الخروج، برقم542، وابن ماجه، كتاب الصيام، باب في الأكل يوم الفطر قبل أن يخرج، برقم1756، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 1/ 302. (¬2) انظر جميع هذه الحكم: فتح الباري لابن حجر، 2/ 447، 448. (¬3) انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 259. (¬4) المغني، 3/ 262.

6 - السنة أن تصلى صلاة العيدين في المصلى، ولا يصلى في المسجد إلا لحاجة

فعن سعد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((كان يخرج إلى العيد ماشياً ويرجع ماشياً)) (¬1)، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج إلى العيد ماشياً ويرجع ماشياً)) (¬2). وعن علي - رضي الله عنه - قال: ((من السنة أن تخرج إلى العيد ماشياً ... )) (¬3)،قال الإمام الترمذي رحمه الله: ((والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم: يستحبون أن يخرج الرجل إلى العيد ماشياً، وأن يأكل شيئاً قبل أن يخرج لصلاة الفطر، ويستحب أن لا يركب إلا من عذر)) (¬4)، وعن أبي رافع - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأتي العيد ماشياً)) (¬5)، وعن سعيد بن المسيب أنه قال: ((سنة الفطر ثلاث: المشي إلى الصلاة، والأكل قبل الخروج، والاغتسال)) (¬6). 6 - السنة أن تُصلَّى صلاة العيدين في المصلى، ولا يُصلى في المسجد إلا لحاجة؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) ابن ماجه، كتاب إقامة الصلوات، باب ما جاء في الخروج إلى العيد ماشياً، برقم1294، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 388. (¬2) ابن ماجه، كتاب إقامة الصلوات، باب ما جاء في الخروج إلى العيد ماشياً، برقم 1295، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 388. (¬3) الترمذي، كتاب الجمعة، باب ما جاء في المشي يوم العيد، برقم 530،وابن ماجه، كتاب إقامة الصلوات، باب ما جاء في الخروج إلى العيد ماشياً، برقم1296،وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 1/ 296، وفي صحيح ابن ماجه،1/ 388،وقد حسنه الترمذي، وذكر الألباني في الإرواء، 3/ 103: أن له شواهد كثيرة أخرجها ابن ماجه من حديث سعد القرظي، وابن عمر، وأبي رافع، وقد ذكرتها في المتن. (¬4) الترمذي، كتاب الجمعة، باب ما جاء في المشي يوم العيد، بعد الحديث رقم530. (¬5) ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الخروج إلى العيد ماشياً، برقم1297، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 389. (¬6) ذكره الألباني في إرواء الغليل، 3/ 104، وعزاه إلى الفريابي، وقال: ((وإسناده صحيح))، وذكر الألباني أيضاً في الإرواء 3/ 103 عن الزهري مرسلاً: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يركب في جنازة قط، ولا في خروج أضحى ولا فطر))،ثم قال الألباني رحمه الله: ((وهذا سند صحيح رجاله كلهم ثقات ولكنه مرسل)) إرواء الغليل،3/ 104.

يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شيء يبدأ به الصلاة)) (¬1)، والمصلى بالمدينة قال عنه الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((هو موضع بالمدينة معروف بينه وبين باب المسجد ألف ذراع، قاله عمر بن شبة في أخبار المدينة، عن أبي غسان الكناني صاحب مالك)) (¬2). وقال الإمام النووي رحمه الله عن حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -: ((هذا دليل لمن قال باستحباب الخروج لصلاة العيد إلى المصلى وأنه أفضل من فعلها في المسجد، وعلى هذا عمل الناس في معظم الأمصار، وأما أهل مكة فلا يصلونها إلا في المسجد من الزمن الأول)) (¬3). قال العلامة ابن الحاج المالكي: ((والسنة الماضية في صلاة العيدين أن تكون في المصلى؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)) (¬4)، ثم هو مع هذه الفضيلة العظيمة خرج - صلى الله عليه وسلم - وتركه (¬5)، وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: ((السنة أن يُصلَّى العيد في المصلى، أمر بذلك علي - رضي الله عنه -، واستحسنه الأوزاعي، وأصحاب الرأي، وهو قول ابن المنذر)) (¬6)، وقال رحمه الله بعد أن ذكر بعض الأقوال المخالفة: ((ولنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج إلى المصلى ويدع مسجده، وكذلك الخلفاء بعده ولا يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الأفضل مع قربه، ويتكلف الناقص مع بعده، ولا يشرع لأمته ترك الفضائل؛ ولأننا قد أُمرنا باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -، والاقتداء به، ولا يجوز أن يكون المأمور به هو الناقص والمنهي عنه ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب العيدين، باب الخروج إلى المصلى بغير منبر، برقم 956، ومسلم، كتاب صلاة العيدين، باب كتاب صلاة العيدين، برقم 889. (¬2) فتح الباري، 2/ 449. (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 427. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، برقم 1190،ومسلم، كتاب الحج، باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة، برقم 1394. (¬5) المدخل، 2/ 283 نقلاً عن أحكام العيدين في السنة المطهرة، للشيخ علي بن حسن عبد الحميد الحلبي الأثري. (¬6) المغني، 3/ 260.

7 - السنة أن يذهب إلى المصلى من طريق ويرجع من طريق آخر

هو الكامل، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلّى العيد بمسجده إلا من عذر؛ ولأن هذا إجماع المسلمين)) (¬1). وإن حصل عذر يمنع الخروج إلى المصلى: من مطر، أو خوف، أو ضعف، أو مرض، أو غير ذلك صلى في المسجد ولا حرج عليه إن شاء الله تعالى (¬2).وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يقول: ((فإذا أصاب الأرض دحض صلوا في المسجد، أما مكة فيصلى العيد في المسجد مطلقاً، ومن صلى في المسجد صلى تحية المسجد)) (¬3). 7 - السنة أن يذهب إلى المصلى من طريق ويرجع من طريق آخر؛ لحديث جابر - رضي الله عنه - قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يوم عيد خالف الطريق)) (¬4). وأعظم الحكم التي يعتمدها المسلم: متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذه الحكمة أعلى حكمة يقنع بها المؤمن: أن يقال: هذا أمر الله ورسوله، ودليل ذلك قول الله تعالى (¬5): {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا} (¬6)، وقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُّبِينًا} (¬7)، وقول عائشة رضي الله عنها وقد سُئلت: لماذا تقضي الحائض الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: ((كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء ¬

(¬1) المرجع السابق، 3/ 260. (¬2) انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 261. (¬3) سمعته أثناء تقريره على منتقى الأخبار، الحديث رقم 1660. (¬4) البخاري، كتاب العيدين، باب من خالف الطريق إذا رجع يوم العيد، برقم 986. (¬5) انظر: الشرح الممتع للعلامة ابن عثيمين رحمه الله، 5/ 171. (¬6) سورة الأحزاب، الآية: 21. (¬7) سورة الأحزاب، الآية: 36.

8 - يستحب للمأموم التبكير إلى مصلى العيد بعد صلاة الصبح

الصلاة)) (¬1)، ولم تذكر سوى ذلك من الحكم؛ لأن المؤمن لسانه وحاله: سمعنا وأطعنا (¬2). ولا مانع من وجود الحكم الأخرى؛ فإن الله تعالى لا يشرع شيئاً إلا لحكمة: علمناها أو لم نعلمها. ومما قيل في حكمة مخالفة الطريق يوم العيد، ما يأتي: قيل: يفعل ذلك؛ ليشهد له الطريقان. وقيل: ليشهد له سكانهما من الجن والإنس. وقيل: لإظهار شعار الإسلام في الطريقين. وقيل: لإظهار ذكر الله تعالى. وقيل: ليغيظ أعداء الإسلام. وقيل: ليدخل السرور على أهل الطريقين، أو لينتفع به أهل الطريقين في الاستفتاء أو التعلم والاقتداء والاسترشاد، أو الصدقة والسلام عليهم. وقيل: لزيارة الأقرباء وصلة الأرحام. وقيل: ليتفاءل بتغيير الحال إلى المغفرة والرضا. وقيل: لتخفيف الزحام. وقيل: لأن الملائكة تقف في الطرقات، فأراد أن يشهد له فريقان منهم (¬3)، قال الإمام ابن القيم رحمه الله بعد أن ذكر كثيراً من هذه الحكم: ((وقيل وهو الأصح: إنه لذلك كله ولغيره من الحكم التي لا يخلو فعله [- صلى الله عليه وسلم -] عنها (¬4). 8 - يستحب للمأموم التبكير إلى مصلى العيد بعد صلاة الصبح، أما الإمام فيستحب له أن يتأخر إلى وقت الصلاة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 321،ومسلم، برقم 335،وتقدم تخريجه في الطهارة: أحكام الحيض. (¬2) انظر: الشرح الممتع، للعلامة ابن عثيمين، 5/ 171. (¬3) انظر: فتح الباري لابن حجر، 2/ 473، فقد ذكر هذه الحكم وغيرها وقال: ((وقد اختلف في ذلك على أقوال كثيرة اجتمع لي منها أكثر من عشرين ... )) ثم ذكرها. (¬4) زاد المعاد في هدي خير العباد،1/ 449، وانظر: المغني لابن قدامة، 3/ 283.

الدليل على سنية الخروج بعد صلاة الصبح ما يلي:

ذلك، فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة ... )) (¬1)، ولأن الإمام يُنتظر ولا يَنتظر، ولو جاء إلى المصلى وقعد في مكان مستتر عن الناس فلا بأس. قال الإمام مالك: مضت السنّة أن يخرج الإمام من منزله قدر ما يبلغ مصلاّه، وقد حلّت الصلاة، فأما غيره فيستحب له التبكير، والدنوُّ من الإمام، ليحصل له: أجر التبكير، وانتظار الصلاة، والدنوّ من الإمام من غير تخطي رقاب الناس، ولا أذى لأحد، قال عطاء بن السائب: كان عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الله بن معقل، يصليان الفجر يوم العيد وعليهما ثيابهما ثم يندفعان إلى الجبَّانة أحدهما يُكبّر والآخر يُهلّل)) (¬2). قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: ((والدليل على سنية الخروج بعد صلاة الصبح ما يلي: أ - عمل الصحابة - رضي الله عنهم -؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج إلى المصلى إذا طلعت الشمس ويجد الناس قد حضروا، وهذا يستلزم أن يكونوا قد تقدموا. ب - ولأن ذلك أسبق إلى الخير. ج - ولأنه إذا وصل المسجد وانتظر الصلاة؛ فإنه لا يزال في صلاة. د - ولأنه إذا تقدم يحصل له الدنوّ من الإمام، كل هذه العلل مقصودة في الشرع)) (¬3). 9 - يُكبّر في طريقه إلى مُصلّى العيد ويرفع صوته بالتكبير؛ لقول الله تعالى: ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 956، ومسلم، برقم 889، وتقدم تخريجه في سنة الخروج إلى المصلى. (¬2) المغني لابن قدامة، 3/ 261، وشرح السنة للبغوي، 4/ 302 - 303. (¬3) الشرح الممتع، 5/ 163 - 164.

{وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ الله عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬1)،وقد جاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج يوم الفطر فيكبّر حتى يأتي المصلى، وحتى يقضي صلاته فإذا قضى الصلاة قطع التكبير)) (¬2).وقد صحّ عن ابن عمر موقوفاً أنه ((كان يجهر بالتكبير يوم الفطر [ويوم الأضحى] إذا غدا إلى المصلى حتى يخرج الإمام فيكبر بتكبيره)) (¬3)، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((ويكبر في طريق العيد ويرفع صوته بالتكبير، وهو معنى قول الخرقي: ((مظهرين للتكبير)) قال أحمد: يكبر جهراً إذا خرج من بيته حتى يأتي المصلى، روي ذلك عن علي، وابن عمر، وأبي أمامة، وأبي رهم [كلثوم بن الحصين الصحابي] وناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،وهو قول عمر بن عبد العزيز، وأبان بن عثمان، وأبي بكر بن محمد، وفعله النخعي، وسعيد بن جبير، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وبه قال الحكم، وحماد، ومالك، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر وإذا ثبت هذا فإنه يكبر حتى يأتي المصلى ... وقال القاضي [في رواية عن الإمام أحمد] حتى يخرج الإمام)).وقال ابن أبي موسى: ((يكبر الناس في خروجهم من منازلهم لصلاتي العيدين جهراً، حتى يأتي الإمام المصلى، ويكبر الناس بتكبير الإمام في خطبته، وينصتون فيما سوى ذلك)) (¬4). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 185. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، 2/ 1/2، والمحاملي في كتاب صلاة العيدين، 2/ 142/2 عن الزهري مرسلاً بإسناد صحيح، وقد ذكر له العلامة الألباني شواهد يتقوّى بها ثم قال بعد ذكرها: ((وبذلك يصير الحديث صحيحاً كما تقتضيه قواعد هذا العلم الشريف)) سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 170، 1/ 120. (¬3) قال العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة تحت الحديث رقم 170، 1/ 120: ((أخرجه الفريابي في كتاب أحكام العيدين، ق 120/ 1 ((بسند صحيح، ورواه الدارقطني (180) وغيره بزيادة: ((ويوم الأضحى)) وسنده جيد)). ثم قال الألباني عن حديث الزهري المرفوع، وحديث ابن عمر الموقوف: ((فالحديث صحيح عندي مرفوعاً وموقوفاً)). (¬4) المغني لابن قدامة، 3/ 262 - 263، 3/ 255، 256، وانظر الإنصاف، 5/ 367، والشرح الممتع لابن عثيمين، 5/ 210.

10 - السنة أن لا يصلى قبل صلاة العيد ولا بعدها

وقال العلامة الألباني عن حديث الزهري وابن عمر: ((وفي الحديث دليل على مشروعية ما جرى عليه عمل المسلمين من التكبير جهراً في الطريق إلى المصلى، وإن كان كثير منهم بدأوا يتساهلون بهذه السنة حتى كادت أن تصبح في خبر كان، وذلك لضعف الوازع الديني منهم، وخجلهم من الصدع بالسنة والجهر بها، ومن المؤسف أن فيهم من يتولى إرشاد الناس وتعليمهم، فكان الإرشاد عندهم محصور بتعليم الناس ما يعلمون، وأما ما هم بأمسّ الحاجة إلى معرفته فذلك مما لا يلتفتون إليه ... ومما يحسن التذكير به بهذه المناسبة أن الجهر بالتكبير هنا لا يشرع فيه الاجتماع بصوت واحد، كما يفعله البعض، وكذلك كل ذكر يشرع فيه رفع الصوت أو لا يشرع، فلا يشرع فيه الاجتماع المذكور ... فلتكن على حذر من ذلك، ولتذكر دائماً قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -)) (¬1). 10 - السنة أن لا يُصلَّى قبل صلاة العيد ولا بعدها؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يوم الفطر فصلى ركعتين لم يصلّ قبلها ولا بعدها، ومعه بلال)) (¬2)، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((ولم يكن هو [- صلى الله عليه وسلم -] ولا أصحابه يصلون إذا انتهوا إلى المصلى شيئاً قبل الصلاة ولا بعدها)) (¬3)، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: ((والحاصل أن صلاة العيد لم يثبت لها سنة قبلها ولا بعدها خلافاً لمن قاسها على الجمعة)) (¬4). وأما حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يصلي قبل العيد ¬

(¬1) سلسلة الأحاديث الصحيحة بتصرف يسير، 1/ 121،تحت الحديث رقم 170،وللشيخ حمود التويجري رحمه الله رسالة مفردة في إنكار هذا التكبير الجماعي، وهي مطبوعة. [قاله الشيخ علي بن حسن بن عبد الحميد في أحكام العيدين، ص28]. (¬2) متفق عليه، البخاري، كتاب العيدين، باب الصلاة قبل العيد وبعدها، برقم 989، ومسلم، كتاب صلاة العيدين، باب ترك الصلاة قبل العيد وبعدها في المصلى، برقم 884. (¬3) زاد المعاد، 1/ 443. (¬4) فتح الباري، 2/ 476.

11 - السنة: أنه لا أذان ولا إقامة لصلاة العيدين

شيئاً فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين)) (¬1)،فقال عنه العلامة الألباني رحمه الله: ((والتوفيق بين هذا الحديث والأحاديث المتقدمة النافية للصلاة بعد العيد بأن النفي إنما وقع على الصلاة في المصلى، كما أفاد الحافظ في التلخيص)) (¬2). ولكن إذا احتاج الناس إلى الصلاة في المسجد؛ لخوف، أو مطر، أو برد شديد، أو ريح شديدة، أو غير ذلك من الأعذار فلا يجلس المسلم حتى يصلي ركعتين، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)) (¬3). 11 - السنة: أنه لا أذان ولا إقامة لصلاة العيدين؛ لحديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه -، قال: ((صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العيدين غير مرة ولا مرتين بغير أذان ولا إقامة)) (¬4)، ولحديث ابن عباس وجابر بن عبد الله - رضي الله عنهم -، قالا: ((لم يكن يؤذن يوم الفطر، ولا يوم الأضحى)) (¬5)، ولمسلم عن عطاء قال: أخبرني جابر بن عبد الله الأنصاري، أن لا أذان للصلاة يوم الفطر حين يخرج الإمام ولا بعدما يخرج، ولا إقامة، ولا نداء، ولا شيء، لا نداء يومئذٍ ولا إقامة)) (¬6). قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا انتهى إلى المصلى أخذ في الصلاة، من غير أذان، ولا إقامة، ولا قول: الصلاة جامعة، والسنة أن ¬

(¬1) ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الصلاة قبل صلاة العيد وبعدها، برقم 1293، وحسنه الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام، والبوصيري في الزوائد، والألباني في إرواء الغليل، 3/ 100، وفي صحيح ابن ماجه، 1/ 388. (¬2) إرواء الغليل، 3/ 100. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم 44،ومسلم، برقم 714،وتقدم تخريجه في صلاة التطوع. (¬4) مسلم، كتاب صلاة العيدين، باب كتاب صلاة العيدين، برقم 887. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب العيدين، باب المشي والركوب إلى العيد والصلاة قبل الخطبة، وبغير أذان وإقامة، برقم 960، ومسلم، كتاب صلاة العيدين، باب كتاب صلاة العيدين، برقم 886. (¬6) مسلم، كتاب صلاة العيدين، باب كتاب صلاة العيدين، برقم 886.

12 - لا يحمل السلاح يوم العيد إلا لحاجة لابد منها

لا يُفعل شيء من ذلك)) (¬1). وقال الإمام الصنعاني رحمه الله في تعليقه على أحاديث نفي الأذان والإقامة لصلاة العيد: ((وهو دليل على عدم شرعيتهما في صلاة العيد فإنهما بدعة)) (¬2). 12 - لا يحمل السلاح يوم العيد إلا لحاجة لابد منها؛ لحديث سعيد بن جبير - رضي الله عنه - قال: كنت مع ابن عمر حين أصابه سنان الرمح في أخمص قدمه فلزقت قدمه بالركاب فنزلتُ فنزعتها - وذلك بمنى - فبلغ الحجاج فجعل يعوده، فقال الحجاج: لو نعلم من أصابك؟ فقال ابن عمر: أنت أصبتني، قال: وكيف؟ قال: حملت السلاح في يوم لم يكن يحمل فيه، وأدخلت السلاح الحرم، ولم يكن السلاح يدخل الحرم)) (¬3). وفي رواية إسحاق بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص عن أبيه قال: ((دخل الحجاج على ابن عمر وأنا عنده فقال: كيف هو؟ فقال: صالح، فقال: من أصابك؟ قال: أصابني من أمر بحمل السلاح في يوم لا يحل فيه حمله)) يعني الحجاج (¬4). وقال الحسن: ((نهوا أن يحملوا السلاح يوم عيد إلا أن يخافوا عدواً)) (¬5). وقد جمع الحافظ ابن حجر بين هذا النهي وبين لعب الحبشة في المسجد بالحراب: بأن قصة الحبشة دائرة بين الإباحة والندب على ما دل عليه حديثها وهذا دائر بين الكراهة والتحريم؛ لقول ابن عمر: ((في يوم لا يحل فيه حمل السلاح))،ويجمع بينهما بحمل الأولى على وقوعها ممن حملها بالدربة وعهدت منه السلامة من إيذاء أحد من الناس بها، وحمل ¬

(¬1) زاد المعاد، 1/ 442. (¬2) سبل السلام، 3/ 229. (¬3) البخاري، كتاب العيدين، باب ما يكره من حمل السلام في العيد والحرم، برقم966. (¬4) البخاري، كتاب العيدين، باب ما يكره من حمل السلاح في العيد والحرم، برقم 967. (¬5) البخاري معلقاً، كتاب العيدين، باب ما يكره من حمل السلاح في العيد والحرم، رقم الباب 9.

13 - لا بأس باللعب بالدف للجواري، واللعب المباح في يوم العيد

الحالة الثانية على وقوعها ممن حملها: بطراً، وأشراً، أو لم يتحفظ حال حملها وتجريدها من إصابتها أحداً من الناس، ولا سيما عند المزاحمة وفي المسالك الضيقة (¬1)، وقد سبق أن ذكرت في مبحث المساجد الأمر بإمساك نصال السلاح في المساجد والأسواق، وتحريم حمل السلاح على المسلمين، والمزح به. وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله يقول عن حمل السلاح في يوم العيد: ((لا ينبغي أن يحمل السلاح فيه إلا أن يكون هناك خوف، وهكذا في الحرمين لا يحمل السلاح إلا إذا دعت الحاجة كما دخل النبي - صلى الله عليه وسلم -)) (¬2) يعني يوم الفتح. 13 - لا بأس باللعب بالدف للجواري، واللعب المباح في يوم العيد؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندي جاريتان (¬3) تغنيان بغناء (¬4) بُعاث (¬5) فاضطجع على الفراش، وحوَّل ¬

(¬1) فتح الباري، 2/ 455، وقد ذكر في هذا الموضع آثاراً كثيرة عند عبد الرزاق، 3/ 289، وابن ماجه، برقم 1314، وغير ذلك تدل على النهي عن حمل السلاح يوم العيد، وفي بعضها إلا بحضرة العدو. (¬2) سمعته أثناء تقريره على منتقى الأخبار للمجد ابن تيمية، الحديث رقم 1647. (¬3) جاريتان: الجارية في النساء كالغلام في الرجال، وهما يقالان عن من دون البلوغ منهما. [المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي،2/ 533]. (¬4) تغنيان: ترفعان أصواتهما بإنشاد شعر العرب، وهو إنشاد بصوت رقيق فيه تمطيط وهو يجري مجرى الحداء. المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 2/ 533. (¬5) ومعنى يوم بعاث: أما بعاث، فقيل: هو موضع من المدينة على ليلتين، وقيل: هو اسم حصن للأوس، وقيل: هو موضع في دار بني قريظة فيه أموال لهم، وكان موضع الوقعة في مزرعة لهم هناك، ولا تنافي بين القولين. ويوم بعاث هو آخر وقعة وقعت بين الأوس والخزرج، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((وهو المعتمد وهو أصح من قول ابن عبد البر ... [إن] يوم بعاث كان قبل الهجرة بخمس سنين)) [فتح الباري، 2/ 441] وقد كانت الحرب قائمة بين الأوس والخزرج دامت مائة وعشرين سنة إلى الإسلام، وقع فيها وقائع كثيرة من أشهرها: يوم السرارة، ويوم قارع، ويوم الفجار الأول والثاني، وحرب حصين بن الأسلت، وحرب حاطب بن قيس، إلى أن كان آخر ذلك يوم بعاث. [فتح الباري لابن حجر، 2/ 441، وانظر شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 433، وشرح السنة للبغوي، 4/ 322 والمفهم للقرطبي، 2/ 533 - 537].

وجهه، وجاء أبو بكر فانتهرني، وقال: مزمارة الشيطان (¬1) عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقبل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((دعهما)) فلما غفل غمزتهما فخرجتا)). وفي رواية قالت: دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان مما تقاولت الأنصار (¬2) يوم بُعاث، قالت: وليستا بمغنيتين (¬3)، فقال أبو بكر: أبمزامير الشيطان في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أبا بكر إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا)). وفي لفظ: أن ذلك في منى وأنهما تدقان وتضربان فانتهرهما أبو بكر فكشف النبي - صلى الله عليه وسلم - عن وجهه وقال: ((دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد)) وتلك الأيام أيام منى، وفي رواية لمسلم: ((جاريتان ¬

(¬1) مِزمارة الشيطان: يعني الغناء أو الدف؛ لأن المزمارة أو المزمار مشتق من الزمير، وهو الصوت الذي له صفير، ويطلق على الصوت الحسن وعلى الغناء، وسميت به الآلة المعروفة التي يزمر بها، وإضافتها إلى الشيطان من جهة أنها تلهي، فقد تشغل القلب عن الذكر، وقيل: المزمور: الصوت، ونسبته إلى الشيطان ذم على ما ظهر لأبي بكر، وهذا إنكار منه لما سمع مستصحباً لما كان مقرراً عنده من تحريم اللهو والغناء جملة، حتى ظن أن هذا من قبيل ما ينكر فبادر إلى ذلك، قياماً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما ظهر له، وكأنه ما كان تبين له أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قررهن على ذلك بعد، وعند ذلك قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((دعهما)) ثم علل الإباحة بأنه يوم عيد، يعني أنه يوم سرور وفرح شرعي فلا ينكر فيه مثل هذا، كما لا ينكر في الأعراس، ويؤخذ من إنكار أبي بكر: أن مواضع الصالحين وأهل الفضل تتنزه عن الهوى واللغو ونحوه وإن لم يكن فيه إثم. [المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم،2/ 535، وفتح الباري لابن حجر، 2/ 442، وشرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 424]. (¬2) مما تقاولت به الأنصار: أي قال بعضهم لبعض من فخر أو هجاء، وهذا الغناء: كان في الشجاعة، والقتل، والحذق في القتال، ونحو ذلك مما لا مفسدة فيه، بخلاف الغناء المشتمل على ما يهيج النفوس على الشر، ويحملها على البطالة والقبح، قال القاضي عياض: إنما كان غناؤهما بما هو من أشعار الحرب والمفاخرة بالشجاعة، والظهور، والغلبة، وهذا لا يهيج الجواري على شر، ولا إنشادهما لذلك من الغناء المختلف فيه وإنما هو رفع الصوت بالإنشاد [شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 433، وفتح الباري لابن حجر، 2/ 441]. (¬3) ((وليستا بمغنيتين)) أي ليستا ممن يعرف الغناء كما تعرفه المغنيات المعروفات بذلك، وهذا منها تحرز من الغناء المعتاد عند المشهورين به، الذي يحرك النفوس، ويبعثها على الهوى، والغزل، والمجون، الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن، وهذا النوع إذا كان في شعر فيه محاسن النساء، وذكر الخمور والمحرمات لا يختلف في تحريمه؛ لأنه اللهو واللعب المذموم بالاتفاق. [المفهم للقرطبي، 2/ 534، وشرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 433 - 434، وفتح الباري لابن حجر، 2/ 442].

تلعبان بدف)) (¬1)، ولفظ النسائي: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وعندها جاريتان تضربان بدفين، فانتهرهما أبو بكر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((دعهن فإن لكل قوم عيداً)) (¬2). قال الإمام البغوي رحمه الله: ((وكان الشعر الذي تغنيان في وصف الحرب، والشجاعة، وفي ذكره معونة في أمر الدين، فأما الغناء بذكر الفواحش، والابتهار بالحرام (¬3) والمجاهرة بالمنكر من القول فهو المحظور من الغناء، وحاشاه [- صلى الله عليه وسلم -] أن يجري شيء من ذلك بحضرته عليه الصلاة والسلام، فيغفل النكير له، وكل من رفع صوته بشيء جاهراً به، ومصرحاً باسمه لا يستره ولا يكني عنه فقد غنَّى، بدليل قولها: ((وليستا بمغنيتين)) (¬4)، وقال الإمام القرطبي رحمه الله: ((وقولها: وليستا بمغنيتين)) أي ليستا ممن يعرف الغناء كما تعرفه المغنيات المعروفات بذلك، وهذا منها تحرّز من الغناء المعتاد عند المشهورين به الذي يحرك النفوس، ويبعثها على الهوى والغزل، والمجون، الذي يحرك ¬

(¬1) تلعبان بدف: الدف هو الذي يضرب به في الأعراس، وهو الذي لا حلق فيه ولا صنوج، وهو بضم الدال على الأشهر وقد تفتح، ويقال له أيضاً: الكِربال، وهو الذي لا جلاجل فيه، والدقدقة: استعجال ضرب الدف. والدَّف: الجنب من كل شيء أو صفحته. والدُّف: آلة من آلات الموسيقى مستديرة كالغربال، ليس لها جلاجل، يشد الجلد من أحد طرفيها. ويقال: آلة طرب ينقر عليها. وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول: ((هو مفتوح من جهة والجهة الأخرى مغطاة بجلد)). انظر: المفهم للقرطبي، 2/ 536، وفتح الباري، 2/ 240، وهدي الساري (مقدمة فتح الباري، ص117، ولسان العرب، 9/ 106، والقاموس المحيط، ص1047، والمعجم الوسيط، 1/ 289، ومعجم لغة الفقهاء، لمحمد روّاس، ص186. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب العيدين، باب الحراب والدرق يوم العيد، برقم 949، وباب سنة العيدين لأهل الإسلام، برقم 952، وباب إذا فاته العيد صلى ركعتين، برقم 987، ومسلم، كتاب صلاة العيدين، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام العيد، برقم 892، والنسائي، كتاب صلاة العيدين، باب ضرب الدف يوم العيد، برقم 1592، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 1/ 516. (¬3) الابتهار: الاشتهار. من قولك ابتهر بفلانة: أي شهر بها. (¬4) شرح السنة للإمام البغوي، 4/ 322 - 323.

الساكن، ويبعث الكامن، وهذا النوع إذا كان في شعر يُشَبَّب فيه بذكر النساء، ووصف محاسنهن، وذكر الخمور، والمحرمات لا يُختلف في تحريمه؛ لأنه اللهو واللعب المذموم بالاتفاق، أما ما يسلم من تلك المحرمات فيجوز القليل منه، وفي أوقات الفرح: كالعرس، والعيد، وعند التنشيط على الأعمال الشاقة، ويدل على جواز هذا النوع هذا الحديث وما في معناه على ما يأتي في أبوابه، مثل: ما جاء في الوليمة، وفي حفر الخندق، وفي حَدْو الحبشة، وسلمة بن الأكوع، فأما ما أبدعه الصوفية اليوم من الإدمان على سماع المغاني بالآلات المطربة فمن قبيل ما لا يختلف في تحريمه، لكن النفوس الشهوانية، والأغراض الشيطانية قد غلبت على كثير ممن ينسب إلى الخير، وشهر بذكره حتى عموا عن تحريم ذلك، وعن فحشه، حتى قد ظهرت من كثير منهم عورات المُجَّان والمخانيث، والصبيان، فيرقصون، ويَزْفِنون بحركات مطابقة وتقطيعات متلاحقة، كما يفعل أهل السَّفَه والمجون، وقد انتهى التوقح بأقوام منهم إلى أن يقولوا: إن تلك الأمور من أبواب القرب وصالحات الأعمال، وأن ذلك يثمر صفاء الأوقات، وسيئات الأحوال، وهذا على التحقيق من آثار الزندقة وقول أهل البطالة، والمخرقة، نعوذ بالله من البدع، والفتن، ونسأله التوبة والمشي على السنن)) (¬1). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((وفي هذا الحديث من الفوائد مشروعية التوسعة على العيال في أيام الأعياد بأنواع ما يُحصّل لهم بسط النفس، وترويح البدن من كلف العبادة، وأن الإعراض عن ذلك أولى، وفيه أن إظهار السرور في الأعياد من شعائر الدين)) (¬2). ¬

(¬1) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 2/ 534. وانظر: فتح الباري، لابن حجر، 2/ 442، وشرح النووي، 6/ 433. (¬2) فتح الباري لابن حجر،2/ 433،وقد كتب الشيخ علي بن حسن عبد الحميد الأثري رسالة نشرت بعنوان: ((الجواب السديد على من سأل عن حكم الدفوف والأناشيد)).

ومما يؤيد ذلك حديث أنس - رضي الله عنه - قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله أبدلكم بهما خيراً منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر)) ولفظ النسائي: ((كان لأهل الجاهلية يومان في كل سنة يلعبون فيهما، فلما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة قال: ((كان لكم يومان تلعبون فيهما، وقد أبدلكم الله بهما خيراً منهما: يوم الفطر، ويوم الضحى)) (¬1). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله يقول: ((هذا يدل على أن الله جعل يوم العيد يوم سرور، ويجوز فيه اللعب فيما لا محذور فيه للنساء والجواري، وفيه التعلم على الآلات كما فعل الحبشة)) (¬2). وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندي جاريتان تغنيان بغنا بُعاث، فاضطجع على الفراش، وحول وجهه، فدخل أبو بكر فانتهرني، وقال: مزمار الشيطان عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقبل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((دعهما)) فلما غفل غمزتهما فخرجتا، وكان يوم عيد يلعب السودان بالدَّرق (¬3) والحراب، فإما سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإما قال: ((تشتهين تنظرين))؟ فقلت: نعم، فأقامني وراءه خدي على خده، وهو يقول: ((دونكم يا بني أرفدة)) (¬4)،حتى إذا مللت قال: ((حسبك))؟ قلت: نعم، قال: ((اذهبي)). ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب صلاة العيدين، برقم 1134،والنسائي، كتاب صلاة العيدين، باب 1، برقم 1555، وصححه الألباني في صحيح أبو داود، 1/ 311، وصحيح النسائي، 1/ 505. (¬2) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 523. (¬3) الدرق: جمع درقة وهي الترس. فتح الباري لابن حجر، 2/ 440. (¬4) يا بني أرفدة بفتح الفاء وكسرها والكسر أشهر: وهو لقب الحبشة، ولفظة ((دونكم)) من ألفاظ الإغراء، وحذف المغرى به تقديره عليكم بهذا اللعب الذي أنتم فيه. شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 436.

وفي لفظ لمسلم: ((جاء الحبشة يزفنون (¬1) في يوم عيد في المسجد)) (¬2). قال الإمام القرطبي رحمه الله: ((وأما لعب الحبشة في المسجد فكان لعباً بالحراب والدرق تواثباً، ورقصاً بهما، وهو من باب التدريب على الحرب والتمرين والتنشيط عليه، وهو من قبيل المندوب، ولذلك أباحه النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد)) (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ((بينما الحبشة يلعبون بحرابهم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ دخل عمر بن الخطاب فأهوى إلى الحصباء فحصبهم بها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((دعهم يا عمر)) (¬4). قال القرطبي رحمه الله: ((وإنكار عمر عليهم تمسكٌ منه بالصورة الظاهرة، كما قلنا في حق أبي بكر رضي الله عنهما)) (¬5). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((واللعب بالحراب ليس لعباً مجرداً، بل فيه تدريب الشجعان على مواقع الحروب والاستعداد للعدو)) (¬6). وقال رحمه الله في موضع آخر: ((واستدل به على جواز اللعب بالسلاح على طريق التواثب للتدريب على الحرب والتنشيط عليه)) (¬7). ويشرع لعب النساء بالدف في العرس دون الرجال؛ لحديث الربيع بنت معوذ، وفيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد عندها غداة بُنِيَ عليها جويريات ¬

(¬1) يزفنون: معناه يرقصون، وحمله العلماء على التوثب بسلاحهم ولعبهم بحرابهم على قريب من هيئة الرقص؛ لأن معظم الروايات إنما فيه لعبهم بحرابهم فيؤول هذه اللفظة على موافقة سائر الروايات. شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 436. (¬2) متفق عليه، واللفظ لمسلم هنا: البخاري، برقم 949، 950، ومسلم، برقم 19 - (892)، وتقدم تخريجه في أول هذا المبحث. (¬3) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 2/ 536. (¬4) متفق عليه: البخاري، برقم 2901،ومسلم، برقم 893، وتقدم تخريجه في المساجد. (¬5) المفهم، 2/ 536. (¬6) فتح الباري، 1/ 549. (¬7) المرجع السابق، 2/ 445.

يضربن بالدف، قالت أم الربيع: ((يندُبن (¬1) من قتل من آبائي يوم بدر حتى قالت جارية: وفينا نبي الله يعلم ما في غد، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقولي هذا وقولي ما كنت تقولين)) (¬2). وعن محمد بن حاطب الجمحي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فصل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت في النكاح)) (¬3). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله يقول: ((وهذا يدل على مشروعية الدف والصوت للنساء: الغناء العادي، أما المزامير والغناء المحرم فلا، والدف هو ذو الوجه الواحد، ويقال له الطار)) (¬4). وعن عائشة رضي الله عنها أنها زفَّت امرأة إلى رجل من الأنصار، فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا عائشة ما كان معكم لهو، فإن الأنصار يعجبهم اللهو))؟ (¬5)، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((وفي رواية شريك، فقال: ((بعثتم معها جارية تضرب بالدف وتغني))؟ قلت تقول: ماذا؟ قال تقول: أتيناكم أتيناكم ... فحيَّانا وحيَّاكم ولولا الذهب الأحمر ... ما حلت بواديكم ولولا الحنطة السمراء ... ما سمنت عذاريكم (¬6) فظهر مما تقدم من الأحاديث في اللعب ما يأتي: 1 - جواز اللعب للنساء والجواري والضرب بالدف أيام العيد بشرط ¬

(¬1) يندُبن: الندب أن يذكر الميت بأحسن أوصافه وأفعاله. انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، 5/ 34. (¬2) البخاري، كتاب المغازي، بابٌ: حدثني خليفة، برقم 4001، وكتاب النكاح باب ضرب الدف في النكاح والوليمة، برقم 5147. (¬3) الترمذي، كتاب النكاح، باب ما جاء في إعلان النكاح، برقم 1088، وابن ماجه، كتاب النكاح، باب إعلان النكاح، برقم 1896،والنسائي، كتاب النكاح، باب إعلان النكاح، برقم 3369،وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي،1/ 553 وغيره. (¬4) سمعته أثناء تقريره على سنن النسائي، الحديث رقم 3369. (¬5) البخاري، كتاب النكاح، باب النسوة التي يهدين المرأة إلى زوجها ودعائهن بالبركة، برقم 5162. (¬6) فتح الباري، 9/ 226.

14 - خروج النساء إلى مصلى العيد متحجبات غير متطيبات

أن لا يكون شعراً محرماً أو شعراً بآلات الطرب المحرمة. 2 - مشروعية الضرب بالدف في النكاح ويكون ذلك للنساء خاصة بشرط أن لا يقلن الألفاظ المحرمة كما تقدم. 3 - جواز اللعب للرجال الذي فيه تدريب على الحرب والقتال، وتعلم الكرّ والفرّ في الجهاد في سبيل الله تعالى. 4 - لا يجوز لعب الرجال بالدف ولا بغيره، أما اللعب الذي فيه تدريب على الجهاد بدون دف فلا بأس به كما تقدم. قال المباركفوري رحمه الله: ((الإذن في ذلك للنساء فلا يلحق بهن الرجال لعموم النهي عن التشبه بهن، وكذلك الغناء المباح في العرس مختص بالنساء، فلا يجوز للرجال)) (¬1). وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يقول: ((أما ضرب الدف فهو من باب إعلان النكاح للنساء خاصة)) (¬2) والله الموفق (¬3). 14 - خروج النساء إلى مصلى العيد متحجبات غير متطيّبات؛ لحديث أم عطية رضي الله عنها قالت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمعته يقول: ((تخرج العواتق وذوات الخدور، أو العواتق ذوات الخدور، والحيّض، وليشهدن الخير ودعوة المؤمنين ويعتزل الحيّض المصلى)).وفي لفظ: ((أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق، والحيض، وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت: يا رسول الله: إحدانا لا يكون لها جلباب؟ ¬

(¬1) تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، 4/ 210. (¬2) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحدث رقم 5147. (¬3) انظر: في اللعب وأنواعه: جامع الأصول لابن الأثير، 11/ 439،وتحفة الأحوذي، 4/ 210 - 213، وفتح الباري، 2/ 440 و9/ 202،وشرح السنة للبغوي،9/ 46 - 49، ونيل الأوطار للشوكاني،4/ 289 - 292، ونيل المآرب شرح دليل الطالب، 2/ 211.

15 - خروج الصبيان إلى المصلى؛ ليشهدوا دعوة المسلمين

قال: ((لتلبسْها أختُها من جلبابها)) (¬1). وصلاة العيد ليست واجبة على المرأة ولكنها سنة في حقها وتصليها في المصلى مع المسلمين؛ لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك (¬2)،وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يقول: ((وخروج النساء في صلاة العيد سنة وليس بواجب)) (¬3). 15 - خروج الصبيان إلى المصلى؛ ليشهدوا دعوة المسلمين، قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: ((باب خروج الصبيان إلى المصلى)) ثم ساق حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((خرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فطر أو أضحى فصلى العيد ثم خطب، ثم أتى النساء فوعظهن، وذكرهن، وأمرهن بالصدقة)) (¬4). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((قوله باب خروج الصبيان إلى المصلى)) أي في الأعياد، وإن لم يصلوا. قال الزين بن المنير: آثر المصنف في الترجمة قوله: إلى المصلى على قوله: صلاة العيد؛ ليعم من يتأتى منه الصلاة ومن لا يتأتى)) (¬5). وفي لفظ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما حينما سئل: أشهدت العيد مع النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، ولولا مكاني من الصغر ما شهدته ... )) (¬6). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قال ابن بطال: خروج الصبيان إلى المصلى إنما هو إذا كان الصبي ممن يضبط نفسه عن اللعب ويعقل الصلاة ويتحفظ مما يفسدها، ألا ترى إلى ضبط ابن عباس القصة. اهـ[قال الحافظ]: وفيه نظر؛ لأن مشروعية إخراج ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الحيض، باب شهود الحائض العيدين، ودعوة المسلمين ويعتزلن المصلى، برقم 324، ومسلم، كتاب العيدين، باب خروج النساء في العيدين إلى المصلى وشهود الخطبة مفارقات للرجال، برقم 12 - (890). (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، 8/ 284. (¬3) سمعته أثناء تقريره على منتقى الأخبار للمجد، الحديث رقم 1649. (¬4) البخاري، كتاب العيدين، باب خروج الصبيان إلى المصلى، برقم 975. (¬5) فتح الباري، لابن حجر، 2/ 464. (¬6) البخاري، كتاب العيدين، باب العلم الذي بالمصلى، برقم 977.

16 - التهنئة بالعيد من فعل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -

الصبيان إلى المصلى إنما هو للتبرك وإظهار شعار الإسلام بكثرة من يحضر منهم، ولذلك شرع للحيَّض كما سيأتي، فهو شامل لمن تقع منهم الصلاة أو لا، وعلى هذا إنما يحتاج أن يكون مع الصبيان من يضبطهم عما ذكر من اللعب ونحوه سواء صلوا أم لا، وأما ضبط ابن عباس القصة فلعله كان لفرط ذكائه، والله أعلم)) (¬1). 16 - التهنئة بالعيد من فعل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ورُوّينا في ((المحامليات)) بإسناد حسن عن جبير بن نُفير قال: ((كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: تقبل الله منَّا ومنك)) (¬2). ونقل ابن قدامة رحمه الله عن ابن عقيل في تهنئة العيد أن محمد بن زياد قال: كنت مع أبي أمامة الباهلي وغيره من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فكانوا إذا رجعوا من العيد يقول بعضهم لبعض: ((تقبل الله منا ومنك)). وقال أحمد: إسناد حديث أبي أمامة إسناد جيد، وقال علي بن ثابت: ((سألت مالك بن أنس منذ خمس وثلاثين سنة وقال: لم نزل نعرف هذا بالمدينة)) (¬3). ((وقال أحمد رحمه الله: ولا بأس أن يقول الرجل للرجل يوم العيد: تقبل الله منا ومنك، وقال حرب: سئل أحمد عن قول الناس في العيدين: تقبَّل الله منا ومنكم، قال: لا بأس به يرويه أهل الشام عن أبي أمامة، قيل: وواثلة بن الأسقع؟ قال: نعم، قيل فلا تكره أن يقال هذا يوم العيد؟ قال: لا)) (¬4)، ((وروي عن أحمد أنه قال: لا أبتدي به أحداً، وإن قاله أحد رددت عليه)) (¬5)، وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن التهنئة في العيد، فأجاب: ((أما التهنئة يوم العيد يقول بعضهم لبعض إذا لقيه ¬

(¬1) فتح الباري، 2/ 466. (¬2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 2/ 446. (¬3) المغني لابن قدامة، 3/ 294. (¬4) فتح الباري لابن حجر، 3/ 294. (¬5) المرجع السابق، 3/ 295.

17 - يقضي صلاة العيد من فاتته مع الإمام

بعد صلاة العيد: تقبل الله منا ومنكم، وأحاله الله عليك، ونحو ذلك فهذا قد روي عن طائفة من الصحابة أنهم كانوا يفعلونه، ورخص فيه الأئمة كأحمد وغيره، لكن قال أحمد: أنا لا أبتدئ أحداً، فإن ابتدأني أحد أجبته، وذلك لأن جواب التحية واجب، وأما الابتداء بالتهنئة فليس سنة مأموراً بها، ولا هو أيضاً مما نهي عنه، فمن فعله فله قدوة، ومن تركه فله قدوة، والله أعلم)) (¬1). 17 - يقضي صلاة العيد من فاتته مع الإمام، قال الإمام البخاري رحمه الله: ((بابٌ إذا فاتته العيد يصلي ركعتين. وكذلك النساء ومن كان في البيوت، والقرى، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((هذا عيدنا أهل الإسلام))، وأمر أنس بن مالك مولاهم ابن أبي عتبة بالزاوية (¬2) فجمع أهله وبنيه وصلى صلاة أهل المصر وتكبيرهم، وقال عكرمة: أهل السواد (¬3) يجتمعون في العيد يصلون ركعتين كما يصنع الإمام، وقال عطاء: إذا فاته العيد صلى ركعتين)) (¬4)، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((في هذه الترجمة حكمان: مشروعية استدراك صلاة العيد إذا فاتت مع الجماعة سواء كانت بالاضطرار أو بالاختيار، وكونها تقضى ركعتين كأصلها)) (¬5) (¬6). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى، 24/ 253. (¬2) الزاوية: موضع على فرسخين من البصرة كان به لأنس قصر وأرض، وكان يقيم هناك كثيراً، فتح الباري لابن حجر، 2/ 475. (¬3) أهل السواد: ما حول كل مدينة من القرى: أي كأنها الأشخاص والمواضع العامرة بالناس والنبات بخلاف ما لا عمارة فيه. مشارق الأنوار للقاضي عياض،2/ 229. (¬4) البخاري، كتاب العيدين، باب إذا فاتته العيد يصلي ركعتين، قبل الحديث 987. (¬5) فتح الباري، 2/ 474. (¬6) اختلف العلماء رحمهم الله تعالى هل يسن أن تقضى صلاة العيد إذا فاتت مع الإمام أم لا فقال جماعة: لا تقضى، منهم المزني، وقال أبو حنيفة يتخير بين القضاء والترك [فتح الباري لابن حجر، 2/ 475]، واختار هذا القول العلامة ابن عثيمين ونسبه لشيخ الإسلام ابن تيمية، وأن من فاتته صلاة العيد لا يسن له أن يقضيها؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ولأنها صلاة ذات اجتماع معين فلا تشرع إلا على هذا الوجه [الشرح الممتع، 5/ 208، وأسئلة وأجوبة صلاة العيدين، ص4، الجواب رقم 4]. وقال جماعة أخرى: يسن أن تقضى فمن فاتته العيد مع الإمام، فإنه يقضي، ثم اختلفوا كم يقضي: ركعتين أم أربعاً. 1 - فذهب الإمام البخاري إلى أن من فاتته صلاة العيد قضاها ركعتين كأصلها: أي يصلي ركعتين بتكبيرها: فيكبر في الركعة الأولى ستّاً بعد تكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمساً غير تكبيرة الانتقال، وهذه رواية عن الإمام أحمد. نقل ذلك عن أحمد إسماعيل بن سعيد واختاره الجوزجاني وهذا قول النخعي، ومالك، والشافعي، وأبي ثور، وابن المنذر؛ لما روي عن أنس أنه إذا لم يشهد العيد مع الإمام بالبصرة جمع أهله ومواليه ثم قام عبد الله بن أبي عتبة مولاه فيصلي بهم ركعتين يكبر فيهما؛ ولأنه قضاء صلاة فكان على صفتها، كسائر الصلوات، وهو مخير إن شاء صلاها وحده، وإن شاء في جماعة، قيل لأبي عبد الله: أين يصلي؟ قال: إن شاء مضى إلى المصلى وإن شاء حيث شاء. 2 - وذهب الإمام أحمد في رواية إلى أن من فاتته صلاة العيد صلاها أربعاً، وهو قول الثوري، قال الحافظ ابن حجر: ((ولهما في ذلك سلف قال ابن مسعود [- رضي الله عنه -]: من فاته العيد مع الإمام فليصلّ أربعاً. أخرجه سعيد بن منصور بإسناد صحيح)). [فتح الباري، 2/ 475] وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: إن أمرت رجلاً أن يصلي بضعفة الناس أمرته أن يصلي أربعاً، رواه سعيد [مصنف ابن أبي شيبة، 2/ 284]، ويقوي ذلك حديث علي أنه أمر رجلاً يصلي بضعفة الناس أربعاً [المغني لابن قدامة، 3/ 260 و3/ 284، والشرح الكبير، 5/ 337، و5/ 365] لأنه قضاء صلاة عيد فكانت أربعاً قضاء الجمعة [المغني، 3/ 384، والشرح الكبير، 5/ 365 - 366]. قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((ويستحب للإمام إذا خرج أن يخلف من يصلي بضعفة الناس في المسجد كما فعل علي - رضي الله عنه -، فروى هزيل بن شرحبيل قال: قيل لعلي - رضي الله عنه -: لو أمرت رجلاً يصلي بضعفة الناس هوناً في المسجد الأكبر قال: إن أمرت رجلاً يصلي أمرته أن يصلي بهم أربعاً، وروي أنه استخلف أبا مسعود البدري فصلى بهم في المسجد [المغني، 3/ 260، 284، والشرح الكبير، والإنصاف، 5/ 337، 365، وانظر: سنن البيهقي،3/ 310، ومصنف ابن أبي شيبة، 2/ 284]. 3 - وفي رواية عن أحمد أنه مخير بين ركعتين وأربع، وهذا قول الأوزاعي؛ لأنها صلاة تطوع أشبهت صلاة الضحى [الشرح الكبير، 5/ 366، والمغني، 3/ 285]، وقال أبو حنيفة بهذا القول: أي مخير بين الثنتين والأربع [فتح الباري، لابن حجر، 2/ 475]، وانظر: الكافي لابن قدامة، 1/ 515، وحاشية الروض المربع لابن قاسم، 2/ 514.

قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((وجملة القول أن من فاتته صلاة العيد فلا قضاء عليه)) (¬1)، ثم يبين رحمه الله أنه إن أحب قضاءها استحب له أن يقضيها، ثم ذكر الأقوال التي أشير إليها آنفاً (¬2). ¬

(¬1) المغني لابن قدامة، 3/ 284، وانظر: الشرح الكبير، 5/ 364 - 366، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف المطبوع مع الشرح الكبير، 5/ 364 - 366. (¬2) المغني، 3/ 284.

خامسا: يشترط الاستيطان لوجوب صلاة العيد، والعدد المشترط لصلاة الجمعة

ثم قال رحمه الله: ((وإن أدرك الإمام في التشهد جلس معه فإذا سلم الإمام قام فصلى ركعتين يأتي فيهما بالتكبير؛ لأنه أدرك بعض الصلاة التي ليست مبدلة من أربع فقضاها على صفتها كسائر الصلوات. وإن أدركه في الخطبة: فإن كان في المسجد صلى تحية المسجد؛ لأنها إذا صليت في خطبة الجمعة التي يجب الإنصات لها ففي خطبة العيد أولى ... فأما إن لم يكن في المسجد؛ فإنه يجلس فيستمع ثم إن أحب قضى صلاة العيد على ما ذكرناه)) (¬1). خامساً: يشترط الاستيطان لوجوب صلاة العيد، والعدد المشترط لصلاة الجمعة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصلها في سفره ولا خلفاؤه، وكذلك العدد المشترط للجمعة وهو على الصحيح ثلاثة: إمام ورجلان معه؛ لأنها صلاة عيد فأشبهت الجمعة، ولا يشترط إذن الإمام لإقامة صلاة العيد على الصحيح، وليس من شرط صحتها الاستيطان ولا عدد الجمعة، وإنما هما شرط للوجوب؛ لأن صلاة العيد تصح من الواحد (¬2). واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن ((من شرطها الاستيطان، وعدد الجمعة، فيفعلها المسافر، والعبد، والمرأة تبعاً ولا يستحب ¬

(¬1) المغني، 3/ 285. (¬2) المغني لابن قدامة، 3/ 287، ونص كلامه رحمه الله: ((ويشترط الاستيطان لوجوبها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصلها في سفره، ولا خلفاؤه، وكذلك العدد المشترط للجمعة؛ لأنها صلاة عيد فأشبهت الجمعة، وفي إذن الإمام روايتان أصحهما ليس بشرط، ولا يشترط شيء من ذلك لصحتها؛ لأنها تصح من الواحد في الفضاء، وقال أبو الخطاب في ذلك كله روايتان، وقال الخطابي: كلام أحمد يقتضي روايتين إحداهما لا يقام العيد إلا حيث تقام الجمعة وهذا مذهب أبي حنيفة إلا أنه لا يرى ذلك إلا في مصر؛ لقوله: لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع، والثانية يصليها المنفرد، والمسافر، والعبد، والنساء على كل حال، وهذا قول الحسن والشافعي؛ لأنه ليس من شرطها الاستيطان، فلم يكن من شرطها الجماعة كالنوافل إلا أن الإمام إذا خطب مرة ثم أرادوا أن يصلوا لم يخطبوا وصلوا بغير خطبة، كيلا يؤدي إلى تفريق الكلمة، والتفصيل الذي ذكرناه أولى ما قيل به إن شاء الله تعالى))، المغني، 3/ 287، وانظر: الشرح الكبير مع الإنصاف، 5/ 333.

قضاؤها لمن فاتته منهم، وهو قول أبي حنيفة)) (¬1)، والله سبحانه أعلم (¬2). وقال شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله تعالى: ((صلاة العيد إنما تقام في المدن والقرى، ولا تشرع إقامتها في البوادي والسفر، هكذا جاءت السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يحفظ عنه - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أصحابه - رضي الله عنهم - أنهم صلوا صلاة العيد في السفر ولا في البادية، وقد حج حجة الوداع عليه الصلاة والسلام فلم يصلّ الجمعة في عرفة، وكان ذلك اليوم هو يوم الجمعة، ولم يصلّ صلاة العيد في منى، وفي اتباعه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - كل الخير والسعادة، والله ولي التوفيق)) (¬3) (¬4). وقال شيخنا أيضاً عن العدد المشترط لصلاة الجمعة والعيد: ((واختلف العلماء في العدد المشترط لهما، وأصح الأقوال أن أقل عدد تقام به الجمعة والعيد ثلاثة فأكثر، أما شرط الأربعين فليس له دليل صحيح يعتمد عليه، ومن شرطهما الاستيطان، أما أهل البادية والمسافرون فليس عليهم جمعة ولا صلاة عيد)) (¬5). ¬

(¬1) الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص123، والمستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام لمحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، 3/ 129. (¬2) واختار العلامة ابن عثيمين اشتراط الاستيطان والعدد الذي تنعقد به الجمعة، أما إذن الإمام فاختار أن ذلك لا يشترط، إلا أنه اختار أنه ينبغي اشتراط إذن الإمام لتعدد مصلى العيد في البلد الواحد حتى لا يحصل فوضى بين الناس، ويصير كل واحد فيهم يقيم مصلى عيد. الشرح الممتع، 5/ 170 - 171، واختار في تعدد الجمعة كذلك، 5/ 33. (¬3) فتاوى ابن باز، 13/ 9. (¬4) ورجح العلامة ابن عثيمين أن من شرط صلاة العيد الاستيطان؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقم صلاة العيد إلا في المدينة، وسافر إلى مكة عام غزوة الفتح وبقي فيها إلى أول شوال وأتاه العيد ولم ينقل أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة العيد، وفي حجة الوداع صادفه العيد وهو في منى ولم يقم صلاة العيد؛ لأنه مسافر، كما أنه لم يقم صلاة الجمعة في عرفة؛ لأنه مسافر، قال رحمه الله: ومن شرطها أيضاً عدد الجمعة، وقد سبق لنا أن القول الراجح في عدد الجمعة ثلاثة فهذا مبني على ذاك، فإن لم يوجد في القرية إلا رجل واحد مسلم فإنه لا يقيم صلاة العيد، أو رجلان فلا يقيمان صلاة العيد. الشرح الممتع، 5/ 169 - 170. (¬5) مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 12.

سادسا: وقت صلاة العيد أوله بعد ارتفاع الشمس قيد رمح

سادساً: وقت صلاة العيد أوله بعد ارتفاع الشمس قيد رمح؛ لحديث يزيد بن حُمير الرحبي قال: خرج عبد الله بن بسر صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الناس في يوم عيد فطر أو أضحى، فأنكر إبطاء الإمام فقال: ((إنا كنا قد فرغنا ساعتنا هذه، وذلك حين التسبيح)) (¬1). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((قوله: وذلك حين التسبيح أي وقت السبحة وهي النافلة، وذلك إذا مضى وقت الكراهة))، وفي رواية صحيحة للطبراني: ((وذلك حين تسبيح الضحى))، قال ابن بطال: ((أجمع الفقهاء على أن العيد لا تصلى قبل طلوع الشمس ولا عند طلوعها، وإنما جوزوا عند جواز النافلة)) (¬2)، وآخر وقت صلاة العيد زوال الشمس، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((ووقتها من حين ترتفع الشمس ويزول وقت النهي إلى الزوال، فإن لم يعلم بها إلا بعد الزوال خرج من الغد فصلى بهم)) (¬3)؛ لحديث أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم قالوا: أغمي علينا هلال شوال فأصبحنا صياماً، فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفطروا وأن يخرجوا إلى عيدهم من الغد)) (¬4).وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس)) (¬5).وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الصوم يوم ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب وقت الخروج إلى العيد، برقم 1135، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلوات، باب في وقت صلاة العيد، برقم 1317، وعلقه البخاري في كتاب العيدين، باب التبكير للعيد، قبل الحديث رقم 968. والحديث صححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 311، وصحيح ابن ماجه، 1/ 392. (¬2) فتح الباري لابن حجر، 2/ 457. (¬3) الكافي، 1/ 514. (¬4) أبو داود، كتاب الصلاة، باب إذا لم يخرج الإمام للعيد من يومه يخرج من الغد، برقم 1157، والنسائي، كتاب صلاة العيدين، باب الخروج إلى العيدين من الغد، برقم 1556، وابن ماجه بلفظه، كتاب الصيام، باب ما جاء في الشهادة على رؤية الهلال، برقم 1653، وأحمد في المسند، 5/ 57 - 58، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/ 317، وصحيح النسائي، 1/ 505. (¬5) الترمذي، كتاب الصوم، باب ما جاء في الفطر والأضحى متى يكون، برقم 802، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 1/ 420.

تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون)) (¬1). والأفضل تعجيل صلاة عيد الأضحى إذا ارتفعت الشمس قيد رمح، وتأخير صلاة الفطر، فتصلى إذا ارتفعت الشمس قيد رمحين (¬2). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: ((ويسن تقديم صلاة الأضحى؛ ليتسع وقت التضحية، وتأخير الفطر؛ ليتسع وقت إخراج صدقة الفطر، وهذا مذهب الشافعي ولا أعلم فيه خلافاً ... )) (¬3)؛ولأن لكل عيد وظيفة: فوظيفة الفطر إخراج الفطرة ووقتها قبل الصلاة، ووظيفة الأضحى التضحية، ووقتها بعد الصلاة، وفي تأخير الفطر وتقديم الأضحى توسيع لوظيفة كل منهما)) (¬4). وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((وكان [- صلى الله عليه وسلم -] يؤخر صلاة عيد الفطر ويعجل الأضحى، وكان ابن عمر مع شدة اتّباعه لا يخرج حتى تطلع ¬

(¬1) الترمذي، برقم 697، وقد فسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: إنما معنى هذا أن الصوم والفطر مع الجماعة، وعظم الناس، ورواه أبو داود، برقم 2324، وابن ماجه، برقم 1160، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 1/ 375 وغيره. (¬2) جاء في ذلك حديث في الأضاحي للحسن بن أحمد البنا من طريق وكيع عن المعلى بن هلال عن الأسود بن قيس عن جندب قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بنا يوم الفطر والشمس على قيد رمحين، والأضحى على قيد رمح)) كما في التلخيص، 1/ 83، قال العلامة الألباني: لكن المعلى هذا اتفق النقاد على تكذيبه كما قال الحافظ في التقريب. ثم بيّن الألباني في الإرواء، 3/ 101 أن هذا أقرب إلى عمل المسلمين، وروى الشافعي في مسنده، ص74، وفي الأم، 1/ 205، مرسلاً: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى عمرو بن حزم وهو بنجران أن عجّل الأضحى وأخّر الفطر، وذكّر الناس)) قال الحافظ في التلخيص، 1/ 83: ((وهو مرسل وضعيف أيضاً)). وقال الألباني في الإرواء 3/ 102، برقم 633: ((ضعيف جداً))، وسمعت شيخنا ابن باز يقول أثناء تقريره على منتقى الأخبار للمجد ابن تيمية، الحديث رقم 1662: ((ضعيف لكن قد ذكر جمع من أهل العلم تعجيل صلاة الأضحى وتأخير صلاة الفطر)). (¬3) ثم ذكر مرسل الشافعي المذكور آنفاً. (¬4) المغني لابن قدامة، 3/ 267.

سابعا: صفة صلاة العيد: السنة أن يصلي الإمام إلى سترة

الشمس، يُكبّر من بيته إلى المصلى)) (¬1)،قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في الحكمة من تعجيل الأضحى وتأخير الفطر: ((أما النظر؛ فلأن الناس في صلاة عيد الفطر محتاجون إلى امتداد الوقت، ليتسع وقت إخراج زكاة الفطر؛ لأن أفضل وقت تخرج فيه زكاة الفطر صباح يوم العيد قبل الصلاة؛ لحديث ابن عمر: ((أمر أن تُؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة)) (¬2)،ومعلوم أنه إذا امتدت الصلاة وتأخرت صار هذا أوسع للناس. وأما عيد الأضحى فإن المشروع المبادرة بالتضحية؛ لأن التضحية من شعائر الإسلام وقد قرنها الله - عز وجل - في كتابه بالصلاة فقال: {فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ} (¬3)،وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ} (¬4)،ففعلها مبادراً بها في هذا اليوم أفضل، وهذا إنما يحصل إذا قدمت الصلاة،؛لأنه لا يمكن أن يذبح الأضحية قبل الصلاة)) (¬5). سابعاً: صفة صلاة العيد: السنة أن يصلي الإمام إلى سترة؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها والناس وراءه، وكان يفعل ذلك في السفر، فمن ثم اتخذها الأمراء)). وفي رواية: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان تُركز له الحربة قُدَّامه يوم الفطر، والنحر، ثم يصلي)). وفي رواية: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغدو إلى المصلى، والعنزة بين يديه تُحمل، وتُنصب بالمُصَلَّى بين يديه، فيصلي إليها)) (¬6). ولا خلاف بين أهل العلم في أن صلاة العيد مع ¬

(¬1) زاد المعاد في هدي خير العباد، 1/ 442. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الزكاة، باب الصدقة قبل العيد، برقم 1509، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الأمر بإخراج زكاة الفطر، برقم 986. (¬3) سورة الكوثر، الآية: 2. (¬4) سورة الأنعام، الآية: 162. (¬5) الشرح الممتع، 5/ 158 - 159. (¬6) البخاري، كتاب الصلاة، باب سترة الإمام ستر من خلفه برقم 494، وكتاب العيدين، باب الصلاة إلى حربة يوم العيد، برقم 972، وباب حمل العنزة أو الحربة بين يدي الإمام يوم العيد، برقم 973.

الإمام ركعتان، وفيما تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى العيد ركعتين وفعله الأئمة بعده إلى عصرنا، ولم يُعلم أن أحداً فعل غير ذلك، ولا خلاف فيه (¬1)،وقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ((صلاة الجمعة ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم -)) (¬2)، ويصلي الصلاة قبل الخطبة (¬3)، يكبر في الركعة الأولى تكبيرة الإحرام ثم يقرأ دعاء الاستفتاح، ثم يكبر ست تكبيرات: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر؛، لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((التكبيرة في الفطر: سبع في الأولى، وخمس في الآخرة، والقراءة بعدهما كلتيهما)) (¬4)؛ ولحديث عائشة رضي الله عنها ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمساً سوى تكبيرتي الركوع)) (¬5). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله يقول: ((هذه السبع التكبيرات مع تكبيرة الإحرام، وفي الركعة الثانية يأتي بخمس غير تكبيرة النقل)) (¬6). ثم يستعيذ ويقرأ الفاتحة وسورة ((ق)) أو سورة ((سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ ¬

(¬1) المغني لابن قدامة، 3/ 265،وانظر: الشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، 5/ 339. (¬2) النسائي، برقم 1419، وابن ماجه، برقم 1063، وأحمد 1/ 37، وصححه الألباني، وتقدم تخريجه في صفة صلاة الجمعة. (¬3) البخاري، برقم 956،ومسلم، برقم 889،وتقدم تخريجه في أن السنة صلاة العيد في المصلى. (¬4) أبو داود، كتاب الصلاة، باب التكبير في العيدين، برقم 1151، والترمذي، كتاب الجمعة، باب ما جاء في التكبير في العيدين، برقم 536، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في تكبير الإمام في صلاة العيدين، برقم 1279، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 315، وغيره، وقال الترمذي في العلل: سألت البخاري عنه فقال: ((هو صحيح)). (¬5) أبو داود، كتاب الصلاة، باب التكبير في العيدين، برقم 1149، 1150، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في كم يكبر الإمام في صلاة العيدين؟ برقم 1280،وأحمد، 6/ 70،وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود،1/ 315 وغيره. (¬6) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 519.

الأعلى))، ثم يكمل الركعة ثم يقوم من الركعة الأولى مكبراً، ثم يكبر خمساً بعد أن يستتم قائماً، وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أنه كان يكبر في العيد في الأولى سبع تكبيرات بتكبيرة الافتتاح وفي الآخرة ستاً بتكبيرة الركعة كلهن قبل القراءة)) (¬1). ثم يقرأ الفاتحة وسورة اقتربت أو سورة الغاشية (¬2)؛ لحديث أبي واقد الليثي - رضي الله عنه - أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سأله: ما كان يقرأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأضحى والفطر، فقال: ((يقرأ فيهما بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القمر} (¬3)؛ ولحديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في العيدين وفي الجمعة بـ {سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الأعلى}،و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية}، قال: وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما في الصلاتين)) (¬4). ويرفع يديه مع كل تكبيرة لعموم الأحاديث (¬5)؛ ولفعل ¬

(¬1) ابن أبي شيبة، 2/ 5/1،والفريابي،1/ 136، وصحح إسناده الألباني في إرواء الغليل، 3/ 111. (¬2) قال الإمام ابن قدامة في المغني: ((يدعو بدعاء الاستفتاح عقيب التكبيرة الأولى [الإحرام] ثم يكبر تكبيرات العيد، ثم يتعوذ ويقرأ، وهذا [المشهور من مذهب أحمد و] مذهب الشافعي، وعن أحمد رواية أخرى، أن الاستفتاح بعد التكبيرات، اختارها الخلال وصاحبه، وهو قول الأوزاعي؛ لأن الاستفتاح تليه الاستعاذة، وهي قبل القراءة، وقال أبو يوسف: يتعوذ قبل التكبير؛ لئلا يفصل بين الاستفتاح والاستعاذة، ولنا أن الاستفتاح شرع يستفتح به الصلاة، فكان في أولها كسائر الصلوات، والاستعاذة شرعت للقراءة، فهي تابعة لها، فتكون عند الابتداء بها؛ لقول الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [سورة النحل: 98]. وقد روى أبو سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوذ قبل القراءة [أبو داود، برقم 775]،وإنما جمع بينهما في سائر الصلوات؛ لأن القراءة تلي الاستفتاح من غير فاصل، فلزم أن يليه ما يكون في أولها، بخلاف مسألتنا، وأيا ما فعل كان جائزاً)) المغني، 3/ 273 - 274، وانظر الشرح الكبير لابن قدامة المطبوع مع المقنع والإنصاف، 5/ 341 - 342. (¬3) مسلم، كتاب العيدين، باب ما يقرأ في صلاة العيدين، برقم 891. (¬4) مسلم، كتاب الجمعة، باب ما يقرأ في صلاة الجمعة، برقم 878. (¬5) قال الإمام ابن قدامة: ((وجملته أنه يستحب أن يرفع يديه في حال تكبيره حسب رفعهما مع تكبيرة الإحرام، وبه قال عطاء، والأوزاعي، وأبو حنيفة، والشافعي، وقال مالك، والثوري: لا يرفعهما فيما عدا تكبيرة الإحرام؛ لأنها تكبيرات في أثناء الصلاة فأشبهت تكبيرات السجود))، [ولكن قد روى الفريابي،2/ 136 عن الوليد بن مسلم قال: سألت مالك بن أنس عن ذلك - يعني الرفع في التكبيرات الزوائد - فقال: نعم ارفع يديك مع كل تكبيرة، ولم أسمع فيه شيئاً] قال ابن قدامة: ((ولنا ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه مع التكبير [يعني حديث يرفعهما في كل تكبيرة يكبرها قبل الركوع، حتى تنقضي صلاته، أبو داود، برقم 722، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 209، وهو في استفتاح الصلاة] قال أحمد: أما أنا فأرى أن هذا الحديث يدخل فيه هذا كله، وروي عن عمر أنه كان يرفع يديه في كل تكبيرة: في الجنازة، وفي العيد. رواه الأثرم، ولا يعرف له مخالف في الصحابة، ولا يشبه هذا تكبير السجود؛ لأن هذه يقع طرفاها في حال القيام، فهي بمنزلة تكبيرة الافتتاح)). [المغني، 3/ 272 - 273]؛ لكن ضعّف الألباني حديث عمر في إرواء الغليل، 3/ 112،وسمعت شيخنا الإمام ابن باز يقول أثناء تقريره على منتقى الأخبار للمجد ابن تيمية، الحديث رقم 1673. ((ولا بأس أن يكبر بين التكبيرات: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، والسنة رفع اليدين في جميع التكبيرات كما فعل عمر - رضي الله عنه -، وغيره)).

عمر - رضي الله عنه - (¬1)، ويقول بين التكبيرات ما ثبت عن ابن مسعود - رضي الله عنه - بحضرة حذيفة وأبي موسى، أن الوليد بن عقبة قال: إن العيد قد حضر فكيف أصنع؟ فقال ابن مسعود: تقول: الله أكبر، وتحمد الله، وتثني عليه، وتصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتدعو الله، ثم تكبر، وتحمد الله وتثني عليه، وتصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم تكبر، وتحمد الله، وتثني عليه وتصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتدعو الله، ثم تكبر، وتحمد الله، وتثني عليه، وتصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وتدعو الله ثم تكبر، فقال حذيفة وأبو موسى: أصاب)) (¬2). وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ((وكان [- صلى الله عليه وسلم -] يبدأ بالصلاة قبل الخطبة، فيصلي ركعتين، يكبر في الأولى سبع تكبيرات متوالية بتكبيرة الافتتاح (¬3) يسكت بين كل تكبيرتين سكتة يسيرة، ولم يحفظ عنه ذكر ¬

(¬1) البيهقي، 3/ 293 وضعفه الألباني في الإرواء، برقم 640، ولكن قال: ((وفي التلخيص (145)، ((واحتج ابن المنذر والبيهقي بحديث روياه من طريق بقية عن الزبيدي، عن الزهري عن سالم عن أبيه في الرفع عند الإحرام والركوع والرفع منه، وفي آخره: ((ويرفعهما في كل تكبيرة يكبرها قبل الركوع)) وصححه الألباني كما تقدم. إرواء الغليل، 3/ 112، واستدلوا بعموم حديث وائل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه مع التكبير. أحمد، 4/ 316، وحسنه الألباني في إرواء الغليل، 3/ 113. (¬2) الطبراني في الكبير،9/ 303،برقم 9515،ورقم 9523،وصححه الألباني في إرواء الغليل،3/ 115. (¬3) قال الإمام ابن قدامة ((قال أبو عبد الله: يكبر في الأولى سبعاً مع تكبيرة الإحرام، ولا يعتد بتكبيرة الركوع؛ لأن بينهما قراءة، ويكبر في الركعة الثانية خمس تكبيرات، ولا يعتد بتكبيرة النهوض، ثم يقرأ في الثانية، ثم يكبر ويركع، وروي ذلك عن فقهاء المدينة السبعة، وعمر بن عبد العزيز، والزهري، ومالك، والمزني، وروي عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري، وابن عباس، وابن عمر، ويحيى الأنصاري، قالوا: يكبر في الأولى سبعاً وفي الثانية خمساً، وبه قال الأوزاعي، والشافعي، إلا أنهم قالوا: يكبر سبعاً في الأولى سوى تكبيرة الافتتاح، وروي عن ابن عباس، وأنس، والمغيرة بن شعبة، وسعيد بن المسيب، والنخعي، يكبر سبعاً سبعاً، وقال أبو حنيفة والثوري في الأولى والثانية: ثلاثاً ثلاثاً، ولنا أحاديث كثيرة، وعبد الله بن عمر، وعائشة التي قدمناها، قال ابن عبد البر: قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طرق كثيرة حسان أنه كبَّر في العيد سبعاً في الأولى، وخمساً في الثانية، من حديث عبد الله بن عمرو، وابن عمر، وجابر، وعائشة، وأبي واقد، وعمرو بن عوف المزني، ولم يرو عنه من وجه قوي ولا ضعيف خلاف هذا، وهو أولى ما عمل به ... )) المغني، 3/ 271 - 272، وانظر: الشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، 5/ 342.

ثامنا: خطبة صلاة العيد بعد الصلاة: فإذا سلم الإمام قام فاستقبل الناس وخطبهم

معين بين التكبيرات، ولكن ذُكر عن ابن مسعود أنه قال: يحمد الله، ويثني عليه ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -،ذكره الخلال، وكان ابن عمر مع تحريه للاتباع يرفع يديه مع كل تكبيرة ... )) (¬1). ثامناً: خطبة صلاة العيد بعد الصلاة: فإذا سلم الإمام قام فاستقبل الناس وخطبهم (¬2) بما يناسب الحال، فإن كان في عيد الفطر: أمرهم ¬

(¬1) زاد المعاد، 1/ 443. (¬2) الأحاديث الصحيحة لم تصرح بخطبتي العيد والذي اعتمد عليه الفقهاء رحمهم الله هو ما جاء عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أحد الفقهاء السبعة زمن التابعين أنه قال: ((السنة أن يخطب الإمام في العيدين خطبتين يفصل بينهما بجلوس)) [أخرجه الشافعي في مسنده، 1/ 158، والأم، 1/ 211، وهو بهامش الأم، ص110]، قال الشوكاني في هذا الحديث: ((يرجحه القياس على الجمعة، وعبيد الله بن عبد الله تابعي كما عرفت فلا يكون قوله: ((من السنة)) دليلاً على أنها سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقرر في الأصول)). نيل الأوطار، 2/ 606، وقد ورد في حديث جابر - رضي الله عنه - قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فطر أو أضحى فخطب قائماً، ثم قعد قعدة ثم قام)) [ابن ماجه، برقم 1289، قال الشوكاني: ((في إسناده إسماعيل بن مسلم، وهو ضعيف)) [نيل الأوطار، 2/ 606، وقال العلامة الألباني: ((منكر سنداً ومتناً: والمحفوظ أن ذلك في خطبة الجمعة ومن حديث جابر بن سمرة كما في (م). ضعيف ابن ماجه، ص95، والتعليق على ابن خزيمة، 2/ 349]، وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز أثناء تقريره على حديث عبيد الله بن عبد الله في منتقى الأخبار، برقم 1685، يقول: ((هذا الحديث مرسل ولكن تقاس خطبة العيد على الجمعة مع هذا الحديث المرسل، وعلى هذا العلماء والأخيار، ومن خطب خطبة واحدة للعيد، فيذكر باتباع العلماء والأخيار، وأنهم لم يخطبوا خطبة واحدة وإنما خطبوا خطبتين)). وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في الشرح الممتع على زاد المستقنع، 5/ 191 - 192: قوله: ((فإذا سلم خطب خطبتين)) ((هذا ما مشى عليه الفقهاء رحمهم الله أن خطبة العيد اثنتان؛ لأنه ورد هذا في حديث أخرجه ابن ماجه بإسناد فيه نظر ... ومن نظر في السنة المتفق عليها، تبين له بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخطب إلا خطبة واحدة؛ لكنه بعد أن أنهى الخطبة الأولى توجه إلى النساء ووعظهن فإن جعلنا هذا أصلاً في مشروعية الخطبتين فمحتمل مع أنه لا يصح؛ لأنه إنما نزل إلى النساء وخطبهن لعدم وصول الخطبة إليهن، وهذا احتمال، ويحتمل أن يكون الكلام وصلهن، ولكن أراد أن يخصهن بخصيصة؛ ولهذا ذكرهن، ووعظهن، بأشياء خاصة بهن)).

بصدقة الفطر، وبيَّن لهم وجوبها، وثوابها، وقدر المخرج، وجنسه، وعلى من تجب، وإلى من تدفع، وأن من أخرجها قبل الصلاة فهي زكاة مُتقبّلة، ومن أخرجها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات. ويأمر بالتقوى، ويعظ، ويوصي بطاعة الله. وإن كان في عيد الأضحى ذكر الأضحية، وفضلها، وأنها سنة مؤكدة جداً، وبين ما يجزئ فيها، ووقتها، وذبحها، والعيوب التي تمنع منها، وكيفية تفرقتها، وما يقول المسلم عند ذبحها، ويأمر بالتقوى، ويوصي بطاعة الله تعالى ويذكر الناس، ويأمر بالصدقة لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). فقد ثبت في الحديث الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم، ويوصيهم، ويأمرهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثاً قطعه، أو يأمر بشيء أمر به، ثم ينصرف)). وفي لفظ مسلم: وكان يقول: ((تصدقوا، تصدقوا، تصدقوا)). وكان أكثر من يتصدق النساء، ثم ينصرف (¬2). وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ((شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة، ثم قام متوكئاً على بلال، فأمر بتقوى الله، وحث على طاعته، ووعظ الناس، وذكرهم، ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن، وذكرهن، فقال: ((تصدقن ¬

(¬1) انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 278، والإعلام بفوائد عمدة الأحكام لابن الملقن، 4/ 222، وزاد المعاد، 1/ 445،والمقنع مع الشرح الكبير والإنصاف،5/ 351 - 353. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب العيدين، باب الخروج إلى المصلى بغير منبر، برقم 956، ومسلم، كتاب صلاة العيدين، باب كتاب صلاة العيدين، برقم 889.

فإن أكثركنّ حطب جهنم)) فقامت امرأة من سِطة (¬1) النساء سفعاء الخدين (¬2) فقالت: لِمَ يا رسول الله؟ قال: ((لأنكن تُكثِرن الشّكاة (¬3) وتكفرْن العشير)) (¬4) قال: فجعلهن يتصدقن من حليهن، ويلقين في ثوب بلال من أقرطهن (¬5) وخواتيمهن)) (¬6). ولفظ البخاري: ((قام النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفطر فصلى فبدأ بالصلاة، ثم خطب، فلما فرغ نزل فأتى النساء، فذكرهن وهو يتوكأ على يد بلال، وبلال باسط ثوبه يلقي فيه النساء الصدقة)) (¬7). وعن طارق بن شهاب قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة: مروان، فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة؟ فقال: قد ترك ما هنالك، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) (¬8). والخطبة بعد الصلاة؛ لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ¬

(¬1) سطة النساء: من خيار النساء، وفي بعض نسخ مسلم: وسطة النساء: والوسط العدل والخيار. شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 425، ورجح أن المعنى: امرأة من وسط النساء جالسة في وسطهن. شرح النووي، 6/ 426. (¬2) سفعاء الخدين: فيها تغير وسواد. شرح النووي، 6/ 426. (¬3) الشكاة: الشكوى. شرح النووي، 6/ 426. (¬4) العشير: المخالط، وحمله الأكثرون على الزوج، والمعنى أنهن يجحدن الإحسان لضعف عقولهن، وقلة معرفتهن، فيستدل به على ذم من يجحد إحسان ذي الإحسان. شرح النووي، 6/ 426. (¬5) من أقرطهن: جمع قرط، وهو كل ما علق من شحمة الأذن فهو قرط سواء كان من ذهب أو خرز، وأما الخرص فهو الحلقة الصغيرة من الحلي. شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 426. (¬6) خواتيمهن: جمع خاتم وفيه ست لغات، والفتخ: الخواتيم العظام، وقيل: هي خواتيم لا فصوص لها، الإعلام بفوائد عمدة الأحكام لابن الملقن، 4/ 342. (¬7) متفق عليه: البخاري، كتاب العيدين، باب موعظة الإمام النساء يوم العيد، برقم 978، ومسلم، كتاب صلاة العيدين، باب صلاة العيدين، برقم 4 - (885). (¬8) مسلم، كتاب الإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان، برقم 49.

((شهدت (¬1) العيد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، وعمر، وعثمان - رضي الله عنهم -، فكلهم كانوا يصلون قبل الخطبة)) (¬2). وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما يصلون العيدين قبل الخطبة)) (¬3). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((وجملته أن خطبتي العيدين بعد الصلاة، لا نعلم فيه خلافاً بين المسلمين، إلا عن بني أمية ... ولا يعتد بخلاف بني أمية؛ لأنه مسبوق بالإجماع الذي كان قبلهم، ومخالف لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة، وقد أُنكِرَ عليهم فعلهم، وعُدَّ بدعة، ومخالفاً للسنة)) (¬4). وخطبة العيد تبدأ بالحمد (¬5) قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((وكان - صلى الله عليه وسلم - يفتتح خطبه كلها بالحمد لله، ولم يحفظ عنه في حديث واحد أنه كان يفتتح خطبتي العيدين بالتكبير ... )) (¬6). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((لم ينقل أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه افتتح خطبة بغير الحمد (¬7): لا خطبة عيد، ولا خطبة ¬

(¬1) شهدت: حضرت. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب العيدين، باب الخطبة بعد العيد، برقم 962، ومسلم، كتاب صلاة العيدين، باب كتاب صلاة العيدين، برقم 884. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب العيدين، باب الخطبة بعد العيد، برقم 963، ومسلم، كتاب صلاة العيدين، باب كتاب صلاة العيدين، برقم 888. (¬4) المغني، 3/ 276. (¬5) وقيل يبدأ بالتكبير؛ لحديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: ((السنة التكبير على المنبر يوم العيد، يبتدئ خطبته الأولى بتسع تكبيرات قبل أن يخطب، ويبدأ الآخرة بسبع)) [أخرجه عبد الرزاق، برقم5672 - 5674،وابن أبي شيبة،2/ 190، والبيهقي، 3/ 299، وعبيد الله من التابعين. وعن عمار بن سعد مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكبّر بين أضعاف الخطبة، يكثر التكبير في خطبة العيدين)) [ابن ماجه، برقم 1287، والحاكم، 3/ 607، والبيهقي، 3/ 299، وضعفه الألباني في إرواء الغليل، 3/ 120، لضعف عبد الرحمن بن سعد، وأبوه وجده لا يعرف حالهم. وانظر: ضعيف ابن ماجه، ص95. (¬6) زاد المعاد، 1/ 447. (¬7) قال ابن القيم: ((وقد اختلف الناس في افتتاح خطبة العيدين، والاستسقاء، فقيل: يفتتحان بالتكبير، وقيل: تفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار، وقيل: يفتتحان بالحمد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهو الصواب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أجذم)). [أحمد، برقم 8697،وأبو داود، برقم 4840، وابن ماجه، برقم 1894، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود، ص394،برقم 4840]،وكان يفتتح خطبه كلها بالحمد)). زاد المعاد، 1/ 448.

استسقاء، ولا غير ذلك)) (¬1). ودلت السنة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب يوم العيد على مكان مرتفع؛ لحديث جابر - رضي الله عنه - وفيه: ((قام النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفطر، فصلى، فبدأ بالصلاة، ثم خطب، فلما فرغ نزل فأتى النساء فذكرهن ... )) (¬2). قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((ولا ريب أن المنبر لم يكن يخرج من المسجد، وأول من أخرجه مروان بن الحكم، فأُنكر عليه، وأما منبر اللبن والطين فأول من بناه كثير بن الصلت في إمارة مروان على المدينة، فلعله - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم في المصلى إلى مكان مرتفع، أو دكان، وهي التي تسمى مصطبة، ثم ينحدر منه إلى النساء فيقف عليهن، فيخطبهن، فيعظهن، ويذكرهن، والله أعلم (¬3). وعن أبي كامل الأحمسي - رضي الله عنه - قال: ((رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب على ناقة، وحبشيٌّ آخذ بخطام الناقة)) (¬4). ورخّص النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن شهد العيد أن يجلس للخطبة، وأن يذهب (¬5)؛ لحديث عبد الله بن السائب - رضي الله عنه - قال: ((شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العيد فلما قضى الصلاة قال: ((إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب)) (¬6). قال الإمام ابن قدامة رحمه ¬

(¬1) مجموع فتاوى ابن تيمية، 22/ 393. (¬2) متفق عليه: البخاري برقم 978، ومسلم، برقم 885، وتقدم تخريجه. (¬3) زاد المعاد، 1/ 447. (¬4) النسائي، كتاب صلاة العيدين، باب الخطبة على البعير، برقم 1572، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلوات، باب ما جاء في الخطبة في العيدين، برقم 1284، وحسنه الألباني في صحيح النسائي، برقم 1572. (¬5) زاد المعاد، 1/ 448. (¬6) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الجلوس للخطبة، برقم 1155،والنسائي، كتاب صلاة العيدين، باب التخيير بين الجلوس في الخطبة للعيدين، برقم 1570، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلوات، باب ما جاء في انتظار الخطبة بعد الصلاة، برقم 1290، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 510،وفي المواضع السابقة كلها وغيرها.

الله: ((والخطبة سنة لا يجب حضورها، ولا استماعها، وإنما أُخّرت عن الصلاة والله أعلم؛ لأنها لما كانت غير واجبة جعلت في وقت يتمكن من أراد تركها مِنْ تَرْكِهَا، بخلاف خطبة الجمعة، والاستماع لها أفضل)) (¬1)، وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب يوم الأضحى بمنى في حجة الوداع على ناقته العضباء (¬2)، وخطب - صلى الله عليه وسلم - بين أوسط أيام التشريق بمنى (¬3)، وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: سمعت خطبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى يوم النحر (¬4). وعن عبد الرحمن بن معاذ التيمي - رضي الله عنه - قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن بمنى ففُتحت أسماعنا، حتى كُنَّا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا، فطفق يعلمهم مناسكهم ... )) (¬5). فظهر في هذه الأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب في منى في حجة الوداع: يوم النحر، ثم خطب أوسط أيام التشريق، ومن أعظم خطبه ما ثبت من حديث أبي بكر - رضي الله عنه - قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر [قعد على بعيره وأمسك إنسان بخطامه، أو بزمامه، ثم قال] ((أتدرون أي يوم هذا))؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: ((أليس يومَ النحر))؟ قلنا: بلى، قال: ((أيّ شهر هذا))؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: ((أليس بذي الحجة))؟ قلنا: بلى، قال: ((أيّ بلد هذا))؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: ((أليست بالبلدة الحرام))؟ قلنا: بلى، قال: ((فإن ¬

(¬1) المغني، 3/ 279، وانظر: المقنع مع الشرح الكبير والإنصاف، 5/ 351 - 358. (¬2) أبو داود، كتاب المناسك، باب من قال خطب يوم النحر، برقم 1954، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود،1/ 549، وأخرجه أحمد أيضاً،3/ 485. (¬3) أبو داود، كتاب المناسك، باب أي يوم خطب بمنى، برقم 952، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود،1/ 548. (¬4) سنن أبي داود، كتاب المناسك، باب من قال خطب يوم النحر، برقم 1955، وصححه الألباني في صحيح أبي داود،1/ 549. (¬5) أبو داود، كتاب المناسك، باب ما يذكر الإمام بخطبته في منى، برقم 1957، وصححه الألباني في صحيح أبي داود،1/ 549.

تاسعا: التكبير أيام العيد نوعان على النحو الآتي:

دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، وأبشاركم، عليكم حرام: كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلّغت))؟ قالوا: نعم، قال: ((اللهم اشهد، فليبلّغ الشاهدُ الغائبَ، فرُبَّ مبلَّغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)).وفي لفظ: ((وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم)) (¬1). تاسعاً: التكبير أيام العيد نوعان على النحو الآتي: النوع الأول: التكبير المطلق، وهو الذي لا يتقيد بأدبار الصلوات، بل يشرع في كل وقت: وهو في عيد الفطر، وعيد الأضحى، والذي ينبغي معرفته عن التكبير المطلق في العيدين: وقته، وصفته، وذلك على النحو الآتي: 1 - وقت التكبير المطلق في عيد الفطر، وعيد الأضحى على النحو الآتي: أ - يبتدئ التكبير المطلق في عيد الفطر من غروب الشمس آخر يوم من رمضان: إما بإكمال ثلاثين يوماً، وإما برؤية هلال شوال، فإذا غربت شمس آخر يوم من رمضان شرع التكبير المطلق، لقول الله تعالى: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ الله عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬2) ويستمر في التكبير من غروب الشمس إلى أن يفرغ الإمام من الخطبة (¬3). ¬

(¬1) البخاري، كتاب العلم، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((رب مبلغ أوعى من سامع))، برقم 67، وكتاب الحج، باب الخطبة أيام منى، برقم 1741،وكتاب الفتن، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض))،برقم 7078،وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ*إِلَى رَبّهَا نَاظِرَةٌ}، برقم 7447. (¬2) سورة البقرة، الآية: 185. (¬3) فقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يخرج يوم الفطر فيكبر حتى يأتي المصلى وحتى يقضي صلاته، فإذا قضى الصلاة قطع التكبير، [ابن أبي شيبة في المصنف، والمحامي في كتاب صلاة العيدين، وتقدم تخريجه في التكبير في الطريق إلى مصلى العيد]. قال المرداوي في الإنصاف لمعرفة الراجح من الخلاف، 5/ 366 - 367: ((ويستحب التكبير في ليلتي العيدين، أما ليلة عيد الفطر فيسن التكبير فيها بلا نزاع أعلمه، ونص عليه، ويستحب أيضاً أن يكبر من الخروج إليها إلى فراغ الخطبة على الصحيح من المذهب وعليه أكثر الأصحاب، منهم القاضي وأصحابه، وهو من المفردات، وعنه إلى خروج الإمام إلى صلاة العيد، وقيل إلى سلامه، وعنه إلى وصول المصلّي إلى المصلَّى، وإن لم يخرج الإمام)).قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: ((ويسن التكبير المطلق في عشر ذي الحجة، وتبتدئ من دخول شهر ذي الحجة إلى آخر اليوم التاسع، وسميت عشراً وهي تسع من باب التغليب، فالمطلق في ليلتي العيدين من غروب الشمس إلى أن ينتهي الإمام من خطبته على مذهب الحنابلة، أو إلى خروج الإمام من البلد، فإذا رأوه سكتوا، أو إلى أن تبتدئ الصلاة أو إلى أن تنتهي الصلاة، والخلاف في هذا أمره سهل، ومعلوم أن الإمام إذا حضر سيشرع في الصلاة وينقطع كل شيء، وإذا انتهى من الصلاة سيشرع في الخطبة))،الشرح الممتع، 5/ 215.

ب - يبتدئ التكبير المطلق في عيد الأضحى من أول عشر ذي الحجة إلى آخر يوم من أيام التشريق

ب - يبتدئ التكبير المطلق في عيد الأضحى من أول عشر ذي الحجة إلى آخر يوم من أيام التشريق: في جميع الأوقات، في الليل، والنهار، والطريق، والأسواق، والمساجد، والمنازل، وفي كل موضع يجوز فيه ذكر الله تعالى؛ لقول الله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ الله فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مّن بَهِيمَةِ الأنعام فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (¬1)، وقول الله - عز وجل -: {وَاذْكُرُواْ الله فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} (¬2)، قال ابن عباس رضي الله عنهما: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ الله فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ}: أيام العشر، والأيام المعدودات: أيام التشريق)) (¬3). وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((الأيام المعلومات التي قبل يوم التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة، والمعدودات أيام التشريق)) (¬4)؛ ولحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه من العمل فيهن، من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن: من التهليل، والتكبير، والتحميد)) (¬5)؛ ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر)) فقالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه ¬

(¬1) سورة الحج، الآية: 28. (¬2) سورة البقرة، الآية: 203. (¬3) البخاري، كتاب العيدين، باب فضل العمل في أيام التشريق، قبل الحديث رقم 969 بصيغة الجزم، وقال النووي في شرح المذهب،8/ 382: ((رواه البيهقي بإسناد صحيح)). (¬4) ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري،2/ 458،وعزاه إلى ابن مردويه، وقال: ((إسناده صحيح)). (¬5) أخرجه أحمد، برقم 5446،ورقم 6154،وقال أحمد شاكر في شرحه للمسند،7/ 224: ((إسناده صحيح)).

2 - صفة التكبير جاء في آثار عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنواع متعددة:

وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)) (¬1). وقال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: ((وكان ابن عمر، وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما، ويكبر محمد بن علي خلف النافلة)) (¬2)،وقال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: ((وكان عمر - رضي الله عنه - يكبر في قبته بمنى، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتجّ منى تكبيراً، وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام، وخلف الصلوات، وعلى فراشه، وفي فُسطاطه، ومجلسه، وممشاه تلك الأيام جميعاً، وكانت ميمونة تكبر يوم النحر، وكنَّ النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد)) (¬3).وعن أم عطية رضي الله عنها قالت: كنا نؤمر أن نَخرج يوم العيد حتى نُخرج البكر من خدرها، حتى نُخرج الحيّض، فيكنّ خلف الناس فيُكبرن بتكبيرهم، ويدعون بدعائهم، يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته)) (¬4)؛ ولحديث نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أيام التشريق أيام أكل وشرب [وذكر لله])) (¬5). قال الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله: ((أما التكبير في الأضحى فمشروع من أول الشهر إلى نهاية اليوم الثالث من شهر ذي الحجة)) ثم ذكر آية البقرة والحج والأحاديث والآثار السابقة (¬6). 2 - صفة التكبير جاء في آثارٍ عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنواع متعددة منها ما يلي: ¬

(¬1) البخاري، كتاب العيدين، باب فضل العمل في أيام التشريق، برقم 969،واللفظ للترمذي، برقم 757. (¬2) البخاري، كتاب العيدين، باب فضل العمل في أيام التشريق، قبل الحديث رقم 969. وقال الحافظ في الفتح، 2/ 458 في أثر محمد بن علي: ((وقد وصله الدارقطني ... قال حدثنا أبو هنة رزيق المدني، قال: رأيت أبا جعفر محمد بن علي يكبر بمنى في أيام التشريق خلف النوافل)). (¬3) البخاري، كتاب العيدين، باب التكبير أيام منى وإذا غدا إلى عرفة، قبل الحديث رقم 970. (¬4) البخاري، كتاب العيدين، باب التكبير أيام منى وإذا غدا إلى عرفة، الحديث رقم 971. (¬5) مسلم، كتاب الصوم، باب تحريم صوم أيام التشريق، وبيان أنها أيام أكل وشرب وذكر لله - عز وجل -، برقم 1141. (¬6) مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 18.

أ - كان عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يقول: ((الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد)) (¬1). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((وهذا قول: عمر، وعلي، وابن مسعود، وبه قال الثوري، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وابن المبارك إلا أنه زاد: على ما هدانا، لقوله: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ الله عَلَى مَا هَدَاكُمْ} (¬2). ب - وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: ((الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر وأجل، الله أكبر على ما هدانا)) (¬3). ج - وكان سلمان - رضي الله عنه - يقول: ((الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيراً)) (¬4). د - وكان عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يقول: ((الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد)) (¬5). قال الإمام الصنعاني رحمه الله: ((وفي الشرح صفات كثيرة عن عدة من الأئمة وهو يدل على التوسعة في الأمر؛ وإطلاق الآية يقتضي ذلك)) (¬6) والله - عز وجل - أعلم (¬7). ¬

(¬1) ابن أبي شيبة، 2/ 168، قال العلامة الألباني في إرواء الغليل، 3/ 125: ((وإسناده صحيح)). وقال: ((ولكنه ذكره في مكان آخر بالسند نفسه بتثليث التكبير)). (¬2) المغني، 3/ 290، قال: وقال مالك، والشافعي، يقول: ((الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر؛ لأن جابراً صلى في أيام التشريق، فلما فرغ من صلاته قال: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ... ولنا خبر جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو نص في كيفية التكبير، وأنه قول الخليفتين الراشدين، وقول ابن مسعود)) المغني لابن قدامة، 3/ 290. (¬3) البيهقي في السنن الكبرى،3/ 315، قال العلامة الألباني في إرواء الغليل، 3/ 125: ((وسنده صحيح أيضاً)). (¬4) ذكره ابن حجر في فتح الباري، 2/ 462 فقال: ((وأما صيغة التكبير فأصح ما ورد فيه: ما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن سلمان، قال: كبروا الله: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيراً))، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى، 3/ 316، ولكنه بلفظ: ((كبروا: الله أكبر، الله أكبر كبيراً)). (¬5) مصنف ابن أبي شيبة، 2/ 165. (¬6) سبل السلام، 3/ 247. (¬7) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((وأما صيغة التكبير فأصح ما ورد فيه ما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن سلمان قال: ((كبروا الله: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيراً)) ونقل عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وعبد الرحمن بن أبي ليلى أخرجه جعفر الفريابي في كتاب العيدين، من طريق يزيد ابن أبي زياد عنهم، وهو قول الشافعي، وزاد ((ولله الحمد)). وقيل يكبر ثلاثاً، ويزيد: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلخ)) وقيل: يكبر ثنتين بعدهما: لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، جاء ذلك عن عمر، وعن ابن مسعود نحوه، وبه قال أحمد، وإسحاق، وقد أحدث في هذا الزمان زيادة في ذلك لا أصل لها)) [فتح الباري، 2/ 462]، وذكر العلامة ابن عثيمين رحمه الله أن صفة التكبير فيها ثلاثة أقوال لأهل العلم: الأول: أنه شفع: ((الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد)). الثاني: أنه وتر: ((الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد)). الثالث: أنه وتر في الأولى شفع في الثانية: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد)). الشرح الممتع، 5/ 225، وانظر: المغني لابن قدامة، 3/ 290، والإعلام بفوائد عمدة الأحكام، لابن الملقن، 4/ 262.

النوع الثاني: التكبير المقيد

النوع الثاني التكبير المقيَّد: وهو الذي يُقيَّد بأدبار الصلوات في عيد الأضحى خاصة، ووقته، وصفته على النحو الآتي: 1 - يبتدئ التكبير المقيَّد من عقب صلاة الفجر يوم عرفة، وينتهي بعد صلاة العصر في اليوم الثالث من أيام التشريق؛ لما ورد عن علي بن أبي طالب الخليفة الرابع من الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم -: ((أنه كان يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق، ويكبر بعد العصر)) (¬1)، ولما ورد عن عمر الخليفة الراشد - رضي الله عنه -: ((أنه كان يكبر من صلاة الغداة يوم عرفة إلى صلاة الظهر من آخر أيام التشريق)) (¬2)، ولما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما ((أنه كان يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق، لا يكبر في المغرب)) (¬3). ولما ورد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه كان: ((يكبر من صلاة الصبح يوم عرفة إلى صلاة العصر ¬

(¬1) مصنف ابن أبي شيبة،2/ 165،والحاكم وصححه،299،والبيهقي،3/ 314،وصححه النووي في المجموع 5/ 35، وقال الألباني في إرواء الغليل،3/ 125: ((وقد صح عن علي - رضي الله عنه -)). (¬2) ابن أبي شيبة، 2/ 166، والبيهقي في السنن الكبرى، 3/ 314، وفيه الحجاج بن أرطأة، وقد صححه الحاكم، 1/ 299، وصححه النووي في المجموع، 3/ 35، وقال الألباني في إرواء الغليل، 3/ 125: ((وسنده صحيح)). (¬3) ابن أبي شيبة، 2/ 167، والبيهقي، 3/ 314، والحاكم وصححه، 1/ 299، وصححه النووي في المجموع، 3/ 35، وقال الألباني في إرواء الغليل، 3/ 125: ((وسنده صحيح)).

من آخر أيام التشريق)) (¬1). وفي الباب آثار كثيرة عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2) والله أعلم (¬3). قال الحاكم رحمه الله: ((فأما من فِعْلِ عمر، وعلي، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، فصحَّ عنهم التكبير، من غداة عرفة، إلى آخر أيام التشريق)) (¬4).وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((وأصح ¬

(¬1) الحاكم وصححه،1/ 299 - 300،واللفظ له، وصححه النووي في المجموع،5/ 35، وابن أبي شيبة، 2/ 166، ولكن بلفظ: (( ... إلى صلاة العصر من يوم النحر)). (¬2) فقد جاء عن جابر مرفوعاً: في الدارقطني، 2/ 49، والبيهقي، 3/ 315، ولكن فيه كلام، انظر: إرواء الغليل للألباني 3/ 124، وجاء عن زيد بن ثابت، عند ابن أبي شيبة، 2/ 166، وعن عمار عند الحاكم، 1/ 299، وصححه، وضعفه النووي في المجموع، 3/ 35. (¬3) قال الإمام النووي رحمه الله: ((أما التكبير بعد الصلاة في عيد الأضحى فاختلف علماء السلف ومن بعدهم فيه على نحو عشرة مذاهب، هل ابتداؤه: من صبح يوم عرفة، أو ظهره، أو صبح يوم النحر، أو ظهره، وهل انتهاؤه: في ظهر يوم النحر [وقيل إلى عصره] أو ظهر أول أيام النفر، أو في صبح آخر أيام التشريق، أو ظهره، أو عصره، واختار مالك والشافعي وجماعة: ابتداؤه من يوم النحر، وانتهاؤه صبح آخر أيام التشريق، وللشافعي قول إلى العصر من آخر أيام التشريق، وقول إنه من صبح يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، وهو الراجح عند جماعة من أصحابنا وعليه العمل في الأمصار)). شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 430، وما بين المعقوفين من فتح الباري لابن حجر، 2/ 462، نقلاً عن غير النووي. وقال الإمام ابن الملقن في الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، 4/ 259: ((وأما التكبير بعد الصلوات وغيرها: ففي عيد الفطر لا يسن عقب صلوات ليلته على الأصح، وفي عيد الأضحى اختلف علماء السلف)). ثم ساق كلام النووي. ثم قال: ((فرع: مذهب مالك، والشافعي، وجماعة من أهل العلم استحباب هذا التكبير: للمنفرد، والجماعة، والرجال، والنساء، والمقيم، والمسافر، وقال أبو حنيفة والثوري، وأحمد: إنما يلزم جماعات الرجال، ثم قال: ((فرع: اختلفوا في التكبير عقب النوافل: فالأصح عند الشافعي أنه يكبر، وقال مالك في المشهور عنه: لا يكبر، وهو قول الثوري، وأحمد وإسحاق)) ا. هـ. وقال الحافظ ابن حجر بعد ذكره للآثار عن الصحابة وغيرهم في التكبير المقيد بأدبار الصلوات: ((وقد اشتملت هذه الآثار على وجود التكبير في تلك الأيام عقب الصلوات، ومنهم من خص ذلك بالمكتوبات دون النوافل، ومنهم من خصه بالرجال دون النساء، وبالجماعة دون المنفرد، وبالمؤداة دون المقضية، وبالمقيم دون المسافر، وبساكن المصر دون القرية، وظاهر اختيار البخاري شمول ذلك للجميع، والآثار التي ذكرها تساعده)) فتح الباري شرح صحيح البخاري، 2/ 462، وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين: ((وإذا رأيت اختلاف العلماء بدون أن يذكروا نصّاً فاصلاً فإن الأمر في هذه المسألة واسع، فإن كبّر بعد صلاته منفرداً فلا حرج عليه، وإن ترك التكبير ولو في الجماعة فلا حرج عليه؛ لأن الأمر واسع)). الشرح الممتع لابن عثيمين، 5/ 218. وانظر: المغني لابن قدامة،3/ 291،والمقنع مع الشرح الكبير والإنصاف،5/ 366 - 380،وشرح السنة للإمام البغوي، 4/ 300، وزاد المعاد لابن القيم، 1/ 449، والكافي لابن قدامة، 1/ 524. (¬4) مستدرك الحاكم، 1/ 299.

ما ورد فيه عن الصحابة: قول علي، وابن مسعود، إنه من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام منى. أخرجه ابن المنذر وغيره، والله أعلم)) (¬1).وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((أصح الأقوال في التكبير الذي عليه جمهور السلف والفقهاء من الصحابة والأئمة: أن يكبر من فجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق عقب كل صلاة. ويشرع لكل أحد أن يكبر عند الخروج إلى العيد وهذا باتفاق الأئمة الأربعة)) (¬2). وقال شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله: ((وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم -: التكبير في أدبار الصلوات الخمس من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من يوم الثالث عشر من ذي الحجة، وهذا في حق غير الحاج، أما الحاج فيشتغل في حال إحرامه بالتلبية حتى يرمي جمرة العقبة يوم النحر، وبعد ذلك يشتغل بالتكبير عند أول حصاة من الجمرة المذكورة، وإن كبر مع التلبية فلا بأس، لقول أنس - رضي الله عنه -: ((كان يلبي الملبي فلا ينكر عليه، ويكبر المكبر فلا ينكر عليه)) (¬3)، ولكن الأفضل في حق المحرم هو التلبية وفي حق الحلال هو التكبير في الأيام المذكورة، وبهذا تعلم أن التكبير المطلق والمقيد يجتمعان في أصح أقوال العلماء في خمسة أيام، وهي: يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق الثلاثة، وأما اليوم الثامن وما قبله إلى أول الشهر فالتكبير فيه مطلق لا مقيد، لما تقدم من الآية والآثار)) (¬4). وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((وأما المحرمون فإنهم يكبرون من صلاة الظهر يوم النحر ... لأنهم كانوا مشغولين قبل ذلك بالتلبية ¬

(¬1) فتح الباري، 2/ 462. (¬2) مجموع فتاوى ابن تيمية، 24/ 220. (¬3) البخاري، كتاب العيدين، باب التكبير أيام منى وإذا غدا إلى عرفة، برقم 970. (¬4) مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 18 - 19.

2 - صفة التكبير المقيد: هو مثل التكبير المطلق كما تقدم

وغيرهم يبتدئ من يوم عرفة لعدم المانع)) (¬1). 2 - صفة التكبير المقيد: هو مثل التكبير المطلق كما تقدم (¬2): ((الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد)) (¬3)، وهو قول الخليفتين الراشدين: عمر بن الخطاب، وعلي، وقول ابن مسعود - رضي الله عنهم -، وبه قال الثوري، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق رحمهم الله تعالى (¬4). عاشراً: اجتماع العيد والجمعة في يوم واحد: إذا وافق يوم عيد يوم الجمعة حضر الإمام ومن شاء من الناس، وصلى بهم؛ لحديث إياس بن أبي رملة الشامي، قال: شهدت معاوية بن أبي سفيان وهو يسأل زيد بن أرقم، قال: أشهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عيدين اجتمعا في يوم؟ قال: نعم، قال: فكيف صنع؟ قال: صلى العيد ثم رخص في الجمعة، فقال: ((من شاء أن يصلي فليصلّ)) (¬5)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((قد اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإنا مجمّعون)) (¬6)؛ ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ¬

(¬1) المغني لابن قدامة، 3/ 289. (¬2) تقدم في صفة التكبير المطلق أنه جاء عن الصحابة - رضي الله عنهم - أنواع من التكبير. فانظرها قبل صفحات. (¬3) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((وصفة التكبير المنقول عن أكثر الصحابة: قد روي مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد)) وإن قال الله أكبر ثلاثاً جاز، ومن الفقهاء من يكبر ثلاثاً فقط، ومنهم من يكبر ثلاثاً ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير))، مجموع فتاوى ابن تيمية، 24/ 220. (¬4) انظر: المغني لابن قدامة،3/ 290،والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، 5/ 380، وتقدمت أقوال الأئمة في أنواع التكبير في التكبير المطلق. (¬5) أبو داود، كتاب الصلاة، باب إذا وافق يوم الجمعة يوم عيد، برقم 170، النسائي، كتاب صلاة العيدين، باب الرخصة في التخلف عن الجمعة لمن شهد العيد، برقم 1590، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلوات، باب ما جاء فيما إذا اجتمع العيدان في يوم، برقم 1310،وأحمد،4/ 372، والحاكم، 1/ 288، وصححه ووافقه الذهبي، وصححه ابن خزيمة في صحيحه، 2/ 359، برقم 1464، وصححه ابن المديني كما في تلخيص الحبير، 2/ 88، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 295، وصحيح النسائي، 1/ 516، وصحيح ابن ماجه، 1/ 392. (¬6) أبو داود، كتاب الصلاة، باب إذا وافق يوم الجمعة يوم عيد، برقم 1073، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 296.

الحادي عشر: زكاة الفطر لها أحكام وآداب على النحو الآتي:

((اجتمع عيدان في يومكم هذا فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمّعون (¬1) إن شاء الله)) (¬2)؛ ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((اجتمع عيدان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى بالناس ثم قال: ((من شاء أن يأتي الجمعة فليأتها، ومن شاء أن يتخلّف فليتخلّف)) (¬3). وهذه الأحاديث تدل على أن صلاة الجمعة بعد صلاة العيد تصير رخصة: يجوز فعلها وتركها، وهو خاص بمن صلى العيد دون من لم يصلها، ومن لم يحضر صلاة الجمعة، فإنه يصلي ظهراً؛ لأن الظهر هي الفرض الأصلي المفروض ليلة الإسراء، والجمعة متأخر فرضها، ثم إن الجمعة إذا فاتت في غير يوم العيد وجبت صلاة الظهر إجماعاً فهي البدل عنها (¬4). أما الإمام فلا تسقط عنه على الصحيح؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وإنا مجمّعون))؛ ولأنه لو تركها لامتنع فعل الجمعة في حق من تجب عليه، ومن يريدها، بخلاف غيره من الناس)) (¬5). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله يقول عن حديث زيد بن أرقم: إنه ((يدل على أنه لا بأس أن يترك الجمعة من حضر صلاة العيد، لكن يصلي ظهراً، ومن قال: لا يصلي ظهراً، فقد غلط، وهو كالإجماع من أهل العلم)) (¬6). الحادي عشر: زكاة الفطر لها أحكام وآداب على النحو الآتي: 1 - زكاة الفطر فرض على كل مسلم فضل عنده يوم العيد وليلته ¬

(¬1) وإنا مجمعون: أي مصلون الجمعة. (¬2) ابن ماجه، كتاب إقامة الصلوات، باب ما جاء فيما إذا اجتمع العيدان في يوم برقم 1311، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 392. (¬3) ابن ماجه، كتاب إقامة الصلوات، باب ما جاء فيما إذا اجتمع العيدان في يوم، برقم 1313، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 392. (¬4) انظر: سبل السلام للصنعاني، 3/ 179 - 180 بتصرف يسير. (¬5) المغني لابن قدامة، 3/ 243. (¬6) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 483.وانظر: المغني لابن قدامة،3/ 243.

2 - وقت إخراج زكاة الفطر

صاع من طعام عن قوته وقوت أهل بيته الذين تجب نفقتهم عليه؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر من رمضان على كل نفسٍ من المسلمين: حُرٍّ أو عبد، أو رجل، أو امرأة، صغيرٍ، أو كبيرٍ، صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير)) وهذا لفظ مسلم في رواية، ولفظ البخاري: ((فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، على العبد، والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تُؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة)). وفي لفظ للبخاري عن نافع عن ابن عمر: ((فرض النبي - صلى الله عليه وسلم - صدقة الفطر - أو قال: رمضان - على الذكر والأنثى والحر والمملوك: صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، فعدل الناس به نصف صاع من برٍّ، فكان ابن عمر يعطي التمر فأعوز أهل المدينة من التمر فأعطى شعيراً، فكان ابن عمر يعطي عن الصغير والكبير، حتى إن كان يعطي بنيَّ، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يعطيها للذين يقبلونها، وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين)) (¬1). ويستحب إخراج زكاة الفطر عن الحمل؛ لفعل عثمان - رضي الله عنه -)) (¬2). 2 - وقت إخراج زكاة الفطر، وقَّت النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت إخراج زكاة الفطر في حديث ابن عمر السابق بقول ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة)) (¬3). أي صلاة العيد. وفي رواية عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين)) (¬4)؛ ولكن الأفضل أن ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الزكاة، باب فرض صدقة الفطر، برقم 1503، وباب صدقة الفطر على الحر والمملوك، برقم 1511، ومسلم، كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر على المسلمين، برقم 16 - (984). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة 3/ 219، وأخرجه عبد الله بن أحمد في مسألة 644، عن حميد وقتادة: ((أن عثمان كان يعطي صدقة الفطر عن الصغير والكبير والحمل)). وأخرج ابن أبي شيبة 3/ 419،وعبد الرزاق 788 عن أبي قلابة قال: ((كانوا يعطون صدقة الفطر، حتى يعطوا عن الحبل))،وفي رواية لأحمد أن زكاة الفطر عن الحمل تجب. الشرح الكبير، 7/ 96،وانظر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء،9/ 366. (¬3) متفق عليه، وتقدم تخريجه في الذي قبله. (¬4) البخاري، برقم 1511، وتقدم تخريجه في الهامش الذي قبل السابق.

3 - مقدار زكاة الفطر وأنواعها

تخرج يوم العيد قبل الصلاة؛ لسدّ حاجة الفقراء يوم العيد، وإغنائهم يوم العيد عن المسألة. ولا يجوز تأخيرها بعد الصلاة؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر طُهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي صدقة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات)) (¬1). ولكن زكاة الفطر لا تجب إلا بغروب شمس آخر يوم من رمضان: فمن أسلم بعد الغروب، أو تزوج، أو ولد له ولد، أو مات قبل الغروب لم تلزم فطرتهم (¬2). 3 - مقدار زكاة الفطر وأنواعها: هو صاع من قوت البلد الذي يأكله الناس، وقد ثبت في حديث ابن عمر رضي الله عنهما الذي ذكرته آنفاً أنه قال: ((فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير ... )). وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه كان يقول: ((كنا نُخرج زكاة الفطر: صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من زبيب)). وفي لفظ للبخاري: ((كنا نُعطيها في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - ... )). وفي لفظ لمسلم: ((كنا نُخرج إذ كان فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر عن كل صغير، وكبير، حرٍّ أو مملوك: صاعاً من طعام، أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من شعير، أو ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر، برقم 1609، وابن ماجه، كتاب الزكاة، باب صدقة الفطر، برقم 1827، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، برقم 1609، وصحيح ابن ماجه، برقم 1854، وإرواء الغليل، برقم 843. (¬2) انظر: الكافي لابن قدامة، 1/ 170، والروض المربع، وقال الإمام النووي: ((قوله: من رمضان)) إشارة إلى وقت وجوبها وفيه خلاف للعلماء: فالصحيح من قول الشافعي أنها تجب بغروب الشمس ودخول أول جزء من ليلة عيد الفطر. والثاني تجب لطلوع الفجر ليلة العيد، وقال أصحابنا: تجب بالغروب والطلوع معاً، فإن ولد بعد الغروب أو مات قبل الطلوع لم تجب، وعن مالك روايتان: كالقولين، وعند أبي حنيفة تجب بطلوع الفجر)) شرح النووي على صحيح مسلم، 7/ 63، وانظر: المقنع والشرح الكبير مع الإنصاف، 7/ 113.

صاعاً من تمر، أو صاعاً من زبيب، فلم نزل نخرجه حتى قدم علينا معاوية بن أبي سفيان حاجّاً أو معتمراً فكلم الناس على المنبر فكان فيما كلم به الناس أن قال: إني أرى مدين من سمراء الشام تعدل صاعاً من تمر، فأخذ الناس بذلك، قال أبو سعيد: فأما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه أبداً ما عشت)) (¬1). وفي لفظ ابن ماجه قال أبو سعيد: ((لا أزال أخرجه كما كنت أخرجه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبداً ما عشت)) (¬2). وفي حديث أبي سعيد زيادات لم أذكرها؛ لأن فيها نظراً (¬3)، أما رأي معاوية - رضي الله عنه - في أن البر يعدل المدّ منه المدَّين من غيره فيجزئ نصف صاع، فقال عنه الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((حديث أبي سعيد دال على أنه لم يوافق على ذلك، وكذلك ابن عمر، فلا إجماع في المسألة خلافاً للطحاوي، وكأن الأشياء التي ثبت ذكرها في حديث أبي سعيد لما كانت متساوية في مقدار ما يخرج منها مع ما يخالفها في القيمة دل على أن المراد إخراج هذا المقدار من أي جنسٍ كان ولا فرق بين الحنطة وغيرها، وهذه حجة الشافعي ومن تبعه. وأما من جعله نصف صاع منها بدل صاع من شعير فقد فعل ذلك بالاجتهاد)) (¬4). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الزكاة، باب صدقة الفطر صاع من طعام، برقم 1506، وباب صاع من زبيب، برقم 1508، ومسلم، كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر على المسلمين، برقم 985. (¬2) ابن ماجه، كتاب الزكاة، باب صدقة الفطر، برقم 1829. (¬3) من ذلك الحنطة، قال الحافظ بعد ذكره لزيادة الحنطة عند الحاكم وابن خزيمة: ((قال ابن خزيمة: ((ذكر الحنطة في خبر أبي سعيد غير محفوظ ولا أدري ممن الوهم ... )) ثم نقل الحافظ أن أبا داود أشار إلى أن ذكر الحنطة في خبر أبي سعيد غير محفوظ، وذكر أن معاوية بن هشام روى في هذا الحديث: نصف صاع من بر، وهو وهم وأن ابن عيينة حدث به عن ابن عجلان عن عياض فزاد فيه: ((أو صاعاً من دقيق)) وأنهم أنكروا عليه فتركه، قال أبو داود [القائل ابن حجر] وذكر الدقيق وهم من ابن عيينة)) فتح الباري، 3/ 373. (¬4) فتح الباري، شرح صحيح البخاري، 3/ 374.

وقد قال الإمام النووي رحمه الله: ((قوله: عن معاوية أنه كلم الناس على المنبر فقال: إني أرى أن مدين من سمراء الشام يعدل صاعاً من تمر فأخذ الناس بذلك، قال أبو سعيد: فأما أنا فلا أزال أخرجها كما كنت أخرجها أبداً ما عشت، فقوله سمراء الشام: هي الحنطة وهذا الحديث هو الذي يعتمده أبو حنيفة وموافقوه في جواز نصف صاع حنطة، والجمهور يجيبون عنه بأنه قول صحابي وقد خالفه أبو سعيد وغيره ممن هو أطول صحبة، وأعلم بأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإذا اختلف الصحابة لم يكن قول بعضهم بأولى من بعض، فنرجع إلى دليل آخر. وجدنا ظاهر الأحاديث، والقياس متفقاً على اشتراط الصاع من الحنطة كغيرها، فوجب اعتماده، وقد صرح معاوية بأنه رأيٌ رآه لا أنه سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان عند أحد من حاضري مجلسه مع كثرتهم في تلك اللحظة علم في موافقة معاوية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لذكره)) (¬1). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله يقول فيمن جعل مُدَّين من الحنطة تقوم مقام الصاع من غيرها: ((اجتهد معاوية فجعل عدله مدين، والصواب أنه لابد من صاع أخذاً بالنص؛ ولهذا قال أبو سعيد: أما أنا فلا أخرج إلا صاعاً وهو الصواب كما تقدم (¬2)، والله تعالى أعلم (¬3). ومقدار الصاع الذي تؤدى به زكاة الفطر هو صاع النبي - صلى الله عليه وسلم -،وهو ¬

(¬1) شرح النووي على صحيح مسلم، 7/ 67. (¬2) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 1507، 1508. (¬3) وفي سنن أبي داود، برقم 1620 عن ثعلبة بن صعير قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيباً، فأمر بصدقة الفطر صاع تمر، أو صاع شعير، عن كل رأس. وفي زيادة: ((أو صاع بر أو قمح بين اثنين، عن الكبير والصغير، والحر والعبد)).وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود،1/ 449،وذكر الشوكاني الروايات في نيل الأوطار،3/ 102، التي جاءت في أن نصف الصاع يجزئ، ثم قال: ((وهذه تنهض بمجموعها للتخصيص))، ولكن سماحة شيخنا ابن باز رحمه الله يرى أن جميع الكفارات الإطعام فيها يكون نصف صاع، أما زكاة الفطر فقد حددها النبي - صلى الله عليه وسلم - بصاع.

4 - أهل زكاة الفطر الذين تدفع لهم

خمسة أرطال وثلث بالعراقي (¬1)،وهو أربعة أمداد، والمد ملء كفي الإنسان المعتدل إذا ملأهما ومدَّ يديه بهما، وبه سمي مدّاً، قال الفيروزآبادي: ((وقد جربت ذلك فوجدته صحيحاً)) (¬2)،والصاع أربع حفنات بكفي الرجل الذي ليس بعظيم الكفين ولا صغيرهما، إذ ليس كل مكان يوجد فيه صاع النبي - صلى الله عليه وسلم -،قاله الداوودي (¬3). قال الفيروزآبادي: ((وجربت ذلك فوجدته صحيحاً)) (¬4). 4 - أهل زكاة الفطر الذين تدفع لهم: قيل: تعطى صدقة الفطر لمن يجوز أن يُعطَى صدقة الأموال؛ لأن صدقة الفطر زكاة فكان مصرفها مصرف سائر الزكوات؛ ولأنها صدقة فتدخل في عموم قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ الله وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مّنَ الله وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬5) (¬6). وقيل: لا يجوز دفع زكاة الفطر إلا لمن يستحق الكفارة، فتجري مجرى كفارة اليمين، والظهار، والقتل، والجماع في نهار رمضان، ومجرى كفارة الحج، فتدفع لهؤلاء الآخذين لحاجة أنفسهم، وهم الفقراء والمساكين، ولا يعطى المؤلفة قلوبهم، ولا الرقاب ولا غير ذلك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((وهذا القول أقوى في الدليل)) (¬7). وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - تخصيص ¬

(¬1) الدارقطني، 2/ 151، والبيهقي، 10/ 278، قال الشوكاني في رواية البيهقي: ((بإنساد جيد)). نيل الأوطار، 3/ 104. (¬2) القاموس المحيط، ص407. (¬3) المرجع السابق، ص955. (¬4) القاموس المحيط، ص955، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 11/ 597، وفتاوى اللجنة الدائمة، 9/ 365. (¬5) سورة التوبة، الآية: 60. (¬6) انظر: المغني لابن قدامة، 4/ 314، قال: ((وبهذا قال مالك، والليث، والشافعي، وأبو ثور)) وقال أبو حنيفة: يجوز دفعها إلى من لا يجوز دفع زكاة المال إليه، وإلى الذمي)). (¬7) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 25/ 73.

5 - حكم زكاة الفطر وفوائدها عظيمة من أهمها ما يلي:

المساكين بهذه الصدقة ولم يكن يقسمها على الأصناف الثمانية قبضة قبضة، ولا أمر بذلك، ولا فعله أحد من أصحابه، ولا من بعدهم، بل أحد القولين عندنا: أنه لا يجوز إخراجها إلا على المساكين خاصة وهذا القول أرجح من القول بوجوب قسمتها على الأصناف الثمانية)) (¬1). وقال الشوكاني رحمه الله عن حديث ابن عباس رضي الله عنهما وفيه: ((وطعمة المساكين ... )) (¬2). ((وفيه دليل على أن الفطرة تصرف في المساكين دون غيرهم من مصارف الزكاة)) (¬3). وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في ذكر القولين: ((هناك قولان لأهل العلم: الأول أنها تصرف مصرف بقية الزكوات، حتى المؤلفة قلوبهم والغارمين ... والثاني أن زكاة الفطر مصرفها للفقراء فقط، وهو الصحيح)) (¬4). 5 - حِكَمُ زكاة الفطر وفوائدها عظيمة من أهمها ما يلي: أ - طهرة للصائم من اللغو والرفث، فترفع خلل الصوم، فيكون بذلك تمام السرور. ب - طعمة للمساكين. ج - زكاة للبدن حيث أبقاه الله عاماً من الأعوام وأنعم عليه - سبحانه وتعالى - بالبقاء؛ ولأجله استوى فيه الكبير والصغير، والذكر والأنثى، والغني والفقير، والكامل والناقص في مقدار الواجب وهو الصاع. د - مواساة للمسلمين أغنيائهم وفقرائهم ذلك اليوم فيتفرغ الجميع لعبادة الله تعالى، والسرور بنعمه. ¬

(¬1) زاد المعاد في هدي خير العباد، 2/ 22. (¬2) أبو داود، برقم 1609، وابن ماجه، 1827، وتقدم تخريجه. (¬3) نيل الأوطار للشوكاني، 3/ 103. (¬4) الشرح الممتع، 6/ 184، وانظر: الإنصاف مع الشرح الكبير، 7/ 137.

هـ - شكر نعم الله تعالى على الصائمين بالصيام ولله حكم وأسرار لا تصل إليها عقول العالمين

هـ - شكر نعم الله تعالى على الصائمين بالصيام ولله حكم وأسرار لا تصل إليها عقول العالمين (¬1). الثاني عشر: الأضحية مشروعة ولها أحكام على النحو الآتي: 1 - مفهومها: هي اسم لما يذبح أو ينحر بسبب العيد: من الإبل، والبقر، والغنم: يوم النحر، وأيام التشريق الثلاثة، تقرباً إلى الله تعالى، وسميت بذلك والله أعلم؛ لأن أفضل زمن لذبحها ضحى يوم العيد (¬2). 2 - حكمها: الأضحية مشروعة بالكتاب، والسنة، وإجماع الأمة. فأما الكتاب؛ فلقول الله تعالى: {فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ} (¬3). وأما السنة؛ فلحديث أنس - رضي الله عنه - قال: ((ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين، أملحين (¬4) أقرنين، ذبحهما بيده، وسمى وكبر، ووضع رجله على صفاحهما)). وفي لفظ لمسلم: ويقول: ((باسم الله والله أكبر)). وفي لفظ للبخاري: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يضحي بكبشين، وأنا أضحي بكبشين)) (¬5). وأما الإجماع: فأجمع المسلمون على مشروعية الأضحية (¬6)،والأضحية سنة مؤكدة جداً لا ينبغي تركها لمن يقدر عليها، وعلى هذا أكثر أهل العلم (¬7). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله يقول: ¬

(¬1) إرشاد أولي البصائر والألباب لنيل الفقه بأقرب الطرق وأيسر الأسباب، للشيخ العلامة السعدي، ص134. (¬2) انظر: أحكام الأضاحي، للعلامة محمد بن صالح بن عثيمين، ص5، ومجالس عشر ذي الحجة، للشيخ عبد الله بن صالح الفوزان، ص69. (¬3) سورة الكوثر، الآية: 2. (¬4) الأملح: يقال: كبش أملح: إذا كان بياضه أكثر من سواده، وقيل: هو النقي البياض. جامع الأصول لابن الأثير،3/ 325،وانظر: المغني لابن قدامة،13/ 360. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الأضاحي، باب أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أقرنين، ويذكر سمينين، برقم 5553، ومسلم، كتاب الأضاحي باب استحباب استحسان الأضحية وذبحها مباشرة بلا توكيل، والتسمية والتكبير، برقم 1966. (¬6) المغني لابن قدامة، 13/ 360. (¬7) اختلف العلماء رحمهم الله في حكم الأضحية، فقال قوم: بأنها سنة، وقال آخرون: بالوجوب. قال الإمام ابن قدامة: ((أكثر أهل العلم يرون الأضحية سنة مؤكدة غير واجبة، روي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وأبي مسعود البدري - رضي الله عنهم -، وبه قال سويد بن عقبة، وسعيد بن المسيب، وعلقمة، والأسود، وعطاء، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر. وقال ربيعة، ومالك، والثوري، والأوزاعي، والليث، وأبو حنيفة: هي واجبة؛ لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من كان له سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا)) [أحمد، 2/ 321،وابن ماجه، برقم 3123،وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه،3/ 82]،وعن مخنف بن سليم قال: كنا وقوفاً عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة فقال: ((يا أيها الناس إن على كل أهل بيت في كل عام أضحية ... )) [أحمد، 4/ 215، وأبو داود برقم 2788، والنسائي، برقم 4235،وابن ماجه، برقم 3125، والترمذي، وحسنه برقم 1518،وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه، 3/ 82]، المغني لابن قدامة، 13/ 360 - 361، ومن قال: بأن الأضحية سنة احتجوا بحديث ابن عباس يرفعه: ((ثلاث هن عليّ فرائض وهن لكم تطوع: الوتر، والنحر، وصلاة الضحى)) وفي لفظ الدارقطني: ((وركعتا الفجر)) بدل ((وصلاة الضحى)) رواه أحمد، برقم 2050، والدارقطني، 2/ 21، ونقل أحمد شاكر تضعيف هذا الحديث باللفظين]. واستدل الجمهور أيضاً بحديث أم سلمة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئاً))، وفي لفظ: ((إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره))، وفي لفظ: (( ... فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره شيئاً حتى يضحي)) [مسلم، برقم 1977] فقالوا: علقه على الإرادة، والواجب لا يعلق على الإرادة؛ ولأنها ذبيحة لم يجب تفريق لحمها فلم تكن واجبة كالعقيقة، وردوا على أهل الوجوب بأن حديثهم قد ضُعّف، وقالوا: ((ثم نحمله على تأكيد الاستحباب كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((غسل الجمعة واجب على كل محتلم)) [تقدم تخريجه] المغني لابن قدامة، 13/ 261. ولكن من قال بالوجوب استدلوا أيضاً بحديث في الصحيحين عن جندب بن سفيان البجلي قال: شهدت النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر قال: ((من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى، ومن لم يذبح فليذبح [على اسم الله])) [البخاري، برقم 5562، ومسلم، برقم 1960، وما بين المعقوفين له]، وسمعت شيخنا ابن باز يقول أثناء تقريره على هذا الحديث: ((من ذبح قبل الصلاة فالسنة أن يضحي بأخرى، وإذا صلى الإنسان دخل وقت ضحيته)).

((والضحية سنة، وقال بعض أهل العلم بوجوبها، والذي عليه جمهور أهل العلم أنها سنة مؤكدة لمن قدر لمن كان له سعة، والحجة في ذلك فعله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه كان يضحي كل سنة، فهي سنة من قوله وفعله عليه الصلاة والسلام)) (¬1). والأحوط للمسلم أن لا يترك الضحية إذا كان موسراً له قدرة عليها؛ ¬

(¬1) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام لابن حجر، الحديث رقم 1372، وانظر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، 11/ 394، وروي عن أبي بكر وعمر أنهما كانا لا يضحيان عن أهلهما مخافة أن يُرى ذلك واجباً)). أخرجه البيهقي، 9/ 295، وصححه الألباني في إرواء الغليل، برقم 1139.

3 - ذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها لما يلي:

اتباعاً لسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -: القولية، والفعلية، والتقريرية، وبراءة للذمة، وخروجاً من الخلاف عند من قال بالوجوب (¬1). 3 - ذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها لما يلي: أ - لأن الذبح وإراقة الدم تقرباً لله تعالى عبادة مشتملة على تعظيم الله تعالى، وإظهار شعائر دينه، وإخراج القيمة تعطيل لذلك {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (¬2). ب - ذبح الأضحية وعدم التصدق بثمنها هو هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمل المسلمين، ولم ينقل أحد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تصدق بثمنها، ولا أحد من أصحابه - رضي الله عنهم -. ج - ومما يؤكد أن ذبح الأضحية أفضل من التصدق بثمنها ولو زاد الثمن أن العلماء اختلفوا في وجوبها، وأن القائلين بأنها سنة صَرَّح جمعٌ منهم بأنه يكره تركها للقادر (¬3)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((والأضحية، والعقيقة، والهدي (¬4)، أفضل من الصدقة بثمن ذلك)) (¬5). ¬

(¬1) رجح وجوبها على القادر شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال: ((وأما الأضحية فالأظهر وجوبها فإنها من أعظم شعائر الإسلام، وهي النسك العام في جميع الأمصار، وهي من ملة إبراهيم الذي أمرنا باتباع ملته)). [فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية،23/ 162، وقال: ((تجوز الأضحية عن الميت كما يجوز الحج عنه، أو الصدقة عنه، ويُضحَّى عنه في البيت ولا يُذبح عند القبر أضحية ولا غيرها)) مجموع الفتاوى، 26/ 306]، وذكر العلامة ابن عثيمين أن الأضحية عن الأموات ثلاثة أٌقسام: القسم الأول: أن تكون تبعاً للأحياء كأن يضحي عن نفسه وأهله وفيهم أموات كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. القسم الثاني: أن يضحي عن الميت استقلالاً، فقد نص عليه فقهاء الحنابلة، وبعض العلماء لا يرى ذلك إلا أن يوصي الميت بذلك. القسم الثالث: أن يضحي عن الميت بموجب وصية منه فتنفذ الوصية: أحكام الأضاحي، ص17، واختار شيخ الإسلام أن الأضحية عن الميت أفضل من الصدقة بثمنها. الاختيارات، ص118. (¬2) سورة الأنعام، الآيتان: 162 - 163. (¬3) انظر: أحكام الأضحية، للعلامة ابن عثيمين، ص14 - 16. (¬4) الهدي: أي هدي التطوع. (¬5) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 6/ 304.

4 - إذا دخل شهر ذي الحجة فلا يأخذ من أراد أن يضحي من شعره ولا بشرته شيئا

4 - إذا دخل شهر ذي الحجة فلا يأخذ من أراد أن يضحي من شعره ولا بشرته شيئاً؛ لحديث أم سلمة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره)) وفي لفظ: ((فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره شيئاً حتى يضحي)) (¬1). 5 - يبدأ وقت ذبح الأضحية من بعد صلاة عيد الأضحى؛ لحديث البراء - رضي الله عنه -،قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر، من فعله فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبلُ فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء)) فقام أبو بردة بن دينار - وقد ذبح - فقال: إن عندي جذعة، فقال: ((اذبحها ولن تجزي عن أحد بعدك)) وفي لفظ لمسلم: يا رسول الله إن عندي جذعة من المعز، فقال: ((ضحّ بها ولا تصلح لغيرك)). قال مطرّف عن عامر، عن البراء، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من ذبح بعد الصلاة تمَّ نسكُه وأصاب سنة المسلمين)) (¬2).ولحديث جندب بن سفيان البجلي - رضي الله عنه - قال: ((شهدت النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر، قال: ((من ذبح قبل أن يصلي فليُعِد مكانها أخرى، ومن لم يذبح فليذبح [على اسم الله])) (¬3)؛ ولحديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من ذبح قبل الصلاة فإنما ذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تمَّ نسكُه، وأصاب سنة المسلمين)) (¬4). وآخر وقت ذبح الأضاحي هو غروب شمس اليوم الثالث من أيام ¬

(¬1) مسلم، كتاب الأضاحي، باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة وهو يريد التضحية أن يأخذ من شعره وأظفاره شيئاً، مسلم، برقم 1977. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأضاحي، باب سنة الأضحية، وقال ابن عمر: هي سنة ومعروف، برقم 5545، ومسلم، كتاب الأضاحي، باب وقتها، برقم 1961. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأضاحي، باب من ذبح قبل الصلاة، برقم 5562، ومسلم، كتاب الأضاحي، باب وقتها، برقم 1960. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الأضاحي، باب سنة الأضحية، برقم 5546، ومسلم، كتاب الأضاحي باب وقتها، برقم 1962.

6 - شروط الأضحية: الأضحية عبادة لله تعالى لا تقبل إلا إذا كانت خالصة لله تعالى

التشريق على القول الراجح من أقوال أهل العلم، فيكون ذبح الأضاحي أربعة أيام: يوم النحر، وأيام التشريق الثلاثة)) (¬1). 6 - شروط الأضحية: الأضحية عبادة لله تعالى لا تقبل إلا إذا كانت خالصة لله تعالى، وأن تكون على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا لم تكن خالصة وعلى هدي رسول الله عليه الصلاة والسلام فهي غير مقبولة بل مردودة، ولا تكون الأضحية على هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا باجتماع شروطها، وانتفاء موانعها. وشروطها أنواع: منها ما يعود للوقت، وتقدم، ومنها ما يعود لعدد المضحين بها، وسيأتي إن شاء الله تعالى، ومنها ما يعود للمُضحَّى به وهي أربعة شروط: الشرط الأول: أن تكون الضحية ملكاً للمضحي ملكها بطريق شرعي، ¬

(¬1) اختلف العلماء في آخر وقت ذبح الأضاحي: فقيل: آخر الوقت: آخر اليوم الثاني من أيام التشريق، فتكون أيام النحر ثلاثة: يوم النحر، ويومان بعده، وهذا قول عمر، وعلي، وابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، وأنس، قال أحمد: أيام النحر ثلاثة عن غير واحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،وهو قول مالك، والثوري، وأبي حنيفة. وقيل: آخره آخر أيام التشريق، وهو مذهب الشافعي، وقول عطاء، والحسن، لما روي ((كل أيام التشريق ذبح)) [أحمد، 4/ 82، والبيهقي، 9/ 295، وذكر الإمام ابن القيم أن الأقوال أربعة: 1 - الذبح أربعة أيام: يوم النحر وأيام التشريق الثلاثة، وأنه قول علي - رضي الله عنه -، قال: وهو مذهب إمام أهل البصرة الحسن، وإمام أهل مكة عطاء بن أبي رباح، وإمام أهل الشام الأوزاعي، وإمام فقهاء أهل الحديث الشافعي، واختاره ابن المنذر. 2 - الذبح يوم النحر ويومان بعده، وهذا مذهب أحمد، ومالك، وأبي حنيفة رحمهم الله، قال أحمد: وهو قول غير واحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكره الأثرم عن ابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهم -. 3 - وقت النحر يوم واحد وهو قول ابن سيرين. 4 - يوم واحد في الأمصار، وثلاثة أيام في منى. زاد المعاد،2/ 319 - 320، وسمعت سماحة شيخنا الإمام ابن باز يقول أثناء تقريره على زاد المعاد، 2/ 320: ((أصح هذه الأقوال الأربعة أن الذبح أربعة أيام: يوم النحر، وثلاثة أيام بعده)). وانظر المغني لابن قدامة، 13/ 386، وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية، 8/ 406.

