صفحات مشرقة من حياة السلف - سفيان الثوري

محمد بن مطر الزهراني

مقدمة

صَفَحَاتٌ مُشْرِقَةٌ مِنْ حَيَاةِ السَّلَفِ: سُفْيَانُ بِن سَعِيْدٍ الثَّوْرِي تأليف: محمد بن مطر الزهراني بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله. وبعد: فقد عشنا في ثنايا هذا البحث مع صفحات مشرقة من سيرة إمام من أئمة الهدى هو: أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري رحمه الله، وقلَّبنا تلك الصفحات من سيرته العطرة فرأينا نموذجاً عملياً لأئمة السلف الذين يقتدى بهم: رأيناه خير قدوةٍ في طلبه للعلم: نية واجتهاداً في التحصيل، ورأيناه خير إمامٍ في العبادة والعمل، ورأيناه أُنموذجاً فريداً في زهده وورعه، ورأيناه إمام هدى في العقيدة والسُنَّة، ورأيناه داعية هدى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودخوله على

حكام زمانه في مناصحتهم في أمر الأمة. ورأيناه معلماً لتلاميذه من طراز فريدٍ نادرٍ. وجدنا سفيان الثوري من خلال هذه الصفحات - وما هي إلا غيض من فيض من سيرته العطرة - إماماً من أئمة السلف الصالح، وما هو إلا واحد من مئات بل أُلوف من أولئك الأعلام الذي كانوا نجوم هدى ومصابيح الدجى، كانوا على منهجٍ واضحٍ محدد المعالم في القول والعمل والهدي والأدب والاعتقاد والسلوك، حتى كان الواحد منهم كأنه صورة من الآخر، قولهم متفقٌ ورأيهم مؤتلفٌ. قال أبو المظفر منصور بن محمد السمعاني (ت 489هـ): "ومما يدل على أن أهل الحديث هم على الحق، أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنَّفة من أولهم إلى آخرهم، قديمهم وحديثهم مع اختلاف بلدانهم وزمانهم، وتباعد ما بينهم في الديار وسكون كل واحد منهم قطراً من الأقطار، وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرةٍ واحدةٍ ونمطٍ واحدٍ يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها ولا يميلون فيها، قولهم في ذلك واحد ونقلهم واحد، لا ترى بينهم اختلافاً ولا

تفرقاً في شيء ما وإن قلَّ، بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم، ونقلوه عن سلفهم، وجدتهم كأنه جاء من قلب واحد وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا". ثم قال: "وأما إذا نظرت إلى أهل الأهواء والبدع، رأيتهم متفرقين مختلفين أو شيعاً وأحزاباً، لا تكاد تجد اثنين منهم على طريقةٍ واحدةٍ في الاعتقاد، يُبدِّع بعضهم بعضاً، بل يرتقون إلى التكفير، يكفِّر الابن أباه والرجل أخاه والجار جاره، تراهم أبداً في تناعٍ وتباغٍ واختلافٍ، تنقضي أعمارهم ولما تتفق كلماتهم: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} 1. أما سمعت أن المعتزلة مع اجتماعهم في هذا اللقب يكفِّر البغداديون منهم البصريين، والبصريون البغداديين، ويكفر أصحابَ أبي علي الجبائي ابنَه أبا هاشم، وأصحاب أبي هاشم يكفِّرون أبا علي، وكذلك سائر رؤوسهم وأرباب المقالات منهم، إذا تدبرت أقوالهم رأيتهم

_ 1سورة الحشر - الآية (14).

متفرقين يكفر بعضهم بعضاً ويتبرأ بعضهم من بعض، وكذلك الخوارج والروافض فيما بينهم وسائر المبتدعة بمثابتهم، وهل على الباطل دليل أظهر من هذا". 1 أما عن سبب هذا الاتفاق والاختلاف فقال رحمه الله: "وكان السبب في اتفاق أهل الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسُنَّة وطريق النقل، فأورثهم الاتفاق والائتلاف، وأهل البدع أخذوا الدين من المقولات والآراء فأورثهم الافتراق والاختلاف، فإن النقل والرواية من الثقات المتقنين قلَّما يختلف، وإن اختلف في لفظةٍ أو كلمةٍ فذلك اختلاف لا يضر ولا يقدح فيه. أما دلائل العقل فقلَّما تتَّفق، بل عقل كل واحدٍ يرى صاحبه غير ما يرى الآخر وهذا بيِّنٌ والحمد الله". 2

_ 1انظر: الحجة في بيان المحجة (2/ 224 - 226)، فصول من كتاب الانتصار لأصحاب الحديث للسمعاني (ص: 44 - 46). 2الحجة في بيان المحجة للتيمي (2/ 226)، فصول من كتاب الانتصار للسمعاني (ص: 47).

وقال في موضع آخر: "غير أنَّ الله أبى أن يكون الحق والعقيدة الصحيحة إلا مع أهل الحديث والآثار، لأنهم أخذوا دينهم وعقائدهم خلفاً عن سلف وقرناً عن قرن إلى أن انتهوا إلى التابعين، وأخذه التابعون عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا طريق إلى معرفة ما دعا إليه رسول الله صلى الله وسلم عليه وعلى آله الناس من الدِّين المستقيم والصراط القويم إلا هذا الطريق الذي سلكه أصحاب الحديث، وأما سائر الفرق فطلبوا الدِّين لا بطريقه لأنهم رجعوا إلى معقولهم وخواطرهم وآرائهم، فطلبوا الدِّين من قِبَلِهِ، وإن لم يستقم في ميزان عقولهم ردُّوه، فإن اضطروا إلى قبوله حرَّفوه بالتأويلات البعيدة والمعاني المستكرهة، فحادوا عن الحقِّ، وزاغوا عنه، ونبذوا الدِّين وراء ظهورهم. وأما أهل الحق فجعلوا الكتاب والسُنَّة أمامهم وطلبوا الدِّين من قِبَلِهِمَا، وما وقع لهم من معقولهم وخواطرهم عرضوه على الكتاب والسُنَّة فإن وجدوه موافقاً لهما قَبِلُوهُ،

وشكروا الله حيث أراهم ذلك ووفقهم إليه، وإن وجدوه مخالفاً لهما تركوا ما وقع لهم، وأقبلوا على الكتاب والسُنَّة ورجعوا بالتهمة على أنفسهم، فإن الكتاب والسُنَّة لا يهديان إلا إلى الحق، ورأي الإنسان قد يرى الحق وقد يرى الباطل". 1 إن هذا المنهج الواضح المحدد المعالم كما أورث السلف الاتفاق والائتلاف أورثهم أيضاً: الثبات والاستقرار وعدم التناقض والتنقل من قول إلى قول، أو من رأي إلى رأي، بل قد ورد عنهم التحذير من ذلك التنقل وذاك التناقض في الرأي. 2 قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ): "أهل الكلام أكثر الناس تنقلاً من قول إلى قول، وجزماً بالقول في موضع وجزماً بنقيضه وتكفير قائله في

_ 1 المصدر نفسه (2/ 223 - 224)، وفصول من كتاب الانتصار للسمعاني (ص: 44). 2انظر: الإبانة (2/ 503) وما بعدها.

موضع آخر، وهذا دليل عدم اليقين، وأما أهل السُنَّة والحديث فما يعلم أحد من علمائهم ولا صالح عامتهم رجع قط عن قوله واعتقاده بل هم أعظم الناس صبراً على ذلك وإن امتُحِنوا بأنواع المحن وفُتِنوا بأنواع الفتن، وهذه حال الأنبياء وأتباعهم من المتقدمين كأهل الأخدود ونحوهم وكسلف هذه الأُمَّة والصحابة والتابعين وغيرهم من الأئمة، حتى كان مالك رحمه الله يقول: لا تغبطوا أحداً لم يصبه في هذا الأمر بلاء، يقول: إن الله لابد أن يبتلي المؤمن، فإن صبر رفع درجته كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} 1". ثم قال: "ومن صبر من أهل الأهواء على قوله، فذاك لما فيه من الحق وبالجملة فالثبات والاستقرار في أهل الحديث والسنة أضعاف أضعاف أضعاف ما هو عند أهل الكلام والفلسفة بل المتفلسف أعظم اضطراباً وحيرة في أمره

_ 1سورة السجدة - الآية (24).