الشرط الثاني: أن تكون الأضحية من الجنس الذي عينه الشارع

فلا تصح الأضحية بمغصوب، أو مسروق، أو مملوك بعقد فاسد، أو ما كان ثمنه خبيثاً محرماً: كالربا وغيره؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)) (¬1). وينبغي للمسلم أن يختار الأضحية التي تجتمع فيها الصفات المستحبة؛ لأن ذلك من تعظيم شعائر الله؛ لقول الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (¬2)، وتعظيم البدن من تعظيم شعائر الله، وعن مجاهد في قوله: {وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ الله} قال استعظام البدن: استحسانها، واستسمانها)) (¬3). قال يحيى بن سعيد سمعتُ أبا أمامة بن سهل قال: ((كنَّا نُسمّن الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يُسمّنون)) (¬4). الشرط الثاني: أن تكون الأضحية من الجنس الذي عينه الشارع وهو: الإبل، والبقر، والغنم: ضأنها ومعزها، وهي بهيمة الأنعام فقط، قال الله تعالى: {وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ الله عَلَى مَا رَزَقَهُم مّن بَهِيمَةِ الأنعام} (¬5)، وذكر الإمام النووي الإجماع على أنه لا يجزئ في الأضحية إلا: الإبل، والبقر، والغنم (¬6). الشرط الثالث: أن تبلغ الأضحية السنّ المعتبرة شرعاً، فلا يجزئ إلا الجذع من الضأن والثني من غيره: والجذع من الضأن: ما له ستة أشهر ودخل في السابع، ويُعرف إذا مالت الصوفة على ظهره عُلِمَ أنه قد أجذع. وثني المعز إذا تمت له سنة ودخل في الثانية، والبقر إذا صار لها سنتان ودخلت في الثالثة، والإبل إذا صار لها خمس سنين ودخلت في ¬

(¬1) مسلم، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، برقم 1015. (¬2) سورة الحج، الآية: 32. (¬3) فتح الباري، لابن حجر، 3/ 536، والمغني لابن قدامة، 13/ 367. (¬4) البخاري، كتاب الأضاحي، باب أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أقرنين، ويذكر سمينين، رقم الباب 7، قبل الحديث رقم 5553. (¬5) سورة الحج، الآية: 34. (¬6) شرح النووي على صحيح مسلم، 13/ 125.

الشرط الرابع: أن تكون سالمة من العيوب المانعة من الإجزاء

السادسة، قال الأصمعي وغيره: ((إذا مضت السنة الخامسة على البعير ودخل في السادسة وألقى ثنيته فهو حينئذ ثني، ونرى أنه إنما سمي ثنياً؛ لأنه ألقى ثنيته، وأما البقرة فهي التي لها سنتان؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تذبحوا إلا مُسِنَّة)) (¬1)، ومسنة البقرة التي لها سنتان. وقال وكيع: ((الجذع من الضأن يكون ابن سبعة أو ستة أشهر)) (¬2)، فالضحية عبادة لا يشرع فيها إلا ما حدده النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((لا تذبحوا إلا مُسِنّة، إلا أن تعسّر عليكم، فتذبحوا جذعة من الضأن)) (¬3). قال الإمام النووي رحمه الله: ((قال العلماء: المسنة هي الثنية من كل شيء: من الإبل والبقر، والغنم، فما فوقها، وهذا تصريح بأنه لا يجوز الجذع من غير الضأن في حال من الأحوال، وهذا مُجْمَع عليه على ما نقله القاضي عياض. وأما الجذع من الضأن فمذهبنا ومذهب العلماء كافة يجزئ سواء وجد غيره أم لا، قال الجمهور: هذا الحديث محمول على الاستحباب والأفضل، وتقديره: يستحب لكم أن لا تذبحوا إلا مسنة، فإن عجزتم فجذعة ضأن، وليس فيه تصريح بمنع جذعة الضأن وأنها لا تجزئ بحال، وقد أجمعت الأمة أنه ليس على ظاهره؛ لأن الجمهور يجوزون الجذع من الضأن مع وجود غيره وعدمه)) (¬4). الشرط الرابع: أن تكون سالمة من العيوب المانعة من الإجزاء، ومن هذه العيوب ما ثبت في حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - أنه قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأصابعي أقصر من أصابعه وأناملي أقصر من أنامله، فقال: ((أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراءُ البيّن عورُها (¬5)، والمريضة البيّن ¬

(¬1) المغني لابن قدامة، 13/ 369. (¬2) المغني لابن قدامة، 13/ 369، وانظر: أحكام الأضحية لابن عثيمين، ص24. (¬3) مسلم، كتاب الأضاحي، باب سن الضحية، برقم 1963. (¬4) شرح النووي على صحيح مسلم، 13/ 125. (¬5) العوراء البيّن عورها: وهي التي انخسفت عينها أو برزت، فإن كانت عوراء لا تبصر بعينها ولكن عورها غير بين أجزأت والسليمة من ذلك أولى.

مرضُها (¬1)، والعرجاء البيّن ظلعُها (¬2)، والكسيرة التي لا تنقى)) (¬3). قال [الراوي عن البراء] قلت: فإني أكره أن يكون في السن نقص؟ فقال: ((ما كرهت فدعه ولا تحرمه على أحد)).وهذا لفظ أبي داود، أما لفظ الترمذي: ((لا يُضَحَّى بالعرجاء بيّن ظلعها، ولا بالعوراء بيّن عورها، ولا بالمريضة بيّن مرضها، ولا بالعجفاء التي لا تنقى)). ولفظ النسائي: ((أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البيّن عورها، والمريضة البيّن مرضها، والعرجاء البيّن ظلعها، والكسيرة التي لا تنقى)). [قال الراوي عن البراء] قلت: إني أكره أن يكون في القرن نقص، وأن يكون في السن نقص، قال: ((ما كرهته فدعه، ولا تحرمه على أحد)).ولفظ ابن ماجه مثل لفظ النسائي إلا أنه قال: إني أكره أن يكون نقص في الأذن، قال: ((فما كرهت منه فدعه، ولا تحرمه على أحد)).وفي رواية الموطأ نحو رواية أبي داود، والنسائي، إلى قوله: ((لا تنقى)) وجعل بدل الكسيرة ((العجفاء)) (¬4) (¬5). قال الإمام الترمذي رحمه الله: ((والعمل على هذا عند أهل العلم)) (¬6). ¬

(¬1) المريضة البيّن مرضها: وهي التي ظهر عليها آثار المرض، مثل: الحمى التي تقعدها عن الرعي، ومثل: الجرب الظاهر المفسد للحمها، أو المؤثر في صحتها، ونحو ذلك مما يعده الناس مرضاً بيناً، فإن كان فيها كسل أو فتور يمنعها من المرعى، والأكل، أجزأت لكن السلامة منه أولى. (¬2) العرجاء: هي التي لا تستطيع مرافقة السليمة في المشي، فإن كان فيها عرج يسير لا يتبين أجزأت والسلامة منه أولى، والظلع: العرج، والظالع: الغامز في مشيته. انظر: جامع الأصول لابن الأثير، 3/ 334، وأحكام الأضاحي لابن عثيمين، ص34. (¬3) الكسيرة: الهزيلة، والتي لا تنقى: أي التي ليس فيها مخ، أي مخ العظم، انظر: جامع الأصول لابن الأثير، 3/ 334، وأحكام الأضاحي، لابن عثيمين، ص34. (¬4) العجفاء: هي الكسيرة التي لا تنقى أي الهزيلة الضعيفة، انظر جامع الأصول لابن الأثير، 3/ 335. (¬5) أبو داود، كتاب الضحايا، باب ما يكره من الضحايا، برقم 280، والترمذي، كتاب الأضاحي، باب ما لا يجزئ من الأضاحي، برقم 1497، والنسائي، كتاب الضحايا، باب ما نهي عنه من الأضاحي، برقم 4369،وابن ماجه، كتاب الأضاحي، باب ما يكره أن يضحي به، برقم 4144، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 3/ 676. (¬6) سنن الترمذي، ص364.

7 - العيوب المكروهة في الأضحية على النحو الآتي:

قال الإمام ابن قدامة رحمه الله عن هذه الأربع المذكورة: ((لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في أنها تمنع الإجزاء)) (¬1). ويُلحق بهذه الأربع ما كان به عيب أعظم من هذه العيوب؛ فإن عدم إجزائها أولى، كالعمياء التي لا تبصر بعينها؛ لأنها أولى بعدم الإجزاء من العوراء البين عورها، ومقطوعة إحدى اليدين أو الرجلين؛ لأنها أولى بعدم الإجزاء من العرجاء البيّن ظلعها، وما أصابه سبب الموت: كالمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع؛ لأن هذه أولى بعدم الإجزاء من المريضة البين مرضها، والعاجزة عن المشي لعاهة- وتسمى: الزمنى - أولى بعدم الإجزاء من العرجاء البيّن ظلعها، وغير ذلك من العيوب التي هي أشد من العيوب الأربع المذكورة (¬2)، وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز يقول: ((العمياء أشد من العوراء، فما كان أشد من هذه الأربع في العيب، كان عدم إجزائه أولى)) (¬3). 7 - العيوب المكروهة في الأضحية على النحو الآتي: الأولى: العضباء: وهي مقطوعة الأذن: النصف فما فوقه. الثانية: المقابلة: وهي التي شُقّت أذنها من الأمام عرضاً. وقال ابن الأثير: ((شاة مقابلة إذا قطع من مقدم أذنها وتركت معلقة فيها كأنها زنمة)) (¬4). الثالثة: المدابرة: وهي التي شُقّت أذنها من الخلف عرضاً، وقال ابن الأثير: ((المدابرة التي فعل بها ذلك من مؤخرة أذنها، واسم الجلدة فيها: ¬

(¬1) المغني لابن قدامة، 13/ 369. (¬2) انظر: أحكام الأضاحي لابن عثيمين، ص35 - 36. (¬3) سمعته أثناء تقريره على سنن النسائي، الحديث رقم 4369،وذلك بتاريخ 29/ 6/1417هـ. (¬4) جامع الأصول، 3/ 336، وانظر: أحكام الأضاحي، لابن عثيمين، ص37.

الرابعة: الشرقاء

الإقبالة والإدبارة)) (¬1). الرابعة: الشرقاء: وهي التي شُقّت أذنها طولاً، وقال ابن الأثير: ((الشرقاء التي شُقّت أذنها، وقد شرقت الشاة - بالكسر - فهي شاة شرقاء (¬2). الخامسة: الخرقاء: وهي التي خُرقت أذنها، قال ابن الأثير: ((الخرقاء من الغنم التي في أذنها خرق، وهو ثقب مستدير)) (¬3). السادسة: المصفرة: وهي التي تستأصل أذنها حتى يبدو صماخها (¬4). السابعة: المستأصلة: وهي التي ذهب قرنها من أصله، قال ابن الأثير: ((والمستأصلة: التي استُؤْصل قرنها من أصله)) (¬5). الثامنة: البخقاء: وهي التي بخقت عينها، قال ابن الأثير: ((والبخقاء: التي تبخق عينها)) (¬6).وقال في النهاية: ((والبخق أن يذهب البصر وتبقى العين قائمة)).وقال في القاموس: ((البخق أقبح العور وأكثره غمصاً)). وعلى هذا فإذا كان البخق عوراً بيّناً لم تجز كما يدل عليه حديث البراء السابق (¬7). التاسعة: المشيعة: وهي التي لا تتبع الغنم عجفاً، وضعفاً، تكون وراء الغنم: كالمشيع للمسافر، وقيل بفتح الياء؛ لحاجتها إلى من يشيعها؛ لتلحق بالغنم، فإن لم يكن فيها مخ فلا تجزئ، وإن كان فيها مخ ولا تستطيع معانقة الغنم لم تجز أيضاً؛ لأنها كالعرجاء البين ظلعها، وإن كانت ¬

(¬1) جامع الأصول، 3/ 336، وانظر: أحكام الأضاحي، لابن عثيمين، ص37. (¬2) جامع الأصول، 3/ 336، وانظر: أحكام الأضاحي، لابن عثيمين، ص37. (¬3) جامع الأصول، 3/ 336، وانظر: أحكام الأضاحي، لابن عثيمين، ص37. (¬4) جامع الأصول لابن الأثير، 3/ 337، وقال في التلخيص إنها المهزولة، وذكرها في النهاية بقيل: كذا وقيل: كذا. أحكام الأضاحي، ص38. (¬5) جامع الأصول، 3/ 337. (¬6) جامع الأصول، 3/ 337. (¬7) انظر: أحكام الأضاحي لابن عثيمين، ص38.

تستطيع معانقة الغنم إذا زجرت فهي مكروهة (¬1) (¬2). ¬

(¬1) انظر: جامع الأصول لابن الأثير،3/ 337،وأحكام الأضاحي لابن عثيمين، ص38. (¬2) وجاء في هذه العيوب التسعة حديث علي - رضي الله عنه - قال: ((أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستشرف العين والأذن، وأن لا نضحي بمقابلة، ولا مدابرة، ولا شرقاء، ولا خرقاء)) وفي رواية: ((المقابلة ما قطع طرف أذنها، والمدابرة: ما قطع من جانب الأذن، والشرقاء: المشقوقة، والخرقاء: المثقوبة)) هذا لفظ الترمذي في كتاب الأضاحي، باب ما يكره من الأضاحي، برقم 1498، وقال: ((حديث حسن صحيح))، ولفظ النسائي: ((أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستشرف العين، والأذن، وأن لا نضحي بمقابلة، ولا مدابرة، ولا بتراء، ولا خرقاء))، وفي لفظ: ((وأن لا نضحي بعوراء)) وفي لفظ: (( ... أو جدعاء))، وهذا لفظ النسائي في كتاب الأضاحي، باب المقابلة، برقم 4372، وباب المدابرة، برقم 4373، وباب الخرقاء، برقم 4374، وباب الشرقاء، برقم 4375. ولفظ أبي داود: ((أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستشرف العين والأذن، ولا نضحي بعوراء، ولا مقابلة، ولا مدابرة، ولا خرقاء، ولا شرقاء))، قال زهير: قلت لأبي إسحاق: أذكر عضباء؟ قال: لا، قلت: فما المقابلة؟ قال: يقطع طرف الأذن، قلت: فما المدابرة، قال: يقطع من مؤخر الأذن، قلت: فما الشرقاء؟ قال: تشق الأذن، قلت: فما الخرقاء؟ قال: تخرق أذنها للسمة)) أبو داود، كتاب الأضاحي، باب ما يكره من الأضاحي، برقم 2804. ولفظ ابن ماجه: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نضحي بمقابلة، أو مدابرة، أو شرقاء، أو خرقاء، أو جدعاء)). ابن ماجه، كتاب الأضاحي، باب ما يكره أن يضحي به، برقم 3142، ولفظ الإمام أحمد: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يضحى بالمقابلة، أو بمدابرة، أو شرقاء، أو خرقاء، أو جدعاء))، وفي لفظ عن حُجّيّة بن عدي رجل من كندة قال: سمعت رجلاً سأل عليّاً قال: إني اشتريت هذه البقرة للأضحى، قال عن سبعة، قال: القرن؟ قال: لا يضرك، قال العرج؟ قال: إذا بلغت المنسك فانحر، ثم قال: ((أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستشرف العين والأذن)) أحمد برقم 832، ورقم 734، ورقم 826، وصحح إسناده أحمد شاكر في هذه المواضع كلها، ورواه بهذا اللفظ الترمذي عن حجية بن عدي عن علي قال: ((البقرة عن سبعة، قلت: فإن ولدت؟ قال: اذبح ولدها معها، قلت: فالعرجاء؟ قال: إذا بلغت المنسك، قلت فمكسورة القرن؟ قال: لا بأس، أُمرنا - أو أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستشرف العينين، والأذنين)). الترمذي، كتاب الضحايا، باب في الضحية بعضباء القرن والأذن، برقم 1503، ولفظ ابن ماجه في كتاب الأضاحي، باب ما يكره أن يضحى به، برقم 3143، عن حجية بن عدي عن علي قال: ((أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستشرف العين والأذن))، وصحح إسناد حديث حجية أحمد شاكر كما تقدم آنفاً، وحسنه الألباني في إرواء الغليل، 4/ 362، وفي صحيح سنن ابن ماجه، 3/ 86، وقبل ذلك صحح إسناده الحاكم ووافقه الذهبي، 4/ 225، وروى أحمد لفظ أبي داود في المقابلة والمدابرة والشرقاء، والخرقاء، برقم 851، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح. وقال الشوكاني بعد أن ذكر حديث علي هذا الذي رواه الخمسة: ((وحديث علي - رضي الله عنه - أخرجه أيضاً البزار [كشف الأستار، برقم 1203]، وابن حبان [برقم 5920]، والحاكم [1/ 468]، والبيهقي [9/ 275]، وأعله الدارقطني [نيل الأوطار، 3/ 482] وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي، ص144 في ضعيف أبي داود ص217، وضعيف سنن النسائي، ص144، وضعيف ابن ماجه، ص253، والحديث صححه الحاكم ووافقه الذهبي، وصحح إسناده أحمد شاكر كما تقدم، وقد ذكر الألباني طرقه في إرواء الغليل، 4/ 364، ثم قال: ((وجملة القول: إن الحديث بمجموع طرقه هذه صحيح وذكر القرن فيه منكر عندي تفرد جري به)). وأما ما جاء في المستأصلة، والبخقاء، والمشيعة، والكسراء، والمصفرة؛ لما روي عن يزيد ذي مصر قال: أتيت عتبة بن عبد السلمي، فقلت: يا أبا الوليد إني خرجت ألتمس الضحايا، فلم أجد شيئاً يعجبني، غير ثرماء، فكرهتها، فما تقول؟ قال: أفلا جئتني بها؟ قلت: سبحان الله تجوز عنك ولا تجوز عني؟ قال: نعم. إنك تشك ولا أشك، إنما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المصفرة، والمستأصلة، والبخقاء، والمشيعة، والكسراء، فالمصفرة: التي تستأصل أذنها حتى يبدو صماخها، والمستأصلة التي استوصل قرنها من أصله، والبخقاء: التي تبخق عينها، والمشيعة: التي لا تتبع الغنم عجفاً وضعفاً، والكسراء: الكسيرة)). أبو داود، كتاب الضحايا، باب ما يكره من الضحايا، برقم 2803،وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود، ص217،وقال الأرنؤوط في تحقيقه لجامع الأصول، 3/ 337: ((وفي إسناده أبو حميد الرعيني، وهو مجهول، ويزيد ذو مصر لم يوثقه غير ابن حبان)). وأما عضباء الأذن والقرن، فعن علي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يُضحَّى بعضباء الأذن والقرن. قال قتادة لسعيد بن المسيب: ما الأعضب؟ قال: النصف فما فوقه. هذا لفظ أبي داود، برقم 2805،في كتاب الضحايا، باب ما يكره من الضحايا. ولفظ النسائي في كتاب الضحايا، باب العضباء، برقم 4389: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُضحى بأعضب القرن)) فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب؟ قال: ((نعم الأعضب النصف وأكثر من ذلك)).ولفظ الترمذي في كتاب الأضاحي، باب في الضحية بعضباء القرن والأذن برقم 1504 عن قتادة عن جري بن كليب الهندي عن علي قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نضحي بأعضب القرن والأذن))،قال قتادة: فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب فقال: العضب ما بلغ النصف فما فوق ذلك. ولفظ ابن ماجه في كتاب الأضاحي، باب ما يكره أن يُضحَّى به، برقم 3145، عن علي قال: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يضحى بأعضب القرن والأذن)). ولفظ الإمام أحمد في المسند 1/ 129: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُضحَّى بعضباء القرن والأذن))، وحديث علي - رضي الله عنه - في النهي عن التضحية بعضباء القرن والأذن قال الترمذي: ((هذا حديث حسن صحيح)). وقال الشوكاني في نيل الأوطار، 3/ 479: ((حديث علي - رضي الله عنه - صححه الترمذي ... وسكت عنه أبو داود))، وتكلم على إسناده أحمد شاكر في المسند، برقم 633، وقال: ((إسناده صحيح))، ولكن الألباني ضعفه في ضعيف ابن ماجه، وضعيف النسائي، وضعيف أبي داود، وضعيف الترمذي، وفي إرواء الغليل، برقم 1149 قال: ((منكر)). وسمعت شيخنا الإمام ابن باز يقول أثناء تقريره على منتقى الأخبار لابن تيمية، الحديث رقم 2721: ((حديث علي صحيح))، والله - عز وجل - أعلم. قال الشوكاني: ((فيه دليل على أنها لا تجزئ التضحية بأعضب القرن والأذن وهو ما ذهب نصف قرنه أو أذنه، وذهب أبو حنيفة والشافعي والجمهور إلى أنها تجزئ التضحية بمكسور القرن مطلقاً ... فالظاهر أن مكسورة القرن لا تجوز التضحية بها إلا أن يكون الذاهب من القرن مقداراً يسيراً، بحيث لا يقال لها عضباء؛ لأجله، أو يكون دون النصف ... وكذلك لا تجزئ التضحية بأعضب الأذن وهو ما صدق عليه اسم العضب ... )) [نيل الأوطار للشوكاني، 3/ 479]. وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله يقول أثناء تقريره على سنن النسائي، الحديث رقم 4372 بتاريخ 2/ 7/1417هـ: ((النقص كالشرق أو الخرق مكروه وكذلك المقابلة والمدابرة إلا إذا كان ذلك أكثر من نصف الأذن أو القرن فهذا لا يجزئ، فيكون غير المجزئ خمس: العوراء البين عورها، والعرجاء البين ظلعها، والهزيلة التي لا تنقى، والمريضة البين مرضها، والعضباء: وهي ما ذهب نصف قرنها أو أذنها))، وسمعته يصحح حديث علي في عضباء الأذن والقرن أثناء تقريره على منتقى الأخبار للمجد ابن تيمية، الحديث رقم 2721. واختار الإمام الخرقي في مختصره أن عضباء الأذن والقرن لا تجزئ، وقال ابن قدامة في المغني شارحاً ذلك: ((أما العيوب الأربعة الأولى فلا نعلم بين أهل العلم خلافاً بأنها تمنع الإجزاء ... وأما العضب وهو ذهاب نصف الأذن والقرن، وذلك يمنع الإجزاء أيضاً، وبه قال النخعي، وأبو يوسف، ومحمد. وقال أبو حنيفة والشافعي تجزئ مكسورة القرن ... )) ثم رجح أن عضباء الأذن والقرن لا تجزئ. المغني لابن قدامة، 13/ 369 - 370.

وذكر بعض أهل العلم أنه يلحق بالعيوب المكروهة العيوب الآتية:

وذكر بعض أهل العلم أنه يلحق بالعيوب المكروهة العيوب الآتية: الأولى: البتراء، وهي التي قطع ذنبها: من الإبل، والبقر، والمعز، فتكره التضحية بها؛ لما جاء في رواية النسائي من حديث علي - رضي الله عنه - (¬1) وبالقياس على العضباء، قال ابن الأثير رحمه الله في معنى البتراء: ((هي التي قطع ذنبها)) (¬2)؛ لأن في الذنب مصلحة للحيوان، ودفاعاً لما يؤذيه، وجمالاً لمؤخره، وفي قطعه فوات هذه الأمور. وأما البتراء بأصل الخلقة فلا تكره ولكن غيرها أولى. وأما البتراء من الضأن وهي التي قطعت أليتها أو أكثرها فلا تجزئ، لأن ذلك نقص بيّن في جزء مقصود منها، أما إذا كانت من نوع لا ألية له بأصل الخلقة أجزأت بدون كراهة (¬3). الثانية: ما قطع أنفها أو شفتها؛ لما جاء في رواية النسائي من حديث علي - رضي الله عنه - (¬4)، قال ابن الأثير رحمه الله في الجدعاء: ((الجدع قطع الأنف، ¬

(¬1) ولفظه عند النسائي: ((أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستشرف العين والأذن، وأن لا نُضحّي بمقابلة، ولا مدابرة، ولا بتراء، ولا خرقاء ... )) الحديث أخرجه الخمسة وهذا لفظ النسائي، برقم 4372، وتقدم الكلام عليه. (¬2) النهاية في غريب الحديث، 1/ 93. (¬3) انظر: أحكام الأضحية لابن عثيمين، ص40. (¬4) ولفظه عند النسائي: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن نضحي بمقابلة، أو مدابرة، أو شرقاء، أو خرقاء، أو جدعاء))، برقم 4374، وتقدم تخريجه والكلام عليه.

الثالثة: ما قطع ذكره فتكره التضحية به

والأذن، والشفة، وهو بالأنف أخص، فإذا أطلق غلب عليه)) (¬1). الثالثة: ما قطع ذكره فتكره التضحية به، قياساً على العضباء، فأما ما قطعت خصيتاه فلا تكره التضحية به؛ لأن الخصاء يزيد سمنه، وطيب لحمه (¬2). وغير ذلك من العيوب التي ذكرها أهل العلم التي تكره التضحية بها (¬3)، والله تعالى أعلم. 8 - تجزئ الشاة عن الرجل وأهل بيته، والبدنة، والبقرة عن سبعة؛ لحديث أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -، حينما سئل: كيف كانت الضحايا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون، ويطعمون، حتى تباهى الناس فصارت كما ترى)) (¬4). قال الإمام الترمذي رحمه الله: ((والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، وهو قول أحمد، وإسحاق)) (¬5). وأما البدنة فتجزئ عن سبعة، والبقرة عن سبعة؛ لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: ((نحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة)). وفي لفظ: ((خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهلين بالحج فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة)). وفي لفظ: ((حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنحرنا البعير عن سبعة، ¬

(¬1) النهاية في غريب الحديث، 1/ 246. (¬2) أحكام الأضاحي للعلامة ابن عثيمين، ص41. (¬3) ذكر من ذلك الهتماء التي سقطت بعض أسنانها، وكذلك ما قطع شيء من حلمات ضرعها، قياساً على العضباء، والله - عز وجل - أعلم. انظر: أحكام الأضحية لابن عثيمين، ص41. (¬4) الترمذي، كتاب الأضاحي، باب ما جاء أن الشاة الواحدة تجزئ عن أهل البيت، برقم 1505، وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه، كتاب الأضاحي، باب من ضحى بشاة عن أهله، برقم 3147، وصححه الألباني في إرواء الغليل، برقم 1142. (¬5) سنن الترمذي، الحديث رقم 1505.

9 - تتعين الأضحية بقول المسلم هذه أضحية، فتصير واجبة

والبقرة عن سبعة)) (¬1). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((وهذا قول أكثر أهل العلم، روي ذلك عن علي، وابن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، وعائشة - رضي الله عنهم -، وبه قال: عطاء، وطاوس، وسالم، والحسن، وعمرو بن دينار، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي)) (¬2). ولكن هل يجزئ سُبع البدنة أو سُبع البقرة عن الرجل وأهل بيته أم لا يجزئ السبع إلا عن واحد: قولان لأهل العلم، والذي مالت إليه اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء أن سُبع البدنة وسبع البقرة لا يجزئ إلا عن واحد والله - عز وجل - أعلم، أما الشاة فتجزئ عن الرجل وأهل بيته (¬3). 9 - تتعين الأضحية بقول المسلم هذه أضحية، فتصير واجبة، أو بذبحها يوم العيد بنية الأضحية، فإذا تعينت الأضحية تعلقت بها الأحكام الآتية: الحكم الأول: زوال ملكه عنها، فلا يجوز له بيعها، ولا هبتها، ولا إبدالها إلا بخير منها؛ لأنه جعلها لله تعالى. الحكم الثاني: لا يتصرف فيها تصرفاً مطلقاً فلا يستعملها في حرث، ولا يحلب من لبنها ما فيه نقص عليها، أو يحتاجه ولدها المتعين معها، ولا يجزّ شيئاً من صوفها ونحوه إلا أن يكون أنفع لها، وإذا جزَّه فليتصدق به أو ينتفع به ¬

(¬1) مسلم، كتاب الحج، باب جواز الاشتراك في الهدي، وإجزاء البدنة والبقرة كل واحدة منهما عن سبعة، برقم 1318. (¬2) المغني لابن قدامة، 13/ 363. (¬3) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، 11/ 396، وانظر: حاشية ابن قاسم على الروض المربع، 4/ 220، فقد قال: ((وأما التشريك في سبع منها فمفهوم هذا الحديث وحديث تجزئ الشاة عن الرجل وأهل بيته أنه لا يجزئ شرك في سبع من بدنة أو بقرة وجزم به شيخنا وغيره)). وقال شيخنا عبد العزيز ابن باز: ((في إجزاء السبع من البدنة والبقرة عن الرجل وأهل بيته توقف من بعض أهل العلم، والراجح أنه يجزئ عن الرجل وأهل بيته؛ لأنهم في معنى الشخص الواحد)) مجموع فتاوى ابن باز، 18/ 44 - 45.

الحكم الثالث: إذا حصل لها عيب يمنع الإجزاء

والصدقة به أفضل، وإن ولدت ذبح ولدها معها. الحكم الثالث: إذا حصل لها عيب يمنع الإجزاء: كالعرج البيّن، فإن كان هذا العيب بتفريط منه لزمه إبدالها بسليمة، وإن كان بدون فعل منه ولا تفريط فإنه يذبحها وتجزئه ما لم تكن واجبة في ذمته قبل التعيين، كما لو نذر أن يُضحّي ثم عيَّن نذره فتعيبت بدون فعل منه ولا تفريط لزمه إبدالها بسليمة؛ لأن ذمته مشغولة بأضحية سليمة قبل أن يعينها فلا يخرج من عهدة الواجب إلا بأضحية سليمة. الحكم الرابع: إذا ضاعت أو سرقت بغير تفريط منه فلا ضمان عليه إلا أن تكون واجبة في ذمته قبل التعيين؛ لأنها أمانة عنده والأمين لا ضمان عليه إذا لم يفرط، لكن متى وجدها أو استنقذها من السارق لزمه ذبحها، ولو فات وقت الذبح، أما إذا كان ضياعها أو سرقتها بتفريط منه لزمه إبدالها بمثلها أو أفضل. والله أعلم (¬1). الحكم الخامس: لا يجوز بيع شيء من الأضحية، لا جلدها، ولا لحمها، ولا يعطي الجزار أجرته منها؛ لحديث علي - رضي الله عنه - قال: ((أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقوم على بدنه، وأن أتصدق بلحمها، وجلودها، وأجلَّتها، وأن لا أعطي الجزار منها، وقال: نحن نعطيه من عندنا))، وفي لفظ لمسلم: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يقوم على بدنه، وأمره أن يقسم بدنه كلها: لحومها، وجلودها، وجلالها، في المساكين، ولا يعطي في جزارتها منها شيئاً)) (¬2). لكن إذا دفع إلى جازرها شيئاً، لفقره، أو على سبيل الهدية فلا بأس، والأفضل أن يعطيه أجرته كاملة أولاً، ثم يعطيه منها؛ لئلا تقع مسامحة ¬

(¬1) انظر: المغني لابن قدامة، 13/ 373 - 378، والمقنع مع الشرح الكبير والإنصاف، 9/ 372 - 406، وحاشية ابن قاسم على الروض المربع، 4/ 232 - 238، وأحكام الأضحية للعثيمين، ص42 - 48. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الحج، باب يتصدق بجلود الهدي، برقم 1717،ومسلم، كتاب الحج، باب الصدقة بلحوم الهدايا وجلودها، وجلالها، وأن لا يعطى الجزار منها شيئاً، برقم 1317.

10 - يأكل من أضحيته ويتصدق

في الأجرة؛ لأجل ما يأخذه، فيكون من باب المعاوضة (¬1). 10 - يأكل من أضحيته ويتصدق؛ لقول الله - عز وجل -: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (¬2)، وعن عبد الله بن واقد - رضي الله عنه - في بيان الأكل من الأضاحي وفيه: ((فكلوا، وادَّخِروا، وتصدَّقوا)). وفي لفظ: ((كلوا وتزوَّدوا)) (¬3)، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ((كنا نتزود لحوم الأضاحي على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة)). وقال غير مرة: ((لحوم الهدي)) (¬4)، وعن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - في حديثه عن الأكل من لحوم الأضاحي، وفيه: ((كلوا وأطعموا، وادخروا)) (¬5). وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه: ((كلوا، وأطعموا، واحبسوا، أو ادَّخروا)) (¬6). واستحب كثير من العلماء للمُضحّي أن يقسم أضحيته أثلاثاً: ثلثاً للادّخار، وثلثاً للصدقة، وثلثاً للأكل؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فكلوا وادَّخروا وتصدقوا)) (¬7) (¬8). واستحب بعضهم أن يقسمها أثلاثاً: يأكل ثلثاً، ويُهدي ثلثاً، ويتصدق بثلث؛ للآثار في ذلك (¬9). ¬

(¬1) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 3/ 556. (¬2) سورة الحج، الآية: 28. (¬3) مسلم، كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام وبيان نسخه وإباحته، برقم 1971. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الأضاحي، باب ما يؤكل من لحوم الأضاحي، برقم5567، ومسلم، كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام وبيان نسخه وإباحته، برقم 1972. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الأضاحي، باب ما يؤكل من لحوم الأضاحي، وما يتزود منها، برقم 5569،ومسلم، كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام وبيان نسخه وإباحته برقم 1974. (¬6) مسلم، كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي، برقم 1973. (¬7) مسلم، برقم1971، وتقدم تخريجه في الصفحات السابقة. (¬8) سبل السلام للصنعاني، 7/ 270. (¬9) انظر: المغني، لابن قدامة، 13/ 379، قال ابن قدامة: (ولنا ما روي عن ابن عباس في صفة ضحية النبي - صلى الله عليه وسلم -،قال: ((ويطعم أهل بيته الثلث، ويطعم فقراء جيرانه الثلث، ويتصدق على السوَّال بالثلث))،رواه الحافظ أبو موسى الأصبهاني في الوظائف، وقال: ((حديث حسن))؛ ولأنه قول ابن مسعود، وابن عمر، ولم يعرف لهما مخالف في الصحابة، فكان إجماعاً. ا. هـ. المغني، 13/ 380، وانظر: الشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، 9/ 414 - 418.

11 - صفة ذبح الأضاحي وغيرها مما يذكى على النحو الآتي:

11 - صفة ذبح الأضاحي وغيرها مما يُذكَّى على النحو الآتي: أ- لا يذبح إلا المسلم المميز العاقل، أو الكتابي، ويقصد المذكي التذكية، ولا يذبح لغير الله، ولا يهل لغير الله، ويسمي عند الذبح أو النحر، ويذكي بآلة حادة غير سنٍّ ولا ظُفرٍ، وينهر الدم في موضعه، ولا بد أن يكون المذكي مأذوناً في ذكاته شرعاً (¬1). ب- يراعي المضحي الأمور الآتية: الأمر الأول: يختار الأضحية، فيحرص على أكمل الأضاحي؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بكبش أقرن، يطأ في سواد، ويبرك في سواد (¬2)،وينظر في سواد، فأُتي به، ليضحي به، قال لعائشة: ((هلُمّي (¬3) المدية)) (¬4)،ثم قال: ((اشحذيها بحجر)) (¬5).ففعلت، ثم أخذها، وأخذ الكبش، ثم ذبحه، ثم قال: ((بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد، ومن أمة محمد ثم ضحى به)) (¬6). وعن أنس قال: ((ضحَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين، أقرنين، ذبحهما بيده، وسمى، وكبر، ووضع رجله على صفاحهما)). وفي لفظ لمسلم: ((ويقول باسم الله والله أكبر)).وفي لفظ للبخاري: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُضحّي بكبشين، وأنا أضحي بكبشين)) (¬7). ¬

(¬1) أحكام الأضحية للعلامة محمد بن عثيمين، ص56 - 87،وذكر هذه الشروط التسعة بالأدلة، فراجعها. (¬2) يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد: أي قوائمه سود، وبطنه أسود، وما حول عينيه أسود. (¬3) هلمي: أي هاتيها. شرح النووي على مسلم، 13/ 120. (¬4) المدية: السكين. المرجع السابق، 13/ 120. (¬5) اشحذيها: حدديها، شرح النووي على مسلم، 13/ 120. (¬6) مسلم، كتاب الأضاحي، باب استحباب استحسان الضحية، وذبحها مباشرة بلا توكيل، والتسمية والتكبير، برقم1967. (¬7) متفق عليه: البخاري، برقم 5553،ومسلم، برقم 1966،وتقدم تخريجه في أول الأضحية.

الأمر الثاني: الإحسان إلى الذبيحة

ويختار السمين العظيم؛ لقول أبي أمامة بن سهل، قال: ((كنَّا نُسمّن الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يُسمّنون)) (¬1). وهذا من تعظيم شعائر الله (¬2)، وغير ذلك من الصفات الحسنة، التي تزيد الأضحية كمالاً، وجمالاً؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً (¬3)، وإن ضحى بكبشين فلا بأس، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يضحي بكبشين، وأنا أضحي بكبشين)) (¬4). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله يقول: ((إذا ضحى بكبشين تأسياً به - صلى الله عليه وسلم - فلا حرج)) (¬5). وعن عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يضحي اشترى كبشين، عظيمين، سمينين، أقرنين، أملحين، موجوءين، فذبح أحدهما عن أمته، لمن شهد لله بالتوحيد وشهد له بالبلاغ، وذبح الآخر عن محمد وعن آل محمد - صلى الله عليه وسلم -)) (¬6). وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحي بكبش أقرن، فحيل، ينظر في سواد، ويأكل في سواد، ويمشي في سواد)) (¬7). الأمر الثاني: الإحسان إلى الذبيحة، فيعمل كل ما يريحها عند الذَّكاة، ¬

(¬1) البخاري، الأضاحي، باب أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أقرنين، ويذكر سمينين، رقم الباالنحل، قبل الحديث رقم5553. (¬2) انظر: فتح الباري لابن حجر، 3/ 536. (¬3) ومن الصفات التي ثبتت في الأحاديث في أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - الصفات الآتية: 1 - الكبش.2 - الأقرن.3 - الأملح.4 - قوائمه سوداء.5 - بطنه أسود.6 - ما حول عينيه أسود. 7 - يأكل في سواد. 8 - عظيم. 9 - موجوء.10 - سمين.11 - فحيل، وجاء في صحيح أبي عوانة كما قال ابن حجر في البلوغ 12 - ثمين. انظر: فتح الباري لابن حجر، 10/ 10. (¬4) متفق عليه: البخاري، برقم 5553،ومسلم، برقم 966،وتقدم تخريجه في أول الأضحية. (¬5) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم5553. (¬6) ابن ماجه، كتاب الأضاحي، باب أضاحي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، برقم3122، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 3/ 81. (¬7) أبو داود، كتاب الضحايا، باب ما يستحسن من الضحايا، برقم2796، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 2/ 184، ورواه الترمذي، كتاب الأضاحي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء ما يستحب من الأضاحي، برقم 1496، والنسائي، كتاب الضحايا، باب الكبش، برقم 4402.

الأمر الثالث: إذا كانت الضحية من الإبل نحرها قائمة معقولة يدها اليسرى

ومن ذلك: أن يكون الذبح بآلة حادَّة، وأن يمرها على محل الذبح بقوة وسرعة؛ لأن المطلوب الإسراع في إزهاق النفس على أكمل الوجوه من غير تعذيب؛ لحديث شداد بن أوس - رضي الله عنه - قال: ((ثنتان حفظتهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليُحِدَّ أحدُكم شفرته، فليُرِحْ ذبيحته)) (¬1). ويكره أن يحدَّ السكين والبهيمة تنظر إليه؛ لما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحد الشفار، وأن تُوارَى عن البهائم، وقال: ((إذا ذبح أحدكم فليُجْهِزْ)) (¬2). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رجل واضع رجله على صفحة شاة، وهو يحد شفرته، وهي تلحظ إليه ببصرها، قال: ((أفلا قبل هذا؟ أو تريد أن تميتها موتات))؟ ولفظ الحاكم: ((أتريد أن تميتها موتان؟ هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها)) (¬3). قال الإمام النووي رحمه الله: ((ويستحب أن لا يحد السكين بحضرة الذبيحة، وأن لا يذبح واحدة بحضرة الأخرى، ولا يجرها إلى مذبحها)) (¬4). الأمر الثالث: إذا كانت الضحية من الإبل نحرها قائمة معقولة يدها اليسرى، لقول الله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مّن شَعَائِرِ الله لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ الله عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا ¬

(¬1) مسلم، كتاب العيد والذبائح، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل، وتحديد الشفرة، برقم1955. (¬2) أحمد في المسند، 2/ 108، وابن ماجه، كتاب الذبائح، باب إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، برقم 3172، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 631، وضعفه في ضعيف ابن ماجه، ص255، وذكر أنه صححه من طريق أحمد، وقال وانظر: ((الصحيحة3130)). (¬3) الطبراني في الكبير، 11/ 332، برقم 11916، والأوسط، برقم161، [مجمع البحرين]، والحاكم، قال المنذري في الترغيب: ((ورجاله رجال الصحيح))، وقال الحاكم: ((صحيح على شرط البخاري))، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 630، وقال في مجمع الزوائد،4/ 33: ((رجاله رجال الصحيح)). (¬4) شرح النووي على صحيح مسلم، 13/ 113، وانظر: أحكام الأضاحي لابن عثيمين، ص94 - 95.

الأمر الرابع: إذا كانت الضحية من غير الإبل ذبحها مضجعة على جنبها الأيسر

وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬1).قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((قياماً على ثلاث معقولة يدها اليسرى)) (¬2).وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا ينحرون البدن معقولة اليسرى، قائمة على ما بقي من قوائمها)) (¬3).وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه أتى على رجل قد أناخ بدنته ينحرها فقال: ابعثها قياماً مقيدة سنة محمد - صلى الله عليه وسلم -)) (¬4). فإن لم يتيسر له نحرها قائمة جاز له نحرها باركة إذا أتى بما يجب في الذكاة؛ لحصول المقصود بذلك. الأمر الرابع: إذا كانت الضحية من غير الإبل ذبحها مضجعة على جنبها الأيسر، ويضع رجله على صفحة عنقها، ليتمكن منها؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: ((ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكبشين، أملحين، أقرنين، ذبحهما بيده، وسمى، وكبر، ووضع رجله على صفاحهما)) (¬5)، فإن كان الذابح لا يستطيع أن يذبح بيمينه ويعمل بيده اليسرى عمل اليمنى وكان الأيسر له أن يضجعها على الجنب الأيمن فلا بأس أن يضجعها عليه؛ لأن المهم راحة الذبيحة (¬6). الأمر الخامس: أن يستقبل القبلة عند الذبح؛ لما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث جابر قال: ((ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عيد بكبشين فقال حين وجههما: ((إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض)) (¬7). ¬

(¬1) سورة الحج، الآية: 36. (¬2) تفسير ابن كثير، 13/ 222. (¬3) أبو داود، كتاب المناسك، باب كيف تنحر البدن؟ برقم1767، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 494. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الحج، باب نحر الإبل مقيدة، برقم1713، ومسلم، كتاب الحج، باب نحر الإبل قياماً مقيدة، برقم1320. (¬5) متفق عليه: البخاري، برقم 5553،ومسلم، برقم 1966.وتقدم تخريجه في أول الأضحية. (¬6) انظر: أحكام الأضاحي، لابن عثيمين، ص88 - 89. (¬7) ابن ماجه، كتاب الأضاحي، باب أضاحي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، برقم 3121، وأبو داود، كتاب الضحايا، باب ما يستحب من الضحايا، برقم 2795، والبيهقي، 9/ 285، وضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجه، ص250، وانظر: إرواء الغليل، 4/ 350.

الأمر السادس: التسمية عند الذبح والنحر

الأمر السادس: التسمية عند الذبح والنحر، وهي واجبة، لقول الله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ الله عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} (¬1)، وقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (¬2)؛ ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه ما لم يكن سن ولا ظفر)) (¬3). وذكر اسم الله تعالى على الذبح أو النحر شرط من شروط ذكاة الحيوان (¬4)، ويستحب التكبير: ((الله أكبر)) مع التسمية (¬5). الأمر السابع: من الآداب المستحبة أن يسمي عند ذبح الأضحية من هي له؛ لحديث جابر - رضي الله عنه - قال: شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأضحى في المصلى، فلما قضى خطبته نزل من منبره وأُتي بكبش فذبحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده، وقال: ((بسم الله والله أكبر، هذا عني وعن من لم يضحّ من أمتي)) (¬6)؛ ولحديث أبي رافع - رضي الله عنه - قال: ((ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكبشين، أملحين، موجبين (¬7)، خصيين، فقال: أحدهما لمن شهد بالتوحيد، وله بالبلاغ، والآخر عنه وعن أهل بيته، قال: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كفانا)). ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 118. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 121. (¬3) متفق عليه من حديث رافع بن خديج: البخاري، كتاب الذبائح والعيد، باب إذا أصاب قوم غنيمة فذبح بعضهم غنماً أو إبلاً بغير أمر أصحابه، لم تؤكل، برقم5543،ومسلم، كتاب الأضاحي، باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم، برقم1968. (¬4) انظر: أحكام الأضاحي لابن عثيمين، ص56 - 87. (¬5) المرجع السابق، ص91. (¬6) أبو داود، كتاب الضحايا، باب في الشاة يضحى بها عن جماعة، برقم 2810، والترمذي، كتاب الأضاحي، باب ما يقول إذا ذبح، برقم1521، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 2/ 188، وصحيح الترمذي. (¬7) موجبين: وفي مجمع الزوائد4/ 22: ((موجوءين)).

الأمر الثامن: قطع: الحلقوم، والمريء، والودجين، وإنهار الدم:

وفي رواية لأحمد: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ضحى اشترى كبشين، سمينين، أقرنين، أملحين، فإذا صلى وخطب الناس أُتيَ بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية، ثم يقول: ((اللهم إن هذا عن أمتي جميعاً ممن شهد لك بالوحدانية، وشهد لي بالبلاغ)). ثم يُؤتى بالآخر فيذبحه بنفسه ويقول: ((هذا عن محمد وآل محمد)) فيطعمهما جميعاً المساكين، ويأكل هو وأهله منهما، فمكثنا سنين ليس رجل من بني هاشم يضحي قد كفاه الله المؤنة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والغُرْمَ)) (¬1). الأمر الثامن: قطع: الحلقوم، والمريء، والودجين، وإنهار الدم: أي إجراؤه من شروط صحة الذكاة، ولكن استكمال هذه الأربعة يكون نهاية الكمال، وهي: أ- الحلقوم: وهو مجرى النفس [القصبة الهوائية]. ب- المريء: وهو مجرى الطعام والشراب. ج - د - الودجان: وهما عرقان غليظان محيطان بالحلقوم والمريء فمتى قطعت هذه الأشياء الأربعة حلَّت المذكاة بإجماع أهل العلم (¬2). ولا يتجاوز ذلك إلى النخاع فإنه لا يشرع (¬3). وذكر شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله: أن التذكية الشرعية للإبل والبقر والغنم: على ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يقطع الذابح: الحلقوم، والمريء، والودجين، وهو أكمل الذبح وأحسنه، فإذا قطعت هذه الأربعة فالذبح حلال عند جميع العلماء. ¬

(¬1) أحمد في المسند، 6/ 8، و6/ 391، وصححه الألباني في إرواء الغليل، برقم1147. (¬2) انظر: بداية المجتهد، لابن رشد، 1/ 325 - 332، أحكام الأضاحي للعلامة ابن عثيمين، ص72 - 81، ومجموع فتاوى الإمام ابن باز، 18/ 26. (¬3) بداية المجتهد1،/327، وذكر أن الإمام مالك كرهه إذا تمادى في القطع ولم ينوِ قطع النخاع من أول الأمر؛ لأنه إن نوى ذلك فكأنه نوى التذكية على غير الصفة الجائزة، وقال مطرف والماجشون: لا تؤكل إن قطعها متعمداً دون جهل، وتؤكل إن قطعها ساهياً أو جاهلاً، 1/ 327.

الحالة الثانية: أن يقطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين

الحالة الثانية: أن يقطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين وهذا حلال صحيح وطيب وإن كان دون الأول. والحالة الثالثة: أن يقطع الحلقوم والمريء فقط دون الودجين وهو أيضاً صحيح، وقال به جمع من أهل العلم، ودليلهم قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا، ليس السن والظفر)) (¬1)، وهذا هو المختار في هذه المسألة (¬2). الأمر التاسع: يدعو عند ذبح الأضحية بالقبول؛ لحديث عائشة رضي الله عنها وفيه: ((اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد)) (¬3). وفي حديث جابر: ((اللهم منك ولك)) (¬4). الثالث عشر: المنكرات في العيد التي يفعلها كثير من الناس كثيرة لا يمكن حصرها، ولكن منها ما يأتي: 1 - الشرك بالله تعالى بالتقرب لأصحاب القبور ودعائهم من دون الله في بعض الأمصار والبلدان، وقد قال الله - عز وجل -: {وَلا تَدْعُ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظَّالِمِينَ * وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬5). وقال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (¬6). وحد الشرك الأكبر الذي يجمع أنواعه وأفراده: ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم2543، ومسلم، برقم1968، وتقدم تخريجه في التسمية عند الذبح. (¬2) انظر: مجموع فتاوى ابن باز، 18/ 26. (¬3) مسلم، برقم1967، وتقدم تخريجه في صفة ذبح الأضحية. (¬4) أبو داود، برقم2795، وابن ماجه، برقم3121، وتقدم تخريجه في التوجيه إلى القبلة، وقد قال العلامة الألباني: هذه الجملة لها شاهد من حديث أبي سعيد عند أبي يعلى، فانظر: مجمع الزوائد، 4/ 22، وصححه الألباني في إرواء الغليل، برقم1152. (¬5) سورة يونس، الآيتان: 106 - 107. (¬6) سورة الأنعام، الآيتان: 162 - 163.

2 - إسبال الثياب، والمشالح، والسراويل

أن يصرف العبد نوعاً أو فرداً من أفراد العبادة لغير الله، فكل اعتقاد أو قول، أو عمل ثبت أنه مأمور به من الشارع فصرفه لله وحده: توحيد، وإيمان، وإخلاص، وصرفه لغير الله: شرك وكفر، وهذا ضابط للشرك الأكبر لا يشذ عنه شيء، وأما حد الشرك الأصغر فهو: كل وسيلة وذريعة يتطرق منها إلى الشرك الأكبر: من الإرادات، والأقوال، والأفعال التي لم تبلغ رتبة العبادة (¬1). 2 - إسبال الثياب، والمشالح، والسراويل، وغير ذلك من أنواع ألبسة الرجال التي تنزل تحت الكعبين، فكثير من الناس يوم العيد يلبس الملابس وقد خطت على الأرض تكنس الشوارع والأرصفة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم)). فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات - قال أبو ذر: ((خابوا وخسروا، مَن هم يا رسول الله؟ قال: ((المسبل إزاره، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)) (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار)) (¬3). وعن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من جرَّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)) (¬4). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا ينظر الله يوم القيامة إلى مَن جرَّ إزاره بطراً)) (¬5). ¬

(¬1) القول السديد في مقاصد التوحيد، لعبد الرحمن بن ناصر السعدي، ص31، 32، 54. (¬2) مسلم، كتاب المن بالعطية، وتنفيق السلعة بالحلف، وبيان الثلاثة الذين لا يكلمهم الله تعالى يوم القيامة ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، برقم106. (¬3) البخاري، كتاب اللباس، باب ما أسفل من الكعبين فهو في النار، برقم 5787. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب اللباس، باب من جر إزاره من غير خيلاء، برقم 5784، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم جر الثوب خيلاء، برقم 2085. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب اللباس، باب من جر ثوبه من الخيلاء، برقم 5788، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم جر الثوب خيلاء، برقم 2087.

وعن سالم بن عبد الله أن أباه حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((بينما رجل يجرّ إزاره خسف الله به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة)) (¬1). وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((مررت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي إزاري استرخاء، فقال: ((يا عبد الله، ارفع إزارك)) فرفعته، ثم قال: ((زد)) فزدت، فما زلت أتحراها بعد، فقال بعض القوم: إلى أين؟ فقال: ((إلى أنصاف الساقين)) (¬2). وعن أبي جريٍّ جابر بن سُليم يرفعه وفيه: ((وارفع إزارك إلى نصف الساق فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة)) (¬3). وعن عبد الرحمن بن الحلاج، قال: سألت أبا سعيد الخدري عن الإزار؟ فقال: على الخبير سقطت، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إزرة المسلم إلى نصف الساق ولا حرج - أو لا جُناح - فيما بينه وبين الكعبين، ما كان أسفل من الكعبين فهو في النار، من جرَّ إزاره لم ينظر الله إليه)) (¬4). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الإسبال في الإزار، والقميص، والعمامة، من جرَّ منها شيئاً خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)) (¬5). وعن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين ذكر الإزار: فالمرأة يا رسول الله؟ قال: ((ترخي شبراً)) قالت أم سلمة: إذاً ¬

(¬1) البخاري، كتاب اللباس، باب من جر ثوبه من الخيلاء، برقم5790. (¬2) مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم الثوب خيلاء، برقم2086. (¬3) أبو داود، كتاب اللباس، باب ما جاء في إسبال الإزار، برقم4084، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، برقم 4084. (¬4) أبو داود، كتاب اللباس، باب في قدر موضع الإزار، برقم4093. (¬5) أبو داود، كتاب اللباس، باب موضع الإزار، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، برقم 4093، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، برقم1194.

3 - الكبر: بعض الناس أيام العيد يحتقر الناس ويتكبر عليهم

ينكشف عنها‍! قال: ((فذراعاً لا تزيد عليه)) (¬1). وعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: رخَّص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمهات المؤمنين في الذيل شبراً ثم استأذننه فزادهن شبراً، فكن يرسلن إلينا فنذرع لهنَّ ذراعاً (¬2). وهذه الأحاديث تدل على أن إسبال الثياب والعمائم، والمشالح، والسراويل من كبائر الذنوب. وأن المسبل من الرجال إن كان متكبراً فقد ارتكب كبيرتين: الكبر، والإسبال، وإن لم يكن متكبراً فقد ارتكب كبيرة الإسبال. وعن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - آخذاً بحجزة سفيان بن أبي سهل وهو يقول: ((يا سفيان بن أبي سهل لا تسبل إزارك فإن الله لا يحب المسبلين)) (¬3). 3 - الكبر: بعض الناس أيام العيد يحتقر الناس ويتكبر عليهم، ويعجب بنفسه، ويختال في مشيته، وهذا محرم في جميع الأوقات، قال الله - عز وجل -: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} (¬4). وقال تعالى: {وَلا تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ الله لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (¬5).وقال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ} (¬6). وقال سبحانه: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ ¬

(¬1) أبو داود، كتاب اللباس، باب في قدر الذيل، برقم4117، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، برقم 4117. (¬2) أبو داود، كتاب اللباس، باب في قدر الذيل، برقم 4119، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، برقم 4119. (¬3) أخرجه أحمد،4/ 246، 4/ 250،وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول: ((إسناده جيد)). (¬4) سورة الإسراء، الآية: 37. (¬5) سورة لقمان، الآية: 18. (¬6) سورة الأعراف، الآية: 146.

الْحَرِيقِ} (¬1). وقال - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} (¬2).وقال - عز وجل -: {إنهُ لا يُحبُّ الْمُستكبرينَ} (¬3). وقال - سبحانه وتعالى -: {إِنَّ الله لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (¬4).وقال الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (¬5). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((بينما رجل يمشي في حُلَّةٍ تعجبه نفسه، مرجّلٌ جُمَّته، إذ خسف الله به فهو يتجلجل إلى يوم القيامة)) (¬6). وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -،عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)) قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة، قال: ((إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق، وغمط الناس)) (¬7). وعن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - ((أن رجلاً أكل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشماله، فقال: ((كل بيمينك))،قال: لا أستطيع، قال: ((لا استطعت ما منعه إلا الكبر، قال: فما رفعها إلى فيه)) (¬8). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال الله - عز وجل -: ((الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار)) (¬9). ¬

(¬1) سورة الحج، الآية: 9. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 40. (¬3) سورة النحل، الآية: 23. (¬4) سورة النساء، الآية: 26. (¬5) سورة القصص، الآية: 83. (¬6) متفق عليه: البخاري، في كتاب اللباس، باب من جر ثوبه من الخيلاء، برقم 5789، ومسلم، كتاب اللباس، باب تحريم التبختر في المشي، مع إعجابه بثيابه، برقم2088. (¬7) مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، برقم91. (¬8) مسلم، كتاب الأشربة، باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما، برقم 2021. (¬9) أبو داود، كتاب اللباس، باب ما جاء في الكبر، برقم 4090، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود.

ولفظ مسلم: ((العزّ إزاره، والكبرياء رداؤه، فمن ينازعني عذبته)) (¬1). وعن عياض بن حمار - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تعالى أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد)) (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزّاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله تعالى)) (¬3). وعن أنس - رضي الله عنه - قال: كانت ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - تسمى العضباء، وكانت لا تُسْبَق، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها، فاشتد ذلك على المسلمين، وقالوا: سُبقت العضباء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن حقّاً على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه)) (¬4). وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات، وثلاث كفارات، وثلاث درجات: فأما المهلكات: فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه، وأما المنجيات: فالعدل في الغضب والرضى، والقصد في الفقر والغنى، وخشية الله في السر والعلانية، وأما الكفارات: فانتظار الصلاة بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء في السبرات، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وأما الدرجات: فإطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام)) (¬5). ¬

(¬1) مسلم، كتاب البر والصلة، باب تحريم الكبر، برقم2620. (¬2) مسلم، كتاب الجنة ونعيمها، باب الصفات التي يُعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، برقم 64 - (2865). (¬3) مسلم، كتاب البر الصلة، باب استحباب العفو والتواضع، برقم2588. (¬4) البخاري كتاب الرقائق، باب التواضع، برقم 6501. (¬5) المعجم الأوسط للطبراني، [مجمع البحرين في زوائد المعجمين، 1/ 156، برقم142]، وله شاهد من حديث أنس في المرجع نفسه، برقم 141، 1/ 155. وذكر الألباني أنه روي عن أنس بن مالك، وعبد الله بن عباس، وأبي هريرة، وعبد الله بن أبي أوفى، وعبد الله بن عمر، وذكرها ثم قال: ((وبالجملة فالحديث بمجموع هذه الطرق حسن على أقل الدرجات إنشاء الله تعالى)). الأحاديث الصحيحة، برقم 1802، 4/ 416، وحسنه في صحيح الجامع، 3/ 67.

4 - الغناء، والمزامير، والمعازف

وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من تَعظَّم في نفسه، أو اختال في مشيته لقي الله - عز وجل - وهو عليه غضبان)) (¬1). وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، يساقون إلى سجن في جهنم يسمى بُولَس، تعلوهم نار الأنيار، ويسقون من عصارة أهل النار، طينة الخبال)) (¬2). 4 - الغناء، والمزامير، والمعازف: بعض الناس يُضيّعون أوقات العيد المبارك في الاجتماع على مزامير الشيطان، وآلات اللهو المحرمة، قال الله - عز وجل - للشيطان: {اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا *وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا} (¬3). قال مجاهد في تفسير الصوت هنا: باللهو، والغناء: أي استشغفهم بذلك (¬4). وقال - عز وجل -: {وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬5).ال ابن مسعود - رضي الله عنه - في تفسير ذلك: ((الغناء والله الذي لا إله إلا هو)) يرددها ثلاث مرات، وتبع ابن مسعود عبد الله بن عباس، وجابر، ومجاهد - رضي الله عنهم - ورحمهم. وقال الله - عز وجل -: {أَفَمِنْ هَذَا الحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ * ¬

(¬1) البخاري في الأدب المفرد، برقم 549،وصححه الألباني في الأحاديث الصحيحة، برقم 543،وفي صحيح الأدب المفرد، ص207،ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 1/ 60 بلفظ: ((من تعاظم في نفسه واختال في مشيته، لقي الله وهو عليه غضبان)). (¬2) أحمد، 2/ 118، والترمذي، كتاب صفة القيامة، باب حدثنا هناد، برقم 2492، وقال: ((هذا حديث حسن صحيح))، والبخاري في الأدب المفرد، برقم 557، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 602،وفي صحيح الأدب المفرد، ص210. (¬3) سورة الإسراء، الآيات: 62 - 64. (¬4) تفسير ابن كثير، 3/ 50. (¬5) سورة لقمان، الآيتان: 6 - 7.

وَأَنتُمْ سَامِدُونَ} (¬1). قال ابن عباس في السمود: هو الغناء، ويقال: اسمدي لنا: أي غني لنا، والسمد أيضاً: الغفلة واللهو عن الشيء. وقال - عز وجل -: {الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} (¬2). واللهو كل ما ألهى عن طاعة الله، واللعب كل ما لا فائدة فيه. وقال - عز وجل -: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} (¬3). والمكاء: التصفير، والتصدية: التصفيق. وعن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - يرفعه: ((ليشربن أناس من أمتي الخمر ويسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير)) (¬4). وعنه - رضي الله عنه - يرفعه: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ والحرير، والخمر، والمعازف)) (¬5). وعن أنس مرفوعاً: ((صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند نعمة، ورنة عند مصيبة)) (¬6). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله حرَّم عليكم: الخمر، والميسر، والكوبة (¬7)، وقال: كل مسكر حرام)) (¬8). ¬

(¬1) سورة النجم، الآيات: 59 - 61. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 51. (¬3) سورة الأنفال، الآية: 35. (¬4) ابن ماجه، كتاب الفتن، باب العقوبات، برقم4020،وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 3/ 317. (¬5) البخاري، كتاب الأشربة، باب ما جاء فيمن يستحل الخمر، ويسميه بغير اسمه، برقم 5590، قال شيخنا ابن باز أثناء تقريره على صحيح البخاري على هذا الحديث: ((وكلام ابن حزم فاسد حيث يرى أن هذا الحديث ليس متصلاً)). (¬6) ذكره السيوطي في الجامع الصغير، وعزاه إلى البزار، والضياء المقدسي في المختارة، وعزاه الألباني إلى أبي بكر الشافعي في الرباعيات، وذكر له شاهداً عند الحاكم، 4/ 40، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم 3695، وانظر: الأحاديث الصحيحة، رقم428. (¬7) الكوبة: الطبل كما في رواية أبي داود، برقم 3696. (¬8) أحمد بلفظه، 1/ 350، و274، 278، 289، وأبو داود، كتاب الأشربة، باب في الأوعية، برقم3696، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 705، وفي الأحاديث الصحيحة 1806.

5 - حلق اللحى يكثر عند أمة من البشر يوم العيد

وجاء عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: ((الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل)). وفي رواية: ((الزرع)). وقال الإمام مالك رحمه الله: ((إنما يفعله عندنا الفساق)). وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: ((بدؤها من الشيطان وعاقبتها سخط الرحمن)). وقال الضحاك رحمه الله: ((الغناء مفسدة للقلب مسخطة للرب)). وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: ((الغناء رائد الفجور)). وقال الوليد بن عبد الملك رحمه الله: ((الغناء داعية الزنا)) (¬1). 5 - حلق اللحى يكثر عند أمة من البشر يوم العيد، وهو محرم؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((خالفوا المشركين وفّروا اللحى وأحفّوا الشوارب)). وفي لفظ: ((أنهكوا الشوارب وأعفوا اللحى)) (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه: ((جزُّوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس)) (¬3).وفي حديث زيد بن أرقم: ((من لم يأخذ من شاربه فليس منا)) (¬4). فلا يجوز لمسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حقاً بعد سماعه لهذه الأحاديث أن يأخذ من لحيته شيئاً، والله المستعان. 6 - مصافحة النساء من غير المحارم محرمة في كل وقت، وقد وقع بعض ضعفاء الإيمان في هذا المُحرَّم، وخاصة أيام الأعياد والأفراح، ومما يؤكد تحريم مصافحة النساء الأجنبيات حديث معقل بن يسار - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لَأن يُطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحلُّ له)) (¬5). وقد ذكرت عائشة رضي الله عنها ¬

(¬1) انظر هذه الأقوال: إغاثة اللهفان لابن القيم، 1/ 347 - 399. (¬2) متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، البخاري برقم 5892، ورقم 5893، ومسلم، برقم 259، وتقدم تخريجه في الطهارة: سنن الفطرة. (¬3) مسلم، برقم 260، وتقدم تخريجه في الطهارة، سنن الفطرة. (¬4) الترمذي، برقم 2761،والنسائي، برقم 13،وصححه الألباني، وتقدم تخريجه في الطهارة، سنن الفطرة. (¬5) الطبراني في الكبير،20/ 211 - 212،برقم 486، 487،وقال المنذري في الترغيب والترهيب، 2/ 657: ((رواه الطبراني والبيهقي، ورجال الطبراني ثقات رجال الصحيح))، حسنه الألباني في غاية المرام، برقم 196،والأحاديث الصحيحة، برقم 226.

7 - التشبه بالكفار والمشركين، في الملابس وغيرها

كيفية بيعة النبي - صلى الله عليه وسلم - للنساء، ثم قالت: ((وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أقررن بذلك من قولهن قال لهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((انطلقن فقد بايعتكن)) ولا والله ما مست يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يد امرأة قط غير أنه يبايعهن بالكلام)) (¬1). 7 - التشبه بالكفار والمشركين، في الملابس وغيرها، سواء كان التشبه من الرجال أو النساء، فلا يجوز لمسلم أن يتشبه بأعداء الله ورسوله؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجُعل رزقي تحت ظل رمحي، وجُعل الذلّ والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم)) (¬2). 8 - تشبه الرجال بالنساء في الملابس أو الحركات، أو الزينة أو مما هو من خصائص النساء، وتشبه النساء بالرجال كذلك، وهذا يحصل في الأعياد وفي غيرها، وهو محرم لا يجوز؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال)) وفي لفظ: ((لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - المخنثين (¬3) من الرجال، والمترجلات من النساء، وقال: أخرجوهم من بيوتكم)) فأخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فلاناً، وأخرج عمر فلاناً)) (¬4). 9 - الخلوة بالنساء أيام الأعياد، أو الأفراح أو غير ذلك محرمة، ومن خلا بامرأة فالشيطان ثالثهما؛ لحديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إياكم والدخول على النساء)) فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحموَ؟ قال: ((الحموُ ¬

(¬1) مسلم، كتاب الإمارة، باب كيف بيعة النساء، برقم 1866. (¬2) أحمد،2/ 50، 92،وابن أبي شيبة في المصنف،5/ 313،وصححه الألباني في إرواء الغليل، 5/ 109. (¬3) المخنثين: المتشبهين بالنساء، والمترجلات: المتشبهات بالرجال، انظر فتح الباري لابن حجر، 1/ 332. (¬4) البخاري، كتاب اللباس، باب المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال، وباب إخراج المتشبهين بالنساء من البيوت، برقم 5885، ورقم 5886.

10 - تبرج النساء وخروجهن من البيوت إلى الأسواق

الموت)) (¬1) (¬2). ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يخلونَّ رجل بامرأة إلا مع ذي محرم)) (¬3). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان)) (¬4). قال الترمذي رحمه الله: ((وإنما معنى كراهية الدخول على النساء: على نحو ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يخلونَّ رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان)). ومعنى قوله: ((الحمو)) يقال: هو أخو الزوج، كأنه كره له أن يخلو بها)) (¬5). 10 - تبرج النساء وخروجهن من البيوت إلى الأسواق، يكثر أيام العيد خروج النساء متبرجات إلا من عصم الله - عز وجل -،وهذا حرام؛ لقول الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (¬6).وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر، يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات (¬7) مميلات (¬8) مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت (¬9) المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب النكاح، باب لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم، والدخول على المغيبة، برقم5232،ومسلم، كتاب السلام، باب تحريم الخلوة بالأجنبية، برقم 2172. (¬2) الحمو: قريب الزوج، والمعنى: فليمت ولا يفعلن ذلك. الترغيب والترهيب للمنذري، 2/ 657. (¬3) البخاري، كتاب النكاح، باب لا يخلون رجل بامرأة، برقم 5233. (¬4) مسلم، كتاب السلام، باب تحريم الخلوة بالأجنبية، برقم 2173. (¬5) الترمذي، كتاب الرضاع، باب ما جاء في كراهية الدخول على المغيبات، برقم1171 من كلام الترمذي. (¬6) سورة الأحزاب، الآية: 33. (¬7) كاسيات عاريات: قيل: كاسيات من نعمة الله عاريات من شكرها، وقيل: تستر بعض بدنها وتكشف بعضه، وقيل: تلبس ثوباً رقيقاً يصف لون بدنها. شرح النووي على صحيح مسلم، 14/ 356. ويدخل في ذلك والله أعلم: من تلبس ثوباً ضيقاً يبين صورة عورتها. (¬8) مميلات مائلات: قيل: مائلات عن طاعة الله مميلات: يعلمن غيرهن فعلهن المذموم، وقيل: مائلات: يتثنين متبخترات مميلات لأكتافهن، وقيل: مائلات: يمشطن المشطة المائلة مشطة البغايا، مميلات بمشطهن غيرهن تلك المشطة. شرح النووي،14/ 357. (¬9) رؤوسهن كأسنمة البخت: يكبرنها ويعظمنها بلف عمامة أو عصابة أو نحوها. شرح النووي، 14/ 357.

11 - التبذير والإسراف

وكذا)).وفي لفظ: ((وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)) (¬1). 11 - التبذير والإسراف، يقول الله - عز وجل -: {وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (¬2). وقال الله تعالى: {وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبّهِ كَفُورًا} (¬3). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كلوا واشربوا والبسوا، وتصدقوا، في غير إسراف ولا مخيلة)) (¬4).وعن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وماله من أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفقه؟ وماذا عمل فيما علم)) (¬5). وعن أبي برزة الأسلمي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفقه؟ وعن جسمه فيمَ أبلاه)) (¬6). 12 - عدم العناية بالفقراء والمساكين، وكثيراً ما يُظهر أبناء الأغنياء السرور والفرح، ويأكلون المأكولات المتنوعة، يفعلون ذلك أمام الفقراء وأبنائهم، دون رحمة أو شفقة، ولا تعاون، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) (¬7). 13 - عدم صلة الأرحام بما يحتاجونه من مساعدات، أو زيارات، أو ¬

(¬1) مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب النساء الكاسيات، برقم 2128، وكتاب الجنة والنار، باب النار يدخلها الجبارون، برقم 2128. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 141. (¬3) سورة الإسراء، الآيتان: 26 - 27. (¬4) البخاري، معلقاً، مجزوماً به، كتاب اللباس، باب قول الله تعالى: {قُل مَن حرَّمَ زينةَ الله التي أخرجَ لعبادِهِ}، قبل الحديث رقم 5784. (¬5) الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب في القيامة، برقم 2416، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 572، والأحاديث الصحيحة، برقم 946. (¬6) الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب في القيامة، برقم 2417، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 572. (¬7) متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، برقم 13، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير، برقم 45.

إحسان، أو إدخال سرور، أو غير ذلك من أنواع الإحسان؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقول: ((من سره أن يُبسط له في رزقه أو يُنسأ له في أثره فليصل رحمه)). وفي لفظ: ((من أحب أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثره، فليصل رحمه)) (¬1)؛ ولحديث جبير بن مطعم أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يدخل الجنة قاطع)) (¬2)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه قالت الرحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة؟ قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب، قال: فهو لك)). قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فاقرأوا إن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ الله فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ * أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا})) (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إليَّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليَّ، فقال: ((لئن كنت كما قلت فكأنما تسفّهم الملّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك)) (¬4). والله - سبحانه وتعالى - ولي التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب البيوع، باب من أحب أن يبسط له في الرزق، برقم 2067،وكتاب الأدب، باب من بسط له في الرزق، لصلة الرحم، برقم 5985، ورقم 5986،ومسلم، كتاب البر والصلة، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، برقم 2557. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأدب، باب إثم القاطع، برقم 5984، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب صلة الرحم، برقم 2556. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأدب، باب من وصل وصله الله، برقم 5987، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب صلة الرحم، برقم 2554، والآيات من سورة محمد 22 - 24. (¬4) مسلم، كتاب البر والصلة، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، برقم 2558.

المبحث الثاني والثلاثون: صلاة الكسوف

المبحث الثاني والثلاثون: صلاة الكسوف أولاً: مفهوم الكسوف، الكسوف لغة: التغير إلى سواد، يقال: كسفت حاله إذا تغيرت، وكسف وجهه إذا تغير، وكسفت الشمس: اسودَّت، وذهب شعاعها (¬1). والخسوف لغة: النقصان، يقال: خسف المكان يخسف خسوفًا، إذا ذهب في الأرض، ويقال: عينٌ خاسفة: إذا غابت حدقتها، منقول من خسف القمر، وبئر مخسوفة: إذا غاب ماؤها ونزف، منقول من خسف الله القمر، وتُصوّرَ من خسف القمر مهانة تلحقه فاستعير الخسف للذل، فقيل: تحمل فلان خسفًا (¬2). فكسوف الشمس والقمر وخسوفهما: تغيرهما ونقصان ضوئهما فهما بمعنى واحد وكلاهما صحت به الأحاديث، وجاء القرآن بلفظ الخسوف للقمر (¬3). الكسوف أو الخسوف في الاصطلاح: احتجاب ضوء الشمس أو القمر أو بعضه بسبب معتاد يخوف الله به عباده، فعلى هذا يكون الكسوف والخسوف مترادفين أي بمعنى واحد، فَيُقال: كسفت الشمس وخسفت، وكسف القمر وخسف (¬4)، وقيل: الكسوف للشمس، والخسوف للقمر (¬5). ¬

(¬1) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 2/ 549، والإعلام بفوائد عمدة الأحكام، لابن الملقن، 4/ 264، وفتح الباري لابن حجر، 2/ 526. (¬2) انظر: الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، 4/ 264، والمفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 2/ 549، ومفردات ألفاظ القرآن للأصفهاني، ص282. (¬3) المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم،2/ 549،والمغني لابن قدامة، 5/ 321. (¬4) الشرح الممتع على زاد المستقنع، 5/ 229. (¬5) اختلف في الكسوف والخسوف هل هما مترادفان أو لا قال ابن الأثير رحمه الله في النهاية في غريب الحديث، 4/ 174: ((قد تكرر في الحديث ذكر الكسوف والخسوف ((للشمس والقمر)) فرواه جماعة فيهما بالكاف، ورواه جماعة فيهما بالخاء، ورواه جماعة في الشمس بالكاف، وفي القمر بالخاء، وكلهم رووا أنهما آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، والكثير في اللغة - وهو اختيار الفراء - أن يكون الكسوف للشمس، والخسوف للقمر، يقال: كسفت الشمس، وكسفها الله، وانكسفت، وخسف القمر، وخسفه الله، وانخسف)). وقال أيضًا، 2/ 31: ((إن الشمس والقمر لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته: ((يقال: خسف القمر بوزن ضرب إذا كان الفعل له، وخُسِفَ القمر على ما لم يسم فاعله، وقد ورد الخسوف في الحديث كثيراً للشمس، والمعروف لها في اللغة الكسوف، لا الخسوف، فأما إطلاقه في مثل هذا الحديث فتغليبًا للقمر، لتذكيره على تأنيث الشمس، فجمع بينهما فيما يخص القمر، وللمعاوضة أيضًا؛ فإنه قد جاء في رواية أخرى: ((إن الشمس والقمر لا ينكسفان))، وأما إطلاق الخسوف على الشمس منفردة؛ فلاشتراك الخسوف والكسوف في معنى ذهاب نورهما وإظلامهما، والانخساف مطاوع خسفته فانخسف)). وقال في جامع الأصول 6/ 164: ((يقال: كسفت الشمس وكسفها الله بتعدّي فعله ولا يتعدّى، وكذلك كسف القمر، والأولى أن يقال: خسف القمر، وقد جاء في الحديث: كسفت الشمس، وخسفت، وكسف القمر وخسف)). وقال الفيروز آبادي في القاموس، ص1039: ((خسف المكان يخسف خسوفًا: إذا ذهب في الأرض، وخسف القمر: كسف، أو كسف للشمس وخسف للقمر، أو الخسوف إذا ذهب بعضهما، والكسوف كلهما، وقال في موضع آخر، ص1097: ((كسف الشمس والقمر كسوفًا: احتجبا، كانكسفا، وكسف الله إيهما: حجبهما، والأحسن في القمر: خسف، وفي الشمس: كسفت)). وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى: ((يقال: كسفت الشمس والقمر، بفتح الكاف، وكُسِفا بضمها، وانكسفا وخسفا، وخُسِفا، وانخسفا بمعنى، وقيل: كسف الشمس بالكاف، وخسف القمر بالخاء، وحكى القاضي عياض عكسه عن بعض أهل اللغة والمتقدمين وهو باطل مردود بقول الله تعالى: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} ثم جمهور أهل العلم وغيرهم على أن الخسوف والكسوف يكون لذهاب ضوئهما، كله، ويكون لذهاب بعضه، وقال جماعة منهم الليث بن سعد: الخسوف في الجميع، والكسوف في بعض، وقيل: الخسوف ذهاب لونهما، والكسوف تغيره)) شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 251. قال الإمام البخاري رحمه الله: ((بابٌ: هل يقول: كسفت الشمس أو خسفت، وقال الله تعالى: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} [القيامة: 8]، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: ((قال الزين بن المنير: أتى بلفظ الاستفهام إشعاراً منه بأنه لم يترجح عنده في ذلك شيء)). ثم قال ابن حجر: ((قلت: ولعله أشار إلى ما رواه ابن عيينة عن الزهري عن عروة قال: لا تقولوا كسفت الشمس ولكن قولوا: خسفت، وهذا موقوف صحيح رواه سعيد بن منصور عنه، وأخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى عنه، لكن الأحاديث الصحيحة تخالفه؛ لثبوتها بلفظ الكسوف في الشمس من طرق كثيرة، والمشهور في استعمال الفقهاء أن الكسوف للشمس، والخسوف للقمر، واختاره ثعلب، وذكر الجوهري أنه أفصح، وقيل: يتعين ذلك، وحكى عياض عن بعضهم عكسه، وغلطه لثبوته بالخاء في القمر في القرآن وكأن هذا السر في استشهاد المؤلف به في الترجمة، وقيل: يقال بهما في كل منهما وبه جاءت الأحاديث، ولا شك أن مدلول الكسوف لغة غير مدلول الخسوف؛ لأن الكسوف التغير إلى السواد، والخسوف النقصان أو الذل، فإذا قيل: في الشمس كسفت أو خسفت؛ لأنها تتغير ويلحقها النقص ساغ، وكذلك القمر، ولا يلزم من ذلك أن الكسوف والخسوف مترادفان، وقيل: بالكاف في الابتداء وبالخاء في الانتهاء، وقيل: بالكاف لذهاب جميع الضوء وبالخاء لبعضه، وقيل: بالخاء لذهاب كل اللون والكاف لتغيره ... [فتح الباري لابن حجر، 2/ 535]،وقال الحافظ ابن حجر أيضًا: ((قيل: الخسوف في الكل والكسوف في البعض وهو أولى من قول من قال: الخسوف للقمر، والكسوف للشمس لصحة ورود ذلك في الصحيح بالخاء للشمس)) [هدي الساري مقدمة فتح الباري، ص111]. وقال: ((كسفت الشمس: أي سُتِر ضوؤها)) [المرجع السابق، 179]. وقال في معجم لغة الفقهاء، ص173، و349: ((خسوف بضم الخاء مصدر خُسف الشيء: نقص: ذهاب ضوء القمر خاصة كلاً أو جزءًا، كُسوف: بالضم مصدر كسف: زوال ضوء الشمس كلاً أو جزءًا، بسبب اعتراض القمر بين الأرض والشمس)) والراجح ما تقدم في المتن، والله تعالى أعلم.

ثانيا: الكسوف أو الخسوف

ولعل هذا إذا اجتمعت الكلمتان فقيل: كسوف وخسوف، أما إذا انفردت كل واحدة عن الأخرى فهما بمعنى واحد؛ ولهذا نظائر في اللغة العربية، والله تعالى أعلم (¬1). ثانيًا: الكسوف أو الخسوف: آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إنَّ الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله فإذا رأيتموهما فصلوا)) (¬2)؛ ولحديث أبي مسعود - رضي الله عنه -، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحدٍ من الناس، ولكنهما آيتان من آيات الله، فإذا رأيتموهما فقوموا فصلُّوا)) (¬3). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قوله: ((آيتان)): أي علامتان، ((من آيات الله)) أي الدالة على وحدانية الله، وعظيم قدرته، أو على تخويف ¬

(¬1) الشرح الممتع على زاد المستقنع لابن عثيمين، 5/ 229، وانظر: نيل الأوطار للإمام الشوكاني، 2/ 633 - 648. (¬2) البخاري، كتاب الكسوف، باب الصلاة في كسوف الشمس، برقم 1042. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الكسوف، باب الصلاة في كسوف الشمس، برقم 1041، ومسلم، كتاب الكسوف، باب ذكر النداء بصلاة الكسوف ((الصلاة جامعة))، برقم 911.

العباد من بأس الله وسطوته، ويؤيده قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} (¬1) (¬2)؛ ولحديث أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد، ولكن الله تعالى يُخوّف بهما عباده)) (¬3). وعن عائشة رضي الله عنها ترفعه: ((إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما من آيات الله يخوف الله بهما عباده، فإذا رأيتم كسوفًا فاذكروا الله حتى ينجليا)) (¬4). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ((وكأن بعض الناس ظن أن كسوفها [أي الشمس] كان؛ لأن إبراهيم مات فخطبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة)) (¬5). وفي رواية في الصحيح: ((ولكنهما آيتان من آيات الله يخوف بهما عباده)) (¬6). وهذا بيان منه - صلى الله عليه وسلم - أنهما سبب لنزول عذاب بالناس؛ فإن الله تعالى إنما يخوف عباده بما يخافونه إذا عصوه، وعصوا رسله، وإنما يخاف الناس مما يضرهم فلولا إمكان حصول الضرر بالناس عند الخسوف ما كان ذلك تخويفًا، قال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} (¬7)، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يزيل ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 59. (¬2) فتح الباري، لابن حجر، 2/ 528. (¬3) البخاري، كتاب الكسوف، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:يخوف الله عباده بالكسوف، برقم 1048. (¬4) مسلم، كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف، برقم 6 - ((901)). (¬5) متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها: البخاري برقم 1044، ورقم 1047، ومسلم، برقم 901، ويأتي تخريجه في صفة صلاة الكسوف. (¬6) البخاري، برقم 1048، وتقدم تخريجه في الذي قبله. (¬7) سورة الإسراء، الآية: 59.

ثالثا: أسباب الكسوف الحسية والشرعية:

الخوف: أمر بالصلاة، والدعاء، والاستغفار، والصدقة، والعتق، حتى يُكشف ما بالناس، وصلى بالمسلمين صلاة الكسوف صلاة طويلة)) (¬1). وهذا يؤكد الاستعداد بالمراقبة لله تعالى والالتجاء إليه سبحانه، وخاصة عند اختلاف الأحوال وحدوث ما يخاف بسببه (¬2). ثالثًا: أسباب الكسوف الحسّيَّة والشرعية: السبب الحسي (¬3)، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته)) (¬4)، قولان: أحدهما: أن موت الميت وحياته لا يكون سببًا انكسافهما، كما كان يقوله كثير من جهال العرب وغيرهم عند الانكساف، أن ذلك لموت عظيم، أو ولادة عظيم، فأبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وأخبر أن موت الميت وحياته لا يؤثر في كسوفهما البتة. والثاني: أنه لا يحصل عن انكسافهما موت ولا حياة، فلا يكون انكسافهما سببًا لموت ميت ولا لحياة حي، وإنما ذلك تخويف من الله لعباده أجرى العادة بحصوله في أوقات معلومة، بالحساب: طلوع الهلال، وإبداره، وسراره. فأما سبب كسوف الشمس: فهو توسط القمر بين جرم الشمس وبين أبصارنا. وأما سبب خسوف القمر: ((فهو توسط الأرض بينه وبين الشمس حتى يصير القمر ممنوعًا من اكتساب النور من الشمس، ويبقى ظلام ظل الأرض في ممره؛ لأن القمر لا ضوء له أبدًا، وأنه يكتسب الضوء من ¬

(¬1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 24/ 258 - 259، وانظر: 35/ 169. (¬2) حاشية ابن قاسم على الروض المربع، 2/ 524. (¬3) انظر: الشرح الممتع لابن عثيمين، 5/ 230. (¬4) البخاري برقم 1048، وتقدم تخريجه.

الشمس ... )) (¬1). والعلم بوقت الكسوف ليس من علم الغيب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((الكسوف والخسوف لهما أوقات مقدرة، كما لطلوع الهلال وقت مقدر، وذلك ما أجرى الله عادته بالليل والنهار، والشتاء والصيف، وسائر ما يتبع جريان الشمس والقمر، وذلك من آيات الله ... وكما أن العادة التي أجراها الله تعالى أن الهلال لا يستهل إلا ليلة ثلاثين من الشهر، أو ليلة إحدى وثلاثين، وأن الشهر لا يكون إلا ثلاثين أو تسعة وعشرين، فمن ظن أن الشهر يكون أكثر من ذلك أو أقل، فهو غالط، فكذلك أجرى الله العادة أن الشمس لا تكسف إلا وقت الاستسرار، وأن القمر لا يخسف إلا وقت الإبدار، ووقت إبداره: الليالي البيض التي يستحب صيام أيامها: ليلة الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، فالقمر لا يخسف إلا في هذه الليالي، والهلال يستسر آخر الشهر إما ليلة وإما ليلتين، كما يستسر ليلة تسع وعشرين، وثلاثين، والشمس لا تكسف إلا وقت استسراره، وللشمس والقمر ليالي معتادة من عرفها عرف الكسوف والخسوف ... وليس خبر الحاسب بذلك من علم الغيب، ومن قال من الفقهاء إن الشمس تكسف في وقت الاستسرار فقد غلط، وقال ما ليس له به علم ... (¬2))) (¬3). ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة، 3/ 212 - 215، وقد شرح هذه الأسباب شرحًا مفصلاً، فليرجع إليه من شاء من 3/ 212 - 230. (¬2) فتاوى شيخ الإسلام، 24/ 254 - 257، وانظر 35/ 175. (¬3) وقال شيخ الإسلام أيضًا: ((وما يروى عن الواقدي من ذكره أن إبراهيم بن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات يوم العاشر من الشهر، وهو اليوم الذي صلى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الكسوف: غلط، والواقدي لا يحتج بمسانيده فكيف بما أرسله من غير أن يسنده إلى أحد، وهذا فيما لا يعلم أنه خطأ، فأما هذا فيعلم أنه خطأ. ومن جوز هذا فقد قفا ما ليس له به علم، ومن حاج في ذلك فقد حاج فيما ليس له به علم)) [مجموع الفتاوى، 24/ 257]، وقد ذكر العلامة أحمد شاكر نقلاً عن بعض علماء الفلك تحقيق وقت الكسوف الذي صلى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الكسوف يوم مات إبراهيم، وأن الشمس كسفت في المدينة في يوم الإثنين 29 شوال سنة 10هـ الموافق ليوم 27 يناير سنة 632م في الساعة الثامنة والدقيقة 30 صباحًا [المحلى، الحاشية، 5/ 103 - 105]، وانظر هذا النقل أيضًا في إسعاف الملهوف في بيان أحكام صلاة الكسوف، لأبي عمر حاوي بن سالم الحاوي، ص52 - 53، الدار السلفية، الكويت.

* ولا يكذب المخبر بالكسوف ولا يصدق

* ولا يُكذَّب المخبر بالكسوف ولا يُصدَّق، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((وأما تصديق المخبر بذلك وتكذيبه، فلا يجوز أن يصدق إلا أن يعلم صدقه، ولا يكذب إلا أن يعلم كذبه (¬1)، ولكن إذا تواطأ خبر أهل الحساب على ذلك فلا يكادون يخطئون، ومع هذا فلا يترتب على خبرهم علم شرعي، فإن صلاة الكسوف والخسوف لا تُصلَّى إلا إذا شاهدنا ذلك، وإذا جوَّز الإنسان صدق المخبر بذلك أو غلب على ظنه فنوى أن يُصلي الكسوف والخسوف عند ذلك، واستعد ذلك الوقت لرؤية ذلك كان هذا حثًّا من باب المسارعة إلى طاعة الله تعالى وعبادته؛ فإن الصلاة عند الكسوف متفق عليها بين المسلمين، وقد تواترت بها السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورواها أهل الصحيح، والسنن، والمسانيد من وجوه كثيرة)) (¬2). السبب الشرعي: هو تخويف الله تعالى لعباده؛ لحديث أبي بكرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد، ولكن الله تعالى يخوّف بهما عباده)) (¬3). وهذا السبب هو الذي يفيد؛ ليرجعوا إلى الله تعالى، أما السبب الحسي فليس ذا فائدة كبيرة؛ ولهذا لم يبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬4). ¬

(¬1) قال الإمام ابن باز: ((وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم ما يوافق ذلك وأن الله سبحانه قد أجرى العادة بخسوف الشمس والقمر؛ لأسباب معلومة يعقلها أهل الحساب، والواقع شاهد بذلك ولكن لا يلزم من ذلك أن يصيب أهل الحساب في كل ما يقولون، بل قد يخطئون في حسابهم، فلا ينبغي أن يصدقوا ولا أن يكذبوا، والتخويف بذلك حاصل على كل تقدير، لمن يؤمن بالله واليوم الآخر، والله أعلم)) تعليق ابن باز على فتح الباري لابن حجر، 2/ 537. (¬2) مجموع فتاوى ابن تيمية، 24/ 258. (¬3) البخاري، برقم 1048، وتقدم تخريجه. (¬4) انظر: الشرح الممتع؛ لابن عثيمين، 5/ 233.

قال شيخ الإسلام رحمه الله عن الحديث السابق: ((فذكر أن حِكْمَةَ ذلك تخويف العباد كما يكون تخويفهم في سائر الآيات: كالرياح الشديدة، والزلازل، والجدب، والأمطار المتواترة، ونحو ذلك من الأسباب التي قد تكون عذابًا؛ كما عذب الله أُممًا بالريح، والصيحة، والطوفان، وقال تعالى: {فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (¬1)، وقد قال: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} (¬2)، وإخباره بأنه يخوف عباده بذلك يبين أنه قد يكون سببًا لعذاب ينزل: كالريح العاصفة الشديدة، وإنما يكون ذلك إذا كان الله قد جعل ذلك سببًا لِمَا ينزل في الأرض)) (¬3). وقد سبق أن شيخ الإسلام ذكر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيّن أن كسوف الشمس والقمر سبب لنزول عذاب بالناس (¬4). وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ((نعم لا ننكر أنه سبحانه يحدث عند الكسوفين من أقضيته وأقداره ما يكون بلاء لقوم ومصيبة لهم، ويجعل الكسوف سببًا لذلك؛ ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الكسوف بالفزع إلى ذكر الله، والصلاة، والعتاقة، والصدقة، والصيام؛ لأن هذه الأشياء تدفع موجب الكسف الذي جعله الله سببًا لِمَا جعله، فلولا انعقاد سبب التخويف لَمَا أمر بدفع موجبه بهذه العبادات، ولله تعالى في أيام دهره أوقات يحدث فيها ما يشاء من البلاء، والنعماء، ويقضي من الأسباب ما يدفع موجب تلك الأسباب لمن قام به، أو يقلله، أو يخففه، ¬

(¬1) سورة العنكبوت، الآية: 40. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 59. (¬3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام، 35/ 169. (¬4) المرجع السابق، 24/ 258 - 259.

فمن فزع إلى تلك الأسباب أو بعضها اندفع عنه الشر الذي جعل الله الكسوف سببًا له أو بعضه؛ ولهذا قلّ ما تسلم أطراف الأرض حيث يخفى الإيمان وما جاءت به الرسل من شر عظيم يحصل بسبب الكسوف، وتسلم منه الأماكن التي يظهر فيها نور النبوة والقيام بما جاءت به الرسل، أو يقل فيها جدًا، ولمَّا كسفت الشمس على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - قام فزعًا مسرعًا يجرُّ رداءه، ونادى في الناس: الصلاة جامعة، وخطبهم بتلك الخطبة البليغة، وأخبر أنه لم يرَ كيومه ذلك في الخير والشر، وأمرهم عند حصول مثل تلك الحالة: بالعتاقة، والصدقة، والصلاة، والتوبة، فصلوات الله وسلامه على أعلم الخلق بالله، وبأمره، وشأنه، وتعريفه أمور مخلوقاته، وتدبيره، وأنصحهم للأمة، ومن دعاهم إلى ما فيه سعادتهم: في معاشهم، ومعادهم، ونهاهم عما فيه: هلاكهم: في معاشهم ومعادهم)) (¬1). * والعلم بوقت الكسوف لا ينافي الخوف؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((وأما كون الكسوف أو غيره قد يكون سببًا لحادث في الأرض من عذاب يقتضي موتًا أو غيره: فهذا قد أثبته الحديث نفسه)) (¬2). وقال رحمه الله: ((فإذا كان الكسوف له أجل مسمى لم ينافي ذلك أن يكون عند أجله يجعله الله سببًا لِمَا يقتضيه من عذاب وغيره لمن يعذب الله في ذلك الوقت، أو لغيره ممن ينزل الله به ذلك، كما أن تعذيب الله لمن عذبه بالريح الشديدة الباردة: كقوم عاد كانت في الوقت المناسب وهو آخر الشتاء كما ذكر ذلك أهل التفسير، وقصص الأنبياء، وكذلك الأوقات التي يُنزل الله فيها الرحمة: كالعشر الآخرة من رمضان، والأُول من ذي الحجة، وكجوف الليل، وغير ذلك: هي أوقات محدودة لا تتقدم ولا تتأخر، وينزل ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة، 3/ 220. (¬2) مجموع الفتاوى، 35/ 175.

* ولا تنافي بين اجتماع السبب الحسي والشرعي

فيها من الرحمة ما لا ينزل في غيرها)) (¬1). * ولا تنافي بين اجتماع السبب الحسي والشرعي، ويكون الحسي معلومًا معروفًا للناس قبل أن يقع، والشرعي معلومًا بطريق الوحي؛ ((لأنه حتى الأمور العظيمة: كالخسف بالأرض، والزلازل، والصواعق، وشبهها التي يحس الناس بضررها وأنها عقوبة لها أسباب طبيعية، يُقدّر الله هذه الأسباب الطبيعية حتى تكون المسببات، وتكون الحكمة من ذلك: هو تخويف العباد، فالزلازل لها أسباب، والصواعق لها أسباب، والبراكين لها أسباب، والعواصف لها أسباب، لكن يُقَدّر الله هذه الأسباب من أجل استقامة الناس على دين الله ... )) (¬2). رابعًا: فوائد الكسوف وحِكَمَهُ: للكسوف حِكَمٌ عظيمةٌ منها، سبع فوائد: قال ابن الملقن رحمه الله تعالى: ((ونقل المحب الطبري في أحكامه عن بعضهم أن في الكسوف سبع فوائد: الأولى: ظهور التصرف في الشمس والقمر، وهما خلقان عظيمان. الثانية: أن يتبين بتغيُّرهما تَغيُّر شأن ما بعدهما (¬3). الثالثة: إزعاج القلوب الساكنة بالغفلة وإيقاظها. الرابعة: ليرى الناس نموذج ما سيجري في القيامة، قال تعالى: {وَخَسَفَ القمر* وَجُمِعَ الشمس وَالْقَمَرُ} (¬4). الخامسة: أنهما موجودان في حال الكمال، ويكسفان ثم يلطف بهما، ويعادان إلى ما كانا عليه، تنبيهًا على خوف المكر ورجاء العفو. السادسة: إعلام بأنه قد يؤخذ من لا ذنب له؛ ليحذر من له ذنب. ¬

(¬1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 35/ 176. (¬2) الشرح الممتع على زاد المستقنع لابن عثيمين، 5/ 233. (¬3) في عمدة القاري للعيني، 6/ 53 ((الثانية: تبين قبح شأن من يعبدها)). (¬4) سورة القيامة، الآيتان: 8 - 9.

السابعة: أن الناس قد أنسوا بالصلوات المفروضات

السابعة: أن الناس قد أَنسوا بالصلوات المفروضات، فيأتونها من غير انزعاج ولا خوف، فأتى بهذه الآية سببًا لهذه الصلاة؛ ليفعلها بانزعاج، وخوف، ولعل تركه يصير عادة لهم في المفروضات)) (¬1). خامسًا: حُكم صلاة الكسوف: صلاة الكسوف: قيل: سنة مؤكدة، قال الإمام النووي رحمه الله: ((وأجمع العلماء على أنها سنة)) (¬2). وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: ((وصلاة الكسوف سنة مؤكدة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلها وأمر بها)) (¬3). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((فالجمهور على أنها سنة مؤكدة، وصرح أبو عوانة في صحيحه بوجوبها، ولم أره لغيره، إلا ما حُكي عن مالك أنه أجراها مجرى الجمعة، ونقل الزين بن المنير عن أبي حنيفة أنه أوجبها، وكذا نقل عن بعض مصنفي الحنفية أنها واجبة)) (¬4)، وقال العلامة السعدي رحمه الله: ((وقال بعض العلماء بوجوب صلاة الكسوف؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلها وأمر بها)) (¬5). وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: ((وقال بعض أهل العلم: إنها واجبة؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رأيتم ذلك فصلوا)) قال ابن القيم في كتاب الصلاة وهو قول قوي (¬6)، أي القول بالوجوب، وصدق رحمه الله؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بها، وخرج فزعًا، وقال: إنها تخويف، وخطب خطبة عظيمة، وعُرِضت عليه الجنة والنار، وكل هذه القرائن العظيمة تشعر بوجوبها؛ لأنها قرائن عظيمة، ولو قلنا: إنها ليست بواجبة، وأن الناس مع وجود الكسوف إذا تركوها مع ¬

(¬1) الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، 4/ 267، وانظر: عمدة القاري للعيني، 6/ 53، وفتح الباري لابن حجر، 2/ 532. (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 451. (¬3) المغني، 3/ 330. (¬4) فتح الباري لابن حجر، 2/ 527، وانظر: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، 5/ 389. (¬5) المختارات الجلية من المسائل الفقهية، ص73. (¬6) كتاب الصلاة لابن القيم، ص15.

سادسا: آداب صلاة الكسوف

هذا الأمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - والتأكيد فلا إثم عليهم لكان في هذا شيء من النظر، كيف يكون تخويفًا ثم لا نبالي وكأنه أمر عادي، أين الخوف؟ وهذا القول قوي جدًّا، ولا أرى أن الناس يرون الكسوف في الشمس أو القمر ثم لا يبالون به، كل في تجارته، كل في لهوه، كل في مزرعته، فهذا شيء يخشى أن تنزل بسببه العقوبة التي أنذرنا الله إياها بهذا الكسوف، فالقول بالوجوب أقوى من القول بالاستحباب)) (¬1). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله يقول: ((وهي سنة مؤكدة، وقيل بالوجوب وهو قول قوي)) (¬2). سادسًا: آداب صلاة الكسوف، لصلاة الكسوف آداب عظيمة ينبغي العناية بها، ومنها: 1 - الخوف من الله تعالى عند كسوف الشمس أو القمر؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد، ولكن الله يخوّف بهما عباده)) (¬3)؛ ولحديث أبي بردة عن أبي موسى قال: خسفت الشمس فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فَزِعًا يخشى أن تكون الساعة، فأتى المسجد فصلى بأطول قيام، وركوع، وسجود رأيته قط يفعله، وقال: ((هذه الآيات التي يرسل الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن يخوّف الله بها عباده، فإذا رأيتم شيئًا من ذلك فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه، واستغفاره)) (¬4). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((فلعله [- صلى الله عليه وسلم -] خشي أن يكون الكسوف مقدمة لبعض الأشراط: كطلوع الشمس من مغربها، ولا يستحيل أن ¬

(¬1) الشرح الممتع لابن عثيمين، 5/ 237 - 240. (¬2) سمعته أثناء تقريره على المنتقى من أخبار المصطفى - صلى الله عليه وسلم -،الحديثان رقم 1720، و1721. (¬3) البخاري، برقم 1048، وتقدم تخريجه. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الكسوف، باب الذكر في الكسوف، برقم 1059، ومسلم، كتاب الكسوف، باب ذكر النداء بصلاة الكسوف برقم 911.

يتخلل بين الطلوع والطلوع المذكور أشياء مما ذكر، وتقع متتالية بعضها إثر بعض، مع استحضار قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} (¬1) (¬2). فينبغي للمؤمن أن يخاف من نزول عقوبة عند كسوف الشمس أو القمر، وقد خاف النبي - صلى الله عليه وسلم - عند كسوف الشمس، فخرج فزعًا يجرُّ رداءه، وقد كان من هديه - صلى الله عليه وسلم - أنه يعتني بما يحدث من الظواهر الكونية التي يجريها الله تعالى ويحثّ الناس على الدعاء والحذر من نزول العقوبات، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يوم الريح والغيم عُرِفَ ذلك في وجهه، وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سُرّ بِهِ وذهب عنه ذلك، فسألته فقال: ((إني خشيت أن يكون عذابًا سُلّط على أمتي)) ويقول إذا رأى المطر: ((رحمة)) (¬3). وفي رواية: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا عصفت الريح قال: ((اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أُرسلت به))،وإذا تخيلت السماء (¬4) تغير لونه، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سُرّي عنه (¬5) فعرفتُ ذلك في وجهه، فسألته فقال: ((لعله يا عائشة كما قال قوم عاد: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬6))). وفي رواية عن عائشة رضي الله عنها أيضًا أنها قالت: ((ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستجمعًا ضاحكًا حتى أرى من لهواته، إنما كان يَتَبَسَّمُ، قالت: وكان ¬

(¬1) سورة النحل، الآية: 77. (¬2) فتح الباري لابن حجر، 2/ 546. (¬3) ويقول إذا رأى المطر ((رحمة)) أي هذا رحمة، شرح النووي على صحيح مسلم،6/ 449. (¬4) تخيلت: من المخيلة بفتح الميم، وهي سحابة فيها رعد وبرق يخيل إليه أنها ماطرة، ويقال: أخالت: إذا تغيمت. شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 449. (¬5) سُرّي عنه: أي انكشف عنه الهم، يقال: سروت الثوب وسريته: إذا خلعته، والتشديد للمبالغة. (¬6) سورة الأحقاف، الآية: 24.

إذا رأى غيمًا أو ريحًا عُرِف ذلك في وجهه، فقالت: يا رسول الله أرى الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيتَهُ عرفتُ في وجهك الكراهية؟ قالت: فقال: ((يا عائشة ما يُؤمّنني أن يكون فيه عذاب، قد عُذّب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} (¬1))) (¬2). قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في ذكره لفوائد روايات هذا الحديث: ((فيه الاستعداد بالمراقبة لله والالتجاء إليه عند اختلاف الأحوال وحدوث ما يخاف بسببه، وكان خوفه - صلى الله عليه وسلم - أن يعاقبوا بعصيان العصاة، وسروره؛ لزوال سبب الخوف)) (¬3)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((نُصِرتُ بالصَّبا وأهلكت عاد بالدَّبور (¬4))) (¬5). فهذا من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وشدة خوفه من عذاب الله تعالى، وشفقته على أمته، فإذا كانت هذه حاله عليه الصلاة والسلام حينما يحدث الكسوف، أو الغيم والريح؛ لأن هذه من آيات الله التي قد تكون دالة على حدوث بلية أو نازلة، أو عذاب، فكيف بحالنا في هذه الأزمان التي كَثُرت فيها المعاصي، والغفلة، والإعراض، واللهو، وغير ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فيجب علينا أن نلجأ إلى الله - عز وجل - ونلوذ به ونعتصم بحبله في جميع أحوالنا: في الرخاء والشدة، والسراء والضراء، وقد قال الله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى الله إِنّي لَكُم مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} (¬6)، قال العلامة السعدي رحمه الله: ((فلما دعا العباد إلى النظر لآياته الموجبة لخشيته، والإنابة إليه أمر بما هو المقصود من ذلك: ¬

(¬1) سورة الأحقاف، الآية: 24. (¬2) مسلم، كتاب الاستسقاء، باب التعوذ عند رؤية الريح والغيم والفرح بالمطر، برقم 14، 15، 16 [899]. (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 449. (¬4) الصَّبا: بفتح الصاد ومقصورة، وهي الريح الشرقية، وأهلكت عاد بالدبور: وهي بفتح الدال، وهي الريح الغربية. شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 450. (¬5) مسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، بابٌ: في ريح الصبا والدبور، برقم 900. (¬6) سورة الذاريات، الآية: 50.

2 - استحضار ما رآه النبي من الأمور العظيمة في صلاة الكسوف

وهو الفرار إليه: أي الفرار مما يكرهه الله ظاهرًا وباطنًا، إلى ما يحبه ظاهرًا وباطنًا: فرار من الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن الغفلة إلى ذكر الله، فمن استكمل هذه الأمور فقد استكمل الدين كله، وقد زال عنه المرهوب، وحصل له نهاية المراد والمطلوب، وسمى الله الرجوع إليه فرارًا؛ لأن في الرجوع لغيره أنواع المخاوف والمكاره، وفي الرجوع إليه أنواع المحاب، والأمن والسرور، والسعادة، والفوز، فيفرُّ العبد من قضائه، وقدره، إلى قضائه وقدره، وكل من خفت منه فررت منه إلا الله تعالى، فإنه بحسب الخوف منه يكون الفرار إليه)) (¬1). ولشدة خوف النبي - صلى الله عليه وسلم - من الله - عز وجل - بكى في سجود صلاة الكسوف فينبغي الاقتداء به عليه الصلاة والسلام (¬2). 2 - استحضار ما رآه النبي من الأمور العظيمة في صلاة الكسوف؛ فإن ذلك يثمر الخوف من الله - عز وجل -، فقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف: الجنة والنار، وهمَّ أن يأخذ عنقودًا من الجنة فيريهم إياه، ورأى بعض عذاب أهل النار، فرأى: امرأة تعذب في هِرَّة، ورأى عمرو بن مالك بن لُحي يجرّ أمعاءه في النار وكان أول من غيّر دين إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، ورأى فيها سارق الحاج يعذب، ورأى أكثر أهل النار النساء بكفرهن لإحسان العشير، وأُوحي إليه أن الناس يفتنون في قبورهم، ورأى فيها سارق بدنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وغير ذلك. فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال حين خطب الناس بعد صلاة الكسوف: ((يا أمة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيرًا)). وفي رواية: ((ثم أمرهم أن يتعوذوا من ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص812. (¬2) النسائي، كتاب الكسوف، باب القول في سجود صلاة الكسوف، برقم 1495، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 480.

عذاب القبر)). وفي رواية: ((لقد رأيت في مقامي هذا كل شيء وُعِدْتُهُ حتى لقد رأيت أُريد أن آخذ قطفًا من الجنة حين رأيتموني جعلتُ أتقدم، ولقد رأيت جهنم يَحْطِمُ بعضُها بعضًا، حينما رأيتموني تأخرت، ورأيت فيها عمرو بن لُحيّ، وهو الذي سيَّب السوائب)) (¬1). وفي رواية: ((ورأيت عمرًا يجر قُصْبَهُ (¬2) وهو أول من سيَّب السوائب)) (¬3). وفي حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال بعد أن صلى صلاة الكسوف: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله))، قالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئًا في مقامك ثم رأيناك تكعكعت؟ (¬4) قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقودًا، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار فلم أرَ منظرًا كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء)) قالوا: بِمَ يا رسول الله؟ قال: ((بكفرهن)) قيل: يكفرن بالله؟ قال: ((يكفرن العشير ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كلَّه، ثم رأت منك شيئًا قالت: ما رأيت منك خيرًا قط)) (¬5). وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته بعد أن صلى صلاة الكسوف: ((ما من شيء لم أكن أُريته إلا [وقد] رأيته في مقامي ¬

(¬1) السوائب: جمع سائبة، وهي الناقة التي كانوا يسيبونها من إبلهم، فلا تُركب ولا تحُلب، ولا يُؤكل لحمها، جامع الأصول، لابن الأثير، 165. (¬2) قُصْبَهُ: القصب: واحد الأقصاب وهو أمعاء. جامع الأصول لابن الأثير، 6/ 169. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الكسوف، باب الصدقة في الكسوف، برقم 1044، والرواية الثانية من باب التعوذ من عذاب القبر في الكسوف، برقم 1050، والرواية الثالثة من كتاب العمل في الصلاة، باب إذا انفلتت الدابة في الصلاة، برقم 1212، والرواية الرابعة من كتاب التفسير، برقم 4624، ومسلم، كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف، برقم 901. (¬4) تكعكعت: المشي إلى وراء، وقيل: التوقف والاحتباس، جامع الأصول لابن الأثير، 6/ 176. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف جماعة، برقم1052، ومسلم، كتاب الكسوف، باب ما عرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف، برقم 907.

هذا، حتى الجنة والنار، وإنه قد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور مثل أو قريبًا من فتنة المسيح الدجال، يُؤتى أحدكم فيقال له: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما ((المؤمن)) أو قال ((الموقن)) فيقال: ما علمك بهذا؟ فيقول: هو رسول الله، هو محمد - صلى الله عليه وسلم -، جاءنا بالبينات والهدى، فآمنا وأجبنا، واتبعنا، وصدقنا، فيقال له: نَمْ صالحًا قد كنا نعلم أنك كنت لمؤمنًا به، وأما المنافق أو قال المرتاب شك هشام فيقال له: ما علمك بهذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلتُهُ)) (¬1)، وفي لفظ لمسلم عن عائشة رضي الله عنها ترفعه: ((إني قد رأيتكم تفتنون في القبور كفتنة الدجال ... )) قالت عائشة: ((فكنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك يتعوَّذ من عذاب النار وعذاب القبر)) (¬2)، قال الإمام النووي رحمه الله: ((فيه إثبات عذاب القبر، وفتنته، وهو مذهب أهل الحق، ومعنى: تفتنون: تمتحنون، فيقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فيقول المؤمن هو رسول الله، ويقول المنافق: سمعت الناس يقولون شيئًا فقلت، هكذا جاء مفسرًا في الصحيح، وقوله: ((كفتنة الدجال)) أي فتنة شديدة جدًا، وامتحانًا هائلاً، ولكن يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت)) (¬3). وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يرفعه: (( ... وعرضت عليّ النار فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل تعذب في هرة لها ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض)) (¬4)، وفي رواية: (( ... وحتى رأيت فيها صاحب المحجن يجرُّ قُصْبَهُ في النار، كان يسرق الحاج بمحجنه، ¬

(¬1) البخاري، كتاب الكسوف، باب صلاة النساء مع الرجال في الكسوف، برقم 1053، وكتاب الجمعة، باب من قال في الخطبة بعد الثناء أما بعد، برقم 922. (¬2) مسلم، كتاب الكسوف، باب ذكر عذاب القبر في صلاة الخسوف، برقم 903. (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 459. (¬4) خشاش الأرض: هوامها وحشراتها، وقيل: صغار الطير، شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 461.

3 - النداء بالصلاة جامعة

فإن فُطِنَ له قال: إنما تعلق بمحجني، وإن غُفِل عنه ذهب به ... )) (¬1). وفي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (( ... وعرضت عليّ النار فجعلت أنفخ خشية أن يغشاكم حرها، ورأيت فيها سارق بدنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (¬2) وغير ذلك من الآيات العظيمة. 3 - النداء بالصلاة جامعة؛ لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: ((لَمّا كسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نودي: ((إن الصلاة جامعة)) (¬3)؛ ولحديث عائشة رضي الله عنها قالت: خسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - مناديًا ينادي أن الصلاة جامعة، فاجتمعوا واصطفوا فصلى بهم أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات)) (¬4). ومعنى ((الصلاة جامعة)) أي احضروا الصلاة في حال كونها جامعة (¬5). 4 - لا أذان لصلاة الكسوف ولا إقامة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاها بغير أذان ولا إقامة؛ ولأنها من غير الصلوات الخمس، فأشبهت سائر النوافل (¬6)، ونقل الحافظ ابن حجر رحمه الله عن ابن دقيق العيد قوله: ((وقد اتفقوا ¬

(¬1) مسلم، كتاب الكسوف، باب ما عرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار، برقم 10 - (904). (¬2) النسائي، كتاب الكسوف، باب القول في السجود في صلاة الكسوف، برقم 1495، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 480. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الكسوف، باب النداء بـ ((الصلاة جامعة)) في الكسوف، برقم 1045، 1051، ومسلم، كتاب الكسوف، باب ذكر النداء بصلاة الكسوف ((الصلاة جامعة))، برقم 910. (¬4) النسائي، كتاب الكسوف، باب الأمر بالنداء لصلاة الكسوف، برقم 1464،وأبو داود، كتاب الصلاة، باب صلاة الكسوف، برقم 1190،وصححه الألباني في صحيح النسائي،1/ 470،وصحيح سنن أبي داود،1/ 326،وإرواء الغليل، برقم 658. (¬5) الصلاة جامعةً بالنصب فيهما على الحكاية، ونصب الصلاة في الأصل على الإغراء وجامعة على الحال: أي احضروا الصلاة في حال كونها جامعة، وقيل برفعهما ((الصلاةُ جامعةٌ)) على أن الصلاة مبتدأ وجامعة خبر، ومعناه: ذات جماعة، وقيل: جامعة صفة والخبر محذوف تقديره فاحضروها، [فتح الباري لابن حجر،2/ 533]. (¬6) المغني لابن قدامة، 3/ 323.

5 - الجهر بالقراءة في صلاة الكسوف سنة

على أنه لا يُؤَذَّنُ لها ولا يُقام)) (¬1). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((ويُسَنُّ أن ينادى لها: الصلاة جامعة .. ولا يسن لها أذان ولا إقامة)) (¬2). 5 - الجهر بالقراءة في صلاة الكسوف سنة؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((جهر النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف بقراءته، فإذا فرغ من قراءته كبَّر فركع، وإذا رفع من الركعة قال: ((سمع الله لمن حمدهُ ربنا ولك الحمد)) ثم يعاود القراءة في صلاة الكسوف أربع ركعات في ركعتين، وأربع سجدات)) (¬3)، ويجهر بالقراءة ليلاً كان أو نهارًا؛ لحديث عائشة رضي الله عنها؛ ولأنها نافلة شرعت لها الجماعة فكان من سنتها الجهر، كصلاة الاستسقاء، والعيد، والتراويح (¬4) (¬5). 6 - صلاة الكسوف جماعة في المسجد؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((ثم ركب رسول الله ذات غداة مركبًا (¬6) فكسفت الشمس فرجع ضُحَىً فمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين ظهراني الحجر (¬7) ثم قام فصلى وقام الناس وراءه ... )) وفي لفظ لمسلم: ((فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد فقام وكبر وصفَّ الناس وراءه ... )) (¬8). ¬

(¬1) فتح الباري، لابن حجر، 2/ 533. (¬2) المغني، 3/ 323. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الكسوف، باب الجهر في القراءة في الكسوف، برقم 1065، ومسلم، كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف، برقم 5 - (901). (¬4) المغني لابن قدامة، 3/ 326. (¬5) وقد رد ابن قدامة رحمه الله على من قال بعدم الجهر في صلاة الكسوف، بقوله: ((فأما قول عائشة رضي الله عنها: حزرت قراءته ففي إسناده مقال .. ويحتمل أن تكون سمعت صوته ولم تفهم للبعد، وحديث سمرة يجوز أنه لم يسمع لبعده)). المغني، 3/ 326، ورد عليهم ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين عن رب العالمين، 2/ 394. (¬6) المركب الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه بسبب موت ابنه إبراهيم حينما ذهب إليه، فتح الباري لابن حجر، 2/ 544. (¬7) الحجر: بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانت لاصقة بالمسجد، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - من مركبه حتى أتى إلى مصلاه الذي كان يصلي فيه [فتح الباري، لابن حجر، 2/ 544]. (¬8) متفق عليه: البخاري، كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف في المسجد، برقم 1056، ومسلم، كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف، برقم 3 - (901).

7 - صلاة النساء خلف الرجال في صلاة الكسوف

وذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله أن السنة في صلاة الكسوف أن تُصلى جماعة في المسجد؛ لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -،ويجوز أن تُصلى فرادى، ولكن فعلها في الجماعة أفضل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة جماعة، والسنة أن يصلوا في المسجد (¬1). 7 - صلاة النساء خلف الرجال في صلاة الكسوف؛ لأن عائشة وأسماء رضي الله عنهما صلَّتا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الكسوف، فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها قالت: ((أتيت عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - - حين خسفت الشمس - فإذا الناس قيام يصلون، وإذا هي قائمة تصلي، فقلت: ما للناس؟ فأشارت بيدها إلى السماء، وقالت: سبحان الله، فقلتُ: آية؟ فأشارت أي نعم، قالت: فقمت حتى تجلاني الغَشْيُ (¬2) فجعلت أصب فوق رأسي الماء ... ))، وفي لفظ مسلم: ((خسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخلت على عائشة وهي تصلي، فقلت ما شأن الناس يصلون؟ فأشارت برأسها إلى السماء، فقلت: آية؟ فأطال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القيام جدًا حتى تجلاّني الغشيُّ فأخذت قربة من ماء إلى جنبي فجعلت أصبُّ على رأسي أو على وجهي من الماء، فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد تجلّت الشمس ... )) (¬3). وقد ترجم الإمام البخاري رحمه الله لهذا الحديث بقوله: ((باب صلاة النساء مع الرجال في الكسوف)) (¬4)، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((أشار بهذه الترجمة إلى ¬

(¬1) المغني لابن قدامة، 3/ 323. (¬2) الغشي: بفتح الغين وإسكان الشين وتخفيف الياء، وبكسر الشين، وتشديد الياء أيضًا ((الغشيُّ)) وهو طرف من الإغماء، والمراد به هنا الحالة القريبة منه؛ ولهذا قالت فجعلت أصب على رأسي الماء: أي في تلك الحال؛ ليذهب، [فتح الباري، لابن حجر، 1/ 183]. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الكسوف، باب صلاة النساء مع الرجال، برقم 1053، ومسلم، كتاب الكسوف، باب ما عرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار، برقم 905. (¬4) البخاري، كتاب الكسوف، قبل الحديث رقم 1053.

8 - تصلى صلاة الكسوف في السفر

رد قول من منع ذلك، وقال: يصلين فرادى)) (¬1). وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((وتشرع في حق النساء؛ لأن عائشة وأسماء صلتا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (¬2)، وقال الإمام النووي رحمه الله: ((وفيه استحباب صلاة الكسوف للنساء، وفيه حضورهن وراء الرجال)) (¬3). 8 - تُصلَّى صلاة الكسوف في السفر؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله فإذا رأيتموهما فصلوا)) (¬4)، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: ((وتشرع في الحضر والسفر، بإذن الإمام وغير إذنه)) (¬5). 9 - الإطالة في صلاة الكسوف على حسب تَحَمُّلِ المصلين؛ لحديث أسماء رضي الله عنها، وفيه: ((فأطال رسول الله القيام جدًّا حتى تجلاني الغَشْيُ فأخذت قربة من ماء إلى جنبي فجعلت أصب على رأسي أو على وجهي من الماء ... )) (¬6). وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى فقام قيامًا طويلاً [في القيام الأول]: ((نحوًا من قراءة سورة البقرة ثم ركع ركوعًا طويلاً، ¬

(¬1) فتح الباري، 2/ 543، وتمام كلام الحافظ: ((أشار بهذه الترجمة إلى رد قول من منع ذلك وقال: يصلين فرادى، وهو منقول عن الثوري، وبعض الكوفيين، وفي المدونة: تصلي المرأة في بيتها، وتخرج المتجالة، وعن الشافعي يخرج الجميع إلا من كانت بارعة الجمال، وقال القرطبي: روي عن مالك أن الكسوف إنما يخاطب به من يخاطب بالجمعة، والمشهور عنه خلاف ذلك، وهو إلحاق المصلى في حقهن بحكم المسجد، وقال الزين بن المنير: استدل به ابن بطال على جواز خروج النساء إلى المسجد لصلاة الكسوف، وفيه نظر؛ لأن أسماء إنما صلت في حجرة عائشة لكن يمكنه أن يتمسك بما ورد في بعض طرقه أن نساءً غير أسماء كن بعيدات عنها، فعلى هذا فقد كن في مؤخر المسجد كما جرت عادتهن في سائر الصلوات)) فتح الباري، 2/ 543. (¬2) المغني، 3/ 322. (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 462. (¬4) البخاري، برقم 1042، وتقدم تخريجه. (¬5) المغني، 3/ 322. (¬6) متفق عليه: البخاري، برقم 1053، ومسلم، برقم 905، وتقدم تخريجه.

10 - الخطبة في صلاة الكسوف سنة

ثم رفع فقام قيامًا طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلاً وهو دون الركوع الأول ... )) (¬1). فالسنة تطويل صلاة الكسوف تطويلاً لا يشقُّ على الناس (¬2)، وفي حديث جابر - رضي الله عنه -: ((فصلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه فأطال القيام حتى جعلوا يخرّون ... )) (¬3). 10 - الخطبة في صلاة الكسوف سُنَّة؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج مخرجًا فخُسف بالشمس فخرجنا إلى الحجرة فاجتمع إلينا نساءٌ وأقبل إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،وذلك ضحوةً، فقام قيامًا طويلاً، ثم ركع ركوعًا طويلاً، ثم رفع رأسه فقام دون القيام الأول، ثم ركع دون ركوعه، ثم سجد ثم قام الثانية، فصنع مثل ذلك إلا أن قيامه وركوعه دون الركعة الأولى، ثم سجد وتجلت الشمس، فلما انصرف قعد على المنبر فقال فيما يقول: ((إن الناس يفتنون في قبورهم كفتنة الدجال)) وفي رواية: قالت عائشة رضي الله عنها: ((كنا نسمعه بعد ذلك يتعوَّذ من عذاب القبر)) (¬4). وخلاصة ما جاء في الأحاديث الصحيحة في خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه بعد أن سلَّم من صلاة الكسوف قعد على المنبر (¬5)، فخطب، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد (¬6) ثم قال: ((يا أيها الناس إنّما الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم شيئًا من ذلك: فاذكروا الله، وكبّروا))، وأمر بالصدقة، ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 1052، ومسلم، برقم 1097، وتقدم تخريجه. (¬2) انظر: مجموع فتاوى الإمام ابن باز، 13/ 35. (¬3) مسلم، كتاب الكسوف، باب ما عرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار، برقم 904. (¬4) النسائي، كتاب الكسوف، باب القعود على المنبر بعد صلاة الكسوف، برقم 1498، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 482. (¬5) النسائي، برقم 1498، 1474، وتقدم تخريجه. (¬6) البخاري، برقم 1053، 1061 وتقدم تخريجه.

والعتق، والاستغفار، والدعاء (¬1) وقال: ((فإذا رأيتموها فافزعوا إلى الصلاة فصلوا حتى ينكشف ما بكم)) (¬2). وقال: ((يا أمة محمد ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا)) (¬3).وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى الجنة وأراد أن يأخذ منها عنقودًا ولو أخذه لأكلوا منه ما بقيت الدنيا، ورأى النار يحطم بعضها بعضًا، ورأى أكثر أهلها النساء (¬4)،وأخبر عن فتنة القبر وعذاب القبر (¬5)، ورأى امرأة تعذَّب في النار في هرة حبستها، ورأى فيها سارق الحاج صاحب المحجن (¬6)،ورأى عمرو بن لحي الذي غيَّر دين إبراهيم يجر أمعاءه في النار (¬7)،ورأى فيها سارق بدنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬8)،وقال: ((إنه عرض عليّ كل شيء تولجونه)) (¬9)،أي تدخلونه: من جنة، ونار، وقبر، ومحشر (¬10). فهذه خطبة عظيمة وعظ فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه موعظة بليغة (¬11). ¬

(¬1) البخاري، برقم 1044، 1059، ومسلم، برقم 901، والنسائي برقم 1502، وسنن أبي داود، برقم 1191، 1192، وتقدم تخريجه. (¬2) البخاري، برقم 1063، وتقدم تخريجه. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم 1044، ومسلم، برقم 901، وتقدم تخريجه. (¬4) متفق عليه: البخاري، برقم 1052، ومسلم برقم 907، وتقدم تخريجه. (¬5) البخاري، برقم 922، 1053، ومسلم، برقم 903، وتقدم تخريجه. (¬6) مسلم، برقم 901. وتقدم تخريجه. (¬7) البخاري، برقم 4624، ومسلم، برقم 901، وتقدم تخريجه. (¬8) النسائي، برقم 1495، وتقدم تخريجه. (¬9) مسلم، برقم 904، و901، والبخاري أيضًا برقم، 4624، وتقدم تخريجه. (¬10) شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 460. (¬11) اختلف العلماء رحمهم الله في خطبة صلاة الكسوف، فقال الإمام النووي رحمه الله ((اختلف العلماء في الخطبة لصلاة الكسوف فقال الشافعي، وإسحاق، وابن جرير، وفقهاء أصحاب الحديث يستحب بعدها خطبتان، وقال مالك وأبو حنيفة: لا يستحب ذلك، ودليل الشافعي الأحاديث الصحيحة، في الصحيحين وغيرهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب بعد صلاة الكسوف))، [شرح النووي على صحيح مسلم،6/ 454] وقال المرداوي رحمه الله: ((ظاهر كلام المصنف أنه لا خطبة لها، وهو صحيح، وهو المذهب، وعليه جماهير الأصحاب، قال المصنف والشارح: لا خطبة لصلاة الكسوف، قال الزركشي: عليه الصحاب، قال ابن رجب في شرح البخاري هذا ظاهر المذهب، انتهى، وعنه يشرع بعد صلاتها خطبتان سواء تجلّى الكسوف أو لا، اختارها ابن حامد، والقاضي في شرح المذهب، وحكاه عن الأصحاب، وقدمه ابن رجب في شرح البخاري، وأطلقهما ابن تميم، وقال في النصيحة أحب أن يخطب بعدها، وقيل: يخطب خطبة واحدة من غير جلوس، وأطلق جماعة من الأصحاب في استحباب الخطبة روايتين، ولم يذكر القاضي وغيره نصًّا عن أحمد، أنه لا يخطب، وإنما أخذوه من نصه لا خطبة في الاستسقاء، وقال أيضًا: لم يذكر لها أحمد خطبة)). [الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، المطبوع مع المقنع والشرح الكبير، 5/ 404]، [وانظر: المغني لابن قدامة، 3/ 328]، وقال ابن الملقن في الإعلام: ((فيه شرعية الخطبة بعد صلاة الكسوف؛ لقولها: ((فخطب فحمد الله وأثنى عليه)) وهو ظاهر الدلالة في أن لصلاة الكسوف خطبة، وبه قال الشافعي، وابن جرير، وفقهاء أصحاب الحديث، قالوا: يستحب بعدها خطبتان، ولم ير ذلك مالك وأبو حنيفة، وأحمد، ووافقنا أحمد في رواية ... )). [الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، 4/ 299 - 300] وقال الحافظ ابن حجر على قول البخاري: ((باب خطبة الإمام في الكسوف)) ((اختلف في الخطبة فيه، فاستحبها الشافعي وإسحاق، وأكثر أصحاب الحديث، قال ابن قدامة لم يبلغنا عن أحمد رحمه الله أن لها خطبة، وقال صاحب الهداية من الحنفية: ليس في الكسوف خطبة؛ لأنه لم ينقل، وتعقب بأن الأحاديث ثبتت فيه وهي ذات كثرة، والمشهور عند المالكية أن لا خطبة لها، مع أن مالكًا روى الحديث وفيه ذكر الخطبة، وأجاب بعضهم بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقصد لها خطبة بخصوصها، وإنما أراد أن يبين لهم الرد على من يعتقد أن الكسوف لموت بعض الناس، وتعقب بما في الأحاديث الصحيحة من التصريح بالخطبة، وحكاية شرائطها من: الحمد، والثناء، والموعظة، وغير ذلك، مما تضمنته الأحاديث، فلم يقتصر على الإعلام بسبب الكسوف، والأصل مشروعية الاتباع، والخصائص لا تثبت إلا بدليل، وقد استضعف ابن دقيق العيد التأويل المذكور، وقال: إن الخطبة لا تنحصر مقاصدها في شيء معين بعد الإتيان بما هو المطلوب منها من: الحمد، والثناء، والموعظة، وجميع ما ذكر من سبب الكسوف وغيره هو من مقاصد خطبة الكسوف، فينبغي التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فيذكر الإمام ذلك في خطبة الكسوف، نعم نازع ابن قدامة في كون خطبة الكسوف كخطبتي الجمعة والعيدين، إذ ليس في الأحاديث المذكورة ما يقتضي ذلك، وإلى ذلك نحا ابن المنير في حاشيته، ورد على من أنكر أصل الخطبة، لثبوت ذلك صريحًا في الأحاديث، وذكر أن بعض أصحابهم احتج على ترك الخطبة بأنه لم ينقل في الحديث أنه صعد المنبر، ثم زيفه بأن المنبر ليس شرطًا، ثم لا يلزم من أنه لم يذكر أنه لم يقع [فتح الباري لابن حجر، 2/ 534] وقد أيده في الدراية في تخريج أحاديث الهداية على قوله: ((وليس في الكسوف خطبة لأنه لم ينقل)) هذا النفي مردود بما في الصحيحين عن أسماء ثم ساق لفظه، وفي المتفق عليه عن ابن عباس، وعائشة، ومسلم عن جابر، ولأحمد والحاكم عن سمرة، ولابن حبان عن عمرو بن العاص، وصرح أحمد والنسائي وابن حبان في روايتهم ((بأنه صعد المنبر)) [الدراية في تخريج الهداية، 1/ 225]، [وانظر: المغني، لابن قدامة، 3/ 328]. واختار العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله أن صلاة الكسوف يُسًنُّ لها خطبة واحدة، قال: ((وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لَمّا انتهى من صلاة الكسوف قام فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، ثم وعظ الناس، وهذه الصفات صفات الخطبة ... )). [الشرح الممتع على زاد المستقنع،5/ 249]. سمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله يقول أثناء تقريره على منتقى الأخبار لابن تيمية، الحديث رقم 1718: ((ويعظ الإمام الناس ويذكرهم))، وقال رحمه الله: ((تُسَنُّ الخطبة بعد صلاة الكسوف؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك)). [مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 44]. واختا ذلك العلامة عبد الرحمن بن محمد بن قاسم في الإحكام شرح أصول الأحكام، 1/ 503. وقال الشوكاني في نيل الأوطار، 2/ 635: ((فيه استحباب الخطبة بعد صلاة الكسوف)).

11 - الفزع إلى ذكر الله، والدعاء، والاستغفار، والتكبير، والعتق، والصدقة، والصلاة

11 - الفزع إلى ذكر الله، والدعاء، والاستغفار، والتكبير، والعتق، والصدقة، والصلاة، والتعوذ من عذاب النار وعذاب القبر؛ للأحاديث الكثيرة في ذلك، ومنها: حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -،وفيه: (( ... فإذا رأيتموها فصلوا وادعوا الله)) (¬1). وحديث عائشة رضي الله عنها وفيه: ((فإذا رأيتم ذلك، فاذكروا الله، وكبّروا، وصلوا، وتصدقوا)). وفي لفظ: ((فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة)) (¬2). وحديث أبي موسى - رضي الله عنه -، وفيه: ((فإذا رأيتم شيئًا من ذلك، فافزعوا إلى ذكر الله، ودعائه واستغفاره)) (¬3). وحديث أسماء رضي الله عنها قالت: ((لقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعتاقة في كسوف الشمس)) (¬4). وحديث عائشة رضي الله عنها وفيه: ((ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر)) (¬5). ويتعوذوا من فتنة القبر (¬6). ¬

(¬1) البخاري، كتاب الكسوف، باب الصلاة في كسوف الشمس، برقم 1043، وفي باب الدعاء في الكسوف، برقم 1060. (¬2) البخاري، برقم 1044، ورقم 1058، ومسلم، برقم 101، وتقدم تخريجه. (¬3) البخاري، برقم 1059، وتقدم تخريجه. (¬4) البخاري، كتاب الكسوف، باب من أحب العتاقة في كسوف الشمس، برقم 1054. (¬5) مسلم، برقم 903، وتقدم تخريجه. (¬6) مسلم، برقم 903، وتقدم تخريجه.

سابعا: صفة صلاة الكسوف على النحو الآتي:

سابعًا: صفة صلاة الكسوف على النحو الآتي: 1 - يكبّر تكبيرة الإحرام. 2 - يقرأ دعاء الاستفتاح. 3 - يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويقول بسم الله الرحمن الرحيم. 4 - يقرأ الفاتحة وسورة طويلة جهرًا (¬1). 5 - يكبر ويركع ركوعًا طويلاً يكرر فيه دعاء الركوع. 6 - يرفع ويقول سمع الله لمن حمده، ويقول بعد أن يعتدل: ربنا ولك الحمد. 7 - يقرأ الفاتحة وسورة طويلة دون السورة الأولى (¬2) بحيث يتميَّز القيام الأول عن القيام الثاني (¬3). 8 - يكبر ويركع ركوعًا طويلاً دون الركوع الأول بحيث يتميز الركوع الأول عن الركوع الثاني. 9 - يرفع ويقول: سمع الله لمن حمده، ويقول بعد أن يعتدل: ربنا ولك الحمد، والصواب إطالة هذا الاعتدال بقدر الركوع (¬4). 10 - يكبر ويسجد سجودًا طويلاً بقدر الركوع (¬5). 11 - يكبر ويرفع فيجلس بين السجدتين والصواب إطالة هذا الجلوس بقدر السجود (¬6). ¬

(¬1) قال ابن عباس رضي الله عنهما: نحوًا من سورة البقرة. البخاري، برقم 1052، ومسلم، برقم 907. (¬2) قالت عائشة رضي الله عنها: ((فحرزت قراءته فرأيت أنه قرأ بسورة آل عمران)).أبو داود برقم 1187، وأورده الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 325. (¬3) الشرح الممتع لابن عثيمين، 5/ 244. (¬4) لحديث جابر عند مسلم، برقم 904، وحديث عبد الله بن عمرو عند النسائي، برقم 1481، ويأتي كلام ابن حجر وابن عثيمين في الهامش بعد صفحات. (¬5) البخاري، برقم 1044، ورقم 1056، ومسلم، برقم 904. (¬6) لحديث عبد الله بن عمرو عند النسائي، برقم 1481، ويأتي كلام ابن حجر وابن عثيمين بعد صفحات في الهامش.

12 - يكبر ويسجد سجودا طويلا وهو دون السجود الأول

12 - يكبر ويسجد سجودًا طويلاً وهو دون السجود الأول (¬1). 13 - يكبر ويقوم للركعة الثانية فيصليها مثل الركعة الأولى: بقراءتين، وركوعين، وسجودين إلا أن كل قراءة وقيام وسجود أول أطول من الذي بعده (¬2). 14 - يجلس للتشهد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. 15 - ينصرف بالتسليمتين؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى يوم خسفت الشمس، فقام فكبر، فقرأ قراءة طويلة. ثم ركع ركوعًا طويلاً. ثم رفع رأسه فقال: سمع الله لمن حمده. وقام قيامًا طويلاً وهو دون القيام الأول. ثم ركع ركوعًا طويلاً وهو دون الركوع الأول. ثم قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، [ثم سجد] سجودًا طويلاً. ثم قام فقام قيامًا طويلاً وهو دون القيام الأول. ثم ركع ركوعًا طويلاً وهو دون الركوع الأول. ثم قام قيامًا طويلاً وهو دون القيام الأول. ثم ركع ركوعًا طويلاً وهو دون الركوع الأول. ثم سجد وهو دون السجود الأول، ثم انصرف (¬3). وهذه الصفة لصلاة الكسوف هي المعتمدة (¬4)، وهي الصواب؛ لأن ¬

(¬1) البخاري، برقم 1056. (¬2) مسلم، برقم 10 - (904). (¬3) البخاري، برقم 1044، 1047، 1050، 1056، ومسلم، برقم 901. (¬4) اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في صفة صلاة الكسوف، فذهب الحنابلة والشافعية، والمالكية إلى أن صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة: قيامان، وقراءتان، وركوعان، وسجودان، للأحاديث الصحيحة السابقة. وذهب أبو حنيفة والثوري والنخعي إلى أن صلاة الكسوف ركعتان، وحكاه النووي عن الكوفيين إلى أنها ركعتان في كل ركعة ركوع واحد كسائر النوافل، والأحاديث الصحيحة حجة عليهم. [شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 452، والمفهم للقرطبي، 2/ 550، ونيل الأوطار، 2/ 637، والإعلام بفوائد عمدة الأحكام، 4/ 274، وزاد المعاد، 1/ 450، والمغني لابن قدامة، 3/ 323]. أما ما جاء في الأحاديث الأخرى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الكسوف ركعتين في كل ركعة ثلاث ركوعات وسجدتان كما في حديث جابر - رضي الله عنه - عند مسلم برقم 10 - (904)، وما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن صفة صلاة الكسوف تصلى ركعتين في كل ركعة أربع ركوعات وسجدتان، كما في صحيح مسلم، برقم 908، وما جاء في حديث أبي بن كعب - رضي الله عنه - أن صلاة الكسوف تصلى ركعتين في كل ركعة خمس ركوعات كما في سنن أبي داود، برقم 1182، وفي مسند الإمام أحمد، 5/ 60 - 61، وما جاء في حديث عبد الرحمن بن سمرة أن صلاة الكسوف تصلى ركعتين كل ركعة بركوع واحد كما في صحيح مسلم، برقم 913، وقد اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في ذلك على أقوال: قال الصنعاني رحمه الله في سبل السلام، 3/ 260: ((إذا عرفت هذه الأحاديث فقد يحصل من مجموعها أن صلاة الكسوف ركعتان اتفاقًا إنما اختلف في كمية الركوع في كل ركعة فحصل من مجموع الروايات التي ساقها المصنف أربع صور: الأولى ركعتان في كل ركعة ركوعان، وبهذا أخذ الشافعي ومالك والليث وأحمد وغيرهم، وعليها دل حديث عائشة، وجابر، وابن عباس، وابن عمر، قال ابن عبد البر [في التمهيد، 3/ 302، 313، والاستذكار، 7/ 93]: هو أصح ما في الباب وباقي الروايات معللة ضعيفة. الثانية: ركعتان في كل ركعة أربع ركوعات، وهي التي أفادتها رواية مسلم عن ابن عباس وعلي [- رضي الله عنهم -]. والثالثة: ركعتان أيضًا في كل ركعة ثلاث ركوعات وعليها دل حديث جابر. والرابعة: ركعتان أيضًا يركع في كل واحدة خمس ركوعات، ولَمّا اختلفت الروايات اختلف العلماء، فالجمهور أخذوا بالأولى لِمَا عرفت من كلام ابن عبد البر، وقال النووي في شرح مسلم، [6/ 453]: إنه أخذ بكل نوع بعض الصحابة، وقال جماعة من المحققين: إنه مخير بين الأنواع، فأيها فعل فقد أحسن، وهو مبني على أنه تعدد الكسوف، وأنه فعل هذا تارة وهذا أخرى، ولكن التحقيق أن كل الروايات حكاية عن واقعة واحدة هي صلاته - صلى الله عليه وسلم - يوم وفاة إبراهيم، ولهذا عوّل الآخرون على إعلال الأحاديث التي حكت الصور الثلاث، قال ابن القيم [في زاد المعاد، 1/ 453]: ((لا يصححون التعدد لذلك، كالإمام أحمد، والبخاري، والشافعي، ويرونه غلطًا)). وذهبت الحنفية إلى أنها تصلى ركعتين كسائر النوافل)) انتهى كلام الصنعاني ونقله رحمه الله. وقال النووي رحمه الله: ((وقال جماعة من أصحابنا الفقهاء المحدثين وجماعة من غيرهم: هذا الاختلاف في الروايات حسب اختلاف حال الكسوف ففي بعض الأوقات تأخر انجلاء الكسوف فزاد عدد الركوع، وفي بعضها أسرع الانجلاء فاقتصر، وفي بعضها توسط بين الإسراع والتأخر فتوسط في عدده، واعترض الأولون على هذا بأن تأخر الانجلاء لا يعلم في أول الحال ولا في الركعة الأولى وقد اتفقت الروايات على أن عدد الركوع في الركعتين سواء، وهذا يدل على أنه مقصود في نفسه، منوي من أول الحال)). [شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 453]. ورجح الإمام ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد، 1/ 456، أن الصواب أن صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة ركوعان وسجدتان، قال: ((وهذا اختيار أبي بكر وقدماء الأصحاب، وهو اختيار شيخنا أبي العباس ابن تيمية، وكان يضعّف كل ما خالفه من الأحاديث، ويقول: هي غلط، وإنما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الكسوف مرة واحدة يوم مات ابنه إبراهيم، والله أعلم)). انتهى. وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله أثناء تقريره على منتقى الأخبار، الحديث رقم 1722، يقول: ((والصواب أن هذه الأحاديث شاذة، والأقرب والأرجح النوع الأول، وهو أن يصلي ركعتين كل ركعة: بقراءتين، وركوعين، وسجودين))،وانظر: فتح الباري لابن حجر، 2/ 532، وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 17 - 18/ 18، والإعلام بفوائد عمدة الأحكام، 4/ 274 - 280.