من المتكلم لأنَّ عند المتكلم من الحق الذي تلقاه عن الأنبياء ما ليس عند المتفلسف وأيضاً تجد أهل الفلسفة والكلام أعظم الناس افتراقاً واختلافاً، مع دعوى كل منهم أن الذي يقوله حق مقطوع به، قام عليه البرهان. وتجد أهل السُنَّة أعظم الناس اتفاقاً وائتلافاً، وكل من كان من الطوائف إليهم أقرب كان إلى الاتفاق والائتلاف أقرب. ولست تجد اتفاقاًوائتلافاً إلا بسبب اتباع آثار الأنبياء من القرآن والحديث وما يتبع ذلك، ولا تجد افتراقاً واختلافاً إلا عند من ترك ذلك وقدم غيره عليه". اهـ ملخصاً 1 هكذا كان السلف الصالح لما وحدوا مصدر تلقي الدِّين متفقين مؤتلفين، وكذلك كانوا في منهج العمل، على وتيرة واحدة لا يحيدون عنها ثابتين مستقرين.

_ 1انظر: نقض المنطق، تحقيق محمد عبد الرزاق بن حمزة وسليمان الصنيع (ص: 42 - 44).

قال الحافظ ابن بطة (ت 387هـ): "اعلموا رحمنا الله وإياكم، أن من شأن المؤمنين وصفاتهم وجود الإيمان فيهم ودوام الإشفاق على إيمانهم وشدة الحذر على أديانهم، فقلوبهم وجلة من خوف السلب، قد أحاط بهم الوجل لا يدرون ما الله صانع بهم في بقية أعمارهم، حذرين من التزكية متبعين لما أمرهم به مولاهم الكريم حين يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} 1 خائفين من حلول مكر الله بهم في سوء الخاتمة، لا يدرون على ما يصبحون ويمسون، فهم يعملون الصالحات ويخافون سَلْبَها والرجوع عنها، ويجانبون الفواحش والمنكرات وهم وجلون من مواقعتها، وبذلك جاءت السُنَّة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبَهُمْ وَجِلَةٌ} هو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر قال: "لا يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصوم

_ 1سورة النجم - الآية (32).

ويصلي ويتصدق وهو يخاف أن لا يقبل منه". 1 وفي "الحجة في بيان المحجة" قال بعض العلماء: "ومن علامة أصحاب الحديث أداء الصلاة في أول الوقت وصدق اللهجة، والتهجد بالليل، وكتابة الحديث والرحلة فيه والتفقه فيه". 2 وفي "الإبانة": سئل سهل بن عبد الله التستري عن الإيمان ما هو فقال: "هو قولٌ ونيةٌ وعملٌ وسُنَّةٌ، لأنَّ الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كفر، وإذا كان قولاً وعملاً بلا نيةٍ فهو نفاق، وإذا كان قولاً وعملاً ونيةً بلا سُنَّةٍ فهو بدعة". 3 هذا ما تيسر لي جمعه والله الهادي إلى سواء السبيل.

_ 1الإبانة (2/ 862 - 864). 2الحجة في بيان المحجة (2/ 500). 3الإبانة (2/ 814)، وقد روي نحو قول التستري عن أنس وعلي رضي الله عنهما وعن الحسن وسفيان والأوازاعي وغيرهم. انظر: الإبانة (2/ 803).

تنبيه: سبق أن نبهت في ترجمة عبد الله بن المبارك العالم المجاهد وأنبه هنا أيضاً أنني لم أقصد مجرد الترجمة كما هو موجود في كتب التراجم لئلا يكون عملي تكراراً بلا فائدة تُذكَر، وإنما قصدت الوقوف على جوانب القدوة العملية من حياة هؤلاء الأعلام، وجوانب التربية العملية في حياتهم وهديهم وكتبهم ومنهجهم في العلم والعمل والدعوة والاعتقاد، ليقتدي شباب الدعوة اليوم بهؤلاء الأئمة العلماء ويحذو حذوهم، وقد سلكت في ترجمة الإمام سفيان الثوري طريقة ابن أبي حاتم في تقدمته لـ "الجرح والتعديل" وقد اقتبست أكثر العناوين منه أيضاً، هذا والله من وراء القصد. المؤلف غرة رمضان من ألف وأربعمائة وثمانية عشر للهجرة بالمدينة النبوية حرسها الله

اسمه ونسبه: أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع بن عبد الله بن موهبة بن أبي بن عبد الله بن منقذ بن نصر بن الحارث بن ثعلبة بن عامر بن ملكان بن ثور بن عبد مناة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. قال الذهبي: "من ثور طابخة، وبعضهم قال: هو من ثور همدان، وليس بشيء". 1 ولد سنة سبع وتسعين ومات سنة إحدى وستين ومائة رحمه الله. وطلب العلم وهو حدث السن باعتناء والده، المحدث الصادق: سعيد بن مسروق الثوري، وكان والده من أصحاب الشعبي وخيثمة بن عبد الرحمن، ومن ثقات

_ 1السير (7/ 229 - 230)، وانظر عن نسبه: طبقات ابن سعد (6/ 371).

الكوفيين، وعداده في صغار التابعين، روى له الجماعة الستة في دواوينهم، وحدث عنه أولاده: سفيان الإمام وعمر ومبارك، وشعبة بن الحجاج، وزائدة، وأبو الأحوص، وأبو عوانة، وآخرون، ومات سنة (126 هـ). 1 شيوخه وتلاميذه: اعتنى الإمامان الحافظان: أبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزي (ت 742 هـ)، وأبو عبد الله الذهبي (ت 748 هـ) باستقصاء ذكر شيوخ وتلاميذ الإمام أبي عبد الله الثوري، وقد جاوزا بهم مائتين وثمانين شيخاً، ومائة وثلاثين تلميذاً. 2 قال الذهبي: "ويقال: إن عدد شيوخه ستمائة شيخ، وكبارهم الذين حدثوه عن أبي هريرة وجرير بن عبد الله،

_ 1السير (7/ 230). 2انظر: تهذيب الكمال للمزي (11/ 154 - 164)، السير للذهبي (7/ 230 - 236).

وابن عباس وأمثالهم". ثم قال: "وأما الرواة عنه فخلقٌ، ذكر أبو الفرج ابن الجوزي أنهم أكثر من عشرين ألفاً، وهذا مدفوع ممنوع، فإن بلغوا ألفاً فبالجهد، وما علمت أحداً من الحفاظ روى عنه عددٌ أكثر من مالك، وبلغوا بالمجاهيل وبالكذابين: ألفاً وأربعمائة". 1 ثم ذكر بعد ذلك فصلاً بعنوان: مشايخ حدَّث عنهم الثوري وحدثوا هم عنه، ناقلاً ذلك عن أبي عبد الله الحاكم (ت 405 هـ)، وقد بلغوا خمسة وعشرين شيخاً 2 فيهم من هو من شيوخه: كسليمان الأعمش، وأبان بن تغلب، ومحمد بن عجلان المدني وغيرهم، وفيهم من هو من أقرانه: كشعبة بن الحجاج، وأبي عمرو الأوزاعي، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب وغيرهم، وفيهم من هو من

_ 1السير (7/ 234). 2سير أعلام النبلاء (7/ 254).

تلاميذه: كعبد الله بن المبارك، وابن عيينة، ووكيع بن الجراح، وأبي إسحاق الفزاري وغيرهم. وهذا الصنيع منه ومن هؤلاء الشيوخ هو تطبيق عملي لقولهم: "لايكون المحدث كاملاً، والعالم عالماً حتى يسمع ممن هو فوقه وممن هو مثله وممن هو دونه". 1 فرحمهم الله من أئمة هدى يقتدى بهم في التواضع والورع والحرص على أخذ العلم من أهله كباراً كانوا أم صغاراً، ورحمهم الله من أئمة هدى لم يعرف الكبر والعجب والغرور إلى نفوسهم سبيلاً.