الأحاديث الصحيحة دلّت عليها (¬1) (¬2). والله - عز وجل - الموفق للصواب (¬3) وهو الذي يهدي إلى سواء السبيل (¬4). ¬

(¬1) قال ابن قدامة رحمه الله تعالى في المغني، 3/ 323: ((وجملته أن المستحب في صلاة الكسوف أن يصلي ركعتين، يحرم بالأولى، ويستفتح ويستعيذ، ويقرأ الفاتحة وسورة البقرة، أو قدرها في الطول، ثم يركع فيسبح الله تعالى قدر مائة آية، ثم يرفع فيقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ثم يقرأ الفاتحة وآل عمران، أو قدرها، ثم يركع بقدر ثلثي ركوعه الأول، ثم يرفع فيسمّع ويحمد ثم يسجد فيطيل السجود فيهما، ثم يقوم إلى الركعة الثانية فيقرأ الفاتحة وسورة النساء، ثم يركع فيسبح بقدر ثلثي تسبيحه في الثانية، ثم يرفع فيقرأ الفاتحة والمائدة، ثم يركع فيطيل دون الذي قبله، ثم يرفع فيسمّع ويحمّد، ثم يسجد فيطيل، فيكون الجميع ركعتين في كل ركعة قيامان، وقراءتان، وسجودان، ويجهر بالقراءة ليلاً كان أو نهارًا، وليس هذا التقدير في القراءة منقولاً عن أحمد، لكن قد نقل عنه أن الأولى أطول من الثانية، جاء التقدير في حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام قيامًا طويلاً نحوًا من سورة البقرة، متفق عليه [البخاري، برقم 1052، ومسلم، برقم 907] وفي حديث عائشة حزرت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأيت أنه قرأ في الركعة الأولى سورة البقرة، وفي الثانية سورة آل عمران، [أبو داود، برقم 1187]. (¬2) قال الإمام النووي رحمه الله اتفق العلماء على أنه يقرأ الفاتحة في القيام الأول من كل ركعة واختلفوا في القيام الثاني فمذهبنا ومذهب مالك وجمهور أصحابه أنه لا تصح الصلاة إلا بقراءتها فيه، وقال محمد بن مسلمة من المالكية: لا يقرأ الفاتحة في القيام الثاني، واتفقوا على أن القيام الثاني والركوع الثاني من الركعة الأولى أقصر من القيام الأول والركوع الأول، وكذلك القيام الثاني والركوع الثاني من الركعة الثانية أقصر من الأول منهما، واختلفوا في القيام الأول والركوع الأول من الثانية هل هما أقصر من القيام الثاني والركوع الثاني من الركعة الأولى، ويكون هذا معنى قوله في الحديث: ((وهو دون القيام الأول، ودون الركوع الأول، أم يكونان سواء، ويكون قوله ((دون القيام الأول)) أي أول قيام وأول ركوع. [شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 453]. وانظر: فتح الباري لابن حجر، 2/ 530، فقد رجح قراءة الفاتحة بعد الرفع من الركوع الأول، ونقل الاتفاق على ذلك إلا خلاف محمد بن مسلمة المالكي. وذكر صاحب الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف المطبوع مع المقنع والشرح الكبير 5/ 396 أن كل ركوع وقراءة، وسجود وتسبيح واستغفار أقصر من الذي قبله، وهو اختيار ابن قدامة في المغني، 3/ 323 كما تقدم قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في الشرح الممتع، 5/ 246: ((لكن الذي يظهر والله أعلم أن كل قيام وركوع، وسجود دون الذي قبله)). (¬3) قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم، 6/ 454: ((واختلفوا في استحباب إطالة السجود، فقال جمهور أصحابنا: لا يطوله بل يقتصر على قدره في سائر الصلوات، وقال المحققون منهم: يستحب إطالته نحو الركوع الذي قبله، وهذا هو المنصوص للشافعي وفي البوطي وهو الصحيح للأحاديث الصحيحة الصريحة في ذلك. والأصح استحباب التعوذ في ابتداء الفاتحة في كل قيام، وقيل: يقتصر عليه في القيام الأول)). (¬4) واختلفوا هل يطيل الاعتدال الذي يليه السجود، وقد وقع هذا التطويل في حديث جابر عند مسلم، برقم 904، ولفظه: (( ... ثم ركع فأطال ثم رفع فأطال، ثم سجد)) قال النووي: هذا ظاهره أنه طوَّل الاعتدال الذي يلي السجود ولا ذكر له في باقي الروايات ولا في رواية جابر من جهة غير أبي الزبير، وقد نقل القاضي إجماع العلماء أنه لا يطوّل الاعتدال الذي يلي السجود، وحينئذ يجاب عن هذه الرواية بجوابين: أحدهما أنها شاذة مخالفة لرواية الأكثرين، فلا يعمل بها. والثاني أن المراد بالإطالة تنفيس الاعتدال ومده قليلاً وليس المراد إطالته نحو الركوع)) [شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 460]. وقد رد الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري، 2/ 539 على الإمام النووي فقال: ((وتُعقَّب بما رواه النسائي [برقم 1481]، وابن خزيمة [برقم 1393]، وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو أيضًا ففيه: (( ... ثم ركع فأطال حتى قيل: لا يرفع، ثم رفع فأطال حتى قيل لا يسجد، ثم سجد فأطال حتى قيل: لا يرفع، ثم رفع فجلس فأطال الجلوس حتى قيل: لا يسجد، ثم سجد ... )) فالحديث صحيح ولم أقف في شيء من الطرق على تطويل الجلوس بين السجدتين إلا في هذا، وقد نقل الغزالي الاتفاق على ترك إطالته، فإن أراد الاتفاق المذهبي فلا كلام، وإلا فهو محجوح بهذه الرواية)) انتهى كلام الحافظ رحمه الله. قلت وحديث عبد الله بن عمرو صححه الألباني في صحيح النسائي،1/ 477. قال العلامة محمد بن عثيمين: ((والصواب أنه يطيل الجلوس بقدر السجود)). [الشرح الممتع على زاد المستقنع، 5/ 246]، وهو الذي اختاره الآمدي ((ويطيل الجلوس بين السجدتين كالركوع)) [الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف المطبوع مع المقنع والشرح الكبير، 5/ 395]. وقد استفدنا من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - مشروعية إطالة الاعتدال الذي يليه السجود كما أفاده حديث جابر، ومشروعية إطالة الجلوس الذي بين السجدتين، وقد رجح العلامة محمد بن عثيمين رحمه الله هاتين المسألتين في الشرح الممتع، 5/ 244 - 245.

ثامنا: وقت صلاة الكسوف من وقت ابتداء الكسوف إلى ذهابه وانجلائه

ثامنًا: وقت صلاة الكسوف من وقت ابتداء الكسوف إلى ذهابه وانجلائه؛ لحديث أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فانكسفت الشمس، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجرُّ رداءه حتى دخل المسجد، فدخلنا فصلى بنا ركعتين حتى انجلت الشمس، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد، فإذا رأيتموها فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم))

وفي رواية: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما لا يخسفان لموت أحد، وإذا كان ذلك فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم)) (¬1)؛ ولحديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - وفيه: (( ... إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى ينجليَ)) (¬2). وفي حديث عائشة رضي الله عنها: ((فإذا رأيتم كسوفًا فاذكروا الله حتى ينجليا)) (¬3). وهذه الأحاديث وغيرها تدل على أن وقت صلاة الكسوف من حين الكسوف إلى التجليّ، فإن فات لم تُقْضَ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الانجلاء غاية للصلاة؛ ولأن الصلاة إنما شرعت رغبة إلى الله في ردها، فإذا حصل ذلك حصل مقصود الصلاة، وإن انجلت وهو في الصلاة أتمها خفيفة، وإن استترت الشمس والقمر بالسحاب وهما مكسوفان صلى؛ لأن الأصل بقاء الكسوف، وإن غابت الشمس كاسفة أو طلعت على القمر وهو خاسف لم يصل؛ لأنه قد ذهب وقت الانتفاع بنورهما، وإن فرغ من الصلاة والكسوف قائم لم يزد صلاة أخرى، وإنما يشتغل بالذكر، والدعاء، والاستغفار؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزد على ركعتين، وإن غاب القمر ليلاً وهو كاسف لم يصل كالشمس إذا غابت؛ لأن ما يُصلَّى من أجل كسوفه قد غاب، وقيل يصلّي؛ لأن وقت سلطانه باقٍ (¬4)، فظهر أن صلاة كسوف الشمس تفوت بأمرين: ¬

(¬1) البخاري، كتاب الكسوف، باب الصلاة في الكسوف برقم 1040، وباب الصلاة في كسوف القمر، برقم 1063. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 1060، ومسلم، برقم 915. وتقدم تخريجه. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم 1044،ومسلم، واللفظ له، برقم 6 (901).وتقدم تخريجه. (¬4) اختار القاضي أن القمر إذا غاب ليلاً فإنه يصلي؛ لأنه لم يذهب وقت الانتفاع بنوره؛ لأن سلطانه باق، قال المرداوي في الإنصاف: ((لكن إذا غاب القمر خاسفًا ليلاً فالأشهر في المذهب أنه يُصلي له))، ثم ذكر الخلاف وأن صاحب المحرر جزم أنه لا يصلي. والله أعلم [انظر: المغني، لابن قدامة، 3/ 231، والكافي لابن قدامة، 1/ 530، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف المطبوع مع المقنع والشرح الكبير، 5/ 400].

الأمر الأول: الانجلاء

الأمر الأول: الانجلاء، فإذا انجلت كلها لم يصلّ. الأمر الثاني: إذا غابت كاسفة فلا يصلي بعد الغروب، وأما صلاة خسوف القمر فتفوت بأمرين أيضًا: الأمر الأول: الانجلاء. الأمر الثاني: طلوع الشمس. أما إذا طلع الفجر والقمر خاسف، فإنه يصلي صلاة الكسوف إذا لم يمنع ضوء القمر إلا الكسوف؛ لظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي)) (¬1)؛ ولأن سلطان القمر لم يذهب بالكلية فيشرع لكونه صلاة الكسوف (¬2)،وهو الذي اختاره شيخنا عبد العزيز ابن باز رحمه الله؛ لظاهر الأدلة (¬3)، وقال: ((والأفضل البدار بذلك قبل صلاة الفجر، وهكذا لو كسفت في آخر الليل ولم يعلم إلا بعد طلوع الفجر فإنه يشرع البدء بصلاة الكسوف ثم يصلي صلاة الفجر بعد ذلك، مع مراعاة تخفيف صلاة الكسوف حتى يصلي الفجر في وقتها)) (¬4)، واختاره أيضًا العلامة ابن عثيمين - رحمه الله - إذا لم يمنع من ضوء القمر إلا الكسوف، أما إن كان النهار قد انتشر، ولم يبق إلا القليل على طلوع الشمس فهنا قد ذهب سلطانه والناس لا ينتفعون به (¬5). وإذا كسفت الشمس بعد صلاة العصر، أو القمر بعد طلوع الفجر، فالصواب أنه يشرع للمصلين أن يبادروا للصلاة؛ لأن صلاة الكسوف ¬

(¬1) البخاري، برقم 1040، وتقدم تخريجه. (¬2) قال في الشرح الكبير لابن قدامة، 5/ 400: ((فإن لم يصل حتى طلع الفجر الثاني ولم يغب أو ابتدأ الخسف بعد طلوع الفجر وغاب قبل طلوع الشمس فيه احتمالان ذكرهما القاضي: أحدهما لا يصلي؛ لأن القمر آية الليل وقد ذهب الليل أشبه إذا طلعت الشمس، والثاني: يصلي؛ لأن الانتفاع بنور باق، أشبه ما قبل الفجر)) وقال المرداوي في الإنصاف، 5/ 401: ((إذا طلع الفجر والقمر خاسف لم يمنع من الصلاة، إذا قلنا إنها تفعل في وقت نهي، اختاره المجد في شرحه، وقيل: يمنع. اختاره المصنف)). (¬3) مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 41،قال: ((ومن ترك فلا حرج عليه عملاً بالقول الثاني)). (¬4) مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 41. (¬5) الشرح الممتع، لابن عثيمين، 5/ 254.

تاسعا: تدرك الركعة من صلاة الكسوف بإدراك الركوع الأول

من الصلوات ذوات الأسباب التي يجوز أن تُصلَّى في وقت النهي على الصحيح من قولي أهل العلم (¬1). وإذا اجتمع كسوف وجمعة، أو كسوف وصلاة فريضة، أو كسوف ووتر، بدأ بأخوفهما فوتًا، فإن خيف فوتهما بدأ بالواجبة (¬2). تاسعًا: تدرك الركعة من صلاة الكسوف بإدراك الركوع الأول، فمن أدرك الركوع الأول فقد أدرك الركعة، ومن لم يدرك إلا الركوع الثاني فلا يعتد بهذه الركعة وعليه أن يقضي كل ركعة فاتته بركوعين؛ لأن العبادات توقيفية؛ ولأن الركوع الأول هو الركن، وهذا هو الصواب من أقوال أهل العلم (¬3). عاشرًا: الصلاة للآيات: كالزلزلة، والرجفة الشديدة، والريح الشديدة، وبياض الليل، وسواد النهار، والصواعق المخيفة الشديدة، وكثرة المطر، وغير ذلك من الآيات المخيفة، اختلف العلماء رحمهم الله تعالى على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يصلّى لأي آية إلا للزلزلة الدائمة وهو مذهب الحنابلة، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((قال أصحابنا: يُصلَّى للزلزلة كصلاة الكسوف، نص عليه، وهو مذهب إسحاق، وأبي ثور، قال القاضي: ولا يصلي للرجفة، والريح الشديدة، والظلمة ونحوها، وقال الآمدي: يصلي لذلك، ورمي الكواكب، والصواعق، وكثرة المطر، ¬

(¬1) انظر: الأدلة على ذلك بالتفصيل ما سبق في صلاة التطوع، وهي في صلاة المؤمن، 1/ 402 - 407، ومجموع فتاوى ابن باز، 13/ 41. (¬2) اختلف فيما إذا اجتمع كسوف وجنازة، فقيل تقدم صلاة الجنازة، وقيل: صلاة الكسوف، وإذا اجتمع كسوف وتراويح فالصواب أنه يبدأ بالكسوف إن شاء الله تعالى. انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 331، والشرح الكبير لابن قدامة، 5/ 400، والروض المربع مع حاشية ابن قاسم، 2/ 536، والكافي لابن قدامة، 1/ 531. (¬3) انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 332،والإنصاف مع المقنع والشرح الكبير،5/ 404، والروض المربع مع حاشية ابن قاسم، 2/ 536، والشرح الممتع لابن عثيمين، 5/ 259، وفتاوى اللجنة الدائمة برئاسة ابن باز، 8/ 324،ومجلة البحوث الإسلامية، العدد رقم 13،عام 1405،ص99.

القول الثاني: لا يصلي لشيء من الآيات إلا الكسوف

وحكاه عن ابن أبي موسى (¬1). وقال المرداوي رحمه الله: قوله: لا يصلي لشيء من الآيات إلا الزلزلة الدائمة: ((هذا المذهب إلا ما استثني، وعليه أكثر الأصحاب بل جماهيرهم، لِمَا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى للزلزلة (¬2)،وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - (¬3)، وعنه يصلي لكل آية، وذكر الشيخ تقي الدين أن هذا قول محققي أصحابنا وغيرهم، كما دلت عليه السنن والآثار، ولولا أن ذلك قد يكون سببًا لشر وعذاب لم يصح التخويف به ... )) (¬4). القول الثاني: لا يُصلّي لشيء من الآيات إلا الكسوف؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصلّ لغيره، ولا خلفاؤه، وقد كان في عصره بعض هذه الآيات، ولم يصلّ لها إلا للكسوف، وهذا قول الإمام مالك والشافعي (¬5). القول الثالث: يصلّي لكل آية تخويف؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علل الكسوف بأنه آية من آيات الله يخوّف بها عباده؛ ولأن ابن عباس صلى للزلزلة بالبصرة (¬6)؛ ولِمَا روي عن علي - رضي الله عنه - (¬7)؛ ولِمَا ورد عن حذيفة - رضي الله عنه - أنه صلى بأصحابه بالمدائن مثل صلاة ابن عباس في الآيات (¬8)، وهو مذهب الإمام أبي حنيفة، وابن حزم، ورواية عن أحمد (¬9)، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن ¬

(¬1) المغني، لابن قدامة، 3/ 332 - 333. (¬2) عبد الرزاق، برقم 4929، وابن أبي شيبة، 2/ 472، والبيهقي، 3/ 343. (¬3) البيهقي، 3/ 343. (¬4) الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير، 5/ 405. (¬5) المغني لابن قدامة، 3/ 333، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف مع المقنع والشرح الكبير، 5/ 405 - 406. (¬6) عبد الرزاق، برقم 4929، وتقدم تخريجه. (¬7) البيهقي، 3/ 343، وتقدم تخريجه. (¬8) عبد الرزاق، برقم 4930. (¬9) انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 333، والشرح الكبير، 5/ 406، والشرح الممتع لابن عثيمين، 5/ 256، وحاشية ابن قاسم على الروض المربع، 2/ 523.

تيمية (¬1)، وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: ((وهو كما ترون له قوة عظيمة)) (¬2)، واختار شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله أنه لا يصلي لأي آية إلا الكسوف، لا الزلزلة ولا غيرها؛ لأنه قد عُلِم من السنة أن العبادات توقيفية لا يشرع منها إلا ما دلّ عليه الكتاب والسنة الصحيحة (¬3)، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. ¬

(¬1) الاختيارات الفقهية لابن تيمية، ص126. (¬2) الشرح الممتع لابن عثيمين، 5/ 258. (¬3) مجموع فتاوى الإمام ابن باز، 13/ 45.

المبحث الثالث والثلاثون: صلاة الاستسقاء

المبحث الثالث والثلاثون: صلاة الاستسقاء أولاً: مفهوم الاستسقاء: الاستسقاء طلب السقيا، كالاستصحاء: طلب الصحو، وهو استفعال من أسقيت (¬1)، قال ابن منظور - رحمه الله تعالى -: ((ذكر الاستسقاء في الحديث، وهو استفعال من طلب السقيا: أي إنزال الغيث على البلاد والعباد، يقال: استسقى، وسقى الله عباده الغيث، وأسقاهم، والاسم: السُّقيا بالضم، واستسقيت فلانًا: إذا طلبت منه أن يسقيك)) (¬2). ولكن في عرف الفقهاء إذا قالوا: صلاة الاستسقاء إنما يعنون استسقاء الرب - عز وجل - لا استسقاء المخلوق (¬3). قال الجرجاني - رحمه الله تعالى -: ((الاستسقاء: هو طلب المطر عند طول انقطاعه)) (¬4)، أي: من الله - عز وجل -. ثانيًا: حكم الاستسقاء: الاستسقاء سنة مؤكدة إذا أجدبت الأرض وقحط المَطَر (¬5). قال الإمام ابن قدامة - رحمه الله تعالى -: ((صلاة الاستسقاء سنة مؤكدة ثابتة بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخلفائه - رضي الله عنهم -)) (¬6). وقال الإمام ابن عبد البر - رحمه الله -: ((وأجمع العلماء على أن الخروج إلى الاستسقاء، والبروز، والاجتماع إلى الله - عز وجل - خارج المصر: ¬

(¬1) الإعلام بفوائد عمدة الأحكام لابن الملقن، 4/ 317. (¬2) لسان العرب، لابن منظور، فصل السين، باب الياء، 14/ 393. (¬3) الشرح الممتع، لابن عثيمين، 5/ 361. (¬4) التعريفات، للجرجاني، فصل السين، ص39. (¬5) قحط: يقال: قُحِط وقَحَطَ: إذا احتبس وانقطع، وأقحط الناس: إذا لم يمطروا، والقحط: الجدب؛ لأنه من أثره، [النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير،4/ 17]. (¬6) المغني، لابن قدامة،3/ 334،وانظر: الإحكام شرح أصول الأحكام، لابن قاسم،1/ 508.

ثالثا: أسباب القحط وحبس المطر

بالدعاء، والضراعة إلى الله تبارك اسمه في نزول الغيث عند احتباس ماء السماء وتمادي القحط: سنة مسنونة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا خلاف بين علماء المسلمين في ذلك (¬1))) (¬2). ثالثًا: أسباب القحط وحبس المطر: معصية الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((يا معشر المهاجرين: خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يعلنوا بها إلاَّ فشا فيهم الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مَضَوا. ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجَوْر السلطان عليهم. ولم يَمْنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطرَ من السماء، ولولا البهائمُ لم يُمطروا. ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)) (¬3). ¬

(¬1) التمهيد، لابن عبد البر، 17/ 172. (¬2) وهل يشترط لصلاة الاستسقاء إذن الإمام؛ اختُلِفَ في ذلك فقال في زاد المستقنع: ((وليس من شرطها إذن الإمام))، وقال ابن قدامة على روايتين: إحداهما لا يستحب إلا بخروج الإمام، وعنه أنهم يصلون لأنفسهم ويخطب بهم أحدهم، فعلى هذه الرواية يكون الاستسقاء مشروعًا في حق كل أحد: مقيم، ومسافر، وأهل القرى، والأعراب؛ لأنها صلاة نافلة)). المغني لابن قدامة، 3/ 346، والإنصاف مع المقنع والشرح الكبير، 5/ 435، لكن قال ابن عثيمين: ((لكن حسب العرف عندنا لا تقام صلاة الاستسقاء إلا بالإمام)).الشرح الممتع،5/ 291،وقَرَّرَ شيخنا ابن باز أنها تصلى في السفر وفي البادية وإذا لم يأمر بها الإمام، مجموع الفتاوى لابن باز،13/ 66، 85. (¬3) ابن ماجه، كتاب الفتن، باب العقوبات، برقم 4019، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، 4/ 540، وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 270، وسلسلة الأحاديث الصحيحة، 1/ 7، برقم 106.

وهذا الحديث فيه من الفوائد: أن نقص المكيال والميزان سبب للجدب وشدة المؤونة وجور السلاطين، وفيه أن منع الزكاة من الأسباب الموجبة لمنع قطر السماء، وأن نزول الغيث مع وجود المعاصي إنما هو رحمة من الله تعالى للبهائم (¬1). وقد قال الإمام البخاري - رحمه الله - في صحيحه: ((بابُ انتقام الرب - عز وجل - من خلقه بالقحط إذا انتُهِكَتْ محارمُه)) (¬2). وقد جاء عن مجاهد - رحمه الله تعالى - أن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا أجدبت الأرض، ذكر ذلك الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى - في تفسير قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ الَّلاعِنُونَ} (¬3). فقوله تعالى: {أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ الَّلاعِنُونَ} قال ابن كثير: ((يعني دواب الأرض .. وقال عطاء بن أبي رباح: كل دابة، والجن، والإنس، وقال مجاهد: إذا أجدبت الأرض قالت البهائم: هذا من أجل عُصاة بني آدم، لعن الله عُصاة بني آدم. وقال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة: ((ويلعنهم اللاعنون)) يعني: تلعنهم الملائكة والمؤمنون، وقد جاء في الحديث أن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر (¬4)،وجاء في هذه الآية: أن كاتم العلم يلعنه الله، والملائكة، والناس أجمعون، واللاعنون أيضًا: وهو كل فصيح، وأعجمي، إما بلسان المقال، أو الحال، أن لو كان له ¬

(¬1) نيل الأوطار، للشوكاني، 2/ 649 - 650. (¬2) البخاري، كتاب الاستسقاء، قبل الحديث رقم 1013. (¬3) سورة البقرة، الآية: 159. (¬4) الحديث أخرجه الترمذي، كتاب العلم، باب في فضل الفقه على العبادة، برقم 2825،وقال: ((هذا حديث حسن غريب صحيح)) وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 343.

عقل ويوم القيامة والله أعلم)) (¬1). وقد بيّن الله - عز وجل - أن الابتعاد عن المعاصي والقيام بالواجبات من أعظم أسباب إنزال البركات، فقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} (¬2). ذكر الله - عز وجل - أن أهل القرى لو آمنوا بقلوبهم إيمانًا صادقًا صدَّقَتْه الأعمال، واستعملوا تقوى الله تعالى ظاهرًا وباطنًا، بترك جميع ما حرَّم الله؛ لفتح عليهم بركات السماء والأرض، فأرسل السماء عليهم مدرارًا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم في أخصب عيش وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كدٍّ ولا نَصَب، ولكنهم لم يؤمنوا ولم يتقوا، {فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} بالعقوبات والبلايا، ونزع البركات، وكثرة الآفات، وهي بعض جزاء أعمالهم، وإلا فلو أخذهم بجميع ما كسبوا ما ترك عليها من دابة (¬3). كما قال - سبحانه وتعالى -: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (¬4). وكما قال - سبحانه وتعالى -: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} (¬5).وكما قال - عز وجل -: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي الناس لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ص137، وتفسير البغوي، 1/ 134. (¬2) سورة الأعراف، الآيات: 96 - 99. (¬3) تيسير الكريم الرحمن، للسعدي، ص298، 238. (¬4) سورة النحل، الآية: 61. (¬5) سورة فاطر، الآية: 45.

يَرْجِعُونَ} (¬1). وقد أوضح الله - عز وجل - أن أهل الكتاب لو قاموا بأوامر التوراة والإنجيل وابتعدوا عن نواهيهما، لأدرّ الله عليهم الرزق، ولأمطر عليهم السماء وأنبت لهم الأرض (¬2)، فقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مّن رَّبّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} (¬3). ولا شك أن الناس قد يحرمون الأرزاق بالذنوب يصيبونها؛ لأن من لم يتق الله لا يجعل الله له مخرجًا ولا يرزقه من حيث لا يحتسب، وما استجلب رزق بمثل ترك المعاصي (¬4)؛ لمفهوم قول الله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} (¬5). ومعلوم أن المعاصي تُزيل النعم وتُحِلُّ النقم، فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب، ولا حلَّت به نقمة إلا بذنب، كما ذُكِرَ عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال: ((ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رُفع إلا بتوبة)) (¬6)،قال الله - عز وجل -: {وَمَا أَصَابَكُم مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (¬7)، وقال - عز وجل -: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيّرًا نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬8)، فلا يغيّر الله تعالى نعمته التي أنعم ¬

(¬1) سورة الروم، الآية: 41. (¬2) تيسير الكريم الرحمن للسعدي، ص238. (¬3) سورة المائدة، الآيتان: 65 - 66. (¬4) الجواب الكافي، لابن القيم، ص104. (¬5) سورة الطلاق، الآيتان: 2 - 3. (¬6) الجواب الكافي لابن القيم، ص142. (¬7) سورة الشورى، الآية: 30. (¬8) سورة الأنفال، الآية: 53.

رابعا: أنواع الاستسقاء: الاستسقاء أنواع على النحو الآتي:

بها على أحد حتى يكون هو الذي يُغَيّرُ ما بنفسه، فيغير طاعة الله بمعصيته، وشكره بكفره، وأسباب رضاه بأسباب سخطه، فإذا غيَّر غُيّر عليه جزاءً وفاقًا، وما ربُّك بظلام للعبيد. فإن غيَّر المعصية بالطاعة غيَّر الله عليه العقوبة بالعافية، والذلّ بالعزّ، قال الله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ الله بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مّن دُونِهِ مِن وَالٍ} (¬1). ولقد أحسن القائل: إذا كنت في نعمة فارعها ... فإن المعاصي تزيل النعم وحطها بطاعة رب العباد ... فربُّ العباد سريع النقم (¬2) رابعًا: أنواع الاستسقاء: الاستسقاء أنواع على النحو الآتي: النوع الأول: الاستسقاء بصلاة جماعة أو فرادى (¬3) على ما يأتي تفصيله، وهو أكملها، وصلاته - صلى الله عليه وسلم - مستفيضة في الصحاح وغيرها، واتفق فقهاء الأمصار على هذا النوع (¬4). النوع الثاني: استسقاء الإمام يوم الجمعة في خطبتها، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستفاض عنه من غير وجه، وهذا النوع مستحب اتفاقًا، واستمر عمل المسلمين عليه (¬5)؛ لحديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: أصابت الناس سنة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب في يوم جمعة فقام أعرابي فقال: يا رسول الله، هلك المال، وجاع العيال فادع الله لنا، فرفع ¬

(¬1) سورة الرعد، الآية: 11. (¬2) الجواب الكافي، لابن القيم، ص142. (¬3) قال الإمام ابن الملقن في الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، 4/ 317: ((واعلم أن الاستسقاء أنواع: الأول: الدعاء بلا صلاة ولا خلف صلاة، وأوسطها الدعاء خلف الصلوات وفي خطبة الجمعة، والاستسقاء بركعتين وخطبتين، والثاني أفضل من الأول، والثالث أكمل الكل وخالف فيه أبو حنيفة ... )). (¬4) الإحكام شرح أصول الأحكام، لابن قاسم، 1/ 504، والاستسقاء: سننه وآدابه، للشيخ عبد الوهاب بن عبد العزيز الزيد، ص31. (¬5) الإحكام شرح أصول الأحكام، لابن قاسم، 1/ 504.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه ثم قال: ((اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا))، وفي لفظ للبخاري: ((اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا))، قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب، ولا قزعة (¬1) ولا شيئًا، وما بيننا وبين سَلْع (¬2) من بيتٍ ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس (¬3)، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، قال: والله ما رأينا الشمس سبتًا (¬4) ... ((وفي لفظ للبخاري: ((أصابت الناس سنة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب في يوم الجمعة فقام أعرابي فقال: يا رسول الله هلك المال، وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة، فوالذي نفسي بيده ما وضعهما حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحدر على لحيته فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد، ومن بعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى، وقام ذلك الأعرابي أو قال غيره فقال: يا رسول الله! تهدَّم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع يديه فقال: ((اللهمَّ حَوَالَينا ولا علينا))،فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت، وصارت المدينة مِثْلَ الجَوْبة (¬5)،وسال الوادي قناة شهرًا (¬6) ولم يجئ أحد من ناحية إلا حدَّث بالجود))،وفي لفظ: ((ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب فاستقبله قائمًا فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يمسكها عنا، فتبسم النبي - صلى الله عليه وسلم -، [وفي لفظ فضحك] قال: فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه ثم قال: ((اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على ¬

(¬1) قزعة: قطعة من سحاب. المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي،2/ 543. (¬2) سَلْع: جبل بالمدينة. (¬3) الترس: أي تشبه السحابة الترس في كثافتها واستدارتها. المرجع السابق، 2/ 543. (¬4) سبتًا: أي من سبت إلى سبت، المرجع السابق، 2/ 543. (¬5) الجوبة: الفجوة بين البيوت، المفهم للقرطبي، 2/ 545. (¬6) قناة: اسم واد من أودية المدينة، وكأنه سُمي مكانه: قناة وقد جاء في غير كتاب مسلم: ((وسال وادي قناة شهرًا)) على الإضافة، المرجع السابق، 2/ 545.

النوع الثالث: الدعاء عقب الصلوات وفي الخلوات

الآكام (¬1)، والجبال، والظّراب (¬2)، وبطون الأودية، ومنابت الشجر)) قال: فانقطعت وخرجنا نمشي في الشمس)) (¬3). النوع الثالث: الدعاء عقب الصلوات وفي الخلوات، ولا نزاع في جواز الاستسقاء بالدعاء بلا صلاة)) (¬4). وقد ذكر الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقى على وجوه: الوجه الأول: يوم الجمعة على المنبر (¬5). الوجه الثاني: أنه - صلى الله عليه وسلم - وعد الناس يومًا يخرجون فيه إلى المصلى، فخرج إلى المصلى فاستسقى فاستقبل القبلة، وحوَّل رداءه، وصلى ركعتين (¬6). الوجه الثالث: أنه استسقى على منبر المدينة استسقاء مجردًا في غير يوم جمعة، ولم يحفظ عنه في هذا اليوم صلاة (¬7). الوجه الرابع: أنه استسقى وهو جالس في المسجد فرفع يديه ودعا الله ¬

(¬1) الآكام: جمع أكمة: وهي دون الجبال، وقال الخليل: الأكمة: هي تلٌّ، المفهم للقرطبي، 2/ 544. (¬2) الظراب: الروابي، واحدتها ظرب، قال الخليل: الأكمة أعلى من الرابية، المفهم للقرطبي، 2/ 544، والظراب: صغار الجبال والتلال، جامع الأصول لابن الأثير، 6/ 203. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الجمعة، باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة، برقم 933، وكتاب الاستسقاء، باب الاستسقاء في المسجد الجامع، برقم 1013، وباب الدعاء إذا كثر المطر: حوالينا ولا علينا، برقم 1021، وكتاب الأدب، باب التبسم والضحك، برقم 6093، ومسلم، كتاب الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء، برقم 897. (¬4) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 439، والإنصاف مع الشرح الكبير،5/ 436، والمغني لابن قدامة، 3/ 348، والإحكام شرح أصول الأحكام 8/ 505. (¬5) لحديث أنس، عند البخاري برقم 933، ومسلم برقم 897، وتقدم تخريجه. (¬6) البخاري، كتاب الاستسقاء، باب الاستسقاء وخروج النبي - صلى الله عليه وسلم - في الاستسقاء، برقم 1005، ولفظه في باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى المصلى فاستسقى، فاستقبل القبلة، وحول رداءه، وصلى ركعتين)) برقم 1012. (¬7) انظر: سنن ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الدعاء في الاستسقاء، برقم 1270، وضعفه الألباني في ضعيف سنن ابن ماجه، برقم 1286، وإرواء الغليل، 1/ 145.

الوجه الخامس: أنه استسقى عند أحجار الزيت قريبا من الزوراء

- عز وجل -، فَحُفِظَ من دعائه: ((اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا مريئًا (¬1)، مريعًا (¬2)، طبقًا (¬3)، عاجلاً غير رائث (¬4)، نافعًا غير ضار)) (¬5). الوجه الخامس: أنه استسقى عند أحجار الزيت قريبًا من الزوراء، وهي خارج باب المسجد الذي يُدعى اليوم باب السلام، نحو قذفة حجر، ينعطف عن يمين الخارج من المسجد (¬6). الوجه السادس: أنه - صلى الله عليه وسلم - استسقى في بعض غزواته، لَمَّا سبقه المشركون إلى الماء (¬7)،وأُغيث - صلى الله عليه وسلم - في كل مرَّة استسقى فيها (¬8). خامسًا: آداب الاستسقاء كثيرة ومهمة، ومنها: 1 - إذا أصاب الناس قحط لجؤوا إلى الله تعالى وصلوا صلاة الاستسقاء؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: شكا الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قحوط المطر، فأمر بمنبر فَوُضِعَ له في المصلى ووعد الناس يومًا يخرجون فيه، قالت عائشة: فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بدا حاجب الشمس فقعد على المنبر، فكبَّر - صلى الله عليه وسلم -، وحمد الله - عز وجل - ثم قال: ((إنكم ¬

(¬1) مريئًا: المري الذي يمرئ، يقال: مرأني الطعام وأمرأني، قال الفراء: يقال: هنأني الطعام، ومرأني، فإذا أتبعوها: ((هنأني)) قالوا: مرأني بغير ألف، فإذا أفردوها قالوا: أمرأني. جامع الأصول، لابن الأثير، 6/ 211. (¬2) مريعًا: يروى على وجهين: بالباء والياء، فمن رواه بالياء جعله من المراعة وهي الخصب، يقال منه: مرع المكان: إذا أخصب فهو مريع، بوزن قتيل، ومن رواه بالباء، فمعناه: منبتًا للربيع، يقال: أربع الغيث يُربع فهو مربع بوزن مُكرم. جامع الأصول، لابن الأثير، 6/ 211. (¬3) طبقًا: أي مائلاً إلى الأرض مغطيًا، يقال: غيث طبق: أي عام واسع. (¬4) رائث: أي غير بطيء متأخر. جامع الأصول لابن الأثير، 1/ 211. (¬5) أبو داود، كتاب الصلاة، باب رفع اليدين في الاستسقاء، برقم 1169، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، برقم 1169. (¬6) أبو داود، كتاب الصلاة، باب رفع اليدين في الاستسقاء، برقم 1168، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، برقم 1168. (¬7) زاد المعاد، لابن القيم، 1/ 458. (¬8) المرجع السابق، 1/ 459.

2 - موعظة الإمام الناس، وأمرهم بتقوى الله تعالى، والخروج عن المظالم

شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن إبَّان (¬1) زمانه عنكم، وقد أمركم الله - عز وجل - أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم)) ثم قال: ((الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوةً وبلاغًا (¬2) إلى حين))،ثم رفع يديه فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض إبطيه، ثم حَوَّلَ إلى الناس ظهره، وقلب - أو حوَّلَ - رداءه وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس ونزل فصلى ركعتين، فأنشأ الله سحابة، فرعدت وبرقت، ثم أمطرت بإذن الله، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكِنّ (¬3) ضحك - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه، فقال: ((أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله)) (¬4). 2 - موعظة الإمام الناس، وأمرهم بتقوى الله تعالى، والخروج عن المظالم، والتوبة من المعاصي، وتحليل بعضهم بعضًا، والصيام والصدقة، وترك التشاحن؛ لأن المعاصي سبب القحط، والتقوى سبب البركات (¬5)، وقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى ميمون بن مهران: ((إني كتبت إلى أهل الأمصار أن يخرجوا يوم كذا من شهر كذا؛ ليستسقوا، ومن استطاع أن يصوم ويتصدق؛ فليفعل؛ فإن الله يقول: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلَّى} (¬6)، وقولوا كما قال أبواكم: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ ¬

(¬1) إبَّان: إبان الشيء: وقته وأوانه. جامع الأصول لابن الأثير، 6/ 205. (¬2) بلاغًا: البلاغ: ما يتبلغ به ويتوصل به إلى الشيء المطلوب. جامع الأصول،6/ 205. (¬3) الكنُّ: ما يرد الحر والبرد من الأبنية والمساكن. جامع الأصول، 6/ 205. (¬4) أبو داود، كتاب الاستسقاء، باب رفع اليدين في الاستسقاء، برقم 1173، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، برقم 1173. (¬5) المغني، لابن قدامة، 3/ 335، والكافي، لابن قدامة أيضًا، 1/ 535. (¬6) سورة الأعلى، الآيتان: 14 - 15.

3 - يعد الإمام الناس يوما يخرجون فيه

لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬1)، وقولوا كما قال نوح: {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مّنَ الْخَاسِرِينَ} (¬2)، وقولوا كما قال موسى: {إِنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬3)، وقولوا كما قال يونس: {لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (¬4). 3 - يَعِدُ الإمام الناس يومًا يخرجون فيه؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: ((شكا الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قحوط المطر، فأمر بمنبر فَوُضعَ له في المصلى ووعد الناس يومًا يخرجوا فيه ... )) (¬5)، والله - عز وجل - الموفق والمعين (¬6). 4 - وقت خروج الناس إلى الاستسقاء: الأفضل أن تُصلَّى صلاة الاستسقاء في وقت صلاة العيد؛ لحديث عائشة رضي الله عنها وفيه: (( ... فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بدا حاجب الشمس فقعد على المنبر .. )) (¬7)، هذا هو الأفضل، وليس لصلاة الاستسقاء وقت معين لا تصح إلا فيه، إلا أنها لا تُصلَّى في وقت النهي بغير خلاف؛ لأن وقتها متسع فلا حاجة إلى فعلها في وقت النهي، والأولى فعلها في وقت العيد؛ لحديث عائشة رضي الله عنها المذكور آنفًا؛ ولأنها تشبهها في الموضع والصفة فكذلك في الوقت، إلا أن وقتها لا يفوت بزوال الشمس؛ لأنها ليس لها يوم معين فلا يكون لها وقت معين (¬8)،وقال ابن عبد البر -رحمه الله -: ((والخروج إلى الاستسقاء في ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 23. (¬2) سورة هود، الآية: 47. (¬3) سورة القصص، الآية: 16. (¬4) أخرجه عبد الرزاق عن ابن عيينة، عن جعفر بن برقان،3/ 87،قال الشيخ عبد الوهاب بن عبد العزيز الزيد في رسالته: الاستسقاء: سننه وآدابه: ((وإسناده صحيح))، ص40. (¬5) أبو داود، برقم 1173، وتقدم تخريجه في آداب الاستسقاء. (¬6) انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 335. (¬7) أبو داود، برقم 1173، وتقدم تخريجه في آداب الاستسقاء. (¬8) المغني لابن قدامة، 3/ 327 - 328.

5 - تصلى صلاة الاستسقاء في الصحراء

وقت خروج الناس إلى العيد عند جماعة العلماء، إلا أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم؛ فإنه قال: الخروج إليها عند زوال الشمس)) (¬1). 5 - تُصلى صلاة الاستسقاء في الصحراء، وهذا هو الأفضل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاها في الصحراء كصلاة العيد (¬2)؛لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((شكا الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قحوط المطر، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى ووعد الناس يومًا يخرجون فيه ... )) (¬3)؛ولحديث عبد الله بن زيد المازني - رضي الله عنه - قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى فاستسقى فاستقبل القبلة، [فجعل إلى الناس ظهره يدعو الله]، وحوّل رداءه حين استقبل القبلة ثم صلى ركعتين يجهر فيهما بالقراءة)) (¬4). 6 - يخرج الإمام والناس في تواضعٍ، وتبذّلٍ وتخشّعٍ، وتضرّعٍ؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما - فعن إسحاق بن عبد الله بن كِنانة قال: أرسلني الوليد بن عقبة - وكان أمير المدينة - إلى ابن عباس أسأله عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الاستسقاء، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما منعه أن يسألني؟ [ثم قال ابن عباس رضي الله عنهما]: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُتبذّلا (¬5)، متواضعًا، متضرّعًا (¬6)، [متخشّعًا، مترسّلاً] (¬7) حتى أتى المصلى، ولم ¬

(¬1) التمهيد لابن عبد البر، 17/ 175. (¬2) المغني، لابن قدامة، 3/ 334، والكافي له، 1/ 533، والروض المربع، 2/ 541. (¬3) أبو داود، برقم 1173، وتقدم تخريجه في آداب الاستسقاء. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الاستسقاء، باب الاستسقاء، وخروج النبي - صلى الله عليه وسلم - في الاستسقاء، برقم 1005، وباب تحويل الرداء في الاستسقاء، برقم 1011، ورقم 1012، وباب الدعاء في الاستسقاء قائمًا، برقم 1023، وباب الجهر بالقراءة في الاستسقاء، برقم 1024، وباب كيف حوّل النبي - صلى الله عليه وسلم - ظهره إلى الناس، برقم 1025، وباب صلاة الاستسقاء ركعتين، برقم 1026، وباب الاستسقاء في المصلى، برقم 1027،وباب استقبال القبلة في الاستسقاء، برقم 1028، ومسلم، كتاب الاستسقاء، باب كتاب صلاة الاستسقاء، برقم 894. (¬5) متبذلاً: التبذل: ترك التزين والتهيؤ بالهيئة الحسنة الجميلة. جامع الأصول، لابن الأثير، 6/ 192. (¬6) متضرعًا: التضرع: المبالغة في السؤال والرغبة. جامع الأصول، 6/ 192. (¬7) مترسلاً: يقال: ترسل الرجل في كلامه ومشيه إذا لم يعجل.

7 - خروج الصبيان والنساء في الاستسقاء لا بأس به بشروطه

يخطب كخطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدعاء، والتضرع، والتكبير، ثم صلى ركعتين كما كان يصلي في العيد)) (¬1). 7 - خروج الصبيان والنساء في الاستسقاء لا بأس به بشروطه، قال الإمام ابن قدامة - رحمه الله تعالى -: ((ويستحب الخروج لكافة الناس، وخروج من كان ذا دين، وستر وصلاح، والشيوخ أشد استحبابًا؛ لأنه أسرع للإجابة، فأما النساء فلا بأس بخروج العجائز ومن لا هيئة لها، فأما الشواب وذوات الهيئة فلا يستحب لهن الخروج؛ لأن الضرر في خروجهن أكثر من النفع، ولا يستحب إخراج البهائم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله)) (¬2). 8 - لا أذان ولا إقامة لصلاة الاستسقاء؛ لحديث عبد الله بن يزيد الأنصاري، قال أبو إسحاق: خرج عبد الله بن يزيد الأنصاري، وخرج معه البراء بن عازب، وزيد بن أرقم - رضي الله عنهم - فاستسقى فقام بهم على رجليه، على غير منبر، فاستسقى فقام بهم على رجليه، على غير منبر، فاستسقى ثم صلى ركعتين يجهر بالقراءة ولم يؤذن ولم يقم، قال أبو إسحاق: ورأى عبد الله بن يزيد النبي - صلى الله عليه وسلم -)) (¬3)، وقال حارثة بن مضرب العبدي: ((خرجنا مع أبي موسى نستسقي فصلى بنا ركعتين من غير أذان ولا إقامة)) (¬4)، قال الإمام ابن قدامة - رحمه الله -: ((ولا يسن لها أذان ولا إقامة، ولا نعلم فيه خلافًا)) (¬5). ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب جُمّاع أبواب صلاة الاستسقاء، وتفريعها، برقم 1165، والترمذي، كتاب الجمعة، باب ما جاء في صلاة الاستسقاء، برقم 558، والنسائي، كتاب الاستسقاء، باب الحال التي يستحب للإمام أن يكون عليها إذا خرج، برقم 1505، وباب جلوس الإمام على المنبر للاستسقاء، برقم 1507، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في صلاة الاستسقاء، برقم 1281، وحسنه الألباني في صحيح سنن النسائي، 1/ 486، وفي غيره. (¬2) المغني، لابن قدامة، 3/ 335، والكافي له، 1/ 535. (¬3) البخاري، كتاب الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء قائمًا، برقم 1022. (¬4) ابن أبي شيبة، 2/ 221. (¬5) المغني لابن قدامة، 3/ 337.

9 - الاستسقاء بدعاء الصالحين سنة

9 - الاستسقاء بدعاء الصالحين سُنَّة؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - يستسقي فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب: وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه ... ثِمالُ (¬1) اليتامى عصمةً للأرامل وهو قول أبي طالب (¬2). وعن أنس - رضي الله عنه - أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا - صلى الله عليه وسلم - فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعمّ نبينا فاسقنا، قال: فيسقون)) (¬3). والمعنى أنهم كانوا يستسقون بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم في حديث أنس - رضي الله عنه - حينما قال رجل: يا رسول الله: هلك المال، وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه ثم قال: ((اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا)) فنزل المطر بإذن الله - عز وجل - (¬4)، وعندما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقحط الناس استسقى عمر - رضي الله عنه - بعمّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - في حياته، وذلك بأن يدعو الله لهم. وعلى هذا كان المسلمون وأئمتهم يستسقون بدعاء الصالحين في حياتهم، قال الإمام ابن قدامة - رحمه الله -: ((ويستحب أن يستسقي الإمام بمن ظهر صلاحه؛ لأن عمر - رضي الله عنه - استسقى بالعباس عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واستسقى معاوية والضحاك بيزيد بن الأسود الجرشي)) (¬5). سادسًا: كيفية صلاة الاستسقاء: كصلاة العيد؛ لحديث ابن عباس ¬

(¬1) ((ثِمالُ)) أي: غياث. (¬2) البخاري، كتاب الاستسقاء، باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا، برقم 1008، ورقم 1009. (¬3) البخاري، كتاب الاستسقاء، باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا، برقم 1010. (¬4) متفق عليه: البخاري، برقم 933، ومسلم، برقم 897، وتقدم تخريجه في أنواع الاستسقاء. (¬5) الكافي، لابن قدامة، 1/ 535، والمغني له، 3/ 346.

رضي الله عنهما قال: (( ... خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متبذّلاً، متواضعًا، متضرعًا، متخشّعًا، مترسّلاً، حتى أتى المصلى ولم يخطب كخطبتكم هذه (¬1)، ولكن لم يزل في الدعاء، والتضرع، والتكبير، ثم صلى ركعتين كما كان يصلي في العيد)) (¬2). وهذا يؤكد قول الجمهور أن صلاة الاستسقاء تُصلَّى كما تُصلَّى صلاة العيد: في العدد، والجهر بالقراءة، والتكبيرات، وجواز الخطبة في الاستسقاء بعد الصلاة؛ لأنها في معناها إلا أنه لا وقت لصلاة الاستسقاء، ولكنها لا تفعل في وقت النهي بلا خلاف (¬3)، والأفضل أن تُصلّى في وقت صلاة العيد (¬4)؛ لحديث عائشة رضي الله عنها وغيره (¬5). ¬

(¬1) قوله: ((ولم يخطب كخطبتكم هذه)) المعنى نفي للصفة لا لأصل الخطبة: أي لم يخطب كخطبتكم هذه إنما كان جل خطبته الدعاء والتضرع ... )).المغني لابن قدامة، 3/ 339. (¬2) أبو داود، برقم 1165، والترمذي، برقم 558، والنسائي برقم 1505، 1507، وابن ماجه، برقم 1281، وغيرهم، وتقدم تخريجه في آداب الاستسقاء. (¬3) انظر: الإنصاف للمرداوي مع المقنع والشرح الكبير،5/ 411،والمغني، لابن قدامة، 3/ 335، والكافي له، 1/ 533، والروض المربع مع حاشية ابن قاسم، 2/ 541. (¬4) انظر: في صفة صلاة العيد بالتفصيل ما تقدم في صلاة العيدين ((صفة صلاة العيد)). (¬5) اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في صفة صلاة الاستسقاء، وهل تقدم على الخطبة أو تؤخر عنها: وقد ذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله: أنه لا يعلم بين القائلين بصلاة الاستسقاء خلافًا في أنها ركعتان، وأن الرواية قد اختلفت في صفتها. فروي أنه يكبر فيهما تكبيرات العيد: سبعًا في الأولى، وخمسًا في الثانية، قال: وهو قول: سعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز، وأبي بكر محمد بن عمر بن حزم، وداود، والشافعي، وحكي عن ابن عباس؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما: ((وصلى ركعتين كما كان يصلي في العيد))، وروى جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبا بكر، وعمر، كانوا يصلون صلاة الاستسقاء يكبرون فيها: سبعًا وخمسًا [أخرجه عبد الرزاق في باب الاستسقاء مع كتاب الصلاة، في المصنف، 3/ 85] قال ابن قدامة - رحمه الله -: ((والرواية الثانية أنه يصلي ركعتين كصلاة التطوع، وهو مذهب مالك، والأوزاعي، وأبي ثور، وإسحاق؛ لأن عبد الله بن زيد قال: ((خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى فاستقبل القبلة وحول رداءه، وصلى ركعتين)) وفي لفظ: ((استسقى فصلى ركعتين وقلب رداءه)) [متفق عليه: البخاري، برقم 1012، ورقم 1026، ومسلم، برقم 894] ولم يذكر التكبير، وظاهره أنه لم يكبر، وهذا ظاهر كلام الخرقي، وكيفما فعل كان جائزًا حسنًا. وقال أبو حنيفة: لا تسن صلاة الاستسقاء ولا الخروج لها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقى على المنبر يوم الجمعة، ولم يصلّ لها، واستسقى عمر بالعباس ولم يصلّ، وليس هذا بشيء؛ فإنه قد ثبت بما رواه عبد الله بن زيد وابن عباس، وأبو هريرة، أنه خرج - صلى الله عليه وسلم -، وصلى، وما ذكروه لا يعارض ما رووه؛ لأنه يجوز الدعاء بغير صلاة، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لِمَا ذكروه لا يمنع فعل ما ذكرناه، بل قد فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمرين، قال ابن المنذر: ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الاستسقاء وخطب، وبه قال عوامُّ أهل العلم إلا أبا حنيفة، وخالفه أبو يوسف ومحمد بن الحسن، فوافقا سائر العلماء، والسنة يستغنى بها عن كل قول، ويسن أن يجهر بالقراءة؛ لِمَا روى عبد الله بن زيد قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى فاستسقى فاستقبل القبلة [فجعل إلى الناس ظهره يدعو الله] وحول رداءه حين استقبل القبلة، ثم صلى ركعتين يجهر فيهما بالقراءة)) [متفق عليه: البخاري، برقم 1005، ورقم 1011، ورقم 1012، ورقم 1023، ورقم 1024، ورقم 1025، ورقم 1026، ورقم 1027، ورقم 1028، ومسلم، برقم 894] وإن قرأ فيهما بـ {سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الأَعْلَى}، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} فحسن؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما: صلّى ركعتين كما كان يصلي في العيد [رواه أهل السنن وتقدم تخريجه] [المغني لابن قدامة، 3/ 335 - 337 ببعض التصرف]. * وقال الإمام النووي رحمه الله: ((أجمع العلماء على أن للاستسقاء سنة، واختلفوا هل تسن له صلاة أم لا، فقال أبو حنيفة: لا تسن له صلاة، بل يستسقى بالدعاء بلا صلاة، وقال سائر العلماء من السلف والخلف: الصحابة والتابعون فمن بعدهم تسن الصلاة، ولم يخالف فيه إلا أبو حنيفة، وتعلق بأحاديث الاستسقاء التي ليس فيها صلاة، واحتج الجمهور بالأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى للاستسقاء ركعتين، وأما الأحاديث التي ليس فيها ذكر الصلاة فبعضها محمول على نسيان الراوي، وبعضها كان في الخطبة للجمعة، ويتعقبه الصلاة للجمعة فاكتفى بها ولو لم يصلّ أصلاً كان بيانًا لجواز الاستسقاء بالدعاء بلا صلاة، ولا خلاف في جوازه، وتكون الأحاديث المثبتة للصلاة مقدمة؛ لأنها زيادة علم، ولا معارضة بينهما، قال أصحابنا: الاستسقاء ثلاثة أنواع: أحدها الاستسقاء بالدعاء من غير صلاة، الثاني: الاستسقاء في خطبة الجمعة أو في أثر صلاة مفروضة وهو أفضل من النوع الذي قبله، والثالث: وهو أكملها أن يكون بصلاة ركعتين وخطبتين، ويتأهب قبله بصدقة، وصيام، وتوبة، وإقبال على الخير، ومجانبة الشر، ونحو ذلك من طاعة الله تعالى)) [شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 439]. * وقد قال الإمام القرطبي رحمه الله: ((حديث عبد الله بن زيد يقتضي أن سنة الاستسقاء: الخروج إلى المصلى، والخطبة، والصلاة، وبذلك قال جمهور العلماء ... )) [المفهم للقرطبي، 2/ 538].وانظر في صفة صلاة العيد أيضًا: [فتح الباري، لابن حجر،2/ 499 - 501،والإعلام بفوائد عمدة الأحكام، لابن الملقن،4/ 319 - 323،والمفهم للقرطبي،2/ 539،ونيل الأوطار للشوكاني،2/ 654].

سابعا: خطبة الاستسقاء سنة

سابعًا: خطبة الاستسقاء سُنَّة؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: شكا الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قحوط المطر فأمر بمنبر فَوُضِعَ له في المُصلَّى، ووعد الناس يومًا يخرجون فيه، قالت عائشة رضي الله عنها فخرج رسول الله

- صلى الله عليه وسلم - حين بدا حاجب الشمس فقعد على المنبر، فكبر وحمد الله - عز وجل - ثم قال: ((إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر إبَّان زمانه عنكم، وقد أمركم الله - عز وجل - أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم ثم قال: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مَلِكِ يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت لنا قوةً وبلاغًا إلى حين)) ثم رفع يديه فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض إبطيه، ثم حوَّل إلى الناس ظهره، وقلب - أو حوَّلَ - رداءه وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس ونزل فصلى ركعتين، فأنشأ الله سحابة فرعدت وبرقت، ثم أمطرت بإذن الله فلم يأت مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكِنّ ضحك - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه، فقال: ((أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله)) (¬1)؛ ولحديث عبد الله بن زيد بن عاصم المازني - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج ليستسقي فصلى بهم ركعتين، جهر بالقراءة فيهما وحوَّلَ رداءه، ورفع يديه، فدعا، واستسقى، واستقبل القبلة)) (¬2). والصواب إن شاء الله تعالى جواز خطبة الاستسقاء بعد صلاة الاستسقاء وقبلها؛ لحديث عائشة، وعبد الله بن زيد رضي الله عنهما فقد دل ذلك على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب ثم صلى، ودل على أن الخطبة بعد الصلاة حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وبعض روايات حديث عبد الله بن زيد - رضي الله عنه -، ويؤيد ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما فالأمر في ذلك واسع: من خَطَب قبل الصلاة فلا حرج، ومن صلى ثم خطب فلا حرج، والله تعالى أعلم (¬3). ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، برقم 1173، وتقدم تخريجه في آداب الاستسقاء. (¬2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب جُمَّاع أبواب صلاة الاستسقاء وتفريعها، برقم 1161، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 318. (¬3) اختلف العلماء رحمهم الله تعالى هل صلاة الاستسقاء قبل الخطبة أو بعدها، على قولين: * فقال الإمام القرطبي رحمه الله بعد ذكره لحديث عبد الله بن زيد في الصحيحين الذي دل على الخطبة قبل الصلاة: ((وظاهر هذا الحديث أن الخطبة مقدمة على الصلاة؛ لأنه جاء فيه بـ (ثم) التي للترتيب والمهلة، وبذلك قال مالك في أول قوليه، وهو قول كثير من الصحابة، والجمهور على أن الصلاة مقدمة على الخطبة، وإليه رجع مالك، وهو قوله في الموطأ، وكان مستند هذا القول رواية من روى هذا الخبر بالواو غير المرتبة بدل ثم، وروي عن إسحاق بن عيسى بن الصباغ عن مالك: أنه بدأ بالصلاة قبل الخطبة، وهذا نص، ويعتضد هذا بقياس هذه الصلاة على صلاة العيدين، لسبب أنهما يخرج لهما، ولهما خطبة، ويخطب فيهما خطبتان يجلس في أولاهما ووسطهما، وهو قول مالك، والشافعي، وقال أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وعبد الرحمن بن مهدي: خطبة واحدة لا جلوس فيها، وخيَّره الطبري ... )) [المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 2/ 538 - 539، ببعض التصرف اليسير]. * وقال الإمام النووي - رحمه الله تعالى - عند الكلام على فوائد حديث عبد الله بن زيد المازني - رضي الله عنه -: ((وفيه أن صلاة الاستسقاء ركعتان وهو كذلك بإجماع المثبتين لها، واختلفوا هل هي قبل الخطبة أو بعدها، فذهب الشافعي، والجماهير إلى أنها قبل الخطبة، وقال الليث بعد الخطبة، وكان مالك يقول به ثم رجع إلى قول الجماهير، قال أصحابنا: ولو قدم الخطبة على الصلاة صحتا، ولكن الأفضل تقديم الصلاة كصلاة العيد وخطبتها، وجاء في الأحاديث ما يقتضي جواز العيد والتأخير، واختلفت الرواية في ذلك عن الصحابة - رضي الله عنهم - واختلف العلماء هل يكبر تكبيرات زائدة في أول صلاة الاستسقاء كما يكبر في صلاة العيد، فقال به الشافعي، وابن جرير، وروي عن ابن المسيب، وعمر بن عبد العزيز، ومكحول، وقال الجمهور: لا يكبر، واحتجوا للشافعي بأنه جاء في بعض الأحاديث: صلى ركعتين كما يصلي في العيد، وتأوله الجمهور على أن المراد: كصلاة العيد في العدد، والجهر، والقراءة، وفي كونها قبل الخطبة، واختلفت الرواية عن أحمد في ذلك، وخيّره داود بين التكبير وتركه ... )) [شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 440 - 441]. * وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((اختلفت الرواية في الخطبة للاستسقاء، وفي وقتها، والمشهور أن فيها خطبة بعد الصلاة، قال أبو بكر: اتفقوا عن أبي عبد الله أن في صلاة الاستسقاء خطبة، وصعودًا على المنبر، والصحيح أنها بعد الصلاة، وبهذا قال مالك، والشافعي، ومحمد بن الحسن، وعليه جماعة الفقهاء؛ لقول أبي هريرة - رضي الله عنه -: [((خرج نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا يستسقي فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبنا، ودعا الله - عز وجل -، وحول وجهه نحو القبلة رافعًا يديه، ثم قلب رداءه فجعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن)) أحمد، برقم 8327، وابن ماجه برقم 1268، وابن خزيمة برقم 1409، 1422، وغيرهم، وقال أصحاب الموسوعة في تحقيق مسند الإمام أحمد برقم 8327: ((صحيح لغيره، وهذا إسناد ضعيف، فالنعمان ضعيف يعتبر به وباقي رجال الإسناد ثقات من رجال الشيخين)) وقال الإمام ابن باز عن حديث أبي هريرة هذا: ((أخرج أحمد رحمه الله حديث أبي هريرة المذكور بإسناد حسن، وصرح فيه بأنه خطب بعد الصلاة، ويجمع بين الحديثين - يعني حديث عبد الله بن زيد في الصحيحين، وحديث أبي هريرة - بجواز الأمرين)) [انظر تعليق ابن باز على فتح الباري لابن حجر، 2/ 500]، ونقل الحافظ ابن حجر في التلخيص، برقم 720، عن البيهقي في الخلافيات أنه قال: ((رواته ثقات)). وقال البوصيري في زوائد ابن ماجه: ((إسناده صحيح)) والحديث ضعفه العلامة الألباني في ضعيف سنن ابن ماجه، برقم 1284]،ثم قال ابن قدامة؛ ولقول ابن عباس: صنع في الاستسقاء كما صنع في العيدين؛ ولأنها صلاة ذات تكبير فأشبهت صلاة العيد. والرواية الثانية أنه يخطب قبل الصلاة، روي ذلك عن عمر، وابن الزبير، وأبان بن عثمان، وهشام بن إسماعيل، وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وذهب إليه الليث بن سعد، وابن المنذر؛ ولحديث أنس وعائشة، وعبد الله بن زيد. الرواية الثالثة: هو مخيّر في الخطبة قبل الصلاة وبعدها؛ لورود الأخبار بكلا الأمرين؛ ولدلالتهما على كلتا الصفتين، فيحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل الأمرين، والرابعة: أنه لا يخطب وإنما يدعو ويتضرع، وأيًّا ما فعل من ذلك فهو جائز؛ لأن الخطبة غير واجبة على الروايات كلها، فإن شاء فعلها وإن شاء تركها، والأولى أن يخطب بعد الصلاة خطبة واحدة؛ لتكون كالعيد؛ وليكونوا قد فرغوا من الصلاة إن أجيب دعاؤهم فأغيثوا، فلا يحتاجون إلى صلاة في المطر)) [المغني لابن قدامة، ببعض التصرف اليسير، 3/ 338 - 339.وانظر: التمهيد لابن عبد البر، 17/ 172 - 173]. * وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((ويمكن الجمع بين ما اختلف من الروايات في ذلك بأنه - صلى الله عليه وسلم - بدأ بالدعاء، ثم صلى ركعتين، ثم خطب، فاقتصر بعض الرواة على شيء وبعضهم على شيء، وعبر بعضهم عن الدعاء بالخطبة، فلذلك وقع الاختلاف ... )) [فتح الباري، 2/ 500]. * وقال الإمام البغوي رحمه الله: ((السنة في الاستسقاء أن يخرج إلى المصلى، فيبدأ بالصلاة، فيصلي ركعتين مثل صلاة العيدين، يكبر في الأولى سبعًا سوى تكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمسًا سوى تكبيرة القيام، ويجهر فيهما بالقراءة، ثم يخطب، يروى ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعن أبي بكر وعمر، وعلي ... )) [شرح السنة للإمام البغوي، 4/ 402]. * وقد ذكر ابن قدامة - رحمه الله - أن الاستسقاء لها خطبة واحدة، ونقل عن الشافعي ومالك أنهما قالا: يخطب خطبتين كخطبتي العيد، قال ابن قدامة: ولنا قول ابن عباس: ((لم يخطب كخطبتكم هذه))، ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير، وهذا يدل على أنه ما فصل بين ذلك بسكوت، ولا جلوس؛ ولأن كل من نقل الخطبة لم ينقل خطبتين؛ ولأن المقصود إنما هو دعاء الله تعالى؛ ليغيثهم، ولا أثر لكونها خطبتين في ذلك ... )) المغني لابن قدامة، 3/ 342.

وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((في حديث عبد الله بن زيد أنه - صلى الله عليه وسلم - دعا أولاً ثم صلى (¬1)، وهكذا في حديث عائشة: دعا أولاً ثم صلى (¬2)، والمقصود أنه إن خطب أولاً ¬

(¬1) ولفظه: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى المصلى فاستسقى فاستقبل القبلة وحول رداءه وصلى ركعتين))، وفي رواية: ((خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يستسقي فتوجه إلى القبلة يدعو، وحول رداءه، ثم صلى ركعتين يجهر فيهما بالقراءة)) [متفق عليه: البخاري، رقم 1012،ورقم 1024،ومسلم، برقم 894].وتقدم تخريجه. (¬2) وفي حديث عائشة رضي الله عنها: ((فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بدا حاجب الشمس فقعد على المنبر فكبر وحمد الله - عز وجل - .. )). وفي آخره: (( .. ثم أقبل على الناس ونزل فصلى ركعتين .. )) [رواه أبو داود، برقم 1137، وتقدم تخريجه مرات].

ثم صلى فلا بأس كما جاء في حديث عبد الله بن زيد في الصحيحين، و [في حديث] عائشة، وإن قدم الصلاة: كالعيد ثم خطب كما في رواية ابن عباس (¬1)، وأبي هريرة (¬2)، وعبد الله بن زيد عند أحمد (¬3) فلا بأس)) (¬4)، وسمعته أيضًا يقول: (( ... وهذه الروايات تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - ربما خطب ثم صلى، وربما صلى ثم خطب، وهذا يدل على جواز الصفتين: يخطب ثم يصلي، أو يصلي ثم يخطب)) (¬5). وقد رجحه - رحمه الله - في مواطن متعددة من كتبه (¬6).وقال العلامة ابن ¬

(¬1) وحديث ابن عباس فيه: (( .. صلى ركعتين كما كان يصلي في العيد)) [أخرجه الخمسة، وتقدم تخريجه في آداب الاستسقاء]. (¬2) لفظ حديث أبي هريرة ((خرج نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا يستسقي فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبنا، ودعا الله - عز وجل -، وحوَّل وجهه نحو القبلة رافعًا يديه، ثم قلب رداءه، فجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن)) [أحمد، برقم 8327، وابن ماجه، برقم 1268، وتقدم أن سماحة الشيخ ابن باز حسنه، وصححه لغيره محققو المسند، وضعفه الألباني]. (¬3) ولفظه: ((خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس يستسقي فصلى بهم ركعتين، وجهر بالقراءة فيها، وحول رداءه، ودعا، واستقبل القبلة)) [أحمد، برقم 16437، ورقم 16466، وقال محققو المسند: ((إسناده صحيح على شرط الشيخين)) وهو في سنن أبي داود، برقم 1161، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 318]. (¬4) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 534. (¬5) سمعته أثناء تقريره على المنتقى من أخبار المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، لأبي البركات ابن تيمية، الأحاديث رقم 1744 - 1749. (¬6) قال رحمه الله في مجموع الفتاوى، جمع الدكتور الشويعر، 13/ 61 - 62: ((وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على أنه خطب قبل الصلاة، وخطب بعد الصلاة، ولعل ذلك كان في حالين وفي وقتين؛ فإنه ثبت أنه دعا وخطب قبل الصلاة، وثبت في أحاديث أخرى أنه دعا وخطب بعد الصلاة، جاء في حديث عبد الله بن زيد وحديث أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - صلَّى ثم دعا وخطب عليه الصلاة والسلام، وجاء في حديث ابن عباس ما يؤيد ذلك، وأنه صلى كما يصلي في العيد. وقد جاء في حديث عبد الله بن زيد أيضًا، وحديث عائشة أنه خطب قبل الصلاة وصلى بعد ذلك فكل منهما ثابت، وكل منهما موسع بحمد الله، من خطب ثم صلى فلا بأس، ومن صلى ثم خطب فلا بأس، كل هذا جاء عنه عليه الصلاة والسلام، والأمر في ذلك واسع والحمد لله، ومن شبهها بالعيد - كما قال ابن عباس وأخبر أنه صلى كما صلى في العيد - فقد أصاب السنة، ووافق ما رواه عبد الله بن زيد في إحدى رواياته، ووافق حديث أبي هريرة في الصلاة ثم الخطبة، ومن خطب قبل ذلك وافق حديث عبد الله بن زيد المخرج في الصحيحين، ووافق حديث عائشة، فكل منهما سنة وكل منهما خير والحمد لله، المهم في هذا الأمر إخلاص القلوب وضراعتها إلى الله، وانكسارها بين يدي الله سبحانه، وأن يخرج الناس إلى صلاة الاستسقاء بقلوب مقبلة على الله جل وعلا منيبة إليه، تائبة، نادمة، مقلعة عن الذنوب، ترجو رحمته وتخشى عقابه ... )).

عثيمين - رحمه الله -: ((وعلى هذا فتكون خطبة الاستسقاء قبل الصلاة وبعدها، ولكن إذا خطب قبل الصلاة لا يخطب بعدها فلا يجمع بين الأمرين)) (¬1). ويُكثر في الخطبة الاستغفار، وقراءة الآيات التي فيها الأمر به، كقوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ} (¬2). وكقوله: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا*يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مّدْرَارًا* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} (¬3). وعن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى ميمون بن مهران يقول: قد كتبت إلى البلدان أن يخرجوا إلى الاستسقاء إلى موضع كذا وكذا، وأمرتهم بالصدقة، والصلاة، قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلَّى} (¬4)، وأمرتهم أن يقولوا كما قال أبوهم آدم: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬5)، ويقولوا كما قال نوح: {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مّنَ الْخَاسِرِينَ} (¬6)، ويقولوا كما قال يونس: {لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (¬7)،ويقولوا كما قال موسى: {رَبّ ¬

(¬1) الشرح الممتع لابن عثيمين، 5/ 280 - 281. (¬2) سورة هود، الآية: 52. (¬3) سورة نوح، الآيات: 10 - 12. (¬4) سورة الأعلى، الآيتان: 14 - 15. (¬5) سورة الأعراف، الآية: 23. (¬6) سورة هود، الآية: 47. (¬7) سورة الأنبياء، الآية: 47.

ثامنا: المبالغة في رفع اليدين في الدعاء

إِنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬1)؛ ولأن المعاصي سبب انقطاع الغيث والاستغفار والتوبة تمحو المعاصي المانعة من الغيث فيأتي الله به، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدعو بدعائه - صلى الله عليه وسلم -)) (¬2). وكقوله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} (¬3). وكقوله: {وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} (¬4). وغير ذلك من الآيات التي فيها الأمر بالاستغفار. ثامنًا: المبالغة في رفع اليدين في الدعاء، ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يرفع يديه في دعاء الاستسقاء حتى يُرى بياض إبطيه، ويبالغ في رفع اليدين حتى يجعل ظهر كفيه إلى السماء، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه في الدعاء حتى يُرى بياض إبطيه)). وفي لفظ: ((كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء؛ فإنه كان يرفع يديه حتى يُرى بياض إبطيه))، وفي لفظ لمسلم: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء)) (¬5). قال الإمام القرطبي - رحمه الله -: ((قول أنس إنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء)) يعني: أنه لم يكن يبالغ في الرفع إلا في الاستسقاء؛ ولذلك قال: ((حتى يُرى بياض إبطيه)) وإلا فقد رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر عند الدعاء، وفي غير ذلك)) (¬6). ¬

(¬1) سورة القصص، الآية: 16. (¬2) المغني، لابن قدامة، 3/ 343. (¬3) سورة هود، الآية: 3. (¬4) سورة هود، الآية: 90. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الاستسقاء، باب رفع الإمام يده في الاستسقاء، برقم 1031، وفي كتاب المناقب، باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 3565، ومسلم، كتاب الاستسقاء، باب رفع اليدين بالدعاء في الاستسقاء، برقم 895. (¬6) المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 2/ 541.

وقال الإمام النووي - رحمه الله تعالى -: ((هذا الحديث يوهم ظاهره أنه لم يرفع - صلى الله عليه وسلم - إلا في الاستسقاء، وليس الأمر كذلك، بل قد ثبت رفع يديه - صلى الله عليه وسلم - في الدعاء في مواطن غير الاستسقاء وهي أكثر من أن تحصر، وقد جمعت منها نحوًا من ثلاثين حديثًا في الصحيحين أو أحدهما، وذكرتها في أواخر باب صفة الصلاة من شرح المهذب، ويتأول الحديث على أنه لم يرفع الرفع البليغ بحيث يُرى بياض إبطيه إلا في الاستسقاء، أو أن المراد لم أره رفع وقد رآه غيره، فيقدم المثبتون في مواضع كثيرة - وهم جماعات - على واحد لم يحضر ذلك ولابد من تأويله؛ لِمَا ذكرناه والله أعلم)) (¬1). وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: ((قوله: ((إلا في الاستسقاء)) ظاهره نفي الرفع في كل دعاء غير الاستسقاء، وهو معارض بالأحاديث الثابتة بالرفع في غير الاستسقاء وقد تقدم أنها كثيرة، وقد أفردها المصنف بترجمة في كتاب الدعوات، وساق فيها عدة أحاديث فذهب بعضهم إلى أن العمل بها أولى، وحمل حديث أنس على نفي رؤيته، وذلك لا يستلزم نفي رؤية غيره، وذهب آخرون إلى تأويل حديث أنس المذكور لأجل الجمع، بأن يحمل النفي على صفة مخصوصة: إما الرفع البليغ فيدل عليه قوله: ((حتى يُرى بياض إبطيه))، ويؤيده أن غالب الأحاديث التي وردت في رفع اليدين في الدعاء إنما المراد به: مد اليدين وبسطهما عند الدعاء، وكأنه عند الاستسقاء مع ذلك زاد فرفعها إلى جهة وجهه حتى حاذتاه، وبه حينئذ يرى بياض إبطيه. وأما صفة رفع اليدين في ذلك؛ فلِما رواه مسلم من رواية ثابت عن أنس ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء))، ولأبي داود من حديث أنس أيضًا: ((كان يستسقي هكذا ومد يديه - وجعل بطونهما ¬

(¬1) شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 442.

مما يلي الأرض - حتى رأيت بياض إبطيه (¬1))) (¬2). قال الإمام النووي - رحمه الله -: ((قال جماعة من أصحابنا وغيرهم: السنة في كل دعاء رفع بلاء: كالقحط ونحوه أن يرفع يديه ويجعل ظهر كفيه إلى السماء، وإذا دعا لسؤال شيء وتحصيله جعل بطن كفيه إلى السماء، احتجوا بهذا الحديث)) (¬3). وقال الحافظ ابن حجر: ((وقال غيره -أي النووي-: ((الحكمة في الإشارة بظهور الكفين في الاستسقاء، دون غيره للتفاؤل بقلب الحال ظهرًا لبطن كما قيل في تحويل الرداء، أو هو إشارة إلى صفة المسؤول وهو نزول السحاب إلى الأرض)) (¬4). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول على قول أنس - رضي الله عنه -: ((كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء .. )) والمراد هنا الرفع الشديد والمبالغة في الرفع وإلا فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه رفع في أدعية كثيرة غير ذلك)) (¬5). وسمعته يقول - رحمه الله -: ((رفع اليدين في الدعاء من أسباب الإجابة، ومستحب إلا في المواطن التي وجدت الأسباب [للرفع] فلم يرفع فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن المواضع التي رفع فيها نرفع فيها، مثل: الدعاء في الاستسقاء، ومثل: إذا عرض للإنسان حاجة فرفع يديه يدعو: كالاستخارة وغيرها، أما المواضع التي ما رفع فيها - صلى الله عليه وسلم - مثل: ما بين السجدتين، فلا نرفع فيها، [و] مثل [ذلك] في آخر الصلاة قبل السلام، ¬

(¬1) سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب رفع اليدين في الاستسقاء، برقم 1170، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 320. (¬2) فتح الباري، لابن حجر، 2/ 518. (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 441 - 442. (¬4) فتح الباري، 2/ 518. (¬5) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 3565.

تاسعا: الأدعية في الاستسقاء

وبعد الفريضة كذلك، ما كان يرفع - صلى الله عليه وسلم - فلا نرفع، والأصل في الدعاء رفع اليدين إلا [في] المواطن التي لم يرفع فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد وجدت أسباب الرفع، ومسح الوجه باليدين لا بأس به؛ لأن الحافظ حسّن الحديث، وهو أعلم من غيره)) (¬1). وقد استفدت من شيخنا عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله تعالى، أن اليدين لا ترفع في جميع الخطب ولا المواعظ في الدعاء لا من الخطيب أو الواعظ ولا من المستمعين إلا في دعاء الاستسقاء، وأن معنى قوله ((فأشار بظهر كفيه إلى السماء)):المبالغة في رفع اليدين في دعاء الاستسقاء. تاسعًا: الأدعية في الاستسقاء: ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أدعية كثيرة في الاستسقاء، منها الأدعية الآتية: 1 - ((اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا))، وفي لفظ: ((اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا)) (¬2). 2 - ((اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا، مريعًا، نافعًا غير ضار، عاجلاً غير آجل)) (¬3). 3 - ((الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغًا إلى حين)) (¬4). 4 - ((اللهم اسق عبادك، وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحيي بلدك الميت)) (¬5). ¬

(¬1) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 6341. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 1013، 1014، ومسلم، برقم 897، وتقدم تخريجه في أنواع الاستسقاء، من حديث أنس - رضي الله عنه -. (¬3) أبو داود، كتاب الصلاة، باب رفع اليدين في الاستسقاء، برقم 1169، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 320، من حديث جابر - رضي الله عنه -. (¬4) أبو داود، برقم 1173،وتقدم تخريجه في آداب الاستسقاء من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬5) أبو داود، كتاب الصلاة، باب رفع اليدين في الدعاء، برقم 1176، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 322 من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

5 - ((اللهم اسقنا غيثًا مريئًا (¬1) مريعًا (¬2) طبقًا (¬3) عاجلاً غير رائث (¬4)، نافعًا غير ضار)) (¬5). وغير ذلك من الأدعية النافعة والاستغفار (¬6). ¬

(¬1) مريئًا: أي محمود العاقبة. (¬2) مريعًا: بضم الميم وفتحها: من الرائع وهو الزيادة. (¬3) طبقًا: أي مائلاً إلى الأرض مغطيًا، يقال غيث طبق: أي عام واسع. (¬4) رائث: أي بطيء متأخر. (¬5) ابن ماجه من حديث كعب بن مرة، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الدعاء في الاستسقاء، برقم 1269،وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه،1/ 382،وفي الإرواء، 2/ 145. (¬6) جاء في الاستسقاء أدعية أخرى ضعيفة ومعناها صحيح، منها: ما روي عن سالم بن عبد الله عن أبيه مرفوعًا: ((اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا، هنيئًا، مريئًا، مريعًا، غدقًا، مجللاً، سحًّا، طبقًا، عامًّا، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إن بالعباد، والبلاد، والبهائم، والخلق من اللأواء، والجهد، والضنك، ما لا نشكوه إلا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدرّ لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنبت لنا من بركات الأرض، اللهم ارفع عنا الجهد، والجوع، والعُري، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفَّارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا)) قال الحافظ ابن حجر في التلخيص، برقم 721: ((هذا الحديث ذكره الشافعي في الأم تعليقًا، 1/ 251، ولم نقف له على إسناد، ولا وصله البيهقي في مصنفاته، بل رواه في المعرفة من طريق الشافعي، قال: ويروى عن سالم به، ثم قال: وقد روّينا بعض هذه الألفاظ وبعض معانيها في حديث أنس بن مالك، وفي حديث جابر، وفي حديث عبد الله بن جراد، وفي حديث كعب بن مرة، وفي حديث غيرهم، ثم ساقها بأسانيده)). [التلخيص الحبير، 2/ 98،برقم 721،وقال شعيب الأرنؤوط وعبد القادرفي تحقيق زاد المعاد: ((وفيه انقطاع بين الشافعي وسالم بن عبد الله)) 1/ 460. وروي عن سعد مرفوعًا: ((اللهم جلّلنا سحابًا، كثيفًا، قصيفًا، دَلُوقًا، ضحوكًا، تمطرنا منه رذذًا، قِطْقطًا، سَجْلاً، يا ذا الجلال والإكرام)) عزاه الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام إلى أبي عوانة، وفي التلخيص، 2/ 99 إلى أبي عوانة في صحيحه، وقال: ((وفيه ألفاظ غريبة كثيرة أخرجه أبو عوانة بسند واهٍ)). ((جللنا)) المراد تعميم الأرض. ((كثيفًا)): أي: متكاثفًا متراكمًا. ((قصيفًا)): ما كان رعده شديد الصوت وهو من أمارات قوة المطر. ((دلوقًا)): مندق شديد الدفع. ((ضحوكًا)): ذا برق. ((رذذًا)): ما كان مطره دون الطش. ((قِطْقطًا)): القطقط أصغر المطر، ثم الطش، وهو فوق الرذاذ. ((سَجْلاً)): يصب صبًّا. ((يا ذا الجلال والإكرام)) هذان الوصفان نطق بهما القرآن، وفي التفسير: الاستغناء المطلق والفضل التام، وقيل: الذي عنده الإجلال والإكرام للمخلصين من عباده، وهما من عظائم صفاته تعالى. [سبل السلام، 3/ 281]. وروي عن المطلب بن حنطب - رضي الله عنه - مرفوعًا: أنه كان يقول عند المطر: ((سقيا رحمة، ولا سقيا عذاب، ولا بلاء، ولا هدم، ولا غرق، اللهم على الظراب ومنابت الشجر، اللهم حوالينا ولا علينا)) قال أبو البركات في المنتقى من أخبار المصطفى، برقم 1756: ((رواه الشافعي في مسنده، 1/ 173، وهو مرسل. قال الشوكاني في النيل:2/ 661: ((وهو مرسل كما قال المصنف، وأكثر ألفاظه في الصحيحين)).

عاشرا: تحويل الرداء في الاستقاء واستقبال القبلة سنة

عاشرًا: تحويل الرداء في الاستقاء واستقبال القبلة سنة؛ لحديث عبد الله بن زيد بن عاصم المازني وفيه: ((خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يستسقي وحول رداءه))، وفي لفظ: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقى وقلب رداءه)). وفي لفظ: ((خرج إلى المصلى فاستسقى، فاستقبل القبلة، وحوَّل رداءه وصلى ركعتين)). وفي لفظ: ((خرج بالناس يستسقي لهم، فقام فدعا الله قائمًا، ثم توجه قِبَل القبلة وحول رداءه فأُسقوا)). وفي لفظ: ((خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يستسقي، فتوجَّه إلى القبلة يدعو، وحول رداءه، ثم صلى ركعتين يجهر فيهما بالقراءة)). وفي لفظ: ((رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم خرج يستسقي، قال: فحول إلى الناس ظهره، واستقبل القبلة يدعو، ثم حوَّل رداءه، ثم صلى لنا ركعتين جهر فيهما بالقراءة)). وفي لفظ: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقى، فصلى ركعتين وقلب رداءه)). وفي لفظ: ((خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى يستسقي واستقبل القبلة، فصلى ركعتين وقلب رداءه))، قال سفيان: فأخبرني المسعودي عن أبي بكر قال: جعل اليمين على الشمال، وفي لفظ: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى المصلى يصلي، وأنه لما دعا أو أراد أن يدعو استقبل القبلة وحول رداءه)).وفي لفظ: ((خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا المصلى يستسقي، فدعا واستسقى، ثم استقبل القبلة وقلب رداءه)) (¬1). وهذه الألفاظ للبخاري، ولفظ أبي داود: ((وحول رداءه فجعل ¬

(¬1) متفق عليه، وهذه الألفاظ للبخاري، برقم 1005، 1011، 1012، 1023، 1024، 1025، 1026، 1027، 1028، 6343.ومسلم، برقم 894.وتقدم تخريجه.

عِطافه الأيمن على عاتقه الأيسر، وجعل عطافه الأيسر على عاتقه الأيمن، ثم دعا الله - عز وجل -)) (¬1)، ولفظ الإمام أحمد: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين استسقى لنا أطال الدعاء وأكثر المسألة، ثم تحول إلى القبلة وحول رداءه فقلبه ظهرًا لبطن، وتحول الناس معه)) (¬2)، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((واستحب الجمهور أيضًا أن يحول الناس بتحويل الإمام، ويشهد له ما رواه أحمد من طريق أخرى عن عباد في هذا الحديث بلفظ: ((وحوّل الناس معه)) (¬3)، ثم قال الحافظ: ((ثم إن ظاهر قوله: ((فقلب رداءه)) أن التحويل وقع بعد فراغ الاستسقاء، وليس كذلك، بل المعنى قلب رداءه في أثناء الاستسقاء، وقد بينه مالك في روايته المذكورة ولفظه: ((حول رداءه حين استقبل القبلة)) (¬4)، ولمسلم من رواية يحيى عن أبي بكر بن محمد ((وأنه لَمّا أراد أن يدعو استقبل القبلة وحول رداءه)) (¬5). وأصله عند المصنف كما سيأتي بعد أبواب)) (¬6)، فَعُرِفَ بذلك أن التحويل وقع في أثناء الخطبة عند إرادة الدعاء (¬7)، ويدعو سرًّا حال استقبال القبلة، وكذلك الناس (¬8). واختُلِفَ في الحكمة من تحويل الرداء، والصواب أنه للتفاؤل بتحويل الحال عما هي عليه (¬9). وظاهر قوله: ((ويحول الناس)) أنه يستحب ذلك ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب جُمَّاع أبواب صلاة الاستسقاء، برقم 1163، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 318. (¬2) مسند الإمام أحمد، 4/ 41. (¬3) مسند الإمام أحمد، 4/ 41. (¬4) فتح الباري، 2/ 498. (¬5) مسلم، برقم 4 - ((894))، وهو عند البخاري، برقم 1028. (¬6) فتح الباري،2/ 498،وقوله المصنف: أي البخاري في الصحيح، وهو برقم 1028 كما تقدم. (¬7) فتح الباري لابن حجر، 2/ 499، وانظر: نيل الأوطار، 4/ 662. (¬8) المغني، لابن قدامة، 3/ 340. (¬9) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 2/ 499.

الحادي عشر: تحريم الاستسقاء بالأنواء

للنساء، وقال ابن الماجشون: لا يستحب في حقهن (¬1). قال شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله -: ((إذا كانت المرأة تتكشّف عند تحويلها للرداء في صلاة الاستسقاء والرجال ينظرون إليها؛ فإنها لا تفعل؛ لأن قلب الرداء سُنَّة، والتكشّف أمام الرجال فتنة ومحرّم، وأما إذا كانت لا تتكشّف فالظاهر أن حكمها حكم الرجل؛ لأن هذا هو الأصل، وهو تساوي الرجال والنساء في الأحكام إلا ما دل الدليل على الاختلاف بينهما فيه)) (¬2). فإن سُقوا وإلا أعادوا الاستسقاء: ثانيًا، وثالثًا؛ لأن الله يحبّ الملحّين في الدعاء، وهو أرجى للإجابة؛ ولأن الله يستجيب للإنسان إذا دعا ما لم يعجل، فيقول: قد دعوت فلم يستجب لي (¬3). الحادي عشر: تحريم الاستسقاء بالأنواء؛ لحديث زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - قال: صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماء (¬4) كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: ((هل تدرون ماذا قال ربكم))؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء (¬5) كذا ¬

(¬1) نيل الأوطار للشوكاني، 4/ 663، وانظر: فتح الباري، لابن حجر، 2/ 498. (¬2) مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 84. (¬3) انظر: الشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، 5/ 433، والروض المربع، 2/ 557، والمغني، لابن قدامة، 3/ 347. (¬4) سماء: أي مطر. شرح النووي على صحيح مسلم، 2/ 59، وفتح الباري، لابن حجر، 2/ 607. (¬5) النوء: معناه سقوط نجم في المغرب من النجوم الثمانية والعشرين التي هي منازل القمر، وهو مأخوذ من ناء إذا سقط، وقيل: بل النوء طلوع نجم منها، وهو مأخوذ من ناء إذا نهض، ولا تخالف بين القولين في الوقت؛ لأن كل نجم منها إذا طلع في المشرق وقع حال طلوعه آخر في المغرب لا يزال ذلك مستمرًا إلى أن تنتهي الثمانية والعشرون بانتهاء السنة؛ فإن لكل واحد منها ثلاثة عشر يومًا تقريبًا، وكانت العرب تقول في الجاهلية إذا سقط منها نجم وطلع آخر لابد أن يكون عند ذلك مطر، فينسبون كل غيث يكون عند ذلك إلى النجم، فيقولون: مطرنا بنوء كذا. انظر: فتح الباري، لابن حجر، 2/ 524، وشرح السنة للبغوي، 4/ 420.

الثاني عشر: الآداب المختصة بالمطر، ومنها:

وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)) (¬1). وعن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة)). وقال: ((والنائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب)) (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما أنزل الله من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين، نَزَّل الله الغيث فيقولون: بكوكب كذا وكذا)) (¬3). الثاني عشر: الآداب المختصة بالمطر، ومنها: 1 - الخوف من الله - عز وجل - لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستجمًا ضاحكًا حتى أرى من لهواته، إنما كان يتبسَّمُ، وكان إذا رأى غيمًا أو ريحًا عُرفَ ذلك في وجهه، فقلت: يا رسول الله، أرى الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفتُ في وجهك الكراهية؟ فقال: ((يا عائشة ما يؤمّنني أن يكون فيه عذاب، فقد عُذّب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} (¬4). 2 - لا يدري متى يجيء المطر إلا الله؛ لحديث عمر - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم أحد ما يكون ¬

(¬1) متفق عليه: البخاريكتاب الاستسقاء، باب قول الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ}، قال ابن عباس: شكركم، برقم 1038،ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء، برقم 71. (¬2) مسلم، كتاب الجنائز، باب التشديد في النياحة، برقم 934. (¬3) مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء، برقم 72. (¬4) مسلم، كتاب الاستسقاء، باب التعوذ عند رؤية الريح والغيم والفرح بالمطر، برقم 16 - ((899))، قد تقدمت الأحاديث في ذلك في صلاة الكسوف، في آداب صلاة الكسوف.

3 - الدعاء إذا رأى المطر

في غدٍ، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام، ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدًا، وما تدري نفس بأي أرض تموت، وما يدري أحد متى يجيء المطر)). وفي لفظ: ((مفاتح الغيب خمس: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيّ أَرْضٍ تَمُوتُ} (¬1). 3 - الدعاء إذا رأى المطر؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى المطر قال: ((اللهم صيّبا نافعًا)) (¬2). 4 - ما يفعل إذا أصابه المطر، عن أنس - رضي الله عنه - قال: أصابنا ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مطر، قال: فحسر (¬3) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثوبه حتى أصابه من المطر، فقلنا يا رسول الله لم صنعت هذا؟ قال: ((لأنه حديثُ عهدٍ بربه)) (¬4)، وقد تنزع البركة بسبب الذنوب، لحديث أبي هريرة يرفعه: ((ليست السَّنَة بألاَّ تمطروا، ولكن السَّنَةُ: أن تُمطروا، وتُمطر ولا تُنبتُ الأرض شيئًا)) (¬5). 5 - الذكر بعد نزول المطر، ففي حديث زيد بن خالد الجهني: ((مُطرنا بفضل الله ورحمته)) (¬6). 6 - ذكر ابن القيم آثارًا تذكر أن الإجابة للدعاء قد تطلب عند نزول الغيث (¬7). ¬

(¬1) البخاري، كتاب الاستسقاء، باب لا يدري متى يجيء المطر إلا الله، برقم 1039، وله شاهد في صحيح مسلم، كتاب الإيمان، برقم 10. (¬2) البخاري، كتاب الاستسقاء، باب ما يقال إذا أمطرت، برقم 1032. (¬3) فحسر: أي كشف بعض بدنه، شرح مسلم للنووي، 6/ 194. (¬4) مسلم، كتاب الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء، برقم 898. (¬5) مسلم، كتاب الفتن، باب في سكنى المدينة وعمارتها قبل الساعة، برقم 2904. (¬6) متفق عليه: البخاري، برقم 1038،ومسلم، برقم 71،وتقدم تخريجه في تحريم الاستسقاء بالأنواء. (¬7) انظر: زاد المعاد لابن القيم، 1/ 461.

7 - دعاء الاستصحاء

7 - دعاء الاستصحاء؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - وفيه: ((اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام، والجبال، والظراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر)) (¬1). 8 - دعاء الرعد؛ لحديث عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - موقوفًا: أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال: ((سبحان الذي يسبح الرعد بحمده، والملائكة من خيفته)) ثم يقول: ((إن هذا الوعيد لأهل الأرض شديد)) (¬2)، والله - عز وجل - أعلم (¬3)، وهو الهادي إلى سواء السبيل (¬4). الثالث عشر: المطر، والرعد، والبرق، والصواعق، والزلازل: المطر: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((أما المطر فإن الله يخلقه في السماء من السحاب، ومن السحاب ينزل، كما قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ *أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} (¬5)، وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} (¬6)، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} (¬7). [وقوله: {فَتَرَى الْوَدْقَ ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 933،ومسلم، برقم 897،وتقدم تخريجه في أنواع الاستسقاء. (¬2) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الكلام، باب القول إذا سمعت الرعد، برقم 26، والبخاري في الأدب المفرد، برقم 723، وصحح إسناده النووي في الأذكار (262)، والألباني موقوفًا في تعليقه على الكلم الطيب (156)، وفي صحيح الأدب المفرد، ص268، برقم 556/ 723. (¬3) وجاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سمع صوت الرعد والصواعق قال: ((اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك)) البخاري في الأدب المفرد، برقم 721، والترمذي، برقم 3450،والحاكم، 4/ 286، وقال: ((صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي)) وغيرهم، وقال عبد القادر الأرنؤوط في تخريج الأذكار للنووي، ص262: ((إسناده ضعيف ولكن له طرق يقوى بها، وضعفه الألباني في الضعيفة، برقم: 1042، وغيرها. (¬4) وانظر: حاشية الروض المربع لابن قاسم،2/ 563،ومجموع فتاوى ابن باز،13/ 86. (¬5) سورة الواقعة، الآيتان: 68 - 69. (¬6) سورة النبأ، الآية: 14. (¬7) سورة النور، الآية: 43.

يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} أي من خلال السحاب. وقوله في غير موضع من السماء: أي من العلو، والسماء اسم جنس للعالي، فقد يختص بما فوق العرش تارة، وبالأفلاك تارة، وبسقف البيت تارة، لِمَا يقترن باللفظ. والمادة التي يُخلق منها المطر: هي الهواء الذي في الجو تارة، وبالبخار المتصاعد من الأرض تارة، وهذا ما ذكره علماء المسلمين، والفلاسفة يوافقون عليه)) (¬1). وقال شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله -: ((ذكر العلماء أن بخار ماء البحار قد يجتمع منه الماء في السحب بأمر الله سبحانه، وقد يخلق الماء في الجو فيمطر به الناس بأمر الله سبحانه، وهو القادر على كل شيء، كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬2)، والله جل وعلا أعلم بما يصلح عباده، فقد يكون تجمع هذه المياه بإذن الله من البحار ثم يجعله الله عذبًا بعد ذلك في الفضاء يقلبه الله من ملوحة إلى كونه عذبًا، ويسوقه في السحاب إلى ما يشاء - سبحانه وتعالى - من الأراضي المحتاجة إلى ذلك كما يشاء جل وعلا. وقد يخلق الله سبحانه الماء في الجو فتحمله السحب والرياح إلى أماكن محتاجة إلى ذلك، ذكر هذا المعنى ابن القيم - رحمه الله - في كتابه مفتاح دار السعادة، وذكره غيره)) (¬3). الرعد والبرق: قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: ((وأما الرعد والبرق ففي الحديث المرفوع في الترمذي وغيره: أنه سئل ¬

(¬1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 24/ 262، وانظر: مفتاح دار السعادة لابن القيم، 2/ 35 - 37، و78. (¬2) سورة يس، الآية: 82. (¬3) مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 87.

عن الرعد قال: ((ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله)) (¬1). وفي مكارم الأخلاق للخرائطي عن علي أنه سئل عن الرعد فقال: ((ملك، وسئل عن البرق فقال: مخاريق بأيدي الملائكة، وفي رواية عنه: مخاريق من حديد بيده)). وروي في ذلك آثار كذلك. وقد رُوي عن بعض السلف أقوال لا تخالف ذلك، كقول من يقول: إن اصطكاك أجرام السحاب بسبب انضغاط الهواء فيه؛ فإن هذا لا يناقض ذلك؛ فإن الرعد مصدر: رعد يرعد رعدًا، وكذلك الراعد يسمى رعدًا، كما يسمى العادل عدلاً، والحركة توجب الصوت، والملائكة هي التي تحرك السحاب وتنقله من مكان إلى مكان، وكل حركة في العالم العلوي والسفلي فهي عن الملائكة [بإذن الله - عز وجل -] وصوت الإنسان هو: عن اصطكاك أجرامه الذي هو شفتاه، ولسانه، وأسنانه، ولهاته، وحلقه، وهو مع ذلك يكون مسبحًا للرب، وآمرًا بمعروف، وناهيًا عن منكر. فالرعد إذًا صوت يزجر السحاب، وكذلك البرق قد قيل: لَمَعَان الماء، أو لَمَعَان النار، وكونه لَمَعَان النار أو الماء لا ينافي أن يكون اللامع مخراقًا بيد الملك؛ فإن النار التي تلمع بيد الملك كالمخراق مثل مزجي المطر، والملك يزجي السحاب، كما يزجي السائق للمطي)) (¬2). الزلازل: الزلازل من الآيات التي يخوف الله بها عباده، كما يخوفهم ¬

(¬1) لفظه في سنن الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((أقبلت اليهود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا أبا القاسم أخبرنا عن الرعد، ما هو؟ قال: ((ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار، يسوق بها السحاب حيث شاء الله)) قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: ((زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أُمر))، قالوا: صدقت ... )). الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة الرعد، برقم 3117، وصححه الألباني في صحيح الترمذي،3/ 262، وفي الأحاديث الصحيحة، برقم 1872. (¬2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 24/ 263 - 264، وانظر حاشية ابن قاسم على الروض المربع، 2/ 563.

بالكسوف، وغيره من الآيات والحوادث لها أسباب، وحكم، فكونها آية يخوف الله بها عباده، هي من حكمه كذلك. وأما أسبابه: فمن أسبابه انضغاط البخار في جوف الأرض، كما ينضغط الريح والماء في المكان الضيق، فإذا انضغط طلب مخرجًا فيشق ويزلزل ما قرب منه من الأرض ... )) (¬1). ¬

(¬1) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 24/ 264.

المبحث الرابع والثلاثون: صلاة الجنائز

المبحث الرابع والثلاثون: صلاة الجنائز أولاً: مفهوم الجنائز: بفتح الجيم لا غير: جمع جِنَازة. والجنازة: بكسر الجيم وفتحها لغتان، والكسر أفصح. وقيل: ((الجَنَازَةُ)) بالفتح للميت، وبالكسر ((الجِنازةُ)) للنعش عليه ميت. وقيل: عكسه (¬1). قال الإمام ابن الأثير: ((والجنائز بالكسر والفتح: الميت بسريره، وقيل: بالكسر: السرير، وبالفتح: الميت)) (¬2). وقال الفيروزآبادي: ((الجِنَازةُ: الميت، ويفتح، أو بالكسر: الميت وبالفتح: السرير، أو عكسه، أو بالكسر: السرير مع الميت)) (¬3)، والله تعالى أعلم (¬4). قال الإمام النووي - رحمه الله -: ((الجنازة مشتقة من جنز إذا سُتِرَ)) (¬5). ثانياً: اغتنام الأوقات والأحوال بالأعمال الصالحة قبل فوات الأوان؛ لقول الله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُم مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ الله وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ*أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ*أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً ¬

(¬1) شرح النووي على صحيح مسلم،6/ 473،والإعلام بفوائد عمدة الأحكام، لابن الملقن، 4/ 379. (¬2) النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير، باب الجيم مع النون، 1/ 306. (¬3) القاموس المحيط، باب الزاي فصل الجيم، ص650. (¬4) قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: (( ... فإذا قيل: جَنازة: أي ميت، وإذا قيل: جِنازة: أي نعش، وهذا تفريق دقيق؛ لأن الفتح يناسب الأعلى، والميت فوق النعش، والكسر يناسب الأسفل، والنعش تحت الميت)) الشرح الممتع، 5/ 298. (¬5) شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 473.

فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (¬1). وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (¬2). وقال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ*وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ الصَّالِحِينَ*وَلَن يُؤَخّرَ الله نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَالله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬3). فكل مفرّط يندم عند الاحتضار يسأل طول المدة ولو شيئاً يسيراً، ليستعتب ويستدرك ما فاته، وهيهات كان ما كان، وأتى ما هو آتٍ، وكلٌّ بحسب تفريطه، أما الكفار فكما قال الله تعالى (¬4): {وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مّن قَبْلُ مَا لَكُم مّن زَوَالٍ} (¬5). وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبّ ارْجِعُونِ * لَعَلّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (¬6). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)) (¬7). وهذا يدل على أن من لم يستعمل نعمة الصحة والفراغ فيما ينبغي فقد غُبِنَ؛ لكونه باعهما بثمن بخس، ¬

(¬1) سورة الزمر، الآيات: 54 - 58. (¬2) سورة البقرة، الآية: 254. (¬3) سورة المنافقون، الآيات: 9 - 11. (¬4) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ص1349. (¬5) سورة إبراهيم، الآية: 44. (¬6) سورة المؤمنون، الآيتان: 99 - 100. (¬7) البخاري، كتاب الرقاق، باب ما جاء في الرقاق وأن لا عيش إلا عيش الآخرة، برقم 6412.

ولم يحمد رأيه في ذلك، ولاشك أن المرء لا يكون فارغاً حتى يكون مكفياً صحيح البدن، فمن حصل له ذلك فليحرص على أن لا يُغبَن بأن يترك شكر الله على ما أنعم به عليه، ومن شُكْرِه امتثالُ أوامره واجتنابُ نواهيه، فمن فرَّط في ذلك فهو المغبون، والذي يوفَّق لذلك قليل من الناس، ومعلوم أن الإنسان قد يكون صحيحاً ولا يكون متفرغاً لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنياً ولا يكون صحيحاً، فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون، وتمام ذلك: أن الدنيا مزرعة الآخرة، وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط، ومن استعملها في معصية الله فهو المغبون؛ لأن الفراغ يعقبه الشغل، والصحة يعقبها السقم، ولو لم يكن إلا الهرم كما قيل: يسر الفتى طولُ السلامة والبقا ... فكيف ترى طول السلامة يفعل يُرد الفتى بعد اعتدال وصحةٍ ... ينوء إذا رام القيامَ ويحملُ (¬1) وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل وهو يعظه: ((اغتنم خمساً قبل خمس: شبابَك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغِناك قبل فقرك، وفراغَك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)) (¬2). ورحم الله الإمام البخاري فقد أحسن حين قال: اغتنم في الفراغ فضل ركوع ... فعسى أن يكون موتك بغتة ¬

(¬1) مقتبس من مجموع كلام ابن حجر، وابن بطال، وابن الجوزي، كما نقله ابن حجر في فتح الباري شرح صحيح البخاري، 11/ 230. (¬2) الحاكم وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، 4/ 306، ورواه ابن المبارك في الزهد، 1/ 104،برقم 2،من حديث عمرو بن ميمون مرسلاً، وقال ابن حجر في فتح الباري، 11/ 235: ((بسند صحيح من مرسل عمرو بن ميمون، فمرسل عمرو بن ميمون شاهد لرواية الحاكم))، وصحح الحديث الألباني في صحيح الجامع الصغير، 2/ 355، برقم 1088.

كم صحيح رأيت من غير سَقم ٍ ... ذهبت نفسه الصحيحة فلتة (¬1) وقد أحسن البستي - رحمه الله - حين قال: يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته ... أتطلب الربح فيما فيه خسران؟ أقبل على النفس واستكمل فضائلها ... فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان (¬2) ولا ريب أنه ينبغي الاستعداد لما بعد الموت بالأعمال الصالحة، والتوبة من جميع الذنوب؛ لأن الموت قد يأتي بغتة، قال الإمام البخاري - رحمه الله -: ((بابُ موتِ الفُجاءة (¬3): البغتة))، ثم ذكر حديث سعد بن عبادة - رضي الله عنه - حين قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أمي افتُلتت نفسها، وأظنها لو تكلمت تصدَّقتْ، فهل لها أجر إن تصدَّقتُ عنها؟ قال: ((نعم)) (¬4). وعن عبيد بن خالد السلمي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((موت الفَجْأَةِ أخذةُ أسَفٍ (¬5))) (¬6). وكره بعض السلف موت الفجأة (¬7)؛ لما في ذلك - والله أعلم - من ¬

(¬1) ذكره ابن حجر في هدي الساري، ص481، وعزاه إلى الحاكم في تاريخه، وذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم، 2/ 392. (¬2) النونية لشاعر زمانه: علي بن محمد بن الحسين البُسْتي، وهي مطبوعة ضمن الجامع للمتون العلمية، للشيخ عبد الله بن محمد الشمراني، ص623. (¬3) الفُجاءَة: يُقال: فجئَه الأمرُ، فجأه فُجاءة: بالضم والمد، وفاجأه مفاجأة إذا جاءه بغتة من غير تقدم سبب، وقيّده بعضهم بفتح الفاء وسكون الجيم من غير مدٍّ على المرة. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، 3/ 412،والفجاءة: الهجوم على من لم يشعر به. فتح الباري لابن حجر، 3/ 254. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب موت الفُجاءة، برقم 1388، ومسلم، كتاب الزكاة، باب وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه، برقم 1004. (¬5) أسَفٍ: أي غضب، قال ابن حجر في الفتح، 3/ 254: ((أسف: أي غضب، وزناً ومعنى، وروي بوزن الفاعل: أي غضبان. قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث، 1/ 48: ((وفي حديث موت الفجأة: ((راحة للمؤمن وأخذة أسفٍ للكافر)) أي أخذة غضب أو غضبان، يقال: أسِفَ يأسفُ أسفاً فهو آسِفٌ، إذا غضب)). فعلى هذا يكون بكسر السين غضبان، وفتحها غضب. (¬6) أبو داود، كتاب الجنائز، باب موت الفجأة، برقم 3110، وأحمد في المسند، برقم 15496، 15497، 17924، 17925، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 277، وأصحاب موسوعة مسند الإمام أحمد، 24/ 253، 29/ 445. (¬7) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 3/ 254، والسنن الكبرى للبيهقي، 3/ 378، 379، ومصنف ابن أبي شيبة، 3/ 370، ومصنف عبد الرزاق، برقم 6779 موقوف على حذيفة - رضي الله عنه -.

خوف حرمان الوصية، وترك الاستعداد للمعاد بالتوبة، وغيرها من الأعمال الصالحة، وقد نقلت كراهة موت الفجاءة عن الإمام أحمد، وبعض الشافعية، ونقل الإمام النووي: أن جماعة من الأنبياء والصالحين ماتوا موت الفجأة؛ قال الإمام النووي رحمه الله: ((وهو محبوب للمراقبين)) (¬1). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((وبذلك يجتمع القولان)) (¬2). وورد ما يؤيد عدم كراهة موت الفجاءة للمؤمن، فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: ((موت الفجاءة تخفيف على المؤمن، وأسف على الكافر)) هذا لفظ عبد الرزاق، والطبراني في المعجم الكبير، ولفظ ابن أبي شيبة: ((موت الفجاءة راحة على المؤمنين، وأسف على الكفار)) (¬3). ورُوي من حديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن موت الفجأة؟ فقال: ((راحة للمؤمن وأخذة أسَفٍ للفاجر)) (¬4). وعن عبد الله بن مسعود وعائشة رضي الله عنهما قالا: ((موت الفجاءة رأفة بالمؤمن، وأسف على الفاجر)) (¬5). وما أحسن ما استشهد به الإمام البيهقي - رحمه الله - في كتاب الجنائز، باب موت الفجاءة (¬6) من حديث أبي قتادة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) فتح الباري لابن حجر، 3/ 245، ونقل ذلك في هذا الموضع عن النووي رحمه الله. (¬2) فتح الباري، لابن حجر، 3/ 255. (¬3) عبد الرزاق في المصنف، برقم 6776، وابن أبي شيبة في المصنف، عن بعض أصحاب عبد الله عنه، 3/ 369 - 370، والطبراني في الكبير، 9/ 175، برقم 8865، ولم أجد من حسّن حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، وتوقف عنه ابن باز في تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 388، وقال: ((يُبحث عنه)). (¬4) أحمد في المسند، 41/ 491، برقم 25042، والبيهقي، 3/ 379، وفي شعب الإيمان، برقم 10218، وعبد الرزاق، برقم 6781، وضعفه أصحاب موسوعة المسند في 24/ 254، و41/ 491، برقم 25042، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 2/ 218: ((رواه أحمد والطبراني في الأوسط، وفيه قصة، وفيه عبد الله بن الوليد الرصافي وهو متروك)). (¬5) ابن أبي شيبة في المصنف، 3/ 370، وهو هنا موقوف، والبيهقي في الكبرى، 3/ 379 موقوف أيضاً، ويراجع كلام أهل موسوعة مسند الإمام أحمد، 41/ 491 - 492. (¬6) السنن الكبرى، 3/ 379.

مُرَّ عليه بجنازة فقال: ((مستريح ومستراح منه)) قالوا: يا رسول الله! ما المستريح والمستراح منه؟ فقال: ((العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا، والعبد الفاجر يستريح منه العباد، والبلاد، والشجر، والدواب)) (¬1). وثبت في الحديث: ((ما من عبد يموت له عند الله خير يسره أن يرجع إلى الدنيا وأن له الدنيا وما فيها إلا الشهيد؛ لما يرى من فضل الشهادة، فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى)) (¬2). فينبغي الاستعداد، قال شيخنا الإمام ابن باز - رحمه الله -: ((فينبغي الاستعداد؛ ولهذا كان من دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءَةِ نقمتك، وجميع سخطك (¬3))) (¬4). وما أجمل ما قاله محمود الوراق: مضى أمسُك الماضي شهيداً مُعدَّلاً ... وأعقبه يوم عليك جديد فإن كنت بالأمس اقترفت إساءة ... فثنّ بإحسانٍ وأنت حميد فيومك إن أعتَبتَه عاد نَفعُه ... عليك وماضي الأمس ليس يعودُ ولا تُرجِ فِعلَ الخير يوماً إلى غدٍ ... لعلَّ غداً يأتي وأنت فقيدُ (¬5) وقال آخر: نسير إلى الآجال في كل لحظةٍ ... وأيامنا تطوى وهُنَّ مراحل ¬

(¬1) مسلم، كتاب الجنائز، باب ما جاء في مستريح ومستراح منه، برقم 950. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الجهاد، باب الحور العين وصفتهن، برقم 2795، ومسلم، كتاب الإمارة باب فضل الشهادة في سبيل الله، برقم 1877،وفي لفظ للبخاري: ((يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة)) البخاري، برقم 2817. (¬3) مسلم، كتاب الرقاق، باب أكثر أهل الجنة الفقراء، برقم 2739. (¬4) سمعته أثناء تقريره على باب موت الفجاءة في صحيح البخاري، الحديث رقم 1388. (¬5) ذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم، 2/ 392.

ثالثا: الاجتهاد في حالة الصحة في الأعمال الصالحة

ولم أرَ مثل الموتِ حقّاً كأنه ... إذا ما تخطته الأماني باطلُ وما أقبح التفريط في زمن الصبا ... فكيف به والشيب للرأس شاملُ ترحَّلْ من الدنيا بزادٍ من التقى ... فعُمْرُك أيامٌ وهنّ قلائلُ (¬1) وما أحسن ما قاله الشاعر الحكيم: من فاته الزرع في وقت البذار فما ... تراه يحصد إلا الهمّ والندما وقال آخر: نتوب من الذنوب إذا مرضنا ... ونرجع للذنوب إذا برينا وكم عاهدت ثم نقضت عهداً ... وأنت لكل معروف نسيتا ثالثاً: الاجتهاد في حالة الصحة في الأعمال الصالحة؛ لتكتب للمسلم في حال عجزه عن العمل؛ لحديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا مرض العبد أو سافر كُتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً)) (¬2). رابعاً: الأمور التي تعين على الاستعداد للآخرة بالأعمال الصالحة كثيرة منها: 1 - الإكثار من ذكر الموت والاستعداد للقاء الله تعالى: ينبغي للمسلم أن يكثر من ذكر الموت، ويبادر بالأعمال الصالحة قبل أن يأتيه الموت بغتة فيندم حين لا ينفع الندم؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أكثروا ذِكْرَ هاذِم اللذَّات)) (¬3) يعني الموت، وفي لفظ لابن حبان: ¬

(¬1) ذكره ابن رجب في المرجع السابق، 2/ 384. (¬2) البخاري، برقم 996، وتقدم تخريجه في صلاة المريض، وفي الاجتهاد في الصحة. (¬3) الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في ذكر الموت، برقم 2307،والنسائي، كتاب الجنائز، باب كثرة ذكر الموت، برقم 1823،وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له، رقم 4258،وابن حبان، بلفظ ((أكثروا ذكر هاذم اللذات الموت)) برقم 2992.وقال الألباني في صحيح سنن النسائي وغيره،2/ 6: ((حسن صحيح)).

((أكثروا ذكر هاذِم اللذات، فما ذكره عبد قط وهو في ضيقٍ إلا وسَّعه عليه، ولا ذكره وهو سعةٍ إلا ضيقه عليه)) (¬1)،وفي لفظ لابن حبان أيضاً: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول: ((أكثروا من ذكر هاذِم اللذات)) (¬2)،فالموت يقطع اللذات ويزيلها، والحديث دليل على أنه لا ينبغي للإنسان أن يغفل عن ذكر أعظم المواعظ وهو الموت، قال الإمام الصنعاني: ((وقد ذكر في آخر الحديث فائدة الذكر بقوله: ((فإنكم لا تذكرونه في كثير إلا قلَّلهُ، وقليل إلا كثَّره)) (¬3). وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءه رجل من الأنصار فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: يا رسول الله! أي المؤمنين أفضل؟ قال: ((أحسنهم خُلُقاً)) قال: فأي المؤمنين أكيس (¬4)؟ قال: ((أكثرهم للموت ذكراً، وأحسنهم لما بعده استعداداً، أولئك الأكياس)) (¬5). قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} (¬6). وقال جلَّ وعلا: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ ¬

(¬1) صحيح ابن حبان، برقم 2993، وحسنه الألباني في إرواء الغليل، 3/ 145. (¬2) صحيح ابن حبان، برقم 2995 وحسنه شعيب الأرنؤوط. (¬3) سبل السلام للصنعاني، 3/ 302، وهذا الخبر أخرجه الطبراني في الأوسط بلفظ: ((أكثروا ذكر هاذم اللذات - يعني الموت - فإنه ما كان في كثير إلا قلله، ولا قليل إلا جزأه)) [مجمع البحرين، 8/ 206، برقم 5076]، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 10/ 309: ((إسناده حسن))، وذكر الصنعاني هنا آثاراً منها: ((أكثروا ذكر الموت فما من عبد أكثر ذكره إلا أحيا الله قلبه وهوَّن عليه الموت)) [ذكره الديلمي في مسند الفردوس، 1/ 74، برقم 218]. (¬4) أكيس: أعقل. ومثله: الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت: أي العاقل. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، 4/ 217. (¬5) ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له، برقم 4259، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1384. (¬6) سورة آل عمران، الآية: 185.

مُّشَيَّدَةٍ} (¬1). وقال - سبحانه وتعالى -: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} (¬2). وقال الله - عز وجل -: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ*وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ*وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لا تُبْصِرُونَ* فَلَوْلا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ*تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (¬3). وقال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬4). وقال تعالى: {كَلا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} (¬5). وقال الله - عز وجل -: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الملك وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ*الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (¬6). وقال الله - عز وجل -: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ} (¬7). وقال سبحانه: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ * ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى الله مَوْلاَهُمُ الْحَقّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} (¬8). ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 78. (¬2) سورة ق، الآية: 19. (¬3) سورة الواقعة، الآيات: 83 - 87. (¬4) سورة الجمعة، الآية: 8. (¬5) سورة القيامة، الآيات: 30 - 36. (¬6) سورة الملك، الآيتان: 1 - 2. (¬7) سورة السجدة، الآية: 11. (¬8) سورة الأنعام، الآيتان: 61 - 62.

2 - ذكر القبر والبلى

قال زهير بن أبي سلمى: ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو رام أسباب السماء بسلم (¬1) وقال آخر: الموت باب كل الناس داخله ... فليت شعري بعد الباب ما الدار الدار جنة خلدٍ إن عملت بما يرضي ... الإله، وإن فرطت فالنارُ وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((يا محمد عِشْ ما شئتَ فإنك ميتٌ، وأحببْ من شئتَ فإنك مفارقُه، واعملْ ما شئتَ فإنك مَجزيٌّ به))، ثم قال: ((يا محمد شرف المؤمن قيام الليل، وعزُّه استغناؤه عن الناس)) (¬2). وما أحسن ما قال الشاعر الحكيم: وما هذه الأيام إلا مراحل ... يحثُّ بها داع إلى الموت قاصداً وأعجب شيء لو تأملت أنها ... منازل تطوع والمسافر قاعد (¬3) وقال آخر: أيا ويح نفسي من نهار يقودها ... إلى عسكر الموت وليلٍ يذودُها (¬4) 2 - ذكر القبر والبلى؛ لحديث هانئ مولى عثمان - رضي الله عنه - قال: كان عثمان إذا وقف على قبرٍ بكى حتى يَبُلَّ لحيته، فقيل له: تُذكرُ الجنة والنارُ فلا ¬

(¬1) تفسير ابن كثير، ص343. (¬2) أخرجه الحاكم، 4/ 325، وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 831، وتقدم تخريجه في فضل قيام الليل. (¬3) ذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم، 2/ 383، وذكره أيضاً ابن القيم في مدارج السالكين، 3/ 201. (¬4) ذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم، 2/ 383.

3 - قصر الأمل والاستعداد للموت بالأعمال الصالحة

تبكي وتبكي من هذا؟ فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينجُ منه فما بعده أشدُّ منه)) قال: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما رأيت منظراً قطُّ إلا والقبرُ أفظعُ (¬1) منه)) (¬2). والقبر أقرب شيء للإنسان، وشدته أمارة للشدائد كلها، وهو أشد وأشنع المناظر في الدنيا، وحيث خُصَّ بمناظر الدنيا اندفع ما يتوهم أن هذا ينافي قوله: ((فما بعده أشدُّ منه)) على أنه يمكن الجواب إذا عمم بأنه أفظع من جهة الوحشة، والوحدة، وغيره أشد عذاباً منه فلا إشكال (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس شيء من الإنسان إلا يبلى إلا عظماً واحداً وهو عَجْبُ الذَّنب، ومنه يُركَّبُ الخلق يوم القيامة)) (¬4). 3 - قصر الأمل والاستعداد للموت بالأعمال الصالحة، قال الله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (¬5). قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ((ارتحلت الدنيا مدبرةً، وارتحلت الآخرة مقبلةً، ولكل واحدةٍ منها بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإن اليوم عملٌ ولا حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل)) (¬6). ¬

(¬1) أفظع: أي أشدُّ وأشنع. شرح السندي على سنن ابن ماجه، 4/ 500. (¬2) الترمذي، كتاب الزهد، باب: حدثنا هناد، برقم 2308، وابن ماجه، واللفظ له، كتاب الزهد، باب ذكر القبر والبلى، برقم 4267، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 527 وغيره. (¬3) انظر: شرح السندي على سنن ابن ماجه، 4/ 500. (¬4) ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر القبر والبلى، برقم 4266، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 421، وغيره. (¬5) سورة الحجر، الآية: 3. (¬6) البخاري، كتاب الرقاق، باب في الأمل وطوله، قبل الحديث رقم 6417، وذكر الحافظ في فتح الباري 11/ 236: زيادة في أوله عند ابن أبي شيبة وابن المبارك في الزهد: ((قال علي: إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة، ألا وإن الدنيا قد ارتحلت مدبرة ... )) الحديث كالذي في الأصل سواء.

وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: خطَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - خطّاً مربعاً، وخطَّ خطّاً في الوسط خارجاً منه، وخطًّ خُطَطاً صغاراً إلى الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: ((هذا الإنسان وهذا أجَلُهُ محيطٌ به - أو قد أحاط به - وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخُطَطُ الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا)) (¬1). وعن أنس - رضي الله عنه - قال: خطَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - خطوطاً فقال: ((هذا الأمل وهذا أجله، فبينما هو كذلك إذ جاءه الخط الأقرب)) (¬2). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)). وكان ابن عمر يقول: ((إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك)) (¬3). وقال بعض السلف: سبيلك في الدنيا سبيل مسافرٍ ... ولابد من زادٍ لكل مسافر ولابد للإنسان من حملِ عُدَّةٍ ... ولاسيما إن خاف صولة قاهرِ (¬4) وقال الألبيري - رحمه الله تعالى -: فليست هذه الدنيا بشيء ... تسؤك حِقبة وتسرُّك وقتاً وغايتُها إذا فكرت فيها ... كفيّك أو كحلمك إذا حلمتا سجنت بها وأنت لها محبُّ ... فكيف تُحبُّ ما فيه سُجنتا وتُطعمكَ الطعام وعن قريبٍ ... ستطعم منك ما فيها طعِمتا ¬

(¬1) البخاري، كتاب الرقاق، باب في الأمل وطوله، برقم 6417، ومعنى نهشه: أصابه. (¬2) البخاري، كتاب الرقاق، باب الأمل وطوله، برقم 6418. (¬3) البخاري، كتاب الرقاق، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، برقم 6416. (¬4) ذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم، 2/ 382.

وتشفق للمصرّ على المعاصي ... وترحمه ونفسك ما رحمتا (¬1) وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يزال قلب الكبير شابّاً في اثنتين: في حب الدنيا وطول الأمل)) (¬2). وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يَكْبرُ ابنُ آدم ويكبَرُ معه اثنتان: حب المال وطول العمر)) ولفظ مسلم: ((يهرمُ ابن آدم وتشبُّ منه اثنتان: الحرص على المال والحرص على العمر)) (¬3). ومعناه أن قلب الشيخ كامل الحب للمال متحكم في ذلك كاحتكام قوة الشاب في شبابه، وسماه شابّاً إشارة إلى استحكام حبه للمال أو هو من باب المشاكلة والمطابقة (¬4). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز - رحمه الله - يقول: ((يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان)) أي يقوى معه اثنان، هذه طبيعة الإنسان: حب الدنيا وطول الأمل إلا من رحم الله، فالواجب على المؤمن أن يحذر، وأن يعتبر هذه الدار مزرعة، فيجتهد في الزرع للآخرة، حتى يحصد يوم القيامة ما ينفعه)) (¬5). وما أحسن قول بعض السلف الصالح: إنّا لنفرح بالأيام نقطعها ... وكل يومٍ مضى يدني من الأجل فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً ... فإن الربح والخسران في العمل (¬6) ¬

(¬1) تائية الشاعر الزاهد إبراهيم بن مسعود الغرناطي الألبيري، وهي مطبوعة في الجامع للمتون العلمية، للشيخ عبد الله بن محمد الشمراني، ص633. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الرقاق، باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر، برقم 6420 واللفظ له، ومسلم، كتاب الزكاة، باب كراهة الحرص على الدنيا، برقم 1046. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الرقاق، باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر، برقم 6421،ومسلم، كتاب الزكاة، باب كراهة الحرص على الدنيا، برقم 1047. (¬4) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 11/ 240، 241. (¬5) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 6321. (¬6) ذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم، 2/ 387.

وقال آخر: تزوّد للذي لابد منه ... فإن الموت ميقات العباد أترضى أن تكون رفيق قوم ... لهم زاد وأنت بغير زاد وقال آخر: تزود من التقى فإنك لا تدري ... إذا جنَّ ليلٌ هل تعيش إلى الفجر فكم من صحيح مات من غير علة ... وكم من عليل عاش حيناً من الدهر وقال أبو العتاهية: وما أدري وإن أمَّلت عُمراً ... لعلي حين أصبح لست أُمسي ألم تر أن كلَّ صباح يوم ... وعمرك فيه أقصر منه أمسِ (¬1) وقال آخر: يا من بدنياه اشتغل ... وغرَّه طولُ الأمل الموت يأتي فجأة ... والقبر صندوقُ العمل عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، فتكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كالصَّرمة بالنار)) (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، فتكون السنة كالشهر، ويكون الشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كاحتراق السعفة أو ¬

(¬1) ذكره ابن رجب في المرجع السابق، 2/ 386، وهو في ديوان أبي العتاهية ص111. (¬2) الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في تقارب الزمان وقصر الأمل، برقم 2332، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 537.

4 - القناعة وغنى النفس والتوكل على الله - عز وجل -

الخوصة)) (¬1). وتقارب الزمان بقلة البركة فيه، قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: ((قد وجد في زماننا هذا من سرعة الأيام ما لم نكن نجده في العصر الذي قبل عصرنا هذا)) (¬2). وقيل: سرعة الزمان بسبب وسائل الاتصالات السريعة. 4 - القناعة وغنى النفس والتوكل على الله - عز وجل -؛ لحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تُسدَّ فاقتُهُ، ومن نزلت به فاقةٌ فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجلٍ أو آجلٍ)) (¬3). ولفظ أبي داود: ((من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسدَّ فاقته، ومن أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى: إما بموت عاجلٍ أو غنى عاجلٍ)) (¬4). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ليس الغنى عن كثرة العَرَضِ ولكن الغنى غنى النفس)) (¬5). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((قد أفلح من أسلم، ورُزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه)) (¬6). وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن هذا المال خَضِرةٌ حُلوةٌ فمن أخذه بحقه ووضعه في حقه فنِعْمَ المعونةُ هُوَ، ومن أخذه بغير حقّه كان ¬

(¬1) ابن حبان في صحيحه، برقم 4842،وقال شعيب الأرنؤوط: ((إسناده صحيح على شرط الصحيح)). (¬2) فتح الباري لابن حجر، 13/ 81، وانظر هناك: الحديث رقم 7121. (¬3) الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في الهمّ بالدنيا وحبّها، برقم 2326، وصححه الألباني بلفظ: ((بموت عاجل أو غنى عاجل)) في صحيح سنن الترمذي، 2/ 535. (¬4) أبو داود، كتاب الزكاة، باب في الاستعفاف، برقم 1645، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 458، وفي الأحاديث الصحيحة، برقم 2787. (¬5) مسلم، كتاب الزكاة، باب فضل القناعة والحث عليها، برقم 1051. (¬6) مسلم، كتاب الزكاة، باب في الكفاف والقناعة، برقم 1054.

كالذي يأكل ولا يشبع)) (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيعمل بهن أو يعلّم من يعمل بهنَّ؟ فقال أبو هريرة: فقلت: أنا يا رسول الله، فأخذ بيدي فعدَّ خمساً، وقال: اتقِ المحارمَ تكنْ أعبدَ الناس، وارضَ بما قسم الله لك تكنْ أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمناً، وأحبَّ للناس ما تحبُّ لنفسك تكن مسلماً، ولا تكثر الضحكَ، فإن كثرةَ الضحكِ تميتُ القلبَ)) (¬2). وعن سلمةَ بنِ عُبيد الله بن مِحْصَن الأنصاري عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أصبح منكم آمناً في سربه (¬3)، معافىً في جسده، عنده قوتُ يومه، فكأنما حيزت (¬4) له الدنيا)) (¬5). وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن ناساً من الأنصار سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم حتى إذا نفد ما عنده قال: ((ما يكن عندي من خير فلن أدّخرَه عنكم، ومن يستعففْ يعفَّه الله، ومَن يستغنِ يُغنهِ الله، ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، برقم 6427، ومسلم، كتاب الزكاة، باب التحذير من الاغترار بزينة الدنيا وما يبسط منها، برقم 122 - (1052). (¬2) الترمذي، كتاب الزهد، باب من اتقى المحارم فهو أعبد الناس، برقم 2305، وأحمد، 2/ 310، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 526، وفي الصحيحة، برقم 930. (¬3) سِرْبِه: أي في نفسه، وقيل: في أهله وعياله، وقيل بفتح السين: أي في مسلكه وطريقه، وقيل بفتحتين: أي في بيته. انظر: النهاية لابن الأثير، 2/ 356، وتحفة الأحوذي، 7/ 11، وفضل الله الصمد، 1/ 401. (¬4) حيزت: جمعت. سنن الترمذي، برقم 2346،وزاد في المشكاة، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة: ((بحذافيرها)) أي كأنما حيزت له الدنيا بأسرها، والحذافير الجوانب. ولكن بحثت عن هذه الزيادة فلم أجدها. انظر: فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد،1/ 401،وتحفة الأحوذي للمباركفوري،7/ 11. (¬5) الترمذي، كتاب الزهد، باب في وصف من حيزت له الدنيا، برقم 2346، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب القناعة، برقم 4141، والبخاري في الأدب المفرد، برقم 300، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 543، والأحاديث الصحيحة، برقم 2318.

ومن يتصبَّر يُصَبّرْهُ الله، وما أعطي أحدٌ عطاءً خيرٌ وأوسعُ من الصبر)) (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم)) (¬2). فينبغي أن ينظر المسلم إلى من هو فوقه في الدين فيقتدي به وينافسه في الطاعات، وينظر إلى من هو دونه في الدنيا فيحمد الله تعالى (¬3). ومن لم يقنع كان كالذي يأكل ولا يشبع، وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الطمع، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لو كان لابن آدم واديان من مالٍ لابتغى ثالثاً، ولا يملأُ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب)).وفي لفظ للبخاري: ((ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب)).وفي لفظ لمسلم: ((ولا يملأ نفس ابن آدم إلا التراب، والله يتوب على من تاب)) (¬4). وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه خطب في مكة فقال: ((يا أيها الناس، إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ((لو أن ابن آدم أعطي وادياً ملآن من ذهب أحب إليه ثانياً، ولو أعطي ثانياً أحب إليه ثالثاً، ولا يسدُّ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوبُ الله على من تاب)) (¬5). وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو أن لابن آدم وادياً من ذهب أحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب ويتوب الله على من ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة، برقم 1469، ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل التعفف والصبر، برقم 1053. (¬2) الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب انظروا إلى من هو أسفل منكم، برقم 2513، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب القناعة، برقم 4142،وصححه الألباني في صحيح الترمذي،2/ 608،وغيره. (¬3) انظر: سنن الترمذي، رقم 2512. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يتقى من فتنة المال، وقول الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ}، برقم 6436، ومسلم، كتاب الزكاة، باب لو أن لابن آدم واديين لابتغى ثالثاً، برقم 1049. (¬5) البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يتقى من فتنة المال، برقم 6438.

5 - الإكثار من التفكر في أحوال المحتضرين

تاب)). ولفظ مسلم: ((لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب)) (¬1). وفي حديث أبي موسى الأشعري: ((لو كان لابن آدم واديان من مالٍ لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب)) (¬2). وسمعت شيخنا ابن باز - رحمه الله - يقول: ((والمقصود من هذا كله الحذر من الانشغال بالمال والفتنة بالمال، وأن المؤمن ينبغي أن يكون أكبر همه العمل للآخرة، وأن لا ينشغل بالدنيا وشهواتها، فهو لم يخلق لها، [وإنما] خلق ليعمل فيها للآخرة فلا ينبغي أن ينشغل بها عما خُلِقَ له)) (¬3). ويوضح ذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) (¬4). وفي حديث عمرو بن عوف الأنصاري - رضي الله عنه - في قصة قدوم أبي عبيدة من البحرين: ((أظنكم قد سمعتم أبا عبيدة قد جاء بشيء)) قالوا: أجل يا رسول الله، قال: ((فأبشِروا وأمّلوا ما يسُّركم، فوالله لا الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسط عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلكَكُم كما أهلكتهم)) وفي رواية: ((وتلهيكم كما ألهتهم)) (¬5). 5 - الإكثار من التفكر في أحوال المحتضرين. جاء في القرآن الكريم وفي السنة النبوية الشريفة بيان أحوال المحتضرين عند الموت، ومن ذلك على سبيل المثال ما يأتي: ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يتقى من فتنة المال، برقم 6439، ومسلم، كتاب الزكاة، باب لو أن لابن آدم واديين لابتغى ثالثاً، برقم 1048. (¬2) مسلم، كتاب الزكاة، باب لو أن لابن آدم واديين لابتغى ثالثاً، برقم 1050. (¬3) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الأحاديث رقم 6436 - 6439. (¬4) مسلم، كتاب البر والصلة، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله، برقم 34 - (564). (¬5) متفق عليه: كتاب الجزية والموادعة، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب، برقم 3158، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، برقم 2961.

* قال الله تعالى: {كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ، وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} (¬1) يعظ الله تعالى عباده بذكر حال المحتضر عند السياق، وأنه إذا بلغت روحه التراقي - وهي العظام المكتنفة لثغرة النحر، التي بين ثغرة النحر والعاتق - فحينئذ يشتد الكرب والأهوال ثبتنا الله هناك بالقول الثابت، وفي هذه الحال تُطلب كل وسيلة وسبب يُظن أنه يحصل بها شفاء، ولكن إذا جاء قضاء الله وقدره فلا مردَّ له (¬2). * وقال تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذّبِينَ الضَّالّينَ * فَنُزُلٌ مّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} (¬3). * فقوله تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} الروح {الْحُلْقُومَ} أي الحلق وذلك حين الاحتضار، كما قال تعالى: {كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} ولهذا قال هاهنا: {وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} أي المحتضر وما يكابده من سكرات الموت {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} أي بعلمنا وملائكتنا، {وَلَكِن لا تُبْصِرُونَ} أي ولكن لا ترونهم، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ * ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى الله ¬

(¬1) سورة القيامة، الآيات: 26 - 30. (¬2) انظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ص1397، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص900. (¬3) سورة الواقعة، الآيات: 83 - 96.

مَوْلاَهُمُ الْحَقّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} (¬1) وقوله تعالى: {فَلَوْلا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} معناه: فهلا ترجعون هذه النفس التي قد بلغت الحلقوم إلى مكانها الأول ومقرها من الجسد {إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} يعني محاسبين، وقيل: {إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} يعني غير مصدقين أنكم تدانون وتبعثون وتجزون فردوا هذه النفس، وقيل: المعنى غير موقنين، وقيل: غير معذبين مقهورين (¬2). وقد ذكر الله - عز وجل - أحوال الطوائف الثلاث: المقربين، وأصحاب اليمين، والمكذبين الضالين في أول هذه السورة في دار القرار، ثم ذكر أحوالهم في آخرها عند الاحتضار، والموت وهي ثلاثة أحوال كذلك: * فقال: {فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} أي إن كان الميت من المقربين، وهم الذين فعلوا الواجبات، والمستحبات، وتركوا المحرمات، والمكروهات، وبعض المباحات {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} أي فلهم ((روح)) راحة، وطمأنينة، وسرور، وبهجة، ونعيم القلب والروح، ورحمة، وفرح، واستراحة، وراحة من الدنيا، ورخاء، ورزق، قال الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى -: ((وكل هذه الأقوال متقاربة)) (¬3)، {وَرَيْحَانٌ} هو اسم جامع لكل لذة بدنية من أنواع المآكل والمشارب وغيرهما، وقيل: الريحان: هو الطّيب المعروف، فيكون تعبيراً بنوع الشيء عن جنسه العام (¬4)، وقوله: {وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} جامعة للأمرين كليهما، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فَبُشّرَ المقربون عند الاحتضار بهذه البشارة التي تكاد تطير منها الأرواح من الفرح والسرور، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآيتان: 61، 62. (¬2) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ص1305، وانظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي، ص836. (¬3) تفسير القرآن العظيم، ص1305. (¬4) تيسير الكريم الرحمن للسعدي، ص837.

تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلا مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} (¬1) ويفسر ذلك قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬2). وأن هذه البشارة المذكورة هي البشرى في الحياة الدنيا (¬3). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه))، قالت عائشة رضي الله عنها أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت؟ قال: ((ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بُشّر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حُضِرَ بُشّر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه، فكره لقاء الله وكره الله لقاءه)). وفي رواية مسلم: ((ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا بُشّر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله، فأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بُشّر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه)). وفي لفظ لمسلم: ((والموت قبل لقاء الله)) (¬4). قال الإمام ابن كثير - رحمه الله - في قوله: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} أي فلهم روح وريحان، وتبشرهم الملائكة بذلك عند الموت، كما في حديث البراء: أن ملائكة الرحمة تقول: ((أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه، اخرجي إلى روح وريحان ورب غير ¬

(¬1) سورة فصلت، الآيات: 30 - 32. (¬2) سورة يونس، الآية: 64. (¬3) تيسير الكريم الرحمن للسعدي، ص837. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الرقاق، باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، برقم 6507، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، برقم 2684.