_ 1روي هذا من قول سفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح ومحمد بن إسماعيل البخاري، انظر: الجامع للخطيب البغدادي (2/ 218)، وهدي الساري لابن حجر (ص: 479).

ما ذكر من علم سفيان الثوري وفقهه

ما ذكر من علم سفيان الثوري وفقهه: كل من ترجم لسفيان الثوري أورد في ترجمته طائفةً من أقوال الأئمة: من أقرانه وتلاميذه وتلاميذهم وغيرهم، في الثناء على علم سفيان وفقهه، وهذه أهم تلك الأقوال: 1 قال سفيان بن عيينة: "ما رأيت رجلاً أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري". 2 وقال عبد الله بن المبارك: "ما أعلم على وجه الأرض أعلم من سفيان". 3 وعن عبد الرزاق الصنعاني (ت 211 هـ) قال: قال ابن عيينة: "أئمة الناس ثلاثة - بعد أصحاب رسول الله صلى الله

_ 1من أهم الكتب التي ترجمت لسفيان: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم - التقدمة (1/ 55 - 125)، الحلية لأبي نعيم (6/ 356)، و (7/ 144)، وتاريخ بغداد (9/ 151 - 174)، وسير أعلام النبلاء (7/ 229 - 279). 2الجرح والتعديل (1/ 55). 3الحلية (6/ 357) وتاريخ بغداد (9/ 156).

عليه وعلى آله وسلم -: ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، وسفيان الثوري في زمانه". 1 وعن محمد بن المعتمر بن سليمان التيمي قال: قلت لأبي: مَن فقيه العرب قال: "سفيان الثوري". 2 وقال عبد الرحمن بن الحكم: "ما سمعت بعد التابعين بمثل سفيان". 3 وقال أبو طالب أحمد بن حميد: قال أبو عبد الله أحمد ابن حنبل: "دخل على مالك، الأوزاعي وسفيان الثوري، فلما خرجا قال مالك: أحدهما أكثر علماً من صاحبه، والآخر أصلح للإمامة، قلت لأبي عبد الله: فالذي عنى مالك أنه أعلم الرجلين هو سفيان قال: نعم، قال أبو عبد الله: أجل، سفيان أوسعهما علماً". 4

_ 1تاريخ بغداد (9/ 154)، والحلية (6/ 356). 2الجرح والتعديل (1/ 57). 3المصدر نفسه. 4المصدر نفسه (1/ 59).

قال علي بن المديني: "لا أعلم سفيان صحَّف في شيء قط إلا في اسم امرأة أبي عبيدة، كان يقول: حفينة يعنى الصواب: بِجِيمٍ". 1 قال عبد الرزاق: قال ابن المبارك: "كنت أقعد إلى سفيان الثوري، فيحدث، فأقول: ما بقي من علمه شيء إلا وقد سمعته، ثم أقعد عنده مجلساً آخر، فيحدث، فأقول: ما سمعت من علمه شيئاً". 2 قال زائدة بن قدامة الثقفي (ت 160 هـ): "كان سفيان أفقه الناس". 3 وعن أبي الأحوص قال: سمعت أحمد بن يونس يقول: "ما رأيت أحداً أعلم من سفيان، ولا أورع من سفيان، ولا أفقه من سفيان، ولا أزهد من سفيان". 4

_ 1سير أعلام النبلاء (7/ 240). 2المصدر نفسه (7/ 248). 3الحلية (6/ 357)، سير أعلام النبلاء (7/ 247 - 254). 4الحلية (6/ 359).

عن أبي أسامة حماد بن أسامة (ت 201 هـ) قال سفيان: "إنما العلم عندنا الرُّخَصُ عن الثقة، فأما التشديد فكل إنسان يحسنه". 1 وعن حفص بن غياث (ت 195 هـ) قال: سمعت سفيان يقول: "إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختُلِف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه". 2 قال الخريبي: "ما رأيت أفقه من سفيان الثوري". 3 عن عباس بن محمد الدوري قال: "رأيت يحيى بن معين لا يقدم على سفيان الثوري في زمانه أحداً في الفقه والحديث والزهد". 4 عن محمد بن عبيد الطنافسي قال: "لا أذكر سفيان

_ 1الحلية (6/ 367)، جامع بيان العلم وفضله (1/ 784) برقم 1467، وفيه: " ... الرخصة من الثقة ... ". 2الحلية (6/ 368)، الفقيه والمتفقه (2/ 69)، وفيه أيضاً عنه قال: "ما اختلف فيه الفقهاء، فلا أنهى أحداً من إخواني أن يأخذ به". 3السير للذهبي (7/ 240). 4تاريخ بغداد (9/ 169)، السير (7/ 237).

الثوري إلا وهو يفتي، أذكر منذ سبعين سنة ونحن في الكُتَّاب تمر بنا المرأة والرجل فيسترشدوننا إلى سفيان ليستفتوه فيفتيهم". 1 قال يزيد بن زريع: "كان سفيان راوياً ومفتياً". 2 وعن الوليد بن مسلم قال: "رأيت سفيان الثوري بمكة يستفتى، ولما يخط وجهه بعد". 3 قال الإمام أبو الحسن علي بن عبد الله المديني (ت 234 هـ): "لم يكن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من له أصحاب يذهبون مذهبه ويفتون فتواه، ويسلكون طريقته إلا ثلاثة: عبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس. فأصحاب عبد الله بن مسعود الذين يفتون بفتواه، ويقرأون بقراءته: علقمة بن قيس، والأسود بن

_ 1الحلية (6/ 357). 2الجرح والتعديل (1/ 59). 3الجرح والتعديل (1/ 56).

يزيد، ومسروق بن الأجدع، وعبيدة بن عمرو السلماني، والحارث بن قيس، وعمرو بن شرحبيل". ثم قال: "وأصحاب هؤلاء الستة من أصحاب عبد الله بن مسعود ممن يقول بقولهم ويفتي بفتواهم: إبراهيم بن يزيد النخعي، وعامر بن شراحيل الشعبي". ثم قال: "وكان أعلم الناس من أهل الكوفة ممن يفتي بفتواهم ويذهب مذهبهم: الأعمش سليمان بن مهران، وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، ومن بعد هؤلاء: سفيان بن سعيد الثوري، كان يذهب مذهبهم ويفتي بفتواهم. ومن بعد سفيان: يحيى بن سعيد القطان كان يذهب مذهب سفيان وأصحاب عبد الله". 1

_ 1انظر: علل الحديث ومعرفة الرجال لعلي بن المديني (ص: 43 - 47) ط: عبد المعطي قلعجي. وقال الحافظ ابن القيم: "والدين والفقه والعلم انتشر في الأمة عن أصحاب ابن مسعود، وأصحاب زيد بن ثابت، وأصحاب عبد الله ابن عمر، وأصحاب عبد الله بن عباس، فعلم الناس عامته عن أصحاب هؤلاء الأربعة". ثم قال: "فأما أهل المدينة فعلمهم عن أصحاب زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر، وأما أهل مكة فعلمهم عن أصحاب عبد الله بن عباس، وأما أهل العراق فعلمهم عن أصحاب عبد الله بن مسعود". ثم قال: "قال ابن جرير: وقد قيل: إن ابن عمر وجماعة ممن عاش بعده بالمدينة من أصحاب رسول الله صلى الله وسلم عليه وعلى آله إنما كانوا يفتون بمذاهب زيد بن ثابت، وما كانوا أخذوا عنه مما لم يكونوا حفظوا فيه عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قولاً". اهـ من: أعلام الموقعين (1/ 21) فصل: الأئمة الذين نشروا الدين والفقه.

هكذا يتلقى العلم على أهله: التلاميذ عن الشيوخ والخلف عن السلف قرناً بعد قرن، وهكذا تُلُقِيَ هذا الدين الذي ختم الله به الرسالات، ونسخ به الأديان، إذ تلقاه جبريل من رب العزة والجلال، فنزل به على قلب محمد الصادق الأمين، ثم بلغه محمد صلى الله عليه وسلم أمته أتم بلاغ وأوضحه بأحسن بيان، فتلقاه عنه الصحابة البررة الكرام الذين

اصطفاهم الله لصحبة خير الأنام، وفهموه عنه خير الفهم، وعملوا به أكمل عمل، ثم بلغوه إلى التابعين، وهكذا استمر التلقي لهذا الدين جيلاً بعد جيل، وما مدرسة ابن مسعود في الكوفة إلا نموذج من تلك المدارس العلمية الفقهية المنتشرة في كل مصر نزل فيه أحد من الصحابة رضي الله عنهم، وهي كذلك نموذج تطبيقي لذلك التسلسل في التلقي. وأمرُ تلقي العلم فيه على أهله، واتِّباعُ الخلفِ للسَّلف فيه، أمرٌ مقطوعٌ به في هذه الأٌمَّة التي امتازت بعلمَي الرواية والدراية على سائر الأمم. بَيْدَ أنَّه بعد انقضاء القرون المفضلة وانقضاء عصر ازدهار العلوم الإسلامية، وبعد تسلط أصحاب الأهواء والبدع على مقاليد السلطة في الأمة الإسلامية منذ القرن الرابع الهجري، وحملتهم على علماء السنة بعد ذلك انتشر الجهل وبدأ الجمود العلمي يسري في الأمة، عند ذلك نبتت ظاهرة التقليد والتعصب المذهبي المقيت، بعد أن لم يكن معروفاً في الأمة الإسلامية في عصورها الزاهرة.

وأخذت تلك الظاهرة تتسع حتى عمَّت وطمَّت، وبلغت ذروتها في القرون المتأخرة، حتى أنه في مطلع القرن الثالث عشر الهجري أحدثت شدة التعصب المذهبي والتقليد الأعمى ردة فعل معاكسة تماماً، فنادى بعض علماء ذلك القرن كالشيخ محمد بن علي الشوكاني (ت 1255 هـ) بنَبْذِ كل المذاهب والأخذ مباشرة من الكتاب والسنة، وألف في ذلك كتابه المشهور "الدرر البهية" ثم شرحه في كتابه "الدراري المضية"، وألف "القول المفيد في حكم التقليد" وذلك لشدة ما كان عليه المقلِّدة والمتعصِّبة في ذلك الزمان وما لقيه رحمه الله وأمثاله من العلماء من شر هؤلاء المقلدين المتعصبين، ولم تزل الدعوة إلى نبذ المذاهب وحربها تتسع حتى بلغت ذروتها في هذا العصر، فنادى أصحابها بإطلاق الاجتهاد في الأخذ من الكتاب والسنة لكلِّ من هبَّ ودبَّ حتى لصغار الطلبة بل حتى العوام، فأنتج هذا الاجتهاد المطلق فوضى علمية لا نظير لها حتى أُلغي فيها كل معنى صحيح، وفهم سليم للتمذهب عند السلف كما ذكره الإمام

علي بن المديني ثم الحافظ ابن القيم رحمهما الله تعالى. وكان الأولى أن يُحذى حذو الإمامين: شيخ الإسلام ابن تيمية في زمانه، والمجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في عصره، حيث قاوما التعصب المذهبي والتقليد الأعمى بإحياء المنهج الصحيح والفهم السليم للتمذهب الذي هو اتباع أصول مذهب معين من المذاهب التي عرفت في الأمة وحفظت أقوال وآراء أصحابها في طرق فهم النصوص وطريقة الاستنباط ومنهج الاستدلال والعمل، لذلك نجد أن هذين المجددين التزما في دعوتهما وتعلمهما وتعليمهما تلاميذهما مذهب الإمام أحمد بن حنبل ولم يتعصبا له، كما لم يدعوا إلى إلغاء المذاهب الأخرى ومحاربتها. وقد سبقهما لهذا المسلك فقهاء المحدثين حيث ذهبوا في طريقة استنباط فقه الحديث ومنهج الاستدلال به على الطريقة التي أصلها الإمام الشافعي رحمه الله في كتبه كـ "الرسالة" و "الأم" فذهبوا مذهبه، انظر مثلاً: فقه البخاري في تراجم أبواب "صحيحه"، وأبا داود والترمذي في "سننهما"،

وانظر ابن خزيمة وأبا عوانة وابن حبان في تراجم أبواب كتبهم وغيرهم. ولم يكن هذا تقليداً، وإنما هو اتباع، قال الحافظ ابن عبد البر: "والتقليد عند جماعة العلماء غير الإتباع، لأن الاتباع هو: أن تتبع القائل على ما بان لك من فضل قوله وصحة مذهبه. والتقليد: أن تقول بقوله، وأنت لا تعرفه ولا وجه القول ولا معناه، وتأبى من سواه، أو أن يتبين لك خطؤه فتتبعه مهابة خلافه وأنت قد بان لك فساد قوله، وهذا محرَّم القولُ به في دين الله سبحانه". 1 وفرق أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي بين ما يجوز فيه التقليد وما لا يجوز فقال: "وأما الأحكام الشرعية فضربان: أحدهما: يعلم ضرورة من دين الرسول صلى الله عليه وسلم: كالصلوات الخمس والزكوات

_ 1انظر: جامع بيان العلم وفضله (2/ 37) ط: دار الكتب العلمية، أو (2/ 787) ط: دار ابن الجوزي.

وصوم شهر رمضان، والحج، وتحريم الزنا وشرب الخمر وما أشبه ذلك، فهذا لا يجوز التقليد فيه لأن الناس كلهم يشتركون في إدراكه والعلم به فلا معنى للتقليد فيه. وضرب آخر: لا يعلم إلا بالنظر والاستدلال كفروع العبادات والمعاملات، والفروج والمناكحات، وغير ذلك من الأحكام فهذا يسوغ فيه التقليد بدليل قوله تعالى: {فاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}. ولأنَّا لو منعنا التقليد في هذه المسألة التي هي من فروع الدين لاحتاج كل أحد أن يتعلم ذلك، وفي إيجاب ذلك قطع عن المعائش، وهلاك الحرث والماشية، فوجب أن يسقط". 1 وعن حامد المروزي قال: سمعت ابن المبارك يقول: "كتبت عن ألف ومائة شيخ ما كتبت عن أفضل من سفيان الثوري". 2

_ 1انظر: الفقيه والمتفقه (2/ 67 - 68) ط: دار الكتب العلمية، بيروت، تحقيق إسماعيل الأنصاري. 2تاريخ بغداد (9/ 156)، سير أعلام النبلاء (7/ 237).

وعن عرفجة بن كلثوم البصري قال: سمعت وكيع بن الجراح يقول: "ما رأت عيناي مثل سفيان الثوري، ولا رأى سفيان مثله". 1 وعن سفيان بن عيينة قال: "كان سفيان الثوري كأن العلم ممثل بين عينيه يأخذ منه ما يريد ويدع ما لا يريد". 2 عن ضمرة بن ربيعة أن المثنى بن الصباح قال: "سفيان عالم الأمة وعابدها". 3 وعن أبي داود الحفري، قال ابن أبي ذئب: "ما رأيت أشبه بالتابعين من سفيان الثوري". 4 وقال أبو قطن قال شعبة: "ساد سفيان الناس بالورع والعلم". قال يحيى بن أيوب العابد: حدثنا أبو المثنى قال:

_ 1تاريخ بغداد (9/ 156). 2تاريخ بغداد (9/ 162). 3السير (7/ 238). 4المصدر نفسه.

"سمعتهم - بمرو - يقولون: قد جاء الثوري، قد جاء الثوري، فخرجت أنظر إليه، فإذا هو غلام قد بقل وجهه - خرج شعره -". قال الذهبي: "كان ينوه بذكره في صغره من أجل فرط ذكائه وحفظه، وحدَّث وهو شاب". 1 وقال قطبة بن العلاء: قال الثوري: "أنا في هذا الحديث من ستين سنة". هذا غيض من فيض مما ذكر من علم سفيان وفقهه، ولولا الإطالة لذكرت كل ما وقفت عليه من ذلك، وأختم هذه الفقرة بنصين من أجمع ما ذكر في علم سفيان وفقهه ومكانته في الأمة: الأول: قال أبو بكر الخطيب البغدادي: "وكان إماماً من أئمة المسلمين، وعلماً من أعلام الدين، مجمع على إمامته، بحيث يستغنى عن تزكيته، مع الإتقان والحفظ

_ 1المصدر نفسه (7/ 236).