غضبان)) (¬1)، وحديث البراء - رضي الله عنه - له ألفاظ منها: ((إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن على وجوههم الشمس معهم أكفان من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت - عليه السلام - حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة [وفي رواية المطمئنة] اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ... )) الحديث وفيه: ((وإن العبد الكافر [وفي رواية: الفاجر] إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة [غلاظ شداد] سود الوجوه معهم المسوح [من النار] فيجلسون منه مدَّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب ... )) الحديث (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا حُضِرَ المؤمن أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء، فيقولون: اخرجي راضية مرضيّاً عنك إلى روح وريحان وربٍّ غير غضبان، فتخرج كأطيب ريح المسك، حتى إنه ليتناوله بعضهم بعضاً، حتى يأتون به السماء، فيقولون: ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض! فيأتون به أرواح المؤمنين، فَلَهُمْ أشد فرحاً به من أحدكم بغائبه قدم عليه، فيسألونه: ما فعل فلان؟ ماذا فعل فلان؟ فيقولون: دَعُوه؛ فإنه كان في غمّ الدنيا، فإذا قال: أما أتاكم؟ قالوا: ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم، ص1305. (¬2) حديث البراء، أخرجه أبو داود، كتاب الجنائز، باب الجلوس عند القبر، برقم 3212، وفي كتاب السنة، باب في المسألة في القبر وعذاب القبر، برقم 4753، و4754، وحسّن إسناده الأرنؤوط في جامع الأصول،11/ 179،والحاكم،1/ 37 - 40،وأحمد 4/ 287،و288،و295، و296، والقسم الأول من الحديث إلى قوله: ((وكأن على رؤوسنا الطير)) أخرجه النسائي، 1/ 282، وهي رواية لأبي داود، 2/ 70، وكذا أحمد، 4/ 297، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وصححه ابن القيم في إعلام الموقعين، 1/ 214، وتهذيب السنن 4/ 337، وصححه الألباني، وذكر زياداته في كتاب الجنائز، ص202.

ذُهِبَ به إلى أمّهِ الهاوية، وإن الكافر إذا حُضِر أتته ملائكة العذاب بمسْحٍ، فيقولون: اخرجي ساخطة مسخوطاً عليك إلى عذاب الله - عز وجل -، فتخرج كأنتن ريح جيفة، حتى يأتون به باب الأرض، فيقولون: ما أنتن هذه الريح! حتى يأتون به أرواح الكفار)) (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه: ((إذا خرجت روح المؤمن تلقَّاها ملكان يصعدانها، فذكر من طيب ريحها وذكر المسك، ويقول أهل السماء: روح طيبة جاءت من قبل الأرض، صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه، فينطلق به إلى ربه - عز وجل -، ثم يقول: انطلقوا به إلى آخر الأجل، وإن الكافر إذا خرجت روحه وذكر من نتنها، وذكر لعناًً، ويقول أهل السماء: روح خبيثة جاءت من قبل الأرض، فيقال: انطلقوا به إلى آخر الأجل)) (¬2). قال الله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} (¬3)، قال الإمام ابن كثير - رحمه الله -: ((وهذا يقال لها عند الاحتضار وفي يوم القيامة أيضاً، كما أن الملائكة يبشرون المؤمن عند احتضاره وعند قيامه من قبره، فكذلك هاهنا)) (¬4). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أيضاً، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل صالحاً قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا يزال يقال لها، حتى تخرج، ثم يُعرج بها إلى السماء، ¬

(¬1) النسائي، كتاب الجنائز، باب ما يلقى به المؤمن من الكرامة عند خروج نفسه، برقم 1834، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي،2/ 9،وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم1309. (¬2) مسلم، كتاب الجنة ونعيمها، باب عرض مقعد الميت من الجنة والنار عليه وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، برقم 2872. (¬3) سورة الفجر، الآيات: 27 - 30. (¬4) تفسير القرآن العظيم، ص1434، وانظر: الروح لابن القيم، 1/ 339.

فيُفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلانٌ، فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا يزال يُقال لها ذلك حتى يُنتهى بها إلى السماء التي قال فيها الله - عز وجل -، وإذا كان الرجل السوء قال: اخرجي أيتها النفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة، وأبشري بحميم وغسَّاق، وآخر من شَكْلِه أزواج، فلا يزال يُقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يُعرج بها إلى السماء، فلا يفتح لها، فيُقال: من هذا؟ فيُقال: فلان، فيُقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة، فإنها لا تفتح لك أبواب السماء، فيُرسل بها من السماء، ثم تصير إلى القبر)) (¬1). * {وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} وهم الذين أدَّوا الواجبات، وتركوا المحرمات، وإن حصل منهم بعض التقصير في بعض الحقوق التي لا تخل بتوحيدهم، وإيمانهم، فهذا المحتضر تبشّره الملائكة بالسلامة، وأنه لا بأس عليه، وأنه من أصحاب اليمين، وأنه قد سلم من عذاب الله، وتُسلّم عليه الملائكة (¬2)، وقيل: سلام حاصل لك من إخوانك أصحاب اليمين: أي يسلمون عليه ويحيُّونه عند وصوله إليهم، ولقائهم له، أو يقال له: سلام لك من الآفات، والبليات، والعذاب؛ لأنك من أصحاب اليمين الذين سلموا من الذنوب الموبقات (¬3). * {وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذّبِينَ الضَّالّينَ * فَنُزُلٌ مّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} أي وأما إن كان المحتضر من المكذبين بالحق الضالين عن الهدى {فَنُزُلٌ} أي ضيافة، {مّنْ حَمِيمٍ} وهو الماء المذاب الذي يُصهر ¬

(¬1) ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له، برقم 4338، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 3/ 386، وغيره. (¬2) انظر: تفسير ابن كثير، ص1305، 1306. (¬3) تيسير الكريم الرحمن للسعدي، ص837.

به ما في بطونهم والجلود، ويُغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه، بئس الشراب وساءت مرتفقاً {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} التي تحيط به وتغمره من جميع جهاته، نسأل الله العافية (¬1). * وينبغي للمؤمن أن لا ينسى سكرات الموت وشدته، ويذكر ذلك دائماً حتى يكون على استعداد للقاء الله تعالى، فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يوعك (¬2) فمسسته بيدي، فقلت: يا رسول الله إنك توعك وعكاً شديداً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أجلْ إني أوعك كما يوعكُ رجلان منكم)) قال: فقلت: ذلك أن لك أجرين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أجل ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه [شوكة فما فوقها] إلا حطَّ الله بها سيئاته كما تَحطُّ الشجرة ورقها)) (¬3). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما رأيت أحداً أشدَّ عليه الوجع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (¬4). قالت عائشة رضي الله عنها: ((فلا أكره شدة الموت لأحد أبداً بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -)) (¬5). وفي حديث آخر عن عائشة رضي الله عنها وفيه: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند موته جعل يديه في إناء صغير فيه ماء يدخلهما في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول: لا إله إلا الله، إن للموت سكرات)). وفي لفظ مسلم: ((اللهم ¬

(¬1) تفسير ابن كثير، ص1306، وتفسير السعدي، ص837. (¬2) يوعك: قيل الحمى، وقيل: ألمها، وقيل: إرعادها الموعوك وتحريكها إياه. فتح الباري، لابن حجر، 10/ 111. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب المرضى، باب شدة المرض، برقم 5647،وباب أشد الناس بلاء: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، برقم 5648،ومسلم، كتاب البر والصلة، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من: مرض أو حزن، أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها، برقم 2571 واللفظ له إلا ما بين المعقوفين. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب المرضى، باب شدة المرض، برقم 5646، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه، برقم 2570. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب المغازي، باب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته، برقم 4446، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، برقم 2443.

اغفر لي، وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى)) (¬1). ومن أشمل الأحاديث في ذلك حديث البراء بن عازب قال: ((خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولمَّا يُلحد، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[مستقبل القبلة]، وجلسنا حوله، وكأنَّ على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت في الأرض، [فجعل ينظر إلى السماء، وينظر إلى الأرض، وجعل يرفع بصره ويخفضه، ثلاثاً]، فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر، مرتين أو ثلاثاًً [ثم قال: اللهم إن أعوذ بك من عذاب القبر] [ثلاثاً]، ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه، كأنَّ وجوهَهم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحَنوط (¬2) من حَنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مدَّ البصر، ثم يجيء ملك الموت - عليه السلام - (¬3) حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة (وفي رواية: المطمئنة)، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها، (وفي رواية: حتى إذا خرجت روحه صلى عليه كل مَلَك بين السماء والأرض، وكل مَلَك في السماء، وفُتحت له أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله أن يُعرج بروحه من قبلهم)، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط [فذلك قوله تعالى: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ}، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، قال: فيصعدون بها فلا يمرّون - يعني - بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري: كتاب المغازي، باب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته، برقم 4449، ومسلم، فضائل الصحابة، باب في فضائل عائشة رضي الله عنها، برقم 2444. (¬2) بفتح المهملة: ما يخلط من الطيب لأكفان الموتى وأجسامهم خاصة. (¬3) قال العلامة الألباني رحمه الله: هذا هو اسمه في الكتاب والسنة (ملك الموت)، وأما تسميته (بعزرائيل) فمما لا أصل له، خلافاً لما هو المشهور عند الناس، ولعله من الإسرائيليات.

فلان ابن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح لهم، فيشيعه من كل سماء مقربوها، إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي به إلى السماء السابعة، فيقول الله - عز وجل -: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} فيكتب كتابه في عليين، ثم يقال]: أعيدوه إلى الأرض، فإني [وعدتهم أني] منها خلقتهم، وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فـ[يرد إلى الأرض، و] تُعاد روحه في جسده، [قال: فإنه يسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه] [مدبرين]، فيأتيه مَلَكان [شديدا الانتهار] فـ[ينتهرانه، و] يُجلسانه فيقولان له: من ربُّك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك: فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجلُ الذي بُعث فيكم؟ فيقولُ: هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيقولان له: وما عِلْمُكَ؟ فيقول: قرأت كتاب الله، فآمنت به، وصدَّقت، فينتهره فيقول: مَن ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ وهي آخر فتنة تُعرض على المؤمن، فذلك حين يقول الله - عز وجل -: {يُثَبّتُ الله الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد - صلى الله عليه وسلم -، فينادي مناد في السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، قال: [وفي رواية: يُمَثلُ له] رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرُّك، [أبشر برضوان من الله، وجناتٍ فيها نعيمٌ مقيمٌ]، هذا يومك الذي كنت تُوعَد، فيقول له: [وأنت فبشرّك الله بخير] من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقولُ: أنا عملك الصالح [فوالله ما علمتك إلا كنت سريعاً في طاعة الله، بطيئاً في معصية الله، فجزاك الله خيراً]، ثم يُفتح له باب من الجنة، وباب من النار، فيقال: هذا منزلك لو عصيت الله، أبدلك الله به هذا، فإذا رأى ما في الجنة قال: رب عجّلْ قيام الساعة، كيما

أرجع إلى أهلي ومالي، [فيقال له: اسكنْ]. قال: وإن العبد الكافر (وفي رواية: الفاجر) إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة [غلاظ شداد]،سود الوجوه، معهم المسوح (¬1) [من النار]،فيجلسون منه مدَّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخطٍ من الله وغضبٍ، قال: فتفرَّق في جسده فينتزعها كما يُنتزع السُّفودُ [الكثير الشُّعب من الصوف المبلول، [فتُقطع معها العروق والعصب]، [فيلعنه كل مَلَك بين السماء والأرض، وكل مَلَك في السماء، وتُغلق أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله ألا تعرج روحه من قبلهم]، فيأخذها، فإذا أخذها، لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وُجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرُّون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان ابن فلان - بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهيَ به إلى السماء الدنيا، فيُستفتح له، فلا يُفتح له، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمّ الْخِيَاطِ} (¬2) فيقول الله - عز وجل -: اكتبوا كتابه في سجّين، في الأرض السفلى، [ثم يقال: أعيدوا عبدي إلى الأرض فإني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى]، فتطرح روحه [من السماء] طرحاً [حتى تقع في جسده]، ثم قرأ: {وَمَن يُشْرِكْ بِالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} فتعاد روحه في جسده، [قال: فإنه ليسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه]. ¬

(¬1) جمع المِسْح، بكسر الميم، وهو ما يُلبس من نسيج الشعر على البدن تقشفاً وقهراً للبدن. (¬2) أي ثقب الإبرة، والجمل هو الحيوان المعروف، وهو ما أتى عليه تسع سنوات.

ويأتيه ملكان [شديدا الانتهار، فينتهرانه، و] يجلسانه، فيقولان له: مَن ربك؟ [فيقول: هاهْ، هاهْ (¬1) لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاهْ هاهْ لا أدري]، فيقولان: فما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فلا يهتدي لاسمه، فيقال: محمد! فيقولُ: هاهْ هاهْ لا أدري [سمعت الناس يقولون ذاك! قال: فيقال: لا دريت]، ولا تلوت]، فيُنادي منادٍ من السماء أن: كذب، فأفرشوا له من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه (وفي رواية: ويُمثل له) رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، مُنتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت تُوعَد، فيقول: [وأنت فبشَّرك الله بالشر] من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر! فيقول: أنا عملك الخبيث، [فوالله ما علمتُ إلا كنتَ بطيئاً عن طاعة الله، سريعاً إلى معصية الله]، [فجزاك الله شراً، ثم يُقيَّض له أعمى أصم أبكم في يده مرزبة! لو ضُرب بها جبل كان تراباً فيضربه ضربة حتى يصير بها تراباً، ثم يعيده الله كما كان، فيضربه ضربة أخرى، فيصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين، ثم يُفتح له باب من النار، ويمهد من فرش النار]،فيقول: ربّ لا تقم الساعة (¬2))) (¬3). ¬

(¬1) هي كلمة تقال في الضحك وفي الإيعاد، وقد تُقال للتوجع، وهو أليق بمعنى الحديث والله أعلم. كذا في ((الترغيب)). (¬2) أبو داود، برقم 3212، ويأتي تخريجه أيضاً. (¬3) قال الألباني رحمه الله: الزيادة الأولى لأبي داود وابن ماجه والحاكم، والثانية لأحمد والطيالسي، والثالثة له والحاكم، والرابعة لأحمد، والخامسة للطيالسي، وله السادسة والثامنة، والسابعة للحاكم، والثامنة للطيالسي، والتاسعة لأحمد، والعاشرة لأبي داود، والحادية عشرة والثانية عشرة للطيالسي، والثالثة عشرة لأحمد، والرابعة عشرة للطيالسي، والخامسة عشرة له وكذا أحمد، والسادسة عشرة له أيضاً ولأحمد نحوه، وله السابعة عشرة والثامنة عشرة والتاسعة عشرة والعشرون والواحدة والعشرون، وللحاكم الأخيرتان منها، والثانية والعشرون لأحمد، والثالثة والعشرون والخامسة والعشرون للحاكم، والرابعة والعشرون للطيالسي، والسادسة والعشرون لأحمد، والسابعة والعشرون للطيالسي، والثامنة والعشرون لأبي داود، والتاسعة والعشرون والثلاثون للطيالسي، ولأحمد الزيادات الباقية والثالثة والثلاثون منها للطيالسي ولفظها له. وأما الرواية الثانية فهي للحاكم، ولأحمد الثالثة، وللحاكم والطيالسي الرابعة والخامسة والسادسة.

6 - التفكر في أحوال الظالمين عند الاحتضار وما تفعل بهم الملائكة

6 - التفكُّر في أحوال الظالمين عند الاحتضار وما تفعل بهم الملائكة نسأل الله العافية. قال الله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الْحَقّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} (¬1). وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ} (¬2). وقال الله - عز وجل -: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ الله وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} (¬3). وقال - سبحانه وتعالى -: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبّ ارْجِعُونِ * لَعَلّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (¬4). قال ابن كثير رحمه الله: ((وذلك أن الكافر إذا احتضر بشَّرته الملائكة بالعذاب، والنكال، والأغلال، والسلاسل، والجحيم، والحميم، وغضب الرحمن الرحيم، فتفرق روحه في جسده، وتعصي، وتأبى الخروج، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم، وقد وردت الأحاديث المتواترة في كيفية احتضار المؤمن والكافر عند الموت، وهي مقررة عند قوله تعالى: {يُثَبّتُ الله الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 93. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 50. (¬3) سورة محمد، الآية: 27 - 28. (¬4) سورة المؤمنون، الآيتان: 99 - 100.

7 - تذكر الحمل على الأكتاف وتشييع الناس له

الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ (¬1)} (¬2). 7 - تَذَكُّر الحمل على الأكتاف وتشييع الناس له؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وُضِعَت الجنازةُ فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدّموني قدّموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كلُّ شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لَصَعِقَ)) (¬3). وفي رواية عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عند النسائي: ((إذا وضع الميت على السرير)) (¬4)، فدل على أن المراد بالجنازة في هذا الحديث: الميت، أما في غير هذا الحديث فلفظ الجنازة يُطلق على الميت، وعلى السرير الذي يُحمل عليه أيضاً، وقد يُطلق على السرير وعليه الميت معاً (¬5) , وقد قال الإمام البخاري - رحمه الله -: باب قول الميت وهو على الجنازة)) (¬6) أي السرير (¬7)، قال الإمام الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: ((قوله: ((إذا وُضعت الجنازة)) يحتمل أن يريد بالجنازة نفس الميت وبوضعه جعله في السرير، ويحتمل أن يريد السرير، والمراد وضعها على الكتف، والأول أولى؛ لقوله بعد ذلك: ((فإن كانت صالحة قالت ... ))، فإن المراد به الميت، ويؤيده رواية عبد الرحمن بن مهران ¬

(¬1) سورة إبراهيم، الآية: 27. (¬2) تفسير القرآن العظيم، ص487، وانظر: تفسير آية سورة إبراهيم {يُثَبّتُ الله الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ}. (¬3) البخاري، كتاب الجنائز، باب حمل الرجال على الجنازة دون النساء، برقم 1314، وباب قول الميت وهو على الجنازة قدموني، برقم 1316، وباب كلام الميت على الجنازة، برقم 1380. (¬4) النسائي، كتاب الجنائز، باب السرعة بالجنازة، برقم 1908، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 2/ 32. (¬5) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 3/ 182، والقاموس المحيط للفيروزآبادي، باب الزاي، فصل الجيم، ص650. (¬6) البخاري، كتاب الجنائز، قبل الحديث رقم 1316. (¬7) فتح الباري، لابن حجر، 3/ 185.

8 - تذكر فتنة القبر وسؤال منكر ونكير

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - المذكورة بلفظ: ((إذا وُضع المؤمن على سريره يقول قدّموني (¬1))) (¬2). قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: ((وظاهر أن قائل ذلك: هو الجسد المحمول على الأعناق، وقال ابن بطال: إنما يقول ذلك الروح، ورده ابن المنير بأنه لا مانع أن يرد الله الروح إلى الجسد في تلك الحال؛ ليكون ذلك زيادة في بشرى المؤمن وبؤس الكافر)). ثم قال ابن حجر: ((ولا حاجة إلى دعوى إعادة الروح إلى الجسد قبل الدفن؛ لأنه يحتاج إلى دليل، فمن الجائز أن يُحدث الله النطق في الميت إذا شاء، وكلام ابن بطال فيما يظهر لي أصوب)) (¬3). ومما يدل على عظم الأمر حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((أسرعوا بالجنازة، فإن تكُ صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تكُ سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم))، ولفظ مسلم: ((وإن تكُ غير ذلك)) (¬4)، ويزيد الأمر اعتناءً حديث أبي قتادة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُرَّ عليه بجنازة فقال: ((مستريح ومُستراحٌ منه))، قالوا: يا رسول الله: ما المستريح والمستراح منه؟ فقال: ((العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا، والعبد الفاجر يستريح منه: العباد، والبلاد، والشجر، والدواب)) (¬5). 8 - تذكُّر فتنة القبر وسؤال منكر ونكير، وسماع قرع نعال الأصدقاء والأصحاب عندما يولّون مُدبرين؛ لحديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن العبد إذا وُضِعَ في قبره وتولى عنه أصحابه - وإنه يسمع قرع نعالهم - أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان: ما كنت تقول في هذا ¬

(¬1) النسائي، برقم 1907، وتقدم تخريجه، ولفظه: ((إذا وضع الرجل الصالح على سريره قال: قدموني قدموني)). (¬2) فتح الباري، لابن حجر، 3/ 185. (¬3) المرجع السابق، 3/ 185. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب السرعة بالجنازة، برقم 1315، ومسلم، كتاب الجنائز، باب الإسراع بالجنازة، برقم 944. (¬5) مسلم، كتاب الجنائز، باب ما جاء في مستريح ومستراح منه، برقم 950.

الرجل؟ لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله. فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة، فيراهما جميعاً)). [قال قتادة: وذُكر لنا أنه يفسح له في قبره، ثم رجع إلى حديث أنس قال]: ((وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس. فيُقال: لا دريتَ ولا تليتَ، ويُضرب بمطارق من حديد ضربةً فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين)) (¬1). ولفظ حديث أنس - رضي الله عنه - في سنن أبي داود: ((إن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - دخل نخلاً لبني النجار، فسمع صوتاً ففزع، فقال: ((من أصحاب هذه القبور؟)) قالوا: يا رسول الله ناس ماتوا في الجاهلية، فقال: ((تعوذوا بالله من عذاب النار، ومن فتنة الدجال)) قالوا: ومِمَّ ذاك يا رسول الله؟ قال: ((إن المؤمن إذا وُضِع في قبره أتاه ملك، فيقول له: ما كنت تعبد؟ فإنِ اللهُ هداه، قال: كنت أعبد الله، فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: هو عبد الله ورسوله، فما يسأل عن شيء غيرها، فيُنطلق به إلى بيت كان له في النار، فيقال له: هذا بيتك كان لك في النار، ولكن الله عصمك ورحمك فأبدلك به بيتاً في الجنة، فيقول: دعوني حتى أذهب وأبشر أهلي، فيقال له: اسكنْ. وإنَّ الكافر إذا وُضَع في قبره أتاه ملك، فينتهره فيقول له: ما كنت تعبد؟ فيقول: لا أدري: فيقال له: لا دريت ولا تليت، فيقال له: فما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: كنت أقول ما يقول الناس، فيضربه ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، برقم 1374، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة والنار عليه وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، برقم 2869، وما بين المعقوفين لفظ البخاري دون مسلم.

بمطراق من حديث بين أذنيه، فيصيح صيحة يسمعها الخلق غير الثقلين)). وفي لفظ: ((إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه يسمع قرع نعالهم فيأتيه مَلَكان فيقولان له ... وأما الكافر والمنافق فيقولان له ... يسمعها من يليه غير الثقلين)) (¬1). وفي حديث البراء - رضي الله عنه - أن العبد المؤمن تعاد روحه في جسده، وإنه يسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه مُدبرين، فيأتيه مَلَكان شديدا الانتهار فينتهرانه، ويُجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيقولان له: وما عِلْمُك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به، وصدَّقت، فينتهره فيقول: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ وهي آخر فتنة تُعرض على المؤمن، فذلك حين يقول الله - عز وجل -: {يُثَبّتُ الله الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد - صلى الله عليه وسلم -، فينادي منادٍ في السماء: أنْ صدق عبدي فافرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيه من رَوحها وطيبها، ويُفسح له في قبره مَدَّ بصره ... ثم ذكر - صلى الله عليه وسلم - في الحديث أن العبد الكافر وفي رواية الفاجر: تُعاد روحه في جسده، فإنه يسمع خفق نعال أصحابه إذا ولَّوا عنه، ويأتيه مَلَكان شديدا الانتهار، فينتهرانه، ويُجلسانه فيقولان له: مَن ربك؟ فيقول: هاهْ، هاهْ لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاهْ هاهْ لا أدري، فيقولان: فما تقول في هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فلا يهتدي لاسمه، فيقال: محمد! فيقولُ: هاهْ هاهْ لا أدري، سمعت الناس يقولون ذلك، قال: فيقال: لا دريتَ، ولا تلوتَ، فيُنادي منادٍ من السماء أن: كذب عبدي فافرشوا له من النار وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرّها وسمومها، ويضيق عليه ¬

(¬1) أبو داود، كتاب السنة، باب في المسألة في القبر، وعذاب القبر، برقم 4751، ورقم 4752، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 3/ 164.

قبره حتى تختلف فيه أضلاعه)) (¬1). وفي لفظ حديث البراء مختصراً في حديث مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: {يُثَبّتُ الله الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} (¬2) قال: نزلت في عذاب القبر، يقال له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، ونبيي محمد - صلى الله عليه وسلم -، فذلك قوله - عز وجل -: {يُثَبّتُ الله الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}. ولفظه عند البخاري: ((إذا أُقعد المؤمن في قبره أُتي ثم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فذلك قوله: {يُثَبّتُ الله الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} (¬3). وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيباً فذكر فتنة القبر التي يُفتتن فيها المرء، فلما ذكر ذلك ضجَّ المسلمون ضجة)) (¬4)، وفي سنن النسائي أن سبب ضجة الصحابة - رضي الله عنهم - قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((قد أوحي إليّ أنكم تُفتنون في القبور قريباً من فتنة الدجال)) (¬5). ولفظ حديث أسماء عن عائشة رضي الله عنهما عند البخاري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته بعد أن صلى الكسوف: ((ما من شيء لم أكن أُريته إلا [وقد] رأيته في مقامي هذا، حتى الجنة والنار، وإنه قد أُوحي إليَّ أنكم تُفتنون في القبور مثل أو قريباً من فتنة المسيح الدجال، يُؤتى أحدكم ¬

(¬1) أبو داود، برقم 3212، 4753، 4754،والحاكم،1/ 37 - 40، وأحمد، 4/ 287، 288، 295، 296، وبرقم 1834، وتقدم تخريجه في أحوال المحتضرين. (¬2) سورة إبراهيم، الآية: 27. (¬3) متفق عليه: صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، برقم 1369، وصحيح مسلم، كتاب الجنة ونعيمها، باب عرض مقعد الميت من الجنة والنار وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، برقم 2871. (¬4) البخاري، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، برقم 1373. (¬5) النسائي، كتاب الجنائز، باب التعوذ من عذاب القبر، برقم 2061، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 2/ 76.

فيقال له: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن أو قال الموقن فيقال: ما علمك بهذا؟ فيقول: هو رسول الله، هو محمد - صلى الله عليه وسلم -، جاءنا بالبينات والهدى، فآمنا، وأجبنا، واتبعنا، وصدقنا، فيقال له: نَمْ صالحاً قد كنا نعلم أنك كنت لمؤمناً به، وأما المنافق أو قال المرتاب شك هشام فيقال له: ما علمك بهذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلتُهُ)) (¬1)، وفي لفظ لمسلم عن عائشة رضي الله عنها ترفعه: ((إني قد رأيتكم تُفتنون في القبور كفتنة الدجال ... )) قالت عائشة: فكنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك يتعوذ من عذاب النار وعذاب القبر)) (¬2). قال الإمام النووي - رحمه الله -: ((فيه إثبات عذاب القبر، وفتنته، وهو مذهب أهل الحق، ومعنى: تُفتنون: تُمتحنون، فيقال: ما علمك بهذا الرجل، فيقول المؤمن: هو رسول الله، ويقول المنافق: سمعت الناس يقولون شيئاً فقلت، هكذا جاء مُفسَّراً في الصحيح، وقوله: ((كفتنة الدجال)) أي فتنة شديدة جداً، وامتحاناً هائلاً، ولكن يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت)) (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قُبر الميت أو قال: أحدكم، أتاه ملكان، أسودان، أزرقان، يقال لأحدهما: المنكر، والآخر النكير، فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول ما كان يقول: هو عبد الله ورسوله، أشهدأن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً في سبعين ثم ينوَّر له فيه، ثم يقال له: نَمْ، فيقول أرجع إلى أهلي فأخبرهم؟ فيقولان: نَمْ كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحبُّ أهله ¬

(¬1) البخاري، كتاب الكسوف، باب صلاة النساء مع الرجال في الكسوف، برقم 1053، وكتاب الجمعة، باب من قال في الخطبة بعد الثناء أما بعد، برقم 922. (¬2) مسلم، كتاب الكسوف، باب ذكر عذاب القبر في صلاة الخسوف، برقم 903. (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 459.

إليه، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك، وإن كان منافقاً قال: سمعت الناس يقولون (¬1) فقلت مثله، لا أدري، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول ذلك، فيقال للأرض: التئمي عليه فتلتئم عليه فتختلف فيها أضلاعه، فلا يزال معذباً حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك)) (¬2). ورواية ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - لفظها: ((إن الميت إذا وُضع في قبره فإنه يسمعُ خفق نعالهم حين يولون عنه، فإن كان مؤمناً، كانت الصلاة عند رأسه، وكان الصيام عن يمينه، وكانت الزكاة عن شماله، وكان فعل الخيرات: من الصدقة، والصلة، والمعروف، والإحسان إلى الناس، عند رجليه. فيُؤتى من قبل رأسه، فتقول الصلاة: ما قبلي مدخل، ثم يُؤتى عن يمينه، فيقول الصيام: ما قِبلي مدخل، ثم يُؤتى عن يساره، فتقول الزكاة: ما قِبلي مدخل، ثم يُؤتى من قبل رجليه، فتقول فعل الخيرات: من الصدقة، والصلة، والمعروف، والإحسان إلى الناس: ما قِبلي مدخل، فيقال له: اجلس فيجلس، وقد مُثّلَت له الشمس وقد أدنيت للغروب، فيقال له: أرأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم ما تقول فيه؟ وماذا تشهد به عليه؟ فيقول: دعوني حتى أصلي، فيقولون (¬3): إنك ستفعل، أخبرني عما نسألك عنه، أرأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم ما تقول فيه، وماذا تشهد عليه؟ قال: فيقول: محمد أشهد أنه رسول الله، وأنه جاء بالحق من عند الله. فيقال له: على ذلك حييت وعلى ذلك مُتَّ، وعلى ذلك تبعث إن شاء الله، ثم يُفتح له باب من أبواب الجنة، فيقال له: هذا مقعدك منها، وما أعدَّ الله لك فيها، فيزداد غِبطةً وسروراً، ثم يُفتح له بابٌ من أبواب النار، فيقال له: هذا مقعدك ¬

(¬1) في جامع الأصول، 11/ 176، زيادة: ((قولاً)). (¬2) الترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، برقم 1071، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 544، وغيره. (¬3) في الأصل: ((فيقول))، والمثبت من ((التقاسيم)) 3/ 435.

منها وما أعد الله لك فيها لو عصيته، فيزداد غبطة وسروراً، ثم يُفسح له في قبره سبعون ذراعاً، ويُنوّر له فيه، ويُعاد الجسد لما بدأ منه، فتجعل نسمته في النَّسَم الطيب وهي طير يعلق في شجر الجنة، قال: فذلك قوله تعالى: {يُثَبّتُ الله الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} (¬1). قال: وإن الكافر إذا أُتي من قبل رأسه، لم يوجد شيء، ثم أُتي عن يمينه، فلا يوجد شيء، ثم أُتي عن شماله، فلا يوجد شيء، ثم أُتي من قبل رجليه فلا يوجد شيء، فيُقال له: اجلس، فيجلس خائفاً مرعوباً، فيقال له: أرأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم ماذا تقول فيه؟ وماذا تشهد به عليه؟ فيقول: أي رجل؟ فيقال: الذي كان فيكم، فلا يهتدي لاسمه حتى يقال له: محمد، فيقول: ما أدري سمعت الناس قالوا قولاً، فقلت كما قال الناس، فيُقال له: على ذلك حييت، وعلى ذلك مت، وعلى ذلك تبعث إن شاء الله، ثم يفتح له باب من أبواب النار فيُقال له: هذا مقعدك من النار، وما أعد الله لك فيها، فيزداد حسرة وثبوراً، ثم يفتح له باب من أبواب الجنة، فيُقال له: ذلك مقعدك من الجنة، وما أعد الله لك فيه لو أطعته فيزداد حسرة وثبوراً، ثم يُضيَّقُ عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، فتلك المعيشة الضنكة التي قال الله: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أَعْمَى (¬2)} (¬3). ¬

(¬1) سورة إبراهيم، الآية: 27. (¬2) سورة طه، الآية: 124. (¬3) أخرجه ابن حبان في صحيحه، في كتاب الجنائز، فصل في أحوال الميت في قبره، 7/ 380، برقم 3113، وقال شعيب الأرنؤوط: ((إسناده حسن من أجل محمد بن عمرو، وهو ابن علقمة بن وقاص الليثي)). وأخرجه عبد الرزاق (6703)،وابن أبي شيبة 3/ 383 - 384،وهناد بن السري في ((الزهد)) (338)، والطبري في ((جامع البيان)) 13/ 215 - 216،والحاكم،1/ 379 - 380 و380 - 381، والبيهقي في ((الاعتقاد)) ص220 - 222،وفي ((إثبات عذاب القبر)) (67) من طرق عن محمد بن عمرو، بهذا الإسناد، وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. وذكره الهيثمي في ((المجمع)) 3/ 51 - 52 وقال: رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن. وذكره السيوطي في ((الدر المنثور)) 5/ 31 - 32، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن مردويه.

9 - تذكر نعيم القبر وعذابه

وأما رواية ابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلفظها: ((إن الميت يصير إلى القبر، فيُجلس الرجل الصالح في قبره غير فزع ولا مشعوف (¬1)، ثم يقال له: فيم كنت؟ فيقول: كنت في الإسلام، فيقال له: ما هذا الرجل؟ فيقول: محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه، فيقال له: هل رأيت الله؟ فيقول: ما ينبغي لأحد أن يرى الله، فيُفرج له فرجة قِبَل النار، فينظر إليها يحطم بعضها بعضاً، فيقال له: انظر إلى ما وقاك الله، ثم يُفرج له قبل الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها فيقال له: هذا مقعدك، ويقال له: على اليقين كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله، ويُجلس الرجل السوء في قبره فزعاً مشعوفاً، فيقال له: فيم كنت؟ فيقول: لا أدري، فيقال له: ما هذا الرجل؟ فيقول: سمعت الناس يقولون قولاً فقلته، فيُفرج له فرجة قبل الجنة، فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال له: انظر إلى ما صرف الله عنك، ثم يُفرج له فرجة قِبل النار، فينظر إليها يحطم بعضها بعضاً، فيقال له: هذا مقعدك، على الشك كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله تعالى (¬2). وفي حديث جابر عند ابن ماجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا دخل الميت القبر مُثلت له الشمس عند غروبها، فيجلس يمسح عينيه ويقول: دعوني أصلي)) (¬3)،والمقصود الميت المسلم، كما تقدم في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. 9 - تذكُّر نعيم القبر وعذابه؛ لأدلة قطعية كثيرة جدّاً، من القرآن الكريم (¬4) والأحاديث الشريفة التي بلغت حد التواتر (¬5) ومنها: ¬

(¬1) ولا مشعوف، الشعف: شدة الفزع حتى يذهب بالقلب. (¬2) ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر القبر والبلى، برقم 4344، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 3/ 388 - 389. (¬3) ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر القبر والبلى، برقم 4272، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 3/ 390. (¬4) تأتي الآيات التي تدل على نعيم القبر وعذابه إن شاء الله. (¬5) انظر: الروح لابن القيم، 1/ 336 - 339، 1/ 165، وجامع الأصول من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، 11/ 164، من حديث رقم 8690 - 8704.

* واختلف العلماء - رحمهم الله تعالى - في سماع الأموات

حديث أبي طلحة: أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من قريش فقذفوا في طويٍّ (¬1) من أطواء بدر خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة (¬2) ثلاث ليالٍ، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشُدَّ عليها رحلها ثم مشى وتبعه أصحابه وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شَفةِ الركيّ (¬3) فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: ((يا فلان ابن فلان، ويا فلان ابن فلان، أيَسرُّكم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقّاً، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقّاً؟)) قال: فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم)) قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله: توبيخاً، وتصغيراً، ونقمة، وحسرة وندماً)) (¬4). * واختلف العلماء - رحمهم الله تعالى - في سماع الأموات؛ لقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} (¬5). وقال تعالى في سورة الروم: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} (¬6). وقوله تعالى: {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} (¬7). ذكر الإمام الشنقيطي - رحمه الله - أنه لا يصح في تفسير ذلك من ¬

(¬1) الطوي: البئر المطوية. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، 3/ 146. (¬2) العرصة: كل موضع واسع لا بناء فيه. النهاية لابن الأثير، 3/ 208. (¬3) الركي: البئر التي لم تطوَ. تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص267. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب المغازي، باب قتل أبي جهل، برقم 3976، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، برقم 2875. (¬5) سورة النمل، الآية: 80. (¬6) سورة الروم، الآية: 52. (¬7) سورة فاطر، الآية: 22.

أقوال العلماء إلا تفسيران: الأول: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} أي لا تسمع الكفار الذين أمات الله قلوبهم، إسماع هدى وانتفاع؛ لأن الله ختم على قلوبهم، فهم لا يسمعون الحق سماع اهتداء وانتفاع. الثاني: أن المراد بالموتى الذين ماتوا بالفعل ولكن المراد بالسماع المنفي خصوص السماع المعتاد الذي ينتفع صاحبه به، وأن هذا مثل ضربه الله للكفار، والكفار يسمعون الصوت ولكن لا يسمعون سماع قبول واتباع. ثم تكلم رحمه الله عن مسألة سماع الموتى في قبورهم وأطال رحمه الله، واختار أنهم يسمعون كلام من كلمهم، وقال: إنه الذي يقتضي الدليل رجحانه، وبين أن من استدل بقول عائشة رضي الله عنها فقد غلط، وبيّن أن سماع الموتى ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث صحيحة لا مطعن فيها، ولم يذكر - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك خاص بإنسان ولا بوقت، ولم يثبت في الكتاب ولا في السنة شيء يخالف ذلك، ثم ذكر رحمه الله: كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل بدر، وسلامه على الأموات كالأحياء، فدل ذلك على أنهم يسمعون التسليم عليهم، وذكر ما ذكره الإمام ابن القيم في كتابه الروح من الآثار الكثيرة التي تدل على معرفة الموتى بزيارة الأحياء، وردّ الله - عز وجل - أرواح الموتى عليهم أثناء سلام أقربائهم عليهم حتى يردوا عليهم السلام، وقد انتصر لسماع الموتى ابن تيمية رحمه الله (¬1) وتلميذه ابن القيم في كتابه ((الروح)) وغيره. والإمام ابن كثير في تفسيره حيث قال: ((والصحيح عند العلماء رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ لما لها من الشواهد على صحتها من وجوه كثيرة من أشهر ذلك ما رواه ابن عبد البر مصححاً له عن ابن عباس مرفوعاً: ((ما من أحد يمرُّ بقبر أخيه المسلم كان يعرفه في ¬

(¬1) مجموع الفتاوى، 4/ 295 - 299، 24/ 304، 331، 362 - 379.

القول الأول: يسمعون مطلقا

الدنيا فيسلّم عليه إلا ردّ الله عليه روحه حتى يردَّ عليه السلام)) ثم ذكر آثاراً كثيرة جدّاً عن الصحابة - رضي الله عنهم -، وعن التابعين رحمهم الله (¬1) والله ولي التوفيق (¬2). وسمعت شيخنا ابن باز - رحمه الله - يقول: الأقوال في سماع الأموات ثلاثة: القول الأول: يسمعون مطلقاً. القول الثاني: لا يسمعون مطلقاً. القول الثالث: التفصيل: يسمعون فيما جاءت به النصوص، ولا يسمعون في غير ذلك، وهذا القول هو الصواب، وأنهم يسمعون فيما جاءت به النصوص فقط، كسماع قرع النعال، وكقوله [- صلى الله عليه وسلم - لصناديد قريش] ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يجيبون، وعند الزيارة والسلام عليهم، وهذا القول جيد)) (¬3). وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: أن أرواح الأحياء إذا قبضت تجتمع إلى أرواح الموتى (¬4)، وأن الأرواح العليا تنزل إلى الأرواح الدنيا، والأدنى يصعد إلى الأعلى، وأن الروح تعاد إلى اللحد أحياناً، كرد الروح إذا سُلّم على القبر حتى يرد السلام على من سلم عليه (¬5)، وقد تجتمع الأرواح مع تباعد المدافن، وقد تفترق مع اجتماع المدافن (¬6). * والشهداء في حياة عظيمة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر، ترد ¬

(¬1) أضواء البيان للشنقيطي، 6/ 416 - 439. (¬2) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 3/ 422 - 423. (¬3) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 1370، 1371. (¬4) مجموع الفتاوى، 24/ 303. (¬5) المرجع السابق، 24/ 304، 331، و 362 - 379. (¬6) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، 24/ 369.

* وعذاب القبر ونعيمه حق لا شك فيه

أنهار الجنة، تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم، ومقيلهم، قالوا: من يبلّغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق، لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا يتَّكلوا عند الحرب؟ فقال الله سبحانه: أنا أبلّغهم عنكم. قال: فأنزل الله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ (¬1)} (¬2). قال شيخ الإسلام رحمه الله: ((الصحيح الذي عليه الأئمة وجماهير أهل السنة: أن الحياة، والرزق، ودخول الأرواح الجنة ليس مختصّاً بالشهيد، كما دلّت على ذلك النصوص الثابتة، ويختصُّ الشهيد بالذكر؛ لكون الظانّ يظن أنه يموت فينكل عن الجهاد، فأخبر بذلك، ليزول المانع من الإقدام على الجهاد والشهادة)) (¬3). * وعذاب القبر ونعيمه حق لا شك فيه، وقد ظهر في هذا الحديث ما يدل على ذلك، فقد قال عمر - رضي الله عنه - للنبي - صلى الله عليه وسلم - حينما خاطب صناديد قريش بعد إلقائهم في قليب بدر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها))؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم)). قال قتادة: ((أحياهم الله حتى أسمعهم قوله: توبيخاً، وتصغيراً ونقمة، وحسرة، وندماً))، وهذا يؤكد أهمية بيان عذاب القبر؛ ولهذا خاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - صناديد قريش يوبخهم؛ لإعراضهم وعنادهم التام في الدنيا عن دين الإسلام، بل وقفوا في طريقه وقاتلوا أهله؛ ولأهمية التحذير من عذاب القبر ذكر الله - عز وجل - عذاب آل فرعون في البرزخ فقال - عز وجل -: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 169. (¬2) أبو داود، كتاب الجهاد، باب في فضل الشهادة، برقم 2520، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 102. (¬3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 24/ 332.

* وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - للناس عذاب القبر في أحاديث كثيرة

السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (¬1). وقال - عز وجل - في عذاب الكفار في الدنيا والبرزخ: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ*يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ*وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (¬2). وقد ذكر البراء بن عازب، وابن عباس، وعلي - رضي الله عنهم - أن قوله - عز وجل -: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} هو عذاب القبر، وقيل: هو الجوع في الدنيا والمصائب التي تصيبهم في الدنيا، ورجح الإمام الطبري -رحمه الله- أن ذلك يشمل الأمرين، وأن للذين ظلموا أنفسهم بكفرهم به عذاباً دون يومهم الذي فيه يصعقون، وذلك يوم القيامة، فعذاب القبر دون يوم القيامة؛ لأنه في البرزخ، والجوع، والمصائب التي تصيبهم في أنفسهم وأموالهم وأولادهم دون يوم القيامة، ولم يخصص نوعاً من ذلك أنه لهم دون يوم القيامة دون نوع بل عمَّ (¬3). * وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - للناس عذاب القبر في أحاديث كثيرة، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أحدكم إذا مات، عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله عليه يوم القيامة)) (¬4). * وعن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - في حائط لبني النجار على ¬

(¬1) سورة غافر، الآيتان: 45 - 46. (¬2) سورة الطور، الآيات: 45 - 47. (¬3) انظر: تفسير الطبري: [جامع البيان عن تفسير آي القرآن] 2/ 488، وتفسير القرطبي [الجامع لأحكام القرآن]، 17/ 79، والروح لابن القيم، 1/ 336، 339، وذكر رحمه الله الآيات في عذاب القبر في هذا الموضع. (¬4) متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: البخاري، كتاب الجنائز، باب الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي، 2/ 126 برقم 1679، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو من النار عليه وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه،4/ 2199،برقم 2866.

بغلة له ونحن معه، إذ حادت به (¬1) فكادت تلقيه، وإذا أقْبُر ستة أو خمسة أو أربعة، فقال: ((من يعرف أصحاب هذه الأقبر))؟ قال رجل: أنا، قال: ((فمتى مات هؤلاء))؟ قال: ماتوا في الإشراك، فقال: ((إن هذه الأمة تُبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه))، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: ((تعوَّذوا بالله من عذاب القبر)) قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر، قال: ((تعوَّذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن)) قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قال: ((تعوَّذوا بالله من فتنة الدجال)) قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال)) (¬2). * وعن أبي أيوب - رضي الله عنه - قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدما غرب الشمس فسمع صوتاً فقال: ((يهودُ تُعذَّبُ في قبورها)) (¬3). * وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن العبد إذا وُضِعَ في قبره وتولى عنه أصحابه، إنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فيُقعدانِهِ فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟)) محمد - صلى الله عليه وسلم - ((فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة، فيراهما جميعاً))، [قال قتادة: ((وذُكر لنا أنه يفسح له ما في قبره)) ثم رجع إلى حديث أنس قال] ((وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دريت ولا تليت، ويُضرب بمطارق من حديد ضربة، فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين)) (¬4). ¬

(¬1) حادت به: أي مالت عن الطريق ونفرت، انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 18/ 209. (¬2) مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، 4/ 2199، برقم 2867. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب التعوذ من عذاب القبر، 2/ 125، برقم 1375، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، 4/ 2200، برقم 2869. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر،2/ 125،برقم 1374، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، 4/ 2200، برقم 2870، وما بين المعقوفين لفظ البخاري دون مسلم.

* وفتنة القبر كانت تحدث عند الصحابة خشوعا لله وإقبالا عظيما إلى طاعته

* وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا أُقعد المؤمن في قبره أُتي ثم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فذلك قوله: {يُثَبّتُ الله الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} (¬1). * وفتنة القبر كانت تحدث عند الصحابة خشوعاً لله وإقبالاً عظيماً إلى طاعته حينما يذكرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: ((قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيباً فذكر فتنة القبر التي يُفتتن بها المرء، فلما ذكر ذلك ضجَّ المسلمون ضجّةً)) (¬2). * والقبر له ضغطة لا ينجو منها أحد، لكن هذه الضغطة ضغطة سخط وغضب على المجرمين، وضغطة فرح وسرور للمؤمنين (¬3). فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((هذا الذي تَحرّك له العرش، وفُتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة، لقد ضُمَّ ضمةً ثم فُرج عنه)) (¬4) يعني سعدَ بن معاذ - رضي الله عنه - فينبغي للمسلم أن يسأل الله العافية؛ فإن للقبر ضغطة، فلو نجا أو سلم أحد منها لنجا سعد بن معاذ. * ومما يزيد الأمر وضوحاً في عذاب القبر قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أسرعوا بالجنازة، فإن تكُ صالحة فخيرٌ تقدمونها إليه، وإن تك غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم)) (¬5). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر،2/ 124،برقم 1369،واللفظ له، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، 4/ 2201،برقم 2871،والآية من سورة إبراهيم، الآية: 27. (¬2) البخاري، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، 2/ 124، برقم 1373. (¬3) انظر: حاشية الإمام السندي على سنن النسائي، 4/ 100. (¬4) أخرجه النسائي، كتاب الجنائز، باب ضمة القبر وضغطته، 4/ 100،برقم 2055،وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي،2/ 441،وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة،4/ 268،برقم 1695. (¬5) متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب الجنائز، باب السرعة بالجنازة، 2/ 108، برقم 1315، ومسلم، كتاب الجنائز، باب الإسراع بالجنازة، 2/ 651، برقم 944.

* ولهول عذاب القبر أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته بالاستعاذة منه دبر كل صلاة

* وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت يا ويلها أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعه لَصَعِق)) (¬1). * ولهول عذاب القبر أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته بالاستعاذة منه دبر كل صلاة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جنهم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسح الدجال)) (¬2). * وكان هو - صلى الله عليه وسلم - يدعو في صلاته فيقول: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم)) فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم يا رسول الله؟ فقال: ((إن الرجل إذا غَرِمَ حدّث فكذب ووعد فأخلف)) (¬3). * ولاشك أن القبور لها ظلمة إلا من نوَّر الله قبره بالإيمان والعمل الصالح، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن امرأة سوداء كانت تقمّ المسجد، أو شابّاً، ففقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسأل عنها أو عنه فقالوا: مات، قال: ((أفلا آذنتموني)) فكأنهم صغَّروا أمرها أو أمره فقال: ((دلّوني على قبره)) فدلّوه فصلى عليها ثم قال: ((إن هذه القبور مملوءة ظلمةً على أهلها، وإن الله ¬

(¬1) البخاري، كتاب الجنائز، باب حمل الرجال الجنازة دون النساء، 2/ 108، برقم 1314، وباب قول الميت على الجنازة: قدموني، 2/ 108، برقم 1316. (¬2) متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب الجنائز، باب التعوذ من عذاب القبر، 2/ 125، برقم 1377، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يستعاذ منه في الصلاة، 1/ 412، برقم 588، واللفظ لمسلم. (¬3) متفق عليه، من حديث عائشة رضي الله عنها: كتاب الأذان، باب الدعاء قبل السلام، 1/ 227، برقم 832،ومسلم، كتاب المساجد، ومواضع الصلاة، باب ما يستعاذ منه في الصلاة،1/ 412،برقم 588.

* ومما يزيد المسلم يقينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عن أرواح المؤمنين في البرزخ

- عز وجل - ينوّرها لهم بصلاتي عليهم)) (¬1). * ومن أعظم الأحاديث في عذاب القبر حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - وفيه أن العبد المؤمن يفسح له في قبره مد بصره، وأن العبد الفاجر يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه (¬2). * وعن هانئ مولى عثمان قال: كان عثمان إذا وقف على قبر بكى حتى يبلّ لحيته، فقيل له تُذْكَرُ الجنة والنار فلا تبكي وتبكي من هذا؟ فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينجُ منه فما بعده أشدُّ منه)) وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما رأيت منظراً قطّ إلا والقبر أفظع منه)) (¬3). * ومما يزيد المسلم يقيناً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عن أرواح المؤمنين في البرزخ: ((إنما نسمة المؤمن طائر يُعلق في شجر الجنة: حتى يرجعه الله تبارك وتعالى إلى جسده يوم يبعثه)) (¬4). * وأرواح الشهداء أعظم من ذلك: فإن ((أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل)) (¬5). * ولاشك أن أحكام الدنيا على الأبدان والأرواح تبع لها، وأحكام ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر بعدما يدفن، 2/ 113، برقم 1337، ومسلم واللفظ له، كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر، 2/ 659، برقم 956. (¬2) حديث البراء حديث طويل عظيم، أخرجه أحمد،4/ 287، 288، 295، 296،والحاكم وصححه، وأقره الذهبي 1/ 73 - 40، وغيرهما، وصححه ابن القيم في تهذيب السنن، 4/ 337، وقال الألباني في أحكام الجنائز، ص159 على تصحيح الحاكم وإقرار الذهبي له: ((وهو كما قالا)). (¬3) الترمذي، وحسنه، في كتاب الزهد، باب: حدثنا هناد، 4/ 553، برقم 2308، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر القبر والبلى، 2/ 426، برقم 4367، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 267 وصحيح سنن ابن ماجه، 2/ 421. (¬4) أحمد في المسند، 3/ 455، والنسائي، 4/ 108، برقم 2073، وغيرهما. (¬5) مسلم، برقم 1887.

* وعذاب القبر هو عذاب البرزخ

البرزخ على الأرواح والأبدان تبع لها، فإذا كان يوم القيامة كان الحكم والنعيم أو العذاب على الأرواح والأجساد جميعاً (¬1). * وعذاب القبر هو عذاب البرزخ، فكل من مات وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه، قُبِرَ أو لم يقبر، أو أكلته السباع، أو أُحرق حتى صار رماداً أُو نسف في الهواء؛ فإنه يصل إلى روحه وبدنه من النعيم أو العذاب ما يصل إلى القبور (¬2). * وأحاديث عذاب القبر ونعيمه وسؤال الملكين تبلغ حد التواتر؛ فقد بلغت الأحاديث في ذلك سبعين حديثاً (¬3). * ومما يجير من عذاب القبر معرفة الأسباب التي يُعذّب بها أصحاب القبور والابتعاد عنها، والأسباب المنجية من عذاب القبر والعمل بها. * أما أسباب عذاب القبر فمنها: الجهل بالله، وإضاعة أوامره، وارتكاب معاصيه، والنميمة، وترك الاستبراء من البول، والكذب الذي يبلغ الآفاق، وترك العمل بالقرآن والنوم عنه بالليل، والزنا، وأكل الربا، والتثاقل عن الصلاة المفروضة، وترك الزكاة المفروضة، وأكل لحوم الناس بالغيبة والوقوع في أعراضهم، وعذاب الميت بما نيح عليه، وغير ذلك من أسباب عذاب القبر التي ينبغي للمسلم أن يحذر منها. * وأما أسباب النجاة من عذاب القبر فكثيرة، منها: تجنب الأسباب التي تسبب عذاب القبر، ومن أنفع أسباب النجاة أن يجلس المسلم عندما يريد النوم فيحاسب نفسه فيما خسره وربحه في يومه، ثم يجدد له توبة نصوحاً فينام على تلك التوبة. ¬

(¬1) انظر: الروح لابن القيم، 1/ 263، 311. (¬2) انظر: المرجع السابق،1/ 299، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز، ص452. (¬3) انظر: الروح لابن القيم، 1/ 165، وجامع الأصول من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، 11/ 164، من حديث رقم 8690 - 8704.

فينبغي للمسلم أن يذكر دائما: عذاب القبر ونعيمه

* ومن أسباب النجاة من عذاب القبر: الموت مرابطاً في سبيل الله تعالى، والشهادة في سبيل الله تعالى، وغير ذلك من الأسباب النافعة (¬1). فينبغي للمسلم أن يذكر دائماً: عذاب القبر ونعيمه، اللهم عافني وسلمني وأعذني من عذاب القبر، ووالديَّ وذريتي وجميع المؤمنين. * ومما يوضح أسباب عذاب القبر ما ثبت في الأحاديث الصحيحة، ومنها حديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعنى مما يكثر أن يقول لأصحابه: ((هل رأى أحد منكم رؤيا؟)) قال فيقص عليه ما شاء الله أن يقص، وإنه قال لنا ذات غداة: ((إنه أتاني الليلة آتيان وإنهما ابتعثاني وإنهما قالا لي: انطلق، وإني انطلقت معهما [وفي رواية: فأخذا بيدي فأخرجاني إلى الأرض المقدسة] [وفي رواية: أرض مقدسة] وإنا أتينا على رجل مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه فيتدهده الحجر هاهنا، فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل به المرة الأولى. قال: قلت لهما: سبحانه الله، ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا فأتينا على رجل مستلق لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، قال: وربما قال أبو رجاء فيشق. قال: ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان، ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل المرة الأولى. قال: قلت سبحان الله ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا فأتينا على مثل التنور، قال: وأحسب أنه كان يقول: فإذا فيه لغط وأصوات، [وفي رواية: أعلاه ضيق وأسلفه واسع يتوقد تحته ناراً] قال: فاطَّلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء ¬

(¬1) انظر: الروح لابن القيم، 1/ 340، و345.

عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضَوْضَوا قال: قلت لهما: ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق. قال: فانطلقنا فأتينا على نهر حسبت أنه كان يقول أحمر مثل الدم، [وفي رواية فانطلقنا فأتينا على نهر من دم] وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر له فاه فيلقمه حجراً فينطلق يسبح ثم يرجع إليه، كلما رجع إليه فغر له فاه فألقمه حجراً. قال: قلت لهما: ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق. قال: فانطلقنا فأتينا على رجل كريه المرآة كأكره ما أنت راء رجلاً مرآة، وإذا عنده نار يحشها ويسعى حولها، قال قلت لهما: ما هذا؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق. فانطلقنا فأتينا على روضة معتمة فيها من كل لون الربيع، وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولاً في السماء، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قطُّ. قال: قلت لهما: ما هذا، وما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق، انطلق. فانطلقنا فانتهينا إلى روضة عظيمة لم أر روضة قطُّ أعظمَ منها ولا أحسن. قال: قالا لي: ارقَ، فارتقيت فيها قال: فارتقينا فيها فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة، فأتينا باب المدينة فاستفتحنا ففُتح لنا، فدخلناها فتلقانا فيها رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء وشطر كأقبح ما أنت راء، قال: قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، قال: وإذا نهر معترض يجري كأن ماءه المحض من البياض فذهبوا فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة. قال: قالا لي: هذه جنة عدن وهذاك منزلك. قال: فسما بصري صُعُداً فإذا قصر مثل الربابة البيضاء. قال: قالا لي: هذاك منزلك، قال: قلت لهما: بارك الله فيكما، ذراني فأدخله، قالا: أما الآن فلا، وأنت داخله [وفي رواية: فانطلقنا حتى أتينا على روضة خضراء فيها شجرة عظيمة وفي أصلها شيخ

وصبيان فصعدا بي في الشجرة وأدخلاني داراً لم أرَ قطُّ أحسن منها، فيها رجال شيوخ، وشباب، ونساء وصبيان ثم أخرجاني منها فصعدا بي الشجرة فأدخلاني داراً هي أحسن وأفضل فيها شيوخ وشبان] قال: قلت لهما: فإني قد رأيت منذ الليلة عجباً، فما هذا الذي رأيت؟ قال: قالا لي: أما إنا سنخبرك: * أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر فإنه الرجل يأخذ بالقرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة [وفي رواية يفعل به إلى يوم القيامة]. * وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق [وفي رواية يصنع به ما رأيت إلى يوم القيامة]. * وأما الرجال والنساء العراة الذين في مثل بناء التنور فهم الزناة والزواني. * وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويُلقم الحجر فإنه آكل الربا. * وأما الرجل الكريه المرآة الذي عند النار يحشها ويسعى حولها فإنه مالك خازن جهنم. * وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -. وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة. قال: فقال بعض المسلمين: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وأولاد المشركين [وفي رواية والدار الأولى التي دخلت دار عامة المؤمنين وأما هذه الدار فدار الشهداء، وأنا جبريل، وهذا ميكائيل، فارفع رأسك فرفعت رأسي فإذا فوقي مثل السحاب، قالا: ذاك منزلك، قلت: دعاني أدخل منزلي، قالا: إنه بقي لك عمر لم تستكمله، فلو استكملت أتيت

10 - الحذر من التنافس في الدنيا والانشغال بها عن طاعة الله - عز وجل -

منزلك]. * وأَمَّا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنٌ وَشَطْرٌ مِنْهُمْ قَبِيحٌ، فَإِنَّهُمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيّئًا، تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُمْ)) (¬1). * ومن ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحائط من حيطان المدينة أو مكة فسمع صوت إنسانين يُعذَّبان في قبورهما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يُعذَّبان وما يُعذَّبان في كبير)) ثم قال: ((بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة)) ثم دعا بجريدة فكسرها كسرتين فوضع على كل قبر منهما كسرة، فقيل له: يا رسول الله لم فعلت هذا؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لعله أن يخفف عنها ما لم تيبسا)) وفي لفظ لمسلم: ((وكان الآخر لا يستنزه عن البول، أو من البول)) (¬2). * وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أكثر عذاب القبر من البول)) (¬3)، وجاء من حديث أنس - رضي الله عنه - بلفظ: ((تنزَّهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه)) (¬4). 10 - الحَذَرُ من التنافس في الدنيا والانشغال بها عن طاعة الله - عز وجل -؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسط عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما ¬

(¬1) البخاري، كتاب الأذان، باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم، برقم 845، وأطرافه في البخاري، برقم 1143، و1386، وما بين المعقوفات من هذا الطرف، إلا الزيادة الثانية فمن الطرف رقم 2085، وأكثر ألفاظ الحديث من الطرف رقم 7047. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الوضوء، باب: من الكبائر أن لا يستتر من بوله، برقم 216، وكتاب الجنائز، باب الجريدة على القبر، برقم 1361، وباب عذاب القبر من الغيبة والبول، برقم 1378، وكتاب الأدب، باب الغيبة وقول الله تعالى: {وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} [الحجرات: 12]. برقم 6052، وباب النميمة من الكبائر، برقم 6055، ومسلم، كتاب الطهارة، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه، برقم 292. (¬3) ابن ماجه، كتاب الطهارة، باب التشديد في البول، برقم 348، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 1/ 125. (¬4) أخرجه الدارقطني في سننه، وصححه الألباني في إرواء الغليل، برقم 280.

تنافسوها، وتُهلككم كما أهلكتهم)) [وفي لفظ: ((وتُلهيكم كما ألهتهم))] (¬1)، قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في فوائد هذا الحديث: ((وفيه أن المنافسة في الدنيا قد تجر إلى هلاك الدين)) (¬2)، ((لأن المال مرغوب فيه فترتاح النفس لطلبه، فتمنع منه، فتقع العداوة المقتضية للمقاتلة، المفضية إلى الهلاك)) (¬3)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وتُلهيكم كما ألهتهم))، دليل على أن الانشغال بالدنيا فتنة، قال الإمام القرطبي - رحمه الله -: ((تُلهيكم)) أي تشغلكم عن أمور دينكم وعن الاستعداد لآخرتكم (¬4)، كما قال الله - عز وجل -: {أَلْهَاكُمُ التَّكّاثُرُ*حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} (¬5). وهذا يؤكد للمسلم أن التنافس في الدنيا والانشغال بها شر وخطر؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أكثر ما أخاف عليكم ما يُخرج الله لكم من بركات الأرض))، قيل: وما بركات الأرض؟ قال: ((زهرة الدنيا))، ثم قال: ((إن هذا المال خَضِرة حلوة ... من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع [ويكون عليه شهيداً يوم القيامة])) (¬6). وعن قيس بن حازم قال: دخلنا على خباب - رضي الله عنه - نعوده، فقال: ((إن أصحابنا الذين سلفوا مضوا ولم تنقصهم الدنيا، وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعاً إلا التراب، ولولا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهانا أن ندعو بالموت لدعوتُ به))، ثم أتيناه مرة أخرى وهو يبني حائطاً له فقال: ((إن المسلم يؤجر في كل ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 6427، ومسلم، برقم 1052، ويأتي تخريجه في فضائل الصبر والاحتساب على المصائب في الأمر الثامن عشر: العلم بأن الدنيا فانية وزائلة. (¬2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6/ 363. (¬3) المرجع السابق، 11/ 245. (¬4) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 7/ 133. (¬5) سورة التكاثر، الآيتان: 1، 2. (¬6) متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، 7/ 222، برقم 6427، ومسلم، كتاب الزكاة، باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا، 2/ 727، برقم 1052، وما بين المعقوفين من رواية مسلم.

شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في هذا التراب)) (¬1)، قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: ((أي الذي يوضع في البنيان، وهو محمول على ما زاد على الحاجة)) (¬2)، وذكر - رحمه الله - آثاراً كثيرة في ذم البنيان ثم قال: ((وهذا كله محمول على ما لا تمس الحاجة إليه مما لابد منه للتوطن وما يقي البرد والحر)) (¬3)، وقد بين الله - عز وجل -: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ الناس وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (¬4). وقال - عز وجل -: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} (¬5). وقال - عز وجل -: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرّيَاحُ وَكَانَ الله عَلَى كُلّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً} (¬6). ولا شك أن الإنسان إذا لم يجعل الدنيا أكبر همه وفقه الله وأعانه، فعن معقل بن يسار - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول ربكم تبارك وتعالى: يا ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب المرضى، باب تمني المريض الموت، 7/ 12، برقم 5672، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب كراهة تمني الموت لضر نزل به، 4/ 2064، برقم 2681. (¬2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 10/ 129. (¬3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 11/ 93. (¬4) سورة يونس، الآية: 24. (¬5) سورة الحديد، الآية: 20. (¬6) سورة الكهف، الآيتان: 45 - 46.

ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأْ قلبك غنى وأملأْ يديك رزقاً، يا ابن آدم لا تباعد عني فأملأُ قلبك فقراً وأملأُ يديك شغلاً)) (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله تعالى يقول: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأْ صدرك غنى وأسدَّ فقرك، وإن لم تفعل ملأتُ يديك شغلاً ولم أسدَّ فقرك)) (¬2). ولا شك أن كل عمل صالح يُبتغى به وجه الله فهو عبادة. وعن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من كانت الدنيا همه فرّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة)) (¬3). وقد ذم الله الدنيا إذا لم تستخدم في طاعة الله - عز وجل - فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ألا إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله، وما والاه، وعالمٌ، أو متعلم)) (¬4). وهذا يؤكد أن الدنيا مذمومة مبغوضة من الله وما فيها، مبعدة من رحمة الله إلا ما كان طاعة لله - عز وجل - (¬5)؛ ولهوانها على على الله - عز وجل - لم يُبلّغ ¬

(¬1) الحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 4/ 326، وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 3/ 347: ((وهو كما قالا)). (¬2) الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب: حدثنا قتيبة 4/ 642، برقم 2466، وحسنه، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب الهم بالدنيا، 2/ 1376، برقم 4108، وأحمد، 2/ 358، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، 2/ 443، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم 3166، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، 3/ 346. (¬3) ابن ماجه، كتاب الزكاة، باب الهم بالدنيا، 4/ 1375، برقم 4105، وصحح الألباني إسناده في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 950، وصحيح الجامع، 5/ 351. (¬4) الترمذي بلفظه، كتاب الزهد، باب: حدثنا محمد بن حاتم، 4/ 561، برقم 2322، وحسنه، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب مثل الدنيا، 2/ 1377، برقم 4112، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب،1/ 34،برقم 71، و1/ 6،برقم 7. (¬5) قوله: ((وما والاه)) أي ما يحبه الله من أعمال البر وأفعال القرب، وهذا يحتوي على جميع الخيرات، والفاضلات ومستحسنات الشرع. وقوله: ((وعالم أو متعلم)) والرفع فيها على التأويل: كأنه قيل: الدنيا مذمومة لا يُحمدُ مما فيها ((إلا ذكر الله، وما والاه، وعالمٌ أو متعلم)) والعالم والمتعلم: العلماء بالله الجامعون بين العلم والعمل، فيخرج منه الجهلاء، والعالم الذي لم يعمل بعلمه، ومن يعلم علم الفضول وما لا يتعلق بالدين، انظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 10/ 3284 - 3285، ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للملا علي القاري، 9/ 31، وتحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، 6/ 613.

11 - طلب حسن الخاتمة بالقول والعمل

رسولَه - صلى الله عليه وسلم - فيها وهو أحب الخلق إليه، فقد مات - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير (¬1)، ومما يزيد ذلك وضوحاً وبياناً حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - يرفعه: ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)) (¬2)، فينبغي للمسلم أن لا ينافس في الدنيا، ولا يحزن عليها، وإذا رأى الناس يتنافسون في الدنيا، فعليه تحذيرهم، وعليه مع ذلك أن ينافسهم في الآخرة. والله المستعان. 11 - طلب حسن الخاتمة بالقول والعمل: لا شك أن من طلب حسن الخاتمة يكون بالدعاء، وبعمل جميع الأسباب المؤدية إلى حسن الختام؛ لأن من رغب في شيء وحرص عليه جَدَّ في طلبه بالدعاء والضراعة إلى الله - عز وجل - واجتهد في بذل الأسباب؛ قال الله - عز وجل -: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ الله لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (¬3). وقد ثبت في الحديث: أن الأعمال بالخواتيم؛ بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وإنما الأعمال بخواتيمها)) (¬4). ومما يعين المسلم على طلب حسن الخاتمة معرفته بعض ما ثبت عن ¬

(¬1) انظر: البخاري، كتاب البيوع، باب شراء الطعام إلى أجل، 3/ 46، برقم 2200، ومسلم، كتاب المساقاة، باب الرهن وجوازه في الحضر والسفر، 3/ 2226، برقم 1603. (¬2) الترمذي، 4/ 560، برقم 2320، وابن ماجه، 4/ 1376، برقم 4110، ويأتي تخريجه في فضائل الصبر والاحتساب على المصائب، الأمر الثامن عشر: العلم بأن الدنيا فانية وزائلة، رقم 13. (¬3) سورة العنكبوت، الآية: 69. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الجهاد، باب لا يقول فلان شهيد، برقم 2898،والطرف رقم 4202، 6493، و6607، ومسلم، كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، برقم 112.

النبي - صلى الله عليه وسلم - في حسن الخاتمة وسوئها ومن ذلك: حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق: ((إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكاً بأربع كلمات: فيكتب عمله، وأجله، ورزقه، وشقي أم سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار)) (¬1). وقد يعمل الرجل الزمن الطويل بالطاعات ويبتعد عن المعاصي والسيئات ثم قبل موته يرتكب الجرائم والموبقات ويترك الواجبات، فيهجم عليه الموت فجأة فيختم له بخاتمة السوء، وبالعكس؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة، ثم يختم له عمله بعمل أهل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار، ثم يُختم له عمله بعمل أهل الجنة)) (¬2). قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله - على حديث الباب: ((وقوله: ((فيما يبدو للناس)) إشارة إلى أن باطن الأمر يكون بخلاف ذلك وأن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس، من جهة عمل سيئ ونحو ذلك فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت، وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار وفي باطنه خصلة ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، 4/ 94، برقم 3208، واللفظ له، برقم 3332، ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه، وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، 4/ 2036، برقم 2643. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه، وأجله، وعمله، وشقاوته، وسعادته، 4/ 2042، برقم 2651، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

السبب الأول: خوف الله - عز وجل - والخشية من سوء الخاتمة

خفية من خصال الخير، فتغلب عليه تلك الخصلة في آخر عمره، فتوجب له حسن الخاتمة)) (¬1). وينبغي للمسلم أن يعمل بالأسباب التي توصل إلى حسن الخاتمة ويبتعد عن جميع الأسباب التي تنشأ عنها سوء الخاتمة، ومن ذلك ما يأتي: السبب الأول: خوف الله - عز وجل - والخشية من سوء الخاتمة، فقد كان السلف الصالح يخافون من سوء الخاتمة، فيحسنون العمل؛ لأن الخوف مع الرجاء يبعث على إحسان العمل؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة)) (¬2)؛ ولهذا كان الصحابة - رضي الله عنهم - ومن بعدهم من السلف يخافون على أنفسهم النفاق، ويشتد قلقهم منه؛ لأن المؤمن يخاف على نفسه النفاق الأصغر، ويخاف أن يغلب عليه عند الخاتمة فيخرجه إلى النفاق الأكبر؛ لأن دسائس السوء من أسباب سوء الخاتمة (¬3). * وقد ذُكِرَ عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال لحذيفة - رضي الله عنه -: ((نشدتك بالله هل سمَّاني لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم))؟ - يعني من المنافقين - قال: لا، ولا أبرئ بعدك أحداً، يعني لا يكون مفشياً سرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). * وقال عبد الله بن أبي مليكة: ((أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه، وما منهم من أحد يقول: إن إيمانه على ¬

(¬1) جامع العلوم والحكم،1/ 172،وانظر: المفهم لما أشكل في تلخيص كتاب مسلم للقرطبي،1/ 319. (¬2) الترمذي، وحسنه، في كتاب صفة القيامة، باب: حدثنا محمد بن حاتم المؤدب، 4/ 633، برقم 2450، والحاكم من حديث أبي بن كعب - رضي الله عنه -، 4/ 308، و2/ 421، 513، وأحمد في المسند، 5/ 136، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 954، وبرقم 2335، وانظر: صحيح سنن الترمذي للألباني، 2/ 297. (¬3) انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب، 1/ 174، و172. (¬4) ذكره الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية، 5/ 19.

السبب الثاني: التوبة من جميع الذنوب والمعاصي وإتباعها بالأعمال الصالحة

إيمان جبريل وميكائيل)) (¬1). * وقال إبراهيم التيمي - رحمه الله -: ((ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذباً)) (¬2). * ويذكر عن الحسن: ((ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق)) (¬3). * ويذكر عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنه قال: ((لأن أستيقن أن الله تقبَّل لي صلاة واحدة أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها، إن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ} (¬4). السبب الثاني: التوبة من جميع الذنوب والمعاصي وإتباعها بالأعمال الصالحة؛ لأن التسويف في التوبة من أسباب سوء الخاتمة؛ ولهذا قال الله - سبحانه وتعالى -: {وَتُوبُوا إِلَى الله جَمِيعًا أَيُّهَا المؤمنون لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬5). وقال - سبحانه وتعالى -: {نَبّىءْ عِبَادِي أَنّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ*وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ} (¬6). ولا شك أن: ((التائب من الذنب كمن لا ذنب له)) (¬7). ولابد مع التوبة من الأعمال الصالحة؛ لقوله - عز وجل -: {وَإِنّي لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ ¬

(¬1) البخاري، كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، معلقاً مجزوماً به،1/ 21. (¬2) المرجع السابق في الكتاب والباب المذكور، 1/ 21، معلقاً مجزوماً به. (¬3) المرجع السابق في الكتاب نفسه والباب، 1/ 21، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري، 1/ 111: ((وصله جعفر الفريابي في كتاب صفة المنافقين، وأشار الحافظ رحمه الله إلى صحته)). (¬4) ذكره ابن كثير في تفسيره، 2/ 41، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وانظر: المنار المنيف في الصحيح والضعيف، لابن القيم، ص32، والآية من سورة المائدة: 27. (¬5) سورة النور، الآية: 31. (¬6) سورة الحجر، الآيتان: 49 - 50. (¬7) رواه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، من حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، برقم 2450، والطبراني في المعجم الكبير، برقم 1081، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة، برقم 615، و616، وفي صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 418، وانظر: المقاصد الحسنة للسخاوي، ص52.

السبب الثالث: الدعاء بحسن الخاتمة وإظهار الافتقار إلى الله - عز وجل -

وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (¬1)، وقال - سبحانه وتعالى - بعد أن ذكر عقاب المشرك، وقاتل النفس بغير حق، والزاني: {إِلاّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} (¬2). وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أراد الله بعبد خيراً استعمله)) فقيل: كيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: ((يوفقه لعمل صالح قبل الموت)) (¬3). وعن عمرو بن الحَمَقِ - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا أراد الله بعبدٍ خيراً عَسَلَهُ)) قالوا: وكيف يعسله؟ قال: ((يفتح الله - عز وجل - له عملاً صالحاً بين يدي موته حتى يرضى عنه جيرانه، أو من حوله)) (¬4). السبب الثالث: الدعاء بحسن الخاتمة وإظهار الافتقار إلى الله - عز وجل -، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُكثر الدعاء بالثبات على دين الله - عز وجل - فعن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان أكثر دعائه: ((يا مقلب القلوب ثبّتْ قلبي على دينك)) قالت: قلت: يا رسول الله ما أكثر دعاءك: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك؟ قال: ((يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ)) فتلا معاذ: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} (¬5). ¬

(¬1) سورة طه، الآية: 82. (¬2) سورة الفرقان، الآية: 70. (¬3) الترمذي، كتاب القدر، باب ما جاء أن الله كتب كتاباً لأهل الجنة وأهل النار، وقال: ((هذا حديث حسن صحيح))، 4/ 450، برقم 2142، والحاكم، 1/ 340، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، قال الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح للتبريزي، 3/ 1454، برقم 5288: ((وهو كما قالا)). (¬4) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار، 7/ 52 - 53، برقم 4640، و4641، وأحمد في المسند،5/ 224،والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي،1/ 340،وعمرو بن أبي عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني في كتاب السنة،1/ 176، برقم 401،وذكر له شواهد برقم 400، 402، 403. وابن حبان في صحيحه، 2/ 54،برقم 342،وانظر: موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان للهيثمي، برقم 1822.ونقل الألباني تصحيحه على شرط مسلم في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1114. (¬5) الترمذي، كتاب الدعوات، باب: حدثنا أبو موسى الأنصاري، وقال: ((وهذا حديث حسن))، 5/ 538، برقم 3522، وأحمد في المسند من حديث النواس بن سمعان،4/ 182،والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، 1/ 525، 528، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 3/ 171، وفي ظلال الجنة في تخريج السنة لابن أبي عاصم، 1/ 100، برقم 223. (والآية من آل عمران 8).

وعن أنس - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول: ((يا مقلب القلوب ثبّتْ قلبي على دينك))، فقلت: يا رسول الله، آمنا بك، وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: ((نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف شاء)) (¬1). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد، يصرفه حيث يشاء))، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم مُصرّف القلوب صرّف قلوبنا على طاعتك)) (¬2). وكان - صلى الله عليه وسلم - يدعو: ((اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة)) (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ من: ((جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء)) (¬4). فينبغي للمسلم أن يُكثر من هذه الأدعية التي هي من أسباب حسن الخاتمة، وعليه أن يُكثر من ((لا حول ولا قوة إلا بالله)) فعن عبد الله بن ¬

(¬1) الترمذي، كتاب القدر، باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن، وقال: ((وهذا حديث حسن))، 4/ 448، برقم 2140،وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، 2/ 1260، برقم 3834، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 225، وصحيح سنن ابن ماجه، 2/ 325، وفي ظلال الجنة في تخريج السنة، 1/ 101، برقم 225. (¬2) مسلم، كتاب القدر، باب تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء،4/ 2045، برقم 2654. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في المسند، 4/ 181 من حديث بسر بن أرطأة - رضي الله عنه -، والطبراني في المعجم الكبير، 2/ 33، بأرقام: 1196 - 1198، وقال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد: رجال أحمد، وأحد أسانيد الطبراني ثقات، 10/ 178. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الدعوات، باب التعوذ من جهد البلاء،7/ 199،برقم 6347، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره،4/ 2080،برقم 2707.

السبب الرابع: قصر الأمل من أسباب حسن الخاتمة

قيس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا عبد الله بن قيس ألا أدلُّك على كنز من كنوز الجنة))؟ فقلت: بلى يا رسول الله، قال: ((قل لا حول ولا قوة إلا بالله)) (¬1). السبب الرابع: قصر الأمل من أسباب حسن الخاتمة، وطول الأمل ضد ذلك؛ لأن قصر الأمل يحث صاحبه على اغتنام الأوقات والأعمال الصالحة؛ ويؤكد ذلك حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك (¬2). وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: خطَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - خطّاً مربعاً، وخطَّ خطّاً في الوسط خارجاً منه، وخطَّ خُططاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: ((هذا الإنسان، وهذه أجله محيط به، أو قد أحاط به، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخُطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا)) (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يزال قلب الكبير شابّاً في اثنتين: في حب الدنيا وطول العمر)) (¬4). وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يهرم ابن آدم وتشبُّ منه اثنتان: الحرص على المال، والحرص على العمر)) (¬5). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب القدر، باب ((لا حول ولا قوة إلا بالله))، 7/ 271، برقم 6610، ومسلم كتاب الذكر والدعاء، باب استحباب خفض الصوت بالذكر،4/ 2076، برقم 2704. (¬2) البخاري، 7/ 218، برقم 6416، وتقدم تخريجه. (¬3) البخاري، كتاب الرقاق، باب في الأمل وطوله، 7/ 219، برقم 6417. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الرقاق، باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر، 7/ 220، برقم 6420، ومسلم، كتاب الزكاة، باب كراهية الحرص على الدنيا، 2/ 724، برقم 1046. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الرقاق، باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر، 7/ 220، برقم 6421،ومسلم بلفظه في كتاب الزكاة، باب كراهة الحرص على الدنيا، 2/ 724، برقم 1047.

السبب الخامس: بغض المعاصي والابتعاد عنها

فينبغي للمسلم أن لا يركن إلى الدنيا؛ فإنها متاع زائل، والله المستعان. السبب الخامس: بغض المعاصي والابتعاد عنها من أسباب حسن الخاتمة، وضدّ ذلك حبها وإلفها. فينبغي للمسلم أن يُبغض كل ما حرمه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الإنسان إذا أصرَّ على المعاصي ومات على ذلك كان ذلك من أسباب سوء الخاتمة، وبُعِثَ على ما مات عليه؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من مات على شيء بعثه الله عليه)) (¬1). السبب السادس: الصبر عند المصائب من أسباب حسن الخاتمة، وضد ذلك الجزع أو الانتحار من أسباب سوء الخاتمة، أسأل الله العفو والعافية لي ولأهل بيتي وجميع المؤمنين. فينبغي للمسلم الصبر ابتغاء وجه الله - عز وجل - فعن صهيب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)) (¬2)، ولا شك أن المصائب تكفر الخطايا والسيئات. فينبغي للعبد المسلم: الصبر، والثبات، واحتساب الأجر والثواب على الله - عز وجل - فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حطَّ الله به سيئاته كما تحطُّ الشجرة ورقها)) (¬3). وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما يصيب المؤمن من وصبٍ (¬4) ولا نصبٍ (¬5) ولا سقمٍ، ولا حزنٍ، حتى ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد في المسند، 3/ 314 عن جابر - رضي الله عنه -، والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، 1/ 340، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 283. (¬2) مسلم، في كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير 4/ 2295، برقم 2999. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب المرضى، باب أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثال فالأمثل، 7/ 4، برقم 5648، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن، أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها، 4/ 1991، برقم 2571. (¬4) الوصب: الوجع اللازم. شرح النووي على صحيح مسلم، 16/ 366. (¬5) النصب: التعب. المرجع السابق، 16/ 366.

السبب السابع: حسن الظن بالله - عز وجل - من أسباب حسن الخاتمة

الهمّ يهمّه إلا كُفّر به من سيئاته)) (¬1). السبب السابع: حسن الظن بالله - عز وجل - من أسباب حسن الخاتمة، وسوء الظن بالله من أسباب سوء الخاتمة، فينبغي للعبد أن يعلم أن الله - عز وجل - لا يظلم مثقال ذرة، ولا يظلم الناس شيئاً، وهو عند ظن عبده به؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني ... )) (¬2). وعن جابر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل وفاته بثلاث يقول: ((لا يمُوتنَّ أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله)) (¬3). السبب الثامن: معرفة ما أعده الله - عز وجل - من النعيم المقيم للمؤمنين، من أسباب حسن الخاتمة؛ لأن هذا العلم يحث على العمل، والاستقامة على طاعة الله - عز وجل - رغبة فيما عنده - عز وجل - من الثواب، قال الله - عز وجل -: {وَمَا أُوتِيتُم مّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} (¬4). فينبغي للمسلم أن يعلم أن مستقر أرواح المؤمنين في الحياة البرزخية في الجنة، فعن عبد الله بن أحمد، عن أبيه، عن الشافعي، عن مالك، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب، عن أبيه كعب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة، حتى يرجعه الله تبارك وتعالى إلى جسده يوم يبعثه)) (¬5). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرض، 7/ 3، برقم 5641، ومسلم واللفظ له، كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها، 4/ 1993، برقم 2573. (¬2) متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ وَالله رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30]، 8/ 216، برقم 7405، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء، 4/ 2061، برقم 2675. (¬3) مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الأمر يحسن الظن بالله تعالى عند الموت، 4/ 2205، برقم 2877. (¬4) سورة القصص، الآية: 60. (¬5) أخرجه أحمد في المسند، 3/ 455، والنسائي في كتاب الجنائز، باب أرواح المؤمنين، 4/ 108، برقم 2073، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر القبر والبلى، 2/ 1428، برقم 4271، وموطأ الإمام مالك، كتاب الجنائز، باب جامع الجنائز، 1/ 240، برقم 49. وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 2/ 730، برقم 995، وفي صحيح سنن النسائي، 2/ 445.

12 - معرفة قصر الحياة الدنيا، وأنها كيوم أو بعض يوم

أما أرواح الشهداء فهي أعظم من ذلك، فقد ثبت في الصحيح أن: ((أرواحهم في جوف طير خضرٍ، لها قناديل معلّقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل ... )) (¬1). فينبغي للمسلم أن يعمل بهذه الأسباب الحسنة ويبتعد عن أسباب سوء الخاتمة. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحسن لنا جميعاً الخاتمة، وأن يوفقنا لِمَا يحبه ويرضاه. 12 - معرفة قصر الحياة الدنيا، وأنها كيوم أو بعض يوم مهما عاش الإنسان فحياته قصيرة جداً، قال الله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (¬2). وقال سبحانه: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ*وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} (¬3). وقال - عز وجل -: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاءِ الله وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} (¬4)، وهذا يدل على سرعة انقضاء الدنيا، وأن الناس إذا حشروا كأنه ما مر عليهم نعيم ولا بؤس وهم يتعارفون بينهم كحالهم في الدنيا، ففي هذا اليوم يربح المتقون ويخسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين إلى الصراط المستقيم والدين القويم (¬5). ¬

(¬1) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، 3/ 1502، برقم 1887، من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. (¬2) سورة القصص، الآية: 88. (¬3) سورة الرحمن، الآيتان: 26 - 27. (¬4) سورة يونس، الآية: 45. (¬5) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للعلامة السعدي، ص365.

وقال الله - عز وجل -: {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ*ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} (¬1). وقال - عز وجل -: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ} (¬2). وقال - سبحانه وتعالى -: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} (¬3). وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} (¬4). وقال تعالى: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ المُجْرِمِينَ يَومَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُم إن لَّبِثْتُمْ إلاَّ عَشْرًا * نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُم طَرِيقَةً إن لَّبِثْتُمْ إلاَّ يَوْمًا} (¬5). وقال - عز وجل -: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ سَاعَةً مّن نَّهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} (¬6). وقال الله - عز وجل - في الساعة: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} (¬7). وقال - سبحانه وتعالى -: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً} (¬8). ¬

(¬1) سورة الشعراء، الآيات: 205 - 207. (¬2) سورة الحج، الآية: 47. (¬3) سورة المؤمنون، الآيات: 112 - 115. (¬4) سورة الروم، الآية: 55. (¬5) سورة طه، الآيات: 102 - 104. (¬6) سورة الأحقاف، الآية: 35. (¬7) سورة النازعات، الآية: 46. (¬8) سورة الإسراء، الآية: 52.

وقال - عز وجل -: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} (¬1). وعن المستورد أخي بني فهر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما مَثَل الدنيا في الآخرة إلا مَثَل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليمّ فلينظرْ بمَ يرجع)) (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)) (¬3). فينبغي للعبد المسلم أن يزهد في هذه الدنيا القصيرة ويتزود بالأعمال الصالحة، ويعلم أنه مهما طال عمره فهو قصير، ولكن يغتنمه فيما يرفع منزلته عند الله - عز وجل -، ويقيه من عذابه، فإن طال عمره وهو ملتزم بطاعة الله - عز وجل - فهو خير له، فعن عبد الله بن بُسر - رضي الله عنه - أن أعرابيّاً قال: يا رسول الله! من خير الناس؟ قال: ((مَن طال عمره وحسن عمله)) (¬4). وعن أبي بكرة - رضي الله عنه -: أن رجلاً قال: يا رسول الله! أي الناس خير؟ قال: ((مَن طال عمره وحسن عمله)) قال: فأي الناس شر؟ قال: ((من طال عمره وساء عمله)) (¬5). وأعمار أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - قصيرة من الستين إلى السبعين لمن أطال الله عمره، وقليل من يجوز ذلك؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عمر أمتي من ستين سنة إلى سبعين سنة)). وفي لفظ: ((أعمار أمتي ¬

(¬1) سورة العنكبوت، الآية: 14. (¬2) ابن ماجه، كتاب الزهد، باب مثل الدنيا، برقم 4108، والترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في هوان الدنيا على الله، برقم 2323،وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه،3/ 347. (¬3) مسلم، كتاب الزهد، باب الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، برقم 2956. (¬4) الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في طول العمر للمؤمن، برقم 2329، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 536. (¬5) الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في طول العمر للمؤمن، برقم 2330، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 536.

13 - معرفة فضل البكاء من خشية الله تعالى يورث الخير الكثير

ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك)) (¬1). وهذا العمر حجة على من لم يستعمله في طاعة الله - عز وجل -،فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أعذر الله إلى امرئ أخَّر أجله حتى بلّغه ستين سنة)) (¬2). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز -رحمه الله- يقول: ((وهذا يوجب الحذر وأن المؤمن يأخذ حذره، ولا سيما إذا بلغ ستين)) (¬3). وما أحسن ما قاله الشاعر الحكيم: وما أقبح التفريط في زمن الصبا ... فكيف به والشيب للرأس شامل 13 - معرفة فضل البكاء من خشية الله تعالى يورث الخير الكثير؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم)) (¬4). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((عينان لا تمسّهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)) (¬5). وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون، أطَّت السماء وحُقَّ لها أن تئطَّ، ما فيها موضع أربع ¬

(¬1) الترمذي، اللفظ الأول كتاب الزهد، باب ما جاء في فناء أعمار هذه الأمة ما بين الستين إلى السبعين، برقم 2331، واللفظ الثاني في كتاب الدعوات، باب في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 3550، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي في هذا الموضع، 3/ 460. (¬2) البخاري، كتاب الرقاق، باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر، برقم 6419. (¬3) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 6419. (¬4) الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في فضل البكاء من خشية الله، برقم 2311، والنسائي، كتاب الجهاد، باب فضل من عمل في سبيل الله على قدمه، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/ 528. (¬5) الترمذي، كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الحرس في سبيل الله، برقم 1639، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 230.

أصابع إلا ومَلَك واضع جبهته ساجداً لله، والله لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله)) (¬1). وعن أنس - رضي الله عنه - قال: خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - خطبة ما سمعت مثلها قطُّ، قال: ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)) قال: فغطَّى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجوههم ولهم خنين، فقال رجل: من أبي؟ قال: ((أبوك فلان)). وفي رواية فقال عبد الله بن حذافة: من أبي؟ فقال: ((أبوك حذافة)) فلما أكثر - صلى الله عليه وسلم - من قوله: ((سلوني)) برك عمر فقال: رضينا بالله ربَّا وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً، فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: ((والذي نفسي بيده لقد عرضت عليَّ الجنة والنار آنفاً في عرض هذا الحائط فلم أرَ كاليوم في الخير والشر)) (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفس محمد بيده لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً)) (¬3). ولو لم يكن في فضل البكاء من خشية الله إلا أنه يدخل صاحبه في ظلّ الله يوم لا ظل إلا ظلّه لكفى؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه)) وذكر منهم: ((رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)) (¬4)، وقد ¬

(¬1) الترمذي، كتاب الزهد، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، برقم 2312، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 529، وأخرجه ابن ماجه، في كتاب الزهد، باب الحزن والبكاء، برقم 4190. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب التفسير، باب {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، وله أطراف كثيرة فيها زيادات كثيرة بأرقام 93،540، 749، 4621، 6362، 6468، 6486، 7089، 7090، 7091، 7294، 7295، ومسلم، كتاب الفضائل، باب توقيره - صلى الله عليه وسلم -، برقم 2359. (¬3) البخاري، كتاب الرقاق، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً))، برقم 6485، واللفظ من الطرف رقم 6637. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، وفضل المساجد، برقم 660، ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة، برقم 1031.

خامسا: آداب المريض الواجبة والمستحبة كثيرة منها:

أثنى الله - عز وجل - على من بكى من خشيته في آيات كثيرة، ومن ذلك: قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (¬1). وقوله تعالى: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ} (¬2). وقوله تعالى في أهل العلم إذا سمعوا القرآن: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (¬3). وقوله تعالى في الأنبياء ممن هدى سبحانه: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرحمن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (¬4). خامساً: آداب المريض الواجبة والمستحبة كثيرة منها: 1 - الصبر والاحتساب: المريض يجب عليه الصبر وهو: حبس النفس عن الجزع والتسخط، واللسان عن الشكوى إلى المخلوق، والجوارح عن عملها ما يقتضي التسخّط: كلطم الخدود، وشقّ الجيوب، وحثو التراب على الرؤوس، ونتف الشعر، والدعاء بدعوى الجاهلية، ونحو ذلك (¬5). أما الشكوى إلى الله فمطلوبة بإجماع المسلمين (¬6). ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 83. (¬2) سورة التوبة، الآية: 92. (¬3) سورة الإسراء، الآية: 109. (¬4) سورة مريم، الآية: 85. (¬5) انظر: عدة الصابرين لابن القيم، ص27 وص29. (¬6) الاختيارات الفقهية لابن تيمية، ص128.

قال الله - عز وجل -: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬1). وقال - عز وجل -: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (¬2). وقال - سبحانه وتعالى -: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (¬3). وقال - عز وجل -: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَالله لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (¬4). وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ الله وَمَن يُؤْمِن بِالله يَهْدِ قَلْبَهُ وَالله بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬5). وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ *أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مّن رَّبّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (¬6). وقال تعالى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (¬7). وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ} (¬8). ¬

(¬1) سورة الزمر، الآية: 10. (¬2) سورة محمد، الآية: 31. (¬3) سورة الأنبياء، الآية: 35. (¬4) سورة الحديد، الآيتان: 22، 23. (¬5) سورة التغابن، الآية: 11. (¬6) سورة البقرة، الآيات: 155 - 157. (¬7) سورة الشورى، الآية: 43. (¬8) سورة البقرة، الآية: 153.

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الصبر ضياء)) (¬1). وعن صهيب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)) (¬2). وعن أنس - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله - عز وجل - قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة)) يريد عينيه (¬3). وعن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الطاعون فأخبرها ((أنه كان عذاباً يبعثه الله على من شاء فجعله رحمة للمؤمنين (¬4)، فليس من عبد يقع في الطاعون فيمكث في بلده صابراً محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد)) (¬5). وقال - صلى الله عليه وسلم -: (( ... إنما الصبر عند الصدمة الأولى)) (¬6). وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما يصيب ¬

(¬1) مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، برقم 223، من حديث أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه -. (¬2) مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير، برقم 2999. (¬3) البخاري، كتاب المرض، باب فضل من ذهب بصره، برقم 5653. (¬4) الطاعون: قيل هو الموت العام، وقيل: المرض العام الذي يفسد له الهواء، وتفسد به الأمزجة والأبدان، وقيل: هو الوباء، وقيل: هو المرض الذي يعم الكثير من الناس في جهة من الجهات، وقيل: أصل الطاعون: القروح الخارجة في الجسد، والوباء عموم الأمراض، فسميت طاعوناً لشبهها بها في الهلاك، وإلا فكل طاعون وباء وليس كل وباء طاعوناً، انظر: فتح الباري لابن حجر، 10/ 180، وقال النووي في تهذيب الأسماء واللغات، 3/ 186: ((مرض معروف هو بثر وورم مؤلم جداً يخرج مع لهب ويسودّ ما حواليه، أو يخضرّ أو يحمرّ حمرة بنفسجية كدرة يحصل معه خفقان القلب والقيء، ويخرج في المراق والآباط غالباً والأيدي والأصابع وسائر الجسد))، ورجح ابن حجر في فتح الباري، 10/ 181: ((أن الطاعون يكون من طعن الجن وقرعه))، واستشهد لذلك بأدلة وصحح بعضها. (¬5) البخاري، كتاب الطب، باب أجر الصابر على الطاعون، برقم 5734. (¬6) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب زيارة القبور، برقم 1283، ومسلم، كتاب الجنائز، باب الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى، برقم 926.

المسلم من نَصَبٍ (¬1) ولا وَصَبٍ (¬2) ولا هَمٍّ، ولا حزْنٍ، ولا أذىً، ولا غمٍّ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه)) (¬3). وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حطَّ الله سيئاته كما تحطُّ الجشرة ورقها)) (¬4). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مسلم يُشاك شوكةً فما فوقها، إلا كُتب له بها درجة ومُحيت عنه بها خطيئة)) (¬5). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من يُرد الله به خيراً يُصِبْ (¬6) منه)) (¬7). وعن أنس - رضي الله عنه - يرفعه: ((إن عِظم الجزاء من عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السُّخْط)) (¬8). وعن مصعب بن سعد عن أبيه - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: ((الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، ¬

(¬1) النصب: التعب. (¬2) الوصب: المرض. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب المرض، باب ما جاء في كفارة المرض، برقم 5641، 5642، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه، برقم 2573. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب المرض، باب شدة المرض، برقم 5647، 5648، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه، برقم 2571. (¬5) مسلم، كتاب البر والصلة، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه، برقم 2572. (¬6) يصب منه: معناه يبتليه بالمصائب، ليثيبه عليها، وقيل: يوجه إليه البلاء فيصيبه. فتح الباري لابن حجر، 10/ 108، وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 5645: ((أي يصيبه بالمصائب بأنواعها، وحتى يتذكر فيتوب، ويرجع إلى ربه)). (¬7) البخاري، كتاب المرض، باب ما جاء في كفارة المرض، برقم 5645. (¬8) الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، برقم 2396، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، رقم 4031،وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي،2/ 564، وفي صحيح سنن ابن ماجه، 3/ 320،وفي الصحيحة، برقم 146.

2 - لا يسأل البلاء

فإن كان دينه صلباً، اشتدَّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقّةٌ ابتلي على حسب دينه، فما يبرحُ البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة)) (¬1). 2 - لا يسأل البلاء؛ لحديث العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله علمني شيئاً أساله الله؟ قال: ((سل الله العافية)) فمكثت أياماً ثم جئت فقلت: يا رسول الله علمني شيئاً أسأله الله، فقال لي: ((يا عباسُ يا عمَّ رسول الله: ((سل الله العافية في الدنيا والآخرة)) (¬2). ولحديث أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال على المنبر: ((سلوا الله العفو والعافية؛ فإن أحداً لم يعط بعد اليقين خيراً من العافية)) (¬3). ولحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان من دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوّل عافيتك، وفجأة نقمتك، وجميع سخطك)) (¬4). ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((كان يتعوّذ من سوء القضاء، ومن درك الشقاء، ومن شماتة الأعداء، ومن جهد البلاء)) (¬5). 3 - الإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى، الإيمان بالقدر أصل من ¬

(¬1) الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، برقم 2398، وابن ماجه في كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، برقم 4023، وقال الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 565، وفي صحيح سنن ابن ماجه، 3/ 318، وفي الصحيحة، برقم 143، 2280: ((حسن صحيح)). (¬2) الترمذي، كتاب الدعوات، باب: حدثنا يوسف بن عيسى، برقم 3514، وقال: هذا حديث صحيح، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 3/ 446، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1523. (¬3) الترمذي، كتاب الدعوات، باب: حدثنا محمد بن بشار، برقم 3558،وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب الدعاء بالعفو والعافية، برقم 3849،وقال الألباني في صحيح سنن الترمذي، 3/ 464: ((حسن صحيح)) وفي صحيح سنن ابن ماجه، 3/ 259 ((صحيح)). (¬4) مسلم، كتاب الرقاق، باب أكثر أهل الجنة الفقراء، برقم 2739. (¬5) مسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب: في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء، وغيره، برقم 2707.

أصول الإيمان وركن من أركانه؛ لقول الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (¬1). ولحديث عمر - رضي الله عنه - من حديث جبريل المشهور وفيه: (( ... أخبرني عن الإيمان؟ [فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -]: ((أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)) (¬2). والقدر في اللغة: بمعنى التقدير، وهو مصدر: قَدَر يَقْدُرُ قَدَراً، وقد تسكّن دالُه، وهو عبارة عما قضاه الله وحكم به من الأمور، ومنه ((ليلة القدر)) وهي الليلة التي تُقدَّرُ فيها الأرزاق وتُقضى، ومن حديث الاستخارة: ((فاقدُرْه لي ويسّره)) أي اقضِ لي به وهيّئه (¬3). والقدر في الشرع: هو تقدير الله تعالى لكل شيء، بعلمه الأزلي الأبدي، الذي لا أول لابتدائه، ولا نهاية لانتهائه، وعلمه - عز وجل - أنها ستقع في أوقات معلومة عنده، وعلى صفات مخصوصة، وكتابته سبحانه لذلك، ومشيئته النافذة - عز وجل - الخالق لكل شيء القادر عليه (¬4). وأما معنى القضاء: فهو في اللغة: إحكام الأمر وإتقانه، وإنفاذه لجهته (¬5)، وأصل القضاء القطع والفصل، يقال: قضى يقضي فهو قاضٍ إذا حكم وفصل، وقضاء الشيء: إحكامه، وإمضاؤه، والفراغ منه، فيكون بمعنى الخلق. ¬

(¬1) سورة القمر، الآية: 49. (¬2) مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام، برقم 1. (¬3) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب القاف مع الدال، مادة: ((قدر))، 4/ 22. (¬4) انظر: شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، للإمام ابن القيم، تحقيق عمر بن سليمان الحفيان، 1/ 41 - 228، والعقيدة الواسطية مع شرحها للهراس، ص220 - 230، ولوامع الأنوار البهية للسفاريني، 1/ 37، ورسائل في العقيدة للشيخ ابن عثيمين، ص27، والقضاء والقدر، للدكتور عبد الرحمن بن صالح المحمود، ص39، والإيمان والقضاء والقدر، للشيخ محمد بن إبراهيم الحمد، بتقديم وتعليق الإمام ابن باز، ص28. (¬5) معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، ص893.

وأما العلاقة بين القضاء والقدر ففي ذلك أقوال:

والقضاء في اللغة جاء على وجوه مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه، وكل ما أُحكم عمله، أو أُتمّ، أو خُتم، أو أدّي، أو أُوجب، أو أُعلم، أو أُنفذ، أو أُمضي، فقد قضيَ، وقد جاءت هذه الوجوه كلها في الحديث (¬1). وأما العلاقة بين القضاء والقدر ففي ذلك أقوال: القول الأول: قال ابن الأثير رحمه الله: ((ومنه القضاء المقرون بالقدر: المراد بالقدر التقدير، وبالقضاء الخلق، فالقضاء والقدر أمران متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لأن أحدهما بمنزلة الأساس، والآخر بمنزلة البناء، فمن رام الفصل بينهما، فقد رام هدم البناء ونقضه (¬2). القول الثاني: قيل: القضاء: هو الحكم الكلي الإجمالي في الأزل، والقدر: جزيئات ذلك الحكم وتفاصيله (¬3)، والمعنى: أن القضاء: هو العلم السابق الذي حكم الله به في الأزل، والقدر هو وقوع الخلق على وزن الأمر المقضي السابق (¬4) عكس القول الأول. القول الثالث: قيل: القضاء من الله تعالى أخص من القدر؛ لأنه الفصل بين التقدير، فالقدر هو التقدير والقضاء هو الفصل والقطع، وقد ذكر بعض العلماء: أن القدر بمنزلة المُعدّ للكيل، والقضاء بمنزلة الكيل، وهذا يبين أن القدر ما لم يكن قضاءً فمرجوٌّ أن يدفعه الله، فإذا قضى فلا مدفع له (¬5). ¬

(¬1) النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير، باب القاف مع الضاد، 4/ 78. (¬2) المرجع السابق، باب القاف مع الضاد، مادة ((قضاء))، 4/ 78، واختار أن القضاء والقدر شيء واحد، الشيخ الدكتور عبد الرحمن بن صالح المحمود، في كتابه القضاء والقدر، ص40، وقال: ((لا فرق بينهما في اللغة كما أنه لا دليل على التفريق بينهما في الشرع))، فإذا أطلق التعريف على أحدهما شمل الآخر، وإذا ذكرا جميعاً فلا مشاحة من تعريف أحدهما بالآخر))، ص40 - 44. (¬3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر،11/ 149،وعمدة القاري، لبدر العيني،23/ 145. (¬4) انظر: القضاء والقدر، للشيخ الدكتور عمر الأشقر، ص27.والقضاء والقدر للدكتور عبد الرحمن بن صالح المحمود، ص42، والإيمان بالقضاء والقدر، للشيخ محمد بن إبراهيم الحمد، ص29. (¬5) مفردات ألفاظ القرآن للأصفهاني، مادة ((قضى))، ص676.

القول الرابع

القول الرابع: قيل: القضاء والقدر: إذا اجتمعا افترقا، فيصبح لكل واحد منهما مفهوم، وإذا افترقا اجتمعا بحيث إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر، أي إذا افترقا فهما مترادفان، فإذا قيل: هذا قدر الله فهو شامل للقضاء، وإذا قيل: هذا قضاء الله، فهو شامل للقدر، أما إذا ذكرا جميعاً [هذا قدر الله وقضاؤه] فلكل واحد منهما معنى: فالتقدير: هو ما قدره الله في الأزل أن يكون في خلقه. وأما القضاء: فهو ما قضى به سبحانه في خلقه من إيجاد أو إعدام، أو تغيير، وعلى هذا يكون التقدير سابقاً. واختار هذا القول الرابع العلامة ابن عثيمين رحمه الله (¬1). (¬2). ومن الأدلة العظيمة التي تدل على عظم منزلة الإيمان بالقضاء والقدر ما ثبت عن عبد الله بن عمر من قوله في القدرية: ((والذي يحلف به ابن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر .. )) (¬3). وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: خرج علينا ¬

(¬1) شرح العقيدة الواسطية، لابن عثيمين، ص439. (¬2) والإيمان بالقدر له فوائد وثمرات منها: أنه من تمام الإيمان، فلا يتم الإيمان إلا بذلك، وهو من تمام الإيمان بالربوبية؛ لأن قدر الله من أفعاله، ويرد الإنسان إلى ربه، وبه يعرف الإنسان قدر نفسه، ولا يفخر إذا فعل الخير، ويهوّن المصائب على العبد، يورث إضافة النعم إلى مسديها، ويعرف به الإنسان حكمة الله - عز وجل -، والإيمان بالقدر طريق الخلاص من الشرك، ويجلب الشجاعة، والصبر والاحتساب ومواجهة الأخطار والصعاب، وقوة الإيمان، والهداية، والجود والكرم، والتوكل واليقين والاستسلام لله والاعتماد عليه، والإخلاص، وإحسان الظن بالله وقوة الرجاء، والخوف من الله والحذر من سوء الخاتمة، ويقضي على كثير من الأمراض: كالحسد، فالمؤمن لا يحسد، ويحرر العقل من الخرافات، ويجلب التواضع، والسلامة من الاعتراض على أحكام الله، ويجلب الجد والحزم في الأمور، والشكر، والرضا، والفرح برحمة الله، والاستقامة في السراء والضراء، وعدم اليأس من انتصار الحق، وعلو الهمة وكبر النفس، ويجلب عزة النفس والقناعة، وسكون النفس وطمأنينة القلب وراحة البال، فهذه الأمور من ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر. انظر: شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين، ص541،والإيمان بالقضاء والقدر، للشيخ محمد بن إبراهيم الحمد، ص31 - 39. (¬3) مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام، برقم 1.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي يده كتابان، فقال: ((أتدرون ما هذان الكتابان))؟ فقلنا: لا يا رسول الله! إلا أن تخبرنا، فقال للذي في يده اليمنى: ((هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة، وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أُجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم، ولا ينقص منهم أبداً)). ثم قال للذي في شماله: ((هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل النار، وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم، فلا يزاد فيهم، ولا ينقص منهم أبداً)) فقال أصحابه: ففيمَ العمل يا رسول الله! إن كان أمرٌ قد فُرِغَ منه؟ فقال: ((سدّدوا وقارِبوا، فإن صاحب الجنة يُختم له بعمل أهل الجنة، وإن عمل أيَّ عمل، وإن صاحب النار يُختَمُ له بعمل أهل النار، وإن عمل أيَّ عمل)) ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيديه فنبذهما ثم قال: ((فرغ ربكم من العباد: فريق في الجنة وفريق في السعير)) (¬1). وحديث ابن الديلمي، قال: وقع في نفسي شيء من هذا القدر (¬2)، خشيت أن يفسد عليَّ ديني وأمري، فأتيت أُبي بن كعب فقلت: أبا المنذر! إنه قد وقع في قلبي شيء من هذا القدر؛ فخشيت على ديني وأمري، فحدثني من ذلك بشيء، لعل الله أن ينفعني به، فقال: لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، ولو كان لك مثل جبل أحد ذهباً، أو مثل جبل أحد تنفقه في سبيل الله ما قُبِلَ منك حتى تؤمن بالقدر، فتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأنك إن مت على غير هذا دخلت النار، ولا عليك أن تأتي ¬

(¬1) الترمذي، كتاب القدر، باب ما جاء أن الله كتب كتاباً لأهل الجنة وأهل النار، برقم 2141، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 445، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 448، وغيرهما، والحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند أيضاً، 2/ 167. (¬2) ((شيء من هذا القدر)) أي: جل هذا القدر، أي: القول به، يريد أنه وقع في نفسه من الشبه لأجل القول بالقدر.

أخي عبد الله بن مسعود فتسأله، فأتيت عبد الله فسألته فذكر مثل ما قال أبي. وقال لي: ولا عليك أن تأتي حذيفة، فأتيت حذيفة فسألته، فقال مثل ما قالا، وقال: ائتِ زيد بن ثابت فاسأله، فأتيت زيد بن ثابت فسألته، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لو أن الله عذَّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، ولو كان لك جبل أحد ذهباً - أو مثل جبل أحد ذهباً - تنفقه في سبيل الله ما قبله منك حتى تؤمن بالقدر كله، فتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك (¬1)، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأنك إن مُتَّ على غير هذا دخلت النار)) (¬2). وحديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه -: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التقى هو والمشركون فاقتتلوا، فلما مال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عسكره ومال الآخرون إلى عسكرهم، وفي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل لا يدع لهم شاذّة ولا فاذّة إلا اتبعها يضربها بسيفه، فقالوا: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أما إنه من أهل النار))، فقال رجل من القوم: أنا صاحبه، قال: فخرج معه كلما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه، قال: فجُرِحَ الرجل جُرحاً شديداً، فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه في الأرض، وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه، فخرج الرجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أشهد أنك رسول الله، قال: ((وما ذاك))؟ قال: الرجل الذي ذكرت آنفاً أنه من أهل النار، فأعظمَ الناس ذلك، فقلت: أنا لكم به، فخرجت في طلبه، ثم جُرِحَ جُرحاً شديداً، فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل عليه فقتل نفسه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: ((إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل ¬

(¬1) ((ليخطئك)) أي: يتجاوز عنك فلا يصيبك، بل لابد من إصابته. (¬2) ابن ماجه، المقدمة، باب القدر، برقم 77،وأبو داود، كتاب السنة، باب في القدر، برقم 4699، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 1/ 44،وصحيح سنن أبي داود، 3/ 148

عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة)) (¬1). وفي رواية: (( .. أيُّنا من أهل الجنة إذا كان هذا من أهل النار؟ فقال رجل من القوم لأتبعنه ... )) (¬2). وفي رواية: ((نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى رجل يقاتل المشركين - وكان من أعظم الناس غَنَاء عنهم - فقال: ((من أحبَّ أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا))، فتبعه رجل فلم يزل على ذلك حتى جُرح فاستعجل الموت، فقال بذبابة سيفه فوضعه بين ثدييه، فتحامل عليه حتى خرج من بين كتفيه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن العبد ليعمل - فيما يرى الناس - عمل أهل الجنة وإنه لمن أهل النار، ويعمل - فيما يرى الناس - عمل أهل النار وهو من أهل الجنة، وإنما الأعمال بخواتيمها)) (¬3). وفي رواية: ((وإنما الأعمال بالخواتيم)) (¬4). ظهر في هذا الحديث أهمية الإيمان بالقدر (¬5)؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل ظاهره الصلاح والشجاعة في الجهاد: ((إنه من أهل النار)) وقال: ((إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعلم عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة))، وهذا يدل على أن الله - عز وجل - قد قدر المقادير، فعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ¬

(¬1) متفق عليه، البخاري، كتاب الجهاد، باب لا يقول فلان شهيد، برقم 2898، وكتاب المغازي، باب غزوة خيبر، 5/ 88، برقم 4202، و5/ 90، برقم 4207، وكتاب الرقاق، باب الأعمال بالخواتيم وما يخاف منها، 7/ 240، برقم 6493. وكتاب القدر، باب العمل بالخواتيم، 7/ 270، برقم 6607، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، 1/ 106، برقم 112. (¬2) من الطرف رقم 4207. (¬3) من الطرف رقم 6493. (¬4) من الطرف رقم 6607. (¬5) انظر: كتاب الإيمان للحافظ إسحاق بن يحيى بن منده، 1/ 126 - 132، والإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة، للإمام محمد بن بطة العبكري، ((كتاب القدر))، 1/ 253.

عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسةٍ إلا كُتِبَ مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة)) فقال رجل: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان منَّا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، وأما من كان منَّا من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة؟ قال: ((أما أهل السعادة فيُيَسَّرون لعمل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسَّرون لعمل الشقاوة، ثم قرأ {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى} (¬1). قال ابن رجب - رحمه الله -: ((ففي هذا الحديث أن السعادة والشقاوة قد سبق الكتاب بهما، وأن ذلك مقدّر بحسب الأعمال، وأن كلاًّ ميسر لما خُلِقَ له من الأعمال التي هي سبب السعادة أو الشقاوة)) (¬2). ولاشك أن الله - عز وجل - إنما يهدي من كان أهلاً للهداية، ويضل من كان أهلاً للضلالة، قال - عز وجل -: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ وَالله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (¬3). وقال - سبحانه وتعالى -: {فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مّمَّا ذُكّرُواْ بِهِ} (¬4). فبين سبحانه أن أسباب الضلالة لمن ضل إنما هي بسبب من العبد نفسه، والله - عز وجل - لا يظلم الناس شيئاً، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، قال - سبحانه وتعالى -: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب موعظة المحدث عند القبر، وقعود أصحابه حوله، 2/ 121، برقم 1362، ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه، وكتابة رزقه وعمله وشقاوته وسعادته، 4/ 2039 برقم 6247. والآيات من سورة الليل: 5 - 10. (¬2) جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم، 1/ 169. (¬3) سورة الصف، الآية: 5. (¬4) سورة المائدة، الآية: 13.

ويجمع الإيمان بالقضاء والقدر أربع مراتب

أَجْرًا عَظِيمًا} (¬1). وقال - عز وجل -: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئًا وَلَكِنَّ الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (¬2). ويجمع الإيمان بالقضاء والقدر أربع مراتب إذا آمن بها العبد فقد استكمل الإيمان بهذا الأصل العظيم. المرتبة الأولى: العلم، فيؤمن العبد إيمانا جازماً أن علم الله محيط بكل شيء، وأنه يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، وأن الله - عز وجل - علم بما الخلق عاملون، بعلمه الأزلي، علم جميع أحوالهم وأعمالهم: من الطاعات، والمعاصي، والأرزاق، والآجال، وعلم حركاتهم، وسكناتهم، ومن منهم من أهل الجنة، ومن منهم من أهل النار، قال - سبحانه وتعالى -: {إِنَّ الله بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬3). وقال - عز وجل -: {وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَيْءٍ عِلْمًا} (¬4) فبنى تقديره - سبحانه وتعالى - لمقادير الخلائق على هذا العلم السابق الأزلي، وقدر مقادير الخلائق: من السعادة والشقاوة وغير ذلك بحسب الأعمال التي سبق علمه بها من خير وشر (¬5). المرتبة الثانية: كتابة الله - عز وجل - لجميع الأشياء والمقادير في اللوح المحفوظ: الدقيقة والجليلة، ما كان وما سيكون. قال - سبحانه وتعالى -: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (¬6)، وقد جمعت هذه الآية بين المرتبتين السابقتين. ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 40. (¬2) سورة يونس، الآية: 44. (¬3) سورة العنكبوت، الآية: 62. (¬4) سورة الطلاق، الآية: 12. (¬5) انظر: جامع العلوم والحكم، لابن رجب 1/ 169. (¬6) سورة الحج، الآية: 70.

المرتبة الثالثة: مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة التي لا يعجزها شيء

وقال - عز وجل -: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (¬1). وقال - سبحانه وتعالى -: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} (¬2). ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة)) قال: ((وكان عرشه على الماء)) (¬3). وقال عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - لابنه: يا بني، إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، قال: ربّ وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة)) يا بني إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من مات على غير هذا فليس مني)) (¬4)، وفي لفظ للإمام أحمد: ((إن أول ما خلق الله تبارك وتعالى القلم، ثم قال اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة)) (¬5). المرتبة الثالثة: مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة التي لا يعجزها شيء فما شاء الله كان، وما لم يشأ لمن يكن، وما في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله - سبحانه وتعالى -، قال الله - عز وجل -: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ الله رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬6). ¬

(¬1) سورة الحديد، الآية: 22. (¬2) سورة يس، الآية: 12. (¬3) صحيح مسلم، كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى، 4/ 2044، برقم 2653، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (¬4) سنن أبي داود، كتاب السنة، باب في القدر، 4/ 225، برقم 4700، واللفظ له، والترمذي، كتاب القدر، باب حدثنا قتيبة، 4/ 457، برقم 2154، وأحمد في المسند، 3/ 317، وصححه العلامة الألباني، في صحيح سنن أبي داود، 3/ 890. (¬5) المسند، 3/ 317. (¬6) سورة التكوير، الآية: 29.

المرتبة الرابعة: الخلق، فالله - عز وجل - خالق كل شيء، وما سواه مخلوق له - سبحانه وتعالى -

المرتبة الرابعة: الخلق، فالله - عز وجل - خالق كل شيء، وما سواه مخلوق له - سبحانه وتعالى -، لا إله غيره ولا رب سواه. قال - عز وجل -: {الله خَالِقُ كُلّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (¬1)،ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -،ونهاهم عن معصيته، وهو سبحانه يحب المحسنين، والمتقين، والمقسطين، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يحب الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد، وهو الحكيم العليم (¬2). وعلى العبد أن يبذل الأسباب، ويسأل الله التوفيق والهداية، ويعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ولا يظلم مثقال ذرة، قال - سبحانه وتعالى -: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬3). فينبغي للمسلم أن يعقد قلبه على هذا الأصل معتمداً على الأدلة من الكتاب والسنة، ولا يخوض فيما لا علم له به، ويحث الناس على النشاط والقوة، والاستعانة بالله وتفويض المقادير إلى الله - عز وجل - وأن يتركوا العجز والكسل (¬4)، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا، ولكن قل: قَدَرُ الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان)) (¬5)، ولهذه ¬

(¬1) سورة الزمر، الآية: 62. (¬2) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 3/ 148. (¬3) سورة الزلزلة، الآيتان: 7 - 8. (¬4) انظر: الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية، للإمام ابن بطة، ((كتاب الإيمان))، 1/ 218 - 220، و ((كتاب القدر)) 1/ 267، 273، 323، و2/ 307، وأصول السنة لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الأندلسي، الشهير بابن أبي زمنين، 197 - 206. (¬5) أخرجه مسلم،4/ 2052،كتاب العلم، باب الإيمان بالقدر والإذعان له، برقم 2664.

4 - الابتعاد والحذر كل الحذر من الاغترار بالأعمال

العقيدة السليمة قال الله تعالى: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} (¬1). 4 - الابتعاد والحذر كل الحذر من الاغترار بالأعمال: إن من الأمور التي ينبغي للمسلم أن يعتني بها ويوجه الناس إلى الحذر منها: الاغترار بالأعمال؛ ولهذا عندما قتل الرجل نفسه أعظم الصحابة - رضي الله عنهم - ذلك؛ لأنهم نظروا إلى شجاعته، وقتاله العظيم، ولم يعرفوا الباطن، ولا المآل فأعلم الله الخبيرُ العليمُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعاقبة هذا الرجل؛ لسوء مقصده وخبث نيته (¬2)،قال الإمام القرطبي - رحمه الله - في فوائد هذا الحديث: (( ... فيه التنبيه على ترك الاعتماد على الأعمال، والتعويل على فضل ذي العزة والجلال)) (¬3). وقال الإمام النووي - رحمه الله -: ((فيه التحذير من الاغترار بالأعمال، وأنه ينبغي للعبد أن لا يتكل عليها، ولا يركن إليها، مخافة انقلاب الحال للقدر السابق، وكذا ينبغي للعاصي أن لا يقنط ولغيره أن لا يُقنّطه من رحمة الله)) (¬4)؛ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((سدّدوا وقارِبوا، وأبشِروا، فإنه لن يُدخلَ الجنةَ أحداً عملُهُ)) قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا، إلا أن يتغمدَّنيَ الله منه برحمة. واعلموا أن أحبَّ العمل إلى الله أدومُه وإن قلَّ)) (¬5). وقد مدح الله الخائفين على أعمالهم الصالحة يخشون أن لا تقبل منهم، فقال - عز وجل -: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبّهِمْ ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 51. (¬2) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي،1/ 318. (¬3) المرجع السابق، 1/ 318. (¬4) شرح النووي على صحيح مسلم، 2/ 486. (¬5) متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها: البخاري، كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل، 7/ 233، برقم 6464، ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب لن يدخل الجنة أحد بعمله بل برحمة الله،4/ 2171،برقم 2818.

5 - الجمع بين الخوف والرجاء:

رَاجِعُونَ} (¬1)، قالت عائشة رضي الله عنها للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أهو الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر؟ قال: ((لا يا بنت أبي بكر [أو يا بنت الصّدّيق]، ولكنه الرجل يصوم، ويتصدق، ويصلي، ويخاف أن لا يتقبل منه)) (¬2). فينبغي للمسلم أن يعلم أن الاعتماد على الله - عز وجل - في كل شيء، والطمع في رحمته مع إحسان العمل وإخلاصه لله - عز وجل - وعدم الغرور والإعجاب بالأعمال. والله المستعان. 5 - الجمع بين الخوف والرجاء: يظهر من الحديث السابق أنه ينبغي للمسلم أن يجمع بين الخوف والرجاء؛ لأن الإنسان لا يدري هل هو من أهل الجنة أو من أهل النار، وقد ذكر ابن حجر - رحمه الله - عن ابن بطال - رحمه الله - أنه قال: ((في تغييب خاتمة العمل عن العبد حكمة بالغة، وتدبير لطيف؛ لأنه لو علم وكان ناجياً أُعجب وكسل، وإن كان هالكاً ازداد عتوّاً، فحُجِب عنه ذلك؛ ليكون بين الخوف والرجاء)) (¬3). فالأمن من مكر الله - عز وجل - ينافي كمال التوحيد؛ ولهذا قال الله - عز وجل -: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} (¬4). وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رأيت الله يعطي العبدَ من الدنيا على معاصيه ما يحبُّ فإنما هو استدراج)) (¬5).ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا ¬

(¬1) سورة المؤمنون، الآية: 60. (¬2) ابن ماجه، كتاب الزهد، باب التوقي في العمل،2/ 1404،برقم 4198،والترمذي كتاب تفسير القرآن، باب ((ومن سورة المؤمنون))،5/ 327،برقم 3175،وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 162،وفي صحيح سنن ابن ماجه،2/ 409،وصحيح سنن الترمذي، 3/ 80. (¬3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 11/ 330. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 99. (¬5) أحمد في مسنده، 4/ 145، وفي الزهد، ص27 برقم 62، وابن جرير في تفسيره، 11/ 361، برقم 1340، و13241، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 414، وفي تحقيقه لمشكاة المصابيح، 3/ 1436، قال: ((إسناده جيد)).

أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} (¬1). والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله ينافي كمال التوحيد أيضاً؛ ولهذا قال الله - عز وجل -: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} (¬2). وقال - عز وجل -: {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ الْقَوْمُ الكافرون} (¬3). والقنوط: استبعاد الفرج واليأس منه، وهو يقابل الأمن من مكر الله، وكلاهما ذنب عظيم (¬4). وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الكبائر؟ فقال: ((الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله)) (¬5). وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: ((أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله)) (¬6). ومعنى الأمن من مكر الله: أي أمن الاستدراج بما أنعم الله به على عباده من صحة الأبدان، ورخاء العيش، وهم على معاصيهم (¬7). واليأس من روح الله: أي قطع الرجاء من رحمة الله ومن تفريجه للكربات (¬8). والقنوط من رحمة الله: هو أشدُّ اليأس (¬9). ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 44. (¬2) سورة الحجر، الآية: 56. (¬3) سورة يوسف، الآية: 87. (¬4) انظر: فتح المجيد، لشرح كتاب التوحيد، لعبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، 2/ 598. (¬5) أخرجه البزار في مسنده، 1/ 106، برقم 55، [مختصر زوائد مسند البزار على الكتب الستة ومسند أحمد] وقال الهيثمي في مجمع الزوائد،1/ 104: رواه البزار، والطبراني ورجاله موثوقون. (¬6) أخرجه عبد الرزاق في المصنف، 10/ 459، برقم 19701، والطبراني في المعجم الكبير، 9/ 156، برقم 8783، 8784، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 1/ 104: إسناده حسن. (¬7) انظر: تفسير الطبري [جامع البيان عن تأويل آي القرآن]، 12/ 579، وانظر: 12/ 95 - 97. (¬8) انظر: المرجع السابق، 16/ 233. (¬9) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب القاف مع النون، مادة: ((قنط))، 4/ 113.

وهذا فيه التنبيه على الجمع بين الرجاء والخوف، فإذا خاف فلا يقنط ولا ييأس بل يرجو رحمة الله (¬1). وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على شاب وهو في الموت فقال: ((كيف تجدك؟)) قال: أرجو الله يا رسول الله، وأخاف ذنوبي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو، وآمنه مما يخاف)) (¬2). فينبغي للمسلم أن يكون بين الرجاء والخوف، وقد ذكر بعض علماء نجد أنه يغلّب في الصحة جانب الخوف؛ لأنه إذا غلَّب الرجاء على الخوف فسد القلب، أما في حالة المرض فيغلّب الرجاء، لكن مع الجمع بين الرجاء والخوف في جميع الأحوال (¬3). ولابد أن يكون الرجاء والخوف مع المحبة الكاملة؛ قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -: ((وكان بعض السلف يقول: من عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حَروريٌّ، ومن عبده بالحب وحده فهو زِنديقٌ، ومن عبده بالخوف والرجاء والمحبة فهو موحّد مؤمن، وسبب هذا أنه يجب على المؤمن أن يعبد الله بهذه الوجوه الثلاثة: المحبة, والخوف، والرجاء، ولابد له من جميعها، ومن أخل ببعضها فقد أخل ببعض واجبات الإيمان)) (¬4)، وكلام بعض الحكماء يدل على أن ¬

(¬1) انظر: فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد، للعلامة عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، 2/ 601. (¬2) الترمذي، كتاب الجنائز: باب حدثنا عبد الله بن أبي زياد، 3/ 302، برقم 983، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له، 2/ 1423 برقم 4261، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1051. (¬3) انظر: فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد، لعبد الرحمن بن حسن، 2/ 602، وتيسير العزيز الحميد، لسليمان بن محمد بن عبد الله بن عبد الوهاب، ص511. (¬4) التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار، للحافظ أبي الفرج زين الدين عبد الرحمن بن أحمدبن رجب، ص25.

6 - يرضى بقدر الله وقضائه - سبحانه وتعالى -

الحب ينبغي أن يكون أغلب من الخوف والرجاء (¬1). وأسأل الله - عز وجل - أن يرزقني وجميع المسلمين خشيته في السر والعلانية. 6 - يَرضى بقدر الله وقضائه - سبحانه وتعالى -: لاشك أن الرضا بالقضاء الذي هو وصف الله - عز وجل - واجب: كعلمه، وكتابته، ومشيئته، وخلقه؛ فإن الرضى بذلك من تمام الرضا بالله ربّاً، ومالكاًً، ومدبراً، وإلهاً؛ لأنه كله خير، وعدل، وحكمة يجب الرضى به كله (¬2). وأما القضاء الذي هو المقضي فهو نوعان: النوع الأول: ديني شرعي يجب الرضا به، وهو من لوازم الإسلام، كقول الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} (¬3). وكقوله تعالى: {فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيمًا} (¬4). النوع الثاني: الكوني القدري، فهذا النوع على ثلاثة أقسام: القسم الأول: يجب الرضا به: كالنعم التي يجب شكرها ومن تمام شكرها الرضا بها. القسم الثاني: لا يجوز الرضا به: كالمعائب، والذنوب التي يسخطها الله. القسم الثالث: ما يستحب الرضا به على الصحيح ولا يجب: كالمصائب، من مرض، أو فقر، أو حصول مكروه، أو فقد محبوب، أو نحو ذلك؛ فيجب الصبر على ذلك، أما الرضا الذي هو مع ذلك طمأنينة القلب وسكونه، وتسليمه عند المصيبة، وأن لا يكون فيه تمني أنها ما كانت فهذه لا يجب على الصحيح بل يستحب؛ لأن فيه صعوبة ¬

(¬1) انظر: المرجع السابق، ص25. (¬2) شفاء العليل، لابن القيم، 2/ 761 - 763، وانظر: الأسئلة والأجوبة الأصولية على العقيدة الواسطية، لعبد العزيز السلمان، ص281. (¬3) سورة الإسراء، الآية: 23. (¬4) سورة النساء، الآية: 65.

7 - لا ينسب الشر إلى الله - عز وجل -

جداً على النفوس عند أكثر الخلق؛ فلهذا لم يوجبه الله ولا رسوله وإنما هو من الدرجات العالية، وهو مأمور به استحباباً (¬1). وهذا كله في الرضا بالقضاء الذي هو المقضي، وأما القضاء الذي هو وصفه سبحانه وفعله: كعلمه، وكتابته، وتقديره، ومشيئته، وخلقه، فالرضا به من تمام الرضا به ربّاً، وإلهاً، ومالكاً، ومدبراً، فبهذا التفصيل يتبين الصواب، ويزول اللبس في هذه المسألة العظيمة التي هي مفرق طرق بين الناس (¬2) (¬3). قال شيخنا عبد العزيز بن عبد الله ابن باز -رحمه الله-: ((عند المصيبة ثلاثة أمور: الصبر وهو واجب، والرضى سنة، والشكر أفضل)) (¬4). 7 - لا يُنسب الشرُّ إلى الله - عز وجل -؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعاء الاستفتاح في صلاة الليل: ((وجهت وجي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا ¬

(¬1) شفاء العليل، لابن القيم، 2/ 762 - 763، وانظر: الأسئلة والأجوبة الأصولية على العقيدة الواسطية للسلمان، ص281، والدرر البهية شرح القصيدة التائية في حل المشكلة القدرية لشيخ الإسلام ابن تيمية، شرح الشيخ عبد الرحمن السعدي، ص51 - 53، ومنهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية، 3/ 203 - 209، والاستقامة له، 2/ 73 - 76، وشرح الطحاوية، ص258، والإيمان بالقضاء والقدر للشيخ إبراهيم الحمد، ص115 - 117، وشرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين، ص543، والمنتقى من فرائد الفوائد له، ص109. (¬2) شفاء العليل، لابن القيم، 2/ 762 - 763. (¬3) قال العلامة ابن عثيمين - رحمه الله -: ((الرضى بالقضاء الذي هو وصف الله وفعله واجب مطلقاً؛ لأنه من تمام الرضا بالله ربًّا. وأما القضاء الذي هو المقضي فالرضا به مُختلفٌ: فإن كان المقضي دينيّاً وجب الرضا به مطلقاً. وإن كان كونيّاً فإما أن يكونه نعماً أو نقماً أو طاعات، أو معاصي: فالنعم يجب الرضا بها؛ لأنه من تمام شكرها، وشكرها واجب. وأما النقم: كالفقر والمرض، ونحوهما، فالرضا بها مستحب عند الجمهور وقيل: بوجوبه. أما الطاعات فالرضا بها طاعة واجبة إن كانت الطاعة واجبة ومستحبة إن كانت مستحبة. وأما المعاصي فالرضى بها معصية، والمكروهات الرضا بها مكروه، والمباحات مباح والله أعلم، المنتقى من فرائد الفوائد، ص109. (¬4) مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 413.

من المشركين، إن صلاتي ونسكي، ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعاً؛ إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله بيديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك)) (¬1). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((والشر ليس إليك)) يبين أن الله - عز وجل - منزه عن الشر، وكل ما نسب إليه فهو خير، والشر إنما صار شرّاً، لانقطاع نسبته إليه، فلو أضيف إليه لم يكن شرّاً. وهو - سبحانه وتعالى - خالق الخير والشر، فالشر في بعض مخلوقاته لا في خلقه وفعله. وخلقه وفعله، وقضاؤه خير كله، فالقدر من حيث نسبته إلى الله لا شر فيه بوجه من الوجوه؛ لأنه علم الله، وكتابته، ومشيئته، وخلقه وذلك خير محض وكمال من كل وجه، فالشر ليس إلى الرب بوجه من الوجوه: لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وإنما الشر يدخل في بعض مخلوقاته فالشر في المقضي لا في القضاء (¬2). فالإيمان بالقدر خيره وشره يراد به المقدور خيره وشره. وقد يكون المقدور خيراً بالنسبة إلى محل، وشرّاً بالنسبة إلى محل آخر، وإن لم يعلم جهة الخير فيها كثير من الناس، مثال ذلك القصاص؛ وإقامة الحدود؛ فإن ذلك شر بالنسبة إليهم لا من كل وجه بل من وجه دون وجه، وخير بالنسبة إلى غيرهم؛ لما فيه من مصلحة الزجر، وكذلك ¬

(¬1) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعائه بالليل، برقم 771. (¬2) انظر: شفاء العليل، لابن القيم،2/ 509 - 536،والإيمان بالقضاء والقدر، لمحمد بن إبراهيم الحمد، ص105 - 108.

8 - يحمد الله على كل حال

الأمراض وإن كانت شروراً من وجه فهي خير من وجوهٍٍ عديدة (¬1). والحاصل أن الشر لا ينسب إلى الله - عز وجل -. 8 - يحمد الله على كل حال؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى ما يحب قال: ((الحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات)) وإذا رأى ما يكره قال: ((الحمد لله على كل حال)) (¬2). ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بعض بناته وهي في السَّوْق (¬3)، فأخذها ووضعها في حجره حتى قُبضت فدمعت عيناه فبكت أمُّ أيمن، فقيل لها: أتبكين عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالت: ألا أبكي ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبكي؟ قال: ((إني لم أبكِ، وهذه رحمة، إن المؤمن تخرج نفسه من بين جنبيه وهو يحمد الله - عز وجل -)) وفي لفظ: فصاحت أم أيمن، فقيل: أتبكين عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: ألست أراكَ تبكي يا رسول الله؟ قال: ((لست أبكي، إنما هي رحمة، إن المؤمن بكل خير على كل حال، إن نفسه تخرج من بين جنبيه وهو يحمد الله - عز وجل -)) (¬4). ¬

(¬1) انظر: شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين، ص542، ومنهاج السنة لابن تيمية، 3/ 142 - 144، والتفسير القيم لابن القيم، ص550 - 556، ومدارج السالكين، 1/ 409 - 412، وبدائع الفوائد، 2/ 214 - 215، وطريق الهجرتين، ص172 - 181، والروضة الندية لابن فياض، ص354 - 360، ودفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب للشيخ العلامة محمد أمين الشنقيطي، ص286 - 287، والحكمة والتعليل في أفعال الله. د. محمد بن ربيع المدخلي، ص199 - 204، وفتاوى ابن تيمية، 14/ 245 - 425. (¬2) ابن ماجه، كتاب الأدب، باب فضل الحامدين، برقم 3803، والحاكم، 1/ 499، وصححه، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 265، وحسنه في صحيح سنن ابن ماجه، 3/ 245. (¬3) السَّوْق: أي النزع كأن روحه تساق لتخرج من بدنه، ويقال: السياق. النهاية لابن الأثير،2/ 424. (¬4) أخرجه أحمد في المسند، 4/ 234، برقم 2412، و4/ 279، برقم 2475، ورقم 2704، وقال المحققون لمسند أحمد في الموضعين: ((إسناده حسن)) وأخرجه الترمذي في الشمائل، برقم 318، وابن أبي شيبة، 3/ 394، وعبد الله بن حميد، برقم 593، والبزار، برقم 808، والنسائي، 4/ 12، ويشهد لقوله: ((هذه رحمة)) ما عند البخاري، برقم 1284، ومسلم، برقم 923 من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال الألباني عن حديث ابن عباس في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1632: ((وهذا إسناد صحيح)).

9 - يحسن الظن بالله تعالى

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((يقول الله - عز وجل -:إن عبدي المؤمن عندي بمنزلة كل خير (¬1) يحمدني، وأنا أنزع نفسه من بين جنبيه)) (¬2). 9 - يحسن الظن بالله تعالى؛ لحديث جابر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل موته بثلاثة أيام يقول: ((لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله - عز وجل -)) (¬3)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي ... )) (¬4). وفي رواية لابن حبان: ((إن الله تعالى يقول: أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن بي خيراً فله، وإن ظن شرّاً فله)) (¬5). قال الإمام النووي - رحمه الله -: قال العلماء: هذا تحذير من القنوط وحث على الرجاء عند الخاتمة، ومعنى حسن الظن بالله تعالى: أن يظن أنه يرحمه ويعفو عنه، قالوا: وفي حالة الصحة يكون خائفاً راجياً، ويكون سواء، وقيل: يكون الخوف أرجح، فإذا دنت أمارات الموت غلَّب الرجاء أو مّحضه؛ لأن مقصود الخوف الانكفاف عن المعاصي والقبائح، والحرص على الإكثار من الطاعات والأعمال، وقد تعذر ذلك، أو معظمه في هذا الحال فاستحب إحسان الظن المتضمن للافتقار إلى الله تعالى، والإذعان له)) (¬6). ويؤيد ذلك حديث جابر الآخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((يبعث كل عبدٍ ¬

(¬1) ((بمنزلة كل خير)) قال السندي: أي في منزلة يستحق فيها كل خير، نقلاً عن حواشي مسند الإمام أحمد المحقق، 14/ 346. (¬2) أحمد في المسند، 14/ 190، برقم 8492، و 14/ 345، برقم 8731، وقال محققو المسند: ((إسناده جيد))، وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان، برقم 4414، والبزار برقم 781، قال العلامة الألباني رحمه الله في سلسلة الأحاديث الصحيحة،4/ 172: ((وقال الهيثمي: إسناده حسن. وهو كما قال)). (¬3) مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، برقم 2877. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} برقم 7405، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب الحث على ذكر الله تعالى، برقم 2675. (¬5) ابن حبان ((موارد)) وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، برقم 1663. (¬6) شرح النووي على صحيح مسلم، 17/ 214 - 215.

10 - يطهر ثيابه ويختار أجملها

على ما مات عليه)) (¬1). قال الإمام النووي - رحمه الله تعالى -: ((معناه يبعث على الحالة التي مات عليها)) (¬2). وعن جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من مات على شيء بعثه الله عليه)) (¬3). 10 - يطهّر ثيابه ويختار أجملها؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه لما حضره الموت، دعا بثياب جُدد، فلبسها، ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها)) (¬4). وقيل: الثياب المراد بها هنا: الأعمال (¬5). 11 - لا يتمنى الموت لضرٍّ نزل به؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يتمنينَّ أحدُكم الموت لضر نزل به، فإن كان لابدَّ متمنياً للموت، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)) (¬6). وعن قيس بن أبي حازم قال: دخلنا على خباب نعوده وقد اكتوى سبع كيَّات فقال: إن أصحابنا الذين سلفوا مضوا ولم تنقصهم الدنيا، وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعاً إلا التراب، ولولا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهانا أن ندعوَ بالموت لدعوت به، ثم أتيناه مرة أخرى وهو يبني حائطاً له فقال: ¬

(¬1) مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، برقم 2878. (¬2) شرح الإمام النووي على صحيح مسلم، 17/ 215. (¬3) أحمد، 3/ 314، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، 1/ 340، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 283. (¬4) أبو داود، كتاب الجنائز، باب ما يستحب من تطهير ثياب الميت عند الموت، برقم 3114، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 278. (¬5) انظر: الاختيارات العلمية من الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص132. (¬6) متفق عليه: البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء بالموت والحياة، برقم 6351، وكتاب المرضى، باب تمني المريض الموت، برقم 5671، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب كراهية تمني الموت لضر نزل به، برقم 2680.

((إن المسلم ليؤجر في كل شيء إلا في شيء يجعله في هذا التراب)) (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لن يُدْخِلَ أحداً عَمَلُهُ الجنة)) قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((لا، ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضلٍ ورحمة)) [وفي لفظ: إلا أن يتغمدني الله برحمةٍ منه وفضلٍ] [وفي لفظ: ((إلا أن يتغمدني الله بمغفرة منه ورحمة]، فسدّدوا، وقاربوا، ولا يتمنى أحدكم الموت إما محسناً فلعلّه أن يزداد خيراً، وإما مسيئاً فلعله أن يستعتب)) (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يتمنينَّ أحدكم الموت ولا يدعو به من قبل أن يأتيه، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً)) (¬3). وعن أم الفضل رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليهم، وعباس عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشتكي فتمنى عباس الموت، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا عمّ! لا تتمنَّ الموت، فإنك إن كنت محسناً فأن تؤخَّر تزدد إحساناً إلى إحسانك خير لك، وإن كنت مسيئاً فأن تؤخر فتستعتب من إساءتك خير لك، فلا تتمنى الموت)) (¬4). وفي حديث عمار - رضي الله عنه - يرفعه وفيه: ((اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي ... )) (¬5). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب المرضى، باب تمني المريض الموت، برقم 5672، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب كراهية تمني الموت لضر نزل به، برقم 2681. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب المرضى، باب تمني المريض الموت، برقم 5673، ومسلم، كتاب صفات المنافقين، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله، بل برحمة الله تعالى، برقم 2816، واللفظ للبخاري إلا ما بين المعقوفات فلمسلم. (¬3) مسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب كراهية تمني الموت لضر نزل به، برقم 2682. (¬4) أحمد، 6/ 339، وأبو يعلى، برقم 7076، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، 1/ 339، والبيهقي، 3/ 377، وانظر: أحكام الجنائز للألباني، ص12. (¬5) النسائي، كتاب السهو، باب نوع آخر، برقم 1304، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 1/ 280، 281.

12 - لا بأس أن يتداوى المريض

12 - لا بأس أن يتداوى المريض؛ لحديث جابر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لكل داءٍ دواءٌ فإذا أُصيب دواءُ الداء برأ بإذن الله تعالى)) (¬1). ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاءً)) (¬2). ولحديث أسامة بن شريك، قال: قالت الأعراب يا رسول الله: ألا نتداوى؟ قال: ((نعم يا عباد الله تداووا؛ فإن الله - عز وجل - لم يضع داءً إلا وضع له دواءً غير داءٍ واحدٍ)) قالوا: يا رسول الله! وما هو؟ قال: ((الهرم))، وفي لفظ لأحمد: ((تداووا عباد الله؛ فإن الله - عز وجل - لم ينزل داء إلا أنزل معه شفاء إلا الموت والهرم)). وفي لفظ لأحمد أيضاً: ((تداووا؛ فإن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، عَلِمَه من عَلِمَه، وجَهِلَهُ من جهله)).وفي لفظ لابن ماجه قالوا: يا رسول الله! ما خير ما أعطي العبد؟ قال: ((خلق حسن)) (¬3). وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يرفعه: ((ما أنزل داءً إلا قد أنزل له شفاء، عَلِمَهُ مَن عَلِمَهُ، وجَهِلَهُ مَن جَهِلَهُ)) (¬4). ولا شك أن الأدوية من قدر الله تعالى (¬5)، وقد قال أبو عبيدة بن الجراح لعمر حينما لم يدخل بالجيش الشام بسبب وجود الطاعون بها: ¬

(¬1) مسلم، كتاب السلام، باب لكل داء دواء واستحباب التداوي، برقم 2204. (¬2) البخاري، كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، برقم 5678. (¬3) أحمد، 4/ 278، والترمذي، كتاب الطب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء في الدواء والحث عليه، برقم 2038، وأبو داود، كتاب الطب، باب في الرجل يتداوى، برقم 3855، وابن ماجه، كتاب الطب، باب ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء، برقم 3436، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، وغيره، 2/ 461. (¬4) أحمد، برقم 3578، 3922، 4236، 4267، 4334، وقال أحمد شاكر في شرحه للمسند، 5/ 200: ((إسناده صحيح)). وأخرجه ابن ماجه، كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، برقم 3438. (¬5) انظر: مسند الإمام أحمد، برقم 15472، 15473، 15474، وزاد المعاد 4/ 14.

((أفراراً من قدر الله؟)) فقال عمر - رضي الله عنه -: ((لو غيرك قالها يا أبا عبيدة - وكان عمر يكره خلافه، نعم نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله ... )) (¬1). قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: ((فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات وإبطال قول من أنكرها، ويجوز أن يكون قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لكل داء دواء)) على عمومه حتى يتناول الأدواء القاتلة، والأدواء التي لا يمكن الطبيب أن يبرئها، ويكون الله - عز وجل - قد جعل لها أدوية تبرئها، ولكن طوى علمها عن البشر، ولم يجعل لهم إليه سبيلاً؛ لأنه لا علم للخلق إلا ما علمهم الله، وهذا أحسن المحملين في الحديث ... )) (¬2). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((هذه الأحاديث تدل على شرعية التداوي بالطرق المباحة، وهو خير من ترك الدواء؛ لأن الدواء يعينه على الطاعة، والمرض قد يعوقه عن الطاعات)) (¬3)، وقال رحمه الله: ((الله قدر الداء وقدَّر الدواء، فكلٌّ من قدر الله)) (¬4)، وسمعته أيضاً يقول: ((ترك الأسباب عجز، والتوكل هو الاعتماد على الله والعمل بالأسباب)) (¬5)، وقال: ((وتعطيل الأسباب فيه فساد الدين والدنيا، أما حديث السبعين [ألف] الذين يدخلون الجنة بغير حساب فهو من باب الأفضلية، وإذا احتاج إلى الاسترقاء، أو الكي فلا حرج)) (¬6). وكنت أسمعه يرجح أن التداوي يكون مستحبّاً فقط، ولا يكون واجباً ¬

(¬1) متفق عليه في قصة طويلة: البخاري، كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون، برقم 5729،ومسلم، كتاب السلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها، برقم 2219. (¬2) زاد المعاد، 4/ 14. (¬3) سمعته أثناء تقريره على زاد المعاد، 4/ 13. (¬4) سمعته أثناء تقريره على زاد المعاد، 4/ 14. (¬5) سمعته أثناء تقريره على زاد المعاد، 4/ 15. (¬6) سمعته أثناء تقريره على زاد المعاد، 4/ 16.

على الصحيح. وذكر العلامة ابن عثيمين - رحمه الله تعالى - خلاف العلماء: القول الأول: منهم من قال: يجب التداوي. القول الثاني: منهم من قال: يستحب ولا يجب. القول الثالث: منهم من قال: ترك التداوي أفضل، ولا ينبغي أن يتداوى الإنسان. القول الرابع: قال بعض العلماء: إذا كان الدواء مما عُلِمَ أو غَلَبَ على الظن نفعه بحسب التجارب فهو أفضل، وإن كان من باب المخاطرة فتركه أفضل. قال: والصحيح أنه يجب إذا كان في تركه هلاك، مثل: السرطان الموضعي، والسرطان الموضعي بإذن الله إذا قطع الموضع الذي فيه السرطان، فإنه ينجو منه، لكن إذا انتشر في البدن، وكانت النتيجة هي الهلاك، فهذا يكون دواء معلوم النفع؛ لأنه موضعي يقطع ويزول، وقد خرق الخضر السفينة، لإنجاء جميعها، فكذلك البدن إذا قطع بعضه من أجل نجاة باقيه كان ذلك واجباً، وعلى ذلك فالأقرب أن يقال ما يلي: أ - أن ما عُلِمَ أو غلب على الظن نفعه مع احتمال الهلاك بعدمه فهو واجب. ب - أن ما غلب على الظن نفعه، ولكن ليس هناك هلاك محقق بتركه فهو أفضل؛ لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك؛ ولأنه من الأسباب النافعة، والإنسان ينتفع بوقته ولاسيما المؤمن المغتنم للأوقات كل ساعة تمر عليه تنفعه؛ ولأن المريض يكون ضيق النفس لا يقوم بما ينبغي من الطاعات، وإذا عافاه الله انشرح صدره، وانبسطت نفسه، وقام بما ينبغي أن يقوم به من العبادات، فيكون الدواء إذاً مراداً لغيره فيُسنُّ.

13 - يرقي نفسه

ج - أن ما تساوى فيه الأمران فتركه أفضل؛ لئلا يلقي الإنسان بنفسه إلى التهلكة من حيث لا يشعر (¬1). 13 - يرقي نفسه؛ لحديث عثمان بن أبي العاص - رضي الله عنه - أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعاً يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ضع يدك على الذي تألَّم من جسدك، وقل: بسم الله ثلاثاً، وقل سبع مرات: أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر)) (¬2). وعن عائشة رضي الله عنها ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينفث على نفسه في مرضه الذي مات فيه بالمعوذات، فلما ثَقُلَ كنت أنا أنفث عليه بهنَّ وأمسح بيد نفسه لبركتها)) قال الراوي: فسألت ابن شهاب الزهري: كيف كان ينفث؟ قال: كان ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه، ولفظ مسلم: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عنه بيده رجاء بركتها)) (¬3). 14 - يؤدّي الحقوق لأصحابها إن تيسر له ذلك، وإلا كتبها، وأوصى بها واستعجل بذلك؛ لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره، ومن مات وعليه دين فليس ثم دينار ولا درهم ولكنها الحسنات والسيئات، ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه حُبِسَ في ردغة الخبال (¬4) ¬

(¬1) الشرح الممتع، لابن عثيمين، 4/ 299 - 302، ببعض التصرف. (¬2) مسلم، كتاب السلام، باب استحباب وضع يده على موضع الألم مع الدعاء، برقم 2202. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الطب، باب الرقى بالقرآن والمعوذات، برقم 5735، وباب المرأة ترقي الرجل، برقم 5751، ومسلم، كتاب السلام، باب رقية المريض بالمعوذات، برقم 2192. (¬4) ردغة الخبال: الردغة بسكون الدال وفتحها: طين ووحل كثير، وتجمع على ردغ ورداغ. والخبال: عصارة أهل النار، والخبال في الأصل: الفساد، ويكون في الأفعال والأبدان والعقول. النهاية في غريب الحديث لابن الأثي، ر 2/ 8، و2/ 215.

حتى يأتي بالمخرج مما قال)) (¬1). وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما حضر أحدٌ دعاني أبي من الليل فقال: ما أراني إلا مقتولاً في أول من يقتل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإني لا أترك بعدي أعزَّ عليَّ منك غير نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن عليَّ ديناً فاقضِ واستوصِ بأخواتك خيراً، فأصبحنا فكان أول قتيل، ودفن معه آخر في قبرٍ ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع الآخر فاستخرجته بعد ستة أشهر فإذ هو كيوم وضعته هنيّةً غير أذنه [فجعلته في قبر على حدة] (¬2). ويستعجل في مثل هذه الوصية الواجبة في الحقوق التي تلزمه: كالحج إن لم يحج، والدَّين، والنذر، والكفَّارات، والودائع وغير ذلك؛ فإنه يلزمه أن يوصي بهذه الحقوق (¬3)؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت لليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده)) (¬4). والمعنى ما الحزم والاحتياط للمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده إذا كان له شيء يريد أن يوصي فيه؛ لأنه لا يدري متى تأتيه المنية فتحول بينه وبين ما يريد من ذلك (¬5)؛ ولهذا قال ابن عمر رضي الله عنهما: ((ما مرت عليَّ ليلة منذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك إلا وعندي وصيتي)) (¬6). ¬

(¬1) الحاكم وصححه ووافقه الذهبي،1/ 27،وصححه الألباني في أحكام الجنائز، ص13. (¬2) البخاري، كتاب الجنائز، باب هل يخرج الميت من القبر واللحد لعلة، برقم 1351، وما بين المعقوفين من الطرف رقم 1352. (¬3) انظر: الاستذكار لابن عبد البر، 23/ 7، وشرح النووي على صحيح مسلم، 11/ 84، وفتح الباري، لابن حجر، 5/ 395، وشرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك، 7/ 74، وقال الإمام الشوكاني في نيل الأوطار، 4/ 61: ((وعرف من مجموع ما ذكرنا أن الوصية قد تكون واجبة، وقد تكون مستحبة)). (¬4) مسلم، كتاب الوصية، برقم 1627. (¬5) انظر: فقه الدعوة في صحيح البخاري، للمؤلف، 1/ 50. (¬6) مسلم، برقم 4 - (1627).

قال العلامة عبد الرحمن القاسم: ((والمعنى: لا ينبغي له أن يمضي عليه زمان وإن كان قليلاً إلا ووصيته مكتوبة عنده، وذكر الليلتين تأكيد لا تحديد، فلا ينبغي أن يمضي عليه زمان وإن كان قليلاً إلا ووصيته مكتوبة عنده؛ لأنه لا يدري متى يدركه الموت)) (¬1). فيجب على المسلم المريض وغيره أن يحذر الظلم؛ ولهذا قال عمر - رضي الله عنه - مولاه: ((واتق دعوة المظلوم؛ فإن دعوة المظلوم مستجابة)) (¬2). وقد حذر الله - عز وجل - من الظلم فقال: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مّن قَبْلُ مَا لَكُم مّن زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ} (¬3). وقال - عز وجل -: {يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (¬4). وقال - عز وجل -: {وَجَزَاءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (¬5). وقال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (¬6). ¬

(¬1) حاشية الروض المربع، 2/ 15. (¬2) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب إذا أسلم قوم في دار الحرب ولهم مال وأرضون فهي لهم، برقم 3059. (¬3) سورة إبراهيم، الآيات: 42 - 45. (¬4) سورة غافر، الآية: 52. (¬5) سورة الشورى، الآية: 40. (¬6) سورة لقمان، الآية: 13.

وعن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن الله تبارك وتعالى أنه قال: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ... )) (¬1). وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)) (¬2). وقد ثبت عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرَّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)) (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أتدرون من المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال: ((إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار)) (¬4). والظالم يؤدي ما عليه من حقوق الخلق حتى البهائم يقتصُّ بعضها من بعض؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لتؤدَّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)) (¬5). ¬

(¬1) مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، 4/ 1994، برقم 2577. (¬2) مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، 4/ 1996، برقم 2578. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب المظالم، باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه، 3/ 134، برقم 2442، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم 4/ 1996، برقم 2580. (¬4) مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، 4/ 1997، برقم 2581. (¬5) مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، 4/ 1997، برقم 2582، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

والظلم للعباد يوجب النار وإن كان يسيراً، فعن أبي أمامة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من اقتطع حق امرئٍ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة)) فقال له رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ قال: ((وإن كان قضيباً من أراك)) (¬1). والله - عز وجل - وإن أمهل الظالم وذهبت الأيام والشهور، فإنه لا يغفل عنه ولا ينساه؛ ولهذا ثبت من حديث أبي موسى - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله - عز وجل - يملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته)) (¬2)، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (¬3). وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بنصر المظلوم، فقال: (( ... ولينصر الرجل أخاه ظالماً أو مظلوماً، إن كان ظالماً فلينهه فإنه له نصر، وإن كان مظلوماً لينصره)) (¬4). وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)) قالوا: يا رسول الله هذا ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً؟ قال: ((تأخذ فوق يديه)) (¬5). وينبغي لكل مسلم أن يتحلل من كانت له عنده مظلمة قبل أن يكون الوفاء من الحسنات؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ ¬

(¬1) مسلم، كتاب الإيمان، باب وعيد من اقتطع حق المسلم بيمين فاجرة بالنار،1/ 122،برقم 137. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة هود، باب قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}، 5/ 1997، برقم 2583. (¬3) سورة هود، الآية: 102. (¬4) مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، 4/ 1998، برقم 2584. (¬5) البخاري، كتاب المظالم، باب أعن أخاك ظالماً أو مظلوماً، 3/ 135، برقم 2445.

من سيئات صاحبه فَحُمِلَ عليه)) (¬1). وقد يكون الظلم للرعية أو الأهل والذرية فيستحق الظالم العقاب على ذلك، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) (¬2). وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من دعوة المظلوم، قال - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه -: (( ... واتق دعوة المظلوم؛ فإنها ليس بينها وبين الله حجاب)) (¬3). ومن أمثلة ذلك قصة سعيد بن زيد مع أروى بنت أويس؛ فإنها ادَّعتْ عليه أنه أخذ شيئاً من أرضها، فخاصمته إلى مروان بن الحكم فقال: ((أنا كنت آخذ من أرضها شيئاً بعد الذي سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: وما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من أخذ شبراً من الأرض ظلماً طوّقه إلى سبع أرضين (¬4) يوم القيامة)) فقال له مروان: لا أسألك بينة بعد هذا، فقال: اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها، واقتلها في أرضها [وفي رواية: واجعل قبرها في دارها]، قال: فرأيتها عمياء تلتمس الجدر تقول: أصابتني دعوة سعيد بن زيد، فبينما هي تمشي في الدار [وفي رواية: تمشي في أرضها] مرت على بئر في ¬

(¬1) البخاري، كتاب المظالم، باب من كانت له مظلمة عند رجل فحللها له هل يبين مظلمته؟ 3/ 136، برقم 2449، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) متفق عليه: من حديث معقل بن يسار: البخاري، كتاب الأحكام، باب من استرعي رعية فلم ينصح، 8/ 136، برقم 7151، ومسلم، كتاب الإيمان، باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار، 1/ 125، برقم 142، واللفظ له. (¬3) متفق عليه: من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: البخاري، كتاب المظالم، باب الاتقاء والحذر من دعوة المظلوم، 3/ 136، برقم 2448، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، 1/ 50، برقم 19. (¬4) طوقه إلى سبع أرضين: يحتمل أن يكون معناه: يحمل مثله من سبع أرضين ويكلف إطاقة ذلك، ويحتمل أن يكون يجعل له كالطوق في عنقه ويطول الله عنقه كما جاء في غلظ جلد الكافر وعظم ضرسه، وقيل معناه: أنه يطوق إثم ذلك ويلزمه كلزوم الطوق في عنقه. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 11/ 53.

الدار، فوقعت فيها، فكانت قبرها)) (¬1). ومن صور استجابة دعوة المظلوم على من ظلمه، قصة سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - فعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: ((شكا أهل الكوفة سعداً إلى عمر - رضي الله عنه - فعزله واستعمل عليهم عماراً، فشكوا حتى ذكروا أنه لا يُحسن يصلي، فأرسل إليه فقال: يا أبا إسحاق إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي، قال أبو إسحاق: أما أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أخرِمُ عنها، أصلي صلاة العشاء فأركد في الأوليين وأخفف في الأخريين، قال: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق، فأرسل معه رجلاً أو رجالاً إلى الكوفة، فسأل عنه أهل الكوفة، ولم يدع مسجداً إلا سأل عنه، ويثنون معروفاً حتى دخل مسجداً لبني عبس فقام رجل منهم يقال له أسامة بن قتادة يُكنى أبا سعدة، قال: أما إذا نشدتنا فإن سعداً كان لا يسير في السرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية. قال سعد: أما والله لأدعون بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذباً قام رياء وسمعة فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن، وكان بعد إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد، قال عبد الملك: فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن (¬2). والأحاديث تؤكد على أن دعوة المظلوم مستجابة حتى ولو كان فاجراً فاسقا، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((دعوة المظلوم ¬

(¬1) أصل الحديث متفق عليه عن سعيد بين زيد - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب المظالم، باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض، 3/ 137، برقم 2452، ومسلم، كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، 3/ 1230، برقم 1610، واللفظ لمسلم مع سبب ورود الحديث. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر، وما يجهر فيه وما يخافت، 1/ 206، برقم 755، واللفظ والقصة له، ومسلم بنحوه، كتاب الصلاة، باب القراءة في الظهر والعصر، 1/ 334، برقم 453.

القسم الأول: ظلم النفس، وهو نوعان:

مستجابة وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه)) (¬1). وقد ذكر الإمام ابن عبر البر - رحمه الله - آثاراً كثيرة عن السلف الصالح يحذرون فيها من الظلم ويبينون فيها استجابة دعوة المظلوم، ثم قال - رحمه الله -: ولقد أحسن القائل: نامت جفونك والمظلوم منتبه ... يدعو عليك وعين الله لم تنم (¬2) والظلم في الحقيقة: وضع الأشياء في غير مواضعها (¬3)، وهو على قسمين: القسم الأول: ظلم النفس، وهو نوعان: النوع الأول: ظلم النفس بالشرك الذي لا يغفره الله إذا مات العبد عليه قبل التوبة منه. النوع الثاني: ظلمها بالمعاصي التي يكون صاحبها تحت المشيئة إذا لم يتب منها، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه بقدر معصيته ثم يخرجه من النار ويدخله الجنة، بعد التطهير من إثم المعصية. القسم الثاني: ظلم العبد لغيره من الخلق وهذا لا يترك الله منه شيئاً بل يعطي المظلوم حقه من الظالم ما لم يستحلّه في الدنيا (¬4). والله - عز وجل - إذا عاقب الظالمين على ظلمهم لم يظلمهم؛ ولهذا قال - عز وجل -: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئًا وَلَكِنَّ الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (¬5). قال - عز وجل -: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ ¬

(¬1) أحمد في المسند، 2/ 367، وابن أبي شيبة في المصنف، 10/ 275، وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري، 3/ 360: ((وإسناده حسن))، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 2/ 407،برقم 767. (¬2) الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار، 27/ 438. (¬3) انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب، 2/ 35. (¬4) انظر: المرجع السابق، 2/ 36. (¬5) سورة يونس، الآية: 44.

15 - يشرع له أن يوصي بالثلث فأقل لغير وارث

مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} (¬1). وقال - سبحانه وتعالى -: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لّلْعَبِيدِ} (¬2). وقال سبحانه: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا} (¬3). أسأل الله العافية لي ولجميع المسلمين في الدنيا والآخرة. 15 - يشرع له أن يوصي بالثلث فأقل لغير وارث، ويشهد على ذلك؛ ولاشك أن الصدقة في حال الصحة أعظم أجراً؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال: ((أن تَصدَّقَ وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر، وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان)) (¬4). وعن أبي حبيبة الطائي قال: أوصى إليَّ أخي بطائفة من ماله، فلقيت أبا الدرداء فقلت: إن أخي أوصى إلي بطائفة من ماله فأين ترى لي وضعه: في الفقراء، أو في المساكين، أو المجاهدين في سبيل الله؟ فقال: أما أنا فلو كنت لم أعدل بالمجاهدين، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مثل الذي يعتق عند الموت كمثل الذي يهدي إذا شبع))، ولفظ النسائي: ((مثل الذي يعتق أو يتصدق عند موته مثل الذي يهدي بعدما يشبع)) (¬5). ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 40. (¬2) سورة فصلت، الآية: 46. (¬3) سورة طه، الآية: 112. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الزكاة، باب فضل صدقة الشحيح الصحيح، برقم 1419، ومسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح، برقم 1032. (¬5) الترمذي، كتاب الوصايا، باب ما جاء في الرجل يتصدق أو يعتق عند الموت، برقم 2123، والنسائي، كتاب الوصايا، باب الكراهية في تأخير الوصية، برقم 3644، وقال الترمذي: ((هذا حديث حسن صحيح))، قال عبد القادر الأرنؤوط في تخريجه لجامع الأصول، 11/ 628: ((وهو كما قال))، أي كما قال الترمذي، وقال: ((ورواه أحمد والدارمي وغيرهما))، وضعفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي، ص206 وفي ضعيف سنن النسائي، ص115.

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تصدَّق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة لكم في أعمالكم)) (¬1). ولا يزيد في الوصية على الثلث؛ لحديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: عادني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع من وجع أشفيت منه على الموت، قلت: يا رسول الله بلغ بي ما ترى من الوجع وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلث مالي؟ قال: ((لا))، قلت: أفأتصدق بشطره؟ قال: ((لا))، ثم قال: ((الثلث والثلث كبير))، أو كثير ((إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكفَّفون الناس، وإنك لن تُنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك)) (¬2). قال: قلت: يا رسول الله أُخلَّفُ بعد أصحابي؟ قال: ((إنك لن تُخلَّف فتعمل عملاً صالحاً تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة، ثم لعلك تخلّف حتى ينتفع بك أقوام ويضرُّ بك آخرون ... )) وفي لفظ لمسلم: ((عادني النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: أوصي بمالي كله؟ فقال: ((لا))، قلت: فالنصف؟ فقال: ((لا))، قلت: أبالثلث؟ فقال: ((نعم، والثلث كثير)). والأفضل أن يوصي بأقل من الثلث والثلث جائز؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: لو غضَّ الناس إلى الربع؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الثلث ¬

(¬1) ابن ماجه، كتاب الوصايا، باب الوصية بالثلث، برقم 2709،وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 365،وفي إرواء الغليل، برقم 1641،وذكر له شواهد كثيرة. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب رثاء النبي - صلى الله عليه وسلم - سعد بن خولة، برقم 1295، ومسلم، كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث، برقم 1628.

والثلث كثير)) (¬1). ولا وصية لوارث؛ لحديث أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته عام حجة الوداع: ((إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث)) (¬2). أما الوصية للوالدين والأقربين الذين يرثون الموصي فهي منسوخة بآية الميراث، فعن ابن عباس رضي الله عنهما: {إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ} فكانت الوصية كذلك حتى نسختها آية الميراث)) (¬3). قال العلامة السعدي - رحمه الله -: ((واعلم أن جمهور المفسرين يرون أن هذه الآية منسوخة بآية المواريث، وبعضهم يرى أنها في الوالدين والأقربين غير الوارثين، مع أنه لم يدل على التخصيص بذلك دليل، والأحسن في هذا أن يقال: إن هذه الوصية للوالدين والأقربين مجملة ردَّها الله تعالى إلى العرف الجاري، ثم أن الله تعالى قدر للوالدين الوارثين وغيرهما من الأقارب الوارثين هذا المعروف في آيات المواريث بعد أن كان مجملاً، وبقي الحكم فيمن لم يرثوا من الوالدين الممنوعين من الإرث وغيرهما، ممن حجب بشخص أو وصف، فإن الإنسان مأمور بالوصية لهؤلاء، وهم أحق الناس ببره، وهذا القول تتفق عليه الأمة، ويحصل به الجمع بين القولين المتقدمين؛ لأن ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الوصايا، باب الوصية بالثلث، برقم 2743، ومسلم، كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث، برقم 1629. (¬2) الترمذي، كتاب الوصايا، باب ما جاء لا وصية لوارث، برقم 2120، وابن ماجه، كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث، برقم 2713، وأبو داود، كتاب الوصايا، باب ما جاء في الوصية للوارث، برقم 2870، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 207: ((حسن صحيح)). وأخرجه النسائي في كتاب الوصايا، باب إبطال الوصية للوارث، من حديث عمرو بن خارجة، برقم 3643، 3644، 3645، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 2/ 554. (¬3) أبو داود، كتاب الوصايا، باب ما جاء في نسخ الوصية للوالدين والأقربين، برقم 2869، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 207: ((حسن صحيح)).

16 - يحرم عليه الإضرار في الوصية

كلاًّ من القائلين بهما كل منهم لحظ ملحظاً واختلف المورد، فبهذا الجمع يحصل الاتفاق والجمع بين الآيات، فإن أمكن الجمع كان أحسن من ادّعاء النسخ الذي لم يدلَّ عليه دليل صحيح)) (¬1). ويشهد على وصيته رجلان عدلان من المسلمين، فإن لم يوجدا فرجلان من غير المسلمين، على أن يستوثق منهما عند الشك بشهادتهما حسبما جاء بيانه في قول الله تبارك وتعالى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِالله إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِالله لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا الله وَاسْمَعُواْ وَالله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (¬2). 16 - يحرم عليه الإضرار في الوصية؛ لقول الله تعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مّنَ الله وَالله عَلِيمٌ حَلِيمٌ} (¬3)؛ ولحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا ضرر ولا ضرار، من ضارَّ ضارَّه الله، ومن شاقَّ شاقَّ الله عليه)) (¬4). ((والإضرار في الوصية من الكبائر)) (¬5)،قال الإمام الشوكاني: ((ثبت عن ابن ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص68. (¬2) سورة المائدة، الآيات: 106 - 108. (¬3) سورة النساء، الآية: 12. (¬4) الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، 2/ 57 - 58، وحسنه الألباني في أحكام الجنائز، ص16، وانظر: إرواء الغليل، رقم 896. (¬5) قال الإمام الشوكاني في نيل الأوطار، 4/ 61: ((رواه سعيد بن منصور موقوفاً ورواه النسائي مرفوعاً، ورجاله ثقات)).

عباس رضي الله عنهما (¬1) وقد جاء الوعيد لمن ضارّ في الوصية (¬2)،قال ابن الأثير - رحمه الله تعالى -: ((المضارّة: إيصال الضرر إلى شخص، ومعنى المضارة في الوصية: أن لا يمضيها، أو ينقص منها، أو يوصي لغير أهلها ونحو ذلك)) (¬3). ومن الإضرار بالوصية: الوصية بالمال كله؛ لحديث عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رجلاً أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجزأهم أثلاثاً ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين)) (¬4). وفي لفظ: ((فقال له قولاً شديداً)) (¬5). وفي لفظ لأحمد: ((أن رجلاً أعتق عند موته ستة رَجْلَةٍ (¬6) فجاء ورثته من الأعراب فأخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما صنع، قال: ((أوفعل ذلك؟)) قال: ((لو علمنا إن شاء الله ما صلينا عليه)) قال: فأقرع بينهم فأعتق منهم اثنين (¬7). وعن أبي زيد الأنصاري ((أن رجلاً أعتق ستة أعبدٍ عند موته ليس له مال غيرهم، فأقرع بينهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأعتق اثنين وأرق أربعة)) (¬8). ¬

(¬1) المرجع السابق، 4/ 61. (¬2) رُوي مرفوعاً عن أبي هريرة وفيه شهر بن حوشب: ((إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار، ثم قرأ أبو هريرة: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ} [حتى بلغ] {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أبو داود في الوصايا، برقم 2867، والترمذي، برقم 2118، وابن ماجه، برقم 2704 وأحمد، برقم 7742 ولكن فيه: ((إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة))، ولكن الحديث ضعفه الألباني وغيره، وقد حسنه الترمذي، وقال عبد القادر الأرنؤوط في جامع الأصول،11/ 626: ((ولكن له شاهد بمعناه من حديث ابن عباس ((الإضرار في الوصية من الكبائر)).رواه سعيد بن منصور موقوفاً بإسناد صحيح، والنسائي مرفوعاً ورجاله ثقات)).انتهى كلام الشيخ عبد القادر. (¬3) جامع الأصول لابن الأثير، 11/ 626. (¬4) لفظ مسلم، كتاب الإيمان، باب من أعتق شركاً في عبد، برقم 1668. (¬5) لفظ أبي داود، برقم 3958، وقال الألباني: صحيح الإسناد، وهو لفظ الترمذي أيضاًً، برقم 1364. (¬6) جمع رجل. (¬7) أحمد، برقم 20009، واللفظ من هذا الموضع، وأخرجه برقم 19932، ورقم 19826، ورقم 20001، وانظر: أحكام الجنائز للألباني، ص17. (¬8) أحمد، برقم 22891، 22892.

17 - يقلم أظفاره ويحلق عانته، ويأخذ من شاربه إن كان له شارب

وزاد أبو داود: ((وقال: يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لو شهدته قبل أن يدفن لم يدفن في مقابر المسلمين)) (¬1). 17 - يقلم أظفاره ويحلق عانته، ويأخذ من شاربه إن كان له شارب؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة خبيب، وفيه أن خبيباً - رضي الله عنه - عندما علم بأن المشركين أجمعوا على قتله استعار من ابنة الحارث موسى يستحد به، فأعارته ... )) (¬2). 18 - يجتهد أن يكون آخر كلامه لا إله إلا الله، لعل الله أن يلهمه ذلك؛ لحديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)) (¬3). وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسولا لله - صلى الله عليه وسلم -: ((أتاني آتٍ من ربي فأخبرني - أو قال: بشرني - أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة)) (¬4). وقيل لوهب بن منبه: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال: بلى، ولكن ليس مفتاح إلا له أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فُتح لك وإلا لم يُفتح)) (¬5). سادساً: آداب زيارة المريض كثيرة، منها ما يأتي: 1 - زيارة المريض حق على أخيه المسلم؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الوصايا، باب فيمن أعتق عبيداً له لم يبلغهم الثلث، برقم 3960، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 486: ((صحيح الإسناد)). (¬2) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب هل يستأسِرْ الرجل؟ ومن ركع ركعتين عند القتل، برقم 3045. وانظر: سنن أبي داود، كتاب الجنائز، باب المريض يؤخذ من أظفاره وعانته، برقم 3112. (¬3) أبو داود، كتاب الجنائز، بابٌ في التلقين، برقم 3116، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 279، والحديث أخرجه أحمد، 5/ 233، وغيره. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله، برقم 1237، ومسلم، كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، رقم 32. (¬5) البخاري، كتاب الجنائز، باب ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله، قبل الحديث رقم 1237.

2 - ينوي بعيادة المريض القيام بحق أخيه المسلم والحصول على الثواب العظيم

قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس))، وفي لفظ لمسلم: ((حق المسلم على المسلم ست)) قيل: ما هن يا رسول الله؟ قال: ((إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس حمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه)) (¬1). وعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع ونهانا عن سبع: أمرنا باتباع الجنائز، وعيادة المريض، وإجابة الداعي، ونصر المظلوم، وإبرار المقسم، ورد السلام، وتشميت العاطس، ونهانا عن آنية الفضة، وخاتم الذهب، والحرير، والديباج، والقسي، والإستبرق [وعن المياثر] (¬2). وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني)) (¬3). 2 - ينوي بعيادة المريض القيام بحق أخيه المسلم والحصول على الثواب العظيم؛ لحديث ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عائد المريض في مخرفة الجنة حتى يرجع))، وفي لفظ: ((من عاد مريضاً لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع))، وفي لفظ: ((إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع))، وفي لفظ: قيل: يا رسول الله! وما خرفة الجنة؟ قال: ((جناها)) (¬4). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب الأمر باتباع الجنائز، برقم 1239، ومسلم، كتاب السلام، باب من حق المسلم على المسلم رد السلام، برقم 6221. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب الأمر باتباع الجنائز، برقم 1239، وما بين المعكوفين من كتاب الأشربة، باب آنية الفضة، برقم 5635، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم استعمال آنية الذهب والفضة على الرجال والنساء، وخاتم الذهب والحرير على الرجال وإباحته للنساء، وإباحة العلم ونحوه للرجل ما لم يزد على أربع أصابع، برقم 2066. (¬3) البخاري، كتاب المرضى، باب وجوب عيادة المريض، برقم 5649. (¬4) مسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل عيادة المريض، برقم 2568.

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله - عز وجل - يقوم يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما علمت أنك لو سقيته وجدت ذلك عندي)) (¬1). وجاء علي - رضي الله عنه - إلى الحسن يعوده فوجد عنده أبا موسى، فقال علي - رضي الله عنه - أعائداً جئت أم زائراً؟ قال: لا بل عائداً، فقال علي: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من مسلم يعود مسلماً غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة)) (¬2). ولفظ ابن ماجه: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من أتى أخاه المسلم عائداً مشى في خرافة الجنة حتى يجلس، فإذا جلس غمرته الرحمة، فإن كان غدوة صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن كان مساء صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح)) (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من عاد مريضاً نادى منادٍ ¬

(¬1) مسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل عيادة المريض، برقم 2569. (¬2) الترمذي بلفظه، كتاب الجنائز، باب في عيادة المريض، برقم 969، وقال الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 497 وفي الصحيحة، برقم 1367: ((صحيح إلا قوله ((زائراً))، والصواب شامتا)). (¬3) ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في ثواب من عاد مريضاًً، برقم 1442، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه،2/ 6،وأخرجه أبو داود أيضاً موقوفاً من علي نحوه، برقم 3098،قال الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 273: ((صحيح موقوف)).

3 - يدعو للمريض بالشفاء

من السماء: طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلاً)) (¬1). 3 - يدعو للمريض بالشفاء؛ لحديث ابن عباس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من عاد مريضاً لم يحضر أجله فقال عنده سبع مرات: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك: إلا عافاه الله من ذلك المرض)) (¬2). وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - في حديثه الطويل، وفيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء إليه يعوده ووضع يده على جبهته ثم مسح بيده على صدره وبطنه، ثم قال: ((اللهم اشف سعداً، اللهم اشف سعداً)) ثلاث مرار (¬3). وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على أعرابي يعوده، قال: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل على مريض يعوده قال: ((لا بأس، طهور إن شاء الله)) (¬4). 4 - يدعوه إلى التوبة وإحسان الظن بالله ويذكره الوصية؛ لما تقدم في إحسان الظن بالله - عز وجل -؛ولحديث سعد بن مالك قال: عادني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا مريض، فقال: ((أوصيت؟)) قلت: نعم، قال: ((بكم؟)) قلت: بمالي كله في سبيل الله، قال: ((فما تركت لولدك؟)) قلت: هم أغنياء بخير، قال: ((أوصِ بالعشر)) فما زلت أناقصه حتى قال: ((أوصِ بالثلث والثلث كثير)) (¬5)؛ ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((ما حق امرئ مسلم له شيء يريد ¬

(¬1) ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في ثواب من عاد مريضاً، برقم 1443، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 6. (¬2) أبو داود، كتاب الجنائز، باب الدعاء للمريض عند العيادة، برقم 3106، والترمذي، كتاب الطب، بابٌ، برقم 2083، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، برقم 3106. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب المرضى، باب وضع اليد على المريض، برقم 5659، ومسلم، كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث، برقم 8 - (1628)، وأبو داود، كتاب الجنائز، باب الدعاء للمريض بالشفاء عند العيادة، برقم 3104. (¬4) البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، برقم 3616. (¬5) الترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الوصية بالثلث والربع، برقم 975، والنسائي، كتاب الوصايا، باب الوصية بالثلث، برقم 3631، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 500 دون قوله: ((أوصِ بالعشر)) فهو ضعيف. وأصل الحديث متفق على صحته عند البخاري ومسلم كما تقدم في الوصية، وانظر: إرواء الغليل، برقم 899.

5 - يدعوه إلى الإسلام إن كان كافرا

أن يوصي فيه، يبيت ليلتين، إلا ووصيته مكتوبة عنده)) (¬1). 5 - يدعوه إلى الإسلام إن كان كافراً؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - أن غلاماً من اليهود كان مرض فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: ((أسلم))، فنظر إلى أبيه، فقال له أبوه: أطع أبا القاسم، فأسلم، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: ((الحمد لله الذي أنقذه بي من النار)) (¬2). وقد عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمه أبا طالب في مرض الوفاة ودعاه إلى أن يقول: لا إله إلا الله، ولكنه أبى وقال: هو على ملة عبد المطلب. وأبى أن يقول هذه الكلمة العظيمة (¬3). 6 - يُبيّن له فضل المرض وما يكفر من السيئات؛ لحديث أم العلاء قالت: عادني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا مريضة، فقال: ((أبشري يا أم العلاء! فإن مرض المسلم يُذهب الله به خطاياه، كما تذهب النار خبث الذهب والفضة)) (¬4). وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة (¬5). 7 - يلقنه إذا كان في حالة النزع: ((لا إله إلا الله))؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لقنوا موتاكم لا إله إلا الله)) (¬6). ولحديث أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاد رجلاً من الأنصار، فقال: ((يا ¬

(¬1) مسلم، برقم 4 - (1627)، وتقدم تخريجه في آداب المريض. (¬2) البخاري، كتب المرضى، باب عيادة المشرك، برقم 5657، واللفظ لأبي داود في كتاب الجنائز، باب عيادة الذمي، برقم 3095، وزاد أحمد في رواية، 3/ 175، 227، 260: ((فلما مات قال: صلوا على صاحبكم)). (¬3) متفق عليه: كتاب الجنائز، باب إذا قال المشرك عند الموت لا إله إلا الله، برقم 1360، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ما لم يشرع في النزع، برقم 24. (¬4) أبو داود، كتاب الجنائز، باب عيادة النساء، برقم 3092، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 272، والأحاديث الصحيحة، برقم 714. (¬5) سبق ذكر جملة منها في آداب المريض. (¬6) مسلم، كتاب الجنائز، باب تلقين الموتى لا إله إلا الله، برقم 916.

8 - لا يقول في حضور المريض إلا خيرا

خال قل: لا إله إلا الله)) فقال: أخالٌ أم عمٌّ؟ فقال: ((بل خال)) فقال: فخيرٌ لي أن أقول: لا إله إلا الله؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم)) (¬1). 8 - لا يقول في حضور المريض إلا خيراً؛ لحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيراً، فإن الملائكة يؤمّنون على ما تقولون)) (¬2). 9 - يوجه المحتضر إلى القبلة إن تيسر؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن لكل شيء سيداً، وإن سيد المجالس قبالة القبلة)) (¬3)؛ ولحديث عمير بن قتادة الليثي - وكانت له صحبة - أن رجلاً سأله فقال: يا رسول الله! ما الكبائر؟ فقال: ((هُنَّ تِسعٌ ... )) فذكر معناه ... زاد ((وعقوق الوالدين المسلمين، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياءً وأمواتاً)) (¬4). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول عن هذا الحديث: ((له شواهد، وهو دليل على توجيه المحتضر، ووضعه في قبره مستقبلاً القبلة)) (¬5). قال الإمام الشوكاني - رحمه الله -: ((والأولى الاستدلال لمشروعية التوجيه بما رواه الحاكم والبيهقي عن أبي قتادة أن البراء بن معرور أوصى أن يُوجَّه إلى القبلة إذا احتُضر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أصاب الفطرة)) (¬6). ¬

(¬1) أحمد، 3/ 152، 154، 268،وقال الألباني في الجنائز، ص20: ((إسناده صحيح على شرط مسلم)). (¬2) مسلم، كتاب الجنائز، باب ما يقال عند المريض، برقم 919. (¬3) الطبراني في الأوسط [مجمع البحرين، 5/ 278، برقم 3062]، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 8/ 59: ((رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن)). (¬4) أبو داود، كتاب الوصايا، باب ما جاء في التشديد في أكل مال اليتيم، برقم 2875، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 209. (¬5) سمعته أثناء تقريره على منتقى الأخبار، الحديث رقم 1770. (¬6) البيهقي، 3/ 384، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، 1/ 353، وأعله الألباني في الإرواء بعلتين، 3/ 153.

سابعا: الآداب الواجبة والمستحبة لمن حضر وفاة المسلم كثيرة، منها:

وروى البيهقي عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك في قصةٍ ذكرها، قال: وكان البراء بن معرور أول من استقبل القبلة حيّاً وميتاً (¬1). وجاء عن حذيفة - رضي الله عنه - أنه قال: ((وجّهوني إلى القبلة)) (¬2). ويذكر عن الحسن قال: ذكر عمر الكعبة، فقال: ((والله ما هي إلا أحجار نصبها الله قبلة لأحيائنا، ونوجه إليها موتانا)) (¬3). وسئل الإمام شيخنا عبد العزيز ابن باز - رحمه الله -: هل يشرع توجيه المحتضر إلى القبلة؟ فأجاب: ((نعم، يستحب ذلك عند أهل العلم، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((البيت الحرام قبلتكم أحياءً وأمواتاً (¬4))) (¬5)، وقال رحمه الله في كيفية توجيه المحتضر إلى القبلة: ((يجعل على جنبه الأيمن ووجه إلى القبلة كما يوضع في اللحد)) (¬6). سابعاً: الآداب الواجبة والمستحبة لمن حضر وفاة المسلم كثيرة، منها: 1 - يغمض إذا خرجت الروح ولا يقول من حضره إلا خيراً؛ لحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي سلمة وقد شق بصره، فأغمضه ثم قال: ((إن الروح إذا قُبض تبعه البصر)) فضج ناس من أهله فقال: ((لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير؛ فإن الملائكة يؤمنون على ¬

(¬1) سنن البيهقي، 3/ 384، وقال البيهقي: ((وهو مرسل جيد))، وقال الألباني في إرواء الغليل، 3/ 154: ((بسند صحيح)). (¬2) قال العلامة الألباني رحمه الله في إرواء الغليل، 3/ 152: ((لم أجده عن حذيفة وإنما روي عن البراء بن معرور))، ولكن قال الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ في كتابه: التكميل لما فات تخريجه من إرواء الغليل، ص32: ((وجدته عن حذيفة. رواه ابن أبي الدنيا في ((المحتضرين))، ومن طريق ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) [4/ 156/1] ترجمة حذيفة منه، من طريق داود بن رشيد، نبأنا عن عباد بن العوام، نبأنا أبو مالك الأشجعي، عن ربعي بن حراش أنه حدثهم أن [أخته] امرأة حذيفة قالت: ... فذكره أثناء خبر. وإسناده صحيح عن ربيعي بن حراش)) انتهى. (¬3) السنن الكبرى للبيهقي، 3/ 384، وانظر: إرواء الغليل للألباني، 3/ 154. (¬4) أبو داود، برقم 2875، وتقدم تخريجه. (¬5) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، لابن باز، 13/ 101. (¬6) المرجع السابق، 13/ 101.

2 - يدعى له

ما تقولون)) ثم قال: ((اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره، ونوّر له فيه)) (¬1). 2 - يُدعى له؛ لما في حديث أم سلمة السابق فيقال: ((اللهم اغفر لفلان، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره ونوّر له فيه)). 3 - يُغطَّى بثوب يستر جميع بدنه؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: سُجّي (¬2) رسول الله حين مات بثوب حَبِرةٍ)) (¬3)، ولفظ البخاري: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين توفي سُجي ببردٍ حِبَرة)) (¬4). 4 - لا يُغطَّى رأس المحرم ولا وجهه؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما في الرجل الذي وقصته راحلته وهو محرم، وفيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اغسلوه بماء وسدر، وكفّنوه في ثوبيه، ولا تُخمّروا رأسه ولا وجهه؛ فإنه يُبعث يوم القيامة ملبياً)) وفي رواية: ((ولا تُحنّطوه)) وفي رواية: ((ولا تطيّبوه)) (¬5). 5 - يُعجَّل بتجهيزه وإخراجه إذا بان موته، وقاموا بحقوقه: من الغسل، والتكفين، والصلاة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((أسرعوا بالجنازة فإن تكُ صالحةً فخير تقدمونها إليه، وإن تكُ سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم)) (¬6). 6 - يُدفنُ في البلد الذي مات فيه، ولا ينقل إلى غيره، لأن النقل ¬

(¬1) مسلم، كتاب الجنائز، باب في إغماض الميت والدعاء له إذا حضر، برقم 920. (¬2) سُجّيَ: أي غطّي. (¬3) حَبِرة: نوع من برود اليمن، والبرد: ثوب مخطط، والحبرة من البرود: ما كان موشياً مخططاً. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب اللباس، باب البرود والحِبَر والشملة، برقم 5814، ومسلم، كتاب الجنائز، باب تسجية الميت، برقم 942. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب جزاء الصيد، باب ما ينهى من الطيب للمحرم والمحرمة، برقم 1839، ومسلم، كتاب الحج، باب ما يفعل بالمحرم إذا مات، برقم 98 - (1206). (¬6) متفق عليه: البخاري، برقم 1315،ومسلم، برقم 944،وتقدم تخريجه، في تذكر الحمل على الأكتاف.

7 - لو مات في غير مولده دفن مكانه وكان خيرا له

ينافي الإسراع المأمور به في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - المتقدم. وحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما كان يوم أحد جاءت عمتي بأبي لتدفنه في مقابرنا فنادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ردوا القتلى إلى مضاجعها)) وفي لفظ أبي داود: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمركم أن تدفنوا القتلى في مضاجعهم، فرددناهم)) (¬1). ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها لما مات أخٌ لها بوادي الحبشة فَحُمِلَ من مكانه: ((ما أجد في نفسي أو يحزنني في نفسي إلا أني وددت أنه كان دفن في مكانه)) (¬2). قال الإمام النووي في الأذكار كما ذكر الألباني في أحكام الجنائز (¬3): ((وإذا أوصى بأن ينقل إلى بلد آخر لا تنفذ وصيته، فإن النقل حرام على المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون وصرح به المحققون)). وكان شيخنا ابن باز - رحمه الله - يقول: ((حتى لو أوصى الميت أن ينقل إلى مكة أو المدينة لا تُنفذ وصيته؛ لأن الصحابة - رضي الله عنهم - لم يوصوا بذلك)) سمعت ذلك منه رحمه الله. 7 - لو مات في غير مولده دفن مكانه وكان خيراً له؛ لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: مات رجل بالمدينة ممن وُلد بها، فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: ((يا ليته مات بغير مولده!)) قالوا: ولم ذلك يا رسول الله؟ قال: ((إن الرجل إذا مات بغير مولده قيس من مولده إلى ¬

(¬1) الترمذي، كتاب الجهاد، باب ما جاء في دفن القتيل في مقتله، برقم 1717، وأبو داود، كتاب الجنائز، باب في الميت يحمل على من أرض إلى أرض وكراهة ذلك، برقم 3165، والنسائي، كتاب الجنائز، باب أين يدفن الشهيد، برقم 2005، وابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الصلاة على الشهيد، برقم 1516، وابن حبان، برقم 3183، وأحمد، برقم 14169، 15281، 14305، 15258، والبيهقي، 4/ 57، وصححه الألباني في أحكام الجنائز، ص25. (¬2) البيهقي في السنن الكبرى،4/ 57،وصحح الألباني إسناده في أحكام الجنائز، ص25. (¬3) ص 25.

8 - يبادر بقضاء دينه بعد موته من ماله

منقطع أثره في الجنة)) (¬1). 8 - يُبادر بقضاء دينه بعد موته من ماله، فإن لم يكن له مال فعلى الدولة، فإن لم تقم به وتطوَّع به بعض الحاضرين جاز؛ لحديث سعد بن الأطول: أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم، وترك عيالاً فقال: فأردت أن أنفقها على عياله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أخاك محتَبسٌ بدينه فاقضِ عنه))، فقال: يا رسول الله: قد أدَّيت عنه إلا دينارين ادَّعَتْهُما امرأة وليس لها بينة، قال: ((فأعطها فإنها مُحقّة)) (¬2). وعن سمرة بن جندب - رضي الله عنه -: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى على جنازة، فلما انصرف قال: ((أهاهنا أحد من آل فلان؟)) [فسكت القوم، وكان إذا ابتدأهم بشيء سكتوا] فقال ذلك مراراً [ثلاثاً لا يجيبه أحد] [فقال رجل: هو ذا] قال: فقام رجل يجرُّ إزاره من مؤخر الناس [فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما منعك في المرتين الأوليين أن تكون أجبتني؟] أما إني لم أُنوّه باسمك إلا لخير، إن فلاناً - لرجل منهم - مأسور بدينه [عن الجنة فإن شئتم فافدوه، وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله])) فلو رأيت أهله ومن يتحرَّون أمره قاموا فقضوا عنه [حتى ما أحد يطلبه شيء] (¬3). وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ((مات رجل فغسلناه، وكفناه، وحنطناه، ووضعناه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث توضع الجنائز، عند مقام جبريل، ثم آذنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة، فجاء معنا [فتخطى] خُطىً، ثم ¬

(¬1) النسائي، كتاب الجنائز، باب الموت بغير مولده، برقم 1831، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 2/ 8، وانظر صحيح سنن ابن ماجه من حديث ابن مسعود، 3/ 386 - 387. (¬2) ابن ماجه، كتاب الأحكام، برقم 2433،وأحمد، 4/ 136، 5/ 7، والبيهقي، 10/ 142،وصححه الألباني في أحكام الجنائز، ص26، وفي صحيح سنن ابن ماجه،2/ 285. (¬3) ابو داود، كتاب البيوع، باب التشديد في الدين، برقم 3341،والنسائي، كتاب البيوع، باب التغليظ في الدين، برقم 4699،والحاكم، 2/ 25 - 26،والبيهقي،6/ 76. وأحمد، برقم 20231، 20333، 20234، 20124، 20232، والطبراني في الكبير، 6755، وصححه الألباني في كتاب أحكام الجنائز، ص26، وهو الذي جمع بين الألفاظ رحمه الله.

9 - تنفذ وصيته: الثلث فأقل

قال: ((لعلَّ على صاحبكم ديناً؟)) قالوا: نعم ديناران، فتخلّف [قال: ((صلوا على صاحبكم))] فقال له رجل منا يقال له: أبو قتادة: يا رسول الله هما عليَّ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((هما عليك، والميت منهما برئ؟)) فقال: نعم، فصلى عليه، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لقي أبا قتادة يقول: (وفي رواية: ثم لقيه من الغد فقال): ما صنعت الديناران؟ [قال: يا رسول الله إنما مات أمس] حتى كان آخر ذلك (وفي الرواية الأخرى: ثم لقيه من الغد فقال: (ما فعل الديناران؟) قال: قد قضيتهما يا رسول الله، قال: ((الآن حين بردت عليه جلده)) (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُؤتى بالرجل الميت عليه الدين، فيسأل: ((هل ترك لدينه من قضاء؟)) فإن حُدّث أنه ترك وفاء صلى عليه، وإلا قال: ((صلُّوا على صاحبكم)) ولما فتح الله عليه الفتوح قال: ((أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي وعليه دين فعليَّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته)) (¬2). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين)) (¬3). 9 - تُنفَّذ وصيته: الثلث فأقل؛ لأن إنفاذ الوصية واجب، والإسراع بالتنفيذ إما واجب أو مستحب؛ لأن الوصية إن كانت في واجب، فللإسراع في إبراء ذمته، وإن كانت في تطوع فللإسراع في الأجر له، والوصية إما واجبة وإما تطوع، قال أهل العلم: فينبغي أن تنفذ قبل أن يدفن (¬4). ¬

(¬1) الحاكم، 2/ 58، والسياق له، والبيهقي، 6/ 74 - 75، والطيالسي، برقم 1673، وأحمد، 3/ 330،وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وأخرجه مختصراً أبو داود، كتاب البيوع، باب التشديد في الدين، برقم 3341،وانظر أحكام الجنائز للألباني، ص27. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الكفالة، باب الدين، برقم 2298، ومسلم، كتاب الفرائض، باب من ترك مالاً فلورثته، برقم 1619. (¬3) مسلم، كتاب الإمارة، باب من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين، برقم 1886. (¬4) انظر: الشرح الممتع لابن عثيمين، 5/ 332.

ثامنا: الأمور التي تجوز للحاضرين وغيرهم كثيرة، منها ما يأتي:

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أخذ من أموال الناس يريد أداءها أدَّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)) (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نفس المؤمن معلقة بدَيْنه حتى يُقضَى عنه)) (¬2). ثامناً: الأمور التي تجوز للحاضرين وغيرهم كثيرة، منها ما يأتي: 1 - كشف وجه الميت. 2 - تقبيله. 3 - البكاء عليه بدمع العين. وفي ذلك أحاديث منها على سبيل الإيجاز ما يأتي: الحديث الأول: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما أصيب أبي يوم أحد فجعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي وجعلوا ينهونني، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ينهاني، قال: وجعلت فاطمة بنت عمرو تبكيه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تبكيه أو لا تبكيه، مازالت الملائكة تظلّه بأجنحتها حتى رفعتموه)) (¬3). الحديث الثاني: عن عائشة رضي الله عنها قالت: أقبل أبو بكر - رضي الله عنه - على فرسه من مسكنه بالسنح حتى نزل فدخل المسجد [وعمر يكلم الناس]، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة رضي الله عنها فتيمم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مسجى ببردة حبرة، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه، فقبل [بين عينيه]، ثم بكى فقال: بأبي أنت وأمي يا نبي الله، لا يجمع الله عليك موتتين: أما الموتة ¬

(¬1) البخاري، كتاب المساقاة، باب من أخذ أموال الناس يريد أداءها أو إتلافها، برقم 2387. (¬2) أحمد، 2/ 440، والترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه))، برقم 1078، 1079، وابن ماجه، الصدقات، باب التشديد في الدين، برقم 2413، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 547، وغيره. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب حدثنا علي بن عبد الله، برقم 1293، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر رضي الله تعالى عنهما، برقم 2471.

الأولى التي كتبت لك فقد متها))، وفي رواية: ((لقد مت الموتة التي لا تموت بعدها)) (¬1). الحديث الثالث: عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قّبَّل عثمان بن مظعون وهو ميت، وهو يبكي، أو قال: عيناه تذرفان (¬2).ولفظ ابن ماجه: ((قَبَّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان بن مظعون وهو ميّتٌ، فكأني أنظر إلى دموعه تسيل على خدَّيه)). الحديث الرابع: عن أنس - رضي الله عنه - قال: دخلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي أسيف القين (¬3) - وكان ظئراً (¬4) -لإبراهيم - عليه السلام - - فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إبراهيم فقبّله وشمه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك، وإبراهيم يجود بنفسه (¬5)، فجعلت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: وأنت يا رسول الله؟ فقال: ((يا ابن عوف إنها رحمة))، ثم أتبعها بأخرى، فقال: ((إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يَرْضَى ربُّنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)) (¬6). الحديث الخامس: حديث عبد الله بن جعفر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمهل آل جعفر - ثلاثاً - أن يأتيهم ثم أتاهم فقال: ((لا تبكوا على أخي بعد اليوم ... )) (¬7). ¬

(¬1) البخاري، كتاب الجنائز، باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في أكفانه، برقم 1241، 1242، والبيهقي، 3/ 406، وقد ذكر ابن حجر الروايات التي تبين بأن أبا بكر قبل جبهة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتح الباري، 3/ 115، 8/ 147، وانظر: أحكام الجنائز للألباني، ص31. (¬2) الترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء في تقبيل الميت، برقم 989، وابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في تقبيل الميت، برقم 1456، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 9، وغيره. (¬3) الحداد، فتح الباري لابن حجر، 3/ 173. (¬4) ظئراً: مرضعاً. فتح الباري لابن حجر، 3/ 173. (¬5) يجود بنفسه: يخرجها. المرجع السابق، 3/ 173. (¬6) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنا بك لمحزونون))، برقم 1303، ومسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته - صلى الله عليه وسلم - بالصبيان، برقم 2315. (¬7) أبو داود، كتاب الترجل، باب حلق الرأس، برقم 4192، وغيره، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 543.

4 - صنع الطعام لأهل الميت

4 - صنع الطعام لأهل الميت، لحديث عبد الله بن جعفر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اصنعوا لآل جعفر طعاماً؛ فإنه قد أتاهم أمر يشغلهم)) (¬1). تاسعاً: الأمور الواجبة على أقارب الميت وغيرهم عديدة، منها ما يأتي: 1 - الصبر والرضا بالقدر لقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مّن رَّبّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (¬2). ولحديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ((مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بامرأة عند قبرٍ وهي تبكي، فقال لها: ((اتقي الله واصبري))، فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي! قال: ولم تعرفه! فقيل لها: هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذها مثل الموت، فأتت باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم تجده عند بوابين، فقالت: يا رسول الله إني لم أعرفك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الصبر عند أول الصدمة)) (¬3). 2 - الاسترجاع، وهو أن يقول: ((إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها)) (¬4)، ويأتي التفصيل في ذلك في فضل الصبر على المصائب بعد صفحات إن شاء الله تعالى. ولا ينافي الصبر أن تمتنع المرأة من الزينة كلّها، حداداً على وفاة ولدها أو غيره إذا لم تزد على ثلاثة أيام، إلا على زوجها، فتحد أربعة أشهر وعشراً؛ لحديث زينب بنت أبي سلمة قالت: ((دخلت على أم ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الجنائز، باب صنعة الطعام لأهل الميت، برقم 3132، وابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الطعام يبعث إلى أهل الميت، برقم 1610، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 47، وغيره. (¬2) سورة البقرة، الآيات: 155 - 157. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم 283، ومسلم، برقم 15 - (926). ويأتي تخريجه في شروط الصبر. (¬4) مسلم، برقم 918، ويأتي تخريجه في فصل الصبر على المصائب.

حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يحلُّ لامرأةٍ تؤمن بالله واليوم الآخر [أن] تحدَّ على ميّتٍ فوق ثلاث، إلا على زوجٍ أربعة أشهر وعشراً)) ثم دخلت على زينب بنت جحش حين توفي أخوها فدعت بطيب فمست، ثم قالت: ما لي بالطيب من حاجة، غير أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ... )) فذكرت الحديث (¬1). ولكنها إذا لم تحد على غير زوجها، إرضاءً للزوج وقضاءً لوطره منها، فهو أفضل لها، ويُرجى لهما من وراء ذلك خير كثير كما وقع لأم سُليْمٍ وزوجها أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنهما ولا بأس من أن أسوق هنا قصتهما في ذلك - على طولها - لما فيها من الفوائد والعظات والعبر، فقال أنس - رضي الله عنه -: ((قال مالك أبو أنس لامرأته أم سليم - وهي أم أنس - إن هذا الرجل - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - يحرم الخمر - فانطلق حتى أتى الشام فهلك هناك فجاء أبو طلحة، فخطب أم سُليم، فكلمها في ذلك، فقالت: يا أبا طلحة! ما مثلك يرد، ولكنك امرؤ كافر، وأنا امرأة مسلمة لا يصح لي أن أتزوجك! فقال: ما ذاك دهرك! قالت: وما دهري! قال: الصفراء والبيضاء! قالت: فإني لا أريد صفراء ولا بيضاء، أريد منك الإسلام، [فإن تُسلِم فذاك مَهري، ولا أسألك غيره]، قال: فمن لي بذلك؟ قالت: لك بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فانطلق أبو طلحة يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في أصحابه، فلما رآه قال: جاءكم أبو طلحة غُرَّةُ الإسلام بين عينيه، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قالت أم سليم، فتزوجها على ذلك. قال ثابت (وهو البناني أحد رواة القصة عن أنس): فلما بلغنا أن مَهْراً كان أعظم منه أنها رضيت الإسلام مهراً، فتزوجها وكانت امرأة مليحة العينين، فيها صغرٌ، فكانت معه حتى ولد له بُني، وكان يحبه أبو طلحة حبّاً شديداً، ومرض الصبي [مرضاً شديداً]، وتواضع أبو طلحة لمرضه ¬

(¬1) البخاري، كتاب الجنائز، باب إحداد المرأة على غير زوجها، برقم 1280 - 1282.

أو تضعضع له، [وكان أبو طلحة يقوم صلاة الغداة يتوضأ، ويأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فيصلي معه، ويكون معه إلى قريب من نصف النهار، ويجيء يقيل ويأكل، فإذا صلى الظهر تهيأ وذهب، فلم يجئ إلى صلاة العتمة] فانطلق أبو طلحة عشية إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (وفي رواية: إلى المسجد) ومات الصبي فقالت أم سليم: لا ينعين إلى أبي طلحة أحد ابنه حتى أكون أنا الذي أنعاه له، فهيأت الصبي [فسجت عليه] ووضعته [في جانب البيت]، وجاء أبو طلحة من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى دخل عليها [ومعه ناس من أهل المسجد من أصحابه] فقال: كيف ابني؟ فقالت: يا أبا طلحة ما كان منذ اشتكى أسكن منه الساعة [وأرجو أن يكون قد استراح!] فأتته بعشائه [فقربته إليهم فتعشوا، وخرج القوم] [قال: فقام إلى فراشه، فوضع رأسه]، ثم قامت فتطيبت، [وتصنعت له أحسن ما كانت تَصَنَّع قبل ذلك]، [ثم جاءت حتى دخلت معه الفراش، فما هو إلا أن وجد ريح الطيب كان منه ما يكون الرجل إلى أهله]، [فلما كان آخر الليل] قالت: يا أبا طلحة أرأيت لو أن قوماً أعاروا قوماً عارية لهم، فسألوهم إياها أكان لهم أن يمنعوهم؟ فقال: لا؛ قالت: فإن الله - عز وجل - كان أعارك ابنك عارية، ثم قبضه إليه، فاحتسب واصبر! فغضب وقال: تركتِني حتى إذا وقعت بما وقعت به نعيتِ إلي ابني! [فاسترجع، وحمد الله] [فلما أصبح اغتسل]، ثم غدا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[فصلى معه] فأخبره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بارك الله لكما في غابر ليلتكما))، فثقلت من ذلك الحمل، وكانت أم سليم تسافر مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، تخرج إذا خرج، وتدخل معه إذا دخل، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا ولدت فأتوني بالصبي)). [قال: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر وهي معه، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى من سفر لا يطرقها طروقاً، فدنوا من المدينة، فضربها المخاض، واحتبس عليها أبو طلحة، وانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو طلحة: يا رب إنك لتعلم أنه يعجبني أن أخرج مع رسولك إذا خرج، وأدخل معه إذا

عاشرا: الأمور المحرمة على أقارب الميت وغيرهم كثيرة، منها ما يأتي:

دخل، وقد احتُبست بما ترى، قال: تقول أم سُليم: يا أبا طلحة ما أجد الذي كنت أجد فانطلقا، قال: وضربها المخاض حين قدموا] فولدت غلاماً، وقالت لابنها أنس: [يا أنس! لا يطعم شيئاً حتى تغدو به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، [وبعثت معه بتمرات]، قالت: فبات يبكي، وبت مجنحاً عليه (¬1)، أكالئه حتى أصبحت، فغدوت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -]، [وعليه بردة]، وهو يسم إبلاً أو غنماً [قدمت عليه]، فلما نظر إليه، قال لأنس: ((أولدت بنت ملحان؟)) قال: نعم، [فقال: ((رويدك أفرغ لك))]، قال: فألقى ما في يده، فتناول الصبي وقال: (([أمعه شيء؟)) قالوا: نعم، تمرات]، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم -[بعض] التمر [فمضغهن، ثم جمع بزاقه]، [ثم فغر فاه، وأوجره إياه]، فجعل يحنك الصبي، وجعل الصبي يتلمظ: [يمص بعض حلاوة التمر وريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان أول من فتح أمعاء ذلك الصبي على (¬2) ريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((انظروا إلى حب الأنصار التمر))، [قال: قلت: يا رسول الله: سمّه، قال:] [فمسح وجهه] وسماه عبد الله، [فما كان في الأنصار شاب أفضل منه]، [قال: فخرج منه رَجِل (¬3) كثير، واستشهد عبد الله بفارس])) (¬4). عاشراً: الأمور المحرمة على أقارب الميت وغيرهم كثيرة، منها ما يأتي: 1 - النياحة؛ لحديث أبي مالك الأشعري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أربعٌ في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركوهن: الفخر في الأحساب، والطعن في ¬

(¬1) أي: مائلاً. (¬2) كذا الأصل، ولعل حرف (على) مقحم من بعض النساخ. (¬3) جمع راجل، وهو ضد الفارس. (¬4) متفق عليه: البخاري، مختصراً، كتاب العقيقة، باب تسمية المولود غداة يولد لمن لم يعق برقم 5467، وكتاب الجنائز، باب من لم يظهر حزنه عند المصيبة، برقم 1301، ومسلم، كتاب الأدب، باب استحباب تحنيك المولود، برقم 2144، وكتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي طلحة الأنصاري - رضي الله عنه -، برقم 2144.

الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة)) وقال: ((النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب)) (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اثنتان في الناس هما بهما كفر: الطعن في الأنساب والنياحة على الميت)) (¬2). وعن أم عطية رضي الله عنها قالت: أخذ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع البيعة ألا ننوح فما وفّت منا امرأة إلا خمس: أم سليم، وأم العلاء، وابنة أبي سبرة امرأة معاذ - أو ابنة أبي سبرة وامرأة معاذ)) (¬3). وعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: لما أصيب عمر - رضي الله عنه - أقبل صهيب من منزله حتى دخل على عمر، فقام بحياله يبكي، فقال له عمر: علام تبكي؟ أعليَّ تبكي؟ قال: إي والله لعليك أبكي يا أمير المؤمنين، فقال: والله لقد علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من يُبكى عليه يُعذَّب)) وفي رواية لمسلم عن أنس أن عمر بن الخطاب لما طُعِنَ عَوَّلَتْ عليه حفصة فقال: يا حفصة أما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((المُعوَّلُ عليه يعذب)) وعَوَّل عليه صهيبٌ فقال عمر: يا صهيب أما علمت: ((أن المعوَّل عليه يعذب)) وفي لفظ للبخاري: أن عمر لما أصيب دخل صهيب يبكي يقول: واأخاه، واصاحباه، فقال - رضي الله عنه -: يا صهيب أتبكي عليَّ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه))، وفي رواية للبخاري: ((إن الميت ليعذب ببكاء الحي)) (¬4). ¬

(¬1) مسلم، كتاب الجنائز، باب التشديد في النياحة، برقم 934. (¬2) مسلم، كتاب الإيمان، باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة، برقم 67. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب ما ينهى من النوح والبكاء والزجر عن ذلك، برقم 1306، ومسلم، كتاب الجنائز، باب التشديد في النياحة، برقم 936. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته))، برقم 1287، 1286، 1289، 3978، ومسلم، كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، برقم 927 و928،وانظر: الأحاديث في مسلم، برقم 927 - 933.

2 - الدعوى بدعاء الجاهلية

واختلف العلماء رحمهم الله في المراد بهذا الحديث، ومن ذلك قول الجمهور وهو أن الحديث محمول على من أوصى بالنوح عليه، أو لم يُوصِ بتركه مع علمه بأن الناس يفعلونه عادة. وقيل: معنى ((يُعذَّب)) أي يتألَّم بسماعه بكاء أهله ويرق لهم ويحزن، وذلك في البرزخ، ونصر ابن تيمية وابن القيم هذا القول (¬1). وسمعت شيخنا ابن باز - رحمه الله - يقول: الميت يعذب ببكاء أهله، والله أعلم بالكيفية (¬2). 2 - الدعوى بدعاء الجاهلية. 3 - ضرب الخدود. 4 - شق الجيوب؛ لحديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية)) ونص للبخاري: ((ليس منَّا من لطم الخدود ... )) (¬3). 5 - رفع الصوت عند المصيبة. 6 - حلق الشعر؛ لحديث أبي بردة عن أبي موسى قال: وجع أبو موسى وجعاً فغشي عليه ورأسه في حجر امرأته من أهله، فصاحت امرأةٌ من أهله، فلم يستطع أن يرد عليها شيئاً، فلما أفاق قال: أنا بَرِيءٌ مما برئ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بَرِئ من الصالقة، والحالقة، والشاقة)) (¬4). ¬

(¬1) أحكام الجنائز للألباني، ص41. (¬2) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 7/ 301. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب ليس منا من ضرب الخدود، برقم 1294، وباب ليس منا من ضرب الخدود، برقم 1297، وباب ما ينهى من الويل ودعوى الجاهلية عند المصيبة، برقم 1298، وكتاب المناقب، باب ما ينهى من دعوى الجاهلية، برقم 3519، ومسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب، والدعاء بدعوى الجاهلية، برقم 103. (¬4) متفق عليه: البخاري، باب ما ينهى من الحلق عند المصيبة، برقم 1296، ومسلم، باب تحريم ضرب الخدود، وشق الجيوب، والدعاء بدعوى الجاهلية، برقم 104.

7 - الويل والدعاء به

7 - الويل والدعاء به. 8 - نشر الشعر؛ لحديث امرأة من المبايعات قالت: كان فيما أخذ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المعروف الذي أخذ علينا أن لا نعصيه فيه: أن لا تخمش وجهاً، ولا ندعو ويلاً، ولا نشق جيباً، ولا ننثر شَعراً)) (¬1). 9 - النعي المحرم، وهو ما كانت الجاهلية يفعلونه، فقد كانوا يرسلون من يعلن بخبر موت الميت على أبواب الأحياء والأسواق، أو يركب المخبر على دابة ويصيح في الناس (¬2)،قال ابن الأثير رحمه الله: ((يقال: نعى الميت ينعاه نعياً ونعيَّا: إذا أذاع موته وأخبر به، وإذا ندبه .. والمشهور في العربية أن العرب كانوا إذا مات منهم شريف، أو قُتِلَ بعثوا راكباً إلى القبائل ينعاه إليهم، يقول: نعاءِ فلاناً، أو يا نعاء العرب: أي هلك فلان أو هلكت العرب بموت فلان)) (¬3). ومن ذلك أن الناعي يصعد على الجبل، أو السور المرتفع، أو على سطوح المنازل وينادي يصيح: أنعى فلاناً (¬4)، أو الإخبار بإتيان الآتي إلى الحي من الأحياء وصياحه: أنعى إليكم فلان بن فلان (¬5)،فهذا النعي محرم، ومن عادات الجاهلية، فلا يجوز للمسلم أن يعمل هذا العمل ولا يرضى به، وقد ظهر مما تقدم: أن النعاة: هم المخبرون بموت من مات، وأن الناعية: هي النائحة (¬6)، وأن المحرم من النعي ما كان على عادة الجاهلية، أما المباح من النعي فسيأتي بضوابطه إن شاء الله تعالى. ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الجنائز، باب في النوح، برقم 3131، وقال الألباني في أحكام الجنائز، ص43: ((بسند صحيح)). (¬2) فتح الباري، بشرح صحيح البخاري، 3/ 116 - 117. (¬3) النهاية في غريب الحديث والأثر، 5/ 85 - 86. (¬4) فقه الدعوة في صحيح البخاري، للمؤلف، 2/ 723، وانظر: صحيح البخاري، باب قتل النائم المشرك، برقم 3022. (¬5) معجم لغة الفقهاء، لمحمد روَّاس، ص453. (¬6) غريب ما في الصحيحين، ص130.

الحادي عشر: النعي المباح الجائز:

الحادي عشر: النعي المباح الجائز: يجوز الإخبار بالوفاة إذا لم يقترن بذلك، ما يشبه نعي الجاهلية، وقد يجب إذا لم يكن عنده من يقوم بالواجب من حقوق الميت المسلم، من: الغسل، والتكفين، والصلاة عليه، ودفنه. ومن النصوص التي تدل على جواز هذا النعي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، خرج إلى المصلى فصفَّ بهم وكبَّر أربعاً. ولفظ مسلم: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه فخرج بهم إلى المصلى وكبر أربع تكبيرات))، وفي لفظ: ((نعى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النجاشي صاحب الحبشة في اليوم الذي مات فيه فقال: ((استغفروا لأخيكم)) (¬1). وعن جابر - رضي الله عنه - ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى على النجاشي فكنت في الصف الثاني أو الثالث)) وفي لفظ: (( ... أصحمة النجاشي)) وفي لفظ: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين مات النجاشي: ((مات اليوم رجل صالح فقوموا صلوا على أخيكم)). وفي لفظ لمسلم: ((فكبر عليه أربعاً)). وفي لفظ له: ((مات اليوم عبد لله صالح)). وفي لفظ: ((إن أخاً لكم مات فقوموا فصلوا عليه)) (¬2). وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب))،وإن عيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتذرفان، ((ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة ففُتِحَ له)) (¬3). ¬

(¬1) متفق عليه البخاري، كتاب الجنائز، باب الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه، برقم 1245،و1327،3880،ومسلم، كتاب الجنائز، باب في التكبير على الجنازة، رقم 951. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب من صف صفين أو ثلاثة على الجنازة خلف الإمام، برقم 1317 و3877، ومسلم، كتاب الجنائز، باب التكبير على الجنائز، برقم 952. (¬3) البخاري، كتاب الجنائز، باب الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه، برقم 1246.

وقد ترجم الإمام البخاري - رحمه الله - لحديث أبي هريرة وأنس، بقوله: ((باب الرجل ينعى إلى أهل الميت نفسه)). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى على هذه الترجمة: ((وفائدة هذه الترجمة: الإشارة إلى أن النعي ليس ممنوعاً كله، وإنما نهى عما كان أهل الجاهلية يصنعونه، فكانوا يرسلون من يعلن بخبر موت الميت على أبواب الدور، والأسواق ... )) ثم قال: ((وقال ابن المرابط: مراده أن النعي الذي هو إعلام الناس بموت قريبهم مباح، وإن كان فيه إدخال الكرب والمصائب على أهله، لكن في تلك المفسدة مصالح جمة؛ لما يترتب على معرفة ذلك من المبادرة لشهود الجنازة، وتهيئة أمره، والصلاة عليه، والدعاء له، والاستغفار، وتنفيذ وصاياه، وما يترتب على ذلك من الأحكام)). ثم قال: قال ابن العربي: يؤخذ من مجموع الأحاديث ثلاث حالات: الأولى: إعلام الأهل والأصحاب فهذا سنة. الثانية: دعوة الحفل للمفاخرة فهذه تكره. الثالثة: الإعلام بنوع آخر: كالنياحة، ونحو ذلك فهذا حرام)) (¬1). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((مات إنسان كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوده، فمات بالليل فدفنوه ليلاً، فلما أصبح أخبروه فقال: ((ما منعكم أن تعلموني؟)) قالوا: كان الليل فكرهنا - وكانت ظلمة - أن نشق عليك، فأتى قبره فصلى عليه)) (¬2). وقد ترجم الإمام البخاري - رحمه الله - لهذا الحديث بقوله: ((باب الإذن بالجنازة)) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((والمعنى الإعلام بالجنازة إذا انتهى أمرها؛ ليُصلَّى عليها، قيل هذه الترجمة: تغاير التي ¬

(¬1) فتح الباري، لابن حجر، 3/ 116 - 117. (¬2) متفق عليه: كتاب الجنائز، باب الإذن بالجنازة، برقم 1247، ومسلم، كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر، برقم 68 - (954)، و69 - (954).

قبلها من جهة: أن المراد بها الإعلام بالنفس وبالغير، قال الزين بن المنير: هي مرتبة على التي قبلها؛ لأن النعي إعلام من لم يتقدم له علم بالميت، والإذن إعلام بتهيئة أمره وهو حسن)) (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن امرأة سوداء كانت تقمُّ المسجد أو شابّاً فقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عنها أو عنه، فقالوا: مات، قال: ((أفلا كنتم آذنتموني)) قال فكأنهم صغروا أمرها أو أمره، فقال: ((دلّوني على قبره)) فدلوه فصلى عليها، ثم قال: ((إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وإن الله - عز وجل - ينورها بصلاتي عليهم)) (¬2). ويستحب للمخبر أن يطلب من الناس أن يستغفروا للميت؛ لحديث أبي هريرة المتقدم في قصة النجاشي، وفي بعض رواياته: لما نعى للناس النجاشي قال: ((استغفروا لأخيكم)) (¬3). وحديث أبي قتادة في قصة إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتل زيد بن حارثة، وجعفر، وعبد الله بن رواحة، وفي القصة: ((ألا أخبركم عن جيشكم هذا الغازي؟ إنهم انطلقوا فلقوا العدوَّ فأصيب زيدٌ شهيداً، فاستغفروا له، فاستغفر له الناس، ثم أخذ اللواء جعفر بن أبي طالب فشدَّ على القوم حتى قُتِلَ شهيداً أشهد له بالشهادة، فاستغفروا له، ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة فأثبت قدميه حتى قتل شهيداً، فاستغفروا له، ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد ... )) (¬4) الحديث (¬5). وقال الإمام ابن الملقن - رحمه الله تعالى -: - النعي على ضربين: ¬

(¬1) فتح الباري، 3/ 117. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 458،460، 1337،ومسلم، برقم 956،وتقدم تخريجه في عذاب القبر. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم 327،3880،ومسلم، برقم 951،وتقدم تخريجه قبل قليل. (¬4) أحمد، 5/ 299، 300، 301، وحسنه الألباني في أحكام الجنائز، ص47. (¬5) وانظر: مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 408، 410.

أحدهما: مجرد إعلام؛ لقصد ديني كطلب كثرة الجماعة تحصيلا للدعاء للميت

أحدهما: مجرد إعلام؛ لقصد ديني كطلب كثرة الجماعة تحصيلاً للدعاء للميت، وتتميماً للعدد الذي وُعِدَ بقبول شفاعتهم له: كالأربعين، والمائة مثلاً، أو لتشييعه وقضاء حقه في ذلك، وقد ثبت في معنى ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ((هلا آذنتموني به)) (¬1)، ونعيه عليه الصلاة والسلام أهل مؤتة: جعفراً، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة (¬2). الثاني: فيه أمر محرم مثل: نعي الجاهلية المشتمل على ذكر مفاخر الميت، ومآثره، وإظهار التفجع عليه، وإعظام حال موته، فالأول مستحب، والثاني محرم، وعليه يُحمل نهيه عليه الصلاة والسلام عن النعي كما أخرجه الترمذي وصححه (¬3)، وهذا التفصيل هو الذي تقتضيه الأحاديث الصحيحة (¬4). الثاني عشر: العلامات التي تدل على حسن الخاتمة، كثيرة منها ما يأتي: 1 - نطقه بالشهادة عند الموت من أعظم البشارات بحسن الخاتمة؛ لحديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة)) (¬5). 2 - الموت برشح الجبين؛ لحديث بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه - أنه كان بخراسان فعاد أخاً له وهو مريض، فوجده بالموت، وإذا هو بعرق جبينه، فقال: الله أكبر سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((موت المؤمن بعرق ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 458،460، 1437،ومسلم، برقم 956،وتقدم تخريجه. (¬2) متفق عليه، البخاري، برقم 1299،1305،4263، ومسلم، برقم 935، وتقدم تخريجه. (¬3) الترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء في كراهية النعي، برقم 986، ولفظه عن حذيفة: ((سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن النعي)). (¬4) الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، 4/ 387 - 388. (¬5) أبو داود، برقم 3116، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 279، وتقدم تخريجه في آداب المريض.

أحدهما: أنه عبارة عما يكابده من شدة السياق

الجبين)) (¬1)، وكلام بريدة في رواية الإمام أحمد صريح في أن العرق على ظاهره، وفي معنى الحديث قولان: أحدهما: أنه عبارة عما يكابده من شدة السياق الذي يعرق دون جبينه، وذلك تمحيصاً لذنوبه. والثاني: أنه كناية عن كدّ المؤمن في طلب الحلال وتضييقه على نفسه بالصوم والصلاة حتى يلقى الله تعالى (¬2). 3 - الموت ليلة الجمعة أو نهارها، لما رُوي وذُكِرَ عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر)) (¬3). 4 - الاستشهاد في ساحة القتال؛ لقول الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مّنَ الله وَفَضْلٍ وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬4). وعن المقدام بن مَعْدِيكرب - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((للشهيد عند ¬

(¬1) أحمد بلفظه، 5/ 357، والترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء أن المؤمن يموت بعرق الجبين، برقم 982،بلفظ: ((المؤمن يموت بعرق الجبين))،والنسائي، كتاب الجنائز، باب علامة موت المؤمن، برقم 1829،بلفظ: ((موت المؤمن بعرق الجبين))، وابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في المؤمن يؤجر في النزع، برقم 1452،مثل لفظ الترمذي. وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 502 وغيره. (¬2) سبل السلام للصنعاني، 3/ 305. (¬3) أحمد في المسند، برقم 6582، 11/ 147، وضعفه محققو المسند، والترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء فيمن مات يوم الجمعة، برقم 1074، وقال الترمذي: ليس إسناده بالمتصل، وقال الألباني في أحكام الجنائز، ص50: ((فالحديث بمجموع طرقه حسن أو صحيح))،وحسنه في صحيح سنن الترمذي،1/ 545،وسمعت شيخنا ابن باز - رحمه الله - يضعف الحديث. والله تعالى أعلم. (¬4) سورة آل عمران، الآيات: 169 - 171.

5 - من مات في سبيل الله تعالى فهو شهيد

الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويُرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر، ويُحلَّى حلية الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويُشَفَّع في سبعين إنساناً من أقاربه)) (¬1). وهذه بشارة عظيمة، وعلامة على حسن الخاتمة، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن شهداء أمة النبي - صلى الله عليه وسلم - كثير: منهم من قتل في سبيل الله كما تقدم، ومنهم ما يأتي: 5 - من مات في سبيل الله تعالى فهو شهيد، يعني لم يباشر الحرب ولو لم يشاهده وبأي صفة مات. 6 - المطعون شهيد، وهو الذي يموت بالطاعون، وهو الوباء. 7 - المبطون شهيد، وهو الذي يموت من علة البطن، كالاستسقاء وهو انتفاخ الجوف، والإسهال، وقيل: هو الذي يموت بداء بطنه مطلقاً. 8 - الغَرِقُ شهيد، وهو الذي يموت غريقاً في الماء، يروى بغير ياء كحذِر، ويروى بالياء، وهو للمبالغة: كعليم. 9 - وصاحب الهدم شهيد، وهو الذي يموت تحت الهدم. 10 - والحريق شهيد، وهو الذي يموت بحرق النار، ومن فرط في هذه الثلاثة ولم يتحرز حتى أصابه شيء من ذلك فمات فهو عاصٍ وأمره إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه (¬2). 11 - صاحب ذات الجنب شهيد، وهي قرحة تكون في الجنب وورم شديد باطناً. 12 - المرأة تموت بُجمع شهيدة، ويقال بضم الجيم وهي المرأة ¬

(¬1) ابن ماجه، كتاب الجهاد، باب فضل الشهادة في سبيل الله، برقم 2799، والترمذي، كتاب الجهاد، باب ثواب الشهيد، برقم 1663، وقال: حسن صحيح، وأحمد، 4/ 131، و4/ 200، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 129، وفي أحكام الجنائز، ص50. (¬2) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 3/ 757.

13 - من قتل دون ماله فهو شهيد.

تموت حاملاً، وقد جمعت ولدها في بطنها، وقيل: هي البكر، وصحح القرطبي والنووي الأول (¬1). 13 - من قتل دون ماله فهو شهيد. 14 - من قتل دون أهله فهو شهيد. 15 - من قتل دون دينه فهو شهيد. 16 - من قتل دون دمه فهو شهيد. 17 - من قتل دون مظلمته فهو شهيد. 18 - السّلُّ شهادة، بكسر السين، وضمها وتشديد اللام، وهو داءٌ يحدث في الرئة يؤول إلى ذات الجنب، وقيل: زكام أو سعال طويل مع حمى هادية، وقيل: غير ذلك (¬2). فقد بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - الشهداء في غير المعركة في عدة أحوال، وخصال، وأدلة هذه الخصال ثابتة في السنة، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغَرِقُ، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله)) (¬3). وعن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((الطاعون شهادة لكل مسلم)) (¬4). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما تعدون الشهيد فيكم؟)) قالوا: يا رسول الله، من قتل في سبيل الله فهو شهيد، قال: ((إن شهداء أمتي إذا لقليل)) قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: ((من قتل في سبيل الله ¬

(¬1) كل هذه الشروح للكلمات من المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي، 3/ 756 - 758،وشرح النووي على صحيح مسلم،13/ 66 - 67،وانظر: فتح الباري، لابن حجر،6/ 43. (¬2) الترغيب والترهيب للمنذري، 2/ 309. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الجهاد، باب الشهادة سبع سوى القتل، برقم 2829، ومسلم، كتاب الإمارة، باب بيان الشهداء، برقم 1914. (¬4) مسلم، كتاب الإمارة، باب بيان الشهداء، برقم 1916.

فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد)) وفي رواية: ((والغريق شهيد)) (¬1). وعن جابر بن عتيك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((الشهداء سبعة، سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد، والغَرِقُ شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، والحَرِقُ شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجُمعٍ شهيد)) (¬2). وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن في القتل شهادة، وفي الطاعون شهادة، وفي البطن شهادة، وفي الغرق شهادة، وفي النفساء يقتلها ولدها جمعاء شهادة)) (¬3). وعن راشد بن حبيش أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل على عبادة بن الصامت يعوده في مرضه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أتعلمون من الشهيد من أمتي؟)) فقال عبادة - رضي الله عنه -:يا رسول الله الصابر المحتسب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن شهداء أمتي إذاً لقليل: القتل في سبيل الله - عز وجل - شهادة، والطاعون شهادة، والبطن شهادة، والنفساء يجرها ولدها بسره إلى الجنة، والحرق، والسّلُّ)) (¬4). وعن سعيد بن زيد - رضي الله عنه - يرفعه للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من قتل دون ماله فهو شهيد، ¬

(¬1) مسلم، كتاب الإمارة، باب بيان الشهداء، برقم 1915. (¬2) مالك في الموطأ، كتاب الجنائز، باب النهي عن البكاء على الميت، 1/ 334، واللفظ له، وأبو داود، كتاب الجنائز، باب فضل من مات في الطاعون، برقم 3111، والنسائي، كتاب الجنائز، باب النهي عن البكاء على الميت، برقم 1847، وقال النسائي في المرأة ((شهيدة)) بالتاء المربوطة، وصححه النووي في شرح صحيح مسلم، 13/ 66، والألباني في أحكام الجنائز، ص40. (¬3) أحمد، 5/ 314، 315، 317، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 5/ 300: ((رواه الطبراني وأحمد بنحوه، ورجالهما ثقات)). (¬4) أحمد، 3/ 489، وقال الهيثمي في مجمع الزوائ، د 5/ 299: ((رواه أحمد ورجاله ثقات))، وصحح إسناده الألباني في أحكام الجنائز، ص39.

19 - الموت مرابطا في سبيل الله تعالى

ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد)) (¬1). وعن سويد بن مقرن يرفعه: ((من قتل دون مظلمته فهو شهيد)) (¬2). قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: ((والذي يظهر أنه - صلى الله عليه وسلم - أُعلِمَ بالأقل ثم أُعْلِمَ زيادة على ذلك، فذكرها في وقت آخر، ولم يقصد الحصر في شيء من ذلك، وقد اجتمع لنا من الطرق الجيدة أكثر من عشرين خصلة، فإن مجموع ما قدمته مما اشتملت عليه الأحاديث التي ذكرتها أربع عشرة خصلة)) (¬3). قلت: وهي التي اشتملت عليها هذه الأحاديث التي ذكرتها فيما تقدم. 19 - الموت مرابطاً في سبيل الله تعالى؛ لحديث سلمان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأُجري عليه رزقه، وأمن الفتان)) (¬4). 20 - الموت على عمل صالح؛ لحديث حذيفة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من قال: لا إله إلا الله ابتغاء وجهه ختم له بها دخل الجنة، ومن صام يوماً ابتغاء وجه الله خُتِمَ له بها دخل الجنة، ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة)) (¬5). ¬

(¬1) أبو داود، برقم 4772، والنسائي، برقم 4099، والترمذي برقم 1418، وابن ماجه، برقم 2580، وأحمد، برقم 1652. (¬2) النسائي، كتاب المحاربة، باب من قتل دون مظلمته، برقم 4101، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 3/ 858. (¬3) فتح الباري، 6/ 43، وذكر: ومن وقصه فرسه في سبيل الله، أو لدغته هامة، أو مات على فراشه على أي حتف شاء الله، فهو شهيد، وصحح الدارقطني ((موت الغريب شهادة))، ولابن حبان ((من مات مرابطاً مات شهيداً)). (¬4) مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الرباط في سبيل الله - عز وجل -، برقم 1913. (¬5) أحمد، 5/ 391، وصحح إسناده الألباني في أحكام الجنائز، ص58.

21 - ثناء الناس على الميت

وعن أنس يرفعه: ((إذا أراد الله بعد خيراً استعمله)) فقيل: كيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: ((يوفقه لعمل صالح قبل الموت)) (¬1). وعن عمر بن المحبق يرفعه: ((إذا أراد الله بعبد خيراً عسله)) قالوا: وكيف يعسله؟ قال: ((يفتح الله - عز وجل - له عملاً صالحاً بين يدي موته حتى يرضى عنه جيرانه أو من حوله)) (¬2). وعن جابر يرفعه: ((من مات على شيء بُعِثَ عليه)) (¬3). 21 - ثناء الناس على الميت؛ من جميع المؤمنين الصادقين أقلهم اثنان من جيرانه العارفين به من ذوي الصلاح والعلم موجب له الجنة بفضل الله - عز وجل - ومن علامات حسن الخاتمة؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: مُرَّ على النبي - صلى الله عليه وسلم - بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال: ((وجبت)) ثم مرَّ بأخرى فأثنوا عليها شرّاً أو قال غير ذلك، فقال: ((وجبت)) فقيل: يا رسول الله! قلت لهذا: وجبت، ولهذا: وجبت، فقال: ((شهادة القوم للمؤمن شهادة الله في الأرض)). وفي لفظ: فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ما وجبت؟ قال: ((هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرّاً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض)). ولفظ مسلم: ((وجبت، وجبت، وجبت، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض)) (¬4). وفي حديث عمر - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة)) قلنا: وثلاثة: قال: ((وثلاثة)) ¬

(¬1) الترمذي، برقم 2142، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 445، وتقدم تخريجه في أسباب حسن الخاتمة. (¬2) أحمد، 5/ 224، والحاكم، 1/ 340، وغيرهما، وصححه الألباني في الصحيحة، برقم 1114، وتقدم تخريجه في أسباب حسن الخاتمة. (¬3) أحمد، 3/ 314، وغيره، وصححه الألباني في الصحيحة، برقم 283. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب ثناء الناس على الميت، برقم 1367، ورقم 2642، ومسلم، كتاب الجنائز، باب فيمن يثنى عليه خيراً أو شرّاً من الموتى، برقم 949.

الثالث عشر: فضائل الصبر والاحتساب على المصائب، كثيرة منها ما يأتي:

قلنا: واثنان؟ قال: ((واثنان)) ثم لم نسأله عن الواحد (¬1). وفي حديث أنس زيادة عند الحاكم: ((ما من مسلم يموت يشهد له أربعة من أهل أبيات جيرانه الأقربين أنهم لا يعلمون منه إلا خيراً إلا قال الله تبارك وتعالى: قد قبلت قولكم أو قال: شهادتكم وغفرت له ما لا تعلمون)) (¬2). وفي حديث أنس عند الحاكم أيضاً: (( ... إن لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من خير أو شر)) (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: (( ... الملائكة شهداء في السماء وأنتم شهداء الله في الأرض)) (¬4). والله - عز وجل - أكرم الأكرمين وهو أرحم الراحمين (¬5). الثالث عشر: فضائل الصبر والاحتساب على المصائب، كثيرة منها ما يأتي: 1 - صلوات الله ورحمته وهدايته للصابرين: قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مّن رَّبّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (¬6). {وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ} أي بشرهم بأنهم يُوفَّوْن أجورهم بغير حساب، فالصابرون هم الذين فازوا بالبشارة العظيمة، والمنحة الجسيمة، ثم وصفهم بقوله: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ} وهي كل ما يؤلم القلب أو البدن، أو كليهما، كما تقدم في الآيات، ومن ذلك موت الأحباب، ¬

(¬1) البخاري، كتاب الجنائز، باب ثناء الناس على الميت، برقم 1368، ورقم 2643. (¬2) أصله في البخاري ومسلم، وهذا لفظ الحاكم، 1/ 378. (¬3) الحاكم، 1/ 377، وأصله متفق عليه، وصححه الألباني في أحكام الجنائز، ص61. (¬4) النسائي، كتاب الجنائز، باب الثناء، برقم 1932،وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 2/ 38. (¬5) ذكر العلامة الألباني رحمه الله زيادات في أحكام الجنائز، ص60، فراجعها فإنها مفيدة. (¬6) سورة البقرة، الآيات: 155 - 157.

2 - الاستعانة بالصبر من أسباب السعادة

والأولاد، والأقارب، والأصحاب، ومن أنواع الأمراض في بدن العبد أو بدن من يحبه، {قَالُواْ إِنَّا لِله} أي مملوكون لله، مدبرون تحت أمره، وتصريفه، فليس لنا من أنفسنا وأولادنا، وأموالنا شيء، فإذا ابتلانا بشيء فقد تصرف أرحم الراحمين بمماليكه وأموالهم فلا اعتراض عليه، بل من كمال عبودية العبد: علمه بأن وقوع البلية من المالك الحكيم الذي أرحم بعبده من نفسه ووالدته، فيوجب له ذلك الرضا عن الله، والشكر له على تدبيره؛ لما هو خير لعبده وإن لم يشعر بذلك، ومع أننا مملوكون لله فإنا إليه راجعون يوم المعاد، فمجاز كل عامل بعمله، فإن صبرنا واحتسبنا وجدنا أجرنا موفراً عنده، وإن جزعنا وسخطنا لم يكن حظنا إلا السخط وفوات الأجر، فكون العبد لله وراجع إليه من أقوى أسباب الصبر {أُولَئِكَ} الموصوفون بالصبر المذكور {عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مّن رَّبّهِمْ} أي ثناء من الله عليهم {وَرَحْمَةٌ} عظيمة، ومن رحمته إياهم أن وفقهم للصبر الذي ينالون به كمال الأجر {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} الذين عرفوا الحق، وهو في هذا الموضع علمهم بأنهم لله، وأنهم إليه راجعون، وعملوا به، وهو هنا: صبرهم لله (¬1). قال أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه -: ((نعم العدلان ونعمة العلاوة {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مّن رَّبّهِمْ وَرَحْمَةٌ} فهذان العدلان، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} فهذه العلاوة، وهي ما توضع بين العدلين، وهي زيادة في الحمل، فكذلك هؤلاء أعطوا ثوابهم وزيدوا أيضا)) (¬2). 2 - الاستعانة بالصبر من أسباب السعادة، قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} (¬3). ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن للعلامة السعدي، ص76، وتفسير ابن كثير، ص135. (¬2) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، ص135، وهو في صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب الصبر عند الصدمة الأولى، الباب رقم 42، قبل الحديث رقم 1302. (¬3) سورة البقرة، الآية: 45.

3 - محبة الله للصابرين

3 - محبة الله للصابرين، قال الله - عز وجل -: {وَالله يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (¬1). 4 - معية الله للصابرين: قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ} (¬2). 5 - استحقاق دخول الجنة لمن صبر، قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا} (¬3). 6 - الصابرون يوفون أجورهم بغير حساب، فلا يوزن لهم، ولا يكال لهم إنما يغرف لهم غرفا، وبدون عدٍّ ولا حدٍّ، ولا مقدار (¬4)، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬5). 7 - جميع المصائب مكتوبة في اللوح المحفوظ، من قبل أن يخلق الله الخليقة ويبرأ النسمة، وهذا أمر عظيم لا تحيط به العقول بل تذهب عند أفئدة أولي الألباب، ولكنه على الله يسير (¬6)، قال الله - عز وجل -: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَالله لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (¬7). 8 - ما أصاب من مصيبة في النفس، والمال والولد، والأحباب، ونحوهم إلا بقضاء الله وقدره، قد سبق بذلك علمه وجرى به قلمه، ونفذت به مشيئته، واقتضته حكمته، فإذا آمن العبد أنها من عند الله فرضي بذلك وسلم لأمره، فله الثواب الجزيل والأجر الجميل، في ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 146. (¬2) سورة البقرة، الآية: 153. (¬3) سورة الفرقان، الآية: 75. (¬4) تفسير ابن كثير، ص1151، وتفسير السعدي، ص721. (¬5) سورة الزمر، الآية: 10. (¬6) تفسير ابن كثير، ص1313، وتفسير السعدي، ص842. (¬7) سورة الحديد، الآيتان، 22 - 23.

9 - الله تعالى يجزي الصابرين بأحسن ما كانوا يعملون

الدنيا والآخرة، ويهدي الله قلبه فيطمئن ولا ينزعج عند المصائب، ويرزقه الله الثبات عند ورودها، والقيام بموجب الصبر فيحصل له بذلك ثواب عاجل، مع ما يدخره الله له يوم الجزاء من الثواب (¬1)، قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ الله وَمَن يُؤْمِن بِالله يَهْدِ قَلْبَهُ وَالله بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬2)، قال علقمة عن عبد الله: {وَمَن يُؤْمِن بِالله يَهْدِ قَلْبَهُ} هو الرجل الذي أصابته مصيبة رضي بها وعرف أنها من عند الله)) (¬3). وما أحسن ما قال ابن ناصر الدين الدمشقي رحمه الله تعالى: سبحان من يبتلي أناساً ... أحبَّهم والبلاءُ عطاءُ فاصبرْ لبلْوى وكن راضياً ... فإن هذا هو الدواءُ سلّم إلى الله ما قضاه ... ويفعل الله ما يشاءُ (¬4) 9 - الله تعالى يجزي الصابرين بأحسن ما كانوا يعملون، قال تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬5) قَسَمٌ من الرب تعالى مؤكَّدٌ باللام أنه يجازي الصابرين بأحسن أعمالهم: الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة؛ فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، أي ويتجاوز عن سيئاتهم (¬6)، ولله دَرُّ أبي يعلى الموصلي القائل: إني رأيت وفي الأيام تجربة ... للصبر عاقبة محمودة الأثر ¬

(¬1) تفسير السعدي، ص867. (¬2) سورة التغابن، الآية: 11. (¬3) البخاري، كتاب التفسير، سورة التغابن، بعد الحديث رقم 4907. (¬4) برد الأكباد عند فقد الأولاد للحافظ المحدث أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد المعروف بابن ناصر الدين الدمشقي (777 - 842هـ)، ص12. (¬5) سورة النحل، الآية: 96. (¬6) تفسير ابن كثير، ص753، وتفسير السعدي، ص449.

10 - ما يقال عند المصيبة

وقلّ من جدَّ في أمره يحاوله ... واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر (¬1) 10 - ما يقال عند المصيبة والجزاء والثواب والأجر العظيم على ذلك، فعن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، اللهم أْجُرْني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها إلا أجره الله في مصيبته واخلف له خيراً منها)) قالت أم سلمة، فلما توفي أبو سلمة - رضي الله عنه - قلت كما أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخلف الله خيراً منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي لفظ: ((ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: ((إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، اللهم أْجُرْني في مصيبتي وأخلِفْ لي خيراً منها ... )) الحديث (¬2). وفي لفظ ابن ماجه: ((إنَّا لله وإنا إليه راجعون، اللهم عندك أحتسب مصيبتي فأْجُرْني فيها وعوّضني خيراً منها)) (¬3). وحديث أبي موسى الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد)) (¬4). قال ابن ناصر الدين رحمه الله تعالى: يجري القضاء وفيه الخير نافلة ... لمؤمن واثق بالله لا لاهي إن جاءه فرحٌ أو نابه ترحٌ ... في الحالتين يقول الحمد لله (¬5) ¬

(¬1) انظر: الصبر الجميل لسليم الهلالي، 15 - 16. (¬2) مسلم، كتاب الجنائز، باب ما يقال عند المصيبة، برقم 918. (¬3) ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الصبر على المصيبة، برقم 1598، وصححه الألباني، في صحيح سنن ابن ماجه، 1/ 267، وأصله في صحيح مسلم. (¬4) الترمذي، برقم 1021، ويأتي تخريجه. (¬5) برد الأكباد عند فقد الأولاد للحافظ محمد بن عبد الله بن ناصر الدين، ص17.

11 - الأجر العظيم والثواب الكثير والفوز بالجنة

11 - الأجر العظيم والثواب الكثير والفوز بالجنة لمن مات حبيبه المصافي فصبر وطلب الأجر من الله تعالى، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول الله تعالى: ((ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ إذا قبضت صفيَّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة)) (¬1)، قوله: ((جزاء)) أي ثواب وقوله: ((إذا قبضت صَفِيَّه))، وهو الحبيب المصافي: كالولد، والأخ، وكل ما يحبه الإنسان، والمراد بالقبض قبض روحه وهو الموت: ... وقوله: ((ثم احتسبه إلا الجنة)) والمراد: صبر على فقده راجياً من الله الأجر والثواب على ذلك. والاحتساب: طلب الأجر من الله تعالى خالصاً. ووجه الدلالة من هذا الحديث أن الصفي أعم من أن يكون ولداً أم غيره، وقد أفرد ورتب الثواب بالجنة لمن مات له فاحتسبه)) (¬2). وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يقول: ((صفيه: حبيبه: كولده، أو أبيه، أو أمه، أو زوجته)) (¬3). 12 - أشد الناس بلاءً: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل؛ لحديث مصعب بن سعد عن أبيه - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: ((الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل: يُبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صُلباً اشتدَّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقّةٌ ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)) (¬4). ¬

(¬1) البخاري، كتاب الرقاق، باب العمل الذي يبتغى به وجه الله، برقم 6424. (¬2) فتح الباري، لابن حجر، 11/ 242 - 243. (¬3) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 6424، وذلك في فجر أحد الموافق 14/ 10/1419هـ في الجامع الكبير بالرياض. (¬4) الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، برقم 2398، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، برقم 4023، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 565 وفي صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 371 وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 143.

13 - من كان بلاؤه أكثر فثوابه وجزاؤه أعظم وأكمل

أكثر وأصعب بلاء: أي محنة ومصيبة؛ لأنهم لو لم يبتلوا لتوهم فيهم الألوهية؛ وليتوهن على الأمة الصبر على البلية؛ ولأن من كان أشد بلاء كان أشد تضرعاً، والتجاء إلى الله تعالى، ((ثم الأمثل فالأمثل)) أي الفضلاء، والأشرف فالأشرف والأعلى فالأعلى رتبة ومنزلة، فكل من كان أقرب إلى الله يكون بلاؤه أشد؛ ليكون ثوابه أكثر، ((فإن كان في دينه صلباً)) أي قوياً شديدا ((اشتد بلاؤه)) أي كمية وكيفية، ((فما يبرح البلاء)) أي ما يفارق (¬1). ومما يزيد ذلك وضوحاً وتفسيراً، حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه: ((إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمل، فما يزال الله يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها)) (¬2). 13 - من كان بلاؤه أكثر فثوابه وجزاؤه أعظم وأكمل؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن عِظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)) (¬3). المقصود الحث على الصبر على البلاء بعد وقوعه، لا الترغيب في طلبه للنهي عنه، فمن رضي بما ابتلاه الله به فله الرضى منه تعالى وجزيل الثواب، ومن سَخِطَ: أي كره بلاء الله وفزع ولم يرض بقضائه تعالى، فله السخط منه تعالى وأليم العذاب، ومن يعمل سوءاً يُجز به (¬4). ولا شك أن الصبر ضياء كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((والصبر ضياء)) (¬5). ¬

(¬1) تحفة الأحوذي للمباركفوري، 7/ 78 - 79. (¬2) أبو يعلى، وابن حبان، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1599. (¬3) الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، برقم 2396، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، برقم 4031، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 564، وفي صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 373، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 146. (¬4) تحفة الأحوذي للمباركفوري 7/ 77. (¬5) مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، برقم 223.

14 - ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة

والضياء: هو النور الذي يحصل فيه نوع حرارة وإحراق كضياء الشمس بخلاف القمر، فإنه نور محض فيه إشراق بغير إحراق، ولما كان الصبر شاقّاً على النفوس يحتاج إلى مجاهدة النفس، وحبسها، وكفها عما تهواه، كان ضياءً (¬1)؛ ولهذا والله أعلم يُوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب، بفضل الله - عز وجل -. 14 - ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة حتى يلقى الله وما عليه خطيئة؛ لأنها زالت بسبب البلاء (¬2)؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة: في نفسه، وماله، وولده، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة)) (¬3). 15 - فضل من يموت له ولد فيحتسبه، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من الناس مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث (¬4) إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم)) (¬5).والولد يشمل الذكر والأنثى. وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما تعدّون الرّقوب (¬6) فيكم؟)) قال: قلنا: الذي لا يولد له. قال: ((ليس ذاك بالرقوب، ولكنه الرجل الذي لم يقدم من ولده شيئاً)) (¬7). 16 - من مات له ثلاثة من الولد كانوا له حجاباً من النار؛ ودخل ¬

(¬1) جامع العلوم والحكم، لابن رجب، 2/ 24، 25. (¬2) تحفة الأحوذي للمباركفوري، 7/ 80. (¬3) الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، برقم 2399،وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 565،وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 2280. (¬4) لم يبلغوا الحنث: أي لم يبلغوا سن التكليف الذي يكتب فيه الحنث وهو الإثم. شرح النووي على صحيح مسلم، 16/ 420. (¬5) البخاري، كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المسلمين، برقم 1381. (¬6) أصل الرقوب في كلام العرب الذي لا يعيش له ولد. (¬7) مسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل من يملك نفس عند الغضب، برقم 2608.

17 - من قدم اثنين من أولاده دخل الجنة

الجنة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث كان له حجاباً من النار أو دخل الجنة)) (¬1). وفي مسلم أنه قال لامرأة مات لها ثلاثة من الولد: ((لقد احتظرت بحظار شديد (¬2) من النار)) (¬3)؛ ولحديث عتبة بن عبدٍ - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد، لم يبلغوا الحنث إلا تلقَّوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل)) (¬4). 17 - من قدم اثنين من أولاده دخل الجنة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لنسوة من الأنصار: ((لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد فتحتسبه إلا دخلت الجنة))،فقالت امرأة منهن: أو اثنين يا رسول الله؟ قال: ((أو اثنين)) (¬5)،قال النووي رحمه الله: ((وقد جاء في غير مسلم ((وواحد)) (¬6). وعن أبي صالح ذكوان عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا سول الله، ذهب الرجال بحديثك فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله، قال: ((اجتمعن يوم كذا وكذا))، فاجتمعن فأتاهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعلّمهن مما علّمه الله قال: ((ما منكن من امرأة ¬

(¬1) البخاري، كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المسلمين، قبل الحديث، رقم 1381، وتكلم الحافظ ابن حجر في فتح الباري، 3/ 245 عن وصله. (¬2) احتظرت: أي امتنعت بمانع وثيق، والحظار ما يجعل حول البستان وغيره من قضبان وغيرها كالحائط، شرح النووي على صحيح مسلم، 16/ 420 - 421. (¬3) مسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه، برقم 2636. (¬4) ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب في ثواب من أصيب بولده، برقم 1603، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 46. (¬5) مسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه، برقم 151 (2632). (¬6) شرح النووي على صحيح مسلم، 16/ 420 وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري، 3/ 119 جميع الأحاديث التي فيها زيادة واحد وتكلم عليها كلاماً نفيساً، ثم أشار إلى أن الذي يستدل به على ذلك حديث: ((ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة))، قال: وهذا يدخل فيه الواحد)) فتح الباري، 3/ 119، و 11/ 243.

18 - من مات له واحد من أولاده فاحتسبه وصبر دخل الجنة

تقدم بين يديها من ولدها ثلاثة إلا كانوا لها حجاباً من النار)) فقالت امرأة: واثنين، واثنين، واثنين؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((واثنين، واثنين، واثنين)) (¬1). 18 - من مات له واحد من أولاده فاحتسبه وصبر دخل الجنة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول الله تعالى: ((ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة)) (¬2). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((وهذا يدخل فيه الواحد فما فوقه وهو أصح ما ورد في ذلك، وقوله: ((فاحتسب)) أي صبر راضياً بقضاء الله راجياً فضله)) (¬3)، وذكر ابن حجر رحمه الله أنه يدخل في ذلك حديث قرة بن إياس، وسيأتي في الحديث الآتي (¬4). وسيأتي أيضاً حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - الذي فيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد)) فهو يدل على أن من مات له ولد واحد دخل الجنة (¬5). 19 - من مات له ولد فاحتسبه وجده ينتظره عند باب الجنة، بفضل الله - عز وجل - ورحمته؛ لحديث قرة بن إياس - رضي الله عنه - أن رجلاً كان يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه ابن له، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أتحبه؟)) فقال: يا رسول الله أحبك الله كما أحبه، ففقده النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((ما فعل ابن فلان؟)) قالوا: يا رسول الله مات، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبيه: ((أما تحب أن لا تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدته ينتظرك؟)) فقال رجل: يا رسول الله: أله خاصة أو لكلنا؟ فقال: ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب فضل من مات له ولد فاحتسبه، برقم 101،و1249، و7310، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه، برقم 2633. (¬2) البخاري، كتاب الرقاق، باب العمل الذي يُبتغى به وجه الله، برقم 6424. (¬3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 3/ 119، ولابن حجر كلام يؤيد هذا في شرحه للحديث رقم 6424، في فتح الباري، 11/ 243. (¬4) فتح الباري، 11/ 243. (¬5) الترمذي، برقم 1021، وسيأتي.

20 - المؤمن إذا مات ولده سواء كان ذكرا أو أنثى وصبر واحتسب وحمد الله على تدبيره

((بل لكلكم))، ولفظ النسائي: ((ما يسرك أن لا تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدته عنده يسعى يفتح لك)) (¬1). 20 - المؤمن إذا مات ولده سواء كان ذكراً أو أنثى وصبر واحتسب وحمد الله على تدبيره وقضائه بنى الله له بيتاً في الجنة وسماه بيت الحمد؛ لحديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا مات ولد العبد، قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد)) (¬2). وعن أبي سلمى راعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((بخ بخ - وأشار بيده لخمس - ما أثقلهن في الميزان: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، والولد الصالح يتوفى للمرء المسلم فيحتسبه)) (¬3). 21 - السقط يجرُّ أمَّه بسرره إلى الجنة؛ لحديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:قال: ((والذي نفسي بيده إن السقط ليجرُّ أُمَّهُ بسَرَرِه إلى الجنة إذا احتسبته)) (¬4). 22 - ومما يشرح صدر المسلم ويبرّد حرَّ مصيبته أن أولاد المسلمين في الجنة، قال الإمام النووي رحمه الله بعد أن ساق الأحاديث في فضل من يموت له ولد فيحتسبه: ((وفي هذه الأحاديث دليل على كون أطفال المسلمين في الجنة، وقد نقل جماعة فيهم إجماع المسلمين))، ونقل ¬

(¬1) النسائي، كتاب الجنائز، باب الأمر باحتساب الأجر، برقم 1871، رقم الباب 22، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري، 11/ 243: ((أخرجه أحمد والنسائي، وسنده على شرط الصحيح، وقد صححه ابن حبان والحاكم))، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 2/ 404. (¬2) الترمذي، كتاب الجنائز، باب فضل المصيبة إذا احتسب، برقم 1021،وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 520، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1408. (¬3) أخرجه ابن سعد في الطبقات، 7/ 433، وابن حبان، برقم 2328، والحاكم، 1/ 511 - 512، وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في الأحاديث الصحيحة، برقم 1204. (¬4) ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء فيمن أصيب بسقط، برقم 1609، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 46.

23 - من تصبر ودرب نفسه على الصبر صبره الله وأعانه وسدده

عن المازري قوله: ((ونقل جماعة الإجماع في كونهم من أهل الجنة قطعاً؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مّنْ عَمَلِهِم مّن شَيْءٍ} (¬1) (¬2). ويدل عليه حديث أبي هريرة أن أولاد المسلمين في الجنة، ((وأن أحدهم يلقى أباه فيأخذ بثوبه أو بيده فلا يتركه حتى يدخله الله وأباه أو قال: أبويه الجنة)) (¬3). وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يقول: ((أجمع المسلمون على أن أولاد المسلمين في الجنة، أما أولاد الكفار ففيهم خلاف، وأصح ما قيل فيهم أنهم يمتحنون يوم القيامة، أو هم من أهل الجنة بدون امتحان وهو أصح)) (¬4). وهو الصواب (¬5)؛ لحديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه - في الحديث الطويل وفيه: ((وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم، وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة)) فقال بعض المسلمين: يا رسول الله: وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وأولاد المشركين)) (¬6). 23 - من تصبّر ودرّب نفسه على الصبر صبَّره الله وأعانه وسدّده؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: ((ومن يستعفف يعفّه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبَّر يصبّره الله، وما أعطي أحدٌ عطاءً خيراً وأوسع من الصبر)) (¬7). ¬

(¬1) سورة الطور، الآية: 21. (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم، 16/ 421. (¬3) مسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل من يموت له ولد، فيحتسبه، برقم 2635. (¬4) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 1381، و1382. (¬5) انظر: فتح الباري لابن حجر، 3/ 246. (¬6) البخاري، كتاب التعبير، باب الرؤيا بعد صلاة الصبح، برقم 7047. (¬7) متفق عليه: البخاري، كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة، برقم 1469،وكتاب الرقاق، باب الصبر عن محارم الله، برقم 6470،ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل التعفف والصبر، برقم 1053.

24 - من أراد الله به خيرا أصابه بالمصائب؛ ليثيبه عليها

24 - من أراد الله به خيراً أصابه بالمصائب؛ ليثيبه عليها (¬1)؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من يُرد الله به خيراً يُصِبْ منه)) (¬2). وسمعت شيخنا عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله يقول: ((أي بالمصائب بأنواعها، وحتى يتذكر فيتوب، ويرجع إلى ربه)) (¬3). 25 - أمر المؤمن كله خير في السراء والضراء، وفي الشدة والرخاء؛ لحديث صهيب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاءُ شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراءُ صبر فكان خيراً له)) (¬4). 26 - المصيبة تحطُّ الخطايا حطّاً كما تحطّ الشجرة ورقها؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفَّر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها)) (¬5). وعن عبد الله - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به سيئاته كما تحطُّ الشجرة ورقها)) (¬6). وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما يُصيب المؤمن من نصب، ولا وصب، ولا همّ، ولا حزن، ولا أذى، ولا غمٍّ حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)) (¬7)، وفي لفظ: ((ما ¬

(¬1) فتح الباري لابن حجر، 10/ 108. (¬2) البخاري، كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرضى، برقم 5645. (¬3) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 5645. (¬4) مسلم، كتاب الزهد، باب المؤمن أمره كله خير، برقم 2999. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرض، برقم 5640، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه، برقم 49 (2572). (¬6) مسلم، كتاب البر والصلة، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه، برقم 2571. (¬7) متفق عليه: البخاري، كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرض، برقم 5641، 5642، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه، برقم 2573.

27 - يجتهد المسلم في استكمال شروط الصبر

يصيب المؤمن من وَصَب (¬1)، ولا نَصَب (¬2)، ولا سَقم ... )). 27 - يجتهد المسلم في استكمال شروط الصبر التي إذا عمل بها المصاب المسلم حصل على الثواب العظيم والأجر الجزيل، وتتلخص هذه الشروط في ثلاثة أمور: الشرط الأول: الإخلاص لله - عز وجل - في الصبر؛ لقول الله - عز وجل -: {وَلِرَبّكَ فَاصْبِرْ} (¬3)، ولقوله - عز وجل - في صفات أصحاب العقول السليمة: {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} (¬4)، وهذا هو الإخلاص في الصبر المبرأ من شوائب الرياء وحظوظ النفس. الشرط الثاني: عدم شكوى الله تعالى إلى العباد؛ لأن ذلك ينافي الصبر ويخرجه إلى السخط والجزع؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قال الله تعالى: إذا ابتليت عبدي المؤمن ولم يشكني إلى عوّاده أطلقته من إساري، ثم أبدلته لحماً خيراً من لحمه، ودماً خيراً من دمه، ثم يستأنف العمل)) (¬5). والله در الشاعر الحكيم حيث قال: وإذا عرتك بليّة فاصبر لها ... صبر الكريم فإنه بك أعلم وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما ... تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم (¬6) الشرط الثالث: أن يكون الصبر في أوانه ولا يكون بعد انتهاء زمانه؛ ¬

(¬1) الوصب: المرض. (¬2) النصب: التعب. (¬3) سورة المدثر، الآية: 7. (¬4) سورة الرعد، الآية: 22. (¬5) الحاكم في المستدرك، 1/ 349، وقال: ((هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه)) ووافقه الذهبي. (¬6) الفوائد لابن القيم، ص165، وانظر: الصبر الجميل، لسليم الهلالي، ص28.

28 - أمور لا تنافي الصبر ولا بأس بها منها:

لحديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بامرأة تبكي عند قبر فقال: ((اتقي الله واصبري)) [فقالت]: إليك عنّي فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي، فأتت باب النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى)) (¬1).أي الصبر الكامل الذي يترتب عليه الأجر الجزيل؛ لكثرة المشقة فيه، وأصل الصدم الضرب في شيء صلب، ثم استعمل مجازاً في كل مكروه حصل بغتة (¬2). 28 - أمور لا تنافي الصبر ولا بأس بها منها: الأمر الأول: الشكوى إلى الله تعالى؛ فالتضرع إليه ودعاؤه في أوقات الشدة عبادة عظيمة، فإن الله أخبر عن يعقوب بقوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَالله الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (¬3). وقال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (¬4). وقال: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثّي وَحُزْنِي إِلَى الله وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (¬5). وأيوب عليه الصلاة والسلام أخبر الله عنه {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (¬6). وقال الله تعالى عنه: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (¬7)، فإذا ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب زيارة القبور، برقم 1283، ومسلم، كتاب الجنائز، باب في الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى، برقم 15 (926). (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 481. (¬3) سورة يوسف، الآية: 18. (¬4) سورة يوسف، الآية: 83. (¬5) سورة يوسف، الآية: 86. (¬6) سورة الأنبياء، الآية: 83. (¬7) سورة ص، الآية: 44.

الأمر الثاني: الحزن ودمع العين

أصاب العبد مصيبة فأنزلها بالله وطلب كشفها منه فلا ينافي الصبر (¬1). الأمر الثاني: الحزن ودمع العين؛ فإن ذلك قد حصل لأكمل الخلق نبينا محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: دخلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي سيف القين (¬2) - وكان ظئراً (¬3) لإبراهيم - عليه السلام - - فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إبراهيم فقبَّله وشمَّهُ، ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه (¬4)، فجعلت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تذرفان (¬5)، فقال له عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: وأنت يا رسول الله (¬6)؟ فقال: ((يا ابن عوف إنها رحمة)) ثم أتبعها بأخرى (¬7)، فقال: ((إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يَرْضَى ربُّنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)) (¬8).قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((ووقع في حديث عبد الرحمن بن عوف نفسه: ((فقلت: يا رسول الله تبكي أو لم تنه عن البكاء؟ وزاد فيه: ((إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لهوٍ ولعبٍ ومزامير الشيطان، وصوت عند مصيبة: خمش وجوه، وشق جيوب، ورنة شيطان)).قال: ((إنما هذه رحمة، ¬

(¬1) انظر: الصبر الجميل، لسليم الهلالي، ص84 (¬2) القين: الحداد، ويطلق على كل صانع، يقال: قان الشيء: إذا أصلحه. فتح الباري لابن حجر، 3/ 173. (¬3) ظئراً: مرضعاً، وأطلق عليه ذلك لأنه كان زوج المرضعة، وأصل الظئر: من ظارت الناقة إذا عطفت على غير ولدها، فقيل ذلك للتي ترضع غير ولدها، وأطلق ذلك على زوجها؛ لأنه يشاركها في تربيته غالباً. وإبراهيم: ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتح الباري لابن حجر، 3/ 173. (¬4) يجود بنفسه: أي يخرجها ويدفعها كما يدفع الإنسان ماله. فتح الباري لابن حجر،3/ 173. (¬5) تذرفان: يجري دمعها. فتح الباري لابن حجر، 3/ 174. (¬6) وأنت يا رسول الله: أي الناس لا يصبرون على المصيبة وأنت تفعل كفعلهم، كأنه تعجب لذلك منه مع عهده منه أنه يحثه على الصبر وينهى عن الجزع، فأجابه بقوله: ((إنها رحمة: أي الحالة التي شاهدتها مني هي رقة القلب على الولد لا ما توهمت من الجزع)) فتح الباري لابن حجر، 3/ 174. (¬7) ثم أتبعها بأخرى: قيل: أتبع الدمعة بدمعة أخرى، وقيل: أتبع الكلمة الأولى المجملة وهي قوله: ((إنها رحمة)) بكلمة أخرى مفصلة وهي قوله: ((إن العين تدمع)) فتح الباري لابن حجر،3/ 174. (¬8) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنا بك لمحزونون))، برقم 1303، ومسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته - صلى الله عليه وسلم - بالصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك، برقم 2315.

ومن لا يَرحم لا يُرحم)) (¬1). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((هذا الحديث يفسّر البكاء المباح، والحزن الجائز، وهو ما كان بدمع العين، ورقة القلب من غير سخط لأمر الله، وهو أبين شيء وقع في هذا المعنى، وفيه مشروعية تقبيل الولد وشمه، ومشروعية الرضاع، وعيادة الصغير، والحضور عند المحتضر، ورحمة العيال، وجواز الإخبار عن الحزن وإن كان الكتمان أولى، وفيه وقوع الخطاب للغير وإرادة غيره بذلك، وكل منهما مأخوذ من مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولده مع أنه في تلك الحالة لم يكن ممن يفهم الخطاب لوجهين: أحدهما: صغره، والثاني نزاعه. وإنما أراد بالخطاب غيره من الحاضرين إشارة إلى أن ذلك لم يدخل في نهيه السابق، وفيه جواز الاعتراض على من خالف فعله ظاهر قوله؛ ليظهر الفرق)) (¬2). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((اشتكى سعد بن عبادة شكوى له فأتاه النبي [- صلى الله عليه وسلم -] يعوده مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم -، فلما دخل عليه فوجده في غاشية أهله (¬3) فقال: ((قد قضى؟)) قالوا: لا يا رسول الله، فبكى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما رأى القوم بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بَكَوْا، فقال: ((ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذّبُ بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا (¬4) - وأشار إلى لسانه - أو يرحم (¬5)، وإن الميت يعذَّب ببكاء أهله عليه)) (¬6)، وكان عمر - رضي الله عنه - يضرب فيه ¬

(¬1) فتح الباري لابن حجر، 3/ 174. (¬2) فتح الباري، لابن حجر، 3/ 174. (¬3) في غاشية أهله: أي الذين يغشونه للخدمة وغيرها. فتح الباري لابن حجر،3/ 175. (¬4) ولكن يعذب بهذا: أي إن قال سوءاً. فتح الباري لابن حجر، 3/ 175. (¬5) أو يرحم: أي إن قال خيراًً. فتح الباري لابن حجر، 3/ 175. (¬6) يعذب ببكاء أهله عليه: البكاء المحرم على الميت هو النوح، والندب بما ليس فيه، والبكاء المقرون بهما أو بأحدهما، شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 480. وانظر فتح الباري لابن حجر، 3/ 153 - 160، وشرح النووي، 6/ 482 - 486.

29 - الأمور التي تعين على الصبر على المصيبة بفقد الأحباب كثيرة منها ما يأتي:

بالعصا، ويرمي بالحجارة، ويحثي بالتراب)) (¬1). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((في هذا إشعار بأن هذه القصة كانت بعد قصة إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن عبد الرحمن بن عوف كان معهم في هذه ولم يعترضه بمثل ما اعترض به هناك، فدل على أنه تقرر عنده العلم بأن مجرد البكاء بدمع العين من غير زيادة على ذلك لا يضر)) (¬2). وفي حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنه - في قصة لصبي لإحدى بنات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لرسول ابنته: ((ارجع إليها فأخبرها: إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبرْ ولتحتسب)) فأرسلتْ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقسمت عليه أن يحضر، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وقام معه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأسامة معهم، وحينما رفع الصبي للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في النزع، فاضت عيناه، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: ((هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء)) (¬3). وقد روى أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ((شهدنا بنتاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس على القبر، قال: فرأيت عينيه تدمعان)) (¬4). 29 - الأمور التي تعين على الصبر على المصيبة بفقد الأحباب كثيرة منها ما يأتي: الأمر الأول: معرفة جزاء المصيبة وثوابها وهذا من أعظم العلاج الذي يبرد حرارة المصيبة، وتقدمت الأدلة على ذلك. ¬

(¬1) متفق عليه: كتاب الجنائز، باب البكاء عند المريض، برقم 1304، ومسلم، كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت، برقم 924. (¬2) فتح الباري لابن حجر، 3/ 175. (¬3) متفق عليه، البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه))،برقم 1284،ومسلم، كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت، برقم 923. (¬4) البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه)) برقم 1285.

الأمر الثاني: العلم بتكفيرها للسيئات وحطها كما تحط الشجرة ورقها

الأمر الثاني: العلم بتكفيرها للسيئات وحطها كما تحط الشجرة ورقها (¬1). الأمر الثالث: الإيمان بالقدر السابق بها وأنها مقدرة في أم الكتاب كما تقدم. الأمر الرابع: معرفة حق الله في تلك البلوى، فعليه الصبر والرضا، والحمد والاسترجاع والاحتساب. الأمر الخامس: أن يعلم أن الله قد ارتضاها له واختارها وقسمها، وأن العبودية تقتضي رضاه بما رضي له به سيده ومولاه، فإن لم يوفِ قدر المقام حقه فهو لضعفه، فلينزل إلى مقام الصبر عليها، فإن نزل عنه نزل إلى مقام الظلم وتعدي الحق. الأمر السادس: العلم بترتبها عليه بذنبه، فإن لم يكن له ذنب كالأنبياء والرسل فلرفع درجاته. الأمر السابع: أن يعلم أن هذه المصيبة دواء نافع ساقه إليه العليم بمصلحته الرحيم به، فليصبر ولا يسخط ولا يشكو إلى غير الله فيذهب نفعه باطلاً. الأمر الثامن: أن يعلم أن عاقبة هذا الدواء: من الشفاء والعافية والصحة وزوال الآلام ما لم تحصل بدونه، قال الله تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَالله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (¬2). وقال - عز وجل -: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (¬3). ¬

(¬1) تقدمت الأدلة على ذلك في الفقرة رقم 25. (¬2) سورة البقرة، الآية: 216. (¬3) سورة النساء، الآية: 19.

الأمر التاسع: أن يعلم أن المصيبة ما جاءت لتهلكه وتقتله

الأمر التاسع: أن يعلم أن المصيبة ما جاءت لتهلكه وتقتله، وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليه، فيتبين حينئذ: هل يصلح لاستخدامه وجعله من أوليائه وحزبه أم لا؟ وفضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. الأمر العاشر: أن يعلم أن الله يربي عبده على السراء والضراء، والنعمة والبلاء، فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال (¬1). الأمر الحادي عشر: معرفة طبيعة الحياة الدنيا على حقيقتها؛ فهي ليست جنة نعيم ولا دار مقام إنما ممر ابتلاء وتكليف؛ لذلك فالكيّس الفطن لا يفجأ بكوارثها، ولله دَرُّ القائل: إن لله عباداً فطّنا ... طلقَّوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا ... أنها ليست لحيٍّ وطنا جعلوها لجةًواتخذوا ... صالح الأعمال فيها سفنا فالحياة الدنيا لا تستقيم على حال ولا يقر لها قرار، فيوم لك ويوم آخر عليك، قال الله تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس وَلِيَعْلَمَ الله الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَالله لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (¬2). وقد أحسن أبو البقاء الرندي القائل: لكل شيء إذا ما تم نقصانُ ... فلا يغر بطيب العيش إنسانُ ¬

(¬1) طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم، ص448 - 459، وانظر: زاد المعاد، 4/ 188 - 196، وعدة الصابرين لابن القيم، ص76 - 86. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 140.

الأمر الثاني عشر: معرفة الإنسان نفسه

هي الأيام كما شاهدتها دول ... فمن سره زمن ساءته أزمان (¬1) الأمر الثاني عشر: معرفة الإنسان نفسه؛ فإن الله هو الذي منح الإنسان الحياة فخلقه من عدم إلى وجود، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، فهو ملك لله أولاً وآخراً، وصدق لبيد بن ربيعة - رضي الله عنه - القائل: وما المال والأهلون إلا ودائعُ ... ولابد يوماً أن تُرَدَّ الودائعُ الأمر الثالث عشر: اليقين بالفرج، فنصر الله قريب من المحسنين، وبعد الضيق سعة، ومع العسر يسرٌ؛ لأن الله وعد بهذا ولا يخلف الميعاد، وقال سبحانه: {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (¬2). وقد أحسن القائل: ولرب نازلة يضيق بها الفتى ... ذرْعاً وعند الله منها المخرجُ ضاقت فلما استحكمت ... حلقاتها فُرجت وكنت أظنها لا تفرجُ وقد وعد الله - عز وجل - بحسن العوض عما فات؛ فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي الله مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (¬3). ولله دَرُّ القائل: ¬

(¬1) هكذا نقل عند البعض، ولكن للإمام البستي في نونيته نحو هذا قال رحمه الله: لا تحسبن سروراً دائماً ... من سره زمن ساءته أزمان انظر: الجامع للمتون العلمية، للشيخ عبد الله بن محمد الشمراني، ص625. (¬2) سورة هود، الآية: 49. (¬3) سورة النحل، الآيتان: 41 - 42.

الأمر الرابع عشر: الاستعانة بالله

وكل كسر فإن الله يجبره ... وما لكسر قناة الدين جبران (¬1) الأمر الرابع عشر: الاستعانة بالله فما على العبد إلا أن يستعين بربه أن يعينه، ويجبر مصيبته، قال تعالى: {اسْتَعِينُوا بِالله وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِله يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (¬2)، ومن كانت معية الله معه فهو حقيق أن يتحمل ويصبر على الأذى. الأمر الخامس عشر: التأسي بأهل الصبر والعزائم، فالتأمل في سير الصابرين وما لاقوه من ألوان الابتلاء والشدائد يعين على الصبر ويطفئ نار المصيبة ببرد التأسي، قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} (¬3). الأمر السادس عشر: استصغار المصيبة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أيها الناس أيما أحدٍ من الناس أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعزَّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي)) (¬4). وكتب بعض العقلاء إلى أخ له يعزيه عن ابن له يقال له: محمد، فنظم الحديث الآنف شعراً فقال: ¬

(¬1) هكذا سمعته من الشيخ محمد بن حسن الدريعي يقول: إنه كتب له بعض أصدقائه عندما انكسرت رجله، ولكن البيت في نونية علي بن محمد البستي هكذا: كل الذنوب فإن الله يغفرها ... إن شيَّع المرءَ إخلاصٌ وإيمانُ وكل كسر فإن الدين يجبره ... وما لكسر قناة الدين جبران انظر: الجامع للمتون العلمية، للشيخ عبد الله بن محمد الشمراني، ص626. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 128. (¬3) سورة الأحقاف، الآية: 35. (¬4) ابن ماجه، واللفظ له، في كتاب الجنائز، باب ما جاء في الصبر على المصيبة، برقم 1599، والدارمي، 1/ 40، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1106.

الأمر السابع عشر: العلم أن المصيبة:

اصبر لكل مصيبة وتجلد ... واعلم أن المرء غير مخلد (¬1) وإذا ذكرت محمداً ومصابَهُ ... فاذكر مصابك بالنبي محمد الأمر السابع عشر: العلم أن المصيبة في غير الدين أهون وأيسر عند المؤمن، ولله دَرُّ القائل: وكل كسر فإن الله يجبره ... وما لكسر قناة الدين جبران وذكر أن امرأة من العرب مرت بابنين لها وقد قتلوا فقالت: الحمد لله رب العالمين، ثم قالت: وكل بلوى تصيب المرء عافية ... ما يُصَبْ غيره المجمع في النار (¬2) الأمر الثامن عشر: العلم بأن الدنيا فانية وزائلة، وكل ما فيها يتغير ويزول؛ لأنها إلى الآخرة طريق، وهي مزرعة للآخرة على التحقيق، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة: أما الأدلة من الكتاب: 1 - فقال الله تعالى: {وَلَوْلا أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكئوُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبّكَ لِلْمُتَّقِينَ} (¬3). 2 - وقال الله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ الناس وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصّلُ الآيَاتِ ¬

(¬1) انظر: مقومات الداعية الناجح، للمؤلف، ص260 - 279. (¬2) برد الأكباد عند فقد الأولاد؛ لابن ناصر الدين، ص61. (¬3) سورة الزخرف، الآيات: 33 - 35.

لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (¬1). 3 - وقال - عز وجل -: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرّيَاحُ وَكَانَ الله عَلَى كُلّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا} (¬2). 4 - وقال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} (¬3). 5 - وقال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (¬4). 6 - وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (¬5). 7 - وقال الله تعالى: {فَمَا أُوتِيتُم مّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (¬6). 8 - وقال سبحانه: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (¬7). 9 - وقال الله - عز وجل -: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (¬8). 10 - وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ ¬

(¬1) سورة يونس، الآية: 24. (¬2) سورة الكهف، الآية: 45. (¬3) سورة القصص، الآية: 60. (¬4) سورة القصص، الآية: 83. (¬5) سورة القصص، الآية: 88. (¬6) سورة الشورى، الآية: 36. (¬7) سورة الأنعام، الآية: 32. (¬8) سورة العنكبوت، الآية: 64.

وأما الأدلة من السنة المطهرة

وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (¬1). 11 - وقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ *وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} (¬2). 12 - وقال تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} (¬3). وأما الأدلة من السنة المطهرة، فقد زهَّد النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس في الدنيا، ورغَّبهم في الآخرة، بفعله وقوله - صلى الله عليه وسلم -. 1 - أما فعله فمنه حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من الدنيا ولم يشبع من خبر الشعير)) (¬4). 2 - وقالت: ((ما أكل آل محمد أكلتين في يوم إلا إحداهما تمر)) (¬5). 3 - وقالت: ((إنا كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نار، فقال عروة: ما كان يقيتكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء)) (¬6). 4 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لو كان لي مثل أُحد ذهباً ما يسرني أن لا يمر عليَّ ثلاث وعندي منه شيء إلا أرصُدُهُ لدَيْن)) (¬7). ¬

(¬1) سورة الحديد، الآية: 20. (¬2) سورة الرحمن، الآيتان: 36، 37. (¬3) سورة غافر، الآية: 39. (¬4) البخاري، كتاب الأطعمة، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يأكلون، برقم 5414. (¬5) البخاري، كتاب الرقاق، باب كيف كان يعيش النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وتخليهم عن الدنيا، برقم 6455. (¬6) البخاري، كتاب الرقاق، باب كيف كان يعيش النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وتخليهم عن الدنيا، برقم 6459. (¬7) متفق عليه: البخاري، كتاب الاستقراض وأداء الديون، والحجر والتفليس، باب أداء الديون، برقم 2389، ومسلم، كتاب الزكاة، باب تغليظ عقوبة من لا يؤدي الزكاة، برقم 991.