والمعرفة والضبط والورع والزهد". 1 والثاني: قال الحافظ الذهبي: "قد كان سفيان رأساً في الزهد والتأله، والخوف، رأساً في الحفظ، رأساً في معرفة الآثار، رأساً في الفقه، لا يخاف في الله لومة لائم، وكان ينكر على الملوك ولا يرى الخروج عليهم أصلاً". 2

_ 1تاريخ بغداد (9/ 152). 2السير (7/ 241 - 242).

ما ذكر من حفظ سفيان وإتقانه وتفضيله على أقرانه

ما ذكر من حفظ سفيان وإتقانه وتفضيله على أقرانه: عن أبي بكر بن أبي شيبة قال: سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: "ما رأيت أحداً أحفظ من سفيان الثوري، قيل له: ثم مَنْ قال: ثم شعبة، قيل: ثم مَنْ؟ قال: ثم هشيم". وعن سفيان بن عيينة قال: "ما بالعراق أحد يحفظ الحديث إلا سفيان الثوري". قال عبد الرحمن بن مهدي: "كان وهيب يقدم سفيان في الحفظ - يعني على مالك -". وقال علي بن المديني: قال يحيى بن سعيد القطان: "ليس أحد أحب إلي من شعبة ولا يعدله أحد عندي، وإذا خالفه سفيان أخذت بقول سفيان". وعن أبي داود الطيالسي قال: سمعت شعبة يقول: "إذا خالفني سفيان في حديث فالحديث حديثه". وعن وكيع قال: "ذكر شعبة حديثاً عن أبي إسحاق فقال رجل: إن سفيان خالفك فيه، فقال: دعوه، سفيان أحفظ مني".

وقال أبو عبد الله أحمد بن حنبل: "سفيان أحفظ للإسناد وأسماء الرجال من شعبة". وقال أبو حاتم الرازي: "سفيان فقيه حافظ زاهد، إمام أهل العراق، وأتقن أصحاب أبي إسحاق، وهو أحفظ من شعبة، وإذا اختلف الثوري وشعبة فالثوري". وعن أبي زرعة الرازي قال: "أثبت أصحاب أبي إسحاق: الثوري، وشعبة، وإسرائيل، ومن بينهم الثوري أحب إلي، كان الثوري أحفظ من شعبة في إسناد الحديث ومتنه". 1 وفي "سير أعلام النبلاء": قال مهران الرازي: "كتبت عن سفيان الثوري أصنافه فضاع مني كتاب الديات، فذكرت ذلك له، فقال: "إذا وجدتني خالياً فاذكر لي حتى أُمْلِه عليك"، فحج، فلما دخل مكة طاف بالبيت وسعى، ثم اضطجع، فذكرته فجعل يملي علي الكتاب باباً إثر باب،

_ 1انظر هذه الأقوال بأسانيدها إلى أصحابها في: الجرح والتعديل (1/ 62 - 67)، وتاريخ بغداد (9/ 162 - 169).

حتى أملاه جميعه من حفظه". 1 عن أبي داود الطيالسي عن زائدة بن قدامة الثقفي (ت 160 هـ) قال: "كنا نأتي الأعمش فيحدثنا فيكثر، ونأتي سفيان الثوري فنذكر تلك الأحاديث له، فيقول: ليس هذا من حديث الأعمش، فنقول هو حدثنا به الساعة، فيقول: اذهبوا فقولوا له إن شئتم، فنأتي الأعمش فنخبره بذلك، فيقول: صدق سفيان ليس هذا من حديثنا". 2 قال عبد الرحمن بن مهدي (ت 198 هـ): "ما رأيت

_ 1انظر: السير (7/ 247). 2انظر: الجرح والتعديل (1/ 71)، تاريخ بغداد (9/ 167). قال الشيخ عبد الرحمن المعلمي - تعليقاً على هذا الخبر -: "كان الأعمش كثير الحديث، كثير التدليس، سمع كثيراً من الكبار ثم كان يسمع من بعض الأصاغر أحاديث عن أولئك الكبار فيدلسها عن أولئك الكبار، فحديثه الذي هو حديثه هو ما سمعه من الكبار، فمعنى قول سفيان: "ليس هذا من حديثه" أنه ليس من حديثه عمن سماه، وإنما سمعه من بعض من دونه فدلسه". الجرح والتعديل (1/ 70 - 71).

سفيان لشيء من حديثه أحفظ منه لحديث الأعمش". 1 وقال يحيى بن سعيد: "ما كتبت عن سفيان عن الأعمش أحب إلي مما كتبته عن الأعمش". 2 وعن أبي بكر بن أبي عتاب الأعين قال: "سمعت أحمد ابن حنبل، وقلت: من أحب الناس إليك في حديث الأعمش قال: سفيان، قلت: شعبة؟ قال: سفيان". 3 وعن أبي بكر بن أبي خيثمة قال: سمعت يحيى بن معين يقول: "لم يكن أحد أعلم بحديث الأعمش وأبي إسحاق السبيعي ومنصور بن المعتمر من سفيان الثوري". 4 وقال عبد الرزاق بن همام الصنعاني: سمعت الثوري يقول: "ما استودعت قلبي شيئاً فخانني قط". 5

_ 1الجرح والتعديل (1/ 63). 2السير (7/ 247). 3الجرح والتعديل (1/ 63). 4المصدر نفسه (ص: 64)، تاريخ بغداد (9/ 167). 5الجرح والتعديل (1/ 63)، السير (7/ 236).

وعن يحيى بن يمان وأبي هاشم الرفاعي قالا: قال الثوري: "ما استودعت أذني شيئاً قط إلا حفظته، حتى أني أمر بالحائك يغنِّي، فأسد أذني مخافة أن أحفظ ما يقول". 1 وعن علي بن المديني قال: سألت يحيى بن سعيد القطان: "أيما أحب إليك رأي مالك أو رأي سفيان؟ قال: سفيان لا نشك في هذا، ثم قال: وسفيان فوق مالك في كل شيء". 2 وذكر الخطيب البغدادي بإسناده إلى عبد المؤمن بن خلف النسفي أنه قال: سألت أبا علي صالح بن محمد عن سفيان الثوري ومالك فقال: "سفيان ليس يتقدمه عندي في الدنيا أحد، وهو أحفظ وأكثر حديثاً، ولكن كان مالك ينتقي الرجال، وسفيان يروي عن كل أحد". 3 وعن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: "ما رأت عيناي

_ 1الحلية (6/ 368). 2تاريخ بغداد (9/ 164)، السير (7/ 246). 3تاريخ بغداد (9/ 170 - 171)، السير (7/ 271).

أفضل من أربعة أو مثل أربعة: ما رأيت أحفظ للحديث من الثوري، ولا أشد تقشفاً من شعبة، ولا أعقل من مالك، ولا أنصح للأمة من ابن المبارك". 1 وقال أيوب السختياني: "ما لقيت كوفياً أفضله على سفيان". 2 وسئل الإمام أحمد: سفيان الثوري كان أحفظ أو ابن عيينة؟ فقال: "كان الثوري أحفظ وأقل الناس غلطاً، وأما ابن عيينة فكان حافظاً". 3 قال يونس بن عبيد: "ما رأيت أفضل من سفيان، فقيل له: فقد رأيت سعيد بن جبير، وإبراهيم، وعطاء، ومجاهد، وتقول هذا، قال: هو ما أقول، ما رأيت أفضل من سفيان". 4

_ 1السير (7/ 237). 2المصدر نفسه. 3تاريخ بغداد (9/ 170). 4سير أعلام النبلاء (7/ 237).

وقال أبو عبيدة الآجري (ت 360 هـ): سمعت أبا داود يقول: "ليس يختلف سفيان وشعبة في شيء إلا ظفر به سفيان، خالفه في أكثر من خمسين حديثاً القول فيها قول سفيان". 1 وعن يحيى بن معين قال: "ما خالف أحد سفيان في شيء إلا كان القول قول سفيان". 2

_ 1المصدر نفسه (7/ 240). 2المصدر نفسه.