5 - وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه اضطجع على حصير فأثَّر في جنبه، فدخل عليه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ولما استيقظ جعل يمسح جنبه فقال: يا رسول الله لو أخذت فراشاً أَوْثَرَ من هذا؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما لي وللدنيا، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها)) (¬1). 6 - وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: ((ما شبع آل محمد من طعام ثلاثة أيام حتى قُبض)) (¬2). والمقصود أنهم لم يشبعوا ثلاثة أيام متوالية، والظاهر أن سبب عدم شبعهم غالباً كان بسبب قلة الشيء عندهم، على أنهم قد يجدون ولكن يؤثرون على أنفسهم (¬3). 7 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أَدَم وحشوُهُ ليف)) (¬4). 8 - ومع هذا كان يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً)) (¬5). 9 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((قد أفلح من أسلم، ورُزِق كفافاً، وقنَّعَهُ الله بما آتاه)) (¬6). وأما قوله في التزهيد في الدنيا والتحذير من الاغترار بها، فكثير، ومنه: 10 - حديث مطرّف عن أبيه - رضي الله عنه - قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ: {أَلْهَاكُمُ التكاثر} قال: ((يقول ابن آدم: مالي، مالي، وهل لك من مالك يا ¬

(¬1) أحمد في المسند، 1/ 301 بلفظه، والترمذي بنحوه، في كتاب الزهد، باب 44، برقم 1377، وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب مثل الدنيا، برقم 4109، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 280، وصحيح سنن ابن ماجه، 2/ 394. (¬2) البخاري، كتاب الأطعمة، باب قول الله تعالى: {كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} الآية، برقم 5374. (¬3) انظر: فتح الباري لابن حجر، 9/ 517، 549. (¬4) البخاري، كتاب الرقاق، باب كيف كان يعيش النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وتخليهم عن الدنيا، برقم 6456. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الرقاق، باب كيف كان يعيش النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وتخليهم عن الدنيا، برقم 6460، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الكفاف والقناعة، واللفظ له، برقم 1055. (¬6) مسلم، كتاب الزكاة، باب الكفاف والقناعة، برقم 1054.

ابن آدم إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت)) (¬1). 11 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يقول العبد: مالي مالي إنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى، [و] ما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس)) (¬2). 12 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة لأصحابه ((أيكم مال وراثه أحب إليه من ماله؟)) قالوا: يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه. قال: ((فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر)) (¬3). 13 - ودخل النبي - صلى الله عليه وسلم - السوق يوماً فمرَّ بجدي صغير الأذنين ميت، فأخذه بأذنه ثم قال: ((أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟)) قالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: ((أتحبون أنه لكم؟)) قالوا: والله لو كان حياً كان عيباً فيه؛ لأنه أسكُّ (¬4)، فكيف وهو ميت؟ فقال: ((فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم)) (¬5). 14 - وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)) (¬6). والدنيا مذمومة إذا لم تستخدم في طاعة الله - عز وجل -: 15 - فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ألا إن الدنيا ملعونةٌ، ملعون ما فيها إلا ذكرُ الله، وما والاهُ، وعالمٌ، أو ¬

(¬1) مسلم، كتاب الزهد والرقائق، برقم 2958. (¬2) مسلم، كتاب الزهد والرقائق، برقم 2959. (¬3) البخاري، كتاب الرقاق، باب ما قدم من ماله فهو له، برقم 6442. (¬4) الأسك: مصطلم الأذنين مقطوعهما. (¬5) مسلم، كتاب الزهد والرقائق، برقم 2957. (¬6) ابن ماجه، كتاب الزهد، باب مثل الدنيا، برقم 4110، والترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في هوان الدنيا على الله - عز وجل -، وقال: ((هذا حديث صحيح)) برقم 2320، وابن المبارك في الزهد والرقائق عن رجال من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 470، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 943، وفي صحيح الترغيب والترهيب، برقم 3240.

متعلمٌ)) (¬1)، وهذا يؤكد أن الدنيا مذمومة، مبغوضة من الله وما فيها، مبعدة من رحمة الله إلا ما كان طاعة لله - عز وجل -؛ ولِهوانها على الله - عز وجل - لم يبلّغ رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيها وهو أحب الخلق إليه. 16 - فقد مات ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير (¬2). وقوله: ((وما والاه)) أي ما يحبه الله من أعمال البر، وأفعال القرب، وهذا يحتوي على جميع الخيرات، والفاضلات، ومستحسنات الشرع، وقوله: ((وعالم أو متعلم)) العالم والمتعلم: العلماء بالله، الجامعون بين العلم والعمل، فيخرج منه الجهلاء، والعالم الذي لم يعمل بعلمه، ومن يعلم علم الفضول، وما لا يتعلق بالدين. والرفع في ((عالم أو متعلم)) على التأويل: كأنه قيل: الدنيا مذمومة لا يحمدُ مما فيها ((إلا ذكر الله وما والاه، وعالم أو متعلم)) (¬3)، فإذا رأى العاقل من ينافسه في الدنيا فعليه أن ينصحه ويحذره وينافسه في الآخرة (¬4). 17 - وفي قصة أبي عبيدة - رضي الله عنه - عندما قدم بمال من البحرين فجاءت الأنصار وحضروا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح، فلمَّا صلى بهم الفجر، تعرَّضوا له، فتبسَّم حين رآهم وقال: ((أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء؟)) قالوا: أجل يا رسول الله، قال: ((فأبشروا، وأمّلوا ما يسرُّكم، فوالله لا الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسط عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها ¬

(¬1) الترمذي، بلفظه، كتاب الزهد، بابٌ: حدثنا محمد بن حاتم، برقم 2322، وحسنه، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب مثل الدنيا، برقم 4112، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم 3244. (¬2) انظر: البخاري، كتاب البيوع، باب شراء الطعام إلى أجل، برقم 2200، ومسلم، كتاب المساقاة، باب الرهن وجوازه في الحضر والسفر، برقم 1603. (¬3) انظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 10/ 3284 - 3285، ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للملا على القاري، 9/ 31، وتحفة الأحوذي للمباركفوري، 6/ 613. (¬4) فقه الدعوة للمؤلف، 2/ 1007.

وتهلككم كما أهلكتهم))، وفي رواية: ((وتلهيكم كما ألهتهم)) (¬1). 18 - وفي حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض)) قيل: وما بركات الأرض؟ قال: ((زهرة الدنيا))، ثم قال: ((إن هذا المال خَضِرَة حلوة ... من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع [ويكون عليه شهيداً يوم القيامة])) (¬2). 19 - وقال خبَّاب - رضي الله عنه -: ((إن المسلم يؤجر في كل شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في هذا التراب)) (¬3). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((أي الذي يوضع في البنيان، وهو محمول على ما زاد على الحاجة)) (¬4). وذكر رحمه الله آثاراً كثيرة في ذم البنيان ثم قال: ((وهذا كله محمول على ما لا تمس الحاجة إليه مما لابد منه للتوطن وما يقي البرد والحر)) (¬5). والمسلم إذا لم يجعل الدنيا أكبر همه وفقه الله وأعانه. 20 - فعن معقل بن يسار - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول ربكم تبارك وتعالى: يا ابن آدم تفرَّغ لعبادتي أملأ قلبك غنىً وأملأ يديك رزقاً، يا ابن آدم لا تباعد عني فأملأ قلبك فقراً وأملأ يديك شغلاً)) (¬6). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الجزية والموادعة، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب، برقم 3158،4015،6425،ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، برقم 2961. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، برقم 6427، ومسلم، كتاب الزكاة، باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا، برقم 1052، وما بين المعكوفين من رواية مسلم. (¬3) متفق عليه: كتاب المرضى، باب تمني المريض الموت، برقم 5672، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب كراهة تمني الموت لضر نزل به، برقم 2681. (¬4) فتح الباري، بشرح صحيح البخاري، 10/ 129. (¬5) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر، 11/ 93، و10/ 129. (¬6) الحاكم وصححه ووافقه الذهبي،4/ 326،وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة: ((وهو كما قالا))، وصححه في صحيح الترغيب والترهيب، برقم 3165.

21 - وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله تعالى يقول: يا ابن آدم تفرَّغ لعبادتي أملأ صدرك غنىً وأسدُّ فقرك، وإن لم تفعل ملأت يديك شغلاً ولم أسدَّ فقرك)) (¬1). قال ذلك عندما تلا: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ} (¬2). ولاشك أن كل عمل صالح يُبتغى به وجه الله فهو عبادة، بل وحتى الأعمال المباحة. 22 - وعن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من كانت الدنيا همَّه فرَّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة)) (¬3). 23 - وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه؛ جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدّر له)) (¬4). 24 - وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أحب دنياه أضرَّ بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما ¬

(¬1) الترمذي، تاب صفة القيامة، باب حدثنا قتيبة، برقم2466،وحسنه، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب الهم بالدنيا، برقم4108،وأحمد،2/ 358،والحاكم وصححه ووافقه الذهبي،2/ 443،وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم3166،وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة،3/ 346، وفي صحيح سنن الترمذي،2/ 593. (¬2) سورة الشورى، الآية: 20. (¬3) ابن ماجه، كتاب الزهد، باب الهم بالدنيا، برقم 4105، وصحح الألباني إسناده في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 950، وصحيح الجامع، 5/ 351. (¬4) الترمذي، في كتاب صفة القيامة، باب: حدثنا سويد، برقم 2465، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 593، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 949 - 950.

الأمر التاسع عشر: العلم بأن الله تعالى يجمع بين المؤمن وذريته

يفنى)) (¬1). 25 - وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أنه لما حضرته الوفاة قال: يا معشر الأشعريين ليبلغ الشاهد الغائب، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((حلاوة الدنيا مرةُ الآخرة، ومرةُ الدنيا حلاوة الآخرة)) (¬2). الأمر التاسع عشر: العلم بأن الله تعالى يجمع بين المؤمن وذريته، ووالديه وأهله، ومن يحب في الجنة، وهذا الاجتماع الذي لا فراق بعده لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مّنْ عَمَلِهِم مّن شَيْءٍ} (¬3)، قال الإمام ابن كثير رحمه الله: ((يخبر الله تعالى عن فضله وكرمه، وامتنانه، ولطفه بخلقه، وإحسانه: أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذريتهم في الإيمان يلحقهم بآبائهم في المنزلة وإن لم يبلغوا عملهم؛ لتقر أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه بأن يرفع الناقص العمل بكامل العمل ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته، للتساوي بينه وبين ذلك)) (¬4). وهذا فضله تعالى على الأولاد ببركة عمل الآباء، وأما فضله على الآباء ببركة دعاء الأولاد فثبت في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول: يا رب أنَّى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك)) (¬5)،قال العلامة السعدي رحمه الله: ((وهذا من تمام نعيم أهل الجنة أن ¬

(¬1) أحمد، 4/ 412، وابن حبان برقم 709، والحاكم، 4/ 319، قال الإمام المنذري في الترغيب والترهيب، برقم 4744: ((رواه أحمد ورواته ثقات)). وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب على الحديث برقم 3247: ((صحيح لغيره))، وذكر له شاهداً في الأحاديث الصحيحة، برقم3287. (¬2) الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، 4/ 310، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم 3248. (¬3) سورة الطور، الآية: 21. (¬4) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ص1268، 4/ 243. (¬5) أخرجه أحمد في المسند،2/ 209،قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: ((إسناده صحيح)).

ألحق الله بهم ذريتهم الذين اتبعوهم بإيمان: أي الذين لحقوهم بالإيمان الصادر من آبائهم فصارت الذرية تبعاً لهم بالإيمان، ومن باب أولى إذا تبعتهم ذريتهم بإيمانهم الصادر منهم أنفسهم، فهؤلاء المذكورون يُلحقهم الله بمنازل آبائهم في الجنة وإن لم يبلغوها جزاء لآبائهم وزيادة في ثوابهم، ومع ذلك لا ينقص الله الآباء من أعمالهم شيئاً)) (¬1).وهذا هو الفوز العظيم. نسأل الله تعالى أن يجمعنا في الفردوس الأعلى مع آبائنا، وذرياتنا، وأزواجنا، وجميع أهلينا وأحبابنا إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. ولاشك أن من فارق ذريته وأهله، وأحبابه في الآخرة فقد خسر خسراناً مبيناً، كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (¬2)، أي تفارقوا فلا التقاء لهم أبداً، وسواء ذهب أهلوكم إلى الجنة وقد ذهبوا هم إلى النار، أو أن الجميع أسكنوا النار ولكن لا اجتماع لهم ولا سرور، وهذا هو الخسران المبين الظاهر الواضح)) (¬3). وقال الله - عز وجل -: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مّن سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ} (¬4)،قال الإمام ابن كثير رحمه الله: ((أي ذهب ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن، للعلامة السعدي، ص815، وانظر: تفسير الطبري، 22/ 467 - 470، وتفسير البغوي، 4/ 238. (¬2) سورة الزمر، الآية: 15. (¬3) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ص1151. (¬4) سورة الشورى، الآيتان: 44 - 45.

الرابع عشر: غسل الميت

بهم إلى النار فعدموا لذتهم في دار الأبد، وخسروا أنفسهم، وفُرّق بينهم وبين أحبابهم، وأصحابهم، وأهاليهم، وقراباتهم فخسروهم)) (¬1). وقد ذكر أن بعض الصالحين مات له ابن فجزع عليه جزعاً شديداً، حتى امتنع عن الطعام والشراب، فبلغ ذلك الإمام محمد بن إدريس الشافعي، فكتب إليه، ومما كتب إليه: إني معزيك لا أنّي على ثقةٍ ... من الحياة ولكن سنة الدين فما المعزَّى بباقٍ بعد ميته ... ولا المعزّي ولو عاشا إلى حين (¬2) الرابع عشر: غسل الميت يراعى في تغسيل الميت الأمور الآتية: الأمر الأول: معرفة العلامات التي تدل على خروج الروح بالموت (¬3). 1 - شخوص البصر: أي انفتاحه؛ لحديث أمّ سلمة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي سلمة وقد شق بصره، فأغمضه، ثم قال: ((إن الروح إذا قبض تبعه البصر)) (¬4). 2 - انخساف الصدغين؛ لارتخاء الفك السفلي؛ ولارتخاء الأعضاء عموماً. 3 - ميل الأنف إلى اليمين أو الشمال. ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ص1194. (¬2) برد الأكباد عند فقد الأولاد، لابن ناصر الدين، ص67. (¬3) قال في الروض المربع، 2/ 24: ((فإن مات فجأة، أو شك في موته انتظر به حتى يعلم موته: بانخساف صدغيه، وميل أنفه، وانفصال كفيه، واسترخاء رجليه)). وقال ابن قدامة في المغني، 3/ 367: ((وإن اشتبه أمر الميت اعتبر بظهور أمارات الموت: من استرخاء رجليه، وانفصال كفيه، وميل أنفه، وامتداد جلدة وجهه، وانخساف صدغيه، وإن مات فجأة: كالمصعوق، أو خائفاً من حرب أو سبع، أو تردَّى من جبل، انتظر به هذه العلامات)). وكذلك قال في الشرح الكبير على المقنع، 6/ 23، وقال المرداوي في الإنصاف: ((وإن كان موته فجأة: كالموت بالصعقة، والهدم، والغرق، ونحو ذلك، فينتظر به حتى يعلم موته)) الإنصاف مع الشرح الكبير، 6/ 22. (¬4) مسلم، برقم 920، وتقدم تخريجه في آداب زيارة المريض.

4 - انفصال الكفين؛ لاسترخاء عصب اليد فتبقى كأنها منفصلة

4 - انفصال الكفين؛ لاسترخاء عصب اليد فتبقى كأنها منفصلة. 5 - استرخاء الرجلين، فتلين وتسترسل بعد خروج الروح؛ لصلابتها قبله. 6 - سكون القلب ووقوف ضرباته تماماً. 7 - امتداد جلدة الوجه أحياناً (¬1) (¬2). ويغني عن ذلك كله شهادة الأطباء الثقات بأن فلاناً قد مات وخرجت روحه من جسده تماماً بلا شك ولا ريب. الأمر الثاني: آدابٌ يحتاج إليها الميت عقب موته، من أهمها: 1 - تغميض عينيه؛ لحديث أمّ سلمة رضي الله عنها (¬3). 2 - يُدعى له؛ لحديث أمّ سلمة السابق، فيقال: ((اللهم اغفر لفلان [باسمه] وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره ونوّر له فيه)) (¬4). 3 - شد لحييه؛ لإقفال فمه، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((ويستحب شدُّ لحييه بعصابة عريضة يربطها من فوق رأسه؛ لأن الميت إذا كان مفتوح العينين والفم فلم يغمض حتى يبرد، بقي مفتوحاً فيقبح منظره، ولا يؤمن دخول الهوام فيه، والماء في وقت غسله)) (¬5) (¬6)، ومعلوم أنه بعد أن يبرد تبقى العينان مغمضتين والفم مغلقاً، فيحسن ¬

(¬1) المغني لابن قدامة، 3/ 367. (¬2) انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 364 - 367، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، 6/ 22 - 23، والروض المربع مع حاشية ابن القاسم، 3/ 24. (¬3) مسلم، برقم 920، وتقدم تخريجه. (¬4) مسلم، برقم 920، وتقدم تخريجه. (¬5) المغني لابن قدامة،3/ 366،والشرح الكبير على المقنع مع الإنصاف،6/ 18، والروض المربع مع حاشية ابن قاسم،3/ 21،والشرح الممتع لابن عثيمين،5/ 325. (¬6) ذكر ابن قدامة في المغني، 3/ 365، قال رحمه الله: ((وروي أن عمر - رضي الله عنه - قال لابنه حين حضرت الوفاة: ادن مني فإذا رأيت روحي قد بلغت لهاتي، فضع كفك اليمنى على جبهتي، واليسرى تحت ذقني وأغمضني)). ولم يسنده رحمه الله. قلت: وهاتان الصفتان تجمع أمرين: إغماض الميت، وإغلاق فمه. وانظر: أيضاً: الإحكام شرح أصول الأحكام، لابن قاسم، 2/ 22.

4 - تليين مفاصله، مفاصل اليدين، والرجلين، وهو أن يرد ذراعيه إلى عضديه

منظره. 4 - تليين مفاصله، مفاصل اليدين، والرجلين، وهو أن يرد ذراعيه إلى عضديه، وعضديه إلى جنبيه، ثم يردهما، ويرد ساقيه إلى فخذيه، وفخذيه إلى بطنه، ثم يردهما؛ ليكون ذلك أبقى للينه، فيكون ذلك أمكن للغاسل: من غسله، وتكفينه، وتمديده، وخلع ثيابه، وهذه الصفة تستحب في موضعين: عقب موته قبل قسوتها ببرودته، وإذا شرع في غسله، وإن شق ذلك لقسوة عظام الميت أو غيرها تركه؛ لأنه لا يؤمن أن تنكسر أعضاؤه ويصير به ذلك إلى المثلة (¬1). 5 - تخلع ثيابه ويستر بثوب يكون شاملاً للبدن كله، أما خلع الثياب؛ فلقول الصحابة - رضي الله عنهم - حينما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت عائشة رضي الله عنها: لما أرادوا غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: والله ما ندري أنجرّدُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما نجرّدُ موتانا؟ أم نغسله وعليه ثيابه؟ فلما اختلفوا، ألقى الله عليهم النوم، حتى ما منهم رجل إلا وذَقْنُهُ في صدره، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت، لا يدرون من هُوَ: أن اغسلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه ثيابه، فقاموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فغسلوه وعليه قميصُهُ، يصبون الماء فوق القميص، ويدلكونه بالقميص دون أيديهم، وكانت عائشة تقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه)) (¬2). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((ويستحب خلع ثياب الميت؛ لئلا يخرج منه شيء يفسُدُ به، ويتلوث بها إذا نزعت عنه ... )) (¬3). ¬

(¬1) المغني لابن قدامة، 3/ 372، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، 6/ 19، والروض المربع مع حاشية ابن قاسم، 2/ 21، والشرح الممتع لابن عثيمين، 5/ 325،والإحكام شرح أصول الأحكام، لعبد الرحمن بن محمد بن قاسم،2/ 22. (¬2) أخرجه أبو داود، كتاب الجنائز، باب في ستر الميت عند غسله، برقم 3141، وأحمد، 6/ 267، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، 3/ 59، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/ 286. (¬3) المغني، 3/ 368.

6 - يوضع على بطنه شيء ثقيل، ليمنع انتفاخه إذا لم يعجل بتغسيله

وأما ستره بثوب يغطي جميع بدنه؛ فلحديث عائشة رضي الله عنها، قالت: ((سُجّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين مات بثوب حَبِرةٍ)) (¬1)، إلا المحرم، فلا يغطى رأسه ولا وجهه؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه: ((ولا تخمّروا رأسه ولا وجهه ... )) (¬2). 6 - يوضع على بطنه شيء ثقيل، ليمنع انتفاخه إذا لم يعجل بتغسيله، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((ويجعل على بطنه شيء من خ3 كمرآة أو غيرها؛ لئلا ينتفخ بطنه ... )) (¬3). وقد ورد ذلك في بعض الآثار عن أنس - رضي الله عنه -، وعن الشعبي رحمه الله (¬4)، ولكن إذا أُسرع بالجنازة في تجهيزها، أو وُضعت في ثلاجة وأُمِنَ من انتفاخ البطن فلا داعي لذلك (¬5). 7 - يُجعل على سرير غسله أو لوح؛ لأنه أحفظ له، ولا يُترك على الأرض؛ لئلا يُسرع إليه التغير، ويجعل منحدراً نحو رجليه (¬6)،قال الإمام البيهقي رحمه الله، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ((لما فُرغَ من جهاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الثلاثاء وُضِعَ على سريره في بيته - صلى الله عليه وسلم -)) (¬7). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 5814،ومسلم، برقم 942،وتقدم تخريجه في الآداب لمن حضر الوفاة. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 1839،ومسلم، برقم 1206،وتقدم تخريجه في الآداب لمن حضر الوفاة. (¬3) المغني لابن قدامة على مختصر الخرقي،3/ 366، وانظر: الشرح الكبير على المقنع والإنصاف،6/ 18. (¬4) قال الإمام البيقي في السنن الكبرى: عن عبد الله بن آدم قال: مات مولىً لأنس بن مالك عند مغيب الشمس فقال أنس: ضعوا على بطنه حديدة، ويذكر عن الشعبي أنه سئل عن السيف يوضع على بطن الميت قال: إنما يوضع ذلك مخافة أن ينتفخ، البيهقي،3/ 385، وروى ابن أبي شيبة عن عامر الشعبي قال: ((كان يستحب أن يوضع السيف على بطن الميت)) المصنف،3/ 241. (¬5) قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: ((ولكن هل هذا يمنع الانتفاخ؟ لا أظنه يمنع؛ لأن الانتفاخ إذا حصل يقطع الخيوط فلا يغني شيئاً إلا إن كان يوضع عليه حديدة وزن الجبل فهذا شيء ثان ... وفي عصرنا الآن نستغني عن هذا وهو أن يوضع في ثلاجة إذا احتيج إلى تأخير دفنه ... )) وقال عن الأثر: ((فيه نظر)) الشرح الممتع، 5/ 327. (¬6) انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 368، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف،6/ 20. (¬7) السنن الكبرى، 3/ 385، في كتاب الجنائز، باب ما يستحب من وضع شيء على بطنه ثم وضعه على سرير؛ لئلا يسرع انتفاخه.

الأمر الثالث: الإسراع بتجهيزه

الأمر الثالث: الإسراع بتجهيزه؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((أسرعوا بالجنازة فإن تكُ صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تكُ سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم)) (¬1)؛ ولحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وُضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدّموني قدّموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق)) (¬2). الأمر الرابع: معرفة الفضل والأجر العظيم، لمن تولَّى غسل الميت المسلم، وستر عليه ما يكره، وأخلص في ذلك ابتغاء وجه الله تعالى، لا يريد به جزاء ولا شكوراً إلا من الله - عز وجل -، ولا يريد شيئاً من أمور الدنيا؛ لحديث أبي رافع - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من غسل مسلماً فكتم عليه، غفر الله له أربعين مرة، ومن حفر له فأجنه أُجريَ عليه كأجر مسكن أسكنه إياه إلى يوم القيامة، ومن كفّنه كساه الله يوم القيامة من سندس وإستبرق الجنة)) (¬3). وهذا لفظ البيهقي، ولفظ الحاكم: ((من غسل ميتاً فكتم عليه غفر له أربعين مرة، ومن كفَّن ميتاً كساه الله من سندس وإستبرق الجنة، ومن حفر لميت قبراً فأجنه فيه أُجري له من الأجر كأجر مسكن أسكنه إلى يوم القيامة)). ولفظ الطبراني في المعجم الكبير: ((من غسل ميتاً فكتم عليه غفر له أربعين كبيرة، ومن حفر لأخيه ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 1315، ومسلم، برقم 950، وتقدم تخريجه في الآداب الواجبة والمستحبة لمن حضر وفاة المسلم. (¬2) البخاري، برقم 1314،ورقم 1316،ورقم 1380،وتقدم تخريجه في تذكر الحمل على الأكتاف. (¬3) البيهقي في السنن الكبرى، 3/ 395، والحاكم، 1/ 354، والطبراني في الكبير 1/ 315، برقم 929، وقال الحاكم: ((صحيح على شرط مسلم)) ووافقه الذهبي، وقال العلامة الألباني في الجنائز، ص69: ((هو كما قالا)).وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: ((رجاله رجال الصحيح)) 3/ 21، وقال ابن حجر في الدراية (140): ((إسناده قوي)). قلت: وله شاهد من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - عند الطبراني في الكبير برقم 8077، ورقم 8078.

الأمر الخامس: معرفة حرمة المسلم ومنزلته وكرامته حيا وميتا

قبراً حتى يجنه فكأنما أسكنه مسكناً مرة حتى يُبعث))؛ ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ... )) (¬1)؛ ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما وفيه: ((ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة فرَّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)) (¬2)، وغير ذلك من الأدلة والآثار الواردة (¬3)، ولا بأس بالإخبار بما يشاهده الغاسل من علامات الخير: كبياض الوجه، أو التبسم، أو غير ذلك من العلامات التي تبشر بالخير، أما العلامات التي تدل على الشر فلا يخبر بها؛ لأن ذلك يحزن أهل الميت ويؤذيهم، وهو من الغيبة، لكن لو قال: إن بعض الأموات يكون أسودَ، أو غير ذلك فلا بأس (¬4). قال الإمام ابن قدامة - رحمه الله -: ((وإن رأى حسَناً مثل: أمارات الخير: من وضاءة الوجه، والتبسم، ونحو ذلك استحب إظهاره؛ ليكثر الترحم عليه، ويحصل الحث على مثل طريقته والتشبه بجميل سيرته ... )) (¬5). الأمر الخامس: معرفة حرمة المسلم ومنزلته وكرامته حيّاً وميتاً؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن كسر عظم المؤمن ميتاً ¬

(¬1) مسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، برقم 2699، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب المظالم، باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه، برقم 2442، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم، برقم 2580. (¬3) ومن ذلك ما روي عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: ((من غَسَلَ ميتاً فأدّى فيه الأمانة ولم يفش عليه ما يكون منه عند ذلك خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)).قال: ((ليَلِه أقربكم منه إن كان يعلم، فإن كان لا يعلم، فمن ترون أن عنده حظّاً من ورع وأمانة)) أحمد في المسند،41/ 374،برقم 24881، ورقم 24910،وغيره، وضعفه أصحاب موسوعة مسند الإمام أحمد،41/ 375، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد، 3/ 21 وقال: رواه أحمد والطبراني في الأوسط وفيه جابر الجعفي وفيه كلام كثير)). (¬4) انظر: مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 123. (¬5) المغني لابن قدامة، 3/ 371، وانظر: الكافي، لابن قدامة، 2/ 15.

الأمر السادس: حكم تغسيل الميت: فرض كفاية إذا فعله من فيه كفاية سقط الإثم عن الباقين

مثل كسره حيّاً)). وهذا لفظ أحمد، ولفظ أبي داود وابن ماجه: ((كسر عظم الميت ككسره حيّاً)) (¬1). وهل يجوز للإنسان أن يتبرع بشيء من أعضائه في حياته أو يوصي بذلك مع موته؟ اختلف العلماء في ذلك (¬2). الأمر السادس: حكم تغسيل الميت: فرض كفاية إذا فعله من فيه كفاية سقط الإثم عن الباقين، وإن تركوه كلهم أثموا كلهم؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما في الذي وقصته راحلته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيه: ((اغسلوه بماءٍ وسدر)) (¬3)، والأمر يقتضي الوجوب، ومن المعلوم أنه لا يريد من كل واحد من المسلمين أن يغسل هذا الميت إنما يوجه الخطاب للعموم، فإذا قام به بعضهم كفى (¬4)؛ ولحديث أمّ عطية رضي الله عنها وفيه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - للنساء اللاتي يغسلن ابنته ((اغسلنها ثلاثاً أو خمساً، أو سبعاً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك)) (¬5). ¬

(¬1) أحمد، 6/ 58، وأبو داود، كتاب الجنائز، باب في الحفار يجد العظم هل يتنكَّب ذلك المكان، برقم 3207، وابن ماجه، كتاب الجنائز، باب في النهي عن كسر عظم الميت، برقم 1616، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 301. (¬2) اختلف العلماء في تبرع الإنسان ببعض أعضائه في حياته، أو الوصية بها بعد مماته، وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يقول: ((والراجح أن الإنسان إذا تبرع بشيء من أعضائه في حياته أنه لا يجوز ذلك عندي؛ لأنه ليس له التصرف في شيء من أعضائه، وليست ملكاً له، ورأى هيئة كبار العلماء بالأكثرية أنه لا بأس بذلك إذا تبرع بذلك في حياته، ولكن هناك منهم من توقف وأنا ممن توقف، ورأيت أن ذلك ليس ملكاً له، حتى لو كان حيّاً فتبرع بكلية أو غيرها، فإني أرى عدم التبرع مطلقاً: لا في الحياة، ولا بعد الموت، لما تقدم أنها ليست ملكاً له. أما الدم والتبرع به فلا بأس؛ لأن الأمر فيه يسير))، انتهى كلامه رحمه الله. وقد سمعته يقول ذلك أثناء تقريره على المنتقى من أخبار المصطفى، لأبي البركات عبد السلام ابن تيمية، الحديث رقم 1781. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب الكفن في ثوبين، برقم 1265، ومسلم، كتاب الحج، باب ما يفعل بالمحرم إذا مات، برقم 1206. (¬4) انظر: الشرح الممتع لابن عثيمين، 5/ 336، والروض المربع، 2/ 28. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب يجعل الكافور في الأخيرة، برقم 1259، ومسلم، كتاب الجنائز، باب في غسل الميت، برقم 939.

الأمر السابع: لا يغسل الذكر إلا الرجال أو الزوجة والأمة

الأمر السابع: لا يغسل الذكر إلا الرجال أو الزوجة والأمة، ولا يغسل الأنثى إلا النساء أو الزوج؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البقيع فوجدني وأنا أجد صُداعاً في رأسي، وأنا أقول: وارأساه! فقال: ((بل أنا يا عائشة وارأساه!)) ثم قال: ((ما ضرَّك لو مُتّ قبلي فقمتُ عليك فغسَّلتك، وكفَّنتك، وصليتُ عليك، ودفنتك)) (¬1). وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسَّل النبي - صلى الله عليه وسلم - غيرُ نسائه)) (¬2). قال الإمام الشوكاني رحمه الله: ((فيه دليل على أن المرأة يغسلها زوجها إذا ماتت وهي تغسله قياساً، وبغسل أسماء لأبي بكر لما تقدم، وعلي لفاطمة كما أخرجه الشافعي، والدارقطني، وأبو نعيم والبيهقي بإسناد حسن (¬3)،ولم يقع من سائر الصحابة إنكار على عليّ وأسماء فكان إجماعاً)) (¬4). وقال الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز-رحمه الله-: ((تغسيل المرأة زوجها أمر لا بأس به إذا كانت خبيرة بذلك، وقد غسل علي - رضي الله عنه - زوجته فاطمة، وغسلت أسماء بنت عميس زوجها أبا بكر الصديق - رضي الله عنه -)) (¬5). وقال: ((أما غير الزوجة كالأم والبنت فلا يجوز للرجل تغسيلهما ولا غيرهما من محارمه النساء، ويلحق بالزوجة المملوكة التي يباح له وطؤها فلا بأس بغسلها إذا ¬

(¬1) ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في غسل الرجل امرأته وغسل المرأة زوجها، برقم 1465، وأحمد، 6/ 228، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 11، وأحكام الجنائز، ص67. (¬2) ابن ماجه بلفظه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في غسل الرجل امرأته، وغسل المرأة زوجها، برقم 1464، وأبو داود، كتاب الجنائز، باب في ستر الميت عند غسله، برقم 3141،وأحمد،6/ 267، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 11،وصحيح سنن أبي داود، 2/ 285، وفي أحكام الجنائز، ص67. (¬3) قال العلامة الألباني رحمه الله في إرواء الغليل، برقم 701: ((حديث غسل علي فاطمة رضي الله عنها حسن. أخرجه الحاكم، 3/ 163 - 164،وعنه البيهقي، 3/ 396 - 397. (¬4) نيل الأوطار، 2/ 687. (¬5) مجموع فتاوى ابن باز،13/ 107 - 108،وانظر الشرح الكبير مع المقنع والإنصاف،6/ 41 - 50.

الأمر الثامن: شهيد المعركة الذي مات في موضعه لا يغسل

ماتت؛ لأنها كالزوجة، وهكذا البنت الصغيرة التي دون السبع، لا حرج على الرجل في تغسيلها سواء كان محرماً أو أجنبيّاً عنها؛ لأنها لا عورة لها، وهكذا المرأة لها تغسيل الصبي الذي دون السبع)) (¬1). وإن مات رجل بين نساء له سبع سنين فأكثر، فإنهن لا يغسلنه إلا أن يكون معهن زوجة أو مملوكة، وكذلك لو ماتت امرأة بين رجال لها سبع سنين فأكثر؛ فإنهم لا يغسلونها إلا أن يكون أحد الرجال سيداً أو زوجاً، وكذلك لو تعذر تغسيل الميت؛ لكونه محترقاً، أو عند عدم الماء، ففي هذه الصور المتقدمة ييمم الميت؛ لأن التربة الطاهرة تقوم مقام الماء في تغسيل الميت في هذه الأحوال (¬2). الأمر الثامن: شهيد المعركة الذي مات في موضعه لا يغسل؛ لحديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول: ((أيهما أكثر أخذاً للقرآن؟)) فإذا أشير له إلى أحدهما قدَّمه في اللحد، وقال: ((أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة))، وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا ولم يُصلّ عليهم)). وفي رواية أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ادفنوهم في دمائهم)) يعني يوم أحد ولم يغسلهم (¬3). ولفظ أحمد: ((لا تغسلوهم؛ فإن كل جرح أو كل دم يفوح مسكاً يوم القيامة، ولم يصلَّ عليهم)) (¬4). وجريح المعركة إذا مات بعدها متأثراً بجراحه يغسل ويكفن ويصلَّى عليه، وله أجر الشهيد إذا خلصت نيته، وكذلك المقتول ظلماً يغسل ¬

(¬1) مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 109. (¬2) انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 481، المقنع مع الشرح الكبير والإنصاف، 6/ 52 - 53، والشرح الممتع لابن عثيمين، 5/ 343، ومجموع فتاوى ابن باز، 3/ 123. (¬3) البخاري، كتاب الجنائز، باب الصلاة على الشهيد، برقم 1343، وباب من لم ير غسل الشهداء، برقم 1346. (¬4) أحمد، 3/ 399، وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل، 3/ 164.

الأمر التاسع: المحرم لا يطيب ولا يحنط ولا يغطى رأسه ولا وجهه

ويصلى عليه، وله أجر الشهيد، وفضل الله يؤتيه من يشاء (¬1). الأمر التاسع: المحرم لا يُطيَّب ولا يُحنَّط ولا يُغطَّى رأسه ولا وجهه؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته (¬2)، - أو قال: فأوقصته - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اغسلوه بماءٍ وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تحنّطوه، ولا تخمّروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبّياً))، وفي لفظ لمسلم: (( ... ولا تخمّروا رأسه ولا وجهه)) (¬3). الأمر العاشر: لا يَغْسِلُ الميت إلا: المسلم، العاقل، المميز، الأمين (¬4) الثقة، العارف بأحكام الغسل، والأولى به وصيه العدل (¬5)؛ لما رُوي أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - أوصى أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس رضي الله عنها فقامت بذلك (¬6)، وأوصى أنس أن يغسله محمد بن سيرين ففعل (¬7)، ¬

(¬1) انظر: المغني، لابن قدامة، 3/ 467 - 478، ومجموع فتاوى الإمام ابن باز، 13/ 121، والشرح الممتع لابن عثيمين، 5/ 364. (¬2) وقصته: الوقص: كسر العنق. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، 5/ 214. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم 1265 - 1268، و1839، و1849، 1850، 1851، ومسلم، برقم 1206، وتقدم تخريجه في حكم غسل الميت. (¬4) انظر: الكافي، لابن قدامة، 2/ 15. (¬5) يتولى غسل الميت: المسلم الأمين، العارف بأحكام الغسل، فإن تنازع الناس في ذلك قُدّم وصيّه العدل العارف بأحكام الغسل، فإن لم يكن له وصي وتنازعوا فيمن يغسله قدّم العصبات، وأولاهم أبوه ثم جده، ثم ابنه، ثم ابن ابنه وإن نزل ثم الأقرب فالأقرب من عصباته على ترتيب الميراث. [المقنع والشرح الكبير والإنصاف، 6/ 30]، وأولى الناس بغسل المرأة عند النزاع: وصيتها، ثم أمها ثم جدتها، ثم ابنته، ثم القربى، فالقربى، الكافي لابن قدامة، 2/ 12. قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في الشرح الممتع،5/ 339: ((هنا قدموا ولاية الأصول على الفروع، وفي باب الميراث قدموا الفروع على الأصول، وفي ولاية النكاح قدموا الأصول على الفروع ... )) وهذا عند المشاحة والتنازع في تغسيل الميت، أما عند عدم المشاحة فلا بأس أن يتولى التغسيل من تفرع لذلك إذا كان ثقة، مسلماً، عاقلاً، مميزاً. انظر: المغني،3/ 406،وفتاوى أحكام الجنائز لابن عثيمين، ص85،والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف مع الشرح الكبير والمقنع، 6/ 29. (¬6) البيهقي 3/ 397،وضعفه الألباني في معرفة الراجح من الخلاف مع الشرح الكبير والمقنع، 6/ 29. (¬7) طبقات ابن سعد، 7/ 25، قال الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ في كتاب التكميل لما فات تخريجه من إرواء الغليل ص33: ((وهذا إسناد صحيح)).

الأمر الحادي عشر: صفة غسل الميت: المشتمل على الواجبات والسنن على النحو الآتي:

ويتولى غسله إن لم يكن له وصي من كان أعرف بسنة الغسل، لاسيما إذا كان من أهله وأقاربه؛ لأن الذين تولوا غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا كذلك، فقد قال سعيد بن المسيب، قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ((غسلت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذهبت أنظر ما يكون من الميت فلم أرَ شيئاً وكان طيّباً حيّاً وميتاً - صلى الله عليه وسلم -، وولي دفنه وإجنانه دون الناس أربعة: علي، والعباس، والفضل، وصالح مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولحد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحداً، ونصب عليه اللبن نصباً)). ولفظ ابن ماجه: عن علي - رضي الله عنه - قال: لما غَسَّل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذهب يلتمس منه ما يلتمس من الميت فلم يجده، فقال: ((بأبي الطيّبُ! طبتَ حيّاً وميتاً)) (¬1). وفي مرسل الشعبي أنه غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع علي - رضي الله عنه -: الفضل - يعني ابن عباس - وأسامة بن زيد (¬2). الأمر الحادي عشر: صفة غسل الميت: المشتمل على الواجبات والسنن على النحو الآتي: 1 - يُجعل على سرير في مكان مستور عن جميع الأنظار (¬3)، ويكون المكان مسقوفاً بسقفٍ إن أمكن؛ ليكون أكمل في الستر فيكون في بيت ¬

(¬1) الحاكم واللفظ الأول له، 1/ 362، والبيهقي، 3/ 388، نحو لفظ الحاكم، وابن ماجه باللفظ الثاني، في كتاب الجنائز، باب ما جاء في غسل النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 1467، وقال الحاكم: ((هذا حديث صحيح على شرط الشيخين لم يخرجا منه غير اللحد، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 11، وفي أحكام الجنائز، ص68، وص187. (¬2) قال الألباني في أحكام الجنائز، ص69: ((أخرجه أبو داود، 2/ 69، وسنده صحيح مرسل، وله شاهد من حديث ابن عباس أخرجه (2358) بسند ضعيف. (¬3) ذكر الإمام ابن قدامة: أن الفرض في غسل الميت ثلاثة أشياء: النية، وتعميم البدن بالغسل، وفي التسمية وجهان بناء على غسل الجنابة، ويسن ثمانية أشياء: حني الميت، وإمرار اليد على بطنه، ثم يلف على يده خرقة وينجيه بها، ثم يوضئه، ثم يغسله بماء وسدر، ويغسل رأسه برغوة السدر، ويبدأ بشقه الأيمن، ويغسله وتراً، ويجعل في الغسلة الأخيرة كافوراً [الكافي، 2/ 17 - 20].

2 - لا يحضره إلا من يباشر تغسيله أو من يحتاج إليه المغسل

أو خيمة، أو غرفة، أو نحو ذلك (¬1). 2 - لا يحضره إلا من يباشر تغسيله أو من يحتاج إليه المغسل؛ ليساعده؛ لأن الميت ربما كان به عيب يستره في حياته ولا يحب أن يطلع عليه الناس، وربما بدت عورة الميت من غير قصد الغاسل فيشاهدها من يحضر، فلا يحضره أحد أثناء التغسيل (¬2) إلا من يضطر المغسل إليه؛ ليساعده على التغسيل، وإذا ظهر عيب وجب أن يستره المغسل ومن يساعده، وإذا ظهرت علامات الخير استحب الإخبار بها؛ ليدعى له ويقتدى بصفاته الحسنة (¬3) (¬4). 3 - يليّن مفاصله، وهو أن يرد ذراعيه إلى عضديه، وعضديه إلى جنبيه، ثم يردهما، ويرد ساقيه إلى فخذيه، وفخذيه إلى بطنه، ثم يردهما؛ ليكون ذلك أبقى للينه، فيكون ذلك أمكن للغاسل: من تغسيله، وتمديده، وخلع ثيابه، وتكفينه، وقد ذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله: أن ذلك يستحب في موضعين: عقب موته قبل قسوتها وبرودته، وإذا شرع في غسله؛ وإن شق ذلك لقسوة الميت أو غيرها تركه؛ لأنه لا يؤمن أن تنكسر أعضاؤه، ويصير به ذلك إلى المثلة (¬5). 4 - يوضع على عورة الميت سِتر من سرته إلى ركبته تدخل من تحت ثيابه وتلف على عورته؛ لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يرفعه: ((وإذا أنكح أحدكم عبده أو أجيره فلا ينظر إلى شيء من عورته؛ فإنما ¬

(¬1) انظر: المغني، لابن قدامة، 3/ 370، والشرح الكبير على المقنع مع الإنصاف 6/ 59، والشرح الممتع لابن عثيمين، 5/ 347. (¬2) وقال القاضي وابن عقيل: لوليه أن يدخل عليه كيف شاء. قال المرداوي: ((وما هو ببعيد)) انظر: المغني، 3/ 371، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، 6/ 59. (¬3) انظر: المغني، 3/ 371، والشرح الكبير، 6/ 59. (¬4) لابد من مراعاة الأمور الآتية في تغسيل الميت: أن يكون الماء طهوراً مباحاً، وأن يكون الغاسل: مسلماً، عاقلاً، ومميزاًًً [الإنصاف للمرداوي مع الشرح الكبير، 6/ 25 - 27]. (¬5) المغني لابن قدامة، 3/ 72، وانظر: الشرح الكبير، 6/ 19.

5 - يجرد من ثيابه بعد ستر عورته كما تقدم

أسفل من سرته إلى ركبته من عورته)) (¬1)،ولا ينظر إلى فخذ حي ولا ميت (¬2). 5 - يجرد من ثيابه بعد ستر عورته كما تقدم؛ لأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا حينما مات عليه الصلاة والسلام: ((والله ما ندري أنجرّدُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما نُجرّدُ موتانا أم نغسله وعليه ثيابه ... )) (¬3) فدل ذلك أنهم كانوا يجرّدون الموتى وينزعون عنهم الثياب قبل التغسيل. 6 - تُقلّم أظفاره، ويقص شاربه؛ لأن هذا من تنظيف الميت إذا كانت طويلة؛ لأن هذا من نظافة الميت، وتجميله، وتحسينه، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((ويستحب تقليم أظفار الميت وقصّ شاربه؛ لأن ذلك سنة في حياته)) (¬4). وقال الإمام ابن باز رحمه الله: ((يستحب قص شاربه وقلم أظفاره، وأما حلق العانة ونتف الإبط فلا أعلم ما يدل على شرعيته، والأولى ترك ذلك؛ لأنه شيء خفي وليس بارزاً: كالظفر، والشارب)) (¬5) (¬6). ¬

(¬1) أحمد، 2/ 187، وأبو داود، برقم 495، وحسنه الألباني في الإرواء، 1/ 302، وتقدم تخريجه في شروط الصلاة. (¬2) وفي حديث علي: ((لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت))، أبو داود، برقم 2732، وضعفه الألباني في إرواء الغليل، برقم 269. (¬3) أبو داود في ستر الميت عند غسله، برقم 3141، وحسنه الألباني، وتقدم تخريجه في الأمر الثاني. (¬4) الكافي،2/ 21،وانظر: المغني لابن قدامة،3/ 482،والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف،6/ 78. (¬5) مجموع فتاوى ابن باز، 12/ 114. (¬6) خصال الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط. أما الختان فلا يستعمل مع الميت بالاتفاق، ويحرم ختنه بلا نزاع في مذهب الحنابلة. قاله المرداوي [في الإنصاف، 6/ 81]. وأما قص الشارب فيقص على مذهب الحنابلة بلا نزاع، وهو قول للشافعي كذلك. قاله المرداوي [في الإنصاف،6/ 78].وقال أبو حنيفة ومالك: لا يؤخذ من الميت شيء، والراجح مذهب الحنابلة وهو أحد قولي الشافعي أنه يقص شارب الميت إن كان طويلاً، قال ابن قدامة [في المغني، 3/ 482]: ((وهذا قول الحسن، وبكر بن عبد الله، وسعيد بن جبير، وإسحاق)). وأما قص الأظفار فقال الإمام ابن قدامة [في المغني 3/ 483]: ((فأما الأظفار إذا طالت ففيها روايتان: إحداهما لا تقلم، قال أحمد: لا تقلم أظفاره وينقى وسخها وهو ظاهر كلام الخرقي؛ لأن الظفر لا يظهر كظهور الشارب فلا حاجة إلى قصه، و [الرواية] الثانية يقص إذا كان فاحشاً نص عليه؛ لأنه من السنة، ولا مضرة فيه فيشرع أخذه كالشارب، ويمكن أن تحمل الرواية الأولى على ما إذا لم تكن فاحشة ... )) وقال المرداوي [في الإنصاف، 6/ 79]: ((قوله: ويقلم أظفاره: هذا المذهب وعليه أكثر الأصحاب، وهو من المفردات)). وأما نتف الإبط فقال المرداوي [في الإنصاف، 6/ 79]: ((يأخذ شعر إبطيه على الصحيح من المذهب نص عليه، وعليه أكثر الأصحاب ... )) وقال [في الشرح الكبير، 6/ 79]: ((ويخرج في نتف الإبط وجهان، بناء على الروايتين في قص الأظفار؛ لأنه في معناه)). وأما العانة فقال الإمام ابن قدامة [في المغني، 3/ 483]: ((وأما العانة فظاهر كلام الخرقي أنها لا تؤخذ، لتركه ذكرها، وهو قول ابن سيرين، ومالك، وأبي حنيفة؛ لأنها يحتاج في أخذها إلى كشف العورة، ولمسها، وهتك الميت، وذلك محرّم لا يفعل لغير واجب؛ ولأن العورة مستورة يستغنى بسترها عن إزالتها، وروي عن أحمد أن أخذها مسنون، وهو قول الحسن، وبكر بن عبد الله، وسعيد بن جبير، وإسحاق؛ لأن سعد بن أبي وقاص جز عانة ميت [رواه عبد الرزاق برقم 6235]؛ ولأنه شعر إزالته من السنة فأشبه الشارب، والأول أولى، ويفارق الشارب العانة؛ لأنه ظاهر يتفاحش لرؤيته ولا يحتاج في أخذه إلى كشف العورة ولا مسها))، وقال المرداوي [في الإنصاف، 6/ 79]: ((لا يأخذ شعر عانته على الصحيح من المذهب)). قلت: والأقرب والأولى أن لا تؤخذ عانة الميت؛ لما تقدم؛ ولعدم الدليل على مشروعية ذلك، والله تعالى أعلم، وهذا الذي يرجحه شيخنا الإمام ابن باز [وانظر: للفائدة: الشرح الممتع لابن عثيمين، 5/ 356 - 357، ومجموع فتاويه، 17/ 87، ومجموع فتاوى ابن باز، 12/ 114].

7 - يبدأ فيحني الميت حنيا رفيقا لا يبلغ به الجلوس، فيرفع رأسه إلى قرب جلوسه

7 - يبدأ فيحني الميت حنياً رفيقاً لا يبلغ به الجلوس، فيرفع رأسه إلى قرب جلوسه ويمرُّ بيده على بطنه فيعصره عصراً رفيقاً، لأجل أن يُخرج منه ما كان مستعدّاً للخروج من النجاسات؛ لئلا يخرج بعد الغسل أو بعد التكفين فيلوث الكفن ويفسد الغسل - ويكثر صب الماء حين العصر صبّاً كثيراً؛ ليذهب بما يخرج من النجاسات فلا تظهر رائحته، والأولى أن يكون في المكان الذي يغسل فيه الميت بخور مما يتدخن به الناس من عود ونحوه؛ لئلا يتأذى برائحة الخارج - إلا الحامل فلا يعصر بطنها؛ لئلا يؤذي الجنين (¬1). 8 - يلف الغاسل على يده اليسرى خرقةً أو قفازاً أو كيساً فينجّيه بها فيغسل فرجه فيصب الماء من تحت الإزار أو المنشفة التي قد وضعت ¬

(¬1) انظر: المغني لابن قدامة،3/ 372 - 373، والشرح الكبير على المقنع مع الإنصاف، 6/ 61 - 62، والكافي لابن قدامة، 2/ 17، والروض المربع مع حاشية ابن قاسم، 2/ 29، والشرح الممتع، 5/ 348، وانظر آثاراً في ذلك: مصنف ابن أبي شيبة، 3/ 245 - 246.

9 - يلف الغاسل على يده خرقة أخرى أو ليفة أو نحوهما

على جميع عورة الميت، ويبالغ في تنظيف الفرجين حتى ينقي ما بهما من نجاسة، ولا يمس عورته بغير حائل؛ لأن النظر إلى العورة يحرم، فلمسها أولى بالتحريم (¬1)، ثم يلقي هذه الخرقة أو القفاز. 9 - يلف الغاسل على يده خرقة أخرى أو ليفة أو نحوهما: كالقفاز؛ لأن الصحابة - رضي الله عنهم - غسلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه قميصه يصبون الماء فوق القميص ويدلكونه بالقميص دون أيديهم ... )) (¬2). 10 - يوضئه وضوءه للصلاة، ثم يبدأ بالميامن وأعضاء الوضوء والقفاز على يده؛ لحديث أم عطية رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها)) (¬3). فينوي القيام بالوضوء والغسل، ويقول: بسم الله، ثم يغسل يديه ثلاثاً، ثم يأخذ خرقة خشنة فيبلها بالماء ويجعلها على أصبعيه ثم يدخل أصبعيه بين شفتيه فيمسح أسنانه وينظفها، ويدخل أصبعيه في منخريه وينظف المنخرين ولا يدخل الماء في فمه ولا في منخريه، وإنما يكتفي ببل الخرقة وينظف بها أسنانه ومنخريه ثلاثاً؛ ليقوم ذلك مقام المضمضة والاستنشاق؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) (¬4). ويغسل وجهه ثلاثاً، ويغسل يديه: اليمنى إلى المرفق ثلاثاً، ثم اليسرى ثلاثاً، ويمسح رأسه إدباراً وإقبالاً، ثم يحلّق بأصبعيه على أذنيه فيمسحهما، ويغسل رجله اليمنى إلى الكعب ثلاثاً، واليسرى ثلاثاً. 11 - يؤتى بالسدر فيغسل رأسه برغوة السدر، يبدأ بشق رأسه الأيمن ثم الأيسر، بعد أن يُخَضّ ويُرجّ حتى يكون له رغوة فيغسل رأسه ¬

(¬1) المغني، 3/ 373، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، 6/ 63، والكافي 2/ 17، والروض المربع مع حاشية ابن قاسم،2/ 39،والشرح الممتع لابن عثيمين،5/ 349. (¬2) أبو داود، برقم 3141، وتقدم تخريجه. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم 1253، ومسلم، برقم 939، وتقدم تخريجه. (¬4) متفق عليه: البخاري، برقم 7288،ومسلم، برقم 1337 وتقدم تخريجه في صلاة المريض.

12 - يبدأ بغسل جسد الميت فيبدأ بشقه الأيمن

ولحيته؛ يفعل ذلك ثلاث مرات؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبدأ بعد الوضوء بغسل رأسه في الجنابة (¬1). 12 - يبدأ بغسل جسد الميت فيبدأ بشقه الأيمن؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ابدأن بميامنها)) (¬2) فيغسل يده اليمنى وصفحة عنقه، وشق صدره الأيمن، وجنبه، وفخذه، وساقه، وقدمه فيكون الغسل من كتفه الأيمن حتى نهاية قدمه اليمنى، يدلكه باليد داخل القفاز مع صب الماء وإدخال اليد من تحت الساتر الذي يستر عورة الميت، ويكون الغسل بالماء والسدر مع ثفل السدر (¬3) (¬4)، ثم يقلبه على جنبه الأيسر ويغسل شق ظهره الأيمن وما يليه، وكل ما لم يغسله من هذا الجنب، ثم يقلبه فيعيده على ظهره ويغسل يده ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 248، ورقم 258، ومسلم، برقم 316، ورقم 318، وتقدم تخريجه في الغسل في كتاب الطهارة. (¬2) متفق عليه: البخاري برقم 1159، ومسلم، برقم 939، وتقدم تخريجه في حكم تغسيل الميت. (¬3) ثفل السدر: حثالة ورق السدر المطحون. (¬4) اختلف العلماء هل يغسل الميت بالماء والسدر في كل غسلة. قال ابن الملقن: قوله عليه الصلاة والسلام: ((بماء وسدر)) قد يوهم هذا اللفظ أن الماء المختلط بالسدر يجوز التطهر به من غير ماء مطلق، وليس بظاهر في امتزاج السدر بالماء حال التطهير، بل يحتمل اجتماعهما في الغسل من غير مزج، ويكون أحدهما وارداً على الآخر، فيزول توهم جواز ذلك ... (([الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، 4/ 430]. والمعنى على هذا القول: أن يبدأ بالماء والسدر ليقع التنظيف أولاً، ثم بالماء القراح ثانياً، وقال بعضهم: ويحسب هذا غسلة واحدة. [الإعلام بفوائد عمدة الأحكام 4/ 431]. وذكر ابن الملقن وابن حجر أن الأصح عند الشافعية: أن غسلة السدر لا تحسب، وإنما المحسوب ما يصب عليه من الماء القراح بعد زوال السدر ثلاثاً بالقراح [الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، 4/ 432، فتح الباري، 3/ 126، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، 6/ 68 - 71]. وقال الإمام ابن قدامة: ((الواجب في غسل الميت مرة واحد؛ لأنه غسل واجب من غير نجاسة أصابته فكان مرة واحدة، كغُسل الجنابة والحيض، ويستحب أن يغسل ثلاثاً كل غسلة بالماء والسدر .. ويجعل في الماء كافور في الغسلة الثالثة؛ ليشده ويبرده ويطيبه، وإن رأى الغاسل أن يزيد على ثلاث؛ لكونه لم ينقَّ بها أو غير ذلك، غسله خمساً أو سبعاً، ولم يقطع إلا على وتر، وإن لم ينق بسبع فالأولى غسله حتى ينقى؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((اغسلنها: ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، أو أكثر من ذلك إن رأيتن))؛ ولأن الزيادة على الثلاثة إنما كانت للإنقاء، وللحاجة إليها، فكذلك فيما بعد السبع [المغني، 3/ 378 - 380 و381]، وقال الإمام ابن باز: (( ... بالماء والسدر في جميع الغسلات ... )) [مجموع الفتاوى، 13/ 111]، والغسل بالسدر سنة وإن لم يتيسر فلا بأس أن يغسل بأشنان أو صابون، ولكن السنة السدر إن تيسر.

اليسرى وصفحة عنقه، وشق صدره الأيسر، وجنبه، وفخذه، وساقه، وقدمه، فيكون الغسل من كتفه اليسرى حتى نهاية قدمه اليسرى يدلكه باليد داخل القفازين مع صب الماء وإدخال اليد من تحت الساتر، ويكون الغسل بالماء والسدر كما تقدم، ثم يقلبه على جنبه الأيمن ويغسل شقه الأيسر مع شق ظهره وما يليه، وكل ما لم يغسله من هذا الجنب، ثم يعم سائر جسده بالماء، ويكرر هذا الغسل ثلاث مرات، أو خمس مرات أو سبعاً، أو أكثر من ذلك على حسب ما يرى الغاسل؛ فإن خرج شيء من بطنه أعاد إنجاءه وأعاد الوضوء والغسل، ولا يعد الوضوء إلا إذا خرج شيء، فإن استمر الخارج سد مكانه بالقطن، وأحكمه، ثم أعاد الوضوء والغسل، ويجعل في الغسلة الأخيرة كافوراً، ليشده ويطيبه ويبرده؛ لحديث أم عطية رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر))، قالت: قلت: وتراً؟ قال: ((نعم، واجعلن في الأخيرة كافوراً أو شيئاً من كافور ... )) (¬1). ويُنقض شعر الميت إن كان له شعر، ويُمشط، ويُضفر شعر المرأة ثلاثة قرون: قرنيها، وناصيتها، ويُلقى خلفها؛ لحديث أم عطية رضي الله عنها (¬2). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله يقول: ((ويضفر الرأس ثلاثة قرون حتى ولو كان رجلاً ويجعل وراءه)) (¬3). وإذا فرغ الغاسل من غسل الميت نشفه بمنشفة ثم توضع هذه المنشفة المبللة خفيفاً على الأخرى الساترة للعورة فتحسب المنشفة المبللة كثيراً من تحتها فيكون الميت جاهزاً للتكفين (¬4). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 1253، ومسلم، برقم 939، وتقدم تخريجه. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 1253، ومسلم، برقم 939، وتقدم تخريجه. (¬3) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 566،وأثناء تقريره على المنتقى، الحديث رقم 1790. (¬4) انظر: في تغسيل الميت: المغني لابن قدامة، 3/ 368 - 382،الشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، 6/ 15 - 114،والكافي لابن قدامة، 2/ 11 - 28،وأحكام الجنائز للألباني، ص64،والشرح الممتع، 5/ 335 - 382،إبهاج المؤمنين بشرح منهج السالكين، 1/ 249 - 252،ومجموع فتاوى ابن باز، 12/ 105 - 124،ومجموع فتاوى ابن عثيمين،17/ 85 - 92،والروض المربع مع حاشية ابن قاسم،2/ 27 - 64.

الأمر الثاني عشر: السنة الاغتسال من غسل الميت

والسقط لأربعة أشهر أو أكثر يُغسل ويُصلى عليه؛ لحديث المغيرة بن شعبة يرفعه: (( ... والسّقط يُصلَّى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة)) (¬1)، ويُكفّن ويُقبر في مقابر المسلمين، ويُسمَّى، ويُعَقُّ عنه؛ لأن الروح قد نفخت فيه، فهو إنسان)) (¬2). الأمر الثاني عشر: السنة الاغتسال من غسل الميت؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من غسل الميت فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ)). ولفظ ابن ماجه: ((من غسل ميتاً فليغتسل)) (¬3)، وهذا الأمر للوجوب ولكن يصرف الوجوب إلى الاستحباب أحاديث أخرى، فقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه، فإن ميتكم ليس بنجس، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم)) (¬4)، وقول ابن عمر رضي الله عنهما: ((كنا نغسل الميت، فمنا من يغتسل ومنا من لم يغتسل)) (¬5). ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الجنائز، باب المشي أمام الجنازة، برقم 3180، والترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الصلاة على الأطفال، برقم 1031، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 293، وصحيح سنن الترمذي، 1/ 525. (¬2) المغني3،/458،والشرح الكبير، 6/ 107،والكافي، 2/ 22،والشرح الممتع 5/ 372، ومجموع فتاوى ابن عثيمين، 17/ 89،والروض المربع مع حاشية ابن قاسم، 2/ 60. (¬3) أبو داود، كتاب الجنائز، باب الغسل من غسل الميت، برقم 3161، والترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الغسل من غسل الميت، برقم 993، وابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في غسل الميت، برقم 1463، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 289، وصحيح سنن الترمذي، 1/ 507، وصحيح سنن ابن ماجه، 2/ 11، وساق له ابن القيم في تهذيب السنن أحد عشر طريقاً ثم قال: ((وهذه الطرق تدل على أن الحديث محفوظ)). وقال ابن حجر في التلخيص الحبير، 1/ 137: ((وبالجملة هو بكثرة طرقه أسوأ أحواله أن يكون حسناً)). (¬4) الحاكم، 1/ 386، والبيهقي، 3/ 398، وصححه الحاكم مرفوعاً، ووافقه الذهبي، ولكن قال الألباني: إن الحديث موقوف في أحكام الجنائز، ص72، وحسنه الحافظ في الفتح، 3/ 127. (¬5) الدارقطني، برقم 191، وغيره وصححه الألباني في أحكام الجنائز، ص72.

الخامس عشر: تكفين الميت

فيعمل بالأحاديث كلها، يكون الغسل من غسل الميت سنة وليس بواجب (¬1). قال سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله: ((وقال: بعضهم إن الحكمة في ذلك - والله أعلم - جبر ما يحصل للغاسل من الضعف بسبب مشاهدة الميت، وذكر الموت، وما بعده، وهو معنى مناسب)) (¬2)، والله أعلم (¬3). الخامس عشر: تكفين الميت يراعى في تكفين الميت الأمور الآتية: الأمر الأول: حكم تكفين الميت المسلم، فرض كفاية، إذا فعله من فيه كفاية سقط الحرج والإثم عن الباقين، وإن تركوه كلهم أثموا كلهم؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما في قصة الرجل الذي وقصته راحلته؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيه: ((اغسلوه بماء وسدر، وكفّنوه في ثوبيه)) (¬4)، وهذا أمر والأصل في الأمر الوجوب. الأمر الثاني: معرفة الفضل والأجر العظيم لمن تولَّى تكفين الميت المسلم؛ لحديث أبي رافع، وفيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( ... ومن كفَّن ميتاً كساه الله من سندس وإستبرق الجنة ... )) (¬5). الأمر الثالث: الكفن أو ثمنه من مال الميت؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في المحرم: ((اغسلوه بماء وسدر، وكفّنوه في ثوبيه)) (¬6)؛ولحديث خباب - رضي الله عنه - في قصة مصعب بن عمير - رضي الله عنه - وأنه كفن في نمرة له، وفي لفظ: بردة (¬7). ¬

(¬1) انظر: الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، 4/ 442. (¬2) تعليق ابن باز على فتح الباري، 3/ 135. (¬3) وانظر: لزيادة الفائدة ما تقدم في الطهارة، الأغسال المستحبة. (¬4) متفق عليه: البخاري، برقم 1265، ومسلم، برقم 1206، وتقدم تخريجه في الأمر السادس من أمور الغسل. (¬5) البيهقي، 3/ 395، والحاكم، 1/ 354، وتقدم تخريجه في الأمر الرابع من أمور الغسل. (¬6) متفق عليه: البخاري، برقم 1265، ومسلم، برقم 1206، وتقدم تخريجه. (¬7) قال خباب - رضي الله عنه -: ((هاجرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سبيل الله، نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله، فمنا من مضى لم يأكل من أجره شيئاً، منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد، فلم يوجد له شيء، (وفي رواية: ولم يترك) إلا نمرة، فكنا إذا وضعناها على رأسه خرجت رجلاه، وإذا وضعناها على رجليه خرج رأسه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ضعوها مما يلي رأسه (وفي رواية: غطوا بها رأسه)، واجعلوا على رجليه الإذخر، [بكسر الهمزة والخاء: حشيش معروف طيب الرائحة]، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها))، أي: يجتنيها. أخرجه البخاري (3/ 10)، برقم 4047، ومسلم (3/ 48) برقم 940، والسياق له، وابن الجارود في ((المنتقى)) (260)، والترمذي (4/ 357)، وصححه النسائي (1/ 269)، والبيهقي (3/ 10)، وأحمد (6/ 395)، والرواية الثانية له وللترمذي. وروى منه أبو داود (2/ 14، 62) قوله في مصعب: ((قتل يوم أحد ... )) والرواية الثالثة له، وفي الباب عن عبد الرحمن بن عوف أخرجه البخاري.

الأمر الرابع: يكفن المحرم في ثوبيه الذي مات فيهما ولا يغطى رأسه، ولا وجهه، ولا يطيب

ولكن لو تبرع أحد بكفنه فلا بأس ولا حرج (¬1). الأمر الرابع: يُكفَّن المحرم في ثوبيه الذي مات فيهما ولا يُغطَّى رأسه، ولا وجهه، ولا يُطيَّب؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما في الذي وقصته راحلته: ((اغسلوه بماء وسدر وكفّنوه في ثوبيه، ولا تحنّطوه، ولا تخمّروا رأسه فإنه يُبعث يوم القيامة ملبياً)). وفي لفظ لمسلم: ((ولا تخمّروا رأسه ولا وجهه ... )) (¬2). الأمر الخامس: يكفن الشهيد في ثيابه التي قتل فيها، ويستحب تكفينه بثوب واحد أو أكثر فوق ثيابه، أما تكفينه في ثيابه التي مات فيها؛ فلحديث عبد الله بن ثعلبة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم أحد: ((زمّلوهم في ثيابهم)) قال: وجعل يدفن في القبر الرهط، قال: وقال: ((قدّموا أكثرهم قرآناً)). ولفظ النسائي: ((زمّلوهم بدمائهم، فإنه ليس كَلْمٌ يُكْلَمُ إلا يأتي يوم القيامة يَدْمَى: لونه لون الدم، وريحه ريح المسك)) (¬3)؛ ولحديث جابر - رضي الله عنه -: ((وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا ولم يصلَّ عليهم)) (¬4). وأما استحباب تكفينه بثوب واحد أو أكثر فوق ثيابه التي قتل فيها؛ ¬

(¬1) انظر الشرح الممتع لابن عثيمين، 5/ 383. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 1265، ومسلم، برقم 1206، وتقدم تخريجه في حكم تغسيل الميت. (¬3) أحمد بلفظه، 5/ 431، والنسائي، كتاب الجنائز، باب مواراة الشهيد في دمه، برقم 2001، ورقم 3148، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 2/ 58، وأحكام الجنائز، ص80. (¬4) البخاري، برقم 1343، وتقدم تخريجه في شهيد المعركة لا يغسل.

الأمر السادس: يكون الكفن سابغا طائلا يستر جميع بدن الميت

فلحديث شداد بن الهاد - رضي الله عنه - (¬1)، ولحديث الزبير بن العوام - رضي الله عنه - (¬2). الأمر السادس: يكون الكفن سابغاً طائلاً يستر جميع بدن الميت؛ لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب يوماً فذكر رجلاً من أصحابه قُبِضَ فكُفّن في كفن غير طائل وقبر ليلاً فزجر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقبر الرجل بالليل حتى يُصلَّى عليه إلا أن يضطر الإنسان إلى ذلك، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه)) (¬3). ¬

(¬1) عن شداد بن الهاد - رضي الله عنه - قال: ((إن رجلاً من الأعراب، جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فآمن به واتَّبعه، ثم قال: أُهاجر معك، فأوصى به النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض أصحابه، فلما كانت غزة [خيبر] غنم النبي - صلى الله عليه وسلم -[فيها] شيئاً، فقسم، وقَسَمَ له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاءهم دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم لك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخذه فجاء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما هذا؟ قال: ((قسمته لك))، قال: ما على هذا تبعتك، ولكن اتَّبعتك على أن أُرمى إلى هاهنا - وأشار إلى حلقه - بسهم فأموت فأدخل الجنة، فقال: ((إن تصدُقِ الله يَصْدُقكَ))، فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو، فأُتي به النبي - صلى الله عليه وسلم - يُحمَل، قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أهو هو؟)) قالوا: نعم، قال: ((صَدَقَ الله فصدقه))، ثم كفنه النبي - صلى الله عليه وسلم - في جُبّة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قدمه فصلى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته: ((اللهمَّ هذا عبدُك، خَرجَ مهاجراً في سبيلك، فقُتل شهيداً، أنا شهيدٌ على ذلك)). أخرجه عبد الرزاق (9597)، والنسائي (1/ 277)، والطحاوي في ((شرح المعاني)) (1/ 291)، والحاكم (3/ 595 - 596)، والبيهقي في ((السنن)) (4/ 15 - 16)، و ((الدلائل)) (4/ 22). قال الألباني: ((وإسناده صحيح، رجاله كلهم على شرط مسلم ما عدا شداد بن الهاد لم يُخرّج له شيئاً، ولا ضير، فإنه صحابي معروف، وأما قول الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (3/ 37) تبعاً للنووي في ((المجموع)) (5/ 565): إنه تابعي فوهم واضح فلا يغتر به)). (¬2) عن الزبير بن العوام - رضي الله عنه - قال: ((لما كان يوم أحد أقبلت امرأة تسعى، حتى إذا كادت أن تشرف على القتلى، قال: فكره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تراهم، فقال: المرأةَ المرأةَ! ‍قال: فتوسمت أنها أمي صفية، فخرجت أسعى إليها، فأدركتها قبل أن تنتهي إلى القتلى، قال: فَلَدَمَتْ [أي ضربت ودفعت] في صدري، وكانت امرأة جلدة، قالت: إليك لا أرض لك، فقلت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عزم عليك، فوقَفَتْ، وأخرجت ثوبين معها، فقالت: هذان ثوبان جئت بهما لأخي حمزة، فقد بلغني مقتله، فكفنه فيهما، قال: فجئنا بالثوبين لنكفن فيهما حمزة، فإذا إلى جنبه رجل من الأنصار قتيل، قد فُعل به كما فعل بحمزة، فوجدنا غضاضة وحياء أن نكفن حمزة في ثوبين، والأنصاري لا كفن له. فقلنا: لحمزة ثوب، وللأنصاري ثوب، فقدرناهما فكان أحدهما أكبر من الآخر، فأقرعنا بينهما، فكفنا كل واحد منهما في الثوب الذي صار له)). أخرجه أحمد، (1418) -[قاله العلامة الألباني]، ((والسياق له بسند حسن - والبيهقي (3/ 401) وسنده صحيح)). (¬3) مسلم، كتاب الجنائز، باب في تحسين كفن الميت، برقم 943.

الأمر السابع: إذا ضاق الكفن ستر به رأس الميت وما طال من جسده

الأمر السابع: إذا ضاق الكفن ستر به رأس الميت وما طال من جسده، ويجعل على الباقي المكشوف شيئاً من الإذخر أو الحشيش أو غيره؛ لحديث خباب - رضي الله عنه - في قصة مصعب بن عمير، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في نمرة أو بردة مصعب: ((غطّوا بها رأسه، واجعلو على رجليه من الإذخر)) أو قال: ((ألقوا على رجليه من الإذخر)). وفي لفظ: ((فأمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نغطي رأسه وأن نجعل على رجليه من الإذخر)) (¬1) (¬2). الأمر الثامن: إذا قلَّت الأكفان وكثر الموتى جاز تكفين الجماعة منهم في الكفن الواحد، ويقدم أكثرهم قرآناً إلى القبلة؛ لحديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ((أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حمزة يوم أحد، فوقف عليه، فرآه قد مُثل به، فقال: ((لولا أن تجدَ صفية في نفسها لتركته حتى تأكله العافية، حتى يحشر يوم القيامة في بطونها)). قال: ثم دعا بنمرة فكفنه فيها، فكانت إذا مُدَّت على رأسه بدت رجلاه، وإذا مُدَّت على رجليه بدا رأسه، قال: فكثر القتلى وقلَّت الثياب، قال: فكفّن الرجل والرجلان والثلاثة في الثوب الواحد، ثم يدفنون في قبر واحد، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل عنهم؛ أيهم أكثر قرآناً فيقدّمه إلى القبلة، قال: فدفنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يصلّ عليهم)) (¬3). وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 1276، ورقم 4047، ومسلم، برقم 940، وتقدم تخريجه. (¬2) وعن حارثة بن مضرّب - رضي الله عنه - قال: ((دخلت على خباب وقد اكتوى [في بطنه] سبعاً، فقال: لولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يتمنين أحدكم الموت)) لتمنيته. ولقد رأيتني مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا أملك درهماًًً، وإن في جانب بيتي الآن لأربعين ألف درهم! ثم أتي بكفنه، فلما رآه بكى وقال: ولكن حمزة لم يوجد له كفن إلا بردة ملحاء، إذا جُعلت على رأسه قلصت عن قدميه، وإذا جُعلت على قدميه قلصت عن رأسه، وجُعل على قدميه الإذخر)). أخرجه أحمد (6/ 395)، [قال العلامة الألباني] ((بهذا التمام، وإسناده صحيح، والترمذي دون قوله: ((ثم أتى بكفنه ... )) وقال: ((حديث حسن صحيح)). وروى الشيخان وغيرهما من طريق أخرى النهي عن تمني الموت. وتقدم تخريجه في آداب المريض. (¬3) الترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء في قتلى أحد، وذكر حمزة، برقم 1016، وأبو داود، كتاب الجنائز، باب في الشهيد يغسل، برقم 3136، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 517، وفي أحكام الجنائز، ص79، وفي صحيح سنن أبي داود، 2/ 284.

الأمر التاسع: إحسان الكفن

تعالى أن معنى الحديث أنه كان يقسم الثوب الواحد بين الجماعة فيكفن كل واحد في بعضه للضرورة، وإن لم يستر إلا بعض بدنه، يدل عليه تمام الحديث أنه كان يسأل عن أكثرهم قرآناً فيقدّمه في اللحد، فلو أنهم في ثوب واحد جملة لسأل عن أفضلهم قبل ذلك كيلا يؤدي إلى نقض التكفين وإعادته)) (¬1). الأمر التاسع: إحسان الكفن؛ لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا كفّن أحدكم فليحسن كفنه)) (¬2)؛ ولحديث أبي قتادة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن كفنه)) (¬3). الأمر العاشر: يستحب في الكفن ما يأتي: 1 - يستحب البياض؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم، وكفّنوا فيها موتاكم، وإن خير أكحالكم الإثمد، يجلو البصر وينبت الشعر)) (¬4). 2 - يكون ثلاثة أثواب؛ لحديث عائشة رضي الله عنها ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كُفّن في ثلاثة أثواب بيض سحولية، ليس فيها قميص ولا عمامة)) (¬5). 3 - تجمير الكفن ثلاثاً لغير المحرم، وهو التبخير بالعود أو غيره؛ ¬

(¬1) نقلاً عن عون المعبود، للعظيم آبادي، 8/ 411، وانظر: أحكام الجنائز للألباني، ص79، والإنصاف مع الشرح الكبير والمقنع، 6/ 118. (¬2) مسلم، برقم 943، وتقدم تخريجه في إسباغ الكفن. (¬3) الترمذي، كتاب الجنائز، باب منه، برقم 995، وابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء فيما يستحب من الكفن، برقم 1474، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 1/ 508، وأحكام الجنائز، ص77. (¬4) أبو داود بلفظه، كتاب الطب، باب في الأمر بالكحل، برقم 3878، والترمذي، كتاب الجنائز، باب ما يستحب من الأكفان، برقم 994، وابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء فيما يستحب من الكفن، برقم 1472، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 502 وغيره. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب الكفن بلا عمامة، برقم 1273، ومسلم، كتاب الجنائز، باب في كفن الميت، برقم 941.

الأمر الحادي عشر: لا يغالى في الكفن ولا يزاد فيه على ثلاثة أثواب

لحديث جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أجمرتم الميت فأجمروه ثلاثاً)) (¬1). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((وأوصى أبو سعيد، وابن عمر، وابن عباس أن تجمر أكفانهم بالعود، وقال أبو هريرة: يجمر الميت)) (¬2). الأمر الحادي عشر: لا يغالى في الكفن ولا يزاد فيه على ثلاثة أثواب؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر نظر إلى ثوب عليه كان يمرض فيه به ردع من زعفران، فقال: اغسلوا ثوبي هذا وزيدوا عليه ثوبين فكفّنوني فيها، قلت: إن هذا خلق؟ قال: إن الحيَّ أحقُّ بالجديد من الميت، إنما هو للمهلة)) (¬3). وسمعت شيخنا الإمام ابن باز يقول: ((يكفي الوسط المناسب ولا يتحرَّى أحسن شيء، ولا يتكلَّف؛ لأن مصيره إلى الدود والفناء والزوال في القبر، فيكفي الخام الأبيض)) (¬4). الأمر الثاني عشر: كفن الرجل والمرأة، الواجب فيه الثوب الساتر لجميع بدن الميت، والمستحب ثلاثة أثواب، وإذا كُفّنت المرأة في خمسة أثواب فحسن: إزار، وخمار، وقميص، ولفافتين، فتؤز بالمئزر، ثم تلبس القميص، ثم تخمّر، ثم تلفّ باللفافتين، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((قال ابن المنذر: أكثر من نحفظ عنه من أهل العلم يرى أن تكفن المرأة في خمسة أثواب، وإنما استحب ذلك؛ لأن المرأة تزيد في حال حياتها على الرجل في الستر؛ لزيادة عورتها على عورته، فكذلك بعد الموت، ولما كانت تلبس المخيط في إحرامها وهو أكمل أحوال ¬

(¬1) أحمد، 3/ 331، وابن أبي شيبة، 4/ 92، والحاكم، 1/ 355، والبيهقي، 3/ 405، وغيرهم، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، قال الألباني في أحكام الجنائز، ص84: ((وهو كما قالا)). (¬2) المغني لابن قدامة، 3/ 383. (¬3) البخاري مطولاً، كتاب الجنائز، باب موت يوم الإثنين، برقم 1387. والمهلة: بضم الميم وكسرها. قال ابن الأثير في جامع الأصول، 11/ 114: ((القيح والصديد)). (¬4) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 572.

الأمر الثالث عشر: صفة تكفين الميت: أولى الناس بتكفين الميت

الحياة استحب إلباسها إياه بعد موتها، والرجل بخلاف ذلك، فافترقا في اللبس بعد الموت لافتراقهما فيه في الحياة، واستويا في الغسل بعد الموت لاستوائهما فيه في الحياة)) (¬1) (¬2). الأمر الثالث عشر: صفة تكفين الميت: أولى الناس بتكفين الميت هو أولى الناس بغسله كما تقدم، وصفة التكفين الكامل المشتمل على الواجبات والسنن على النحو الآتي: ¬

(¬1) المغني لابن قدامة، 3/ 391، وانظر: الكافي، 2/ 33. (¬2) وقد جاءت هذه الصفة في خبر ضعفه أهل العلم، وهو ما روته ليلى بنت قائف الثقفية، قالت: كنت فيمن غسل أم كلثوم ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند وفاتها، فكان أول ما أعطانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الحقاء، ثم الدرع، ثم الخمار، ثم الملحفة، ثم أدرجت بعد في الثوب الآخر، قالت: ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس عند الباب يناولناها ثوباً ثوباً)). أبو داود، برقم 3157،وأحمد،6/ 380 برقم 27135، وضعفه الألباني لجهالة نوح بن حكيم الثقفي، انظر: أحكام الجنائز للألباني، ص85. وسمعت الإمام شيخنا ابن باز رحمه الله تعالى أثناء تقريره على منتقى الأخبار، الحديث رقم 1804، يقول: هذا الحديث له طرق وهو جيد، ويدل على أن كفن المرأة خمسة [أثواب] وهذا هو الأفضل والواحد يكفي وهو الواجب، ولا يكشف وجه الميت في القبر، وإنما تحزم الأكفان ثم تفك في القبر ولا يكشف وجهه ولا رأسه إلا المحرم؛ [فإنه لا يغطى] وجهه ولا رأسه)). وقال رحمه الله في مجموع الفتاوى، 13/ 127: ((أما المرأة فالأفضل تكفينها في خمسة أثواب: إزار، وخمار، وقميص، ولفافتين، فهذا هو الأفضل كما ذكره أهل العلم وجاء في ذلك أحاديث تدل عليه، وإن كفنت في أقل من ذلك فلا بأس))، وانظر أيضاً: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، 8/ 363، وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: ((وأما المرأة فإنها تكفن في خمسة أثواب: إزار، وخمار، وقميص، ولفافتين، وإن كفنت المرأة كما يكفن الرجل فلا حرج في ذلك)) مجموع الفتاوى، 17/ 75. وقال الإمام البخاري رحمه الله في باب كيف الإشعار للميت؟ من كتاب الجنائز، قبل الحديث رقم 1261: ((وقال الحسن: الخرقة الخامسة ويشد بها الفخذين والوركين تحت الدرع)). قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري، 3/ 133: ((هذا يدل على أن أول الكلام أن المرأة تكفن في خمسة أثواب، وقد وصله ابن أبي شيبة نحوه، وروى الجوزقي من طريق إبراهيم بن حبيب بن الشهيد عن هشام عن حفصة عن أم عطية، قالت: فكفناها في خمسة أثواب وخمرناها كما يخمر الحي، وهذه الزيادة صحيحة الإسناد، وقول الحسن في الخرقة الخامسة قال به زفر، وقالت طائفة: تشد على صدرها لتضم أكفانها، وكأن المصنف أشار إلى موافقة قول زفر، ولا يكره القميص للمرأة على الراجح عند الشافعية والحنابلة)) انتهى كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله. وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((والذي عليه أكثر أصحابنا وغيرهم أن الأثواب الخمسة: إزار، ودرع، وخمار، ولفافتان، وهو الصحيح)) [المغني لابن قدامة، 3/ 392 - 393].

1 - تقص الأربطة من نفس عرض الكفن

1 - تُقصُّ الأربطة من نفس عرض الكفن وتكون وترية: سبعة، أو خمسة، أو غير ذلك، ثم توضع على النعش بالتساوي. 2 - تجمّر الأكفان (¬1) ثلاث مرات بعد رشها بماء ورد أو غيره ليعلق فيها البخور والرائحة. 3 - يكفن الرجل في ثلاث لفائف بيض. 4 - تبسط اللفافة الأولى على النعش أو على سرير تكفين الميت، ثم يذرُّ عليها حنوطاًن وهو أخلاط من الطيب ويجعل عليها كافوراً. 5 - ثم يبسط فوق اللفافة الأولى اللفافة الثانية ويجعل فوقها حنوطاً وكافوراً. 6 - ثم يبسط فوق اللفافة الثانية اللفافة الثالثة ويجعل فوقها حنوطاً وكافوراً ولا يجعل فوق العليا من الظاهر وعلى النعش حنوطاً؛ لأن أبا بكر - رضي الله عنه - قال: ((لا تجعلوا على أكفاني حنوطاً)) (¬2). 7 - يوضع على اللفائف خرقة مثل التبان (¬3) مشقوقة الطرف من الأعلى ومن الأسفل ويجعل عليها حنوطاً في قطن، وهذه الخرقة تمسك الحنوط المخلوط من المسك والكافور ليكون بين إليتي الميت. 8 - ينقل الميت على الأكفان بساتر العورة الذي يستر عورته، ويجعل الزائد من أطراف الكفن عند رأسه أطول مما عند رجليه، ويجعل الميت مستلقياً على ظهره. 9 - يؤتى بدهن العود أو المسك أو غير ذلك من الأطياب الطيبة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((والمسك أطيب الطيب)) (¬4)، ويجعل من الطيب على ¬

(¬1) تجمر: أي تبخر بالعود وسمي التبخير تجميراً؛ لأنه يوضع في الجمر في مجمر ثم يبخر به الكفن حتى تعبق رائحته، قال ابن الأثير في جامع الأصول، 11/ 116: ((الإجمار والتجمير: تبخير الثياب بالبخور)). (¬2) مالك، كتاب الجنائز، باب النهي عن أن تتبع الجنازة بنار، 1/ 226، وابن أبي شيبة في المصنف، 2/ 270 عن أسماء بنت أبي بكر. (¬3) والتبان: هو السروال الصغير يستر العورة المغلظة، والتبان: السراويل بلا أكمام، ويكون بقدر شبر يكون للملاحين كما قال الجوهري. (¬4) مسلم، كتاب الألفاظ من الأدب وغيره، باب استعمال المسك وأنه أطيب الطيب، برقم 2252.

10 - توضع يداه محاذيتينن لجنبيه، ويربط التبان بأخذ شقه الأعلى والأسفل من اليمين

مواضع السجود: على ركبتيه، ويديه، وجبهته وأنفه، وأطراف قدميه تشريفاً وإكراماً لهذه الأعضاء؛ لسجودها لله تعالى، ويوضع من هذا الطيب على حلقه، وعلى عينيه، وأنفه، وتحت إبطيه، وعلى سرته، وعلى أذنيه؛ لأن ابن عمر رضي الله عنهما كان يتتبع مغابن الميت ومرافقه بالمسك)) (¬1). وإن طيب جسد الميت كله فلا بأس؛ لأن أنس بن مالك - رضي الله عنه - طُلي بالمسك (¬2)، وطلي ابن عمر ميتاً بالمسك (¬3). 10 - توضع يداه محاذيتينن لجنبيه، ويربط التبان بأخذ شقه الأعلى والأسفل من اليمين، ثم يربط جيداً، ثم يؤخذ شقه الأعلى والأسفل من اليسار ثم يربط جيداً مثل ربط الحفائظ؛ لكي تمسك هذه الحفاظة الحنوط بين إليتي الميت، وتشد وتجمع مثانته وإليتيه؛ ليمنع ما ينزل من بطن الميت على الأكفان لو حصل ذلك حتى تستمر طهارتها إلى أن يوضع في قبره. ولا يطيب الميت بالورس ولا الزعفران؛ لأنهما إنما يستعملان للغذاء والزينة، وهو غير لائق بالميت؛ ولأنه ربما ظهر لونه على الكفن، ولا فرق في ذلك بين المرأة والرجل. 11 - يبدأ بإحكام الكفن فيرد طرف اللفافة الأولى التي من جانب الميت الأيسر على طرفها الذي على شق الميت الأيمن، ثم يُردّ طرفها الأيمن على شقه الأيسر، من رأسه إلى رجليه، قال ابن قدامة رحمه الله: ((وإنما استحب ذلك؛ لئلا يسقط عنه الطرف الأيمن إذا وضع على يمينه في القبر)) (¬4). ثم يسحب ساتر العورة، ثم يأخذ شق اللفافة الثانية الأيسر ¬

(¬1) عبد الرزاق، 3/ 414، برقم 6141، والبيهقي، 3/ 406، وقال الشيخ الغصن في تخريج أحاديث الروض المربع، 3/ 602: ((إسناده صحيح)). (¬2) ابن أبي شيبة، كتاب الجنائز، باب في المسك في الحنوط، 3/ 256، والبيهقي، 6/ 406، وابن سعد في الطبقات الكبرى، 7/ 25. (¬3) عبد الرزاق، 3/ 414،برقم 6140،وابن أبي شيبة،3/ 257،وقال الشيخ الغصن: وإسناده صحيح. (¬4) المغني لابن قدامة، 3/ 385،والمقنع والشرح الكبير مع الإنصاف، 6/ 126، والروض المربع مع حاشية ابن قاسم، 3/ 72، والكافي، 2/ 32.

12 - يبدأ بالأربطة، فيبدأ بالرباط على الرأس وما زاد من اللفائف

فيرده على شقه الأيمن، ثم يرد الأيمن على شقه الأيسر، ثم يأخذ شق اللفافة الثالثة الأيسر فيرده على الأيمن، ثم شقها الأيمن على شقه الأيسر، ويجعل أكثر الزائد عند رأسه كا تقدم؛ لأن رأسه أحق بالستر من رجليه؛ ولشرفه، ويدل على ذلك تكفين مصعب بن عمير كما تقدم. 12 - يبدأ بالأربطة، فيبدأ بالرباط على الرأس وما زاد من اللفائف يرد على وجه الميت، ويربط بالزائد من الرباط نفسه، ثم يربط ما تحت الرجلين، وما زاد من اللفائف يرد على رجليه ويربط بالزائد من الرباط نفسه، فإن كانت الأربطة سبعة، فالرباط الثالث على صدره، والرابع على بطنه، والخامس على إليتيه، والسادس على فخذيه، والسابع على ساقيه، وإن كانت خمسة أربطة أو ثلاثة فلا بأس، لكن توزع على أعلاه، وسطه، وأسفله، قال الإمام ابن باز رحمه الله: ((ليس في ذلك حد، لكن الثلاثة تكفي في أعلاه، وأسفله، ووسطه، وإن اكتفي باثنين فلا بأس، لكن المهم ضبط الكفن حتى لا ينتشر)) (¬1). ويكون ربط الأربطة من ناحية جنبه الأيسر ربطاً يسهل حله إذا وضع في القبر على جنبه الأيمن. 13 - تكفن المرأة في خمسة أثواب بيض من قطن إن تيسر البياض: إزار، وخمار، وقميص، ولفافتين؛ لما تقدم، وإن كفنت كالرجل فلا بأس، لكن الأفضل أن تكفن في خمسة أثواب. والواجب ثوب يستر جميع جسد الميت، سواء كان كبيراً، أو صغيراً، ذكراً كان أو أنثى، وأما ما تقدم فهو الأفضل والأكمل (¬2). ¬

(¬1) مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 128. (¬2) انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 383 - 394، والمقنع مع الشرح الكبير والإنصاف، 6/ 114 - 135، والروض المربع، 3/ 64 - 78، والكافي، 3/ 29 - 137. والشرح الممتع، 5/ 282 - 394، إبهاج المؤمنين بشرح منهج السالكين، لابن جبرين، 1/ 255 - 256، والوجازة في تجهيز الجنازة، للغيث، ص75 - 80.

السادس عشر: الصلاة على الميت

السادس عشر: الصلاة على الميت يراعى في الصلاة على الميت الأمور الآتية: الأمر الأول: حكم الصلاة على الميت: فرض كفاية؛ لمفهوم قول الله تعالى: {وَلاَ تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِالله وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} (¬1)، فلما نهى عن الصلاة على المنافقين دلَّ على أن الصلاة على المؤمنين شريعة قائمة وهو كذلك (¬2)؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي على أموات المسلمين باستمرار، وكان يقول أحياناً: ((صلوا على صاحبكم)) (¬3). الأمر الثاني: فضل الصلاة على الميت، لقد تفضل الله - عز وجل - على عباده المؤمنين بأن وعدهم بالأجر العظيم على الصلاة على أموات المسلمين، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من اتّبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً وكان معه حتى يُصلَّى عليها، ويفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط)) (¬4). وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أنه كان قاعداً عند عبد الله بن عمر إذا طلع خباب صاحب المقصورة، فقال: يا عبد الله بن عمر، ألا تسمع ما يقول أبو هريرة؟ إنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من خرج مع جنازة من بيتها وصلى عليها، ثم تبعها حتى تدفن كان له قيراطان من أجر كل قيراط مثل أحد، ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 84. (¬2) الشرح المتع لابن عثيمين، 5/ 337. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الكفالة، باب الدين، برقم 2298، ومسلم، كتاب الفرائض، باب من ترك مالاً فلورثته، برقم 1619. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، باب اتباع الجنائز من الإيمان، برقم 47، وكتاب الجنائز، باب فضل اتباع الجنائز، برقم 1323، وباب من انتظر حتى تدفن، برقم 1325،ومسلم، كتاب الجنائز، باب فضل الصلاة على الجنازة واتباعها، برقم 945.

الأمر الثالث: فضل الله - عز وجل - على عبده المسلم الميت بشرعية الصلاة عليه

ومن صلى عليها ثم رجع كان له من الأجر مثل أحد)) فأرسل ابن عمر خباباً إلى عائشة يسألها عن قول أبي هريرة ثم يرجع إليه فيخبره ما قالت؟ وأخذ ابن عمر قبضة من حصباء المسجد يقلبها في يده حتى رجع إليه الرسول فقال: قالت عائشة: صدق أبو هريرة، فضرب ابن عمر بالحصى الذي كان في يده الأرض، ثم قال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة)). وفي لفظ: ((قيل لابن عمر: إن أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من تبع جنازة فله قيراط من الأجر)). فقال ابن عمر: أكثر أبو هريرة علينا، فبعث إلى عائشة فسألها فصدقت أبا هريرة، فقال ابن عمر، لقد فرطنا في قراريط كثيرة)) (¬1). وسئل شيخنا ابن باز رحمه الله عمن صلى على خمس جنائز فهل له بكل جنازة قيراط؟ فأجاب: نرجو له قراريط بعدد الجنائز، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان)) (¬2). وما جاء في معنى ذلك من الأحاديث وكلها دالة على أن القراريط تتعدد بعدد الجنائز .. وهذا من فضل الله سبحانه وجوده وكرمه على عباده فله الحمد والشكر لا إله غيره ولا رب سواه والله ولي التوفيق (¬3). وسئل شيخنا ابن باز رحمه الله عن حكم السفر لأجل الصلاة على الميت، فقال رحمه الله: ((لا حرج في ذلك)) (¬4). الأمر الثالث: فضل الله - عز وجل - على عبده المسلم الميت بشرعية الصلاة عليه، وقبول شفاعة إخوانه فيه؛ لحديث عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب فضل اتباع الجنائز، برقم 1323، 1324، ومسلم، كتاب الجنائز، باب فضل الصلاة على الجنازة واتباعها، برقم 56 - (945). (¬2) تقدم تخريجه في الذي قبله. (¬3) مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 136 - 137. (¬4) مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 138.

الأمر الرابع: شهيد المعركة لا يصلى عليه

يشفعون له إلا شفعوا فيه)) (¬1)؛ ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه)) (¬2). وقد جمع أهل العلم بين حديث المائة، والأربعين، فسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله يقول: ((قال أهل العلم في الجمع بين حديث المائة وحديث الأربعين: إن حديث المائة أولاً، ثم تفضل الله - عز وجل - وجعل الأربعين يقومون مقام المائة في قبول الشفاعة، وبكل حال فالحديثان يدلان على استحباب كثرة الجمع على الجنائز)) (¬3). الأمر الرابع: شهيد المعركة لا يُصلَّى عليه؛ لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وفيه: (( ... وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يُغسَّلوا ولم يصلَّ عليهم)) (¬4). أما الذي يُجرح في المعركة ثم يموت بعد ذلك فإنه يُصلّى عليه، وكذلك شهداء غير المعركة يُصلى عليهم، كالذي يموت بالهدم، والغرق، والسل، والمقتول ظلماً على الصحيح، وغيرهم من الشهداء الذين يموتون في غير معركة الجهاد، يغسلون ويصلى عليهم. الأمر الخامس: السقط والطفل يصلى عليهما ويُدعى لوالديهما؛ ¬

(¬1) مسلم، كتاب الجنائز، باب من صلى عليه مائة شفعوا فيه، برقم 947. (¬2) مسلم، كتاب الجنائز، باب من صلى عليه أربعون شفعوا فيه، برقم 948. (¬3) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 580، ثم قال رحمه الله أثناء تقريره على هذا الحديث: ((وفي حديث مالك بن هبيرة عند أبي داود [3166]، والترمذي [1028]، وابن ماجه [1490] بإسناد فيه ابن إسحاق وقد عنعن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من ميت يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا أوجب)) يعني وجبت له الجنة، وكان مالك [بن هبيرة] إذا استقل الناس جزأهم ثلاثة صفوف، والحديث إسناده جيد لولا عنعنة ابن إسحاق، فإن صرح بالسماع في رواية استقام إسناده لكن لم أقف على أنه صرح بالسماع، وقال الألباني في الجنائز، ص128: ((وقال الترمذي وتبعه النووي في المجموع، 5/ 212:حديث حسن وأقره الحافظ في الفتح، ثم قال الألباني: وفيه عندهم جميعاً محمد بن إسحاق وهو حسن الحديث إذا صرح بالتحديث ولكنه هنا قد عنعن فلا أدري وجه تحسينهم للحديث)). (¬4) البخاري، برقم 1343،ورقم 1346،وتقدم تخريجه في شهيد المعركة لا يغسل، وفي تكفين الشهيد في ثيابه.

الأمر السادس: الإمام الأعظم لا يصلى على الغال وقاتل نفسه

لحديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - يرفعه وفيه: ((والسقط يُصلَّى عليه ويُدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة)). وفي لفظ: ((والطفل يُصلَّى عليه)) (¬1). الأمر السادس: الإمام الأعظم لا يصلّى على الغال وقاتل نفسه، بل يصلي عليه سائر الناس؛ لحديث زيد بن خالد الجهني: أن رجلاً من المسلمين توفي بخيبر، وأنه ذُكِرَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((صلّوا على صاحبكم)) قال: فتغيرت وجوه القوم لذلك، فلما رأى الذي بهم قال: ((إن صاحبكم غلَّ في سبيل الله)) ففتشنا متاعه فوجدنا فيه خرزاً من خرز اليهود ما يساوي درهمين)) (¬2)؛ ولحديث جابر بن سمرة، قال: أُتي النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصلّ عليه)) (¬3). وسمعت الإمام ابن باز رحمه الله يقول عن حديث زيد بن خالد: ((دل الحديث على فوائد: أن ولي الأمر لا يصلي على الغال، وأنه يُصلّي على العاصي)) وقال عن حديث جابر: ((قاتل نفسه أتى جريمة عظيمة فلا يصلي عليه الإمام أو كبار البلد والجماعة ويصلي عليه غيرهم)) (¬4). الأمر السابع: يُصلى على من قُتل حدّاً؛ لحديث جابر - رضي الله عنه - أن رجلاً من أسلم جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاعترف بالزنا، فأعرض عنه حتى شهد على نفسه أربع مرات، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أبك جنون؟)) قال: لا. قال: ((أحصنت؟)) قال: ¬

(¬1) أبو داود، برقم 3180، والترمذي، برقم 1031، وأحمد، 4/ 240، 249، والنسائي، 4/ 55، وتقدم تخريجه في تغسيل الميت. (¬2) أبو داود، كتاب الجهاد، باب في تعظيم الغلول، برقم 2710، والنسائي، كتاب الجنائز، باب الصلاة على من غل، برقم 1961، وابن ماجه، كتاب الجهاد، باب الغلول، برقم 2848، وأحمد، برقم 17031، 4/ 114 قال الإمام الشوكاني في هذا الحديث سكت عنه أبو داود، والمنذري ورجاله رجال الصحيح. نيل الأوطار، 2/ 716، وضعفه الألباني في صحيح سنن أبي داود، برقم 2710، وفي غيره، وقال عنه أصحاب موسوعة الإمام أحمد، 28/ 257، برقم 17031: ((إسناده محتمل للتحسين)) ثم أطالوا في تخريجه ثم قالوا بعد أن ذكروا له شواهد: ((وهذه الأحاديث تقوي معنى حديثنا هذا)) 28/ 260. (¬3) مسلم، كتاب الجنائز، باب ترك الصلاة على القاتل نفسه، برقم 978. (¬4) سمعته أثناء تقريره على منتقى الأخبار، الحديث رقم 1816، ورقم 1817.

الأمر الثامن: الصلاة على الغائب بالنية، فيستقبل القبلة ويصلى عليه

نعم، فأمر به فرجم بالمصلى، فلما أذلفته الحجارة فرَّ، فأُدرِك فَرُجِم حتى مات، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - خيراً وصلّى عليه)) (¬1). وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه صلى على الغامدية (¬2)، وصلى على الجهنية (¬3). وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يقول عن هذا الحديث: ((يدل على أنه يُصلَّى على من أُقيم عليه الحد؛ لأن الحد قد طهره، ورواية من قال لم يصلّ على ما عز أثبت منها من أثبت الصلاة عليه، فالصواب أنه صلى على ماعز)) (¬4). الأمر الثامن: الصلاة على الغائب بالنية، فيستقبل القبلة ويصلى عليه إن لم يصلَّ عليه أو كان له شأن في الإسلام، ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على النجاشي؛ لحديث جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على النجاشي، فكنت في الصف الثاني أو الثالث، وفي لفظ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش فهلمَّ فصلُّوا عليه)). قال: فصففنا فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن صفوف. وفي لفظ: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على أصحمة النجاشي فكبّر عليه أربعاً)). وفي لفظ: ((قوموا فصلوا على أخيكم أصحمة)) (¬5). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعى النجاشيَّ في اليوم الذي ¬

(¬1) البخاري، كتاب الحدود، باب الرجم بالمصلى، برقم 6820، وهو عند مسلم من حديث ابن بريدة، برقم 1695. (¬2) مسلم، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا، برقم 1695. (¬3) مسلم، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا، برقم 1696. (¬4) سمعته أثناء تقريره على منتقى الأخبار، الحديث رقم 1818، 1819. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب من صف صفين أو ثلاثة على الجنازة خلف الإمام، برقم 1317، وباب التكبير على الجنازة أربعاً، برقم 1334، وكتاب مناقب الأنصار، باب موت النجاشي، برقم 3877، ورقم 3878، ورقم 3879، ومسلم، كتاب الجنائز، باب في التكبير على الجنائز، برقم 952.

الحالة الأولى: أن يموت في أرض ليس بها من يصلي عليه

مات فيه، خرج إلى المصلى فصف بهم، وكبر أربعاً. وفي لفظ: ((نعى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النجاشي صاحب الحبشة في اليوم الذي مات فيه فقال: ((استغفروا لأخيكم)). وفي لفظ: ((وكبر عليه أربع تكبيرات)) (¬1). وعن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أخاكم قد مات فقوموا فصلوا عليه)) يعني النجاشي (¬2). وفي لفظ للترمذي: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أخاكم النجاشي قد مات، فقوموا فصلوا عليه)). قال: فقمنا فصففنا كما يصفُّ على الميت، وصلينا عليه كما يُصلَّى على الميت)) (¬3)، والأقرب والله تعالى أعلم: أنه يُصلَّى على الميت الغائب (¬4) في حالتين: الحالة الأولى: أن يموت في أرض ليس بها من يصلي عليه. الحالة الثانية: إذا كان فيه منفعة عظيمة للمسلمين: كالعالم الكبير الذي ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 1245، ورقم 1318، ورقم 1327، ورقم 1328، ورقم 1333، ومسلم، برقم 951، وتقدم تخريجه في النعي الجائز. (¬2) مسلم، كتاب الجنائز، باب في التكبير على الجنازة، برقم 953. (¬3) الترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي، برقم 1039، وابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الصلاة على النجاشي، برقم 1535، وأحمد، 2/ 281، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 530. (¬4) اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في الصلاة على الغائب، فعند الجمهور من السلف والشافعي، وأحمد، وابن حزم، مشروعية الصلاة على الميت الغائب عن البلد، حتى قال ابن حزم: لم يأت عن أحد من الصحابة منعه؛ ولهذا قال الشافعي: الصلاة على الميت دعاء له، وهو إذا كان ملففاً يصلى عليه، فكيف لا يدعى له وهو غائب أو في القبر بذلك الوجه الذي يدعى له به وهو ملفف. وقال الحنفية والمالكية: لا يشرع ذلك؛ وإنما هو خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. وعن بعض أهل العلم إنما يجوز ذلك في اليوم الذي يموت فيه الميت أو ما قرب منه لا ما إذا طالت المدة حكاة ابن عبد البر. وقال ابن حبان: إنما يجوز ذلك لمن كان في جهة القبلة. وقيل: لا يصلى على الغائب إلا إذا وقع موته بأرض ليس بها من يصلي عليه. وقيل هذه الصلاة خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي، ولكن الأصل عدم الخصوصية [فتح الباري لابن حجر، 3/ 188]. وانظر الشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، 6/ 182 - 183، والمغني لابن قدامة، 3/ 446، وزاد المعاد لابن القيم، 1/ 519.

نفع الله بعلمه فانتفع به الناس، أو كالإمام الذي نفع الله به البلاد والعباد؛ فأقام العدل بين الناس وذَبَّ عن شريعة الإسلام، أو غير ذلك ممن نفع الله بهم الإسلام نفعاً ظاهراً، وهذا ما اختاره شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله فقد سمعته يقول: ((دلَّ ذلك على أنه يُصلى على الغائب صلاة الغائب على الخواص: كالعالم، أما من قال: إن الصلاة على النجاشي؛ لأنه لم يصلَّ عليه فهذا بعيد؛ لأنه ملك عظيم [فكيف] لا يصلي عليه أحد من رعيته، هذا من أبعد الأشياء، أو مستحيل، والمعروف والعادة أن الملوك إذا أسلموا تبعهم بعض خواصهم)) (¬1)،وسمعته رحمه الله يقول أيضاً: ((واختلف العلماء في الصلاة على الغائب: [فـ] منهم من قال: لا يُصلَّى على أحد إلا النجاشي، ومنهم من قال: يقاس على النجاشي من كان مثله، فيصلى على من له شأن في نصر الإسلام والمسلمين، وهذا عليه أئمة الدعوة)) (¬2) (¬3). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((وتتوقف الصلاة على الغائب بشهر كالصلاة على القبر)) (¬4)، والله - عز وجل - أحكم الحاكمين والموفق للصواب (¬5). ¬

(¬1) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 579. (¬2) سمعته أثناء تقريره على منتقى الأخبار، الحديث رقم 1821 - 1825. (¬3) وانظر: زيادة تفصيل في المسألة، مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 158 - 160. (¬4) المغني، لابن قدامة، 3/ 447. (¬5) وخلاصة ما ذكره ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد، 1/ 519 - 520: أنه لم يكن من هديه - صلى الله عليه وسلم - الصلاة على كل غائب، فقد مات خلق كثير من المسلمين وهم غُيّب فلم يصلّ عليهم، وصح عنه أنه صلى على النجاشي صلاته على الميت فاختلف الناس في ذلك على ثلاث طرق: الأول: إن هذا تشريع منه وسنة للأمة الصلاة على كل غائب، وهذا قول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه. القول الثاني: قال أبو حنيفة ومالك: هذا خاص به - صلى الله عليه وسلم -، وليس ذلك لغيره. القول الثالث: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الصواب أن الغائب إن مات ببلد لم يصلَّ عليه فيه صلي عليه صلاة الغائب، وإن صلى عليه حيث مات لم يُصلَّ صلاة الغائب؛ لأن الفرض قد سقط بصلاة المسلمين عليه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على الغائب وتركه، وفعله وتركه سنة، وهذا له موضع والله أعلم، والأقوال ثلاثة في مذهب الإمام أحمد وأصحها هذا التفصيل، والمشهور عند أصحابه الصلاة عليه مطلقاً [زاد المعاد، 1/ 519 - 521]. وذكر العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى من خلاف العلماء ثلاثة أقوال من أقوال أهل العلم في حكم صلاة الغائب: القول الأول: يُصلَّى على كل غائب: شريفاً، أو وضيعاً، ذكراً أو أنثى، قريباً أو بعيداً، فيصلى على كل غائب ولو صُلّي عليه. القول الثاني: يصلى على الغائب إذا كان فيه غناء للمسلمين، أي منفعة. كالعلم الذي نفع الناس بعلمه، وتاجر نفع الناس بماله، ومجاهد نفع الناس بجهاده، وما أشبه ذلك، فيصلى عليه شكراً له وردّاً لجميله، وتشجيعاً لغيره أن يفعل مثل فعله. وهذا قول وسط اختاره كثير من العلماء المعاصرين وغير المعاصرين. القول الثالث: لا يصلَّى على الغائب إلا من لم يُصلَّ عليه حتى وإن كان كبيراً في علمه، أو ماله، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله [الاختيارات الفقهية، ص87]. انظر: الشرح الممتع لابن عثيمين، 5/ 437 - 438.

الأمر التاسع: مشروعية الصلاة على القبر إلى شهر

وصفة الصلاة على الغائب كصفة الصلاة على الجنازة الحاضرة. الأمر التاسع: مشروعية الصلاة على القبر إلى شهر، وحكم إعادة الصلاة على الجنازة وتكرارها؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قبر رطب، فصلَّى عليه، وصفوا خلفه، وكبر أربعاً)) (¬1)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -:أن امرأة سوداء كانت تقمّ المسجد - أو شاباً - ففقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عنها - أو عنه - فقالوا: مات، قال: ((أفلا كنتم آذنتموني؟)) قال: فكأنهم صغَّروا أمرها - أو أمره - فقال: ((دلوني على قبره)) فدلوه فصلى عليها ثم قال: ((إن هذه القبور مملوءة ظلمةً على أهلها، وإن الله - عز وجل - ينوّرها لهم بصلاتي عليهم)) (¬2). وعن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر (¬3). وعن سعيد بن المسيب - رضي الله عنه - ((أن أمَّ سعدٍ ماتت والنبي - صلى الله عليه وسلم - غائب، فلما ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر بعدما يدفن، برقم 1336، ومسلم، كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر، برقم 954. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 1336، ومسلم بلفظه، برقم 956، وتقدم تخريجه في عذاب القبر. (¬3) مسلم، كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر، برقم 955.

قدم صلى عليها، وقد مضى لذلك شهر)) (¬1). وعن ابن عباس رضي الله عنهما ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر بعد شهر)) (¬2). وعنه ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على ميت بعد ثلاث)) (¬3). وعن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: أنهم خرجوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فرأى قبراً جديداً، فقال: ((ما هذا؟)) قالوا: هذه فلانة - مولاة بني فلان، فعرفها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - ماتت ظهراً وأنت نائم قائل، فلم نُحبَّ أن نوقظك بها، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصف الناس خلفه وكبر عليها أربعاً، ثم قال: ((لا يموت فيكم ميت ما دمت بين أظهركم إلا آذنتموني به، فإن صلاتي له رحمة)) (¬4). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((وجملة ذلك أن من فاتته الصلاة على الجنازة، فله أن يصلي عليها ما لم تدفن، فإن دفنت فله أن يصلي على القبر إلى شهر، هذا قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، روي ذلك عن أبي موسى، وابن عمر، وعائشة - رضي الله عنهم - .... )) (¬5). وسمعت الإمام شيخنا ابن باز رحمه الله تعالى يقول عن الأحاديث السابقة: ((هذه الأحاديث فيها تحديد الصلاة على الميت بعد موته في حدود شهر، وفي ذلك تواضع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة على الميت أكثر من شهر، والصلاة توقيفية، أما رواية صلاته على ¬

(¬1) الترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الصلاة على القبر، برقم 1038. وقال الحافظ في التلخيص، 2/ 125: ((وإسناده مرسل صحيح)) ووصله البيهقي، 4/ 48 عن ابن عباس، وفي إسناده سويد بن سعيد، ووصله أيضاً الدارقطني، ص193، وحسنه الأرناؤوط في تحقيقه لجامع الأصول، 6/ 237. (¬2) الدارقطني، 2/ 78. (¬3) الدارقطني، 2/ 78. (¬4) النسائي، كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر، برقم 2021، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 2/ 64. (¬5) المغني لابن قدامة، 3/ 444.

الشهداء بعد ثمان سنوات فيقال: بأنه دعا لهم ولم يصلّ عليهم)) (¬1)، وسمعته يقول: ((هذا يدل على رحمته - صلى الله عليه وسلم - بالمسلمين، وفيه فضل كناسة المساجد، ومشروعية الصلاة على القبر، وأكثر ما ورد في الصلاة على القبر شهر؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - صلى على أم سعدٍ بعد شهر، أما ما زاد فالأصل عدم ذلك، أما ما ذكر من صلاته على قتلى أحد، فيحتمل أنه دعا لهم كدعوات الجنازة، ويحتمل أن هذا خاص به يودع الأحياء والأموات)) (¬2). والله - عز وجل - أعلم (¬3). وصفة الصلاة على القبر كصفة الصلاة على الجنازة؛ لهذه الأحاديث. ¬

(¬1) سمعته أثناء تقريره على منتقى الأخبار، الأحاديث رقم: 1827 - 1831. (¬2) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 577. (¬3) اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في الصلاة على القبر لمن لم يصل على الجنازة، فقيل: بعدم مشروعية الصلاة على القبر، وأن الصلاة على القبر من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: الصلاة على القبر مشروعة، وبه قال الجمهور، واختلفوا فيمن لم يصلّ فقيل: يؤخر دفنه ليصلي عليه من كان لم يصلّ، وقيل: يبادر بدفنها ويصلي الذي فاتته على القبر. قال الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: ((ومن صلى مرة فلا يسن له إعادة الصلاة عليها، وإذا صُلّي على الجنازة مرة لم توضع لأحد يصلي عليها قال القاضي: لا يحسن بعد الصلاة عليه ويبادر بدفنه ... )). وقال ابن قدامة أيضاً: ((ويصلى على القبر وتعاد الصلاة عليه جماعة وفرادى نص عليهما أحمد. وقال: وما بأس بذلك فقد فعله عدة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،وفي حديث ابن عباس، قال: انتهى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قبر رطب فصفوا خلفه وكبر أربعاً [متفق عليه وتقدم تخريجه] [المغني،3/ 444 - 446،والشرح الكبير،6/ 181 - 182]. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الاختيارات الفقهية، ص129: ((ويصلى على الجنازة مرة بعد أخرى؛ لأنه دعاء وهو وجه في المذهب واختاره ابن عقيل في الفنون وقال في موضع آخر: ومن صلى على الجنازة فلا يعيدها إلا بسبب مثل أن يعيد غيره الصلاة فيعيدها معه، أو يكون هو أحق بالإمامة من الطائفة الثانية فيصلي بهم)). واختلف في المدة التي يُصلى فيها على الميت في القبر: فقيل: إلى شهر، وقيل: ما لم يبل الجسد، وقيل: إلى اليوم الثالث، وقيل: يختص بمن كان من أهل الصلاة عليه حين موته، وقيل: يجوز أبداً [فتح الباري لابن حجر، 3/ 205، ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 724]. وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: ((والصحيح أنه يُصلى على الغائب ولو بعد شهر، ونصي على القبر أيضاً ولو بعد الشهر)) [الشرح الممتع، 5/ 436] والراجح والله تعالى أعلم أنه يصلى عليها في حدود الشهر. كما تقدم.

الأمر العاشر: موقف الإمام من الرجل والمرأة في صلاة الجنازة

وأما إعادة الصلاة على الجنازة وتكرارها، فالصواب من أقوال أهل العلم أنه لا بأس ولا مانع من إعادة صلاة الجنازة لسبب، كمن يصليها مع الناس، ثم يعيدها مع من يصليها كمن لم يُصلّ عليها؛ وهذا مثل من يصلي الفريضة في مسجد، ثم ذهب لمسجد آخر لحاجة، فوجد الناس يصلون فيه؛ فإنه يعيدها معهم، وتكون له نافلة، فكذلك صلاة الجنازة، أما إعادة الصلاة بدون سبب فلا، وكذلك لا تعاد صلاة الجنازة بدون سبب على الصحيح (¬1) (¬2). الأمر العاشر: موقف الإمام من الرجل والمرأة في صلاة الجنازة، يقف عند رأس الرجل ووسط المرأة؛ لحديث أبي غالب قال: صليت مع أنس بن مالك على جنازة رجل فقام حيال رأسه، ثم جاؤوا بجنازة امرأة من قريش، فقالوا: يا أبا حمزة صلّ عليها، فقام حيال وسط السرير، فقال له العلاء بن زياد: هكذا رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - قام على الجنازة مقامك منها؟ ومن الرجل مقامك منه؟ قال: نعم، فلما فرغ قال: ¬

(¬1) انظر: مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 153 - 156. (¬2) اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في حكم من صلى على الجنازة: هل يعيدها مرة أخرى، أم لا يعيدها. قال العلامة المرداوي في الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، 6/ 176 - 177: ((فائدة: يكره لمن صلى عليها أن يعيد الصلاة مرة ثانية، على الصحيح من المذهب، وعليه الأكثر، ونص عليه. وقيل: يَحْرُمُ، وذكره في ((المنتخب)) نصّاً، وفي كلام القاضي الكراهة وعدم الجواز، وقال في ((الفُصول)): لا يصلّيها مرتين، كالعيد، وقيل: يصلّي ثانياً، اختاره ابن عقيل في ((الفُنون))، والمجدُ، والشيخ تقي الدين، وقال أيضاً في موضع آخر: ومن صلَّى على الجنازة فلا يعيدها إلاّ لسببٍ، مثل أن يُعيد غيره الصلاة فيعيدها معهم، أو يكون هو أحقَّ أن بالإمامة من الطائفة الثانية، فيًصلّي بهم، وأطلق في ((الوسيلة))، و ((فروع أبي الحسين)) عن ابن حامد: أنه يصلّي ثانياً؛ لأنه دعاء، واختار ابن حامد، والمجدُ يُصلّي عليها ثانياً تبعاً لا استقلالاً إجماعاً ... )). [وانظر: مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 153 - 156، والإنصاف، 6/ 176 - 177].

الأمر الحادي عشر: الصلاة على أنواع من الجنائز، إذا اجتمعت جنائز عديدة

احفظوا)) (¬1). وعن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: ((صليت وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - على امرأة ماتت في نفاسها فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة عليها وَسْطَهَا)) (¬2). قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقوم عند رأس الرجل ووسط المرأة)) (¬3). الأمر الحادي عشر: الصلاة على أنواع من الجنائز، إذا اجتمعت جنائز عديدة من الرجال والنساء صُلّي عليها صلاة واحدة، وجعلت الذكور ولو كانوا صغاراً مما يلي الإمام، وجنائز الإناث مما يلي القبلة؛ لحديث نافع أن ابن عمر صلى على تسع جنائز جميعاً فجعل الرجال يلون الإمام، والنساء يلين القبلة، فصفهن صفّاً واحداً، ووضعت جنازة أم كلثوم بنت علي، امرأة عمر بن الخطاب وابن لها يقال له زيد، وضعا جميعاً، والإمام يومئذ سعيد بن العاص، وفي الناس ابن عمر، وأبو هريرة، وأبو سعيد، وأبو قتادة، فوضِعَ الغلام مما يلي الإمام، فقال رجل فأنكرت ذلك، فنظرت إلى ابن عباس وأبي هريرة، وأبي سعيد، وأبي قتادة فقلت: ما هذا؟ قالوا: هي السنة)) (¬4). وعن عمار مولى الحارث بن نوفل ((أنه شهد جنازة أم كلثوم وابنها فجعل الغلام مما يلي الإمام، فأنكر ذلك، وفي القوم ابن عباس، وأبو ¬

(¬1) أحمد، 3/ 204، وأبو داود، كتاب الجنائز، باب أين يقوم الإمام من الميت إذا صلى عليه، برقم 3194، مطولاً، والترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء أين يقوم الإمام من الرجل والمرأة، برقم 1034، وابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء أين يقوم الإمام إذا صلى على الجنازة، برقم 1494، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 527، وغيره. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب أين يقوم من المرأة والرجل، برقم 1332، ومسلم، كتاب الجنائز، باب أين يقوم الإمام من الميت للصلاة عليه، برقم 964. (¬3) زاد المعاد، 1/ 512. (¬4) النسائي، كتاب الجنائز، باب اجتماع جنائز الرجال والنساء، برقم 1977، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 2/ 52.

سعيد الخدري، وأبو قتادة، وأبو هريرة، فقالوا: هذه السنة)) (¬1). وعن مالك بن أنس بلغه: أن عثمان بن عفان، وأبا هريرة، وابن عمر، كانوا يصلون على الجنائز بالمدينة: الرجال، والنساء، فيجعلون الرجال مما يلي الإمام، والنساء مما يلي القبلة (¬2). وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يقول عن هذه الأحاديث: (أفادت هذه الأحاديث أن السنة أن يقف الإمام حذاء وسط المرأة ويصلي عند رأس الرجل، وإذا كانوا جماعة يجمعون: يجعل الرجل مما يلي الإمام، والصبي وراءه، والمرأة وراءهما، والطفلة الصغيرة وراء المرأة مما يلي القبلة، وكون سعيد سوَّى بين رأس الرجل والمرأة ليس بجيد وإنما الصواب أن يجعل رأس الرجل حذاء وسط المرأة حتى يقف الإمام منهما موقف السنة)) (¬3) (¬4). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((ولا خلاف بين أهل العلم في جواز الصلاة على الجنائز دفعة واحدة، وإن أفرد كل جنازة بصلاة جاز)) (¬5). فإن كان الأموات نوعاً واحداً أي إذا تعدد الرجال مثلاً قدم إلى الإمام أفضلهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسأل الصحابة عن أكثر الشهداء أخذاً للقرآن فيقدمه في اللحد (¬6)، وهذا يؤخذ منه أن الأفضل أو العالم هو الذي يقدم ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الجنائز، باب إذا حضر جنائز رجال ونساء مَن يقدم، برقم 3193، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 297. (¬2) مالك في الموطأ بلاغاً، في كتاب الجنائز، باب جامع الصلاة على الجنائز، 1/ 230، قال الأرناؤوط في تحقيقه لجامع الأصول، 6/ 231: ((وإسناده منقطع، ولكن له شواهد بمعناه منها الحديثان اللذان قبله، فهو حديث حسن)). (¬3) سمعته أثناء تقريره على المنتقى، الأحاديث: 1859 - 1862. وانظر: المغني لابن قدامة، 3/ 453 - 454. (¬4) انظر المغني، لابن قدامة، 3/ 509. (¬5) المغني، 3/ 512. (¬6) البخاري، برقم 1347، وتقدم تخريجه في أن الشهيد لا يغسل، ولا يصلى عليه.

الأمر الثاني عشر: جواز الصلاة على الجنائز في المسجد

مما يلي الإمام، ثم الأفضل فالأفضل (¬1). الأمر الثاني عشر: جواز الصلاة على الجنائز في المسجد؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: أنها أمرت أن يُمرَّ بجنازة سعد بن أبي وقاص في المسجد فتصلي عليه، فأنكر الناس ذلك عليها فقالت: ما أسرع ما نسي الناس، ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن البيضاء إلا في المسجد)).وفي لفظ: ((ما أسرع الناس إلى أن يعيبوا ما لا علم لهم به، عابوا علينا أن يُمرَّ بجنازة في المسجد، وما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن بيضاء إلا في جوف المسجد)). وفي لفظ: ((والله لقد صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابني بيضاء في المسجد: سهيل وأخيه)) (¬2). قال الإمام ابن القيم رحمه الله: قال الخطابي: ((وقد ثبت أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما صُلّي عليهما في المسجد، ومعلوم أن عامة المهاجرين والأنصار شهدوا الصلاة عليهما، وفي تركهم الإنكار دليل على جوازه)) (¬3)، وقال ابن القيم رحمه الله: ((ولم يكن من هديه - صلى الله عليه وسلم - الراتب الصلاة عليه في المسجد، وإنما كان يصلي على الجنازة خارج المسجد، وربما كان يصلي أحياناً على الميت في المسجد كما صلى على سهيل بن بيضاء وأخيه في المسجد، ولكن لم يكن ذلك سنته وعادته (¬4). ثم قال رحمه الله بعد ذكر بعض أقوال العلماء في ذلك: ((والصواب ما ذكرناه أولاً، وأن سنته وهديه الصلاة على الجنازة خارج المسجد إلا لعذر، وكلا الأمرين جائز، والأفضل الصلاة عليها خارج المسجد، والله ¬

(¬1) المغني لابن قدامة، 3/ 511، ومجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين، 17/ 102. (¬2) مسلم، كتاب الجنائز، باب الصلاة على الجنازة في المسجد، برقم 973. (¬3) زاد المعاد، لابن القيم، 1/ 502،وانظر: موطأ الإمام مالك،1/ 230،وأخرجه ابن أبي شيبة: إن عمر صلى على أبي بكر في المسجد، وإن صهيباً صلى على عمر في المسجد، المصنف،3/ 364. (¬4) زاد المعاد، 1/ 500.

الأمر الثالث عشر: مشروعية تكثير الجمع والصفوف على صلاة الجنازة

أعلم)) (¬1). وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يقول: ((لا بأس بالصلاة على الجنازة في المسجد لهذين الحديثين، لكن لو جعل مصلى واسع للصلاة على الجنائز والعيد كان أفضل إذا تيسر)) (¬2). وسمعته يقول عن حديث عائشة رضي الله عنها: ((هذا يدل على جواز الصلاة في المسجد وإن كان في الغالب يُصلَّى على الجنائز في المصلى كما يُصلَّى في مُصلَّى العيد، والسر في ذلك والله أعلم أن الجنائز قد يكثر فيها الأتباع، وصُلّي على النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، وعلى الصديق وعمر في المسجد، ولو جعل مصلى خارج المسجد أو في البلد فلا بأس)) (¬3)، والله تعالى الموفق للصواب (¬4). الأمر الثالث عشر: مشروعية تكثير الجمع والصفوف على صلاة الجنازة، أما تكثير الجمع في صلاة الجنازة؛ فلحديث عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه)) (¬5)؛ ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه)) (¬6). وأما تكثير الصفوف في صلاة الجنازة؛ فلحديث مالك بن هبيرة وفيه ابن إسحاق وقد عنعن كما تقدم: ((ما من مسلم يموت فيصلي عليه ثلاثة من ¬

(¬1) زاد المعاد، 1/ 502. (¬2) سمعته أثناء تقريره على منتقى الأخبار، الأحاديث رقم 1863 - 1864. (¬3) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام الحديث رقم 582،وانظر: مجموع فتاوى ابن باز، 3/ 164. (¬4) انظر: أحكام الجنائز للألباني، ص35 - 38، فقد ذكر أربعة أحاديث تحدد أماكن الصلاة على الجنازة خارج المسجد في المدينة. (¬5) مسلم، برقم 947، وتقدم تخريجه في فضل الله على عبده المسلم الميت. (¬6) مسلم، برقم 948، وتقدم تخريجه في فضل الله على عبده المسلم الميت.

المسلمين إلا أوجب))، قال فكان مالك إذا استقل أهل الجنازة جزأهم ثلاثة صفوف للحديث (¬1). قال العلامة الألباني: ((ويستحب أن يصفوا وراء الإمام ثلاثة صفوف فصاعداً لحديثين رويا في ذلك: الأول عن أبي أمامة قال: ((صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جنازة ومعه سبعة نفر فجعل ثلاثة صفّاً، واثنين صفّاً، واثنين صفّاً)) (¬2)، والثاني عن مالك بن هبيرة. ثم ذكره كما قد تقدم وقد سبق أن حديث ابن هبيرة فيه ابن إسحاق وقد عنعن (¬3). وقال الإمام البخاري رحمه الله: ((باب الصفوف على الجنازة)) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله على هذه الترجمة: ((وأشار المصنف بصيغة الجمع إلى ما ورد في استحباب ثلاثة صفوف وهو ما رواه أبو داود وغيره من حديث مالك بن هبيرة مرفوعاً: ((من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب))، وحسنه الترمذي وصححه الحاكم، وفي رواية له: ((إلا غفر له))، قال الطبري: ينبغي لأهل الميت إذا لم يخشوا عليه التغير أن ينتظروا به اجتماع قوم يقوم منهم ثلاثة صفوف لهذا الحديث)) انتهى كلام الحافظ رحمه الله (¬4). وقال الإمام الشوكاني رحمه الله: ((وأقل ما يسمى صفّاً رجلان، ولا ¬

(¬1) أبو داود، برقم 3166، والترمذي، برقم 1028، وابن ماجه، برقم 1490، وتقدم خريجه في فضل الله على عبده المسلم الميت، وأن فيه ابن إسحاق وقد عنعن. (¬2) قال الألباني: رواه الطبراني في الكبير، (7785) وقال الهيثمي في المجمع، 3/ 432: ((وفيه لهيعة وفيه كلام ولكن الألباني بين أنه يصلح للشواهد ثم ذكر شاهده من حديث مالك بن هبيرة، أحكام الجنائز، ص127. (¬3) انظر ما تقدم في تخريجه، وانظر: أحكام الجنائز للألباني، ص127 - 128، وحديث ابن هبيرة حسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 523. (¬4) فتح الباري، لابن حجر، 3/ 186 - 187.

الأمر الرابع عشر: تحريم الصلاة على الكفار والمنافقين

حد لأكثره)) (¬1) (¬2)،والله - عز وجل - الموفق للصواب (¬3). الأمر الرابع عشر: تحريم الصلاة على الكفار والمنافقين؛ لقول الله تعالى: {وَلاَ تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِالله وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} (¬4). وقد نزلت عندما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عبد الله بن أبي سلول المنافق المعروف (¬5). وعن سعيد بن المسيب عن أبيه أنه أخبره: أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب: ((يا عم قل: لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله)) فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أما والله لأستغفرنَّ لك ما لم أنه عنك)) فأنزل الله تعالى فيه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (¬6)، وأنزل الله تعالى في أبي طالب فقال لرسول ¬

(¬1) نيل الأوطار، 2/ 728. (¬2) وانظر المغني لابن قدامة، 3/ 420. (¬3) ثم رأيت في فتاوى الإمام ابن باز رحمه الله، 13/ 139: أنه رحمه الله يرى أن الأصل أن يصف الناس في صلاة الجنازة كما يصفون في الصلاة المكتوبة فيكملون الصف الأول فالأول؛ لأن حديث ابن هبيرة ضعيف وهو مخالف للأحاديث الصحيحة الدالة على وجوب إكمال الصف الأول فالأول. وكذلك يرى العلامة ابن عثيمين رحمه الله في الفتاوى، 17/ 108 أن الأفضل في صلاة الجنازة إتمام الصف الأول فالأول، ورجح ذلك. (¬4) سورة التوبة، الآية: 84. (¬5) البخاري، كتاب التفسير، باب قوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِالله وَرَسُولِهِ وَالله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}. (¬6) سورة التوبة، الآية: 113.

الأمر الخامس عشر: وقت صلاة الجنازة يصلى على الجنازة في أي وقت إلا في ثلاثة أوقات:

الله - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (¬1) (¬2). فلا يُصلَّى على المشركين ولا المنافقين، ولا يُدْعَى لهم بالرحمة ولا المغفرة، ولا يُتَرحّم عليهم، ويُلحَق بالمشركين والكفار من أتى بناقض من نواقض الإسلام ولم يتب منه ومات عليه، ولا يُصلَّى على تارك الصلاة متعمداً جاحداً لوجوبها بالإجماع، وكذلك على الصواب لا يُصلَّى على تارك الصلاة مطلقاً ولو لم يجحد وجوبها؛ لأن الصواب من أقوال أهل العلم: أن تارك الصلاة يكفر كفراً أكبر والعياذ بالله. الأمر الخامس عشر: وقت صلاة الجنازة يُصلى على الجنازة في أي وقت إلا في ثلاثة أوقات: الأول: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع. والثاني: حين يقوم قائم الظهيرة - أي حال استواء الشمس في وسط السماء ومعناه حين لا يبقى للقائم في الظهيرة ظل في المشرق ولا في المغرب - حتى تميل الشمس إلى جهة الغروب. والثالث: حين يغيب حاجب الشمس حتى تغرب؛ لحديث عقبة بن عامر الجهني - رضي الله عنه - قال: ((ثلاث ساعات كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلي فيهن أو نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيَّف الشمس للغروب حتى تغرب)) (¬3). وهذه الأوقات الثلاثة قصيرة جداً لا يؤثر الانتظار فيها على الميت ولا يشق على الناس، أما أوقات النهي الأخرى: بعد صلاة الصبح، وبعد العصر فلا حرج في الصلاة على الجنازة فيها؛ لأن صلاة ¬

(¬1) سورة القصص، الآية: 56. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم1360،ومسلم برقم24،وتقدم تخريجه في آداب زيارة المريض. (¬3) مسلم، برقم 831، وتقدم تخريجه في صلاة التطوع.

الجنازة من الصلوات ذوات الأسباب التي يجوز أن تصلى في أوقات النهي؛ ولهذا قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ((يصلى على الجنازة بعد الصبح، وبعد العصر، إذا صليتا لوقتهما)) (¬1). وثبت عن ابن عمر أيضاً أنه قال لأهل جنازة جيء بها بعد صلاة الصبح بغلس وكان الوقت يتسع للصلاة عليها قبل طلوع الشمس: ((إما أن تصلوا على جنازتكم الآن، وإما تتركوها حتى ترتفع الشمس)) (¬2)،وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يصلي إلا طاهراً ولا يصلي عند طلوع الشمس ولا غروبها ويرفع يديه)) (¬3). وعن ابن جريج قال: ((أخبرني زياد أن عليّاً أخبره أن جنازة وضعت في مقبرة أهل البصرة حين اصفرت الشمس فلم يُصلَّ عليها حتى غربت الشمس فأمر أبو برزة المنادي فنادى بالصلاة، ثم أقامها فتقدم أبو برزة فصلى بهم المغرب، وفي الناس أنس بن مالك، وأبو برزة من الأنصار، من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم صلوا على الجنازة)) (¬4). وقال الإمام الخطابي رحمه الله ما ملخصه: ((واختلف الناس في جواز الصلاة على الجنازة والدفن في هذه الساعات الثلاث، فذهب أكثر أهل ¬

(¬1) موطأ الإمام مالك، كتاب الجنائز، باب الصلاة على الجنائز بعد الصبح وبعد الإسفار، 1/ 229،وقال عبد القادر الأرناؤوط في تحقيقه لجامع الأصول،6/ 232: ((وإسناده صحيح))، وقال الألباني في أحكام الجنائز، ص166: ((وسنده صحيح)). (¬2) موطأ الإمام مالك، كتاب الجنائز، باب الصلاة على الجنائز بعد الصبح إلى الإسفار، 1/ 229، والبيهقي، 4/ 33، وقال عبد القادر الأرناؤوط في المرجع السابق: ((إسناده صحيح)). وقال الألباني في أحكام الجنائز، ص166: ((وسنده صحيح)). (¬3) ذكره البخاري تعليقاً مجزوماً به، في كتاب الجنائز، باب سنة الصلاة على الجنائز، في ترجمة الباب قبل الحديث رقم 1322، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري، 3/ 190: ((وصله سعيد بن منصور من طريق أيوب عن نافع))، ثم قال: ((فكان ابن عمر يرى اختصاص الكراهة بما عند طلوع الشمس وعند غروبها لا مطلق ما بين الصلاة وطلوع الشمس أو غروبها .. ، وإلى قول ابن عمر ذهب مالك، والأوزاعي، والكوفيون، وأحمد، وإسحاق)). (¬4) سنن البيهقي الكبرى، 4/ 32، وجوّد إسناده الألباني في أحكام الجنائز، ص166، فقال: ((بسند جيد عن ابن جريج)).

الأمر السادس عشر: أحق الناس بالإمامة في صلاة الجنازة

العلم إلى كراهية الصلاة عليها في هذه الأوقات، وروي عن ابن عمر وهو قول: عطاء، والنخعي، والأوزاعي، والثوري، وأصحاب الرأي، وأحمد، وإسحاق بن راهويه، وكان الشافعي يرى الصلاة والدفن أي ساعة من ليل أو نهار، وقول الجماعة أولى لموافقة الحديث)) (¬1). وقال شيخنا ابن باز رحمه الله عن حديث عقبة بن عامر في النهي عن الصلاة على الجنازة في الساعات الثلاث المذكورة في الحديث: (( ... لا تجوز الصلاة في هذه الأوقات على الميت ولا دفنه فيها؛ لهذا الحديث الصحيح)) (¬2) (¬3)، وهذا يعم الصلاة عليه في القبر، فلا يُصلَّى على القبر في هذه الأوقات الثلاثة، أما في وقت النهي الموسع فهي من ذوات الأسباب كما تقدم (¬4). الأمر السادس عشر: أحق الناس بالإمامة في صلاة الجنازة: وصيُّه الذي أوصى أن يصلّي عليه ثم الوالي، أما الوصي؛ فلأنه إجماع الصحابة على ذلك، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((وأولى الناس بالصلاة عليه من أوصى إليه بذلك؛ لإجماع الصحابة على الوصية بها؛ فإن أبا بكر أوصى أن يصلي عليه عمر (¬5)، وعمر أوصى أن يصلي عليه صهيب (¬6)، [وقيل: أوصى عمر إلى الزبير فصلى عليه] (¬7)، وابن مسعود أوصى بذلك الزبير (¬8)، وأبو بكرة أوصى أبا برزة (¬9)، وأم سلمة أوصت ¬

(¬1) معالم السنن للخطابي، 4/ 327. (¬2) مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 157، وانظر مجموع رسائل وفتاوى ابن عثيمين، 17/ 157. (¬3) وانظر: المغني لابن قدامة، 3/ 502 - 503. (¬4) انظر: مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 157، 25/ 201، 30/ 72. (¬5) انظر: مصنف عبد الرزاق، 3/ 471. (¬6) البيهقي في السنن الكبرى، 4/ 29، ومصنف عبد الرزاق، 3/ 471. (¬7) مصنف عبد الرزاق، 3/ 471. (¬8) البيهقي في السنن الكبرى، 4/ 29. (¬9) ابن أبي شيبة في المصنف، 3/ 285، والبيهقي، 4/ 29.

به سعيد بن زيد (¬1)، وعائشة أوصت إلى أبي هريرة (¬2)، وأوصى به أبو سريحة إلى زيد بن أرقم فجاء عمر بن حريث وهو أمير الكوفة ليتقدم، فقال ابنه: أيها الأمير إن أبي أوصى أن يصلي عليه زيد بن أرقم فقدَّم زيداً (¬3)؛ ولأنها حق للميت فقُدّم وصيه بها كتفريق ثلثه)) (¬4)، وأوصى يونس بن جبير أن يصلي عليه أنس بن مالك (¬5). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((وهذه قضايا انتشرت فلم يظهر لها مخالف فكان إجماعاً ... )) (¬6). وأما الوالي أو وكيله فيكون أولى الناس بالصلاة على الميت بعد الوصي، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((أكثر أهل العلم يرون تقديم الأمير على الأقارب في الصلاة على الميت ... )) (¬7)،قال أبو حازم: ((إني لشاهد يوم مات الحسن بن علي، فرأيت الحسين بن علي يقول لسعيد بن العاص - ويطعن في عنقه ويقول: تقدم فلولا أنها سنة ما قدمتك، [وسعيد أمير على المدينة يومئذ]،وكان بينهم شيء)) (¬8). وإن صلّي عليه في المسجد فإمام المسجد الراتب أولى؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن الرجلُ الرجلَ في سلطانه)) (¬9)،وإمام المسجد سلطان في مسجده، قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: ((فإن كان في مكان غير ¬

(¬1) مصنف عبد الرزاق، 3/ 471. (¬2) انظر الكافي لابن قدامة، 2/ 40، والمغني لابن قدامة، 3/ 405 - 406. (¬3) الكافي لابن قدامة، 2/ 39 - 40. (¬4) مصنف عبد الرزاق، 4/ 471، وانظر: الأوسط لابن المنذر، 5/ 402. (¬5) المغني، 3/ 406. (¬6) المغني، 3/ 406. (¬7) المغني، 3/ 406 - 407. (¬8) الحاكم، 3/ 171، والبزار، (814) كشف الأستار، والطبراني في الكبير، 3/ 148/2912، و2913، والبيهقي، 4/ 28، وأحمد، 2/ 531، وذكره الألباني في أحكام الجنائز، ص128 - 130. (¬9) مسلم، برقم 290 - (673) وتقدم تخريجه في الإمامة.