ما ذكر من معرفة سفيان برواة الأخبار وناقلة الآثار وكلامه فيهم

ما ذكر من معرفة سفيان برواة الأخبار وناقلة الآثار وكلامه فيهم: 1 1 - روى أبو نعيم في "الحلية" بسنده عن يحيى بن سعيد القطان قال: "كان سفيان أبصر بالرجال من شعبة". 2 2 - قال عبد الله بن المبارك: قال سفيان: "حفاظ الناس ثلاثة: إسماعيل بن أبي خالد، وعبد الملك بن أبي سليمان العرزمي، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وحفاظ البصريين ثلاثة: سليمان التيمي، وعاصم الأحول، وداود ابن أبي هند، وكان عاصم أحفظهم". 3 3 - وعن عبد الرحمن بن مهدي قال: "كان سفيان يقدم سعيد بن جبير على إبراهيم النخعي". 4

_ 1هذه أمثلة ونماذج مختصرة مما ذكره ابن أبي حاتم في ترجمة سفيان في تقدمة الجرح والتعديل (69 - 83). 2الحلية (6/ 360). 3الجرح والتعديل (1/ 72). 4المصدر نفسه.

4 - قال ابن عيينة: قال سفيان الثوري: "رأيت منصوراً، وعبد الكريم الجزري، وأيوب السختياني، وعمرو بن دينار، هؤلاء الأعين الذين لا يشك فيهم". 1 5 - وقال عثمان بن زائدة: قلت لسفيان: إلى من أجلس بعدك؟ فأطرق ساعة ثم قال: ما أعرف أحداً، فقلت: الله الله، أو كما قلت، قال: "لا عليك أن تكتب الحديث من ثلاثة: من زائدة بن قدامة، وأبي بكر بن عياش، وسفيان بن عيينة". 2 6 - عن بشر بن المفضل قال: لقيت سفيان الثوري بمكة فقال: "ما خلفت بعدي بالكوفة آمن على الحديث من منصور بن المعتمر"3 7 - قال جرير: "كان سفيان إذا أصاب في الباب عن

_ 1المصدر نفسه (1/ 72 - 73). 2المصدر نفسه (1/ 74). 3المصدر نفسه.

منصور بدأ به قبل الناس". 1 8 - عن وكيع قال: سمعت سفيان يقول: "كان عمر ابن عبد العزيز من أئمة الهدى". 2 9 - وقال عبد الله بن المبارك: "سئل سفيان الثوري عن سفيان بن عيينة فقال: ذاك أحد الأحدين، وسئل عن عبد الملك بن أبي سليمان فقال: ذاك ميزان". 3 10 - وعن عثمان بن أبي زائدة قال: "قدمت الكوفة قدمة فقلت لسفيان الثوري: من ترى أن أسمع منه؟ قال: عليك بزائدة وسفيان بن عيينة، قلت: فأين أبو بكر بن عياش، فقال: إن أردت التفسير فعنده". 4 11 - قال عبد الله بن المبارك: قال سفيان الثوري: "حدثنا سلمة بن كهيل، وكان ركناً من الأركان - وشد

_ 1المصدر نفسه (1/ 73). 2الجرح والتعديل (1/ 83). 3المصدر نفسه (1/ 82). 4المصدر نفسه (1/ 81).

قبضته -". 1 12 - وقال علي بن الحسن بن شقيق: قال عبد الله بن المبارك: "سئل سفيان بن سعيد عن ثور بن يزيد الشامي، فقال: خذوا عنه واتقوا قرنيه، يعني إنه كان قدرياً". 2 13 - عن مهران بن أبي عمر العطار قال: "كنت مع سفيان الثوري في المسجد الحرام، فمر عبد الوهاب بن مجاهد، فقال سفيان: هذا كذاب". 3 14 - وعن مسدد بن مسرهد قال: قال لي يحيى بن سعيد: قال لي سفيان بن سعيد: "كان ابن أبي ليلى مؤدياً"، قال أبو محمد - ابن أبي حاتم - يعني أنه لم يكن بحافظ. 4 15 - قال أبو نعيم الفضل بن دكين (ت 218 هـ):

_ 1المصدر نفسه (1/ 80). 2المصدر نفسه (1/ 74). 3المصدر نفسه (1/ 76). 4المصدر نفسه (1/ 87).

سمعت سفيان الثوري يقول: "قدمت الري وعليها الزبير بن عدي قاضياً، فكتبت عنه خمسين حديثاً، ثم مررت بجرجان وبها جواب التيمي 1، فلم أكتب عنه، ثم كتبت عن رجل عنه"، قال الراوي عن أبي نعيم: ولِمَ لَمْ يكتب عنه قال: لأنه كان مرجئاً. 2 16 - عن علي بن المديني قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي قال: "روى شعبة عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله. وعن الأعمش عن إبراهيم عن مسروق عن عبد الله (في رجل طلق امرأته مائة) قال عبد الرحمن: فذكرته لسفيان فأنكره، وقال: إنما هو منصور والأعمش جميعاً عن إبراهيم عن علقمة - يعني عن عبد الله -". 3

_ 1بتثقيل الواو، وآخره موحدة، ابن عبيد الله التيمي الكوفي، صدوق رُمي بالإرجاء. التقريب (ص: 143). 2الجرح والتعديل (1/ 81). 3المصدر نفسه (1/ 71).

17 - قال علي بن المديني: سألت يحيى - ابن سعيد - عن حديث مهدي بن ميمون عن واصل عن أبي وائل قال: "أتينا عبد الله قبل طلوع الشمس فقال يحيى: قال سفيان: ليس هذا عن أبي وائل". 1 18 - وعن علي عن عبد الرحمن بن مهدي قال سفيان: "يحدثون عن حبيب بن أبي ثابت، عن عاصم بن ضمرة، عن عليٍّ فيمن صلى وهو على غير وضوء قال: يعيد ولا يعيدون. قال: ما سمعت حبيباً يحدِّث عن عاصم بن ضمرة حديثاً قط". 2 19 - وعن علي قال: سمعت يحيى يقول: "قلت لسفيان في أحاديث عبد الأعلى عن محمد بن الحنفية، فوهَّنها". 3

_ 1المصدر نفسه (1/ 77). 2المصدر نفسه (1/ 79). 3المصدر نفسه (1/ 81).

20 - وبهذا الإسناد أيضاً قال سفيان: "حديث الأعمش عن أبي صالح: الإمام ضامن، لا أراه سمعه من أبي صالح". 1 21 - وبه أيضاً قلت لسفيان: "حديث الأعمش قال: قال شقيق قال عبد الله: "إن هذا الصراط محتضر"، فأنكره، وقال: هذا حديث منصور". 2

_ 1المصدر نفسه (1/ 82). 2المصدر نفسه (1/ 82).

ما ذكر من عبادة سفيان وزهده وورعه

ما ذكر من عبادة سفيان وزهده وورعه: كانت عبادة وزهد وورع السلف رحمهم الله تعالى مبنية على ثلاثة أمور: الأول: الاقتداء التام بالرسول صلى الله عليه وسلم وعدم تجاوز ما جاء به من الهدى والعلم وما كان عليه من العمل، وهاديهم في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" 1، وقوله أيضاً: "من رغب عن سنتي فليس مني". 2 الثاني: علم صحيح ثابت عن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم الثالث: الفقه في الدين بالفهم السليم لنصوص الشرع وأحكامه. قال ابن القيم رحمه الله (ت 751 هـ) - في تفسير قول

_ 1رواه مسلم في كتاب الأضحية - باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، عن عائشة رضي الله عنها (ح 18). 2انظر: صحيح الإمام البخاري، كتاب النكاح - باب الترغيب في النكاح من حديث أنس بن مالك، الحديث الأول في الباب.