الأمر السابع عشر: أركان صلاة الجنازة وشروطها:

المسجد فأولى الناس به وصيه، فإن لم يكن له وصي فأقرب الناس إليه)) (¬1)، قلت: بشرط أن يكون القريب أعلم الحاضرين والله أعلم، وإلا صلى عليه الأعلم الأفقه ثم من يليه على حسب الترتيب في أولى الناس بالإمامة. وإمام المسجد أولى بالصلاة على الجنازة من الشخص الموصى له بأن يصلي على الميت. قال الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله: ((إمام المسجد أولى بالصلاة على الجنازة من الشخص الموصى له؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن الرجلُ الرجلَ في سلطانه)) (¬2)، وإمام المسجد هو صاحب السلطان في مسجده)) (¬3). الأمر السابع عشر: أركان صلاة الجنازة وشروطها: قال الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: ((الواجب في صلاة الجنازة: النية، والتكبيرات، والقيام، وقراءة الفاتحة، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأدنى دعاء للميت، وتسليمة واحدة، ويشترط لها شرائط المكتوبة إلا الوقت، وتسقط بعض واجباتها عن المسبوق ... )) (¬4). وقال العلامة مرعي بن يوسف في دليل الطالب: ((وشروطها ثمانية: النية والتكليف (¬5)، واستقبال القبلة، وستر العورة، واجتناب النجاسة، وحضور الميت إن كان بالبلد، وإسلام المصلي والمصلى عليه، وطهارتهما ولو بتراب لعذر، وأركانها سبعة: القيام في فرضها، والتكبيرات الأربع، وقراءة الفاتحة، والصلاة على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والدعاء ¬

(¬1) مجموع رسائل وفتاوى ابن عثيمين، 17/ 113. (¬2) مسلم، برقم 673، وتقدم تخريجه. (¬3) مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 137. (¬4) المغني لابن قدامة، 3/ 420، وانظر: الشرح الكبير، مع المقنع والإنصاف، 6/ 160 - 164، والكافي، 2/ 41 - 44. (¬5) التكليف: البلوغ والعقل.

الأمر الثامن عشر: صفة الصلاة على الجنازة المشتملة على الواجبات والسنن

للميت، والسلام، والترتيب)) (¬1). وذكر ابن قدامة في الكافي: أن سننها سبع: رفع اليدين مع كل تكبيرة، والاستعاذة قبل القراءة، والإسرار بالقراءة، يدعو لنفسه ولوالديه وللمسلمين بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، يقف بعد التكبيرة الرابعة قليلاً، يضع يمينه على شماله على صدره، الالتفات على يمينه في التسليم)) (¬2). الأمر الثامن عشر: صفة الصلاة على الجنازة المشتملة على الواجبات والسنن على النحو الآتي: 1 - يتوضأ كما أمر الله تعالى؛ ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُقبل صلاة بغير طهور)) (¬3). 2 - يقوم الإمام عند رأس رجل ووسط امرأة؛ لحديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه صلى عند رأس جنازة رجل وعند وسط امرأة، ورفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬4)؛ولحديث سمرة - رضي الله عنه - ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على امرأة فقام للصلاة عليها وسْطها)) (¬5). 3 - يصف المأمومون خلف الإمام كصفوف الصلاة المفروضة؛ لحديث جابر - رضي الله عنه -: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى على النجاشي فكنت في الصف الثاني أو الثالث)). وفي لفظ: ((فصففنا فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن صفوف)) (¬6). 4 - يسوي الإمام الصفوف؛ لعموم الأدلة في ذلك (¬7). ¬

(¬1) منار السبيل في شرح الدليل ((دليل الطالب))، 1/ 224. (¬2) الكافي، 2/ 45 - 47. (¬3) مسلم، برقم 224، وتقدم تخريجه في صفة الصلاة. (¬4) أبو داود، برقم 3193، والترمذي، برقم 1034، وابن ماجه، برقم 1494، وتقدم تخريجه في موقف الإمام في صلاة الجنازة. (¬5) متفق عليه: البخاري، رقم 1332،ومسلم، رقم964،وتقدم في موقف الإمام على الجنازة. (¬6) متفق عليه: البخاري، برقم 1317،ومسلم، برقم 952،وتقدم تخريجه في صلاة الغائب. (¬7) انظر: الأمر بتسوية الصفوف في الإمامة أوسط الكتاب.

5 - يستقبل القبلة والجنائز أمامه على الصفة المذكورة آنفا

5 - يستقبل القبلة والجنائز أمامه على الصفة المذكورة آنفاً (¬1). 6 - يكبر التكبيرة الأولى تكبيرة الإحرام قائماً قاصداً بقلبه فعل الصلاة على الجنازة أو الجنائز، متقرباً لله تعالى، قائلاً: ((الله أكبر)) رافعاً يديه مضمومتي الأصابع ممدودة إلى حذو منكبيه أو إلى حيال أذنيه؛ لما تقدم من الأدلة (¬2)؛ ولحديث أبي هريرة، وجابر ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على النجاشي وكبر عليه أربع تكبيرات)) (¬3). أما رفع اليدين في التكبيرة الأولى من صلاة الجنازة؛ فلحديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كبر على جنازة فرفع يديه في أول تكبيرة ووضع اليمنى على اليسرى)) (¬4). قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: ((وأجمعوا على أن المصلي على الجنازة يرفع يديه في أول تكبيرة يكبرها)) (¬5). 7 - يضع يده على صدره بعد أن ينزلهما من الرفع: اليمنى يقبضها على ظهر كفه اليسرى، والرسغ والساعد؛ لحديث أبي هريرة المذكور آنفاً؛ ولحديث وائل بن حُجر (¬6)، وحديث سهل بن سعد (¬7). 8 - يقول: ((أعوذ بالله من الشيطان الرجيم سرّاً؛ لقول الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (¬8). ¬

(¬1) انظر: الأدلة على وجوب استقبال القبلة في شروط الصلاة. (¬2) انظر: الأدلة على جميع هذه المسائل في صفة الصلاة فيما تقدم. (¬3) حديث جابر متفق عليه: البخاري، برقم 317، ومسلم، برقم 952، وتقدم تخريجه، وحديث أبي هريرة متفق عليه أيضاً، البخاري، برقم 1245، ومسلم، برقم 951، وتقدم تخريجه. (¬4) الترمذي، كتاب الجنائز، باب في رفع اليدين على الجنازة، برقم 1077، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 546، وفي أحكام الجنائز، ص147. (¬5) الإجماع لابن المنذر، ص51. (¬6) أبو داود، برقم 727، والنسائي برقم 889، وتقدم تخريجه في صفة الصلاة. (¬7) البخاري، برقم 740، وتقدم تخريجه في صفة الصلاة. (¬8) سورة النحل، الآية: 98، ((أو يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم: من همزه، ونفخه، ونفثه)) أحمد، 3/ 50، والترمذي، برقم 242، وأبو داود، برقم 775، وتقدم خريجه في صفة الصلاة.

9 - يقول: بسم الله الرحمن الرحيمسرا

9 - يقول: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) سرّاً؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - (¬1). 10 - يقرأ الفاتحة سرّاً؛ لحديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)) (¬2)؛ ولحديث أبي أمامة أنه قال: ((السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مخافتة، ثم يكبر ثلاثاً، والتسليم عند الآخرة)) (¬3). ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما، ((قال طلحة بن عبد الله بن عوف قال: صليت خلف ابن عباس رضي الله عنهما على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب، قال: لتعلموا أنها سنة)) (¬4). وقال شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله تعالى عن حكم قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة: واجبة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) (¬5). وقال عليه الصلاة والسلام: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)) متفق عليه (¬6). وقال رحمه الله عن الجهر بالفاتحة أحياناً: ((الجهر بها في بعض الأحيان لا بأس به، وإن قرأ معها سورة قصيرة فلا بأس أيضاً، بل هو أفضل؛ لأنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وإن اقتصر على الفاتحة كفى)) (¬7). ¬

(¬1) أحمد، 3/ 364، والنسائي، برقم 907، وتقدم تخريجه في صفة الصلاة. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 756،ومسلم، برقم 394،وتقدم تخريجه في صفة الصلاة. (¬3) النسائي، كتاب الجنائز، باب الدعاء، برقم 1988، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 2/ 55، وفي أحكام الجنائز، ص154. (¬4) البخاري، كتاب الجنائز، باب قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة، برقم 1335. (¬5) البخاري، برقم 631، وتقدم تخريجه في صفة الصلاة. (¬6) أصله في البخاري كما تقدم، وهذا لفظ النسائي، كتاب الجنائز، باب الدعاء، برقم 1986، ورقم 1987، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 2/ 55. (¬7) مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 143.

11 - يقرأ سورة قصيرة بعد الفاتحة، أو بعض الآيات القصيرة وهذه القراءة سنة

11 - يقرأ سورة قصيرة بعد الفاتحة، أو بعض الآيات القصيرة وهذه القراءة سنة؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال طلحة بن عبد الله بن عوف: صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة، وجهر حتى أسمعنا، فلما فرغ أخذت بيده فسألته فقال: ((سنة وحق)) (¬1). وقال شيخنا ابن باز رحمه الله تعالى في حكم قراءة سورة بعد الفاتحة في صلاة الجنازة: ((قراءة سورة بعد الفاتحة أفضل كما ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عباس رضي الله عنهما))،وقال في موضع آخر: ((الصلاة على الميت صفتها: أن يكبر الإمام ويتعوذ، ويسمي، ويقرأ الفاتحة، ويستحب أن يقرأ معها سورة قصيرة مثل: الإخلاص، أو العصر، أو بعض الآيات ... )) (¬2). 12 - يكبر التكبيرة الثانية رافعاً يديه حذو منكبيه أو حذو أذنيه، ثم يردهما على صدره؛ لما تقدم من الأدلة؛ لما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى على الجنازة رفع يديه في كل تكبيرة)) (¬3). وأورد البخاري أن عبد الله بن عمر: كان يرفع يديه: أي في كل تكبيرة على الجنازة)) (¬4). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((وقد صح ¬

(¬1) النسائي، كتاب الجنائز، باب الدعاء، برقم 1986،وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 2/ 55. (¬2) مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 140، 13/ 144. (¬3) رواه الدارقطني في العلل كما في نصب الراية، 2/ 285، قال الإمام ابن باز في حاشيته على فتح الباري لابن حجر، 3/ 190: ((وأخرجه الدارقطني في العلل بإسناد جيد عن ابن عمر مرفوعاً وصوّب وقفه؛ لأنه لم يرفعه سوى عمر بن شبة، والأظهر عدم الالتفات إلى هذه العلة؛ لأن عمر المذكور ثقة فيقبل رفعه؛ لأن ذلك زيادة من ثقة، وهي مقبولة على الراجح عند أئمة الحديث، ويكون ذلك دليلاً على شرعية رفع اليدين في تكبيرات الجنازة)). (¬4) البخاري معلقاً، كتاب الجنائز، باب سنة الصلاة على الجنازة، في ترجمة الباب قبل الحديث رقم 1322، ووصله البخاري في كتابه جزء رفع اليدين (105) وفي الأدب المفرد، من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر ((أنه كان يرفع يديه في كل تكبيرة على الجنازة))، وقد روي مرفوعاً أخرجه الطبراني في الأوسط من وجه آخر عن نافع عن ابن عمر بإسناد ضعيف [فتح الباري لابن حجر، 3/ 190]. قلت: وقد تقدم في صلاة العيدين: أنه روي عن عمر ((أنه كان يرفع يديه في كل تكبيرة في الجنازة وفي العيد)). رواه الأثرم، لكن ضعفه الألباني في إرواء الغليل، 3/ 112. [وانظر: المغني لابن قدامة، 3/ 272 - 273].

13 - يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يصلي في التشهد في صلاة الفريضة

عن ابن عباس أنه كان يرفع يديه في تكبيرات الجنازة، رواه سعيد بن منصور)) (¬1)، وروي عن خلق من السلف أنهم كانوا يرفعون أيديهم في كل تكبيرة في صلاة الجنازة (¬2) (¬3). وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله عن أثر ابن عمر: ((صح عن ابن عمر موقوفاً، وله حكم الرفع؛ لأن مثله لا يثبت بالاجتهاد)) (¬4). وقال شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله: ((السنة رفع اليدين مع التكبيرات الأربع كلها؛ لما ثبت عن ابن عمر، وابن عباس، أنهما كانا يرفعان مع التكبيرات كلها، ورواه الدارقطني مرفوعاً من حديث ابن عمر بسند جيد)) (¬5) (¬6). 13 - يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يصلي في التشهد في صلاة الفريضة؛ لحديث أبي أمامة - رضي الله عنه - أنه أخبره رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب، بعد التكبيرة الأولى سرّاً في نفسه، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات [الثلاث] لا يقرأ في شيء منهن، ثم يسلم تسليماً خفيّاً [حين ينصرف] [عن يمينه] والسنة أن يفعل من وراءه مثلما فعل إمامه])) (¬7). ¬

(¬1) التلخيص الحبير، 2/ 147. (¬2) انظر هذه الآثار الكثيرة في مصنف ابن أبي شيبة،3/ 296 - 297،ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 739. (¬3) قال العلامة الألباني رحمه الله: ((نعم روى البيهقي،4/ 44 بسند صحيح عن ابن عمر أنه كان يرفع يديه على كل تكبيرة من تكبيرات الجنازة، فمن كان يظن أنه لا يفعل ذلك إلا بتوقيف النبي - صلى الله عليه وسلم - فله أن يرفع، وقد ذكر السرخسي عن ابن عمر خلاف هذا وذلك مما لا نعرف له أصلاً في كتب الحديث [أحكام الجنائز، ص148]. (¬4) الشرح الممتع، 5/ 426، ومجموع فتاوى ابن عثيمين، 17/ 112، 132، 133. (¬5) مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 148. (¬6) وانظر: المغني لابن قدامة، 3/ 417. (¬7) أخرجه البيهقي، 4/ 39، والحاكم، 1/ 360، وصححه ووافقه الذهبي، قال الألباني في أحكام الجنائز، ص55: ((وهو كما قالا)).

14 - يكبر التكبيرة الثالثة رافعا يديه حذو منكبيه أو حذو أذنيه

قال الإمام ابن باز رحمه الله: (( ... ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ما يصلي عليه في التشهد الأخير ... )) (¬1). 14 - يكبر التكبيرة الثالثة رافعاً يديه حذو منكبيه أو حذو أذنيه، ثم يرد يديه على صدره؛ لما تقدم من الأدلة. 15 - يدعو للميت بالدعاء المأثور ويخلص له الدعاء؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء)) (¬2)، فيقول: أ - ((اللهم اغفر لحيّنا وميّتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفَّه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تُضلَّنا بعده)) (¬3). ب - ((اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه، واعف عنه، وأكرم نُزُلَه، ووسّعْ مُدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقّهِ من الخطايا كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار)) [وفي لفظ: [وقِهِ فتنةَ القبر] (¬4). ج - ((اللهم إن فلان بن فلان في ذمتك، وحبل جوارك، فقه من فتنة القبر، وعذاب القبر، وأنت أهل الوفاء والحق، اللهم اغفر له وارحمه إنك ¬

(¬1) مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 141. (¬2) أبو داود، كتاب الجنائز، باب الدعاء للميت، برقم 3199، وابن ماجه في الجنائز، باب ما جاء في الدعاء في الصلاة على الجنازة، برقم 1497،وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود،2/ 299. (¬3) أبو داود، كتاب الجنائز، باب الدعاء للميت، برقم 3201، والترمذي كتاب الجنائز، باب ما يقول في الصلاة على الميت، برقم 1024، وابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الدعاء على صلاة الجنازة، برقم 1498، والنسائي لكنه من حديث أبي إبراهيم الأنصاري، برقم 1985، قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: ((صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جنازة)) وصححه لألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 300 وغيره. (¬4) مسلم، كتاب الجنائز، باب الدعاء للميت في الصلاة عليه، برقم 963، من حديث عوف بن مالك، قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جنازة فحفظت من دعائه. الحديث، ثم قال: ((حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت)).

أنت الغفور الرحيم)) (¬1). د - ((اللهم عبدك، وابن أمتك، أحتاج إلى رحمتك، وأنت غني عن عذابه، إن كان محسناً فزد في إحسانه، وإن كان مسيئاً فتجاوز عنه)) [ثم يدعو ما شاء الله أن يدعو] (¬2). هـ - الدعاء للطفل في الصلاة عليه صلاة الجنازة، يقول: ((اللهم اغفر لحينا وميتنا، وحاضرنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأُنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده)) (¬3). * ((اللهم أعذه من عذاب القبر)) (¬4). * ((اللهم اجعله لنا فرطاً (¬5) وسلفاً وأجراً)) (¬6). ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الجنائز، باب الدعاء للميت، برقم 3202، وابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الدعاء في الصلاة على الجنازة، برقم 1499، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 300، وأحكام الجنائز، ص158، والحديث عن واثلة بن الأسقع قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رجل من المسلمين فسمعته يقول: الحديث. (¬2) الحاكم، 1/ 359، والطبراني في الكبير، 22/ 249/647، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في أحكام الجنائز، ص159. (¬3) أبو داود، برقم 319، والترمذي، 1024، وابن ماجه، برقم 1498، وتقدم في الدعاء للميت. (¬4) قال سعيد بن المسيب: صليت وراء أبي هريرة - رضي الله عنه - على صبي لم يعمل خطيئة قط، فسمعته يقول: ((اللهم أعذه من عذاب القبر)) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الجنائز، باب ما يقول المصلي على الجنازة، برقم 18، 1/ 288، وابن أبي شيبة في المصنف، 3/ 217، والبيهقي، 4/ 9، وصحح إسناده شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لشرح السنة للبغوي، 4/ 357. (¬5) فرطاً: أي أجراً يتقدمنا حتى نرد عليه، والفرط الذي يتقدم الواردين فيهيئ لهم ما يحتاجون إليه، وهو هنا المتقدم للثواب والشفاعة. هدي الساري، ص175،والنهاية في غريب الحديث، 3/ 434. (¬6) علقه البخاري، كتاب الجنائز، باب قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة، ولفظه: ((وقال الحسن: يقرأ على الطفل بفاتحة الكتاب ويقول: اللهم اجعله لنا فرطاً وسلفاً وأجراً)) قبل الحديث رقم 1335، ووصله ابن حجر في تغليق التعليق، 2/ 424، وحسنه الألباني في أحكام الجنائز، ص161، وانظر فتح الباري لابن حجر، 3/ 203.

16 - يكبر التكبيرة الرابعة رافعا يديه حذو منكبيه أو أذنيه، ويردهما على صدره

((اللهم اغفر لوالديه وارحمهما)) (¬1). * وإن قال: ((اللهم اجعله فرطاً لوالديه، وذخراً، وسلفاً، وأجراً، وأفرغ الصبر على قلوبهما، ولا تفتنهما بعده، ولا تحرمهما أجره، اللهم ثقّل به موازينهما، وأعظم به أجورهما، اللهم اجعله في كفالة إبراهيم، وألحقه بصالح سلف المؤمنين، وأجره برحمتك من عذاب الجحيم، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، اللهم اغفر لأسلافنا، وأفراطنا، ومن سبقنا بالإيمان)) (¬2) فحسن. 16 - يكبر التكبيرة الرابعة رافعاً يديه حذو منكبيه أو أذنيه، ويردهما على صدره؛ لعموم الأدلة؛ ولما تقدم من الأدلة (¬3). ¬

(¬1) أبو داود، برقم 3180، والترمذي، برقم 1031، وأحمد، 4/ 240، والنسائي، 4/ 55، وتقدم تخريجه في تغسيل الميت، وهو عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - يرفعه ((والسقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة))، والحديث صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 293. (¬2) ذكره ابن قدامة في المغني، 3/ 416، والنووي في الأذكار، ص232، وذكره الإمام عبد العزيز ابن باز في الدروس المهمة، ص15. (¬3) جاءت أحاديث تدل على أنه ورد التكبير خمس تكبيرات، منها حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان زيدٌ يكبر على جنائزنا أربعاً، وإنه كبر على جنازة خمساً فسألته فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبرها)) [مسلم، كتاب الجائز، باب الصلاة على القبر، برقم 957]. وكبر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - على سهل بن حنيف ستّاً)) [البيهقي في السنن، 4/ 36، وأصله في البخاري، برقم 4004]، ((وكبر علي على أبي قتادة سبعاً)) [البيهقي، 4/ 36،وصححه الألباني في أحكام الجنائز، ص144]، ((وعن عبد الله بن الزبير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر يوم أحد بحمزة فسجي ببردة ثم صلى عليه فكبر تسع تكبيرات)) [الطحاوي في معاني الآثار،1/ 290،وحسنه الألباني في أحكام الجنائز، ص106] [ولكن قد تقدم في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصلّ على شهداء أحد]، وقد اختلف العلماء رحمهم الله تعالى، فبعضهم يرى أن هذا خلاف تنوع فيصلى بهذه الأنواع، المغني لابن قدامة، 3/ 447،قال ابن القيم رحمه الله: ((وهذه آثار صحيحة فلا موجب للمنع منها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمنع مما زاد على الأربع بل فعله هو وأصحابه من بعده)). ثم رد رحمه الله على الذين منعوا من الزيادة على أربع تكبيرات، [زاد المعاد، 1/ 508]،وقال الألباني رحمه الله: ((فأيها فعل أجزأ والأولى التنويع فيفعل هذا تارة وهذا تارة كما هو الشأن في أمثاله مثل أدعية الاستفتاح)) [أحكام الجنائز، ص141]، [وانظر: نيل الأوطار للشوكاني،2/ 732 - 735]. ورجح الشيخ العلامة ابن عثيمين رحمه الله أنه ينبغي التنويع إحياء للسنة [الشرح الممتع،5/ 427 - 429،ومجموع رسائله،17/ 128]،وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله يقول أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 583، ورقم 584: ((هذا يدل على أنه ربما كبر خمساً ولكن الأغلب والأكثر أنه كان يكبر أربعاً هذا هو الأصح والأثبت وعليه جمهور العلماء، وقال بعض أهل العلم: استقرت السنة على هذا ويجوز أن يكبر على الجنائز خمساً وستاً، كما فعل علي، ولكن الأفضل الاقتصار على أربع، قال بعضهم: ولعل هذا هو الآخر من فعله عليه الصلاة والسلام، وقد كبر على النجاشي أربعاً)).وقال أيضاً في مجموع الفتاوى له، 13/ 148: ((الأفضل الاقتصار على أربع كما عليه العمل؛ لأن هذا هو الآخر من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، والنجاشي مع كونه له مزية كبيرة اقتصر عليه الصلاة والسلام في التكبير عليه بأربع)). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري، 3/ 202: ((قال ابن المنذر ذهب أكثر أهل العلم إلى أن التكبير أربع، وفيه أقوال أخر ... قال: وذهب بكر بن عبد الله المزني إلى أنه لا ينقص من ثلاث ولا يزيد على سبع، وقال أحمد مثله، لكن قال: لا ينقص من أربع، وقال ابن مسعود: كبر ما كبر الإمام، قال: والذي نختاره ما ثبت عن عمر ثم ساق بإسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب قال: كان التكبير أربعاً وخمساً فجمع عمر الناس على أربع. وروى البيهقي بإسناد حسن إلى أبي وائل قال: كانوا يكبرون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعاً وستاً وخمساً وأربعاً، فجمع عمر الناس على أربع كأطول الصلاة)). [وانظر المغني لابن قدامة، 3/ 447]، قال ابن قدامة: ((والأفضل أن لا يزيد على أربع)) [المغني، 3/ 450].

17 - يقف بعد التكبيرة الرابعة قليلا

17 - يقف بعد التكبيرة الرابعة قليلاً (¬1). ¬

(¬1) اختلف العلماء رحمهم الله تعالى هل يدعو المصلي على الجنازة بعد التكبيرة الرابعة أو يسكت قليلاً ثم يسلم بدون دعاء، فقال قوم: لا يدعو بعد التكبيرة الرابعة، وإنما يقف قليلاً ويسلم. وقال آخرون: بل يستحب أن يدعو، لحديث الهَجري قال: صليت مع عبد الله بن أبي أوفى الأسلمي صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جنازة ابنةٍ له فكبَّر عليها أربعاً، فمكث بعد الرابعة شيئاً، قال: فسمعت القوم يسبحون به من نواحي الصفوف، فسلم ثم قال: أكنتم تُرونَ أني مكبر خمساً؟ قالوا: تخوفنا ذلك، قال: لم أكن لأفعل ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر أربعاً ثم يمكث ساعة فيقول ما شاء الله أن يقول، ثم يسلم)) [ابن ماجه بلفظه، برقم 1503، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 19، ورواه أحمد، 4/ 356، وأخرجه البيهقي، 4/ 35، عن أبي يعفور عن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - قال: ((شهدته وكبر على جنازة أربعاً ثم قام ساعة - يعني - يدعو ثم قال: أتروني كنت أكبر خمساً؟ قالوا: لا، قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر أربعاً)) قال الألباني في أحكام الجنائز، ص160: ((بسند صحيح))]، قال الشوكاني في نيل الأوطار، 2/ 744: فيه دليل على استحباب الدعاء بعد التكبيرة الآخرة قبل التسليم وفيه خلاف والراجح الاستحباب لهذا الحديث)). وظاهر كلام الخرقي أنه لا يدعو بعد الرابعة وهذا منقول عن الإمام أحمد، وعن أحمد أنه يدعو ثم يسلم، قال ابن أبي موسى وأبو الخطاب: يقول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، وقيل: يقول: ((اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده)). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((وهذا الخلاف في استحبابه، ولا خلاف في المذهب أنه غير واجب، وأن الوقوف بعد التكبير قليلاً مشروع)) [المغني، 3/ 417، وانظر: الشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، 6/ 155 - 156] قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في الشرح الممتع، 5/ 424: ((والقول بأنه يدعو بما تيسر أولى من السكوت؛ لأن الصلاة عبادة ليس فيها سكوت أبداً إلا لسبب كالاستماع إلى قراءة الإمام أو نحو ذلك)). وقال الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله في مجموع الفتاوى، 13/ 147: ((لم يثبت شيئاً في ذلك بل يكبر ثم يسكت قليلاً: ثم يسلم بعد الرابعة)) وسمعته رحمه الله أثناء تقريره على منتقى الأخبار، الحديث رقم 1858 حديث عبد الله بن أبي أوفى يقول: ((الأحاديث الصحيحة أنه إذا كبر الرابعة سلم ولم يدع بعد الرابعة)).

18 - يسلم تسليمة واحدة عن يمينه

18 - يسلم تسليمة واحدة عن يمينه قائلاً: ((السلام عليكم ورحمة الله))؛ لأن التسليمة الواحدة ثبتت عن عشرة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يسلمون في صلاة الجنازة تسليمة واحدة خفيفة عن يمينه، وهم: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وأبو هريرة، وواثلة بن الأسقع، وابن أبي أوفى، وزيد بن ثابت، وعلي بن أبي طالب، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وأبو أمامة بن سهل بن حنيف، قال الإمام ابن القيم: ((فهؤلاء عشرة من الصحابة)) - رضي الله عنهم - (¬1) وكان عبد الله بن عمر إذا صلى على ¬

(¬1) زاد المعاد، 1/ 511، وانظر: المغني لابن قدامة، 3/ 418 - 419، واختار من الأقوال أنه يسلم تسليمة واحدة عن يمينه، وإن سلم تلقاء وجهه فلا بأس. [وانظر: الشرح الكبير والإنصاف، 6/ 157] ويستدل على التسليمة الواحدة بما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على جنازة فكبر عليها أربعاً وسلم تسليمة واحدة))، الدارقطني، 2/ 72، 77، والحاكم، 1/ 360، والبيهقي، 4/ 43، وحسن إسناده الألباني في أحكام الجنائز، ص163. واستدل من اختار تسليمتين بحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: ثلاث خلال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعلهن وتركها الناس: إحداهن التسليم على الجنازة مثل التسليم في الصلاة)) [البيهقي،4/ 34، وقال النووي في المجموع،5/ 239: ((إسناده جيد)).وحسن إسناده الألباني في أحكام الجنائز، ص162. قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى: ((والصحيح أنه لا بأس أن يسلم مرة ثانية لورود ذلك في بعض الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -)) [الشرح الممتع، 5/ 424، ومجموع فتاوى ابن عثيمين، 17/ 130]، وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يقول أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 589: ((وبعد الدعاء يسكت قليلاً ثم يسلم عن يمينه تسليمة واحدة، وقد ثبتت التسليمة الواحدة عن الصحابة، ومن الغريب والعجائب، أنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التسليم في صلاة الجنازة شيء، وهو قد صلى على الجنائز ثمان سنوات، جاء في حديث ضعيف أنه سلم واحدة، لكنه ثبت عن الصحابة)).

الأمر التاسع عشر: المسبوق في صلاة الجنازة، يستحب له أن يقضي ما فاته من صلاة الجنازة

الجنازة يسلم حتى يسمع من يليه)) (¬1). الأمر التاسع عشر: المسبوق في صلاة الجنازة، يستحب له أن يقضي ما فاته من صلاة الجنازة؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)) (¬2)، قال الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله: (( ... فإذا أدرك الإمام في التكبيرة الثالثة كبر وقرأ الفاتحة، وإذا كبر الإمام الرابعة كبر بعده وصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا سلم الإمام كبر المأموم المسبوق ودعا للميت موجزاً، ثم يكبر الرابعة ويسلم)) (¬3). وإذا أدرك الإمام بين تكبيرتين كبر في الحال وقرأ الفاتحة، ثم يكبر بعد إمامه التكبيرة التي أدركها فيصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم إذا سلم الإمام يكبر ويدعو للميت بإيجاز، ثم يكبر ويسلم، وهكذا يعتبر ما أدركه هو أول صلاته، وما يقضيه هو آخرها؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)) (¬4) (¬5). ¬

(¬1) البيهقي، 4/ 43، قال الألباني في أحكام الجنائز، ص165: ((وإسناده صحيح)). (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 636، ومسلم، برقم 602، وتقدم تخريجه. (¬3) مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 149. (¬4) ملخص من كلام الإمام ابن باز في مجموع الفتاوى، 13/ 149 - 150. (¬5) اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في كيفية قضاء المسبوق في صلاة الجنازة، فقال الخرقي: ((ومن فاته شيء من التكبير قضاه متتابعاً، فإن سلم ولم يقضِ فلا بأس)) وذكر ابن قدامة في المغني أقوالاً هي على النحو الآتي: قيل: يُسنُّ له قضاء ما فاته منها، ونسبه إلى سعيد بن المسيب، وعطاء، والنخعي، والزهري، وابن سيرين، وقتادة، ومالك، والثوري، والشافعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي. وقيل: إن سلم قبل القضاء فلا بأس، ونسب ذلك إلى ابن عمر، والحسن، وأيوب السختياني، والأوزاعي، قالوا: لا يقضي ما فات من تكبير الجنازة، وقال أحمد: لا يقضي وإن كبر متتابعاً - أي بدون ذكر - فلا بأس. وقيل: إن سلم قبل أن يقضي: فقيل: لا تصح، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، للحديث: (( ... وما فاتكم فأتموا))، ورجح ابن قدامة أنه إذا لم يقض لم يبال، ثم رجح أنه وإذا قضى أتى بالتكبير متوالياً لا ذكر معه، كذا قال أحمد، حكاه عن إبراهيم قال: يبادر بالتكبير متتابعاً، وإن لم يرفع قضى ما فاته، وإذا أدرك الإمام في الدعاء للميت تابعه فيه، فإذا سلم الإمام كبر وقرأ الفاتحة، ثم كبر وصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - وكبر وسلم. وقال الشافعي: متى دخل المسبوق في الصلاة ابتدأ الفاتحة، ثم أتى بالصلاة في الثانية، ووجه الأول أن المسبوق في سائر الصلوات يقرأ فيما يقضيه الفاتحة وسورة على صفة ما فاته، فينبغي أن يأتي هاهنا بالقراءة على صفة ما فاته، والله أعلم. وإذا أدرك الإمام فيما بين تكبيرتين، فعن أحمد أنه ينتظر الإمام حتى يكبر معه، وبه قال أبو حنيفة والثوري، وإسحاق؛ لأن التكبيرات كالركعات، ثم لو فاتته ركعة لم يتشاغل بقضائها، وكذلك إذا فاتته تكبيرة. وقيل: يكبر ولا ينتظر، وهو قول الشافعي؛ لأنه في سائر الصلوات متى أدرك الإمام كبر معه ولم ينتظر، وليس هذا انشغالاً بقضاء ما فاته، وإنما يصلي معه ما أدركه فيجزيه كالذي عقب تكبير الإمام أو يتأخر عن ذلك قليلاً. قال ابن المنذر: سَهَّل أحمد في القولين جميعاً، ومتى أدرك الإمام في التكبيرة الأولى فكبر، وشرع في القراءة، ثم كبر الإمام قبل أن يتمها، فإنه يكبر ويتابعه ويقطع القراءة كالمسبوق في بقية الصلوات إذا ركع الإمام قبل إتمام القراءة. [انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 423 - 425،والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف،6/ 173،والكافي لابن قدامة، 2/ 29].

السابع عشر: حمل الجنازة واتباعها وتشييعها:

السابع عشر: حمل الجنازة واتباعها وتشييعها: يراعى في حمل الجنازة واتباعها وتشييعها الأمور الآتية: الأمر الأول: حكم حمل الجنازة فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين (¬1). الأمر الثاني: أقسام اتباعها: ثلاثة أقسام: 1 - يصلي عليها ثم ينصرف، وله قيراط من الأجر؛ للحديث الآتي. 2 - يتبعها إلى القبر ثم يقف حتى تدفن؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من خرج مع جنازة من بيتها وصلى عليها ثم تبعها حتى تدفن كان له قيراطان أجر كل قيراط مثل أُحُدٍ، ومن صلى عليها ثم رجع كان له مثل أحُدٍ)) (¬2). 3 - يقف بعد الدفن يستغفر للميت ويسأل الله له التثبيت؛ لحديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه ¬

(¬1) الكافي لابن قدامة، 2/ 55. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 1323،ومسلم، برقم 945،وتقدم تخريجه في فضل الصلاة على الميت.

الأمر الثالث: فضل اتباع الجنائز

فقال: ((استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل)) (¬1). والجمع بين هذه الأقسام أكمل في عظم الأجر واتباع السنة. الأمر الثالث: فضل اتباع الجنائز، فقد ثبت في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - السابق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً وكان معه حتى يُصلى عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن؛ فإنه يرجع بقيراط)) وفي لفظ: قيل: وما القيراطان؟ قال: ((مثل الجبلين العظيمين)). وفي لفظ لمسلم: ((قيل وما القيراطان؟ قال: ((أصغرهما مثل أحد)) (¬2)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أصبح اليوم منكم صائماً؟)) قالو أبو بكر: أنا. قال: ((فمن اتبع منكم اليوم جنازة؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟)) قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة)) (¬3). ولفظ البخاري في الأدب المفرد: ((ما اجتمعت هذه الخصال في رجل في يوم إلا دخل الجنة)) (¬4). الأمر الرابع: اتباع الجنازة حق على المسلم لأخيه المسلم؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((حق المسلم على المسلم ست))، قيل: ما هن يا رسول الله؟ قال: ((إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الجنائز، باب الاستغفار عند القبر للميت في وقت الانصراف، برقم 3221، والحاكم واللفظ له، 1/ 370، والبيهقي، 4/ 56، وصحح إسناده الحاكم، والألباني في أحكام الجنائز، ص198. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 47،ومسلم، برقم 945،وتقدم في فضل الصلاة على الميت. (¬3) مسلم، كتاب الزكاة، باب فضل من ضم إلى الصدقة غيرها من أنواع البر، برقم 1028. (¬4) الأدب المفرد، برقم 515،وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، ص195،برقم 400/ 515.

الأمر الخامس: يحمل الميت على حسب الحال والتيسير

فشمّتْه، وإذا مرض فعُدْه، وإذا مات فاتبعه)) (¬1). وعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع ونهانا عن سبع: ((أمرنا باتباع الجنائز، وعيادة المريض، وإجابة الداعي، ونصر المظلوم، وإبرار المقسم، ورد السلام، وتشميت العاطس ... )) الحديث (¬2)؛ ولحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - يرفعه: ((عودوا المريض، واتبعوا الجنائز تذكركم الآخرة)) (¬3). الأمر الخامس: يحمل الميت على حسب الحال والتيسير، ولا يتكلف الإنسان ما لم يرد بذلك سنة صحيحة فالأمر فيه واسع (¬4). ¬

(¬1) متفق عليه، واللفظ لمسلم: البخاري، برقم 1240،ومسلم، برقم 2162، وفي لفظ لمسلم: ((خمس تجب للمسلم على أخيه ... )) وتقدم تخريجه في آداب زيارة المريض. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 1239، ومسلم، برقم 2066، وتقدم تخريجه في آداب زيارة المريض. (¬3) ابن أبي شيبة في المصنف، 4/ 73، والبخاري في الأدب المفرد، برقم 518، وأحمد، 3/ 27، 32، 28، وغيرهم، وحسن إسناده الألباني في أحكام الجنائز، ص87، وذكر له شاهداً عند الطبراني، أورده الهيثمي في المجمع، 2/ 299، وصححه الألباني أيضاً في صحيح الأدب المفرد، ص196. (¬4) ذكر الإمام الخرقي رحمه الله بقوله: ((والتربيع أن يوضع على الكتف اليمنى إلى الرجل ثم الكتف اليسرى إلى الرجل)) قال الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني، 3/ 402: ((التربيع هو الأخذ بجوانب السرير الأربع وهو سنة في حمل الجنازة لقول ابن مسعود: ((من اتبع جنازة فليحمل بجوانب السرير كلها، فإنه من السنة، ثم إن شاء فليتطوع وإن يشاء فليدع)) [ابن ماجه، برقم 1478]، قال ابن قدامة: ((وصفة التربيع المسنون أن يبدأ فيضع قائمة السرير اليسرى على كتفه اليمنى من عند رأس الميت ثم يضع القائمة اليسرى عند الرجل على الكتف اليمنى أيضاً، ثم يعود إلى القائمة اليمنى من عند رأس الميت فيضعها على كتفه اليسرى ثم ينتقل إلى اليمنى من عند رجليه، وبهذا قال أبو حنيف والشافعي، وعن أحمد رحمه الله أنه يدور عليها فيأخذ بعد ياسرة المؤخرة يامنة المؤخرة ثم المقدمة، وهو مذهب إسحاق، وروي عن ابن مسعود، وابن عمر، وسعيد بن جبير، وأيوب؛ ولأنه أخف، ووجه الأول أنه أحد الجانبين فينبغي أن يبدأ فيه بمقدمه كالأول. فأما الحمل بين العمودين فقال ابن المنذر: روينا عن عثمان، وسعيد بن مالك، وابن عمر، وأبي هريرة، وابن الزبير، أنهم حملوا بين عمودي السرير، وقال به الشافعي، وأحمد، وأبو ثور، وابن المنذر، وكرهه النخعي، والحسن، وأبو حنيفة، وإسحاق، والصحيح الأول؛ لأن الصحابة رحمهم الله ورضي عنهم قد فعلوه وفيهم أسوة حسنة، وقال مالك: ليس في حمل الميت توقيت، يحمل من حيث شاء، ونحوه قال الأوزاعي، واتباع الصحابة - رضي الله عنهم - فيما فعلوه وقالوه: أحسن وأولى)) [المغني، 3/ 403] قلت: لا شك أنه أحسن وأولى، لكن إذا لم يثبت فالأمر واسع كما تقدم، وخبر ابن مسعود في التربيع قال عنه الألباني رحمه الله في أحكام الجنائز، ص154: ((وهو غير صحيح لأنه منقطع أبو عبيدة لم يدرك أباه ... )) وأما ما ذكره من الحمل بين العمودين لسعد بن معاذ كما ذكر في طبقات ابن سعد، 3/ 431، وفي نصب الراية، 2/ 287، فقيل: فيه الواقدي وهو ضعيف؛ ولهذا فالأمر واسع كما قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في الشرح الممتع، 5/ 446،وسمعت ابن باز يقول أثناء تقريره على منتقى الأخبار، الحديث رقم 1865: ((في سنده انقطاع، لكن روي عن جماعة من الصحابة، فالسنة أن يحمل من أمام أو من خلف أو يمشي بدون حمل)).

الأمر السادس: لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار ولا بما يخالف الشرع

الأمر السادس: لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار ولا بما يخالف الشرع؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تُتبع جنازة معها رانَّةٌ)) (¬1) (¬2). وعن أبي بردة قال: ((أوصى أبو موسى الأشعري حين حضره الموت فقال: لا تتَّبعوني بمجمرٍ، قالوا له: أسمعت فيه شيئاً؟ قال: نعم، من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (¬3). وأوصى عمرو بن العاص في وصيته: ((فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة، ولا نار)) (¬4) (¬5). وقال قيس بن عباد: ((كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يكرهون رفع الصوت عند الجنائز)) (¬6). ¬

(¬1) الرانَّةُ: الصائحة، والرنة: الصوت. يقال: رنت المرأة: إذا صاحت ورفعت صوتها. (¬2) ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب في النهي عن النياحة، برقم 1583، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 40، وأحكام الجنائز، ص91. (¬3) ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الجنازة لا تؤخر إذا حضرت ولا تتبع بنار، برقم 1487، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 14، وفي أحكام الجنائز، ص18، وهو مطول في مسند أحمد، 4/ 397، والبيهقي، 3/ 395. (¬4) أحمد، 4/ 199 ولفظه: ((ولا تتبعني مادحاً ولا ناراً)) وقال الألباني: أخرجه مسلم، 1/ 78، وأوصى أبو هريرة فقال: (( ... ولا تتبعوني بمجمر ... )) قال الألباني: أخرجه النسائي، وابن حبان في صحيحه (764)، والبيهقي، والطيالسي، رقم 2336، وأحمد، 2/ 292، و274، و550، بإسناد صحيح على شرط مسلم، أحكام الجنائز، ص93. (¬5) وذكر الألباني في ذلك آثاراً وأخباراً. انظر أحكام الجنائز، ص91 - 93. (¬6) البيهقي، 4/ 74، وغيره، ووثق رجال سنده الألباني في أحكام الجنائز، ص92.

الأمر السابع: القيام للجنازة إذا مرت مشروع

الأمر السابع: القيام للجنازة إذا مرت مشروع؛ لحديث عبد الله بن عمر عن عامر بن ربيعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا رأى أحدكم جنازة فإن لم يكن ماشياً معها فليقم حتى يخلّفها أو تخلّفَهُ أو توضع من قبل أن تُخلّفه)). وفي لفظ: ((إذا رأيتم الجنازة فقوموا حتى تُخلّفكم (¬1) أو توضع)) (¬2). وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا رأيتم الجنازة فقوموا، فمن تبعها فلا يقعد حتى توضع)) (¬3). وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: مر بنا جنازة، فقام لها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي؟ قال: ((إذا رأيتم الجنازة فقوموا)) (¬4)، ولفظ مسلم: ((إن الموتَ فزعٌ فإذا رأيتم الجنازة فقوموا)). وعن سهل بن حنيف وقيس بن سعد بن أبي ليلى أنهما كانا قاعدين بالقادسية فمرُّوا عليهما بجنازة فقاما، فقيل لهما: إنها من أهل الأرض - أي من أهل الذمة - فقالا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرت به جنازة فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: ((أليست نفساً)) (¬5). والصواب أن هذه الأحاديث تدل على مشروعية القيام للجنازة إذا مرت لمن كان قاعداً؛ لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك؛ ولفعله عليه الصلاة والسلام، أما حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((قام ثم قعد))، وفي لفظ: ¬

(¬1) تُخلّفكم: أي تترككم وراءها. نيل الأوطار، 2/ 759. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة، برقم 1307، وباب متى يقعد إذا قام للجنازة، برقم 1308، ومسلم، كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة، برقم 958. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب من تبع الجنازة فلا يقعد حتى توضع عن مناكب الرجال فإن قعد أمر بالقيام، برقم 1310،ومسلم، كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة، برقم 959. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب من قام لجنازة يهودي، برقم 1311، ومسلم، كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة، برقم 961. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب من قام لجنازة يهودي، برقم 1312، ومسلم، كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة، برقم 961.

((رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فقمنا، وقعد فقعدنا -يعني في الجنازة-)) (¬1) فهذا يدل على أن الأمر بالقيام للجنازة للاستحباب، والقعود للجواز، قال الإمام النووي رحمه الله تعالى بعد أن ذكر خلاف العلماء: ((فيكون الأمر للندب والقعود بياناً للجواز، ولا يصح دعوى النسخ في مثل هذا؛ لأن النسخ إنما يكون إذا تعذر الجمع بين الأحاديث ولم يتعذر والله أعلم)) (¬2) (¬3). ورجح الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ما ذهب إليه الإمام النووي في الجمع بين الأحاديث (¬4). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله يقول: ((وهذا يدل على أن السنة القيام للجنازة ولو كانت كافرة؛ فإن للموت فزعاً، وهذا القيام سنة وليس بواجب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام وقعد، فدل ذلك على أن القيام ليس بواجب وإنما هو سنة)) (¬5). ¬

(¬1) مسلم، كتاب الجنائز، باب نسخ القيام للجنازة، برقم 962. (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم، 7/ 32. (¬3) وتمام كلام النووي: ((اختلف الناس في هذه المسألة فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي: القيام منسوخ، وقال أحمد وإسحاق وابن حبيب، وابن الماجشون المالكيان: هو مخير، قال: واختلفوا في قيام من يشيعها عند القبر فقال جماعة من الصحابة والسلف لا يقعد حتى توضع، قالوا: والنسخ إنما هو في قيام من مرت به، وبهذا قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن، قال: واختلفوا في القيام على القبر حتى تدفن، فكرهه قوم وعمل به آخرون، روي عن عثمان، وعلي، وابن عمر، وغيرهم - رضي الله عنهم - هذا كلام القاضي. والمشهور في مذهبنا أن القيام ليس مستحباً وقالوا: هو منسوخ بحديث علي، واختار المتولي من أصحابنا أنه مستحب، وهذا هو المختار، فيكون الأمر به للندب، والقعود بياناً للجواز، ولا يصح دعوى النسخ في مثل هذا، لأن النسخ إنما يكون إذا تعذر الجمع بين الأحاديث ولم يتعذر، والله أعلم)). [شرح النووي، 7/ 31 - 32]. (¬4) زاد المعاد، 1/ 521، قال: ((وقيل: بل الأمران جائزان وفعله بيان للاستحباب وتركه بيان للجواز، وهذا أولى من ادعاء النسخ)). (¬5) سمعته أثناء تقريره على منتقى الأخبار، الأحاديث 1882 - 1888. وانظر: نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 760.

الأمر الثامن: من تبع الجنازة فلا يجلس حتى توضع على الأرض

الأمر الثامن: من تبع الجنازة فلا يجلس حتى توضع على الأرض؛ لحديث أبي سعيد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا رأيتم الجنازة فقوموا، فمن تبعها فلا يقعد حتى توضع)) (¬1). وقد فسّر الإمام البخاري رحمه الله قوله: ((حتى توضع)) فقال: ((باب من تبع جنازة حتى توضع عن مناكب الرجل فإن قعد أمر بالقيام)) (¬2)، وهذا يوضح أن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((حتى توضع)) أي على الأرض قبل اللحد. وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله: ((والصواب أن الجنازة إذا وضعت في الأرض جلسوا: أي قبل اللحد)) (¬3). وحديث علي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام ثم قعد يدل على أن القيام حتى توضع للاستحباب. قال شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله: ((السنة لمن تبع الجنازة ألا يجلس حتى توضع من أعناق الرجال على الأرض، وأما الانصراف فإن المشروع لمتبعها ألا ينصرف حتى توضع في القبر ويفرغ من دفنها، وهذا كله على سبيل الاستحباب ... )) (¬4). الأمر التاسع: النساء لا يتبعن الجنائز؛ ويصلين عليها؛ لحديث أم عطية رضي الله عنها قالت: ((نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا)) (¬5). قال شيخنا الإمام عبد العيز ابن باز رحمه الله: ((المقصود بالنهي: النهي عن اتباعها إلى المقبرة، أما الصلاة عليها فمشروعة للرجال والنساء، وكان النساء يصلين على الجنائز مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويفهم [من قول أم عطية ولم يعزم ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 1310،ومسلم، برقم 959،وتقدم تخريجه في القيام للجنازة إذا مرت. (¬2) البخاري، كتاب الجنائز، باب من تتبع جنازة فلا يقعد حتى توضع عن مناكب الرجال فإن قعد أمر بالقيام. (¬3) سمعته أثناء تقريره على منتقى الأخبار، الأحاديث 1878 - 1880. (¬4) مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 177 - 178. (¬5) متفق عليه: البخاري، باب اتباع النساء الجنازة، برقم 1278، ومسلم، كتاب الجنائز، باب نهي النساء عن اتباع الجنائز، برقم 938.

الأمر العاشر: الإسراع بالجنازة من غير رمل مشروع

علينا] أن النهي عندها غير مؤكد، والأصل في النهي التحريم؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)) (¬1). وذلك يدل على تحريم اتباع النساء للجنائز إلى المقبرة، أما الصلاة على الميت فإنها مشروعة لهن كالرجال، والله ولي التوفيق. الأمر العاشر: الإسراع بالجنازة من غير رمل مشروع؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((أسرعوا بالجنازة، فإن تكُ صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تكُ سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم)) (¬2)؛ ولحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدّموني قدّموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق)) (¬3). قال الإمام شيخنا ابن باز رحمه الله في المقصود بالإسراع بالجنازة: ((المقصود: المشي، ويدخل ضمناً الصلاة عليها، وتغسيلها، والسرعة في تجهيزها، وظاهر الحديث يعم الجميع من حيث المعنى)) (¬4). وسمعته رحمه الله يقول: ((السنة الإسراع بالجنازة، ومعنى ذلك أن يكون مشياً قوياً دون الرمل؛ ليقدمها إلى الخير إن كانت صالحة)) (¬5). الأمر الحادي عشر: الماشي يمشي مع الجنازة كيف شاء، والراكب ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري كتاب الاعتصام، باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، برقم 7288، ومسلم، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، برقم 1337، ولفظه عند البخاري: ((فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم)) ولفظ مسلم: ((فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه)). (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 1315، ومسلم، برقم 944. (¬3) البخاري، برقم 1314، وتقدم تخريجه في ذكر الحمل على الأكتاف. (¬4) مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 182. (¬5) سمعته أثناء تقريره على منتقى الأخبار، حديث: 1866.

الأمر الثاني عشر: المشي في تشييع الجنازة أفضل من الركوب

خلفها؛ لحديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((الراكب [يسير] خلف الجنازة، والماشي حيث شاء منها، [خلفها، وأمامها، وعن يمينها، وعن يسارها، قريباً منها]،والطفل يصلى عليه، [ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة])) (¬1). وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول: ((والسنة المشي لمن قدر عليه، ولا بأس بالركوب عند الحاجة، والراكب يمشي خلف الجنازة، والماشي أمامها، وعن يمينها، وعن شمالها، [ومن خلفها])) (¬2). الأمر الثاني عشر: المشي في تشييع الجنازة أفضل من الركوب؛ لحديث ثوبان - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُتي بدابة وهو مع الجنازة فأبى أن يركبها، فلما انصرف أُتي بدابة فركب، فقيل له؟ فقال: ((إن الملائكة كانت تمشي فلم أكن لأركب وهم يمشون فلما ذهبوا ركبت)) (¬3). ولا بأس بالركوب إذا انصرف من الجنازة؛ لحديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بفرس معروري (¬4) فركبه حين انصرف من جنازة أبي الدحداح ونحن نمشي حوله، وفي لفظ: ((صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي الدحداح ثم أُتي بفرس عُري، عقله (¬5) رجل فركبه فجعل يتوقّصُ به (¬6) ونحن نتبعه نمشي خلفه، قال: فقال رجل من القوم: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) أبو داود، برقم 3180، والترمذي، برقم 1031، وأحمد، 4/ 240، 249، والنسائي، 4/ 55، وصححه الألباني في أحكام الجنائز، ص95، وتقدم تخريجه في تغسيل الميت، والزيادات جمعها الألباني من الروايات. (¬2) سمعته أثناء تقريره على منتقى الأخبار، الحديث رقم 1866 - 1872. (¬3) أبو داود، كتاب الجنائز، باب الركوب في الجنازة، برقم 3177، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 293. (¬4) معروري: عُرَى بضم الميم وفتح الراء، قال أهل اللغة: أعروريت الفرس إذا ركبته عرياً فهو معروري. شرح النووي، 7/ 36. (¬5) عقله: أمسكه له وحبسه. شرح النووي، 7/ 36. (¬6) يتوقص به: يتوثب، شرح النووي، 7/ 37.

الأمر الثالث عشر: السنة حمل الجنازة على الأعناق إذا تيسر ذلك

قال: ((كم من عِذقٍ مُعلَّقٍ - أو مُدلًّى - في الجنة لابن الدحداح أو قال شعبة: لأبي الدحداح)) (¬1). وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول: ((والسنة المشي لمن قدر عليه، ولا بأس بالركوب عند الحاجة)) (¬2). فدل حديث ثوبان وحديث سمرة على أن الركوب بعد الانصراف عن الجنازة جائز (¬3). الأمر الثالث عشر: السنة حمل الجنازة على الأعناق إذا تيسر ذلك، ويجوز حملها على السيارة لغرض صحيح كبعد المقبرة فتحصل بذلك مشقة؛ لأن حملها على السيارة أو غيرها من الوسائل يفوت الغاية المقصودة وهي حملها وتشييعها، وهي تذكر الآخرة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((واتَّبعوا الجنائز تذكركم الآخرة)) (¬4). قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى: ((الأفضل حملها على الأكتاف؛ لما في ذلك من المباشرة بحمل الجنازة؛ ولأنه إذا مرت الجنازة بالناس في الأسواق عرفوا أنها جنازة ودعوا لها؛ ولأنه أبعد عن الفخر والأبهة، إلا أن يكون هناك حاجة أو ضرورة فلا بأس أن تحمل على سيارة، مثل: أن تكون أوقات أمطار، أو حر شديد، أو برد شديد، أو قلة المشيعين)) (¬5). الأمر الرابع عشر: وضع المكبة التي توضع فوق المرأة على النعش وتغطى بثوب لتستر جسم المرأة عن أعين الناس، والمكبة تعمل من ¬

(¬1) مسلم، كتاب الجنائز، باب ركوب المصلي على الجنازة إذا انصرف، برقم 965. (¬2) سمعته أثناء تقريره على المنتقى، الحديث رقم 1866 - 1872. (¬3) الشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، 6/ 308، والمغني لابن قدامة، 3/ 399. (¬4) البخاري في الأدب المفرد، برقم 518، وأحمد، 3/ 27، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، ص196، وحسنه في أحكام الجنائز، ص87، وتقدم تخريجه في اتباع الجنائز. (¬5) مجموع رسائل ابن عثيمين، 17/ 166.

الثامن عشر: دفن الميت من نعم الله على عباده:

خشب، أو جريد، أو قصب مثل القبة فوقها ثوب تكون فوق السرير. قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((ويستحب أن يترك فوق سرير المرأة شيء من الخشب أو الجريد مثل القبة يترك فوقه ثوب، ليكون أستر لها، وقد روي أن فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنها أول من صُنِعَ لها ذلك بأمرها (¬1) (¬2). ونقل العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله كلام أهل المذاهب الأربعة وأنهم كلهم أعلنوا أنه أستر للمرأة وأن ذلك يستحب (¬3) (¬4). الثامن عشر: دفن الميت من نعم الله على عباده: يراعى في دفن الميت الأمور الآتية: الأمر الأول: حكم دفن الميت فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، وإن تركوه كلهم أثموا كلهم (¬5)؛ لقول الله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} (¬6) والمعنى أن الله - عز وجل - أكرمه بدفنه، ولم يجعله ملقى للسباع والطيور، وهذه مكرمة لبني آدم دون سائر الحيوانات، وقال الله - عز وجل -: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا *حْيَاءً وَأَمْوَاتًا} (¬7)، وقد أرشد الله تعالى قابيل إلى دفن أخيه هابيل: {فَبَعَثَ الله غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ ¬

(¬1) أسد الغابة، 7/ 220، وانظر: مصنف ابن أبي شيبة، كتاب الجنائز، باب ما قالوا في الجنازة كيف يصنع بالسرير يرفع له شيء أم لا؟ وما يصنع فيه بالمرأة، 3/ 270. (¬2) المغني لابن قدامة، 3/ 484، والروض المربع مع حاشية ابن قاسم، 2/ 110. (¬3) وأحال رحمه الله مراجع بحثه الجميل، فأحال للروض المربع للحنابلة [2/ 110، حاشية ابن قاسم]، وجوهر الإكليل شرح مختصر الخليل للمالكية، 1/ 111، ط الحلبي، والمجموع شرح المهذب للشافعية، 5/ 221، ط دار العلوم للطباعة، وكتاب الفقه على المذاهب الأربعة لعبد الرحمن الجزيري، 1/ 531، عن الحنفية. (¬4) مجموع رسائل ابن عثيمين، 17/ 168، و17/ 175 - 177. (¬5) الروض المربع مع حاشية عبد الرحمن القاسم، 2/ 28. (¬6) سورة عبس، الآية: 21. (¬7) سورة المرسلات، الآيتان، 25 - 26.

الأمر الثاني: فضل دفن الميت

فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} (¬1) فكانت سنة في بني آدم؛ ولأن في ترك جثة ابن آدم أذىً وهتكاً لحرمته فوجب دفنه)) (¬2). الأمر الثاني: فضل دفن الميت؛ لحديث أبي رافع - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من غسل مسلماً فكتم عليه غفر الله له أربعين مرة، ومن حفر له فأجنه أجري عليه كأجر مسكن أسكنه إياه إلى يوم القيامة، ومن كفَّنه كساه الله يوم القيامة من سندس وإستبرق الجنة)) (¬3)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه: ((من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً وكان معه حتى يُصلَّى عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر بقيراطين كل قيراط مثل أحد ... )) (¬4). الأمر الثالث: لا يدفن الميت في أوقات النهي الثلاثة المضيَّقة إلا لضرورة؛ لحديث عقبة بن عامر يرفعه: ((ثلاث ساعاتٍ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغةً حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب)) (¬5). الأمر الرابع: لا يدفن مسلم مع كافر ولا كافر مع مسلم، بل يدفن المسلم في مقابر المسلمين والكافر يُوارى مع المشركين؛ لأحاديث منها: حديث أبي طلحة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من قريش فقذفوا في طويٍّ من أطواء بدر خبيث مخبث)) (¬6). وحديث بشير مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: بينما أنا أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بقبور المشركين فقال: ((لقد سبق هؤلاء خيراً كثيراً)) ثلاثاً، ثم مر ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 31. (¬2) حاشية عبد الرحمن القاسم على الروض المربع، 2/ 28. (¬3) البيهقي، 3/ 395،والحاكم،1/ 354، والطبراني في الكبير، 1/ 315، برقم 929، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، والألباني في أحكام الجنائز، وتقدم تخريجه في غسل الميت، وفي تكفينه. (¬4) متفق عليه: البخاري، برقم 47،ومسلم، برقم 945،وتقدم تخريجه في الصلاة على الميت. (¬5) مسلم، برقم 831، وتقدم تخريجه في صلاة التطوع. (¬6) متفق عليه: البخاري، برقم 3976، ومسلم، برقم 2875، وتقدم تخريجه في تذكر عذاب القبر.

الأمر الخامس: السنة الدفن في المقبرة

بقبور المسلمين، فقال: ((لقد أدرك هؤلاء خيراً كثيراً)) وحانت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظرة فإذا رجل يمشي في القبور عليه نعلان فقال: ((يا صاحب السبتيتين ويحك ألق سبتيتيك)) فنظر الرجل فلما عرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلعهما فرمى بهما)) (¬1)؛ ولحديث علي - رضي الله عنه - قال: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن عمك الشيخ الضال مات فمن يواريه؟ قال: ((اذهب فوارِ أباك ولا تُحدثنَّ حدثاً حتى تأتيني)) فواريته ثم جئت فأمرني فاغتسلت، ودعا لي، وذكر دعاءً لم أحفظه)) (¬2). الأمر الخامس: السنة الدفن في المقبرة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدفن الموتى في مقبرة البقيع، كما تواترت بذلك الأخبار، ولم ينقل عن أحد من السلف أنه دفن في غير المقبرة، إلا ما تواترت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دفن في حجرته، وذلك من خصوصياته - صلى الله عليه وسلم - (¬3). الأمر السادس: الشهداء يدفنون في أماكن استشهادهم في أرض المعركة ولا ينقلون إلى المقابر؛ لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى المشركين ليقاتلهم، وقال أبي عبد الله: يا جابر بن عبد الله لا عليك أن تكون في نِظاري أهل المدينة حتى تعلم إلى ما يصير أمرنا فإني والله لولا أني أترك بناتٍ لي بعدي لأحببت أن تقتل بين يديَّ، قال: فبينما أنا في النظارين إذ جاءت عمتي بأبي وخالتي عادلتهما (¬4) على ناضح فدخلت بهما المدينة؛ لتدفنهما في مقابرنا إذ لحق رجل ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الجنائز، باب المشي في النعل بين القبور، برقم 3230، والنسائي، كتاب الجنائز، باب كراهية المشي بين القبور في النعال السبتية، برقم 2047،وابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في خلع النعلين بين المقابر، برقم 1568،وأحمد،5/ 83، وحسنه الألباني في صحيح سنن النسائي،2/ 70، وفي أحكام الجنائز، ص173. (¬2) النسائي، كتاب الجنائز، باب مواراة المشرك، برقم 2005، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 2/ 59. (¬3) انظر: أحكام الجنائز للعلامة الألباني، ص173 - 175، وقد أورد أدلة على ذلك في هذا الموضوع، والشرح الكبير، 6/ 238. (¬4) عادلتهما: أي شددتهما على جنبي البعير كالعدلين: نهاية، 3/ 191.

الأمر السابع: الدفن ليلا فيه تفصيل

ينادي: ألا إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمركم أن ترجعوا بالقتلى فتدفنوها في مصارعها حيث قتلت، فرجعنا بهما فدفناهما حيث قُتلا)) (¬1). الأمر السابع: الدفن ليلاً فيه تفصيل، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب يوماً فذكر رجلاً من أصحابه قُبض فكفّن في كفنٍ غير طائل، وقُبِرَ ليلاً، فزجر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقبر الرجل بالليل حتى يُصلَّى عليه إلا أن يضطر الإنسان إلى ذلك، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه)) (¬2). وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: مات إنسان كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوده، فمات بالليل فدفنوه ليلاً، فلما أصبح أخبروه فقال: ((ما منعكم أن تعلموني؟)) قالوا: كان الليل فكرهنا - وكانت ظلمة - أن نشقَّ عليك فأتى قبره فصلَّى عليه)) (¬3). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما علمنا بدفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى سمعنا صوت المساحي من آخر الليل ليلة الأربعاء ... )) (¬4) قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: ((وقد اختلف العلماء في الدفن في الليل، فكرهه الحسن البصري إلا لضرورة، وقال جماهير العلماء من السلف والخلف: لا يكره، واستدلوا بأن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - وجماعة من السلف دفنوا ليلاً من غير إنكار، وبحديث المرأة السوداء، والرجل الذي ¬

(¬1) أحمد في المسند، 3/ 397 - 398، قال العلامة الألباني: ((بسند صحيح، وبعضه عند أبي داود وغيره مختصراً ... )) وتقدم تخريج المختصر في الآداب الواجبة والمستحبة لمن حضر وفاة المسلم، وأنه أخرجه: أبو داود، برقم 3165، والترمذي، برقم 1717، والنسائي، برقم 2005، وابن ماجه، برقم 1516، وغيرهم. وانظر الشرح الكبير، 6/ 239، والمغني لابن قدامة، 3/ 442. (¬2) مسلم، برقم 943، وتقدم في تكفين الميت في الأمر السادس. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب الإذن بالجنازة، برقم 1247،وباب الصفوف على الجنازة، برقم 1319،وباب صفوف الصبيان مع الرجال، برقم 1321،وباب سنة الصلاة على الجنازة، برقم 1322، وباب صلاة الصبيان مع الناس على الجنائز، برقم 1326،وباب الدفن بالليل، برقم 1340، والطرف الأول رقم 857،ومسلم، كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر، برقم 956. (¬4) أحمد، 6/ 274.

والخلاصة

كان يقم المسجد فتوفي ليلاً فدفنوه ليلاً، وسألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه فقالوا: توفي ليلاً فدفناه في الليل فقال: ((ألا آذنتموني؟)) قالوا: كانت ظلمة. ولم ينكر عليهم، وأجابوا عن هذا الحديث (¬1) أن النهي كان لترك الصلاة ولم ينه عن مجرد الدفن بالليل، وإنما نهى لترك الصلاة أو لقلة المصلين، أو عن إساءة الكفن أو عن المجموع كما سبق ... )) (¬2). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله يقول على مجموع الأحاديث التي وردت: ((هذه الأحاديث تدل على جواز الدفن ليلاً، وأما ما جاء في النهي عن ذلك فهذا إذا كان فيه تقصير في الصلاة عليه؛ ولهذا جاء في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الدفن ليلاً حتى يُصلى عليه. والخلاصة: أنه إذا كان هناك تقصير في حق الميت: من غسل، أو كفن، أو صلاة على الميت فلا يدفن ليلاً، أما إذا كملت حقوقه فلا بأس بدفنه ليلاً)) (¬3). وسمعته في موضع آخر يقول: ((أما رواية مسلم فزجر فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قبر الرجل حتى يُصلَّى عليه، فتأخير الميت ليصلى عليه إذا كان تأخيرها أفضل لكثرة الجمع، والحاصل أن مجموع الأحاديث تفيد أن الأفضل تأخير الصلاة عليه إذا كان تأخيرها أكمل، أما إذا صُلّي عليه في العشاء أو المغرب فلا كراهة. ومما يدل على هذا ما جاء في مسلم: ((ثلاث ساعات كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول، وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب))، وهذا يدل على أنها إذا غابت زال النهي، وأن الصلاة عليه بعد الغروب والدفن بعده لا حرج فيه، وقد دفن ¬

(¬1) حديث جابر السابق عند مسلم. (¬2) شرح النووي، 7/ 14. (¬3) سمعته أثناء تقريره على منتقى الأخبار، الأحاديث رقم 1914 - 1916.

الأمر الثامن: لا بأس بدفن الاثنين أو أكثر في قبر واحد عند الضرورة

النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلاً، ودفن الصديق ليلاً، ودفن عمر ليلاً، ودفن عثمان ليلاً - رضي الله عنهم - (¬1). وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: ((يجوز دفن الأموات ليلاً إذا قام الإنسان بالواجب: من التغسيل، والتكفين، والصلاة عليه؛ فإنه يجوز أن يدفن بالليل)) (¬2) (¬3). الأمر الثامن: لا بأس بدفن الاثنين أو أكثر في قبر واحد عند الضرورة والحاجة الشديدة؛ لحديث جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول: ((أيهم أكثر أخذاً للقرآن)) فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد، وقال: ((أنا شهيد على هؤلاء)) وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصلّ عليهم ولم يغسلهم)) (¬4). وعن هشام بن عامر قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، فقلنا: يا رسول الله! الحفر علينا لكل إنسان شديد؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((احفروا، وأعمقوا، وأحسنوا، وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد))، قالوا: فمن نقدّم يا رسول الله؟ قال: ((قدّموا أكثرهم قرآناً)) قال: فكان أبي ثالث ثلاثة في قبر واحد)) (¬5). وهذا عند الضرورة، وإذا دعت الحاجة الشديدة لذلك، ككثرة الموتى ¬

(¬1) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 615، وانظر: مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 213 - 214. (¬2) مجموع رسائل ابن عثيمين،17/ 180،وانظر: المغني لابن قدامة،3/ 503 - 504. (¬3) وانظر: بحثاً مطولاً مفيداً في أحكام الجنائز للألباني، ص176 - 181، وانظر أيضاً: الشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، 6/ 250 - 251. (¬4) البخاري، برقم 1343، 1345، 1346، 1347، وتقدم تخريجه. (¬5) النسائي، كتاب الجنائز، باب ما يستحب من إعماق القبر، برقم 2009، وباب ما يستحب من توسيع القبر، برقم 2010، وأبو داود، كتاب الجنائز، باب في تعميق القبر، برقم 3215، وابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في حفر القبر، برقم 1560، والترمذي، كتاب الجهاد، باب ما جاء في دفن الشهيد، برقم 1713، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 304، وغيره، وفي إرواء الغليل، برقم 743.

الأمر التاسع: جمع الأقارب في مقبرة واحدة حسن

في القتل، أو الطاعون أو غير ذلك من أسباب الموت العام بكثرة، أما عند الاستطاعة والقدرة فيدفن كل إنسان في قبر لوحده (¬1). قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: ((المشروع أن يدفن كل إنسان في قبر وحده، كما جرت به سنة المسلمين قديماً وحديثاً، ولكن إذا دعت الحاجة أو الضرورة إلى جمع اثنين فأكثر في قبر واحد فلا بأس به ... قال بعض الفقهاء: وينبغي أن يجعل بين كل اثنين حاجز من تراب)) (¬2)، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((ولا يدفن اثنان في قبر واحد إلا لضرورة)) (¬3). الأمر التاسع: جمع الأقارب في مقبرة واحدة حسن؛ لحديث المطلب قال: لما مات عثمان بن مظعون أُخرج بجنازته فدفن، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً أن يأتيه بحجر، فلم يستطع حمله، فقام إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحسر عن ذراعيه، قال كثير: قال المطلب: قال الذي يخبرني ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كأني أنظر إلى بياض ذراعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين حسر عنهما، ثم حملها فوضعها عند رأسه وقال: ((أتعلَّمُ بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي)) (¬4). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((وجمع الأقارب في الدفن حسن؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دفن عثمان بن مظعون: ((أدفن إليه من مات من أهله)) (¬5)؛ ولأن ذلك أسهل لزيارتهم، وأكثر للترحم عليهم ... )) (¬6). ¬

(¬1) انظر: مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 212. (¬2) مجموع رسائل ابن عثيمين، 17/ 214. (¬3) المغني، 3/ 513. (¬4) أبو داود، كتاب الجنائز، باب جمع الموتى في قبر، والقبر يعلَّم، برقم 3206، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 301. وقال الإمام الشوكاني في نيل الأوطار، 2/ 773: ((قال الحافظ وإسناده حسن)). (¬5) في أصل سنن أبي داود: ((أهلي)). (¬6) المغني، 3/ 442، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، 6/ 239.

الأمر العاشر: الموعظة عند القبر أمر لا بأس به؛ لحديث علي - رضي الله عنه -، قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة (¬1) [وفي رواية: عود] (¬2) فنكس فجعل ينكت (¬3) [في الأرض] بمخصرته، ثم قال: ((ما منكم من أحد [و] (¬4) ما من نفس منفوسة إلا [وقد] (¬5) كتب مكانها من الجنة [أ] (¬6) ومن النار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة)). فقال رجل: يا رسول الله! أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل، فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، وأما من كان منا من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة، قال: (([لا] (¬7) [اعملوا فكل مسير لما خلق له] (¬8)، أما [من كان من] (¬9) أهل السعادة فسييسَّرون لعمل أهل السعادة، وأما [من كان من] أهل الشقاوة فسييسَّرون لعمل [أهل] الشقاوة)) ثم قرأ: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى *وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى * فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى *وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى *وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى * فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى} (¬10). وقد قال الإمام البخاري رحمه الله في ترجمة هذا الحديث: ((باب موعظة المحدث عند القبر وقعود أصحابه حوله)) قال الحافظ ابن حجر ¬

(¬1) مخصرة: عصا لطيفة وهي ما يتكأ عليه ويجعل تحت الخصر غالباً، ونفس منفوسة: أي مخلوقة. (¬2) لفظ: عود من الطرف رقم 4946. (¬3) فنكس فجعل ينكت: نكس: طأطأ وخفض رأسه إلى الأرض على هيئة المهموم، ينكت: أي يخط خطّاً يسيراً مرة بعد مرة، وهذا فعل المفكر المهموم. (¬4) من الطرف رقم 4946. (¬5) من الطرف رقم 4946. (¬6) من الطرف رقم 4946. (¬7) من الطرف رقم 4947. (¬8) من الطرف رقم 4949. (¬9) من الطرف رقم 4949. (¬10) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب موعظة المحدث عند القبر وقعود أصحابه حوله، برقم 1362، ومسلم، كتاب القدر، باب كيف خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه، وأجله، وعمله، وشقاوته وسعادته، برقم 2647.

رحمه الله: كأنه يشير إلى التفصيل بين أحوال القعود، فإن كان لمصلحة تتعلق بالحي أو الميت لم يكره)) (¬1). ومما يدل على الموعظة عند القبر حديث البراء بن عازب الطويل وأوله: ((خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولمَّا يلحد، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستقبل القبلة وجلسنا حوله، وكأن على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت في الأرض فجعل ينظر إلى السماء وينظر إلى الأرض، وجعل يرفع بصره ويخفضه ثلاثاً، فقال: ((استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثاً))، ثم قال: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ثلاثاً، ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال إلى الآخرة تنزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مدَّ البصر، ثم يجيء ملك الموت - عليه السلام - حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيب [وفي لفظ] المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ... )) الحديث (¬2). قال الإمام شيخنا ابن باز رحمه الله: ((لقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مرة أنه وعظ الناس عند القبر وهم ينتظرون الدفن، وبذلك يعلم أن الوعظ عند القبر أمر مشروع قد فعله النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لما في ذلك من التذكير بالموت، والجنة والنار، وغير ذلك من أمور الآخرة، والحث على الاستعداد للقاء الله)) (¬3). وقال العلامة الألباني رحمه الله: ((ويجوز الجلوس عنده [أي القبر] أثناء الدفن بقصد تذكير الحاضرين بالموت وما بعده؛ لحديث البراء بن ¬

(¬1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 3/ 225. (¬2) أبو داود، برقم 3212، 4753، 4754،والحاكم، 1/ 37 - 40،وأحمد، 4/ 287، 288، 295، 296، وبرقم 1834، وتقدم تخريجه في أحوال المحتضرين. (¬3) مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 210.

الأمر الحادي عشر: تعميق القبر وتوسيعه

عازب ... )) (¬1). وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: (( ... وغاية ما ورد أنه - صلى الله عليه وسلم - أتى إلى البقيع وفيه قوم ينتظرون اللحد؛ ليدفنوا ميتهم، فجلس وجلس الناس حوله وجعل يذكرهم وهو جالس لا على سبيل الخطبة، وكذلك كان - صلى الله عليه وسلم - في المقبرة أيضاً فقال: ((ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار ... )) (¬2) (¬3). الأمر الحادي عشر: تعميق القبر وتوسيعه؛ لحديث هشام بن عامر قال: جاءت الأنصار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، فقالوا: أصابنا قرح وجهد! فكيف تأمرنا؟ قال: ((احفروا، وأوسعوا [وأعمقوا] واجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر)) قيل: فأيهم يُقدَّم؟ قال: ((أكثرهم قرآنا)) (¬4)؛ ولحديث رجل من الأنصار قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار وأنا غلام مع أبي، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حفيرة القبر يوصي الحافر، ويقول: ((أوسع من قبل الرأس؛ وأوسع من قبل الرجلين لرب عذق له في الجنة)) (¬5). وذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله عن الإمام أحمد أن القبر يعمّق إلى الصدر، الرجل والمرأة في ذلك سواء، قال: وكان الحسن وابن سيرين يستحبان أن يعمق القبر إلى الصدر، وذكر أن عمر بن عبد العزيز لما مات ابنه أمرهم أن يحفروا قبره إلى السرة؛ فإن ما على ظهر الأرض ¬

(¬1) أحكام الجنائز، ص198. (¬2) تقدم تخريجه في أول الأمر العاشر آنفاً. (¬3) مجموع رسائل ابن عثيمين، 17/ 131. (¬4) النسائي، برقم 2009، 2010، وأبو داود، برقم 3215،وابن ماجه، برقم 1560، والترمذي، برقم 1713، وصححه الألباني في الإرواء، برقم 743، وتقدم تخريجه في دفن الاثنين أو أكثر في قبر واحد. (¬5) أحمد واللفظ له، 5/ 408، وأبو داود بدون قوله: ((لرب عذق له في الجنة))، كتاب البيوع، باب في اجتناب الشبهات، برقم 3332، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 335، وفي أحكام الجنائز، ص181.

الأمر الثاني عشر: اللحد أفضل من الشق إذا كانت التربة صلبة لا ينهال ترابها

أفضل مما سفل منها. وذكر أبو الخطاب أنه يعمق قدر قامة وبسطة وهو قول الشافعي، ثم قال ابن قدامة: ((والمنصوص عن أحمد أن المستحب تعميقه إلى الصدر؛ لأن التعميق قدر قامة وبسطة يشق ويخرج عن العادة)) (¬1). الأمر الثاني عشر: اللحد أفضل من الشق إذا كانت التربة صلبة لا ينهال ترابها، وإن كانت رخوة تنهار فالشق أفضل؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: لما توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بالمدينة رجل يَلْحدُ وآخر يُضرّحُ (¬2) فقالوا: نستخيرُ ربنا ونبعث إليهما، فأيهما سُبق تركناه، فأُرسل إليهما فسبق صاحب اللحد فلحدوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -)) (¬3). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اختلفوا في اللحد والشق، حتى تكلّموا في ذلك وارتفعت أصواتهم، فقال عمر: لا تصخبوا (¬4) عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيّاً ولا ميتاً، أو كلمة نحوها، فأرسلوا إلى الشاقّ واللاحد جميعاً، فجاء اللاحد، فلحد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم دفن - صلى الله عليه وسلم - (¬5). وعن عامر بن سعد بن أبي وقاص أن سعد بن أبي وقاص قال في مرضه الذي هلك فيه: ((الحدوا لي لحداً، وانصبوا عليّ اللبن نصباً كما صنع برسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (¬6). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللحد لنا والشق ¬

(¬1) المغني، 3/ 426 - 427، وانظر: فتاوى اللجنة الدائمة، 8/ 422. (¬2) يضرح: ضرح للميت: حفر له ضريحاً، والضريح القبر، أو الشق، والثاني هو المراد شرعاً بالمقابلة. (¬3) ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الشق، برقم 1557، وأحمد، 1/ 8. (¬4) لا تصخبوا: أي لا تصيحوا. (¬5) ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الشق، برقم 1558، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 33. (¬6) مسلم، كتاب الجنائز، باب في اللحد ونصب اللبن على الميت، برقم 966.

* واللحد

لغيرنا)) (¬1). وعن جرير بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللحد لنا والشق لغيرنا)) (¬2). * واللحد: هو أن يحفر إذا بلغ قرار القبر في حائط القبر - جانبه مما يلي القبلة - مكاناً يسع الميت، ولا يعمق بحيث ينزل فيه جسد الميت كثيراً، بل بقدر ما يكون الجسد ملاصقاً للبن، هذا إذا كانت الأرض صلبة، وإن كانت الأرض رخوة اتخذ لها من الأحجار ونحوها ما يسندها باللحد ولا يلحد منها؛ لئلا يخر القبر على الميت. * والشق أن يحفر في وسط القبر طولاً كالنهر ويُبْنَى جانباه باللبن وغيره أو يشق وسط القبر فيصير كالحوض ثم يوضع الميت فيه، ويسقف عليه بأحجار ونحوها، ويرفع السقف قليلاً بحيث لا يمس الميت (¬3). وهذه الأحاديث السابقة تدل على أن اللحد أفضل؛ لأن الله اختاره لرسوله - صلى الله عليه وسلم -،والشق جائز عند الحاجة إليه، قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: ((واللحد معروف وهو الشق من الجانب القبلي من القبر، وفيه دليل لمذهب الشافعي والأكثرين في أن الدفن في اللحد أفضل من الشق إذا أمكن اللحد، وأجمعوا على جواز اللحد والشق ... )) (¬4). ¬

(¬1) ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في استحباب اللحد، برقم 1554، وأبو داود، كتاب الجنائز، باب في اللحد، برقم 3208، والترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اللحد لنا والشق لغيرنا)) برقم 1045، والنسائي، كتاب الجنائز، باب اللحد والشق، برقم 2008، وأحمد، 4/ 359، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 2/ 60، وفي غيره. (¬2) ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في استحباب اللحد، برقم 1555، وأحمد، 4/ 357، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 32، وانظر: أحكام الجنائز للألباني، ص182 - 184. (¬3) النهاية في غريب الحديث،3/ 81 و4/ 236،الروض المربع مع حاشية عبد الرحمن القاسم، 2/ 117 - 118. (¬4) شرح النووي على صحيح مسلم، 7/ 38.

الأمر الثالث عشر: يتولى إنزال الميت القبر الرجال؛ لأنه المعهود في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -

وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول عن حديث اللحد: ((يدل على أن اللحد أفضل؛ لأن الله اختاره لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ... )) وسمعته أيضاً يقول: (( ... وعمل الصحابة وعمل المسلمين يدل على أن اللحد والشق جائزان، وذكر النووي إجماع العلماء على جواز الأمرين، وقد كان في المدينة لاحِدٌ وشاقٌّ؛ لكن اللحد أفضل، وإذا احتيج إلى الشق جاز كما في الأرض الرخوة)) (¬1). الأمر الثالث عشر: يتولى إنزال الميت القبر الرجال؛ لأنه المعهود في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجرى عليه عمل المسلمين في كل عصر من الأعصار إلى يومنا هذا؛ ولأن الرجال أقوى على ذلك؛ ولأن النساء لو تولته أفضى ذلك إلى انكشاف شيء من أبدانهن أمام الرجال الأجانب وهذا محرم (¬2). الأمر الرابع عشر: يُغطَّى قبر المرأة عند إدخالها في القبر؛ لئلا يظهر ولا يبرز من معالم جسمها شيء؛ لما روي وذكر في ذلك من الآثار عن عمر، وعلي، وأنس، وعبد الله بن يزيد، والحسن (¬3). قال الإمام الخرقي رحمه الله: ((والمرأة يخمّر قبرها بثوب)). قال الإمام ¬

(¬1) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 600، وأثناء تقريره على منتقى الأخبار، الحديث رقم 1891. (¬2) انظر: أحكام الجنائز للألباني، ص186، وانظر: المجموع للنووي، 5/ 289. (¬3) مصنف ابن أبي شيبة، 3/ 326، كتاب الجنائز، ما قالوا في مد الثوب على القبر، قال: ((حدثنا سفيان عن أبي إسحاق قال: شهدت جنازة الحارث فمدوا على قبره ثوباً فكشفه عبد الله بن يزيد قال: ((إنما هو رجل))، ورواه البيهقي في كتاب الجنائز، باب ما روي في ستر القبر بثوب، بسنده إلى أبي إسحاق السبيعي: أنه حضر جنازة الحارث الأعور فأبى عبد الله بن يزيد أن يبسطوا عليه ثوباً، وقال: إنه رجل، وكان عبد الله بن يزيد قد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا إسناد صحيح، وإن كان موقوفاً رواه جماعة عن أبي إسحاق))، انتهى كلام الإمام البيهقي، 4/ 54، وقال الشوكاني في نيل الأوطار، 2/ 769: ((ورواه البيهقي بإسناد صحيح إلى أبي إسحاق السبيعي ... ))، ثم ساق البيهقي، 4/ 54 بإسناده إلى علي - رضي الله عنه - فقال: عن رجل من أهل الكوفة عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه أتاهم قال: ونحن ندفن ميتاً وقد بسط الثوب على قبره فجذب الثوب وقال: ((إنما يصنع هذا بالنساء))، ثم ساق أثراً آخر عن علي ثم قال: ((وهو في معنى المنقطع لجهالة الرجل من أهل الكوفة، 4/ 54، وأثر الحسن ذكره ابن أبي شيبة، 3/ 326.

الأمر الخامس عشر: أولياء الميت أحق بإنزاله

ابن قدامة: ((لا نعلم في استحباب هذا بين أهل العلم خلافاً ... )) ثم قال بعد أن ذكر بعض الآثار: (( ... ولأن المرأة عورة ولا يؤمن أن يبدو منها شيء، فيراه الحاضرون)) (¬1). وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول: ((يوضع ثوب على المرأة عند إدخالها القبر: بشت أو نحوه حتى لا يظهر من جسمها شيء)) (¬2).وبين رحمه الله عندما سئل عن تغطية القبر بالنسبة للمرأة ما حكمه؟ فقال: ((هذا أفضل)) (¬3). وذكر العلامة ابن عثيمين رحمه الله: أن هذا مما فعله السلف واستحبه العلماء رحمهم الله؛ لأن هذا أستر لها؛ ولئلا تبرز معالم جسمها، ولكن هذا ليس بواجب، ويكون هذا التخمير أو التسجية إلى أن يصفّ اللبن عليها (¬4). الأمر الخامس عشر: أولياء الميت أحق بإنزاله؛ لعموم قول الله تعالى: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله} (¬5)؛ ولحديث علي - رضي الله عنه - قال: ((غسلت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذهبت لأنظر ما يكون من الميت فلم أر شيئاً، وكان طيّباً - صلى الله عليه وسلم - حيّاً وميتاً))، وولي دفنه وإجنانه دون الناس أربعة: علي، والعباس، والفضل، وصالح مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولحد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحداً، ونصب عليه اللبن نصباً)) (¬6) (¬7). ¬

(¬1) المغني، 3/ 431، وذكر أثراً عن عمر، وآخر عن علي، وثالثاً عن أنس. (¬2) سمعته أثناء تقريره على منتقى الأخبار، الحديث رقم 1896. (¬3) مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 191. (¬4) مجموع رسائل ابن عثيمين، 17/ 173 - 174،وانظر أيضاً نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 768 - 769. (¬5) سور الأنفال، الآية: 75. (¬6) الحاكم، 1/ 362، وعنه البيهقي، 4/ 53 و3/ 388، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الألباني في أحكام الجنائز، ص187: ((بسند صحيح))، قال: وله شاهد من حديث ابن عباس أخرجه ابن ماجه، وأحمد، برقم 39، ورقم 3358، وابن سعد، 2/ 2/72، والبيهقي، 3/ 407 [أحكام الجنائز للألباني، ص183] قلت وله شواهد أخرى ذكرها الألباني في أحكام الجنائز، ص183، وص187. (¬7) وذكر الألباني شاهداً عن الشعبي مرسلاً عن مرحب أو ابن أبي مرحب أنهم - يعني عليّاً، والفضل وأخاه - أدخلوا معهم عبد الرحمن بن عوف فلما فرغ علي قال: ((إنما يلي الرجل أهله)) وله شاهد آخر عن الشعبي أيضاً، قال الألباني في أحكام الجنائز ص187: ((وهو الذي قبله شاهد قوي لحديث علي - رضي الله عنه -)).

الأمر السادس عشر: لا بأس بإدخال الزوج زوجته قبرها

وعن عامر قال: غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: علي، والفضل، وأسامة بن زيد، وهم أدخلوه قبره، قال: حدثنا مرحب - أو أبو مرحب - أنهم أدخلوا معهم عبد الرحمن بن عوف، فلما فرغ علي قال: إنما يلي الرجل أهله)) (¬1). وعن عبد الرحمن بن أبزى قال: ((صليت مع عمر بن الخطاب على زينب بنت جحش بالمدينة فكبر أربعاً، ثم أرسل إلى أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من يأمرن أن يدخلها القبر؟ قال: وكان يعجبه أن يكون هو الذي يلي ذلك، فأرسلن إليه: انظر من كان يراها في حال حياتها فليكن هو الذي يدخلها القبر، فقال عمر: ((صدقن)) (¬2) (¬3). الأمر السادس عشر: لا بأس بإدخال الزوج زوجته قبرها؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الذي بدئ فيه، فقلت: وارأساه، فقال: ((وَددتُ أن ذلك كان وأنا حيٌّ، فهيأتُك ودفنتك)) قالت: فقلت غَيْرَى: كأني بك في ذلك اليوم عَرُوساً ببعض نسائك، قال: ((وأنا وارأساه! ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتاباً فإني أخاف أن يقول قائل ويتمنَّى متمنٍّ: أنا أوْلىَ ويأبى الله - عز وجل - والمؤمنون إلا أبا بكر)) (¬4). ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الجنائز، باب كم يدخل القبر، برقم 3209، و3210، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 302. (¬2) الطحاوي، 3/ 304 - 305، وابن سعد، 8/ 111 - 112، والبيهقي، 3/ 53، قال الألباني في أحكام الجنائز، ص187: ((بسند صحيح)). (¬3) وتقدمت معظم هذه الأدلة فيمن يكون أولى بغسل الميت. (¬4) أحمد، 6/ 144، قال الألباني في أحكام الجنائز [ص188]: ((بإسناد صحيح على شرط الشيخين)) قال: ((وهو في صحيح البخاري بنحوه [برقم 5666، ورقم 7217، ومسلم، 7/ 110 مختصراً] قال وله طرق أخرى عن عائشة تقدمت [في أحكام الجنائز] ص67)) قلت: وقد قدمت تخريج بعض هذه الطرق في: لا يغسل الذكر إلا الرجال أو الزوجة أو الأمة، ولا يغسل الأنثى إلا النساء أو الزوج.

الأمر السابع عشر: ينزل المرأة قبرها من لم يطأ في الليلة السابقة

الأمر السابع عشر: ينزل المرأة قبرها من لم يطأ في الليلة السابقة؛ لحديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: شهدنا بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس على القبر، فرأيتُ عينيه تدمعان، فقال: ((هل فيكم من أحد لم يقارف الليلة؟)) فقال أبو طلحة، أنا، قال: ((فانزل في قبرها)) [فنزل في قبرها] فقبرها ... )) (¬1). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: ((وفي هذا الحديث جواز البكاء كما ترجم له، وإدخال الرجال المرأة قبرها؛ لكونهم أقوى على ذلك من النساء، وإيثار البعيد العهد عن الملاذ في مواراة الميت - ولو كان امرأة - على الأب والزوج، وقيل: إنما آثره بذلك؛ لأنها كانت صنعته، وفيه نظر؛ فإن ظاهر السياق أنه - صلى الله عليه وسلم - اختاره لذلك؛ لكونه لم يقع منه تلك الليلة جماع، وعلَّل ذلك بعضهم بأنه حينئذٍ يأمن من أن يذكّره الشيطان بما كان منه في تلك الليلة، وحكى ابن حبيب أن السر في إيثار أبي طلحة على عثمان أن عثمان كان قد جامع بعض جواريه في تلك الليلة فتلطّف - صلى الله عليه وسلم - في منعه من النزول في قبر زوجته (¬2) بغير تصريح، ووقع في رواية حماد المذكورة فلم يدخل عثمان القبر، وفيه جواز الجلوس على شفير القبر عند الدفن)) (¬3). الأمر الثامن عشر: يدخل الميت من قِبَل رجلي القبر؛ لحديث أبي إسحاق قال: أوصى الحارث أن يُصلّي عليه عبد الله بن زيد، فصلى عليه ثم أدخله القبر من قبل رجلي القبر، وقال: ((هذا من ¬

(¬1) البخاري، كتاب الجنائز، باب من يَدخُلُ قبر المرأة، برقم 1342، وباب زيارة القبور، برقم 1285، وما بين المعقوفين من هذا الموضع. (¬2) رجح الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري، 3/ 158: أنها أم كلثوم رضي الله عنها بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - وزوجة عثمان - رضي الله عنه -. (¬3) فتح الباري لابن حجر 3/ 159.

الأمر التاسع عشر: يقول عند إدخال الميت القبر: بسم الله وعلى ملة رسول الله

السنة)) (¬1) (¬2). وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يقول: ((هذا أحسن ما ورد في ذلك، ورُوي في ذلك نوعان آخران: أحدهما سلَّه من جهة القبلة، والثاني سَلَّه من جهة رأس القبر، والأمر في هذا واسع، ولكن أحسن ما ورد ما رواه عبد الله بن زيد؛ لأن قوله من السنة في حكم المرفوع عند أهل العلم (¬3). الأمر التاسع عشر: يقول عند إدخال الميت القبر: ((بسم الله وعلى ملة رسول الله))،أو يقول: ((بسم الله وعلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -))؛لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا وضع الميت في القبر قال: ((بسم الله وعلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)).وهذا لفظ أبي داود، ولفظ الترمذي: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أدخل الميت القبر - وقال أبو خالد مرة: إذا وضع الميت في لحده - قال:- مرة -: ((بسم الله وبالله، وعلى ملة رسول الله)).ولفظ ابن ماجه: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أدخل الميت القبر قال: ((بسم الله وعلى ملة رسول الله)).وفي لفظ: ((إذا وضع الميت في لحده قال: بسم الله وعلى سنة رسول الله)).وفي لفظ: ((بسم ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الجنائز، باب في الميت يدخل من رجليه، برقم 3211، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 302. (¬2) قال الترمذي رحمه الله، في كتاب الجنائز، باب ما جاء في الدفن بالليل، برقم 1057، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل قبراً ليلاً فأُسرج له سراج فأخذه من قبل القبلة، وقال: ((رحمك الله إن كنت لأوَّاهاً تلاَّءً للقرآن وكبر عليه أربعاً))، وفي إسناده الحجاج بن أرطأة عن عطاء. قال الترمذي: ((حديث ابن عباس حديث حسن، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا، وقال: يدخل الميت من قبل القبلة، وقال بعضهم: يسل سلاًّ ... )) وقال عبد القادر الأرنؤوط في تحقيقه لجامع الأصول، 11/ 142: ((وهو حديث حسن))، ولكن ضعفه جماعة من أهل العلم منهم الألباني في أحكام الجنائز، ص190، قال المباركفوري: (( ... يدخل الميت القبر من قبل الرأس بأن يوضع رأس الجنازة على مؤخرة القبر ثم يدخل الميت القبر، وهو قول الشافعي وأحمد، والأكثرين وهو الأقوى والأرجح دليلاً)) [تحفة الأحوذي، 4/ 164]. وذكر الألباني في الأحكام، ص190 - 191 صوراً ثلاثاً هي: أ - يدخل الميت من قبل رجلي القبر، وصححها. ب - يدخل الميت من قبل القبلة وضعفها. ج - يدخل الميت من قبل رأسه وضعفها. (¬3) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 596،وانظر سبل السلام للصنعاني، 3/ 372، والمغني، لابن قدامة، 3/ 425.

الأمر العشرون: يجعل الميت في قبره على جنبه الأيمن، ووجهه قبالة القبلة

الله، وفي سبيل الله، وعلى ملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (¬1). الأمر العشرون: يجعل الميت في قبره على جنبه الأيمن، ووجهه قبالة القبلة، ورأسه إلى يمين القبلة، ورجلاه إلى يسار القبلة، على هذا جرى عمل أهل الإسلام من عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا، وهكذا كل مقبرة على ظهر الأرض (¬2)،وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((البيت الحرام قبلتكم أحياءً وأمواتاً)) (¬3).وينبغي أن يُدنى من حائط القبر القبلي الأمامي؛ لئلا ينكب على وجهه، وأن يسند من خلف ظهره بتراب؛ لئلا ينقلب على ظهره (¬4) (¬5). الأمر الواحد والعشرون: تحل عن الميت العقد إذا وضع الميت داخل القبر على جنبه الأيمن (¬6)، قال الإمام الخرقي رحمه الله: ((وتحل العقد))، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((وأما حل العقد من عند رأسه ورجليه فمستحب؛ لأن عقدها كان للخوف من انتشارها وقد أُمن ذلك بدفنه، وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أدخل نعيم بن مسعود الأشجعي القبر نزع ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الجنائز، باب الدعاء للميت إذا وُضع في قبره، برقم 3213، والترمذي، كتاب الجنائز، باب ما يقول إذا أُدخل الميت القبر، برقم 1046، وابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في إدخال الميت القبر، برقم: 1660، وأحمد، 2/ 40، وصححه الألباني في صحيح السنن المتقدمة، وفي أحكام الجنائز، ص192. (¬2) انظر: المحلى لابن حزم، 5/ 173، وأحكام الجنائز للألباني، ص192. (¬3) أبو داود، برقم 2875، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 209، وتقدم تخريجه في توجيه المحتضر إلى القبلة. (¬4) الروض المربع مع حاشية عبد الرحمن القاسم، 2/ 122، وانظر الشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، 6/ 223. (¬5) وقيل: يجعل تحت رأسه لبنة فإن لم توجد فحجر، فإن عدم فقليل من تراب كما يصنع بالحي، وإن تركه فلا بأس، وقيل: يتركه فلا بأس بدون ذلك. الشرح الكبير، 6/ 223، 224، والمغني، 3/ 428،واختار ابن عثيمين في الشرح الممتع، 5/ 455:أنه لا يوضع تحت رأس الميت شيء، لعدم الدليل. (¬6) مصنف ابن أبي شيبة، كتاب الجنائز، ما قالوا في حل العقد عن الميت، 3/ 326 قال: ((حدثنا خلف بن خليفة عن أبيه أظنه سمعه من معقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أدخل نعيم بن مسعود الأشجعي القبر ونزع الأخلة يعني العقد)) وجاء في هذا الموضع عن أبي هريرة، وعن أبي بكر بن عياش عن مغيرة عن إبراهيم قال: ((إذا أدخل الميت القبر حل عنه العقد كلها. وعن جابر عن عامر قال: يحل عن الميت العقد، وأوصى الضحك أن يحل عنه العقد، وعن ابن سيرين قال: يحل عن الميت العقد، المصنف 3/ 326.

الأمر الثاني والعشرون: ينصب على فتحة اللحد اللبن نصبا فيصف على فتحة اللحد

الأخلة بفيه (¬1). وعن ابن مسعود، وسمرة بن جندب نحو ذلك (¬2) (¬3). وقال شيخنا ابن باز رحمه الله في حل العقد عن الميت في القبر: ((هذا هو الأفضل لفعل الصحابة - رضي الله عنهم -)) (¬4) (¬5). الأمر الثاني والعشرون: ينصب على فتحة اللحد اللبن نصباً فيصف على فتحة اللحد من خلف الميت وينصب نصباً مرصوصاً، ويسد ما بين اللبن من خلل بقطع اللبن، فإذا أُحكم جعل الطين فوق ذلك حتى يسد الخلل بإحكام وإتقان؛ لئلا يصل التراب إلى الميت، فإن لم يكن لبن وضع حجر أو نحوه، وأُلحم بالطين حتى يلتحم (¬6). الأمر الثالث والعشرون: يُحثى بعد الفراغ من سد اللحد ثلاث حثيات على القبر؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على جنازة، ثم أتى قبر الميت فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثاًً)) (¬7). قال الإمام الصنعاني رحمه الله: ((وفيه دلالة على مشروعية الحثي على القبر ثلاثاً، وهو يكون باليدين معاً؛ لثبوته في حديث عامر بن ربيعة ففيه: ((حثى بيديه)) (¬8) (¬9). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله يقول: ((والحثي ¬

(¬1) سنن البيهقي، كتاب الجنائز، باب عقد الأكفان عند خوف الانتشار وحلها إذا أدخلوه القبر، 3/ 407. (¬2) انظر: المرجع السابق، 3/ 407. (¬3) المغني لابن قدامة، 3/ 434. (¬4) مجموع الفتاوى، 13/ 195. (¬5) وانظر: مجموع رسائل ابن عثيمين، 17/ 183. (¬6) انظر: المغني لابن قدامة، 3/ 428 - 429، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، لابن قدامة، 6/ 224، والكافي، 2/ 66، والروض المربع مع حاشية عبد الرحمن القاسم، 2/ 122 - 123، ومجموع فتاوى اللجنة الدائمة، 8/ 426. (¬7) ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في حثو التراب في القبر، برقم 1565، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 35، وفي أحكام الجنائز، ص193، وإرواء الغليل، برقم 751. (¬8) الدارقطني في السنن، 2/ 76. (¬9) سبل السلام، 3/ 383.

الأمر الرابع والعشرون: يرفع القبر عن الأرض قدر شبر

عليه في هذا الحديث من باب المشاركة إذا كان الناس كثيراً، وجاء في لفظ: ((بيديه)) (¬1)، وسمعته أيضاً يقول: ((هذا يدل على أنه يستحب لمن حضر الدفن أن يشارك مع الناس ولو بثلاث حثيات)) (¬2) (¬3). ويُهال على القبر التراب (¬4)، ولا يزاد عليه من غير ترابه، وإنما يجعل التراب الذي أخرج من القبر من غير زيادة (¬5). الأمر الرابع والعشرون: يرفع القبر عن الأرض قدر شبر؛ لأن تسويته بالأرض تعرضه للإهانة؛ ولأن رفعه عن الأرض بهذا القدر يجعله يتميز ولا يهان؛ لحديث جابر - رضي الله عنه - ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُلحد له لحداً، ونصب عليه اللبن نصباً، ورفع قبره عن الأرض نحواً من شبر)) (¬6).قال العلامة الألباني رحمه الله: ((ويؤيد ما سيأتي من النهي عن الزيادة على التراب الذي أُخرج من اللحد الذي شغله جسم الميت وذلك يساوي القدر المذكور في الحديث)) (¬7). قال شيخنا ابن باز رحمه الله ما ملخصه: ((وإذا دفنوا القبر بتراب، جعلوا عليه حصباء، ورشوه بالماء حتى يثبت بها التراب فكل هذا لا بأس به؛ لأن فيه حفظاً لترابه، وبقاء له، والمشروع [في رفع القبر] شبر، أو ما حوله، أما رفعه كثيراً فلا يجوز؛ لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعلي - رضي الله عنه -: ((لا تدع صورة ¬

(¬1) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 603. (¬2) سمعته أثناء تقريره على منتقى الأخبار، الحديث رقم 1899. (¬3) وانظر: الشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، 6/ 250. (¬4) انظر: المغني، 3/ 429. (¬5) انظر: الكافي لابن قدامة، 2/ 68. (¬6) البيهقي، 3/ 410، كتاب الجنائز، باب لا يزاد في القبر على أكثر من ترابه؛ لئلا يرتفع، وابن حبان في صحيحه [موارد]، برقم 2160، وحسن إسناده الألباني في أحكام الجنائز، ص195، وذكر رحمه الله في هذا الموضع له شواهد أخرى. (¬7) أحكام الجنائز، ص195.

إلا طمستها ولا قبراً مشرِفاً إلا سويته)) (¬1) (¬2). وعن جابر - رضي الله عنه - قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر، أو يقعد عليه، وأن يبنى عليه)) (¬3). ولفظ النسائي: ((أن يبنى على القبر، أو يزاد عليه، أو يجصص، أو يكتب عليه)) (¬4). وفي سنن أبي داود: ((نهى أن يُقعد على القبر، وأن يُقصص، ويُبنى عليه، أو يزاد عليه، أو أن يُكتب عليه)) (¬5). ولفظ الترمذي: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها، وأن يبنى عليها، وأن توطأ)) (¬6). ولفظ ابن ماجه: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تجصيص القبور)) (¬7). وفي لفظ له: ((أن يكتب على القبر شيء)) (¬8). وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول: ((والزيادة عليه من غير ترابه تُفضي إلى رفعه، فلا يزاد عليه بل يكتفى بما أخذ من تراب لحده)) (¬9)، وسمعته في موضع آخر يقول: ((لا يجوز البناء على القبور، والتجصيص، ولا يقعد عليها، ولا البناء عليها، ولا توطأ، ولا يزاد عليها ¬

(¬1) مسلم، كتاب الجنائز، باب الأمر بتسوية القبور، برقم 969. (¬2) مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 208، 209. (¬3) مسلم، كتاب الجنائز، باب النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه، برقم 970. (¬4) النسائي، كتاب الجنائز، باب الزيادة على القبر، برقم 2026 وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 2/ 64. (¬5) سنن أبي داود، كتاب الجنائز، باب في البناء على القبور برقم 3225، 3226، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 305. (¬6) الترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء في كراهية تجصيص القبور والكتابة عليها برقم 1052، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 537. (¬7) العرب تسمي الجص قصة، وتقصيص القبر: بناؤه بالقصة: وهي الجص [جامع الأصول، لابن الأثير، 11/ 146]. (¬8) ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في النهي عن البناء على القبور، وتجصيصها، والكتابة عليها، برقم1562، 1563،وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه،2/ 34. (¬9) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 602.

الأمر الخامس والعشرون: يسنم القبر كهيئة سنام الجمل

من غير ترابها)) (¬1).وجاء في ذلك آثار كثيرة أنه لا يزاد على تراب اللحد الذي أخذ من القبر، بل يكفي ذلك للدفن (¬2). الأمر الخامس والعشرون: يسنم القبر كهيئة سنام الجمل؛ لحديث سفيان التمار: ((أنه رأى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مسنماً)) (¬3). ولفظ ابن أبي شيبة: ((دخلت البيت الذي فيه قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فرأيت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقبر أبي بكر، وقبر عمر مسنمة)) (¬4). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((واستدل به على أن المستحب تسنيم القبور وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد، والمزني وكثير من الشافعية ... )) (¬5). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((وتسنيم القبر أفضل من تسطيحه، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، والثوري ... )) (¬6). السادس والعشرون: توضع على القبر الحصباء؛ لحديث القاسم قال: دخلت على عائشة فقلت: يا أُمَّهْ! اكشفي لي عن قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه رضي الله عنهما فكشفت لي عن ثلاثة قبور: لا مُشرفة، ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرْصَةِ الحمراء)) قال أبو علي [اللؤلؤي] يقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُقدّمٌ، وأبو بكر عند رأسه، وعمر عند رجليه، رأسه عند رجلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (¬7). ¬

(¬1) سمعته أثناء تقريره على منتقى الأخبار، برقم 1905 - 1907. (¬2) انظر: سنن البيهقي، 3/ 410،كتاب الجنائز، باب لا يزاد في القبر على أكثر من ترابه؛ لئلا يرتفع. (¬3) البخاري، كتاب الجنائز، باب ما جاء في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، برقم 1390. (¬4) مصنف ابن أبي شيبة، كتاب الجنائز، ما قالوا في القبر يسنم، 3/ 334، وذكر في هذا الموضع ثلاثة آثارٍ أخر في تسنيم قبور بعض الصحابة، وأخرجه بلفظ ابن أبي شيبة أبو نعيم في المستخرج كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري، 3/ 257. (¬5) فتح الباري، 3/ 257. (¬6) المغني، 3/ 437. (¬7) أبو داود، كتاب الجنائز، باب تسوية القبر، برقم 3220، والبيهقي في كتاب الجنائز، باب تسوية القبور وتسطيحها، 4/ 3، والحاكم، 1/ 369، وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه عبد القادر الأرناؤوط في تحققه لجامع الأصول لابن الأثير، 1/ 82.

والبطحاء في هذا الحديث: هو الحصى الصغار، ويقال: بطحاء الوادي وأبطحه: هو حصاه اللين في بطن المسيل (¬1)، وقوله: ((ولا لاطئة)) يقال: لطئ بالأرض ولطأ بها إذا لزق)) (¬2)، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((والمشرف ما رفع كثيراً)) (¬3)، وقال رحمه الله: ((ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر؛ ليعلم أنه قبر، فيتوقى، ويترحم على صاحبه)) (¬4)، وقد جاء آثار كثير تدل على وضع الحصباء على القبور، ومن ذلك ما رواه جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رشَّ على قبر إبراهيم ابنه الماء ووضع عليه حصباء)) (¬5)، وغير ذلك من الآثار (¬6). ولا منافاة بين التسنيم للقبر وبين قوله: مبطوح ببطحاء العرصة الحمراء، فبطحاء العرصة هو الحصباء الصغير؛ ولهذا جمع الإمام ابن القيم رحمه الله بين حديث سفيان التمار في قوله: ((إنه رأى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مسنماً))، وحديث القاسم: ((لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء)) فقد جمع بين الحديثين فقال: ((وقبره - صلى الله عليه وسلم - مسنم مبطوح ببطحاء العرصة الحمراء لا مبني ولا مطيَّن، وهكذا كان قبر صاحبيه)) (¬7). وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول في الجمع بين الحديثين: ((السنة أن يكون القبر مسنماً، وحديث عائشة رضي الله عنها لا ينافي ذلك، فهو يكون مسنماً حتى يرد عنه الماء وتوضع عليه حصباء ويرش)) (¬8). ¬

(¬1) النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير، 1/ 134. (¬2) النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير، 4/ 249. (¬3) المغني، 3/ 436. (¬4) المغني، 3/ 435. (¬5) البيهقي،3/ 411،وقال الألباني في إرواء الغليل،3/ 206: ((وهذا سند صحيح مرسل)). (¬6) انظر: سنن البيهقي، 3/ 411، كتاب الجنائز، باب رش الماء على القبر ووضع الحصباء عليه، وإرواء الغليل للألباني، 3/ 205 - 506. (¬7) زاد المعاد، 1/ 524. (¬8) سمعته أثناء تقريره على منتقى الأخبار، الحديث رقم 1900، 1901.

السابع والعشرون: يعلم القبر بحجر أو لبن، أو خشبة

السابع والعشرون: يُعلّم القبر بحجر أو لبن، أو خشبة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علَّم قبر عثمان بن مظعون - رضي الله عنه - بحجر وضعه عند رأسه وقال: ((أتعلَّم بها قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي)) (¬1). قال الإمام شيخنا عبد العزيز ابن باز رحمه الله: ((لا بأس بوضع علامة على القبر ليعرف: كحجر، أو عظم، أو حديد، من غير كتابة ولا أرقام؛ لأن الأرقام كتابة، وقد صح النهي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكتابة على القبر، أما وضع حجر على القبر، أو صبغ الحجر بالأسود أو الأصفر حتى يكون علامة على صاحبه فلا يضر)) (¬2). الثامن والعشرون: رشّ القبر بالماء بعد الانتهاء من أعمال الدفن، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((ويستحب أن يرش على القبر ماء؛ ليلتزق ترابه)) (¬3). وقد ورد في ذلك آثار كثيرة منها ما جاء عن جعفر بن محمد عن أبيه: ((أن الرش على القبر كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (¬4)، وغير ذلك من الآثار (¬5). قال الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله في حكم وضع الحصباء على القبر ورشه بالماء: ((هذا مستحب إذا تيسر ذلك؛ لأنه يثبّت التراب ويحفظه، ويروى أنه وضع على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بطحاء، ويستحب أن يرش ¬

(¬1) أبو داود، برقم 3206، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 301، وتقدم تخريجه في الأمر التاسع: جمع الأقارب في مقبرة واحدة. (¬2) مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 200. (¬3) المغني، 3/ 436، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، 6/ 225 - 228. (¬4) البيهقي في الكبرى، 3/ 411، كتاب الجنائز، باب رش الماء على القبر ووضع الحصباء عليه، وقال الألباني في إرواء الغليل،3/ 206: ((وهذا سند صحيح مرسل)) وانظر في هذا الموضع آثاراً كثيرة، وفي نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 772 - 773. (¬5) منها جملة ذكرها ابن أبي شيبة في المصنف، 3/ 379 - 380،كتاب الجنائز، في رش الماء على القبر.

الأمر التاسع والعشرون: يقف الحاضرون بعد الفراغ من الدفن على القبر يدعون للميت بالتثبيت

بالماء حتى يثبت التراب ويبقى القبر واضحاً معلوماً حتى لا يمتهن)) (¬1)، وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: ((لا بأس أن يرش؛ لأن الماء يمسك التراب فلا يذهب يميناً ويساراً)) (¬2). الأمر التاسع والعشرون: يقف الحاضرون بعد الفراغ من الدفن على القبر يدعون للميت بالتثبيت ويستغفرون له، ويؤمر جميع الحاضرين بذلك؛ لحديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: ((استغفروا لأخيكم، وسلُوا له التثبيت؛ فإنه الآن يُسأل)) (¬3). قال الإمام الشوكاني رحه الله: ((فيه مشروعية الاستغفار للميت عند الفراغ من دفنه، وسؤال التثبيت له؛ لأنه يُسأل في تلك الحال، وفيه دليل على ثبوت حياة القبر، وقد ورد بذلك أحاديث كثيرة بلغت حد التواتر)) (¬4).وقد تقدمت الأدلة على فتنة القبر في أول الكتاب. أسأل الله لي ولجميع المؤمنين العفو والعافية والثبات في الحياة الدنيا وبعد الممات (¬5). التاسع عشر: آداب الجلوس والمشي في المقابر كثيرة، منها: 1 - استقبال القبلة في الجلوس لمن كان ينتظر دفن الجنازة؛ لحديث ¬

(¬1) مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 198. (¬2) مجموع رسائل ابن عثيمين، 17/ 194. (¬3) أبو داود، كتاب الجنائز، باب الاستغفار عند القبر للميت في وقت الانصراف، برقم 3221، والحاكم، وصححه ووافقه الذهبي، 1/ 370، والبيهقي، 4/ 56، وصحح إسناده الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 305، وأحكام الجنائز، ص198. (¬4) نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 781. (¬5) أما خبر تلقين الميت الذي يفعله الشاميون فذكر أهل العلم أنه لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أصحابه - رضي الله عنهم -، وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 605: ((وهذا فعله جماعة من الشاميين والجمهور على خلافهم، والأظهر والله أعلم أن هذا الحديث موضوع كما ذكر صاحب المنار، ولم يفعله الصحابة - رضي الله عنهم -)). وقال رحمه الله في مجموع الفتاوى له، 13/ 206، في حكم التلقين بعد الدفن: ((بدعة وليس له أصل فلا يلقن بعد الموت، وقد ورد في ذلك أحاديث موضوعة ليس لها أصل وإنما التلقين يكون قبل الموت)).

2 - تحريم الجلوس على القبر

البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: ((خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولم يلحد بعد، فجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - مستقبلاً القبلة وجلسنا معه)) (¬1)، قال الإمام الشوكاني رحمه الله: ((فيه دليل استحباب الاستقبال في الجلوس لمن كان منتظراً دفن الجنازة)) (¬2). 2 - تحريم الجلوس على القبر؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر)) (¬3). 3 - لا يُصلى إلى القبور؛ لحديث أبي مرثد الغنوي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها)) (¬4). 4 - لا يُتكأ على القبر؛ لحديث عمرو بن حزم الأنصاري - رضي الله عنه - قال: رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متكئاً على قبر فقال: ((لا تؤذِ صاحب هذا القبر - أو لا تؤذه -)) (¬5). 5 - لا يمشى بالنعال بين القبور إلا لضرورة؛ لحديث بشير مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يمشي ين القبور عليه نعلان فقال: ((يا صاحب السبتيتين: ويحك ألق سبتيتيك)) فنظر الرجل فلما عرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلعهما فرمى بهما)) (¬6). قال الإمام الشوكاني رحمه الله: ((وفي ذلك دليل على أنه لا يجوز ¬

(¬1) أبو داود، برقم 3212، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 303، وتقدم تخريجه في حديث الموعظة عند القبر، وهو عند أبي داود مطولاً، برقم 4753. (¬2) نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 776. (¬3) مسلم، كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه، برقم 971. (¬4) مسلم، كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه، برقم 972. (¬5) أحمد، 39/ 475 برقم 24009/ 38، قال الشوكاني في نيل الأوطار، 2/ 777: ((قال الحافظ في الفتح: إسناده صحيح))، وقال محققو مسند الإمام أحمد، 39/ 475: ((حديث صحيح)). (¬6) أبو داود، برقم 3230، والنسائي، برقم 2047، وابن ماجه، برقم 1568، وأحمد، 5/ 83، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 70، وأحكام الجنائز، ص173، وتقدم تخريجه في تحريم الدفن في قبور المشركين.

6 - تحريم الصلاة في المقبرة

المشي بين القبور بالنعلين ... [و] سماع الميت لخفق النعال (¬1) لا يستلزم أن يكون المشي على قبر أو بين القبور فلا معارضة)) (¬2). وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول في حديث بشير: ((وهذا يدل على كراهة المشي بين القبور بالنعال، وإسناده جيد، لكن إذا دعت الحاجة إلى ذلك: كالحر وغيره زالت الكراهة، أما حديث: ((يسمع قرع نعالهم)) فلا يلزم بأنه على القبور، فيكون خارجاً، أو يقال: ذلك عند الحاجة)) (¬3). وأوضح العلامة ابن عثيمين رحمه الله: أن المشي بين القبور بالنعال مكروه وخلاف السنة إلا لحاجة، كشدة حر، أو يكون في المقبرة شوك، أو حصى يؤذي الرجل فلا بأس به (¬4). 6 - تحريم الصلاة في المقبرة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيّن أن القبور ليست من مواضع الصلاة، فقال: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) (¬5). وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً)). وفي لفظ: ((صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً)) (¬6)،والمعنى: صلوا فيها ولا تجعلوها كالقبور مهجورة من الصلاة (¬7). ¬

(¬1) يشير إلى حديث ((يسمع قرع نعالهم)). (¬2) نيل الأوطار، 2/ 777 - 778، ببعض التصرف اليسير. (¬3) سمعته أثناء تقريره على منتقى الأخبار، الحديث رقم 1913. (¬4) مجموع رسائل ابن عثيمين،17/ 200 - 202،وانظر الشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، 6/ 236. (¬5) أبو داود، كتاب المناسك، باب زيارة القبور، برقم 2042، وأحمد، 2/ 367، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 570، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬6) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة النافلة في بيته، برقم 777. (¬7) شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 314.

7 - المقابر ليست من المواضع التي يرغب في قراءة القرآن فيها

7 - المقابر ليست من المواضع التي يرغب في قراءة القرآن فيها؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة)) (¬1). 8 - لا تبنى عليها المساجد؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما حينما ذكرتا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنيسة في الحبشة فيها تصاوير قال: ((إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة)) (¬2). 9 - لا تتخذ مساجد؛ لحديث جندب - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس وهو يقول: ((إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك)) (¬3). وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) قالت عائشة رضي الله عنها: يحذر ما صنعوا)) (¬4). ¬

(¬1) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة النافلة في بيته، برقم 1179. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب هل ننبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد، 1/ 523، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها، والنهي عن اتخاذ القبور مساجد، برقم 528. (¬3) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، واتخاذ الصور فيها، والنهي عن اتخاذ القبور مساجد، برقم 530. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب حدثنا أبو اليمان، 1/ 532، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، واتخاذ الصور فيها، والنهي عن اتخاذ القبور مساجد، برقم 529.

10 - لا تبنى عليها القباب ولا ترفع أكثر من شبر

10 - لا تُبنى عليها القباب ولا تُرفع أكثر من شبر؛ لحديث أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألاّ تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سوّيته)) (¬1). 11 - لا تتخذ عليها السرج؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج)) (¬2)، ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن زوَّارات القبور)) (¬3). 12 - لا تُجصص القبور؛ لحديث جابر - رضي الله عنه -: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر، أو يقعد عليه، أو يُبنى عليه)) (¬4). 13 - لا يُقعد على القبر؛ لحديث جابر السابق. 14 - لا يُزاد عليها من غير ترابها، لحديث جابر في لفظ عند النسائي (¬5). 15 - لا يُكتب عليها شيء؛ لحديث جابر في لفظه عند أبي داود (¬6)، والترمذي (¬7). ¬

(¬1) مسلم، كتاب الجنائز، باب الأمر بتسوية القبور، برقم 969، 3/ 266. (¬2) النسائي، كتاب الجنائز، باب التغليظ في اتخاذ السرج على القبور، 4/ 94، وأبو داود، كتاب الجنائز، باب في زيارة النساء القبور، 3/ 218، والترمذي، كتاب الصلاة، باب كراهية أن يتخذ على القبر مسجداً، 2/ 136،وابن ماجه في الجنائز، باب النهي عن زيارة النساء القبور، 1/ 502، وأحمد، 1/ 229، 287، 324، 2/ 337، 3/ 442، والحاكم، 1/ 374، وانظر ما نقل صاحب فتح المجيد في تصحيح الحديث عن ابن تيمية، ص276. (¬3) الترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء في كراهية زيارة القبور للنساء، برقم 1056، وابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في النهي عن زيارة النساء للقبور، برقم 1576،وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي،1/ 538،وصحيح سنن ابن ماجه،2/ 38. (¬4) مسلم، برقم 970 وتقدم في الأمر الرابع والعشرين: يرفع القبر عن الأرض شبراً. (¬5) برقم 2026. (¬6) برقم 3225، 3226. (¬7) برقم 1052.

16 - لا توطأ

16 - لا تُوطأ؛ لحديث جابر في لفظه عند الترمذي (¬1). 17 - لا يبنى عليها؛ لحديث جابر في لفظه عند الترمذي (¬2)، وعند ابن ماجه (¬3). 18 - لا تتخذ القبور عيداً فيتردد إليها الناس في أوقات محددة وفي أزمان مؤرخة لا يأتونها إلا فيها؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) (¬4). 19 - لا تُشد الرحال إلى زيارتها؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى)) (¬5). 20 - لا يُذبح ولا يُنحر عن القبور؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - يرفعه: ((لا عقر في الإسلام)) قال عبد الرزاق بن همام: كانوا يعقرون بقرة أو شاة (¬6)، هذا إذا كان الذبح أو النحر عند القبور يتقرب به إلى الله تعالى فهو بدعة، أما إذا كان الذبح لصاحب القبر فهو شرك أكبر يخرج صاحبه من الملة (¬7). 21 - لا تكسر عظام أهل القبور؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن كسر عظم المؤمن ميتاً مثل كسره حيًّا)) (¬8). 22 - لا يُسبُّ الأموات؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تسبُّوا ¬

(¬1) برقم 1052. (¬2) برقم 1052. (¬3) برقم 1562، 1563،وسبق تخريج الحديث بألفاظه وقد صححها الألباني في جميع الألفاظ لما تقدم. (¬4) أبو داود، برقم 2042، وأحمد، 2/ 367، وتقدم تخريجه في رقم 6 من هذا المبحث. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، برقم 3/ 63، ومسلم بلفظه، كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى الحج وغيره، برقم 1397، 2/ 976. (¬6) أبو داود، كتاب الجنائز، باب كراهية الذبح عند القبر، برقم 3222، ومصنف عبد الرزاق، برقم 6690، والبيهقي، 4/ 57، وأحمد، 3/ 197، قال الألباني في أحكام الجنائز: ((وإسناده صحيح)). (¬7) انظر: أحكام الجنائز للألباني، ص259. (¬8) أحمد، 6/ 58، وأبو داود برقم 3207، وابن ماجه، برقم 6616، وتقدم تخريجه في معرفة حرمة المسلم ومنزلته.

العشرون: التعزية:

الأموات؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا)) (¬1). وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول: ((وهذا هو الأصل؛ إلا إذا كان في سبهم مصلحة للناس، كمن قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وجبت)) عندما مُرَّ بجنازة فأثني عليها خيراً، [ومُرَّ بأخرى فأثني عليها شرًّا] (¬2). العشرون: التعزية: العزاء يقال: تعزيتُ عنه: أي تصبرت، أصلها تعزَّزت، والاسم منه العزاء (¬3) والتعزي: التأسي والتصبر عند المصيبة، وأن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون)) (¬4). والتعزية: التصبير على ما أصاب من المكروه (¬5)، والتعزية يُراعى فيها الأمور الآتية: الأمر الأول: فضل تعزية المصاب، جاء في ذلك فضل عظيم؛ لحديث عمرو بن حزم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله سبحانه من حلل الكرامة يوم القيامة)) (¬6). وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من عزّى أخاه المؤمن في مصيبة كساه الله حُلة خضراء يُحْبَرُ بها يوم القيامة)) قيل: يا رسول الله، ما ¬

(¬1) البخاري، كتاب الجنائز، باب ما ينهى من سب الأموات، برقم 1393، وروى الترمذي، برقم 1982، عن المغيرة - رضي الله عنه - نحوه، ولكن قال: ((فتؤذوا الأحياء)). (¬2) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 1393. (¬3) لسان العرب لابن منظور، 5/ 377. (¬4) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، 3/ 223. (¬5) انظر: معجم لغة الفقهاء، لمحمد روَّاس، ص280. (¬6) ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في ثواب من عزى مصاباً، برقم 1600، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 45. وأخرجه أيضاً أحمد، 1/ 201، وانظر: إرواء الغليل، 3/ 217. وجاء من حديث ابن مسعود يرفعه: ((من عزَّى مصاباً فله مثل أجره)) [الترمذي، برقم 1073، وابن ماجه، برقم 1602] وضعفه الشوكاني في نيل الأوطار، 2/ 787،والألباني ذكر له طرقاً كثيرة ثم ضعفه، انظر: إرواء الغليل،3/ 219 - 220،وأحكام الجنائز للألباني، وفضل الله على عباده أوسع.

الأمر الثاني: ألفاظ التعزية، وصفتها، يقوم المعزي بتعزية المصاب بما يسليه

يُحبرُ؟ قال: ((يغبط)) (¬1). الأمر الثاني: ألفاظ التعزية، وصفتها، يقوم المعزّي بتعزية المصاب بما يسلّيه، ويصبّره، ويحمله على: الرضا، والصبر، واحتساب المصيبة عند الله تعالى، والثقة بالله سبحانه وأنه لا يخلف الميعاد، ويكون ذلك بما تيسر من الترغيب في الأجر والثواب، والاحتساب من القرآن الكريم والسنة الصحيحة، أو بما تيسر من الكلام الذي يخفف المصيبة، ويبرّد حرارتها (¬2) على حسب نوع المصيبة وحال المصاب، من ذلك ما يأتي: 1 - ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابنته حينما كان ولدها في الغرغرة: ((إن لله ما أخذ و [لله] ما أعطى، وكل شيء عنده إلى أجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب)) (¬3). 2 - يناسب أن يقال لمن فقد ولده ما ثبت في حديث قرة بن إياس، قال: كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس يجلس إليه نفر من أصحابه، وفيهم رجل له ابن صغير يأتيه من خلف ظهره فيقعده بين يديه، فهلك فامتنع الرجل أن يحضر الحلْقة لذكر ابنه، فحزن عليه، ففقده النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ما لي لا أرى فلاناً؟)) قالوا: يا رسول الله بُنيَّه الذي رأيته هلك، فلقيه النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن بُنيّهُ؟ فأخبره أنه هلك فعزَّه عليه ثم قال: ((يا فلان أيُّما كان أحبَّ إليك أن تمتَّع به عُمرك؟ أو لا تأتي غداً إلى باب من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه يفتح لك؟)) قال: يا نبي الله بل يسبقنى إلى باب الجنة فيفتحها ¬

(¬1) قال الألباني: ((أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد، 7/ 397، قال: وله شاهد عن طلحة بن عبيد الله بن كريز مقطوعاً أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، 4/ 164، وهو حديث حسن بمجموع الطريقين كما بينته في إرواء الغليل، رقم 764)) [أحكام الجنائز للألباني، ص206]. (¬2) قد ذكرت جملة من الآيات والأحاديث التي تبرّد حرارة المصيبة في رسالة لطيفة بعنوان: ((تبريد حرارة المصيبة عند فقد الأحباب)) وقد أضفتها في هذه الرسالة بعنوان: ((فضائل الصبر والاحتساب على المصائب)). (¬3) مسلم، كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت، برقم 923.

لي؛ لهو أحبُّ إليَّ، قال: ((فذاك لك)) (¬1). 3 - مما يقال لمن فقد ولدين أو ثلاثة ما ثبت من حديث بريدة بن الحصيب قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعهد الأنصار ويعودهم، ويسأل عنهم فبلغه عن امرأة من الأنصار مات ابنها وليس لها غيره وأنها جزعت عليه جزعاً شديداً، فأتاها النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه أصحابه، فلما بلغ باب المرأة، قيل للمرأة: إن نبي الله يريد أن يدخل يعزّيها، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أما إنه بلغني أنكِ جزعتِ على ابنك))، فأمرها بتقوى الله وبالصبر، فقالت: يا رسول الله [ما لي لا أجزع] وإني امرأة رقوبٌ لا ألد، ولم يكن لي غيره؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الرقوب: الذي يبقى ولدها)) ثم قال: ((ما من امرئٍ أو امرأة مسلمة يموت لها ثلاثة أولاد [يحتسبهم] إلا أدخله الله بهم الجنة)) فقال عمر [وهو عن يمين النبي - صلى الله عليه وسلم -] بأبي أنت وأمي واثنين؟ قال: ((واثنين)) (¬2)، وقد ثبت في هذا أحاديث كثيرة أن من مات له ثلاثة من الولد، أو اثنين، أو واحد، فصبر واحتسب إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم (¬3). 4 - قال النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما دخل على أم سلمة رضي الله عنها عقب موت أبي سلمة: ((اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره، ونوّر له فيه)) (¬4). فمن السنة أن يقال في التعزية: ((اللهم اغفر لفلان - ويذكر اسمه - وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله ¬

(¬1) النسائي، برقم 1869 ورقم 2087،وصححه الألباني، وتقدم تخريجه في فضائل الصبر االاحتساب. (¬2) البزار، برقم 857،والحاكم، 1/ 384، وصححه، وصححه الألباني في أحكام الجنائز، ص208، وقد ثبت في هذا المعنى أحاديث صحيحة ذكرتها في تبريد حرارة المصيبة، وهي في هذا الكتاب في فضائل الصبر والاحتساب على المصائب. (¬3) انظر: صحيح البخاري، رقم 101، 1249، 1381،7310، ومسلم، برقم 2608، 2632، 2633، 2636، وقد تقدم تخريجها في فضائل الصبر والاحتساب. (¬4) مسلم، برقم 920، وتقدم تخريجه في تغميض الميت.

الأمر الثالث: التعزية لا تحدد بثلاثة أيام لا تتجاوزها

يا رب العالمين، وافسح له في قبره، ونوّر له فيه)). 5 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعزيته عبد الله بن جعفر في أبيه: ((اللهم اخلف جعفراً في أهله، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه)) قالها ثلاث مرات (¬1). 6 - ومما يبرّد حرارة المصيبة في التعزية في الأحباب على وجه العموم، سواء كان الميت من الأولاد، أو الآباء، أو الأمهات، أو الإخوة، أو الأخوات، أو الزوج، أو الزوجة، أو الحبيب المصافي والصديق المخلص، قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة)) (¬2). 7 - ولو قال: ((أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وغفر لميتك)) فلا بأس بذلك (¬3). الأمر الثالث: التعزية لا تحدد بثلاثة أيام لا تتجاوزها، بل متى رأى الفائدة في التعزية أتى بها، فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه عزَّى بعد الثلاثة في حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما (¬4) فما دامت حرارة المصيبة قائمة فلا بأس بالتعزية، ولو بعد وقتٍ طويل، فالأمر فيه واسع وفيه مواساة لأهل الميت في مصابهم. قال شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله: ((العزاء ليس له أيام محدودة، بل يشرع من حين خروج الروح قبل الصلاة على الميت وبعدها، [وقبل الدفن وبعده]، وليس لغايته حد في الشرع المطهر، سواء كان ذلك ليلاً أو نهاراً، وسواء كان ذلك في البيت، أو في ¬

(¬1) أحمد، برقم 1750، والحاكم، 3/ 298، قال الألباني في أحكام الجنائز، ص209: ((بإسناد صحيح على شرط مسلم)). (¬2) البخاري، برقم 6424، وتقدم تخريجه في فضائل الصبر. (¬3) انظر: الأذكار للإمام النووي، ص126. (¬4) أحمد، برقم 1750، [تحقيق أحمد شاكر]، والحاكم، 3/ 298، وصحح الألباني إسناده وساقه مطولاً في أحكام الجنائز، ص209.

الأمر الرابع: السنة في العزاء أن يصنع أقرباء أهل الميت أو جيرانهم طعاما يشبعهم

الطريق، أو في المسجد، أو في المقبرة، أو في غير ذلك من الأماكن)) (¬1).وقال رحمه الله تعالى: ((والمبادرة بها أفضل، وتجوز بعد ثلاث من موت الميت لعدم الدليل على التحديد)) (¬2). وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: ((وقت التعزية من حين ما يموت الميت أو تحصل المصيبة إذا كانت التعزية بغير الموت إلى أن تُنسى المصيبة وتزول عن نفس المصاب؛ لأن المقصود بالتعزية ليست تهنئةً أو تحيةً، إنما المقصود بها تقويةُ المصاب على تحمّل هذه المصيبة واحتساب الأجر)) (¬3). الأمر الرابع: السنة في العزاء أن يصنع أقرباء أهل الميت أو جيرانهم طعاماً يشبعهم؛ لحديث عبد الله بن جعفر - رضي الله عنه - قال: لما جاء نعي جعفر حين قتل قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد أتاهم ما يشغلهم)) أو: ((أمر يشغلهم)) (¬4). وعن أسماء بنت عميس رضي الله عنها قالت: ((لما أصيب جعفر رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهله فقال: ((إن آل جعفر قد شغلوا بشأن ميتهم، فاصنعوا لهم طعاماً)) قال عبد الله: فما زالت سنة حتى كان حديثاً فتُرِكَ)) (¬5). قال الشافعي رحمه الله تعالى: ((وأحبُّ لجيران الميت أو ذي القرابة ¬

(¬1) مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 379، وما بين المعقوفين من 13/ 380. (¬2) المرجع السابق، 13/ 380. (¬3) مجموع رسائل ابن عثيمين، 17/ 340. (¬4) ابن ماجه، بلفظه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الطعام يبعث إلى أهل الميت، برقم 1610، وأبو داود، كتاب الجنائز، باب صنعة الطعام لأهل الميت، برقم 3132، والترمذي كتاب الجنائز، باب ما جاء في الطعام يصنع لأهل الميت، برقم 998، وأحمد، برقم 1754،1/ 175، والحاكم، 1/ 372، والبيهقي،4/ 61،وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح السنن، وفي أحكام الجنائز، ص211. (¬5) ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الطعام يبعث لأهل الميت، برقم 1611، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 47.

أن يعملوا لأهل الميت في يوم يموت وليلته طعاماً يشبعهم؛ فإن ذلك سنة، وذكر كريم، وهو من فعل أهل الخير قبلنا وبعدنا)) (¬1). وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((وجملته أنه يستحب إصلاح طعام لأهل الميت، يبعث به إليهم، إعانة لهم، وجبراً لقلوبهم، فإنهم ربما انشغلوا بمصيبتهم وبمن يأتي إليهم من إصلاح طعامٍ لأنفسهم)) (¬2). ثم بيّن ابن قدامة رحمه الله: أنها إذا دعت الحاجة لإصلاح أهل الميت للطعام جاز؛ فإنه ربما جاءهم من يحضر ميتهم من القرى والأماكن البعيدة ويبيت عندهم فلا يمكنهم أن لا يضيفوه (¬3). وقال رحمه الله: ((وتستحب تعزية جميع أهل المصيبة كبارهم وصغارهم، ويخصُّ خيارهم، والمنظور إليه من بينهم، ليستنَّ به غيرُهُ، وذا الضعيف منهم عن تحمل المصيبة؛ لحاجته إليها)) (¬4). وقال شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله: (( ... السنة التعزية لأهل المصاب من غير كيفية معينة ولا اجتماع معين .. وإنما يشرع لكل مسلم بأن يعزي أخاه بعد خروج الروح في البيت، أو في الطريق، أو في المسجد، أو في المقبرة، سواء كانت التعزية قبل الصلاة أو بعدها، وإذا قابله شُرع له مصافحته والدعاء له بالدعاء المناسب ... وإذا كان الميت مسلماً، دعا له بالمغفرة والرحمة، وهكذا النساء فيما بينهن يعزي بعضهن بعضاً، ويعزي الرجل المرأة، والمرأة الرجل، لكن من دون خلوة ولا مصافحة إذا كانت المرأة ليست محرماً له)) (¬5). ¬

(¬1) الأم، 1/ 247. (¬2) المغني لابن قدامة، 3/ 496. (¬3) المغني، 3/ 397. (¬4) المرجع السابق، 3/ 485. (¬5) مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 382.

الأمر الخامس: البدع والمنكرات في العزاء كثيرة

الأمر الخامس: البدع والمنكرات في العزاء كثيرة، لكن من أكثرها ظهوراً في بعض المجتمعات ما يأتي: 1 - اجتماع أهل الميت خارج المنزل في أماكن واسعة، سواء كانت من الخيام الكبيرة المضاءة بالأنوار والمفروشة بالفرش؛ لاستقبال الناس فيها أو من قصور الأفراح المجهزة بالإضاءة والفرش، أو فرش الساحات الخالية أمام المنزل وإنارتها استعداداً لاستقبال المعزين، أو إنارة الشوارع وإحضار من يقرأ القرآن، وإعداد القهوة والشاي، وبعض العصيرات والأطياب؛ لتقديمها للمعزين، وغير ذلك من المنكرات البدعية التي يجب على كل مسلم الابتعاد عنها والتزام السنة (¬1). وإذا صنع الطعام للناس كان ذلك بدعة أخرى (¬2). 2 - الاجتماع في منزل الميت للأكل والشرب وقراءة القرآن، ودعوة الناس لحضور الطعام المقدم، وربما بعض المعزّين يأتي بالأغنام، أو الإبل، أو البقر، بحجة تقديمها لهؤلاء المعزين، ولأهل البيت، ويدعو كل من قابله ممن يأتون للتعزية لحضور هذا الطعام، وهذا من البدع المنكرة؛ لحديث جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - قال: ((كنَّا نَعُدُّ الاجتماع إلى أهل الميت وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة)). ولفظ ابن ماجه: ((كنا نرى الاجتماع إلى أهل الميت، وصنعَةَ الطعام من النياحة)) (¬3). قال شيخنا ابن باز رحمه الله: ((والنياحة: هي رفع الصوت بالبكاء وهي محرمة، والميت يُعذب في قبره بما يناح عليه، كما صحت به ¬

(¬1) انظر: مجموع فتاوى الشيخ ابن باز، 13/ 371 - 424. (¬2) قال الإمام ابن القيم في زاد المعاد: ((وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - تعزية أهل الميت، ولم يكن من هديه أن يجتمع للعزاء ويقرأ له القرآن، لا عند قبره ولا غيره، وكل هذا بدعة حادثة مكروهة))،زاد المعاد، 1/ 527. (¬3) أخرج اللفظ الأول الإمام أحمد في المسند، برقم 6905، واللفظ الثاني لابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في النهي عن الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام، برقم 1612،وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه،2/ 48،وفي أحكام الجنائز، ص210.

السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أما البكاء فلا بأس به إذا كان بدمع العين فقط بدون نياحة)) (¬1). وقوله: ((كنا نعدّ)) أو ((كنا نرى)) قال السندي رحمه الله: ((هذا بمنزلة رواية إجماع الصحابة - رضي الله عنهم -، أو تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى الثاني فحكمه الرفع على التقديرين فهو حجة)). ثم قال: ((وبالجملة فهذا عكس الوارد أن يصنع الناس الطعام لأهل الميت، فاجتماع الناس في بيتهم حتى يتكلفوا لأجلهم الطعام قلب لذلك، وقد ذكر كثير من الفقهاء أن الضيافة لأهل الميت قلب للمعقول؛ لأن الضيافة حقها أن تكون للسرور لا للحزن)) (¬2). وقال شيخنا ابن باز رحمه الله: الاجتماع في بيت الميت للأكل والشرب وقراءة القرآن بدعة ... وإنما يؤتى أهل الميت للتعزية والدعاء والترحم على ميتهم، أما أن يجتمعوا لإقامة مأتم (¬3) بقراءة خاصة، أو أدعية خاصة، أو غير ذلك، ولو كان هذا خيراً لسبقنا إليه سلفنا الصالح، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - ما فعله، فقد قتل جعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، وزيد بن حارثة - رضي الله عنهم - في معركة مؤتة فجاءه الخبر عليه الصلاة والسلام من الوحي بذلك فنعاهم للصحابة، وأخبرهم بموتهم، وترضَّى عنهم، ودعا لهم، ولم يتخذ لهم مأتماً. وكذلك الصحابة من بعده لم يفعلوا شيئاً من ذلك، فقد مات الصديق - رضي الله عنه - ولم يتخذوا له مأتماً، وقتل عمر - رضي الله عنه - وما جعلوا له مأتماً، ولا جمعوا الناس ليقرأوا القرآن، وقُتل عثمان بعد ذلك ¬

(¬1) مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 384،وتقدمت أحاديث النياحة في الأمور المحرمة على أقارب الميت وغيرهم، كما تقدمت الأحاديث في جواز البكاء بدمع العين في ما يجوز للحاضرين وغيرهم. (¬2) حاشية السندي على سنن ابن ماجه، 2/ 275. (¬3) مأتم: جمع مآتمه، مجتمع الناس في حزن أو فرح، والمقصود: اجتماع الناس للتعزية بميت. معجم لغة الفقهاء، مادة ((مأتم)).

الأمر السادس: مشروعية التلبينة للمحزون

وعلي رضي الله عنهما فما فعل الصحابة - رضي الله عنهم - لهما شيئاً من ذلك ... )) (¬1) (¬2). الأمر السادس: مشروعية التلبينة للمحزون؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أنها كانت تأمر بالتلبينة للمريض، والمحزون على الهالك، وكانت تقول: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((التلبينة تُجِمُّ فؤاد المريض، وتُذهبُ ببعض الحزن)). وفي لفظ: ((أنها كانت إذا مات الميت من أهلها فاجتمع لذلك النساء ثم تفرقن - إلا أهلها وخاصتها - أمرت ببرمة من تلبينة فطبخت ثم صنع ثريد فصبت التلبينة عليها، ثم قالت: كلن منها، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((التلبينة مَجمَّةٌ لفؤاد المريض، تذهب ببعض الحزن)) (¬3). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((التَّلْبِيْنَة: طعام يُتخذ من دقيق أو نخالة وربما جعل فيها عسل، سميت بذلك لشبهها باللبن في البياض والرقة، والنافع منه ما كان رقيقاً نضيجاً لا غليظاً نيئاً ... وقوله: ((مَجَمَّة: أي مكان الاستراحة)) ورويت بضم الميم [مُجمَّةٌ] أي مريحة، والجِمام: الراحة، ((والثريد: الخبز بمرق اللحم وقد يكون معه اللحم)) (¬4). وقال ابن الأثير رحمه الله: ((التلبينة والتلبين: حساءٌ يُعمل من دقيق أو نُخالة وربما جُعل معه عسل سميت به تشبيهاً باللبن لبياضها ورقتها)) (¬5). وقال الحافظ رحمه الله: ((التلبينة: حساء كالحريرة يتخذ من دقيق أو نخالة سميت بذلك لشبهها باللبن في البياض)) (¬6). الواحد والعشرون: وصول ثواب القرب المهداة إلى أموات المسلمين، ينبغي أن ينظر في ذلك إلى أمرين: ¬

(¬1) مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 383 - 384. (¬2) وانظر كثيراً من البدع في أحكام الجنائز للألباني، ص220. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأطعمة، باب التلبينة، برقم 5417، وكتاب الطب، باب التلبينة للمريض، برقم 5689، و5690، ومسلم. (¬4) فتح الباري، 9/ 550، 551. (¬5) النهاية في غريب الحديث، 4/ 229، وفتح الباري، 10/ 146. (¬6) هدي الساري مقدمة فتح البارين لابن حجر، ص182.

الأمر الأول: ما يلحق الميت من عمله

الأمر الأول: ما يلحق الميت من عمله؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقةٍ جاريةٍ، أو علم ينتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له)) (¬1). ويدخل في هذا الحديث حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علماً علمه ونشره، وولداً صالحاً تركه، ومصحفاً ورَّثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته، يلحق من بعد موته)) (¬2)؛ ولحديث معاذ بن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من علَّم علماً فله أجر من عمل به، لا ينقص من أجر العامل)) (¬3). وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه -:أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: (( ... فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حُمْرُ النَّعم)) (¬4). وهذا يبين أهمية تعليم الناس الخير، ونشر العلم بينهم، قال الإمام الخطابي رحمه الله في معنى الحديث: ((لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك أجراً وثواباً من أن يكون لك حمر النعم، فتتصدق بها)) (¬5)، وقد ذكر القرطبي والأُبّي والسنوسي رحمهم الله: ((إن في هذا الحديث الشريف حضّاً عظيماً على تعلم العلم وبثه في الناس، وعلى الوعظ والتذكير، ويعني أن ثواب تعليم رجل واحد وإرشاده أفضل من ثواب ¬

(¬1) مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، برقم 1631. (¬2) ابن ماجه، المقدمة، باب ثواب معلم الناس الخير، برقم 242، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 98، وإرواء الغليل، 6/ 29. (¬3) ابن ماجه، المقدمة، باب ثواب معلم الناس الخير، برقم 240، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 97. (¬4) متفق عليه، البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام، برقم 2942، وأطرافه برقم 3009، ورقم 3701، ورقم 4210، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، برقم 2406. (¬5) أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري، 2/ 1408.

الصدقة بهذه الإبل النفيسة؛ لأن ثواب الصدقة بها ينقطع بموتها، وثواب العلم والهدى لا ينقطع إلى يوم القيامة)) (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من دلَّ على خير فله مثل أجر فاعله)) (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من سنَّ في الإسلام سنَّةً حسنةً فَعُمِل بها بعده كُتِبَ له مثلُ أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيءٌ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، فَعُمِلَ بها بعده، كُتِبَ عليه مثل وِزْر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيءٌ)) (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثلُ أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالةٍ كان عليه من الإثم مثلُ آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)) (¬4)، وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - يرفعه: ((فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم)) ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، لَيُصلُّون على مُعَلّم الناس الخير)) (¬5). وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنه ليستغفر للعالم مَن في السموات ومَن في الأرض، حتى الحيتان في البحر)) (¬6). ¬

(¬1) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 6/ 276، وإكمال إكمال المعلم، للأبي، 8/ 231، ومكمل إكمال الإكمال، للسنوسي، 8/ 231. (¬2) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وبغيره، وخلافته في أهله بخير، 3/ 1506 برقم1893،من حديث أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه -. (¬3) مسلم، كتاب العلم، باب من سن في الإسلام سنة حسنة أو سيئة؛ ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، 4/ 2059، برقم 1017، من حديث جرير بن عبد الله - رضي الله عنه -. (¬4) مسلم، في كتاب العلم، باب من سن في الإسلام سنة حسنة أو سيئة، ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، 4/ 2060، برقم 2674. (¬5) الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة،5/ 50، برقم 2685،وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 343،وانظر: مشكاة المصابيح بتحقيق الألباني، 1/ 74، برقم 213. (¬6) ابن ماجه، المقدمة، باب ثواب معلم الناس الخير، برقم 239، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 1/ 97.

الأمر الثاني: وصول ثواب القرب المهداة إلى أموات المسلمين ثابت في الكتاب والسنة

الأمر الثاني: وصول ثواب القرب المهداة إلى أموات المسلمين ثابت في الكتاب والسنة، لكن فيه تفصيل لأهل العلم. فمما يدل على وصول ثواب الأعمال المهداة إلى أموات المسلمين من الكتاب والسنة الأدلة الآتية: 1 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (¬1). 2 - قوله - عز وجل -: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالله يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (¬2). 3 - وقوله تعالى حكاية عن نوح: {رَبّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً} (¬3). 4 - وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم: {رَبّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} (¬4). 5 - وحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من مات وعليه صيام، صام عنه وليه)) (¬5). 6 - وحديث ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن امرأة ركبت البحر فنذرت، إن الله تبارك وتعالى أنجاها أن تصوم شهراً، فأنجاها الله - عز وجل -، فلم تصم حتى ¬

(¬1) سورة الحشر، الآية: 10. (¬2) سورة محمد، الآية: 19. (¬3) سورة نوح، الآية: 28. (¬4) سورة إبراهيم، الآيتان: 41 - 42. (¬5) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب من مات وعليه صوم، برقم 1952، ومسلم، كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت، برقم 1147، وأبو داود، كتاب الصوم، باب فيمن مات وعليه صيام، برقم 2400، ومن طريقه البيهقي، (6/ 279)، والطحاوي في ((مشكل الآثار))، 3 (140 و141)، وأحمد، (6/ 69).

ماتت، فجاءت قَرابة لها [إما أختها أو ابنتها] إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت ذلك له، فقال: [أرأيتك لو كان عليها دين كنتِ تقضينه؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحقُّ أن يُقضى] [فـ] اقْضِ [عن أمك])) (¬1). 7 - وحديث ابن عباس: ((أن سعد بن عبادة - رضي الله عنه - استفتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أمي ماتت وعليها نذر؟ فقال: ((اقضِهِ عنها)) (¬2). 8 - وحديث سعد بن الأطول - رضي الله عنه -: ((أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم، وترك عيالاً، قال: فأردت أن أُنفقها على عياله، قال: فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أخاك محبوسٌ بدينه [فاذهب] فاقضِ عنه)) [فذهبت فقضيت عنه، ثم جئت]، قال: يا رسول الله، قد قضيت عنه إلا دينارين ادَّعتهما امرأة، وليست لها بينة، قال: ((أعطِها فإنها مُحقة))، (وفي رواية: صادقة))) (¬3). 9 - وحديث سمرة بن جندب: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على جنازة (وفي رواية: صلى الصبح)،فلما انصرف قال: ((أهاهنا من آل فلان أحد؟)) ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، كتاب الأيمان والنذور، باب في قضاء النذر عن الميت، برقم 3308، والنسائي في كتاب النذر، باب من مات وعليه نذر برقم 3850،والطحاوي (3/ 140)،والبيهقي (4/ 255، 256، 10/ 85)، والطيالسي (2630)،وأحمد (1861، 1970، 3137، 3224، 3420) والسياق مع الزيادة الثانية له، وإسناده صحيح على شرط الشيخين، والزيادة الأولى لأبي داود والبيهقي. وأخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب من مات وعليه صوم، برقم 1953، ومسلم، كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت، برقم 1148، والترمذي، كتاب الصوم، باب ما جاء في الصوم عن الميت، برقم 716، وابن ماجه، كتاب الصيام، باب من مات وعليه صيام من نذر، برقم 1758، 1759 بنحوه، وفيه عندهم جميعاً الزيادة الثانية، وعند مسلم الأخيرة. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب إذا نذر أو حلف ... برقم 6698، ومسلم، كتاب النذر، باب الأمر بقضاء النذر برقم 6638، وأبو داود، كتاب الأيمان والنذور، باب في قضاء النذر عن الميت، برقم 3307، والترمذي، كتاب النذور، باب قضاء النذر عن الميت، برقم 1546، والنسائي، كتاب الأيمان، باب من مات وعليه نذر برقم 3848، وابن ماجه، كتاب الكفارات، باب من مات وعليه نذر، برقم 2132،وصححه البيهقي، (4/ 256، 6/ 278، 10/ 85)، والطيالسي (2717)، وأحمد (1893، 3049، 6/ 47). (¬3) أخرجه ابن ماجه، كتاب الصدقات، باب أداء الدين عن الميت، برقم 2433 وأحمد (4/ 136، 5/ 7)،والبيهقي (10/ 142) وأحد إسناديه صحيح، والآخر مثل إسناد ابن ماجه، وصححه البوصيري في ((الزوائد))،وسياق الحديث والرواية الثانية للبيهقي وهي والزيادات لأحمد في رواية.

[فسكت القوم، وكان إذا ابتدأهم بشيء سكتوا] فقال ذلك مراراً [ثلاثاً لا يُجيبه أحدٌ]، [فقال رجل: هّوذا]، قال: فقام رجل يجرُّ إزاره من مؤخر الناس [فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما منعك في المرتين الأولين أن تكون أجبتني؟] أما إني لم أنوّه باسمك إلا لخير، إن فلاناً - لرجل منهم - مأسور بدينه [عن الجنة، فإن شئتم فافدوه، وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله]،فلو رأيت أهله ومن يتحرون أمره قاموا فقضوا عنه، [حتى ما أحدٌ يطلبه بشيء] (¬1) (¬2). 10 - وحديث جابر بن عبد الله قال: ((مات رجل، فغسلناه وكفناه وحنطناه، ووضعناه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث تُوضع الجنائز، عند مقام جبريل، ثم آذنّا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة عليه، فجاء معنا، [فتخطى] خطى، ثم قال: ((لعل على صاحبكم ديناً؟)) قالوا: نعم، ديناران، فتخلف، [قال: صلوا على صاحبكم]، فقال له رجل منا يُقال له: أبو قتادة: يا رسول الله هُما عَلَيّ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: هما عليك وفي مالك، والميت منهما بريء؟ فقال: نعم، فصلى عليه فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لقي أبا قتادة يقول. (وفي رواية: ثم لقيه من الغد فقال:) ((ما صنعتِ الديناران؟)) [قال: يا رسول الله إنما مات أمس] حتى كان آخر ذلك (وفي الرواية الأخرى: ثم لقيه من الغد فقال: ((ما فعل الديناران؟)) قال: قد قضيتهما يا رسول الله، قال: ((الآن حين بَرَدَتْ عليه ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، كتاب البيوع والإجارات، باب في التشديد في الدين برقم 3341، والنسائي، كتاب البيوع، باب التغليظ في الدين برقم 4689، والحاكم (2/ 25، 26)، والبيهقي (6/ 4/76)، والطيالسي في ((مسنده)) (رقم 891، 892)، وكذا أحمد (5/ 11، 13، 20)، قال الألباني: ((بعضهم عن الشعبي عن سمرة، وبعضهم أدخل بينهما سمعان بن مشنج، وهو على الوجه الأول صحيح على شرط الشيخين كما قال الحاكم ووافقه الذهبي، وعلى الوجه الثاني صحيح فقط. والرواية الأخرى للمُسْنَدَين، والزيادة الأولى والثانية للحاكم، وكذا الثالثة والخامسة، وللبيهقي الثانية، ولأحمد الثالثة والرابعة، وللطيالسي الخامسة، وله ولأحمد وأبي داود السادسة)). (¬2) وقال الألباني رحمه الله: وله شاهد من حديث ابن عباس، رواه الطبراني في المعجم الكبير (ق156/ 2) بسند ضعيف.

جلدُه)) (¬1) (¬2). 11 - وحديث جابر رضي الله عنهما أن أباه استشهد يوم أُحُد، وترك ست بنات، وترك عليه ديناً [ثلاثين وسْقاً]، [فاشتد الغرماء في حقوقهم]، فلما حضره جذاذ النخل، أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله قد علمت أن والدي استشهد يوم أحد، وترك عليه ديناً كثيراً، وإني أُحب أن يراك الغرماء، قال: ((اذهب فبيدر كل تمير على حدة))، ففعلت، ثم دعوت، [فغدا علينا حين أصبح]، فلما نظروا إليه أغروا بي تلك الساعة، فلما رأى ما يصنعون أطاف حول أعظمها بيدراً ثلاثاً [ودعا في ثمرها بالبركة]، ثم جلس عليه، ثم قال: ((ادعُ أصحابك))، فما زال يكيل لهم، حتى أدى الله أمانة والدي (¬3)،وأنا والله راض أن يؤدي الله أمانة والدي، ولا أرجع إلى أخواتي بتمرة، فسلمت والله البيادر كلها حتى إني أنظر إلى البيدر الذي عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأنه لم ينقص تمرة واحدة، [فوافيت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المغرب، فذكرت ذلك له فضحك، فقال: ((ائت أبا بكر وعمر فأخبرهما))،فقالا: لقد علمنا إذ صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما صنع أن سيكون ذلك)) (¬4). 12 - وحديث جابر - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم فيخطب، فيحمد الله، ويُثني عليه بما هو أهل له، ويقول: ((من يهده الله فلا مضل له، ومَن ¬

(¬1) أخرجه الحاكم (2/ 58)،والسياق له، والبيهقي (6/ 74 - 75)، والطيالسي (1673)، وأحمد (3/ 330)، قال الألباني: ((بإسناد حسن كما قال الهيثمي (3/ 39))). أما الحاكم فقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي! والرواية الأخرى مع الزيادات عندهم جميعاً إلا الحاكم، إلا الزيادة الثانية فهي للطيالسي وحده. (¬2) أي: بسبب رفع العذاب عنه بعد وفاء دينه. (¬3) أي وصيته إياهم بقضاء الدين عنه، انظر حديثه في ذلك في الفصل الأول من المسألة الرابعة. (¬4) أخرجه البخاري والسياق مع الزيادات له، كتاب الصلح، باب الصلح بين الغرماء، برقم 2709، ورواه بنحوه أبو داود، كتاب الوصايا، باب ما جاء في الرجل يموت وعليه دين وله وفاء، برقم 2884، والنسائي، كتاب الوصايا، باب الوصية بالثلث، برقم 3666، وابن ماجه كتاب الصدقات، باب أداء الدين عن الميت، برقم 2434. والبيهقي (6/ 64)،وأحمد (3/ 313، 365، 373، 391، 397) مطولاً ومختصراً. وقال الألباني رحمه الله: وفيه عند أحمد زيادات كثيرة لم أوردها خشية الإطالة.

يضلل فلا هادي له، إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، [وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار]، وكان إذا ذكر الساعة احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه منذر جيش [يقول:] صبحكم ومساكم، من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك ضياعاً (¬1) أو ديناً فعليَّ، وإليَّ، وأنا [أ] ولى [بـ] المؤمنين (وفي رواية: بكل مؤمن من نفسه))) (¬2). 13 - وحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من حَمَل من أمتي ديناً، ثم جهد في قضائه فمات ولم يقضه فأنا وليه)) (¬3). 14 - ومما يلحقه ما يفعله الولد الصالح من الأعمال الصالحة، فإن لوالديه مثل أجره دون أن ينقص من أجره شيء؛ لأن الولد من سعيهما وكسبهما، والله - عز وجل - يقول: {وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى} (¬4)،وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإنّ ولده من كسبه)) (¬5). ¬

(¬1) قال الألباني رحمه الله: أي عيالاً، قال ابن الأثير: ((وأصله مصدر ضاع يضيع ضياعاً، فسمي العيال بالمصدر كما تقول: من مات وترك فقراً، أي فقراء)). (¬2) أخرجه مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة برقم 867، والبيهقي في السنن (3/ 213 - 214)، وفي الأسماء والصفات ص (82)، وأحمد (3/ 296 - 310، 311، 338 - 371) والسياق له، وأبو نعيم في الحلية (3/ 189)،قال الألباني رحمه الله: والزيادة الأولى له، وللنسائي والبيهقي وإسنادهما صحيح على شرط مسلم، والزيادة الثانية له وللبيهقي، والثالثة والرابعة لأحمد، والرواية الثانية لمسلم. (¬3) أخرجه أحمد (6/ 74)، قال الألباني رحمه الله: وإسناده صحيح على شرط الشيخين. وقال المنذري (3/ 33): ((رواه أحمد بإسناد جيد، وأبو يعلى والطبراني في الأوسط)). ونحوه في المجمع (4/ 132) إلا أنه قال: ((ورجال أحمد رجال الصحيح)). وفي فتح الباري (5/ 54) فوائد مهمة في هذه المسألة. (¬4) سورة النجم، الآية: 39. (¬5) أخرجه أبو داود، كتاب البيوع والإجارات، باب في الرجل يأكل من مال ولده برقم 3528، والترمذي، كتاب الأحكام، باب الوالد يأخذ من مال ولده، برقم 1358، والنسائي، كتاب البيوع، باب الحث على الكسب برقم 4454، وابن ماجه، كتاب التجارات، باب الحث على الكسب، برقم 2137، والحاكم (2/ 46)، والطيالسي (1580)، وأحمد (6/ 41، 126، 162، 173، 193، 201، 202، 220)، وقال الحاكم: ((صحيح على شرط الشيخين))، ووافقه الذهبي! وقال الألباني رحمه الله: وهو خطأ من وجوه لا يتسع المجال لبيانها، وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو: رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد (2/ 179، 204، 214) بسند حسن.

15 - وحديث عائشة رضي الله عنها: ((أن رجلاً قال: إن أمي افتلتت (¬1) نفسها [ولم تُوصِ]، وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجرٌ إن تصدقتُ عنها [ولي أجر]؟ قال: نعم، [فتصدَّق عنها])) (¬2). 16 - وحديث ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن سعد بن عبادة - أخا بني ساعدة - توفيت أمه وهو غائب عنها، فقال: يا رسول الله إن أمي توفيت، وأنا غائب عنها، فهل ينفعها إن تصدقت بشيء عنها؟ قال: نعم، قال: فإني أشهدك أن حائطي المخراف (¬3) صدقةٌ عليها)) (¬4). 17 - وحديث سعد بن عبادة قال: قلت يا رسول الله: إن أمي ماتت، أفأتصدق عنها؟ قال: ((نعم)) قلت: فأي صدقة أفضل؟ قال: ((سقي الماء)) فتلك سقاية سعد بالمدينة (¬5). ¬

(¬1) قال الألباني رحمه الله: بضم المثناة وكسر اللام، أي سلبت، على ما لم يسم فاعله، أي ماتت فجأة. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب موت الفجأة البغتة، برقم 1388، ومسلم، كتاب الزكاة، باب وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه، برقم 1004، وأبو داود، كتاب الوصايا، باب ما جاء فيمن مات من غير وصية يُتصدق عنه، برقم 2881، والنسائي، كتاب الوصايا، باب إذا مات الفجأة هل يستحب لأهله أن يتصدقوا عنه، برقم 3679، وابن ماجه، كتاب الوصايا، باب الدين قبل الوصية، برقم 2717)، والبيهقي (4/ 62، 6/ 277 - 278)، وأحمد (6/ 51). قال الألباني رحمه الله: والسياق للبخاري في إحدى روايتيه، والزيادة الأخيرة له في الرواية الأخرى، وابن ماجه، وله الزيادة الثانية، ولمسلم الأولى. (¬3) أي المثمر، سمي بذلك لما يخرف منه أي يجنى من الثمرة. (¬4) أخرجه البخاري، كتاب الوصايا، باب إذا قال: أرضي أو بستاني صدقة لله عن أمي ... برقم 2756، وأبو داود، كتاب الوصايا، باب ما جاء فيمن مات عن غير وصية يتصدق عنه برقم 2882، والنسائي كتاب الوصايا، باب فضل الصدقة على الميت برقم 3685، والرمذي، كتاب الزكاة، باب الصدقة على الميت برقم 669، والبيهقي (6/ 278)، وأحمد (3080 - 3505 - 3508) والسياق له. (¬5) أخرجه النسائي، كتاب الوصايا، باب ذكر الاختلاف على سفيان، برقم 3663، 3664، وأبو داود، كتاب الزكاة، باب في فضل سقي الماء، برقم 1681، وابن ماجه، كتاب الأدب، باب صدقة الماء برقم 3684، وحسنه الألباني في صحيح سنن النسائي (2/ 560 - 561)، وأخرجه أحمد (5/ 285).

18 - وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن أبي مات وترك مالاً ولم يُوصِ فهل يُكفّر عنه أن أتصدق عنه؟ قال: نعم)) (¬1). 19 - وحديث عبد الله بن عمرو: ((أن العاص بن وائل السهمي أوصى أن يُعتق عنه مائة رقبة، فأعتق ابنه هشام خمسين رقبة، وأراد ابنه عمرو أن يعتق عنه الخمسين الباقية، قال: حتى أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن أبي أوصى أن يُعتق عنه مائة رقبة، وإن هشاماً أعتق عنه خمسين، وبقيت عليه خمسون، أفأعتق عنه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنه لو كان مسلماً فأعتقتم أو تصدقتم عنه، أو حججتم عنه بلغه ذلك، (وفي رواية): فلو كان أقرّ بالتوحيد فصُمت وتصدقت عنه نفعه ذلك)) (¬2). 20 - وحديث الشّرّيد بن سويد الثقفي قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إن أمي أوصت أن تعتق عنها رقبة، وإن عندي جارية نوبية أفيجزئ عني أن أعتقها عنها؟ قال: ((ائتني بها)) فأتيته بها فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن ربك؟)) قالت: الله، قال: ((مَن أنا؟)) قالت: أنت رسول الله، قال: ((أعتقها فإنها مؤمنة)) (¬3). 21 - وحديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: ((نعم)) وذلك في حجة الوداع. وفي رواية لمسلم: ((فحجي عنه)) (¬4). ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب الوصية، باب وصول ثواب الصدقات إلى الميت، برقم 1630،والنسائي كتاب الوصايا، باب فضل الصدقة على الميت، برقم 3650،والبيهقي (6/ 278)،وأحمد (2/ 371). (¬2) أخرجه أبو داود، كتاب الوصايا، باب ما جاء في وصية الحربي، يسلم وليه أيلزمه أن ينفذها، برقم 2883، والبيهقي (6/ 279)، قال الألباني: والسياق له، وأحمد (رقم 6704)، والرواية الأخرى له، وإسنادهم حسن. (¬3) أخرجه النسائي، كتاب الوصايا، باب فضل الصدقة على الميت، برقم (3651)، وحسنه الألباني في الصحيحة، برقم (3161). (¬4) متفق عليه: أخرجه البخاري، كتاب جزاء الصيد، باب الحج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة، برقم 1854، ومسلم، كتاب الحج، باب الحج عن العاجز لزمانه وهرم ونحوهما أو للموت، برقم 1334.

22 - حديث أبي رزين أنه قال: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج، ولا العمرة، ولا الظعن، قال: ((فحج عن أبيك واعتمر)) (¬1). 23 - وحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: أمرت امرأة سنان بن عبد الله الجهني أن يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أمها ماتت ولم تحج أفيجزئ عن أمها أن تحج عنها؟ قال: ((نعم، لو كان على أمها دين فقضته عنها أكان يجزئ عنها؟)) قال: نعم، قال: ((فلتحج عن أمها)) (¬2). 24 - وحديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فماتت قبل أن تحج أفأحج عنها؟ قال: ((نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟)) قالت: نعم. قال: ((اقضوا الله فالله أحق بالوفاء)) (¬3). وفي رواية: ((فاقضوا الله الذي له؛ فإن الله أحق بالوفاء)) (¬4). وفي رواية: أن رجلاً قال: إن أختي نذرت أن تحج وإنها ماتت فقال: ((فاقض الله فهو أحق بالقضاء)) (¬5). 25 - وحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، كتاب المناسك، باب الرجل يحج عن غيره، برقم 1810، والترمذي، كتاب الحج، باب الحج عن الشيخ الكبير، برقم 930، والنسائي كتاب الحج، باب العمرة عن الرجل الذي لا يستطيع، برقم 3638، وابن ماجه، كتاب المناسك، باب الحج عن الحي إذا لم يستطع برقم، 2906. وانظر: صحيح سنن النسائي، 2/ 556، وصحيح سنن أبي داود، 1/ 341، وصحيح سنن ابن ماجه، 2/ 152، وصحيح سنن الترمذي، 1/ 275. (¬2) أخرجه أحمد، 1/ 217، 244، 279، والنسائي كتاب مناسك الحج، باب الحج عن الميت الذي لم يحج، برقم 2631، وابن خزيمة، برقم 3034، 3035، وحسنه الألباني في صحيح سنن النسائي، 2/ 559. (¬3) أخرجه البخاري، كتاب جزاء الصيد، باب الحج والنذور عن الميت، برقم 1852. (¬4) أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام، باب من شبه أصلاً معلوماً بأصل مبين قد بيّن الله حكمهما ليفهم السائل، برقم 7315. (¬5) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان بالنذور، باب من مات وعليه نذر، برقم 6699.

يقول: لبيك عن شبرمة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من شبرمة؟)) قال: أخ لي أو قريبٌ لي، قال: ((حججت عن نفسك؟)) قال: لا. قال: ((حج عن نفسك ثم عن شبرمة)) (¬1). 26 - وحديث عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يضحي اشترى كبشين، عظيمين، سمينين، أقرنين، أملحين، موجوءين، فذبح أحدهما عن أمته، لمن شهد بالله بالتوحيد وشهد له بالبلاغ، وذبح الآخر عن محمد وعن آل محمد - صلى الله عليه وسلم -)) (¬2). 27 - وحديث أبي رافع - رضي الله عنه - قال: ((ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكبشين، أملحين، موجبين (¬3)، خصيين، فقال: أحدهما لمن شهد بالتوحيد، وله بالبلاغ، والآخر عنه وعن أهل بيته، قال: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كفانا))، وفي رواية لأحمد: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ضحى اشترى كبشين، سمينين، أقرنين، أملحين، فإذا صلى وخطب الناس أتي بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية ثم يقول: ((اللهم إن هذا عن أمتي جميعاً ممن شهد لك بالوحدانية، وشهد لي بالبلاغ))، ثم يؤتى بالآخر فيذبحه بنفسه ويقول: ((هذا عن محمد وآل محمد))، فيطعمها جميعاً المساكين، ويأكل هو وأهله منهما، فمكثنا سنين ليس رجل من بني هاشم يضحي قد كفاه الله المؤنة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والغُرْمَ)) (¬4). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((وأيُّ قربة فعلها، وجعل ثوابها للميت المسلم نفعه ذلك، إن شاء الله، أما الدعاء، والاستغفار، والصدقة، ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، كتاب المناسك، باب الرجل يحج عن غيره، برقم 1811، وابن ماجه، كتاب الحج، باب الحج عن الميت، برقم 2903، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 341، وإرواء الغليل، 4/ 171. (¬2) ابن ماجه، كتاب الأضاحي، باب أضاحي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، برقم 3122، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 3/ 81. (¬3) موجبين: وفي مجمع الزوائد، 4/ 22: ((موجوءين)). (¬4) أحمد في المسند، 6/ 8، 6/ 391، وصححه الألباني في إرواء الغليل، برقم 1147.

وأداء الواجبات فلا أعلم فيه خلافاً، إذا كانت الواجبات مما تدخله النيابة، وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (¬1)، وقال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالله يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (¬2)، ودعا النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي سلمة حين مات (¬3)، وللميت الذي صلى عليه في حديث عوف بن مالك (¬4)، ولكل ميت صلى عليه، ولذي النجادين حين دفنه (¬5)، وشرع الله ذلك لكل من صلى على ميت، وسأل رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت، فينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: ((نعم)) رواه أبو داود (¬6)، وروي ذلك عن سعد بن عبادة (¬7)، وجاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: ((أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته؟)) قالت: نعم، قال: ((فدين الله أحق أن يُقضى)) (¬8) وقال للذي سأله: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأصوم عنها؟ قال: ((نعم)) (¬9)، وهذه أحاديث صحاح، وفيها دلالة على انتفاع الميت بسائر القرب؛ لأن الصوم، والحج، والدعاء، والاستغفار عبادات بدنية، وقد أوصل الله نفعها إلى الميت، فكذلك ما سواها ... وروي عن عمرو بن ¬

(¬1) سورة الحشر، الآية: 10. (¬2) سورة محمد، الآية: 19. (¬3) مسلم، برقم 920، وتقدم تخريجه في تغميض الميت. (¬4) مسلم، برقم 963، وتقدم تخريجه في الدعاء للميت في الصلاة عليه. (¬5) المغني لابن قدامة، 3/ 521. (¬6) أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب موت الفجأة البغتة، برقم 1388، ومسلم، كتاب الزكاة، باب وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه، برقم 1004. (¬7) أخرجه البخاري، برقم 2756، وأبو داود، برقم 2882، وقد تقدم تخريجه. (¬8) أخرجه البخاري برقم 1854، ومسلم، برقم 1334 وقد تقدم تخريجه. (¬9) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب من مات وعليه صوم، برقم 1953، ومسلم، كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت، برقم 1148.

شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعمرو بن العاص: ((لو كان أبوك مسلماً فأعتقتم عنه، أو تصدقتم عنه، أو حججتم عنه بلغه ذلك)) (¬1). وهذا عام في حج التطوع وغيره؛ ولأنه عمل برٍّ وطاعةٍ، فوصل نفعه وثوابه، كالصدقة، والصيام، والحج الواجب ... )) (¬2)، ثم رد رحمه الله على من قال: لا يصل إلى الميت إلا الواجب، والصدقة، والدعاء، والاستغفار، وبين أن المسلمين يهدون الثواب إلى أمواتهم من غير نكير؛ ولأن الحديث صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه)) (¬3)، والله أكرم من أن يوصل عقوبة المعصية إليه ويحجب عنه المثوبة؛ ولأن الموصل لثواب ما سلموه، قادر على إيصال ثواب ما منعوه، والآية مخصوصة بما سلموه {وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى} وما اختلفنا فيه في معناه فنقيسه عليه (¬4)، وقال: ولا حجة لهم في الخبر الذي احتجوا به ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة)) فإنما يدل على انقطاع عمله، وليس هذا من عمله فلا دلالة فيه عليه ... )) (¬5). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((الصحيح أنه ينتفع الميت بجميع العبادات البدنية: من الصلاة، والصوم، والقراءة، كما ينتفع بالعبادات المالية: من الصدقة، والعتق، ونحوها باتفاق الأئمة ... )) (¬6). وبين الإمام ابن القيم رحمه الله أن أرواح الموتى تنتفع من سعي الأحياء بأمرين: ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، كتاب الوصايا، باب ما جاء في وصية الحربي يسلم وليه أيلزمه أن ينفذها، برقم 2883، وحسنه الألباني في الأحاديث الصحيحة، برقم 3161. (¬2) المغني لابن قدامة، 3/ 521 - 522، وانظر: الشرح الكبير، 6/ 257 - 265، والكافي، 2/ 82. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم 1304، ومسلم، برقم 924، وتقدم تخريجه في فضائل الصبر على احتساب المصيبة. (¬4) المغني، 3/ 522 بتصرف. (¬5) المغني،3/ 521 - 522، وانظر الشرح الكبير، 6/ 257 - 265، والكافي، 2/ 82. (¬6) الاختيارات العلمية من الاختيارات الفقهية، ص137.

الأمر الأول: ما تسبب إليه الميت في حياته. الأمر الثاني: دعاء المسلمين له، واستغفارهم، والصدقة، والحج ... واختلفوا في العبادات البدنية: كالصوم، والصلاة، وقراءة القرآن، والذكر، فذهب الإمام أحمد وجمهور السلف إلى وصولها وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة ثم قال: ((والدليل على انتفاعه بغير ما تسبب فيه: القرآن، والسنة، والإجماع، وقواعد الشرع)) (¬1) ثم ساق رحمه الله الأدلة على وصول ثواب الدعاء للميت، ووصول ثواب الصدقة، والصوم، والحج، ورد على المخالفين في ذلك، ثم قال: ((هذه النصوص متظاهرة على وصول ثواب الأعمال إلى الميت إذا فعلها الحي عنه وهذا محض القياس؛ فإن الثواب حق للعامل فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يُمنع من ذلك، كما لم يُمنع من هبة ماله في حياته وإبرائه له من بعد موته)) (¬2). وقال في الروض: ((وأيُّ قربة: من دعاء، واستغفار، وصلاة، وصوم، وحج، وقراءة وغير ذلك فعلها مسلم وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي نفعه ذلك)) (¬3) (¬4)، قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: ((لكن بشرط أن يكون المحجوج عنه [أي الحي] عاجزاً عجزاً لا يرجى زواله)) (¬5). وقال: ((هناك أربعة أنواع من العبادات تصل إلى الميت بالإجماع وهي: الأول: الدعاء، والاستغفار. الثاني: الواجب الذي تدخله النيابة. ¬

(¬1) الروح لابن القيم،2/ 435 - 500،وانظر: كلاماً لابن القيم أيضاً في تهذيب السنن،3/ 279 - 282. (¬2) الروح لابن القيم، 2/ 450. (¬3) الروض المربع مع حاشية عبد الرحمن القاسم، 2/ 138. (¬4) ونقل ابن قاسم في حاشية الروض المربع قول ابن القيم في أن جميع ذلك يصل، [حاشية ابن قاسم، 2/ 139]. (¬5) الشرح الممتع، 5/ 466.

الثالث: الصدقة. الرابع: العتق، وما عدا ذلك فإنه موضع خلاف بين أهل العلم، فمن العلماء من يقول: إن الميت لا ينتفع بثواب الأعمال الصالحة إذا أهدي له غير هذه الأمور الأربعة، ولكن الصواب أن الميت ينتفع بكل عمل صالح جُعِلَ له إذا كان الميت مؤمناً ... )) (¬1)، ثم قال: أما قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى} (¬2) المراد والله أعلم: أن الإنسان لا يستحق من سعي غيره شيئاً، كما لا يحمل من وزر غيره شيئاً، وليس المراد أنه لا يصل إليه ثواب سعي الغير إلى غيره وانتفاعه به إذا قصده به)) (¬3)، ثم ساق رحمه الله تعالى الأدلة على وصول ثواب: الدعاء، والصدقة عن الميت، والصيام، والحج، والأضحية، ثم رد على من خصص ذلك بالولد، وبين أنه قد جاء ما يدل على جواز الحج عن الغير حتى من غير الولد، وذلك أنه سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من شبرمة؟)) قال: أخ لي أو قريب لي، قال: ((أحججت عن نفسك؟)) قال: لا. قال: ((حج عن نفسك ثم عن شبرمة)) (¬4) (¬5). وبين أنه يجوز أن يحج عن الميت الفرض والنفل لهذا الحديث؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل هذا الرجل عن حجه عن شبرمة هل نفل أو فرض؟ وهل كان شبرمة حيًّا أو ميتاً، قالوا: وإذا جاز أن يحج عن الميت الفرض بالنص الصحيح الصريح فما المانع من النفل؟ (¬6). وذكر شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله: أن الميت تصل إليه الصدقة، ¬

(¬1) مجموع رسائل ابن عثيمين، 17/ 255. (¬2) سورة النجم، الآية: 39. (¬3) مجموع رسائل ابن عثيمين، 17/ 255 - 256. (¬4) أبو داود، برقم 1811، وابن ماجه، برقم 2903، وتقدم تخريجه. (¬5) مجموع رسائل ابن عثيمين، 17/ 256 - 266. (¬6) المرجع السابق،17/ 274 - 275،وانظر: مباحث مفيدة في ذلك،17/ 222 - 280.

والدعاء، والاستغفار، والحج، والعمرة، وقضاء الدين (¬1). ويرجح رحمه الله أنه يقتصر على ما ورد به النص في وصول ثوابه إلى الميت؛ لأن العبادات توقيفية لا يجوز منها إلا ما دل عليه الشرع (¬2). وبين أن الصدقة تنفع الحي والميت، والدعاء، والحج، والعمرة، لكن الحي يحج عنه ويعتمر إذا كان عاجزاً. وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول: ((هذه الأحاديث تدل على انتفاع الميت بالقربات: من الصدقات، والحج، والصوم، والدعاء، وغير ذلك، فهذا كله ينتفع به المسلم، أما غير المسلم فلا يدعى له، ولا يتصدق عنه، والأقرب والله أعلم أن قراءة القرآن عن الميت، والصلاة عنه لا تفعل عنه؛ لأن العبادات توقيفية، وإنما يقتصر على ما شرع الله: كالدعاء، والحج، والعمرة، والصدقة، والصوم وغير ذلك)) (¬3). وما ذهب إليه شيخنا ابن باز رحمه الله تعالى: هو أرجح وأن العبادات توقيفية، وقد جاءت الأدلة في إهداء ثواب: * الدعاء. * والحج: الفرض والنفل. * والعمرة: الفرض والنفل. * والصدقة مطلقاً. * والصوم: الفرض. * والعتق. * والواجبات على الميت: كالنذور، والكفارات، وغير ذلك من العبادات التي ¬

(¬1) مجموع الفتاوى لابن باز، 13/ 249 - 250، 260. (¬2) مجموع الفتاوى، 13/ 258، وبين أن الأفضل أن لا يهدي الطواف، 13/ 258، ولا ثواب قراءة القرآن، 13/ 259، 266، ولا الصلاة نفلها وفرضها، 13/ 259، 260، 261، إلا ركعتي الطواف لمن كان حاجًّا أو معتمراً عن الغير، فإنها تبعاً للطواف، 13/ 260. (¬3) سمعته أثناء تقريره على منتقى الأخبار، الأحاديث 1921 - 1925.

الثاني والعشرون: زيارة القبور، يراعى فيها الأمور الآتية:

جاء بها النص، والله - عز وجل - أعلم (¬1). الثاني والعشرون: زيارة القبور، يراعى فيها الأمور الآتية: الأمر الأول: مشروعية زيارة القبور للرجال؛ لحديث بريدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)) زاد الترمذي: ((فإنها تذكركم الآخرة))، وعند أبي داود: ((فإن في زيارتها تذكرة)). ولفظ النسائي: ((نهيتكم عن زيارة القبور، فمن أراد أن يزور فليزر، ولا تقولوا هُجراً)) (¬2). وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إني نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإن فيها عبرة [ولا تقولوا ما يسخط الرب])) (¬3). وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها فإنها ترق القلب وتدمعُ العين، وتذكر الآخرة، ولا تقولوا هُجراً)) (¬4) (¬5). وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يقول: ((وفي لفظ: تُذكّر ¬

(¬1) انظر فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 24 - 306 - 325، والروح لابن القيم، 2/ 435 - 500، وتهذيب السنن لابن القيم، 3/ 79 - 282، والمغني لابن قدامة، 3/ 521 - 522، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، 6/ 257 - 265، والكافي، 2/ 82، ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 782 - 786، والاختيارات الفقهية لابن تيمية، ص137، والروض المربع مع حاشية عبد الرحمن القاسم، 2/ 138 - 140، وقد نقل كلاماً مفيداً عن ابن تيمية، وابن القيم، ومجموع فتاوى ابن باز، 13/ 249 - 284، ومجموع رسائل ابن عثيمين، 17/ 239 - 276، وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية، 9/ 15 - 69، والشرح الممتع لابن عثيمين، 5/ 464 - 470، وأحكام الجنائز للألباني، ص212 - 226. (¬2) مسلم، كتاب الجنائز، باب استئذان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه في زيارة قبر أمه، برقم 977، والترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الرخصة في زيارة القبور، برقم 1054، والنسائي، تاب الجنائز، باب زيارة القبور، برقم2031،وأحمد،5/ 350،وأبو داود. (¬3) أحمد، 3/ 38، 63، 66، والحاكم، 1/ 374، والبيهقي، 4/ 77، وقال الألباني رحمه الله في أحكام الجنائز، ص288 عن تصحيح الحاكم وموافقة الذهبي له: ((وهو كما قالا)). (¬4) هُجراً: الهجر الفحش والكلام الباطل، النهاية في غريب الحديث، 5/ 245. (¬5) الحاكم، 1/ 376، 375، وأحمد، 3/ 237، 250، وحسنه الألباني في أحكام الجنائز، ص229.

الأمر الثاني: زيارة الرجال للقبور بدون سفر

الآخرة، وفي لفظ: تزهّد في الدنيا، والحديث جمع بين الناسخ والمنسوخ، والنهي كان أولاً؛ لأنهم كانوا حدثاء عهد بكفر وشرك، وتعلق بالقبور، ثم شرع الله الزيارة بعد ذلك؛ لأنها تذكر الآخرة، ويدعى للأموات فيها)) (¬1). الأمر الثاني: زيارة الرجال للقبور بدون سفر؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى)) (¬2). فدخل في هذا النهي شدّ الرحال لزيارة القبور والمشاهد، وهو الذي فهمه الصحابة - رضي الله عنهم - من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا عندما ذهب أبو هريرة - رضي الله عنه - إلى الطور، فلقيه بصرة بن أبي بصرة الغفاري، فقال: من أين جئت؟ قال: من الطور. فقال: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت إليه، سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد ... )) (¬3). ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((وقد اتفق الأئمة على أنه لو نذر أن يسافر إلى قبره - صلى الله عليه وسلم - أو غيره من الأنبياء والصالحين لم يكن عليه أن يوفي بنذره، بل ينهى عن ذلك)) (¬4). الأمر الثالث: الزيارة للقبور للرجال دون النساء؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((لعن زوَّارات القبور)) (¬5). ¬

(¬1) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 607. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 1189،ومسلم، برقم 1397،وتقدم في آداب الجلوس والمشي في القبور. (¬3) النسائي، كتاب الجمعة، باب الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة، 3/ 114، ومالك في الموطأ، كتاب الجمعة، باب الساعة التي في يوم الجمعة، 1/ 109، وأحمد في المسند، 6/ 7، 397، وانظر: فتح المجيد، ص289، وصحيح سنن النسائي، 1/ 309. (¬4) انظر: فتاوى ابن تيمية، 1/ 234. (¬5) الترمذي، برقم 1056، وابن ماجه، برقم 1576، وتقدم تخريجه في آداب الجلوس والمشي في المقابر، وأن الألباني حسنه.

وعن حسان بن ثابت - رضي الله عنه - قال: ((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوَّارات القبور)) (¬1). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوَّارات القبور)) (¬2). وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يقول: ((وهذه الأحاديث الثلاثة (¬3) تدل على عدم زيارة النساء للقبور، وأما حديث عائشة أنها قالت: يا رسول الله: ما أقول عند زيارة القبور، فقال: ((قولي السلام عليكم ... )) الحديث، فهذا والله أعلم كان قبل نهي النساء؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن زيارة القبور ثم أذن مطلقاً: أي للرجال والنساء، ثم جاء نهي النساء عن زيارة القبور)) (¬4). وذكر العلامة ابن عثيمين رحمه الله أن زيارة عائشة لقبر أخيها (¬5) اجتهاد منها رضي الله عنها، وأن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعارض بقول أحد كائناً من كان، وأن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: ((قولي السلام عليكم دار قوم مؤمنين)) (¬6)، يدل على أن المرأة إذا مرت بدون قصد على المقبرة فلا حرج أن تسلم على أهل القبور وتدعو لهم؛ فإنه يفرق بين خروجها من أجل الزيارة، ومرورها من غير قصد للزيارة، وأما لفظ: ((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوَّارات القبور)) بصيغة المبالغة، ولفظ: ((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور))، فإن كان لفظ: ((زوَّارات)) للنسبة فلا إشكال، وإن كان للمبالغة، ¬

(¬1) ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في النهي عن زيارة النساء القبور، برقم 1574، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 38. (¬2) ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في النهي عن زيارة النساء للقبور، برقم 1575، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 38. (¬3) الأحاديث الثلاثة أي حديث رقم 609، 610، 611 من بلوغ المرام. (¬4) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 609، وقد رجح رحمه الله في مجموع الفتاوى له ما سمته منه هنا، 13/ 331. (¬5) أخرجه الترمذي، كتاب الجنائز، باب 60، برقم 1055، وابن أبي شيبة، 3/ 343، والحاكم، 1/ 376، والبيهقي، 4/ 78. (¬6) أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها برقم 974.

الأمر الرابع: الزيارة لأهل القبور أنواع على النحو الآتي:

فإن لفظ زائرات فيه زيادة علم فيؤخذ به؛ لأن ((زائرات)) يصدق بزيارة واحدة، و ((زوَّارات)) في الكثير للمبالغة، ومعلوم أن الوعيد إذا جاء معلقاً بزيارة واحدة ومعلقاً بزيارات متعددة، فإن مع المعلق بزيارة واحدة زيادة علم؛ لأنه يلحق الوعيد على من زار مرة واحدة على لفظ ((زائرات)) دون لفظ: ((زوَّارات))، ولو أخذنا بلفظ ((زوَّارات)) ألغينا دلالة ((زائرات))، وقد تكلم شيخ الإسلام رحمه الله على هذه المسألة كلاماً جيداً (¬1) (¬2). قال شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله: ((الصحيح أن زيارة النساء للقبور لا تجوز))، ثم قال: ((فالصواب أن الزيارة من النساء للقبور محرمة لا مكروهة فقط ... )) (¬3)، أما حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي قال فيه للمرأة التي وجدها تبكي على صبي لها فقال لها: ((اتقي الله واصبري)) (¬4) حينما وجدها عند القبر فرجح شيخنا ابن باز رحمه الله أن هذا لعله كان في وقت الإذن العام منه - صلى الله عليه وسلم - للرجال والنساء في الزيارة؛ لأن أحاديث النهي عن الزيارة للنساء محكمة ناسخة لما قبلها)) (¬5). الأمر الرابع: الزيارة لأهل القبور أنواع على النحو الآتي: النوع الأول: زيارة شرعية يقصد بها ما يأتي: 1 - السلام على الموتى والدعاء لهم، والترحم عليهم، فقد انقطعت أعمالهم. 2 - تذكر الموت، والآخرة، وحصول رقة القلب ودمع العين. 3 - إحياء سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه زار القبور وأمر بزيارتها. ¬

(¬1) الشرح الممتع لابن عثيمين، 5/ 477 - 479 بتصرف. (¬2) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 24/ 344. (¬3) مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 324، و326. (¬4) البخاري، برقم 1252، ومسلم، برقم 926، وتقدم تخريجه في شروط الصبر. (¬5) مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 332.

النوع الثاني: زيارة بدعية وشركية

النوع الثاني: زيارة بدعية وشركية (¬1)، وهذا النوع ثلاثة أنواع: 1 - من يسأل الميت حاجته، وهؤلاء من جنس عُبَّاد الأصنام، ويخرجون من الإسلام. 2 - من يسأل الله تعالى بالميت، كمن يقول: أتوسل إليك بنبيك، أو بحق الشيخ فلان، وهذا من البدع المحدثة في الإسلام، ولا يصل إلى الشرك الأكبر، فهو لا يُخرج عن الإسلام، كما يخرج الأول. 3 - من يظن أن الدعاء عند القبور مُستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد، وهذا من المنكرات بالإجماع (¬2). قال الإمام ابن القيم رحمه الله في مشروعية زيارة القبور: ((وكان هديه - صلى الله عليه وسلم - أن يقول ويفعل عند زيارتها، من جنس ما يقوله عند الصلاة على الميت: من الدعاء، والترحم، والاستغفار، فأبى المشركون إلا دعاء الميت، والإشراك به، والإقسام على الله به، وسؤاله الحوائج، والاستعانة به والتوجه إليه، بعكس هديه - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه هدي توحيد وإحسان إلى الميت، وهدي هؤلاء شرك وإساءة إلى نفوسهم وإلى الميت، وهم ثلاثة أقسام: إما أن يدعو الميت، أو يدعو به، أو عنده، ويرون الدعاء عنده أوجب وأولى من الدعاء في المساجد، ومن تأمل هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه تبين له الفرق بين الأمرين وبالله التوفيق)) (¬3). الأمر الخامس: جواز زيارة قبور المشركين للعبرة والعظة فقط؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي)) وفي لفظ: ((زار - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((استأذنت ربي في أن أستغفر ¬

(¬1) انظر: فتاوى ابن تيمية، 1/ 233، و24/ 326، والبداية والنهاية، 14/ 123. (¬2) انظر: الدرر السنية في الأجوبة النجدية،6/ 165 - 174،وانظر مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 285. (¬3) زاد المعاد، 1/ 526 - 527.

الأمر السادس: كيفية السلام على أهل القبور من المسلمين

لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور؛ فإنها تذكركم الموت)) (¬1). وقد نهى الله - عز وجل - عن الاستغفار للمشركين والدعاء لهم، وعن الصلاة عليهم (¬2)،فلا يجوز للمسلم أن يدعو لهم، ولا يستغفر لهم، وإنما إذا زار قبورهم فللتذكر والاعتبار وتذكر الموت. الأمر السادس: كيفية السلام على أهل القبور من المسلمين على النحو الآتي: 1 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من بيتها في ليلتها حتى جاء البقيع، فقام فأطال القيام ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم رجع إليها وأخبرها أن الله أمره أن يأتي أهل البقيع فيستغفر لهم، قالت قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله! قال قولي: ((السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بهم لاحقون))، وفي لفظ: قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلما كان ليلتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: ((السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون، غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد)) (¬3). 2 - وفي حديث بريدة عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر فكان قائلهم يقول: ((السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، [أنتم لنا فرط ونحن لكم تبع] أسأل الله لنا ولكم العافية)) وفي لفظ: ((السلام على أهل الديار)) (¬4). ¬

(¬1) مسلم، كتاب الجنائز، باب استئذان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه - عز وجل - في زيارة قبر أمه، برقم 976. (¬2) تقدم في الصلاة على الجنازة أن الله تعالى قال: {وَلاَ تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ} وتقدمت قصة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع عمه أبي طالب وأن الله نهاه ونهى المسلمين عن الاستغفار للمشركين. (¬3) مسلم، كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول المقابر والدعاء لأهلها، رقم 974، في هذا الحديث رفع اليدين في الدعاء لأهل القبور، وقد ثبت أيضاً في حديث آخر عند أحمد، 6/ 92، وحسن إسناده الألباني في أحكام الجنائز، ص246. (¬4) مسلم، كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول المقابر والدعاء لأهلها، برقم 975، وما بين المعقوفين من سنن النسائي، برقم 2039.

3 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه فقال: ((السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر)) (¬1). وهل يستقبل الزائر وجه الميت أثناء السلام عليه كما في هذا الحديث؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((ومذهب الأئمة: مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وغيرهم من أئمة الإسلام أن الرجل إذا سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأراد أن يدعو لنفسه، فإنه يستقبل القبلة، واختلفوا في وقت السلام عليه: فقال الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد: يستقبل الحجرة ويسلم عليه من تلقاء وجهه، وقال أبو حنيفة: لا يستقبل الحجرة وقت السلام كما لا يستقبلها وقت الدعاء، ثم في مذهبه قولان: قيل: يستدبر الحجرة، وقيل: يجعلها عن يساره)) (¬2) (¬3). 4 - وهل يسمع أهل القبور سلام من يسلم عليهم أثناء زيارتهم؟ هذه مسألة اختلف أهل العلم فيها، وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، والإمام ابن كثير في تفسيره، والعلامة الشنقيطي في أضواء البيان أن الأموات يسمعون سلام الزائر لهم، ويرد الله عليهم ¬

(¬1) الترمذي، كتاب الجنائز، باب ما يقول الرجل إذا دخل المقابر، برقم 1053، وحسنه، والطبراني في الكبير، برقم 12613، وحسنه عبد القادر الأرناؤوط في تحقيقه لجامع الأصول لابن الأثير، 11/ 157، وضعفه الألباني في أحكام الجنائز، ص250. (¬2) قاعدة التوسل والوسيلة؛ لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص25. (¬3) وقال شيخنا عبد العزيز ابن باز: ((يدعى للميت سواء استقبل القبلة أو استقبل القبر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف على القبر بعد الدفن، وقال: ((استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل)) [مسلم، برقم 974] ولم يقل: استقبلوا القبلة، فكل جائز سواء استقبل القبلة [أي أثناء الدعاء] أو استقبل القبر، والصحابة - رضي الله عنهم - دعوا للميت وهم مجتمعون حول القبر)) [مجموع فتاوى ابن باز، 13/ 338]. وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في مكان وقوف زائر القبور: ((يقف عند رأس الميت مستقبلاً إياه)) [مجموع الرسائل له،7/ 288]. وقال في موضع آخر: ((يسلم على الميت تجاه وجهه، ويدعو له وهو قائم هكذا بدون أن ينصرف إلى القبلة)). [مجموع رسائله،17/ 333].

الأمر السابع: زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - على النحو الآتي:

أرواحهم حتى يردوا عليه السلام (¬1). قال الإمام ابن كثير رحمه الله: ((والصحيح عند العلماء رواية عبد الله بن عمر لما لها من الشواهد على صحتها من وجوهٍ كثيرة من أشهر ذلك ما رواه ابن عبد البر مصححاً له عن ابن عباس مرفوعاًً: ((ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام)) ثم ذكر آثاراً كثيرة جداً عن الصحابة - رضي الله عنهم -، وعن التابعين رحمهم الله، والله تعالى أعلم (¬2). الأمر السابع: زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - على النحو الآتي: 1 - تستحب زيارة مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي مشروعة في أي وقت، وفي أي زمان، وليس لها وقت محدد، وليست من أعمال الحج، ولا يجوز شدُّ الرحال والسفر من أجل زيارة القبر؛ فإن شدَّ الرحال على وجه التعبد لا يكون لزيارة القبور، وإنما يكون للمساجد الثلاثة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)) (¬3)، فالبعيد عن المدينة ليس له شد الرحال بقصد زيارة القبر، ولكن يشرع له شد الرحال بقصد زيارة المسجد النبوي الشريف، فإذا وصله زار قبره - صلى الله عليه وسلم - وقبور أصحابه، فدخلت الزيارة لقبره تبعاً لزيارة مسجده - صلى الله عليه وسلم -، لما في زيارة المسجد من الثواب العظيم. قال - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد ¬

(¬1) انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير، 3/ 422 - 423، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 24/ 295 - 279، وكتاب الروح لابن القيم، 1/ 167 - 204، وأضواء البيان للشنقيطي، 6/ 416 - 439، ومجموع رسائل ابن عثيمين، 17/ 288، 336، ومجموع فتاوى ابن باز، 13/ 335 - 336. (¬2) وقد ذكرت خلاف العلماء في ذلك، والتفصيل في ذلك في أول كتاب الجنائز، في مسألة نعيم القبر وعذابه، وهل الموتى يسمعون، فراجعها. (¬3) أخرجه البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، برقم 1189،ومسلم، كتاب الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، برقم 1397.

2 - إذا دخل المسجد النبوي الشريف استحب له أن يقدم رجله اليمنى عند دخوله

الحرام)) (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه)) (¬2). 2 - إذا دخل المسجد النبوي الشريف استحب له أن يُقدّم رجله اليمنى عند دخوله ويقول: ((أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم. بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم افتح لي أبواب رحمتك)) (¬3)، كما يقول ذلك عند دخول سائر المساجد. 3 - يصلي ركعتين تحية المسجد، أو يصلي ما شاء، ويدعو في صلاته بما شاء، والأفضل أن يفعل ذلك في الروضة الشريفة، وهي ما بين منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وحجرته؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي)) (¬4). أما صلاة الفريضة فيبنغي للزائر وغيره أن يحافظ عليها في الصف الأول. 4 - ثم بعد الصلاة إن أراد زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف أمام قبره: بأدب، ووقار، وخفض الصوت، ثم يسلم عليه - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: ((السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، اللهم صَلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، برقم 1190،ومسلم، كتاب الحج، باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة، برقم 1394. (¬2) أخرجه ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في فضل الصلاة في المسجد الحرام ومسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 1406، وأحمد، 3/ 343، 53، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 1/ 236 وإرواء الغليل، 4/ 341. (¬3) أخرجه مسلم، برقم 113، وأبو داود، برقم 465، وتقدم تخريجه في صلاة الجماعة آداب المشي إلى الصلاة في المساجد. (¬4) أخرجه البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل ما بين القبر والمنبر، برقم 1195،ومسلم، كتاب الحج، باب ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة، برقم 1390.

5 - ثم يأخذ ذات اليمين قليلا فيسلم على أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -

إنك حميد مجيد)). أو يقول: ((السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته))؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من أحدٍ يسلم عليَّ إلا ردَّ الله عليَّ روحي حتى أردَّ عليه السلام)) (¬1)، وإن قال: أشهد أنك رسول الله حقًّا، وأنك قد بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، وجاهدت في الله حق جهاده، ونصحت الأمة، فجزاك الله عن أمتك أفضل ما جزى نبيًّا عن أمته. فلا بأس؛ لأن هذا كله من أوصافه - صلى الله عليه وسلم -. 5 - ثم يأخذ ذات اليمين قليلاً فيسلّم على أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، ويدعو له بما يناسبه، ثم يأخذ ذات اليمين قليلاً أيضاً فيسلّم على عمر بن الخطاب، ويترضى عنه، ويدعو له، وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا سلَّم على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه لا يزيد غالباً على قوله: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه، ثم ينصرف (¬2). ولا يجوز لأحد أن يتقرب إلى الله بمسح الحجرة، أو الطواف بها، ولا يسأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - قضاء حاجته، أو شفاء مريضه، ونحو ذلك؛ لأن ذلك كله لا يطلب إلا من الله وحده. والمرأة لا تزور قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا قبر غيره؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لعن زوَّارات القبور (¬3). لكن تزور المسجد، وتتعبد لله فيه رغبة فيما فيه من مضاعفة الصلاة، وتسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي في مكانها فيبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي في أي مكان كانت؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لاَ تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَلاَ تَجْعَلُوا قَبْرِى عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ)) (¬4). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، كتاب المناسك، باب زيارة القبور، برقم 2041، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 383، وابن باز في مجموع الفتاوى للحج، 5/ 288. (¬2) انظر: مجموع فتاوى ابن باز في الحج والعمرة، 9/ 289. (¬3) أخرجه الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في كراهية أن يتخذ على القبر مسجداً برقم 320، وحسنه الألباني في أحكام الجنائز، ص185،وانظر الإرواء، 3/ 211،وجامع الأصول، 11/ 150. (¬4) أخرجه أبو داود، كتاب المناسك، باب زيارة القبور، برقم 2042، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 383.

6 - يستحب لزائر المدينة أثناء وجوده بها أن يزور مسجد قباء ويصلي فيه

((إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام)) (¬1). 6 - يستحب لزائر المدينة أثناء وجوده بها أن يزور مسجد قباء ويصلي فيه؛ ((لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأتيه راكباً وماشياً ويصلي فيه ركعتين)) (¬2)،وعن سهل بن حنيف قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة كان له كأجر عمرة)) (¬3)،وقال أسيد بن ظهير الأنصاري - رضي الله عنه - يرفعه: ((صلاة في مسجد قباء كعمرة)) (¬4). 7 - ويسن للرجال زيارة قبور البقيع - وهي مقبرة المدينة - وقبور الشهداء، وقبر حمزة - رضي الله عنهم -؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يزورهم ويدعو لهم؛ ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((زوروا القبور فإنها تذكركم بالموت)) (¬5). ويقول إذا زارهم: ((السلام عليكم أهل الديار، من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون [ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين] نسأل الله لنا ولكم العافية)) (¬6). ولاشك أن المقصود بزيارة القبور هو تذكر الآخرة والإحسان إلى ¬

(¬1) أخرجه أحمد، 1/ 441، وابن حبان في صحيحه، برقم 914، والحاكم، 2/ 421، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 1/ 274. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب من أتى مسجد قباء كل سبت، برقم 1193، ومسلم كتاب الحج، باب فضل مسجد قباء وفضل الصلاة فيه وزيارته، برقم 1399. (¬3) أخرجه أحمد، 3/ 487، وعبد بن حميد، برقم 469، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في الصلاة في مسجد قباء، برقم 1412، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 1/ 237، وصحيح سنن النسائي، 1/ 150. (¬4) أخرجه الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في الصلاة في مسجد قباء، برقم 324، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في الصلاة في مسجد قباء، برقم 1411، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 1/ 237، وصحيح سنن الترمذي، 1/ 104. (¬5) أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب استئذان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه - عز وجل - في زيارة قبر أمه، برقم 976/ 108. (¬6) أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها، برقم 974/ 103، و975.

الثالث والعشرون: الإحداد

الموت بالدعاء لهم، واتباع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذه هي الزيارة الشرعية. وأما زيارتهم لقصد الدعاء عند قبورهم، أو سؤالهم قضاء الحاجات، أو شفاء المرضى، أو سؤال الله بهم، أو بجاههم، ونحو ذلك فهذه زيارة بدعية منكرة لم يشرعها الله ولا رسوله، ولا فعلها السلف الصالح. وبعض هذه الأمور المذكورة بدعة وليس بشرك: كدعاء الله عند القبور، وسؤال الله بحق الميت، أو جاهه، ونحو ذلك. وبعضها بدعة من الشرك الأكبر: كدعاء الموتى، والاستعانة بهم، وسؤالهم النصر، أو المدد. فتنبه واحذر واسأل ربك التوفيق والهداية للحق فهو سبحانه الموفق، والهادي، لا إله غيره، ولا رب سواه (¬1). الثالث والعشرون: الإحداد ينبغي أن يراعى في الإحداد الأمور الآتية: الأمر الأول: مفهوم الإحداد: الإحداد لغة: مأخوذ من حَدَّ: الحاء والدال أصلان: الأول: المنع، والثاني طرف الشيء، فالحد الحاجز بين الشيئين، وفلان محدود: إذا كان ممنوعاً، ويقال: حدَّت المرأة على زوجها وأحدّت، وذلك إذا منعت نفسها الزينة والخضاب (¬2). وقيل: إحداد المرأة على زوجها: ترك الزينة، وقيل: هو إذا حزنت عليه ولبست ثياب الحزن وتركت الزينة والخضاب (¬3). والحادُّ والمحِدُّ: تاركة الزينة للعدة (¬4)، قال ابن الأثير رحمه الله: ¬

(¬1) انظر: فتاوى ابن باز في الحج والعمرة، 5/ 298. (¬2) معجم المقاييس في اللغة لابن فارس، ص239. (¬3) لسان العرب لابن منظور، 3/ 143. (¬4) القاموس المحيط، ص352.

الإحداد شرعا

((أحدت المرأة على زوجها تحِدُّ، فهي محِدُّ، وحَدَّت تَحُدَّ وتحِدُّ فهي حادٌّ: إذا حزنت عليه ولبست ثياب الحزن وتركت الزينة)) (¬1). فعُلِمَ أن الإحداد لغة: منع المرأة نفسها عن الزينة، والخضاب، وما نُهِيت عنه، إظهاراً للحزن. الإحداد شرعاً: قيل: الإحداد: اجتناب الزينة، والطيب، والتحسين. وقيل: اجتناب ما يدعو إلى جماعها، ويرغب في النظر فيها من الزينة والطيب، والتحسين، والحناء، والحلي والكحل. وقيل: ترك زينة، وطيب، ولبس حلي، وتحسين بحناء، وكحل بأسود. وقيل: اجتناب الزينة وما يدعو إلى المباشرة (¬2). وقيل: تربّصٌ تجتنب فيه المرأة ما يدعو إلى جماعها، أو يرغب في النظر إليها من الزينة وما في معناها مدة مخصوصة في أحوال مخصوصة (¬3). والمختار: ((تربُّصٌ تمتنع فيه المرأة عن كل ما يرغب في النظر إليها، مدة مخصوصة، في أحوال مخصوصة، في مكان مخصوص)). أو يقال: ((تربُّصٌّ تمتنع فيه المرأة عن الزينة، والطيب، والحلي، مدة مخصوصة، في أحوال مخصوصة، في مكان مخصوص)). الأمر الثاني حكم الإحداد الشرعي: الإحداد الشرعي نوعان: النوع الأول: الإحداد في عدة الوفاة: يجب على الزوجة مدة عدة الوفاة؛ لحديث أم عطية رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تُحِدُّ امرأة على ميت ¬

(¬1) النهاية في غريب الحديث والأثر، 1/ 352. (¬2) انظر: المغني، لابن قدامة، 11/ 285، والكافي، 5/ 41، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، 24/ 132، والروض المربع مع حاشية عبد الرحمن القاسم، 7/ 81، والإقناع لطالب الانتفاع، للحجاوي، 4/ 17، ومنتهى الإرادات، لمحمد بن أحمد الفتوحي، 4/ 410. (¬3) أحكام الإحداد، لخالد بن عبد الله المصلح، ص24.

النوع الثاني: حكم إحداد المرأة على غير زوجها

فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً، ولا تلبس ثوباً مصبوغاً، إلا ثوب عَصْبٍ، ولا تكتحل، ولا تمسّ طيباً إلا إذا طهرت نبذة من قُسْطٍ أو أظفار)) (¬1)، زاد أبو داود: ((ولا تختضب)) (¬2). وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاثٍ إلا على زوجها)) (¬3). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: ((ولا نعلم بين أهل العلم خلافاً في وجوبه على المتوفى عنها زوجها إلا عن الحسن؛ فإنه قال: لا يجب الإحداد، وهو قول شذ به عن أهل العلم وخالف به السنة، فلا يعرج عليه)) (¬4). قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((وأجمعت الأمة على وجوبه على المتوفَّى عنها زوجها إلا ما حُكي عن الحسن والحكم بن عتبة ... )) (¬5). النوع الثاني: حكم إحداد المرأة على غير زوجها: اتفق العلماء رحمهم الله تعالى على جواز إحداد المرأة على غير زوجها ثلاثة أيام؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً)) (¬6). ¬

(¬1) متفق عليه، البخاري، كتاب الطلاق، باب القسط للحادة عند الطهر، برقم 5341، ومسلم، واللفظ له، كتاب الطلاق، باب وجود الإحداد في عدة الوفاة وتحريمه في غير ذلك إلا ثلاثة أيام، برقم 938. (¬2) أخرجه أبو داود، كتاب الطلاق، باب فيما تجتنب المعتدة في عدتها، برقم 2304، والنسائي، كتاب الطلاق، باب ما تجتنب الحادة من الثياب المصبغة، برقم 3533. (¬3) مسلم، كتاب الطلاق، باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة وتحريمه في غير ذلك إلا ثلاثة أيام، برقم 1491. (¬4) المغني، 11/ 284. (¬5) زاد المعاد، 5/ 696، وانظر: الإجماع لابن المنذر، ص124. (¬6) مسلم، برقم 1491،وتقدم تخريجه، وقد ثبت ذلك في أحاديث كثيرة، منها: حديث عائشة هذا، وحديث أم حبيبة، وزينب بنت جحش، وأم سلمة، وزينب بنت أبي سلمة رضي الله عنهن، متفق على صحته: البخاري، برقم 5334 - 5337،ومسلم، برقم 1486،وحديث حفصة بنت عمر عند مسلم، برقم 1490،وحديث أم عطية متفق عليه كما تقدم: البخاري، برقم 5341،ومسلم، برقم 938.

الأمر الثالث: مدة الإحداد

وهذا يبين أن الإحداد على الزوج واجب وعزيمة، وعلى غير الزوج جائز ورخصة؛ لكن لا يجوز للمرأة أن تزيد على ثلاثة أيام على غير الزوج، وظاهر الأحاديث جواز إحداد المرأة على كل ميت ثلاثة أيام فأقل - غير الزوج، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((فإن الإحداد على الزوج واجب وعلى غيره جائز))، وقال: ((فالإحداد على الزوج عزيمة وعلى غيره رخصة)) (¬1). وقال العيني رحمه الله: ((قال ابن بطال: أجمع العلماء على أن من مات أبوها أو ابنها، وكانت ذات زوج وطالبها زوجها في الثلاثة أيام التي أبيح لها الإحداد فيها أنه يُقضى له عليها بالجماع فيها)) (¬2). الأمر الثالث: مدة الإحداد نوعان: النوع الأول: مدة الإحداد على الزوج قسمان: القسم الأول: عدة المرأة الحائل وهي غير الحامل، أربعة أشهر وعشراً؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (¬3)؛ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً)) (¬4). والحائل إما أن تكون مدخولاً بها أو غير مدخول بها وكلا الصنفين عدته من الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيام؛ لعموم الآية، فظاهر الآية والحديث يشملهما فلا فرق بينهما، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((وأما عدة الوفاة فتجب بالموت سواء دخل بها أو لم يدخل اتفاقاً كما ¬

(¬1) زاد المعاد، 5/ 696. (¬2) عمدة القاري، 8/ 64. (¬3) سورة البقرة، الآية: 234. (¬4) متفق عليه: البخاري،5334،ومسلم، 1486، وتقدم تخريجه عن عدة صحابيات.

دل عليه عموم القرآن والسنة)) (¬1)؛ لحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - في عدة غير المدخول بها عند وفاة الزوج، أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقاً ولم يدخل بها حتى مات، فقال ابن مسعود: ((لها مثل صداق نسائها لا وكس ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث))، فقام معقل بن سنان - رضي الله عنه - فقال: ((قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بروع بنت واشق امرأة منا: مثل الذي قضيت))، ففرح بها ابن مسعود - رضي الله عنه -)) (¬2). قال ابن المنذر رحمه الله: ((وأجمعوا أن عدة الحرة المسلمة التي ليست بحامل من وفاة زوجها أربعة أشهر وعشراً، مدخولاً بها أو غير مدخول، صغيرة لم تبلغ أو كبيرة قد بلغت)) (¬3). القسم الثاني: عدة المرأة الحامل: أجلها أن تضع حملها، ولو بعد الوفاة بوقت يسير، قال ابن المنذر رحمه الله: ((وأجمعوا أنها لو كانت حاملاً لا تعلم بوفاة زوجها أو طلاقه فوضعت حملها أن عدتها منقضية)) (¬4)، وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((وأجمعوا أيضاً على أن المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملاً أجلها وضع حملها، إلا ابن عباس، وروي عن علي من وجه منقطع أنها تعتد بأقصى الأجلين، وقاله أبو السنابل بن بعكك في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - فردَّ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله، وقد روي أن ابن عباس رجع إلى قول الجماعة لما بلغه حديث سبيعة)) (¬5). ¬

(¬1) زاد المعاد، 5/ 664. (¬2) أخرجه أبو داود، كتاب النكاح، باب فيمن تزوج ولم يسم صداقاً حتى مات، برقم 2114 - 2116، والترمذي، كتاب النكاح، باب الرجل يتزوج المرأة فيموت عنها قبل أن يفرض لها، برقم 1145، والنسائي كتاب النكاح، باب إباحة التزوج بغير صداق، برقم 3352، وابن ماجه، كتاب النكاح، باب الرجل يتزوج ولا يفرض لها فيموت على ذلك، برقم 1891، والحاكم، 2/ 180، وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 6/ 369. (¬3) الإجماع، لابن منذر، ص121. (¬4) المرجع السابق، ص122. (¬5) المغني، 11/ 227.

الأمر الرابع: الحكمة من الإحداد

قال الله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (¬1). فدلت الآية على أن كل حامل أجلها وضع الحمل؛ ولما روت سبيعة بنت الحارث الأسلمية رضي الله عنها أنها كانت تحت سعد بن خولة وتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلَّت من نفاسها تجملت للخطاب فدخل عليها أبو السنابل بن بعككٍ فقال لها: ما لي أراك متجملة؟ لعلك ترجين النكاح؟ إنك والله ما أنت بناكح حتى تمرَّ عليك أربعة أشهر وعشر، قالت: سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت عليًّ ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألته عن ذلك؟ فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزوج إن بدا لي))، قال ابن شهاب: فلا أرى بأساً أن تتزوج حين وضعت وإن كانت في دمها، غير أنه لا يقربها زوجها حتى تطهر (¬2). الأمر الرابع: الحكمة من الإحداد: يجب على كل مسلم أن ينقاد لشرع الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإن عرف الحكمة فزيادة علم وحكمة، وإن حُجبت عنه فلا يُسأل عنها، وإنما يلزمه العمل بما أمر والابتعاد عما نهي عنه. وقد ذكر بعض أهل العلم بعض الحكم من حكمة الإحداد، ومنها على سبيل الإيجاز: تعظيم أمر الله والعمل بما يرضيه تعالى. تعظيم حق الزوج وحفظ عشرته. أهمية عقد النكاح ورفع قدره. ¬

(¬1) سورة الطلاق، الآية: 4. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب 10، برقم 3991، ومسلم، كتاب الطلاق، باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل، برقم 1484.

4 - تطييب نفس أقارب الزوج ومراعاة شعورهم

تطييب نفس أقارب الزوج ومراعاة شعورهم. 5 - سد ذريعة تطلع المرأة للنكاح في هذه المدة وتطلع الرجال إليها. 6 - الإحداد من مكملات عدة الوفاة ومقتضياتها. 7 - تألم على فوات نعمة النكاح الجامعة بين خيري الدنيا والآخرة. 8 - موافقة الطباع البشرية؛ فإن النفس تتفاعل مع المصائب فأباح الله لها حدًّا تستطيع من خلاله التعبير عن مشاعر الحزن والألم بالمصاب مع الرضا التام بما قضى الله - عز وجل - وقدر، والصبر على أقدار الله المؤلمة، والرغبة فيما عنده سبحانه من الأجر لمن صبر واحتسب، وانتظار ما وعد الله سبحانه من الخير لمن حمده واسترجع وسأل الله أن يجيره في مصيبته ويخلفه خيراً منها (¬1). الأمر الخامس: يلزم الحادة على زوجها ستة أحكام على النحو الآتي: 1 - تلزم بيتها الذي مات زوجها وهي ساكنة فيه، ولا تخرج منه إلا لحاجة أو ضرورة، كمراجعة المستشفى عند المرض، وأخذ بعض حوائجها من السوق إذا لم يكن لديها من يقوم بذلك، ومن الأدلة الواضحة في ذلك حديث زينب بنت كعب بن عجرة عن الفريعة بنت مالك بن سنان - وهي أخت أبي سعيد الخدري - أخبرتها أنها جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة؛ فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كانوا بطرف القدوم لحقهم فقتلوه، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أرجع إلى أهلي؛ فإني لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة، قالت: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم)) قالت: فخرجت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني أو أمرني ¬

(¬1) انظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم فقد جلَّى ذلك، 2/ 146 - 148، وفتح الباري لابن حجر، 9/ 47، وأحكام الإحداد لخالد بن عبد الله المصلح، مراجعة بكر بن عبد الله أبو زيد، ص31 - 32.

فدعيت له، فقال: ((كيف قلت؟)) فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن زوجي، قالت: فقال: ((امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله))، قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً، قالت: فلما كان عثمان أرسل إلي فسألني عن ذلك، فأخبرته فاتبعه وقضى به)) (¬1). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: وهو حديث صحيح قضى به عثمان في جماعة الصحابة، فلم ينكروه، إذا ثبت هذا فإنه يجب الاعتداد في المنزل الذي مات زوجها وهي ساكنة به، سواء كان مملوكاً لزوجها، أو بإجارة، أو عارية؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للفريعة: ((امكثي في بيتك)) ولم يكن في بيت يملكه زوجها، وفي بعض ألفاظه: ((اعتدي في البيت الذي أتاك فيه نعي زوجك)) وفي لفظ: ((اعتدي حيث بلغك الخبر))، فإن أتاها الخبر في غير مسكنها رجعت إلى مسكنها فاعتدت فيه)) (¬2). وقال رحمه الله: ((فإن خافت هدماً، أو غرقاً، أو عدوًّا، أو نحو ذلك، أو حوَّلها صاحب المنزل؛ لكونه عارية رجع فيه، أو بإجارة انقضت مدتها، أو منعها السكن تعدّياً، أو امتنع من إجارته، أو طلب به أكثر من أجرة المثل، أو لم تجد ما تكتري به أو لا تجد إلا من مالها، فلها أن تنتقل؛ لأنها حال عُذرٍ، ولا يلزمها بذل أجر المسكن، وإنما الواجب عليها فعل السكنى، لا تحصيل المسكن، وإذا تعذرت السكنى سقطت ولها أن تسكن حيث شاءت ... )) (¬3). ¬

(¬1) أبو داود، بلفظه، كتاب الطلاق، باب في المتوفَّى عنها تنتقل، برقم 2300، والنسائي، كتاب الطلاق، باب مقام المتوفى عنها زوجها في بيتها حتى تنتقل، برقم 3558، بلفظ: ((اجلسي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله))، وفي لفظ له برقم 3559: ((اعتدي حيث بلغك الخبر))، وفي لفظ له برقم 3560: ((امكثي في أهلك حتى يبلغ الكتاب أجله)). والترمذي، 3/ 499 - 500، وابن ماجه، 1/ 654 برقم 2031، ولفظه: ((امكثي في بيتك الذي جاءك فيه نعي زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله))، وأحمد، 6/ 370، 420، 421. (¬2) المغني، 11/ 291. (¬3) المغني لابن قدامة، 11/ 291 - 292.

2 - تمتنع الحادة عن الملابس الجميلة وتلبس ما سواها

وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((وللمعتدّة الخروج في حوائجها نهاراً، سواء كانت مطلقة أو متوفى عنها)) (¬1)،لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: طُلقت خالتي فأرادت أن تجذ نخلها فزجرها رجل أن تخرج، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((بلى جذي نخلك، فإنك عسى أن تصدقي أو تفعلي معروفاً)) (¬2)،وذكر ابن قدامة رحمه الله أن المرأة الحادَّة ليس لها المبيت في غير بيتها وليس لها الخروج ليلاً إلا لضرورة؛ لأن الليل مظنة الفساد بخلاف النهار؛ فإنه مظنة قضاء الحوائج والمعاش وشراء ما يحتاج إليه (¬3) (¬4). 2 - تمتنع الحادة عن الملابس الجميلة وتلبس ما سواها، وقد ذكر ابن المنذر الإجماع على منعها من لبس المعصفر (¬5)، فتحرم عليها الثياب المصبغة للتحسين: كالمعصفر، والمزعفر، وسائر اللون للتحسين (¬6)؛ لحديث أم عطية رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً، ولا تلبس ثوباً مصبوغاً، إلا ثوب عصبٍ، ولا تكتحل، ولا تمس طيباً إلا إذا طهرت نبذة من قسطٍ أو أظفار)) (¬7) زاد أبو داود: ((ولا تختضب)) (¬8). 3 - تمتنع عن جميع أنواع الطيب، ونحوها، إلا إذا طهرت من حيضها، فلا بأس أن تتبخر بالبخور؛ لحديث أم عطية رضي الله عنها، وفيه: ¬

(¬1) المرجع السابق، 11/ 297. (¬2) مسلم، كتاب الطلاق، باب جواز خروج المعتدة البائن والمتوفى عنها زوجها في النهار لحاجتها، برقم 1483. (¬3) المغني، لابن قدامة، 11/ 297 - 298. (¬4) وذكر الإمام ابن قدامة آثاراً في ذلك وبعض الأحاديث، [المغني،11/ 297 - 298]، وانظر: أحكام الإحداد لخالد بن عبد الله المصلح، ص19،والآثار في البيهقي،7/ 436. (¬5) انظر: الإجماع لابن المنذر، ص124. (¬6) المغني لابن قدامة، 11/ 288. (¬7) متفق عليه: البخاري، برقم 5341،ومسلم برقم 938 وتقدم تخريجه في حكم الإحداد الشرعي. (¬8) أخرجه أبو داود، كتاب الطلاق، باب فيما تجتنب المعتدة في عدتها، برقم 2304، والنسائي، كتاب الطلاق، باب ما تجتنب الحادة من الثياب المصبغة، برقم 3533.

4 - تمتنع الحادة من الحلي: الذهب، الفضة، والماس وغيرها

((ولا تمس طيباً إلا إذا طهرت نبذة من قسطٍ أو أظفار)) (¬1). قال الإمام النووي رحمه الله في شرح القسط والأظفار: ((نوعان معروفان من البخور، وليس من مقصود الطيب، رخص فيه للمغتسلة من الحيض لإزالة الرائحة الكريهة تتبع به أثر الدم لا للتطيب، والله تعالى أعلم)) (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ولا تمس طيباً)) يشمل جميع أنواع الأطياب، والأدهان المطيبة، والمياه المعتصرة من الأدهان المطيبة، فهذه كلها من الطيب الممنوع (¬3). ولا يدخل فيه الزيت، ولا السمن، ولا تمتنع من الأدهان التي ليس فيها طيب (¬4). 4 - تمتنع الحادة من الحلي: الذهب، الفضة، والماس وغيرها، سواء كان ذلك قلائد، أو أسورة، أو خرصان، أو خواتم، أو غير ذلك؛ لحديث أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب، ولا الممشقة، ولا الحليَّ، ولا تختضب، ولا تكتحل)) (¬5). قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: ((وأجمعوا على منع المرأة المحدة من لبس الحلي)) (¬6)؛ ولأن الحلي يزيد في حسنها ويدعو إلى مباشرتها)) (¬7). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 5341، ومسلم، برقم 938، وتقدم تخريجه. (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم، 10/ 119. (¬3) زاد المعاد، لابن القيم، 5/ 701 - 702. (¬4) انظر: المرجع السابق، 5/ 702. (¬5) أبو داود بلفظه، كتاب الطلاق، باب فيما تجتنبه المعتدة في عدتها، برقم 2304، أحمد، 6/ 302، والنسائي، 6/ 203، برقم 3535 بدون قوله: ((ولا الحلي)). وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 43. (¬6) الإجماع لابن المنذر، ص125. (¬7) المغني، لابن قدامة، 3/ 89، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، 24/ 140.

5 - تمتنع الحادة عن الخضاب بالحناء ونحوه

5 - تمتنع الحادة عن الخضاب بالحناء ونحوه؛ لحديث أم عطية رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تحدُّ امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً، ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عصب، ولا تكتحل، ولا تمس طيباً إلا إذا طهرت نبذة من قُسْطٍ أو أظفار)) زاد أبو داود: ((ولا تختضب)) (¬1)؛ولحديث أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: ((ولا تختضب)) (¬2). قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((فيحرم عليها الخضاب، والنقش، والتطريف، والحمرة؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نصَّ على الخضاب منبهاً به على هذه الأنواع)) (¬3). 6 - تمتنع الحادَّة عن الكحل؛ لحديث أم عطية رضي الله عنها وفيه: (( ... ولا تكتحل)) (¬4). وحديث أم سلمة رضي الله عنها وفيه: ((ولا تكتحل)) (¬5). وفي حديث أم سلمة رضي الله عنها تقول: ((جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفتكحلها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا)) مرتين أو ثلاثاً، كل ذلك يقول: ((لا))، ثم قال: ((إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول ... )) (¬6). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الحيض، باب الطيب للمرأة عند غسلها من المحيض، برقم 313، ومسلم، كتاب الجنائز، باب نهي النساء عن اتباع الجنائز، برقم 938، وأبو داود، كتاب الطلاق، فيما تجتنب المعتدة في عدتها، برقم 2302. (¬2) أبو داود، برقم 4304،وأحمد،6/ 302،والنسائي، برقم 3535،وتقدم تخريجه قبل ثلاث حواشٍ. (¬3) زاد المعاد، 5/ 702. (¬4) متفق عليه: البخاري، برقم 5341، ومسلم، برقم 938، وتقدم تخريجه غير مرة. (¬5) أبو داود، برقم 2304، وأحمد، 6/ 302، والنسائي، برقم 3535، وتقدم تخريجه. (¬6) متفق عليه: البخاري، برقم 5334، ومسلم، برقم 1486، وتقدم تخريجه.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((قال طائفة من أهل العلم من السلف والخلف، منهم أبو محمد ابن حزم: ((لا تكتحل ولو ذهبت عيناها لا ليلاً ولا نهاراً))، وبين رحمه الله أنه يساعدهم حديث أم سلمة السابق، ثم قال رحمه الله: ((وأما جمهور أهل العلم: كمالك، وأحمد، وأبي حنيفة، والشافعي، وأصحابهم، فقالوا: إن اضطرت إلى الكحل بالإثمد تداوياً لا زينة، فلها أن تكتحل به ليلاً وتمسحه نهاراً وحجتهم حديث أم سلمة رضي الله عنها)) (¬1). والحديث هو: عن أم حكيم بن أسيد عن أمها أن زوجها توفي وكانت تشتكي عينيها فتكتحل بالجلاء، - قال أحمد (أحد الرواة) الصواب: بكحل الجلاء - فأرسلت مولاة لها إلى أم سلمة فسألتها عن كحل الجلاء؟ فقالت: لا تكتحلي به إلا من أمر لابد منه يشتدُّ عليك: فتكتحلين بالليل وتمسحينه بالنهار، ثم قالت عند ذلك أم سلمة: دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين توفي أبو سلمة وقد جعلت على عيني صبراً فقال: ((ما هذا يا أم سلمة؟)) فقلت: إنما هو صبر يا رسول الله، ليس فيه طيب، قال: ((إنه يشب الوجه فلا تجعليه إلا بالليل وتنزعيه بالنهار، ولا تمتشطي بالطيب، ولا بالحناء؛ فإنه خضاب))، قالت: قلت: بأي شيء أمتشط يا رسول الله؟ قال: ((بالسدر تغلفين به رأسك)) (¬2). وقد بين الإمام ابن عبد البر رحمه الله وتبعه الإمام ابن القيم: أن هذا الحديث ثابت، والجمع بينه وبين الحديث الآخر لأم سلمة وفيه: ((قوله: ((لا)) ثلاثاً لمن استأذنته في الكحل: أن الشكاة التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - ((لا)) لم تبلغ والله أعلم منها مبلغاً لابد لها فيه من الكحل فلذلك نهاها، ولو كانت محتاجة ¬

(¬1) زاد المعاد، 5/ 702 - 703. (¬2) أبو داود، كتاب الطلاق، باب في المتوفى عنها زوجها، برقم 2305، والنسائي، كتاب: الخضاب للحادة، برقم 3537، والحديث صححه ابن عبد البر في التمهيد، 17/ 318، وحسنه ابن القيم في زاد المعاد، 5/ 703، والحافظ ابن حجر في بلوغ المرام، وضعفه بعض أهل العلم ومنهم العلامة الألباني.

الأمر السادس: أصناف المعتدات ستة أصناف على النحو الآتي:

مضطرة تخاف ذهاب بصرها لأباح لها ذلك كما فعل بالتي قال لها: ((اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار))، والنظر يشهد لهذا التأويل؛ لأن الضرورات تنقل المحظورات إلى حال المباح في الأصول؛ ولهذا جعل مالك فتوى أم سلمة رضي الله عنها تفسيراً للحديث المسند في الكحل؛ لأن أم سلمة رضي الله عنها روته وما كانت لتخالفه إذا صح عندها، وهي أعلم بتأويله ومخرجه ... )) (¬1). وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول: ((الكحل ممنوع للحادة إلا من أجل العلاج؛ فإنه يجعل بالليل ويمسح بالنهار)) (¬2). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((ولا تمتنع من التنظف، بتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق الشعر المندوب إلى حلقه، ولا من الاغتسال بالسدر، والامتشاط به)) (¬3)،ولها أن تكلم من شاءت من محارمها وتجلس معهم، وتقدم الطعام والشراب، ونحو ذلك، ولها أن تعمل في بيتها وأسطح بيتها ليلاً ونهاراً، في جميع أعمالها البيتية: كالطبخ، والخياطة، وكنس البيت، وغسل الملابس (¬4)، ولكن عليها أن تلتزم بالستة الأمور المذكورة آنفاً. والله الموفق للصواب - سبحانه وتعالى -. الأمر السادس: أصناف المعتدات ستة أصناف على النحو الآتي: الصنف الأول: الحامل وعدتها من موت زوج أو طلاق هي: وضع كامل الحمل؛ لقوله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (¬5). ¬

(¬1) التمهيد لابن عبد البر، 17/ 318 - 319، وزاد المعاد، 5/ 703 - 704. (¬2) سمعته أثناء تقريره على سنن النسائي، الحديث رقم 3539. (¬3) المغني، 11/ 288. (¬4) من كلام شيخنا ابن باز في مقالة له بين فيها ما يلزم الحادة على زوجها من أحكام. نقلها الشيخ خالد بن عبد الله المصلح في كتابه: أحكام الإحداد، ص155. (¬5) سورة الطلاق، الآية: 4.

الصنف الثاني: المتوفى عنها زوجها من غير حمل

الصنف الثاني: المتوفى عنها زوجها من غير حمل، فعدتها أربعة أشهر وعشرة أيام من حين موته؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (¬1). الصنف الثالث: المرأة ذات الحيض، وعدتها من طلاق وفسخ هي ثلاثة قروء؛ لقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} (¬2). الصنف الرابع: المرأة التي لا تحيض إما لصغر أو كبر فعدتها ثلاثة أشهر؛ لقوله تعالى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} (¬3). الصنف الخامس: المرأة التي ارتفع حيضها ولم تدر ما رفعه فعدتها سنة؛ لقول الشافعي هذا قضاء عمر بين المهاجرين والأنصار لا ينكره منهم منكِر علمناه. الصنف السادس: امرأة المفقود، وتعتد بعد مدة التربص أربعة أشهر وعشراً عدة الوفاة. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (¬4). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. حرر في يوم الأربعاء الموافق 2/ 1/1424هـ ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 234. (¬2) سورة البقرة، الآية: 228. (¬3) سورة الطلاق، الآية: 4. (¬4) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية، 20/ 402 - 404، وانظر: الإقناع لطالب الانتفاع، للحجاوي، 4/ 6 - 12، والكافي، لابن قدامة، 5/ 6.

المصادر والمراجع

المصادر والمراجع 1 - الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة، للإمام عبد الله بن محمد بن بطة العكبري الحنبلي، ت 387هـ، الطبعة الثانية، 1418هـ، دار الراية، الرياض، المملكة العربية السعودية. 2 - إبهاج المؤمنين بشرح منهج السالكين، لعبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين، اعتنى به أبو أنس علي بن حسين أبو لوز، الطبعة الأولى 1422، دار الوطن. 3 - الأثر التربوي للمسجد، للدكتور صالح بن غانم السدلان. 4 - الإجماع، لمحمد بن إبراهيم بن المنذر، تحقيق الدكتور أبي حماد صغير أحمد، الطبعة الثانية، 1420هـ، مكتبة الفرقان، عجمان، ومكتبة مكة الثقافية، رأس الخيمة. 5 - أحكام الإحداد لخالد بن عبد الله المصلح، دار الوطن، الرياض، الطبعة الأولى، 1416هـ. 6 - أحكام الأضحية والذكاة، لمحمد بن صالح العثيمين، طبع على نفقة سليمان بن عبد الرحمن الضويان .. 7 - أحكام الجنائز، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الرابعة 1406 هـ - 1986 م. 8 - أحكام حضور المساجد، لعبد الله بن فوزان. 9 - الإحكام شرح أصول الأحكام، لعبد الرحمن بن قاسم، الطبعة الأولى، 1406هـ، توزيع ونشر ورثة المؤلف. 10 - الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، بتصحيح وتعليق الشيخ محمد بن صالح العثيمين، الطبعة الأولى 1418هـ، دار العاصمة بالرياض المملكة العربية السعودية. 11 - آداب الزفاف في السنة المطهرة، لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الرابعة، بدون تاريخ، المكتب الإسلامي، بيروت. 12 - الأدب المفرد، للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري تخريج محمد فؤاد عبد الباقي، الطبعة الثالثة دار البشائر، بيروت، لبنان.

13 - الأذكار، للإمام أبي زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، ت 676هـ، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط، طبعة 1391هـ، مطبعة الملاح، دمشق، سورية. 14 - إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، لأبى العباس شهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني، ت 923 هـ، الطبعة السادسة 1304 هـ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان. 15 - إرشاد أولي البصائر والألباب لنيل الفقة بأقرب الطرق وأيسر الأسباب، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ت 1376 هـ، طبعة 1402هـ، مكتبة دار المعارف، الرياض، المملكة العربية السعودية. 16 - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، للعلامة محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 17 - الأسئلة والأجوبة الأصولية على العقيدة الواسطية، عبد العزيز بن محمد السلمان، الطبعة العاشرة، 1400هـ، الرئاسة الامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض، المملكة العربية السعودية. 18 - الأسئلة والأجوبة الفقهية، لعبد العزيز بن محمد السلمان، الطبعة السابعة، 1400هـ، نشر الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء. 19 - الاستذكار، للإمام الحافظ أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر، ت 463 هـ، تحقيق د. عبد المعطي أمين قلعجي، الطبعة الأولى، 1401هـ، دار قتيبة للطباعة والنشر، دمشق، بيروت. 20 - الاستسقاء: سننه وآدابه، للشيخ عبد الوهاب بن عبد العزيز الزيد. 21 - الاستقامة - تحقيق د. محمد رشاد سالم - ط جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - 1403 هـ - 1983 م. 22 - أسد الغابة في معرفة الصحابة، لابن الأثير؛ عز الدين علي بن محمد (ت630هـ)، بيروت، نشر المكتبة الإسلامية لصاحبها رياض الحاج. 23 - أصول السنة لأبي عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي زمنين، ت 399هـ، تحقيق عبد الله بن محمد البخاري، الطبعة الأولى، 1415هـ، مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية. 24 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي طبع وتوزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، المملكة العربية السعودية.

25 - أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري، لأبي سليمان حمد بن محمد الخطابي، ت 388هـ، تحقيق د. محمد بن سعيد بن عبد الرحمن آل سعود، الطبعة الأولى 1409هـ، جامعة أم القرى، مركز إحياء التراث الإسلامي، مكة المكرمة. 26 - إعلام الساجد بأحكام المساجد، لمحمد بن عبد الله الزركشي، القاهرة، 1385هـ. 27 - إعلام الموقعين عن رب العالمين، للإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد المكتبة العصرية، صيدا، بيروت. 28 - الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، لعمر بن علي بن أحمد المعروف بابن الملقن، تحقيق عبد العزيز بن أحمد المشيقح، الطبعة الأولى، 1412هـ دار العاصمة الرياض، الممكة العربية السعودية. 29 - إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، للإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية تحقيق محمد حامد الفقي، بدون تاريخ، مكتبة حميدو، الإسكندرية، مصر. 30 - الإفصاح عن معاني الصحاح، للوزير عون الدين أبي المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة المتوفى سنة (560) هـ، تحقيق: محمد حسن محمد حسن إسماعيل الشافعي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1417هـ. 31 - الإقناع لطالب الانتفاع، لموسى ابن أحمد الحجَّاوي، تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، الطبعة الأولى 1418هـ، دار هجر للطباعة والتوزيع. 32 - إكمال إكمال المعلم، لمحمد بن خليفة الأشناني الأبي ضبطه وصححه محمد سالم هاشم دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 33 - الأم، لمحمد بن إدريس الشافعي (ت 204هـ). تحقيق: إحسان عبد المنان، ط1، د. م، الناشر: بيت الأفكار الدولية. 34 - الإنصاف لمعرفة الراجح من الخلاف، لعلي بن سليمان المرداوي، المطبوع مع المقنع والشرح الكبير، تحقيق الدكتور عبد الله بن عبدالمحسن التركي، دار هجر للطباعة والنشر. 35 - أهمية صلاة الجماعة، للأستاذ الدكتور فضل إلهي، الطبعة الأولى، توزيع مؤسسة الجريسي.

36 - الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف، لأبي بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، تحقيق أبي حماد صغير أحمد حنيف، دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1420هـ. 37 - الإيمان بالقضاء والقدر، للشيخ محمد بن إبراهيم الحمد، دار الوطن، الطبعة الثانية، الرياض، المملكة العربية السعودية. 38 - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، لعلاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، 1982م. 39 - بدائع الفوائد للإمام ابن القيم الطبعة المصرية، نشر مكتبة القاهرة، الطبعة التي طبعتها مكتبة الرياض الحديثة. 40 - بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لمحمد بن أحمد بن حمد بن أحمد بن رشد القرطبي الأندلسي، الشهير بالحفيد، المتوفى (595هـ)، طبعة دار زمزم، الرياض، الطبعة الثانية 1403هـ. 41 - برد الأكباد عند فقد الأولاد، للحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد المعروف بابن ناصر الدين الدمشقي، ت 842هـ، توزيع مؤسسة الجريسي بالرياض. 42 - بلوغ المرام، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني مع حاشية سماحه الشيخ ابن باز رحمه الله، مراجعة عبد العزيز بن إبراهيم بن قاسم، الطبعة الثانية، 1425هـ، دار الامتياز للنشر. 43 - بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار، للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ت376 1 هـ، تخريج بدر البدر، الطبعة الثالثة، 1408 هـ، مكتبة السندس، الكويت. 44 - تاريخ بغداد، للحافظ أحمد بن علي الخطيب البغدادي المتوفى سنة (463هـ)، دار الكتاب العربي، بيروت. 45 - تاريخ دمشق وذكر فضلها، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي، ت 571هـ، دراسة وتحقيق علي شيري، دار الفكر والطباعة والنشر والتوزيع.

46 - تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي، لأبي العُلا محمد عبد الرحمن عبد الرحيم المباركفوري، ت 1353 هـ، الطبعة الثانية، 1457 هـ، مكتبة ابن تيمية، القاهرة. . 47 - تحفة الإخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام، لسماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز، الطبعة الأولى، 1415هـ، جمع محمد بن شايع الشائع دار الفائزين، الرياض، المملكة العربية السعودية. 48 - تحفة الأخيار، للعلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز [في الأذكار]. 49 - تحفة المودود بأحكام المولود، للإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، ت 751هـ، تحقيق بشير محمد عيون، الطبعة الثانية، 1407هـ، مكتبة دار البيان، دمشق، ومكتبة المؤيد، الطائف، المملكة العربية السعودية. 50 - التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار، للإمام أبي الفرج زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، ت 795هـ، تحقيق بشير محمد عيون، الطبعة الثانية، 1409هـ، مكتبة المؤيد، الطائف، المملكة العربية السعودية. 51 - الترغيب والترهيب من الحديث الشريف، للإمام زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري، ت 656 هـ، تحقيق محيي الدين ديب مستو، سمير أحمد العطار، يوسف على بدوي، الطبعة الثانية، 1417 هـ، دار ابن كثير، دمشق، بيروت. 52 - التعريفات، علي بن محمد بن علي الجرجاني، ت 816 هـ، تحقيق د. عبدالرحمن عميرة، الطبعة الأولى، 1407 هـ، عالم الكتب، بيروت، لبنان. 53 - تغليق التعليق على صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، تحقيق سعيد القزقي، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى 1405هـ. 54 - تفسير القرآن العظيم، للإمام أبي الفداء إسماعيل بن الخطيب عمر بن كثير القرشي الدمشقي، ت 774 هـ، طبعة 1407 هـ، دار الفكر، بيروت، لبنان. 55 - تفسير البغوي (معالم التنزيل)،للإمام الحافظ أبي محمد الحسين بن مسعود البغوي ت516 هـ، تحقيق خالد عبد الرحمن العك ومروان سوار، الطبعة الأولى،1406 هـ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 56 - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للعلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي، الطبعة الأولى ت 1376هـ، تحقيق عبد الرحمن بن معلا اللويحق، مؤسسة الرسالة.

57 - تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن)، للإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، ت 315 هـ، تحقيق محمود وأحمد محمد شاكر، الطبعة الثانية، بدون تاريخ، دار المعارف بمصر. 58 - التفسير القيم للإمام ابن القيم، جمعه محمد أويس الندوي، تحقيق محمد حامد الفقي، بدون تاريخ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 59 - التكميل لما فات تخريجه من إرواء الغليل، للشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ، الطبعة الأولى، 1417هـ، دار العاصمة، الرياض المملكة العربية السعودية. 60 - التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، للحافظ أحمد بن علي بن محمد العسقلاني، 773هـ، توزيع رياسة إدارات البحوث العلمية. 61 - تمام المنة في التعليق على فقه السنة، المكتبة الإسلامية، الطبعة الثانية، 1408هـ، عمان، الأردن، ودار الراية، المملكة العربية السعودية. 62 - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، للإمام أبي عمر يوسف بن عبد الله القرطبي ابن عبد البر، ت 463هـ. تحقيق د. مصطفى بن أحمد العلوي، ومحمد بن عبد الكريم البكري، دون تاريخ، المكتبة التجارية، مكة المكرمة. 63 - التهجد وقيام الليل، أبو بكر ابن أبي الدنيا ت 281هـ، تحقيق: مصلح الحارثي، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى، 1418هـ - 1998م. 64 - تهذيب سنن أبي داود (المطبوع مع معالم السنن)، للإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، ت 751 هـ، تحقيق أحمد محمد شاكر، وحامد الفقي، بدون تاريخ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 65 - توضيح الأحكام من بلوغ المرام، عبد الله عبد الرحمن البسام، الطبعة الثانية، 1414 هـ، مكتبة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، المملكة العربية السعودية. 66 - تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد، للعلامة سليمان بن عبد الله بن محمد عبد الوهاب، ت 1233 هـ، الطبعة، 1406 هـ، مكتبة المعارف، الرياض، المملكة العربية السعودية. 67 - تيسير العلام شرح عمدة الأحكام، عبد الله بن الرحمن البسام، الطبعة الأولى، 1414هـ، دار السلام، الرياض، المملكة العربية السعودية. 68 - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي، ت1376هـ، تحقيق محمد زهري النجار، طبعة 1404 هـ، طبع ونشر

الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، المملكة العربية السعودية. 69 - جامع الأصول من أحاديث الرسول، لأبي السعادات المبارك بن محمد بن الأثير الجزري، ت656 هـ، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط، الطبعة الثانية، 1453 هـ، دار الفكر، بيروت، لبنان. 70 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري ت 310هـ، تحقيق محمود محمد شاكر، توزيع دار التربية والتراث، مكة المكرمة. 71 - الجامع الصحيح (سنن الترمذي)، تحقيق أحمدمحمد شاكر، وأتمه إبراهيم عطوة عوض، المكتبة الإسلامية. 72 - جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم، للإمام الحافظ زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، ت 795 هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط، الطبعة الأولى، 1411 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. 73 - الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبى، ت671 هـ، تحقيق محمد إبراهيم الحفناوي، ومحمود حامد عثمان، الطبعة الأولى، 1414 هـ، دار الحديث، القاهرة. 74 - الجامع للمتون العلمية، للشيخ عبد الله بن محمد الشمراني، الطبعة الأولى، 1423هـ، دار الوطن للنشر والتوزيع، الرياض، المملكة العربية السعودية. 75 - جواهر الإكليل شرح مختصر خليل، صالح عبد السميع الأبي الأزهري، طبعة عيسى الحلبي، مصر. (بدون تاريخ). 76 - حاشية ابن قاسم على الروض المربع، الطبعة الثالثة، نشر ورثة المؤلف. 77 - حاشية الإمام السندي على سنن النسائي، للعلامة عبد الهادي السندي، ت 1138 هـ، المطبوع مع سنن النسائي بعناية عبد الفتاح أبو غدة، الطبعة الثانية، 1406 هـ، دار البشائر الإسلامية، بيروت، لبنان. 78 - حاشية الإمام عبد العزيز ابن باز على فتح الباري لابن حجر، المطبوع من فتح الباري، المطبعة السلفية. 79 - حصن المسلم، للمؤلف (سعيد بن علي بن وهف القحطاني)، ط 35، الرياض، 1428هـ. 80 - الحكمة والتعليل في أفعال الله، للدكتور محمد ربيع المدخلي، الطبعة الأولى،

1409هـ، مكتبة لينة. 81 - الحيض والاستحاضة، لراوية أحمد عبد الكريم الظهار، دار المدني، الطبعة الأولى، 1411هـ، جدة، المملكة العربية السعودية. 82 - الدر المنثور في التفسير بالمأثور، لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، 1993م، دار الفكر، بيروت. 83 - الدرر البهية شرح القصيدة التائية في حل المشكلة القدرية لشيخ الإسلام ابن تيمية 84 - الدروس المهمة لعامة الأمة، للإمام ابن باز - رحمه الله - الدرس الحادي عشر وحاشيتها للطويان، وحاشيتها للفائز 85 - الدعاء، لسليمان بن أحمد الطبراني أبي القاسم، ت 360هـ، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1413هـ. 86 - دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، للعلامة محمد الأمين بن محمد المختار، الطبعة الأولى، 1403هـ، طبع وتوزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء. 87 - دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، لأحمد بن الحسين البيهقي، دار الكتب العلمية، دار الريان للتراث، ط1، 1408هـ. 88 - الدماء الطبيعية لابن عثيمين، ضمن مجموع رسائل وفتاوى ابن عثيمين، 11/ 295، دار الثريا، الطبعة الأولى، 1419هـ. 89 - ديوان أبي العتاهية، دار الكتب العلمية، بيروت، منشورات: محمد علي بيضون، 1419هـ /1998م، بدون طبعة. 90 - رسائل في العقيدة للشيخ محمد بن صالح العثيمين، ضمن مجموع فتاوى ورسائل له رحمه الله. 91 - الروح في الكلام على أروح الأموات والأحياء، للإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، ت 751 هـ، تحقيق د. بسام علي العموش، الطبعة الأولى،1406 هـ، دار ابن تيمية، الرياض، المملكة العربية السعودية. 92 - الروض المربع شرح زاد المستقنع، تحقيق عبد الله الطيار، الطبعة الثانية، 1422هـ دار الوطن، الرياض، المملكة العربية السعودية. 93 - الروضة الندية شرح العقيدة الواسطية، لزيد بن فياض، دار الوطن، الطبعة الثالثة، الرياض، المملكة العربية السعودية.

94 - زاد المعاد في هدي خير العباد، للإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، ت 751 هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط، الطبعة الأولى، 1399 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. 95 - الزهد والرقائق، للإمام عبد الله بن المبارك المروزي، ت 181 هـ، تحقيق أحمد فريد، الطبعة الأولى، 1415 هـ، دار المعراج الدولية للنشر، الرياض، المملكة العربية السعودية. 96 - الزهد، لهناد بن السري الكوفي، تحقيق عبدالرحمن عبدالجبار الفريوائي، ط1،1406هـ، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، الكويت. 97 - سبل السلام الموصل إلى بلوغ المرام، للإمام محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، تحقيق محمد صبحي حسن حلاق، الطبعة الأولى عام 1418هـ، دار ابن الجوزي، الدمام، المملكة العربية السعودية. 98 - السلسبيل في معرفة الدليل، للشيخ صالح البليهي، حاشية على زاد المستنقع، الطبعة الثالثة 1401هـ، الناشر بدون. 99 - سلسلة الأحاديث الصحيحة، للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الرابعة 1498هـ، المكتب الإسلامي، بيروت. 100 - سلسلة الأحاديث الضعيفة، للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الرابعة 1398هـ، المكتب الإسلامي بيروت. 101 - سنن ابن ماجه، لمحمد بن يزيد القزويني، ت 275 هـ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، بدون تاريخ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان. 102 - سنن أبي داود، لسليمان بن الأشعث السجستاني، ت 275 هـ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، بدون تاريخ، دار الفكر، بيروت، لبنان. 103 - سنن الترمذي، لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة، ت 279 هـ، تحقيق أحمد محمد شاكر، الطبعة الثانية، 1398 هـ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، مصر. 104 - سنن الدارقطني، للإمام علي بن عمر الدارقطني، ت 385هـ، دار المحاسن للطباعة، القاهرة. 105 - سنن الدارمي، عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، ت 255 هـ، طبعة1404 هـ، تحقيق عبد الله بن هاشم اليماني، توزيع الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، المملكة العربية السعودية.

106 - السنن الكبرى، لأحمد بن شعيب النسائي، تحقيق: د. عبدالغفار سليمان البنداري، وسيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1411هـ. 107 - السنن الكبرى، للإمام الحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين بن على البيهقي، ت 458 هـ، بدون تاريخ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 108 - سنن النسائي، لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب، ت 303 هـ، بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي، ت 911 هـ، وحاشية السندي، ت 1138 هـ، الطبعة الأولى، 1406 هـ، اعتنى به ورقمه عبد الفتاح أبو غدة، الطبعة الثانية،1406 هـ، دار البشائر الإسلامية، بيروت، لبنان. 109 - سنن سعيد بن منصور، ت 227 هـ، الطبعة الأولى،1414 هـ، تحقيق د سعيد بن عبد الله آل حميد، دار العاصمة، المملكة العربية السعودية. 110 - شرح الزركشي على مختصر الخرقي، تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، الطبعة الأولى، 1412هـ، مكتبة العبيكان، الرياض، المملكة العربية السعودية. 111 - شرح السنة، للإمام أبي محمد الحسن بن علي بن خلف البربهاري، ت 329 هـ، تحقيق أبي ياسر خالد بن قاسم الردادي، الطبعة الأولى 1414 هـ، مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية. 112 - شرح السندي على سنن ابن ماجه، المطبوع مع سنن ابن ماجه، الطبعة الأولى، 1416هـ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 113 - شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، شرف الدين الحسين بن عبد الله بن محمد الطيبي، ت 743 هـ، تحقيق عبد الحميد هنداوي، الطبعة الأولى، 1417 هـ، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، المملكة العربية السعودية. 114 - شرح العقيدة الطحاوية، علي بن علي الدمشقي، ت 792هـ، تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، وشعيب الأرنؤوط. الطبعة الثانية، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1411هـ- 1990م. 115 - شرح العقيدة الطحاوية، للحنفي ابن أبي العز علي بن علي (792هـ). تحقيق: ناصر الدين الألباني، ط1، بيروت، المكتب الإسلامي. 116 - شرح العقيدة الطحاويه، للعلامة علي بن علي بن محمدبن أبي العز الدمشقي، ت 792 هـ، تخريج محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الرابعة، 1390 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان.

117 - شرح العقيدة الواسطية لابن تيمية، ت 728، بقلم محمد بن صالح العثيمين، جمع سعد فواز الجميل، الطبعة الثانية، 1415 هـ، دار ابن الجوزي، الدمام، المملكة العربية السعودية. 118 - شرح العمدة في الفقه لابن قدامة، (كتاب الطهارة)، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق الدكتور سعود العطيشان، الطبعة الأولى، 1412هـ، مكتبة العبيكان، الرياض، المملكة العربية السعودية. 119 - شرح العمدة في الفقه لابن قدامة، (كتاب الصلاة)، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق خالد بن علي بن محمد المشيقح، الطبعة الأولى، 1418هـ، دار العاصمة، الرياض، المملكة العربية السعودية. 120 - الشرح الكبير، لأبي الفرج عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي 682هـ، مطبوع معه الإنصاف والمقنع، تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر للطباعة والنشر. 121 - شرح المذهب، للقاضي أبي يعلى الفراء. 122 - شرح المسند، لأحمد شاكر، الطبعة الثانية، دار المعارف بمصر. 123 - الشرح الممتع، لابن عثيمين، الطبعة الثالثة، 1415هـ، مؤسسة آسام للنشر، المملكة العربية السعودية. 124 - شرح النووي على صحيح مسلم، مراجعة خليل الميس، دار القلم، بيروت، لبنان. 125 - شرح عمدة الأحكام للمقدسي لسماحة العلامة ابن باز مخطوط في مكتبتي الخاصة. 126 - شرح مشكل الآثار، لأبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي، ت321 هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط، الطبعة الأولى، 1415 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. 127 - شرح معاني الآثار، لأبي جعفر الطحاوي ت 321هـ، تحقيق إبراهيم شمس الدين، الطبعة الثانية 1427هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 128 - شروط الدعاء وموانع الإجابة، لسعيد بن علي بن وهف القحطاني، الطبعة الأولى، 1416 هـ، توزيع مؤسسة الجريسي، الرياض، المملكة العربية السعودية. 129 - شعب الإيمان، للإمام أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، ت 458 هـ، تحقيق أبي هاجر محمد السعيد بسيوني زغلول، الطبعة الأولى، 1410 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 130 - شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، للإمام ابن القيم، مكتبة

العبيكان، الطبعة الأولى، 1420هـ، الرياض، المملكة العربية السعودية. 131 - الشمائل المحمدية، لمحمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك، الترمذي، أبي عيسى، ت279هـ، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، الطبعة الأولى، 1412هـ. 132 - الصبر الجميل لسليم الهلالي، الطبعة الثانية، 1411هـ، دار ابن القيم، الدمام. 133 - صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، للإمام أبي حاتم محمدبن أحمدبن حبان البستي، ت354 هـ، رتبه الأمير علاء الدين علي بن سليمان بن بلبان الفارسي، ت 739 هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط، الطبعة الثانية، 1414 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. 134 - صحيح ابن خزيمة، للإمام أبي بكر محمد بن إسحق بن خزيمة السلمي النيسابوري، ت 311 هـ، تحقيق محمد مصطفى الأعظمى، طبعة 1390 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 135 - صحيح ابن ماجه، للعلامة محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع. الرياض، المملكة العربية السعودية. 136 - صحيح الأدب المفرد للإمام البخاري، بقلم محمد بن ناصر الدين الألباني، الطبعة الثانية 1415هـ، دار الصديق، الجبيل، المملكة العربية السعودية. 137 - صحيح البخاري، لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، ت 256 هـ، طبعة 1414 هـ، دار الفكر، بيروت، لبنان. وطبعة 1315 هـ، المكتبة الإسلامية، إستانبول، تركيا، والنسخة المطبوعة مع فتح الباري، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، وإشراف محب الدين الخطيب، بدون تاريخ، مكتبة الرياض، المملكة العربية السعودية. 138 - صحيح البخاري، للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ت: 256هـ، الطبعة الثانية 1419هـ، مكتبة دار السلام، الرياض، المملكة العربية السعودية. 139 - صحيح الترغيب والترهيب، للعلامة محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1412 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 140 - صحيح الجامع الصغير، للعلامة ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى،1388 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 141 - صحيح سنن ابن ماجه باختصار السند، لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1407 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان.

142 - صحيح سنن أبي داود باختصار السند، لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1409، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 143 - صحيح سنن الترمذي باختصار السند، لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1408 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 144 - صحيح سنن النسائي باختصار السند، لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1409 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 145 - صحيح مسلم، لأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري االنيسابوري، ت261 هـ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، بدون تاريخ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان. 146 - صفة صلاة النبي (، للعلامة محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، المملكة العربية السعودية. 147 - صلاة الجماعة، للأستاذ الدكتور صالح بن غانم السدلان. 148 - صلاة العيدين للمحاملي (مخطوط). 149 - الصلاة، لابن القيم، مؤسسة مكة للطباعة والإعلام، توزيع الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. 150 - ضعيف الجامع الصغير، للعلامة الألباني ناصر الدين، الطبعة الأولى 1388هـ، المكتب الإسلامي. 151 - ضعيف سنن ابن ماجه، للعلامة محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، ط1، 1408هـ- 1988م. 152 - ضعيف سنن أبي داود، للعلامة محمد ناصر الدين الألباني، نشر مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض- والمكتب الإسلامي، بيروت - لبنان، ط1، 1412هـ - 1991م. 153 - ضعيف سنن الترمذي، للعلامة محمد ناصر الدين الألباني، أشرف على طباعته زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت - لبنان، ط1، 1411هـ- 1991م، نشر مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض. 154 - ضعيف سنن النسائي، لمحمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 155 - الطبقات الكبرى، لمحمد بن سعد بن منيع الهاشمي البصري، ت 235 هـ، تحقيق محمد عبد القادر عطا، الطبعة الأولى، 1410 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 156 - طريق الهجرتين وباب السعادتين، للإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي

بكر المعروف بابن قيم الجوزية، ت 751، تخريج عمر بن محمود وأبو عمر، الطبعة الأولى 1409 هـ، دار ابن القيم، الدمام، المملكة العربية السعودية. 157 - عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، للإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، ت 751 هـ، تحقيق محمد عثمان الخشت، الطبعة الرابعة، 1410 هـ، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان. 158 - عشرة النساء، لأحمد بن شعيب بن علي النسائي، ت 303هـ، تحقيق عمرو علي عمر، مكتبة السنة، القاهرة، النشرة الثانية، 1408هـ- 1988م. 159 - شرح العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام بن تيمية، تأليف العلامة محمد خليل هراس، تخريج علوي السقاف، الطبعة الأولى، 1411 هـ، دار الهجرة، الرياض، المملكة العربية السعودية. 160 - العلل الواردة في الأحاديث النبوية، أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد مهدي الدارقطني (ت 385هـ)، تحقيق محفوظ الرحمن زين الله السلفي، دار طيبة، الرياض، ط1، 1405هـ. 161 - عمدة القاري شرح صحيح البخاري، لبدر الدين أبي محمد محمود بن أحمد العيني، ت 855، بدون تاريخ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان. 162 - عمل اليوم والليلة، أحمد بن شعيب النسائي، دراسة وتحقيق: د. فاروق حمادة، الرئاسة العامة للإفتاء، الرياض، 1406هـ، الطبعة الثانية، مؤسسة الرسالة بيروت. 163 - عمل اليوم والليلة، للحافظ أبي بكر أحمد بن محمد الدينوري المعروف بابن السني، ت 265 هـ، تحقيق بشير محمد عيون، الطبعة الأولى، 1407 هـ، مكتبة دار البيان، دمشق، سورية. 164 - عون المعبود شرح سنن أبي داود، لأبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي، الطبعة الثالثة 1399هـ، دار الفكر. 165 - فتاوى إسلامية، جمع وترتيب، محمد بن عبد العزيز المسند، الطبعة الأولى، 1412 هـ، دار الوطن، الرياض، المملكة العربية السعودية. 166 - الفتاوى السعدية، للعلامة ابن ناصر السعدي، ت 1376هـ، الطبعة الأولى، 1388هـ، مكتبة المعارف، الرياض، المملكة العربية السعودية. 167 - فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، جمع أحمد بن عبد الرزاق الدويش، الطبعة الأولى، 1419هـ، نشر إدارة البحوث العلمية والإفتاء، المملكة العربية السعودية.

168 - فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية، جمع وترتيب الشيخ أحمد بن عبد الرزاق الدويش، الطبعة الأولى، 1413 هـ، نشر الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، المملكة العربية السعودية. 169 - فتاوى المسح على الخفين لابن عثيمين، مطبوع ضمن فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين. 170 - فتاوى محمد بن صالح العثيمين، جمع فهد بن ناصر السليمان، الطبعة الأولى، دار الوطن، المملكة العربية السعودية. 171 - فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم، الطبعة الأولى، 1399، مطبعة الحكومة بمكة المكرمة (وقف لله تعالى). 172 - فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت 852 هـ، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي وإشراف محب الدين الخطيب، بدون تاريخ، مكتبة الرياض، المملكة العربية السعودية. 173 - فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني 852هـ، أشرف على مقابلة نسخه المطبوعة والمخطوطة عبد العزيز بن عبدالله بن باز، نشر مكتبة الرياض الحديثة. 174 - الفتح الرباني ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، لأحمد بن عبدالرحمن البنا، دار الشهاب، القاهرة. 175 - فتح المجيد بشرح كتاب التوحيد، د. عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، ت 1285هـ، تحقيق د. الوليد بن عبد الرحمن آل فريان، الطبعة الأولى 1415 هـ، دار الصميعي، الرياض، المملكة العربية السعودية. وطبعة دار المنار، بعناية صادق بن سليم بن صادق، الرياض، المملكة العربية السعودية. 176 - الفروع، لمحمد بن مفلح المقدسي، ت763هـ، تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، الطبعة الأولى 1424هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. 177 - فصول ومسائل تتعلق بالمساجد، الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، الطعبعة الأولى، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، الرياض، المملكة العربية السعودية. 178 - فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، تأليف فضل الله الجيلاني، الطبعة الثالثة، 1407هـ، دار الطبعة السلفية، القاهرة. 179 - الفوائد، لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، ت 751هـ، بتحقيق

بشير عيون، الطبعة الأولى، 1407هـ، مكتبة دار البيان، دمشق. 180 - الفوائد الجلية في المباحث الفرضية، للعلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز، نشر الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، المملكة العربية السعودية. 181 - فيض القدير شرح الجامع الصغير، للعلامة عبد الرؤوف المناوي، ت 1031 هـ، بدون تاريخ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 182 - قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، دراسة وتحقيق ربيع بن هادي عمير المدخلي، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة. 183 - القاموس الفقهي: لغة واصطلاحاً، لسعدي أبو جيب، الطبعة الأولى، 1402هـ، دار الفكر، دمشق، سورية. 184 - القاموس المحيط، للعلامة مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، ت817 هـ الطبعة الأولى، 1406 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. 185 - القضاء والقدر للدكتور عبدالرحمن بن صالح المحمود 186 - القضاء والقدر، للشيخ الدكتور عمر الأشقر 187 - القول المفيد على كتاب التوحيد، للعلامة محمد بن صالح العثيمين، دار العاصمة، الطبعة الأولى، 1415هـ، الرياض، المملكة العربية السعودية. 188 - الكافي لابن قدامة: عبد الله بن أحمد بن محمد، ت 620هـ تحقيق الدكتور عبدالله بن عبد المحسن التركي، دار هجر. 189 - الكامل في ضعفاء الرجال، لعبدالله بن عدي بن عبدالله بن محمد، أبو أحمد الجرجاني، تحقيق: يحيى مختار غزاوي، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثالثة، 1409 - 1988م. 190 - كتاب الإيمان، للحافظ أبي عبد الله محمد بن إسحق بن يحيى بن منده، ت 395 هـ، تحقيق د. على بن محمد فقيهي، الطبعة الثانية، 1456 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. 191 - كتاب السنة، للحافظ أبي بكر عمر بن أبي عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني، ت 287 هـ، ومعه ظلال الجنة في تخريج السنة لمحمد بن ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1400 هـ المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 192 - الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار، للإمام الحافظ عبد الله محمد بن أبي شيبة، توزيع إدارات البحوث العلمية والإفتاء.

193 - كتاب تعظيم قدر الصلاة. لمحمد بن نصر المروزي (ت 394هـ)، حققه وعلق عليه الدكتور عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي، مكتبة الدار، المدينة المنورة، 1406هـ. 194 - كشف الأستار عن زوائد البزار، للهيثمي، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1404هـ. 195 - كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، للعلامة إسماعيل بن محمد العجلوني، ت 1132 هـ، بإشراف وتصحيح أحمد القلاش، الطبعة الثالثة،1403 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. 196 - الكلم الطيب من أذكار النبي (، لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني، ت 827 هـ، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط، الطبعة الثالثة، 1403 هـ، دار البيان، دمشق، سورية. 197 - الكواشف الجلية عن معاني الواسطية، لعبد العزيز بن محمد السلمان، الطبعة السادسة، مكتبة الرياض الحديثة، 1498هـ، الرياض، المملكة العربية السعودية. 198 - كيف نعيد للمسجد مكانته، للدكتور محمد أحمد نوح 199 - كيفية صلاة النبي (، للإمام ابن باز، المطبوع ضمن فتاويه. 200 - لسان العرب، للإمام أبي الفضل جمال الدين بن مكرم بن علي بن منظور، ت 711 هـ، الطبعة الثالثة، 1414 هـ، دار صادر، بيروت، لبنان. 201 - لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية، لشمس الدين، أبي العون محمد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي (ت 1188هـ)،مؤسسة الخافقين ومكتبتها- دمشق، الطبعة الثانية- 1402 هـ-1982 م. 202 - مجالس عشر ذي الحجة، للشيخ عبد الله بن صالح الفوزان. 203 - مجمع البحرين في زوائد المعجمين، للحافظ نور الدين علي بن أبى بكر الهيثمي، تحقيق عبد القدوس بن محمد نذير، الطبعة الثانية، 1415 هـ، مكتبة الرشد، الرياض، المملكة العربية السعودية. 204 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للحافظ نور الدين على بن أبي بكر الهيثمي، ت 807 هـ، الطبعة الثالثة، 1402 هـ، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان. 205 - مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن القاسم، أشرف على طباعته المكتب السعودي بالمغرب.

206 - المجموع شرح المهذب، ليحيى بن شرف النووي، دار إحياء التراث العربي. 207 - مجموع فتاوى ابن باز في الحج والعمرة. 208 - مجموع فتاوى ابن باز، جمع عبد الله الطيار، وأحمد الباز، الطبعة الأولى 1416هـ، دار الوطن، الرياض، المملكة العربية السعودية. 209 - مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، الطبعة الأولى 1423هـ، جمع فهد بن ناصر بن إبراهيم السليمان، دار الثريا للنشر. 210 - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، للعلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز، جمع وترتيب د. محمد بن سعد الشويعر، الطبعة الأولى 1408 هـ، الرئاسة العامة لإدارات البحوث والعلمية والإفتاء، المملكة العربية السعودية. 211 - مجموعة الحديث النجدية 212 - المحلى بالآثار، لمحمد بن علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي، تحقيق أحمد شاكر، مكتبة دار التراث، القاهرة، بدون تاريخ. 213 - مختار الصحاح، للإمام محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، طبعة 1985م، مكتبة لبنان، بيروت، لبنان. 214 - المختارات الجلية من المسائل الفقهية، للسعدي ت 1376هـ، المؤسسة السعيدية بالرياض، المملكة العربية السعودية. 215 - مختصر الشمائل المحمدية، للإمام أبي عيسى محمد بن سورة الترمذي، ت 279 هـ، اختصره محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1415 هـ، المكتبة الإسلامية، عمان، الأردن. 216 - مختصر زوائد مسند البزار على الكتب الستة ومسند أحمد، أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852 هـ)، تحقيق وتقديم صبري بن عبد الخالق أبو ذر، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط3، 1414هـ/ 1992م. 217 - مختصر سنن أبي داود، الحافظ عبد العظيم بن عبد القوي المنذري (ت 656هـ)، تحقيق أحمد شاكر ومحمد حامد الفقي، طبعة مكتبة السنة المحمدية. 218 - مختصر قيام الليل وكتاب الوتر، لمحمد بن نصر المروزي، أحمد بن علي المقريزي، الطبعة الأولى، دار حديث أكاديمي، باكستان، 1408هـ- 1988م. 219 - مختصر منهاج القاصدين، للإمام أحمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسى، ت 689 هـ، تعليق شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط، طبعة 1398

هـ، مكتبة دار البيان، دمشق. 220 - مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، للإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن قيم الجوزية تحقيق محمد حامد الفقي، الطبعة بدون تاريخ، مكتبة السنة المحمدية، ومكتبة تيمية، القاهرة. 221 - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للملا علي القاري، ت 1014 هـ، طبعة 1414 هـ، دار الفكر، بيروت، لبنان. 222 - المستدرك على الصحيحين، للإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، بدون تاريخ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 223 - المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام، لمحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، طبع المؤلف، الطبعة الأولى، 1418هـ. 224 - مسند الإمام أحمد، للإمام أحمد بن محمد بن حنبل، ت 241 هـ، بدون تاريخ، المكتب الإسلامي، دار صادر، بيروت، لبنان. 225 - مسند أبي داود الطيالسي، لأبي داود سليمان بن داود الطيالسي (204 هـ)، تحقيق: د. محمد بن عبد المحسن التركي، طبع دار هجر بالقاهرة، الطبعة الأولى 1419 هـ. 226 - مسند أبي يعلى الموصلي، للإمام الحافظ أحمد بن علي بن المثني التميمي، ت 307 هـ، تحقيق حسين سليم أسد، الطبعة الأولى، 1412هـ، دار الثقافة العربية، دمشق، بيروت. 227 - مسند الإمام أحمد بشرح أحمد شاكر، للإمام أحمد بن محمد بن حنبل، شرحه وضع فهارسه أحمد محمد شاكر، بدون تاريخ، دار المعارف، مصر. 228 - مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، النسخة المحققة، تحقيق مجموعة من أهل العلم أشرف على التحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت- لبنان. 229 - مسند الإمام الشافعي، للشافعي؛ محمد بن إدريس (ت 204هـ). ترتيب: محمد عابد السندي، ط1، القاهرة، 1369هـ. 230 - مسند الحميدي، عبدالله بن الزبير، أبو بكر الحميدي، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، دار الكتب العلمية , مكتبة المتنبي - بيروت , القاهرة. 231 - مسند الفردوس (الفردوس بمأثور الخطاب)، أبو شجاع شيروية بن شهردار بن شيرويه الديلمي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1406هـ- 1986م.

232 - مشارق الأنوار على صحاح الآثار، للإمام القاضي أبي الفضل عياض بن موسى اليحصبي، بدون تاريخ، المكتبة العتيقة، تونس، دار التراث، القاهرة. 233 - المشروع والممنوع في المسجد، للشيخ محمد بن علي العرفج. 234 - مشكاة المصابيح، لمحمد عبد الله الخطيب التبريزي، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الثالثة 1405هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 235 - مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه، لشهاب الدين البوصيري (ت 840هـ)،ط1، بيروت، دار الجنان، 1406هـ. 236 - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، للعلامة أحمد بن محمد بن علي المقرئ الفيومي، بدون تاريخ، المكتبة العلمية، بيروت، لبنان. 237 - مصنف ابن أبي شيبة، توزيع إدارات البحوث العلمية والإفتاء. 238 - مصنف عبد الرزاق بن همام الصنعاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، الطبعة الثانية 1403 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت. 239 - معالم السنن، لحمد بن محمد الخطابي (388 هـ)، المطبوع مع مختصر سنن أبي داود للحافظ المنذري، تحقيق أحمد محمد شاكر ومحمد حامد الفقي، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 240 - معالم في طريق طلب العلم، لعبد العزيز بن محمد بن عبد الله السدحان، تقديم الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، دار العاصمة، الطبعة الثالثة، الرياض، المملكة العربية السعودية، 1420هـ- 1399م. 241 - المعجم الأوسط، للطبراني، المجموع في مجمع البحرين في زوائد المعجمين، مكتبة الرشد، الرياض. 242 - معجم البلدان، لياقوت بن عبد الله الحموي، الطبعة الثانية 1995م دار صادر صادر، بيروت. 243 - معجم الطبراني الكبير، للحافظ أبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، الطبعة الثانية، بدون تاريخ، وزارة الأوقاف والشئون الدينية بالجمهورية العراقية. 244 - المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، لمحمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان. 245 - معجم المقاييس في اللغة، لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، ت 395 هـ،

تحقيق شهاب الدين أبي عمرو، الطبعة الأولى، 1415 هـ، دار الفكر، بيروت، لبنان. 246 - المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، الطبعة الثانية، المكتبة الإسلامية، إستانبول، تركيا. 247 - معجم لغة الفقهاء، للأستاذ الدكتور، محمد رواس الطبعة الأولى 1416هـ، دار النفائس، بيروت، لبنان. 248 - المغني، لموفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، تحقيق د. عبد الله بن عبد المحسن التركي ود. عبد الفتاح محمد الحلو، الطبعة الأولى، دار هجر للطباعة والنشر. 249 - مفتاح دار السعادة، للعلامة الإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، ت 751 هـ، تخريج علي بن حسن بن علي بن عبد المجيد، الطبعة الأولى، 1416 هـ، دار ابن عفان، الخبر، المملكة العربية السعودية. 250 - مفردات ألفاظ القرآن، العلامة الراغب الأصفهاني، ت 502 هـ، تحقيق صفوان عدنان داوودي، الطبعة الأولى، 1412 هـ، دار القلم، دمشق، دار الشامية، بيروت. 251 - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، لأبي العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي، ت 656 هـ، تحقيق محيى الدين مستو وجماعة، الطبعة الأولى، 1417 هـ، دار ابن كثير، دمشق، بيروت. 252 - المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، للحافظ شمس الدين أبي الخير محمد بن عبد الرحمن السخاوي، ت 902هـ، تصحيح وتعليق عبد الله محمد الصديق، الطبعة الأولى، 1399هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 253 - المقنع والشرح الكبير مع الإنصاف، تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، الطبعة الأولى 1416هـ، دار الهجر. 254 - مقومات الداعية الناجح، لسعيد بن علي بن ةهف القحطاني، توزيع مؤسسة الجريسي. 255 - مكمل إكمال الإكمال، لمحمد بن محمد السنوسي، ت 895هـ، مطبوع مع شرح الأبي، ضبطه وصححه محمد سالم هاشم، الطبعة الأولى، 1415هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.

256 - منار السبيل، تأليف إبراهيم بن محمد بن سالم بن ضويان، تحقيق زهير الشاويش، الطبعة الخامسة 1402هـ، المكتب الإسلامي، بيروت. 257 - المنار المنيف في الصحيح والضعيف، للإمام محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، كتب هوامشه وحققه: أحمد عبد الشافي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1408هـ، 1988م. 258 - المنتقى من أخبار المصطفى (، لمجد الدين أبي البركات عبد السلام ابن تيمية، تصحيح محمد حامد الفقي، 1402هـ، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية، الرياض، المملكة العربية السعودية. 259 - منتهى الإرادات، لمحمد بن أحمد الفتوحي، تقي الدين ت 972هـ، مع حاشية المنتهى لعثمان أحمد سعيد النجدي، تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة. 260 - منهاج السالكين وتوضيح الفقه في الدين، للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ت 1376هـ، دون تاريخ، دار غريب، القاهرة، مصر. 261 - منهاج السنة النبوية، لابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم (ت 728هـ). تحقيق: محمد رشاد سالم، ط1، الرياض، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1406هـ. 262 - منهاج المسلم، لأبي بكر جابر الجزائري، دار السلام، الرياض، المملكة العربية السعودية. 263 - المنهل العذب المورود في شرح سنن أبي داود، لمحمود محمد خطاب السبكي، ت 1352هـ، الطبعة الثانية، 1411هـ، مكتبة طبريّة، الرياض، المملكة العربية السعودية. 264 - موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، لعلي بن أبي بكر الهيثمي، تحقيق محمد عبدالرزاق حمزة، دار الكتب العلمية. 265 - الموسوعة الفقهية الكويتية، الطبعة الأولى 1414هـ، مطابع دار صفوة للنشر والتوزيع، توزيع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت. 266 - موطأ الإمام مالك، للإمام مالك بن أنس، ت 179 هـ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، بدون تاريخ، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي

وأولاده. 267 - النهاية في غريب الحديث، للإمام أبي السعادات المبارك بن محمد بن الأثير الجزري، ت 606 هـ، تحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي، بدون تاريخ، المكتبة العلمية، بيروت، لبنان. 268 - نيل الأوطار، للشوكاني، تحقيق أحمد محمد السيد ومحمود إبراهيم بزّال، الطبعة الأولى 1419هـ، دار الكلم الطيب، دمشق، بيروت. 269 - نيل المآرب بشرح دليل الطالب، لعبدالقادر بن عمر التغلبي، الطبعة الثانية، 1420هـ دار النفائس، عمان الأردن. 270 - هدي الساري مقدمة فتح الباري، لابن حجر، مكتبة الرياض الحديثة بدون تاريخ.

§1/1