ابن شهاب الزهري: "ما عُبِدَ الله بمثل الفقه" -: "وهذا الكلام ونحوه يراد به أنه ما يُعْبَدُ الله بمثل أن يعبد بالفقه في الدين، فيكون نفس التفقه عبادة، وقد يراد به أنه ما عُبِدَ الله بعبادة أفضل من عبادة يصحبها الفقه في الدين لعلم الفقيه في دينه بمراتب العبادات ومفسداتها وواجباتها وسننها، وما يكملها وما ينقصها وكلا المعنيين صحيح". 1 وهذا أبو عبد الله سفيان الثوري مثال من أولئك السلف في عبادته، وزهده، وورعه، وهذا بعض ما جاء في سيرته في ذلك: أخرج ابن أبي حاتم بسنده إلى زائدة بن قدامة الثقفي (ت 160 هـ أو بعدها) قال: قال سفيان: "إني لأفرح بالليل إذا جاء". وفي رواية أخرى عنه قال: قال سفيان: "إذا جاء الليل فرحت، وإذا جاء النهار حزنت".

_ 1انظر: مفتاح دار السعادة (1/ 144).

وبسنده إلى أبي نعيم الفضل بن دكين (ت 218 هـ) قال: "كان سفيان إذا ذكر الموت مكث أياماً لا ينتفع به، فإذا سئل عن شيء قال: ما أدري ما أدري". وبسنده أيضاً إلى أبي أسامة حماد بن أسامة (ت 201هـ) قال: "كثيراً ما كنت أسمع سفيان يقول: اللهم سلم سلم، رب بارك لي في الموت وفيما بعد الموت". وأخرج أيضاً عن أبي الأحوص سلام بن سليم (ت 179 هـ) قال: سمعت سفيان الثوري يقول: "عليك بعمل الأبطال: الاكتساب من الحلال، والإنفاق على العيال". وعن أبي خالد الأحمر سليمان بن حيان (ت 190هـ أو قبلها) قال: "أكل سفيان ليلة فشبع فقال: إن الحمار إذا زيد في علفه زيد في عمله، فقام حتى أصبح". وعنه أيضاً قال: "صحبت سفيان في طريق مكة، فكان يقرأ في المصحف كل يوم، فإذا لم يقرأ فيه، فتحه فنظر فيه وأطبقه". 1

_ 1انظر هذه النصوص في: الجرح والتعديل (1/ 85 - 86).

وعن يوسف بن أسباط قال لي سفيان الثوري: "لأن أخلف عشرة آلاف درهم يحاسبني عليها أحب إلي من أن أحتاج إلى الناس". 1 وفي "الحلية" لأبي نعيم الأصبهاني (ت 430 هـ) عن عبد الرحمن بن مهدي قال: "كنا نكون عند سفيان الثوري فكأنه قد أوقف للحساب فلا نجترئ أن نكلمه، فنعرض بذكر الحديث، فيذهب ذلك الخشوع، فإنما هو حدثنا وحدثنا". وعن ابن عُلَيّة قال: قلت لسفيان: "إذا أخذت في الحديث نشطت وأنكرتك، وإذا كنت في غير الحديث كأنك ميت؟ قال سفيان: أما علمت أن الكلام فتنة". 2 وعن عبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت 211 هـ): "كان الثوري جعل على نفسه لكل ليلة جزءاً من القرآن وجزءاً من الحديث، قال: فيقرأ جزأه من القرآن، ثم يجلس

_ 1المصدر نفسه (1/ 89 - 90). 2الحلية (7/ 63).

على الفراش فيقرأ جزأه من الحديث، ثم ينام". 1 وعن أبي أحمد محمد بن عبد الله الزبيري (ت 203هـ): "كتب بعض الإخوان إلى سفيان: أن عظني وأوجز، فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، عافانا الله وإياك من السوء، اعلم يا أخي أن الدنيا غمها لا يفنى، وفكرها لا ينقضي، وفرحها لا يدوم، فلا توان فتعطب، والسلام عليكم". 2 وعن يوسف بن أسباط قال: "ما رأيت رجلاً قط أترك للدنيا من سفيان الثوري ومحمد بن النضر الحارثي". 3 وقال علي بن هشام القرشي: "جاء سفيان الثوري إلى صيرفي بمكة يشتري دراهم بدينار، فأعطاه الدينار وكان معه آخر فسقط من سفيان، فطلبه فإذا إلى جانبه دينار آخر، فقال له الصيرفي: خذ دينارك، قال: ما أعرفه، قال: خذ

_ 1الجرح والتعديل (1/ 116). 2المصدر نفسه (1/ 104). 3المصدر نفسه (1/ 105).

الناقص، قال: فلعله الزائد، قال: فتركه ومضى". 1 وعن إسحاق بن إبراهيم الحنيني قال: "كنا في مجلس سفيان الثوري وهو يسأل رجلاً رجلاً عما يصنع في ليله فنخبره، حتى دار القوم، فقالوا: يا أبا عبد الله قد سألتنا فأخبرناك، فأخبرنا أنت كيف تصنع في ليلك فقال: لها عندي أول نومة تنام ما شاءت لا أمنعها، فإذا استيقظت فلا أقيلها والله". 2 وعن زيد بن الحباب (ت 203 هـ) قال: "نفدت نفقة سفيان بمكة فقدم عليه رجل من قومه، فقال لسفيان: لك معي عشرة دراهم، قال: من أين؟ قال: من غزل فلانة، قال: ائتني بهم، فإني منذ ثلاث استف الرمل". 3 في "الحلية" لأبي نعيم: قال أبو شهاب الحناط عبد ربه ابن نافع (ت 171 هـ): "جلست إلى سفيان الثوري، وهو

_ 1الحلية (7/ 53). 2المصدر نفسه (7/ 60). 3المصدر نفسه (7/ 63).

في دير الكعبة مستلق فسلمت عليه، فلم يرد علي كما ينبغي، فقلت: إن اختك قد بعثت إليك معي بشيء فاستوى، فقلت له: يا أبا عبد الله سلمت عليك فلم ترد علي كما كنت أريد، فلما قلت لك بعثت أختك معي بشيء استويت، قال: تكتم علي: لم آكل منذ ثلاث، فلما قلتَ: بعثت إليك أختك علمت من ذا - وأشار بيده - أي بغزلها". 1 وفي "الجرح والتعديل" عن حسين بن روح قال: "أتى سفيان الثوري رجل فقال: إني مررت بفلان فأعطاني صرة فيها ألف دينار أعطيك إياها، قال له سفيان: فمررت بأختي فأعطتك شيئاً من دقيق؟ قال: نعم، قال: فأتني بصرة الدقيق، ورد صرة الدنانير، قال: فكان يختبز منها أقراصاً ويأكل". 2 وعن أبي محمد قال سفيان الثوري: "الزهد في الدنيا هو

_ 1 (7/ 67)، وانظر: السير (7/ 245). 2الجرح والتعديل (1/ 101).

الزهد في الناس، وأول الزهد في الناس زهدك في نفسك". 1 وقال يوسف بن أسباط: "كان سفيان إذا أخذ في ذكر الآخرة يبول الدم". 2 وقال وكيع: سمعت سفيان يقول: "ليس الزهد بأكل الغليظ ولبس الخشن، ولكنه قصر الأمل وارتقاب الموت". 3 وعن يحيى بن يمان عن سفيان قال: "إني لأرى الشيء يجب علي أن أتكلم فيه، فلا أفعل فأبول الدم كمداً". 4 وقال شجاع بن الوليد: "كنت أحج مع سفيان، فما يكاد لسانه يفتر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهباً وراجعاً". 5 وعن عبد الرحمن بن مصعب قال: "برز سفيان على

_ 1الحلية (7/ 69)، السير (7/ 268). 2السير (7/ 242). 3المصدر نفسه (7/ 243). 4المصدر نفسه (7/ 259). 5المصدر نفسه (7/ 259).

الناس، لأنه كان صحيح الأديم بعيداً من الأهواء عابداً يقول الحق ويريده إن شاء الله". 1 وقال يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية: "ما رأيت أحداً أصفق وجهاً في ذات الله من سفيان". 2 وعن أبي أسامة حماد بن أسامة قال: "اشتكى سفيان ابن سعيد فذهبت بمائه في قارورة، فأريته الديراني، فنظر إليه فقال: بول من هذا؟ ينبغي أن يكون هذا بول راهب، هذا رجل قد فتت الحزن كبده، ما لهذا دواء". 3 قال عبد الرحمن بن عمر رسته (ت 250 هـ): سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: "بات سفيان عندي فجعل يبكي فقيل له، فقال: لذنوبي عندي أهون من ذا - ورفع شيئاً من الأرض - إني أخاف أن أسلب الإيمان قبل أن

_ 1الجرح والتعديل (1/ 95). 2سير أعلام النبلاء (7/ 278). 3تاريخ بغداد (9/ 158)، السير (7/ 270).

أموت". 1 وقال عطاء بن الخفاف: "ما لقيت الثوري إلا باكياً، فقلت: ما شأنك؟ قال: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقياً". 2 وفي "الحلية" و "تاريخ بغداد" عن عبد الرحمن بن مهدي قال: "ما عاشرت في الناس رجلاً هو أرق من سفيان وكنت أرمقه في الليلة بعد الليلة، ينهض مذعوراً ينادي: النار النار، شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات، وقال أيضاً: وما كنت أقدر أن أنظر إليه استحياءً وهيبة منه". 3 وعن يوسف بن أسباط قال: "قال لي سفيان الثوري - وقد صلينا العشاء الآخرة -: ناولني المطهرة، فناولته فأخذها بيمينه ووضع يساره على خده، ونمت، فاستيقظت وقد طلع الفجر، فنظرت فإذا المطهرة بيمينه كما هي، فقلت:

_ 1السير (7/ 258). 2الحلية (7/ 51). 3الحلية (7/ 60)، تاريخ بغداد (9/ 157).

هذا الفجر قد طلع، فقال: لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكر في الآخرة حتى الساعة". 1 وعن مؤمل بن إسماعيل (ت 206 هـ) قال: "أقام سفيان بمكة سنة، فما فتر من العبادة سوى من بعد العصر إلى المغرب، كان يجلس مع أصحاب الحديث، وذلك عبادة". 2 في "الحلية" عن يحيى بن سعيد القطان: "ما رأيت رجلاً أفضل من سفيان، كان يصلي ما بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء صلاة، فإذا سمع مذاكرة الحديث ترك الصلاة وجاء". 3 وعن عبد الرحمن بن مصعب المعني قال: "كان سفيان الثوري إذا أصبح مد رجليه إلى الحائط ورأسه إلى الأرض كي يرجع الدم إلى مكانه من قيام الليل". 4

_ 1تاريخ بغداد (9/ 157). 2سير أعلام النبلاء (7/ 277). 3 (7/ 63). 4الجرح والتعديل (1/ 95).

وقال ابن مهدي: "كنت لا أستطيع سماع قراءة سفيان الثوري من كثرة بكائه". 1 وقال مؤمل أيضاً: "ما رأيت عالماً يعمل بعلمه إلا سفيان". 2 وفي "سير أعلام النبلاء" عن عبد الرحمن بن مهدي قال: سمعت سفيان يقول: "ما بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط إلا عملت به ولو مرة". 3 وفي "التاريخ الكبير" للبخاري عن عبدان قال: قال ابن المبارك: "كنت إذا شئت رأيت سفيان مصلياً، وإذا شئت رأيته محدثاً، وإذا شئت رأيته في غامض الفقه". 4 وعن الفريابي وقبيصة قالا: سمعنا سفيان يقول: "

_ 1الحلية (7/ 60)، السير (7/ 277). 2الحلية (6/ 359). 3 (7/ 242). 4 (4/ 92).

وددت أني نجوت من هذا العلم كفافاً لا لي ولا علي". 1 وعن عبد الرحمن بن مصعب المعني قال الثوري: "من ازداد علماً ازداد وجعاً، لو لم أعلم لكان أقل لحزني". 2 وفي "السير" للذهبي: قال سفيان: "وددت أني قرأت القرآن ووقفت عنده ولم أتجاوز إلى غيره"، وقال أيضاً: "وددت أن علمي نسخ من صدري، فنوقش في ذلك فقال: ألست أريد أن أسأل غداً عن كل حديث رويته: إيش أردت به". 3 وقال القطان: "كان الثوري قد غلبت عليه شهوة الحديث، ما أخاف عليه إلا من حبه للحديث". قال الذهبي رحمه الله معلقاً على هذا: "حب ذات الحديث والعمل به مطلوب من زاد المعاد، وحب روايته

_ 1الحلية (6/ 363)، وجامع بيان العلم وفضله (رقم: 1957 - 1958). 2الحلية (6/ 363). 3السير (7/ 255).

وعواليه والتكثر بمعرفته وفهمه مذموم مخوف، فهو الذي خاف سفيان والقطان وأهل المراقبة، فإن كثيراً من ذلك وبال على المحدث". 1 وقال رحمه الله في "التذكرة" تعليقاً أيضاً على قول سفيان: "ليس طلب الحديث من عدة الموت لكنه علة يتشاغل بها الرجل". قلت: "صدق والله، إن طلب الحديث شيء غير الحديث، فطلب الحديث اسم عرفي لأمور زائدة على تحصيل ماهية الحديث وكثير منها مراقٍ إلى العلم وأكثرها أمور يشغف بها المحدث من تحصيل النسخ المليحة وتطلب العالي وتكثير الشيوخ والفرح بالألقاب والثناء وتمني العمر الطويل ليروي وحب التفرد إلى أمور عديدة لازمة للأغراض النفسانية لا الأعمال الربانية، فإذا كان طلبك الحديث النبوي محفوفاً بهذه الآفات فمتى خلاصك منها إلى

_ 1المصدر نفسه (7/ 256).

الإخلاص، وإذا كان علم الآثار مدخولاً فما ظنك بعلم المنطق والجدل وحكمة الأوائل التي تسلب الإيمان وتورث الشك والحيرة التي لم تكن والله من علم الصحابة ولا التابعين، ولا من علم الأوزاعي والثوري ومالك وأبي حنيفة وابن أبي ذئب وشعبة، ولا والله عرفها ابن المبارك وأبو يوسف القائل: من طلب الدين بالكلام تزندق، ولا وكيع ولا ابن مهدي الخ وأمثالهم، بل كانت علومهم القرآن والحديث والفقه والنحو وشبه ذلك". 1 اهـ مختصراً. وفي "سير أعلام النبلاء" قال علي بن ثابت الجزري: سمعت سفيان يقول: "طلبت العلم فلم يكن لي نية، ثم رزقني الله النية". 2 وأخرج ابن عبد البر بإسناده إلى وكيع قال: قال سفيان:

_ 1تذكرة الحفاظ (1/ 204 - 205). 2سير أعلام النبلاء (7/ 272).

"لا أعلم من العبادة شيئاً أفضل من أن تعلم الناس العلم". 1 وأخرج أيضاً بإسناده إلى بشر بن الحارث - الحافي - (ت 227 هـ): "إنما يراد من العلم العمل، اسمع وتعلم، واعلم وعلّم واهرب، ألم تر إلى سفيان الثوري كيف طلب العلم فعلم وعلّم وعمل وهرب، وهكذا العلم إنما يدل على الهرب عن الدنيا ليس على طلبها". 2 وفي "الحلية" عن محمد بن يحيى الخنيسي قال: "سمعت رجلاً قال لسفيان: لو أنك نشرت ما عندك من العلم رجوت أن ينفع الله به بعض عباده وتوجر على ذلك فقال سفيان: والله لو أعلم بالذي يطلب هذا العلم لا يريد به إلا ما عند الله لكنت أنا الذي آتيه في منزله فأحدثه بما عندي مما أرجو أن ينفعه الله به". 3

_ 1جامع بيان العلم وفضله (برقم 120، 227). 2المصدر نفسه (برقم 1250). 3الحلية (6/ 369).

وعن محمد بن أبي عتاب الأعين قال: سمعت محمد بن يوسف الفريابي يقول: "كان سفيان الثوري إذا رأى هؤلاء النبط يكتبون العلم يتغير وجهه، فقلت له: يا أبا عبد الله: نراك إذا رأيت هؤلاء يكتبون العلم يشتد عليك فقال: كان العلم في العرب وفي سادة الناس، فإذا خرج عنهم صار إلى هؤلاء - يعني النبط والسفلة - غُيِّر الدين". 1 وفي "الحلية" عن خلف بن تميم قال: سمعت سفيان الثوري بمكة - وقد كثر الناس عليه - فسمعته يقول: "ضاعت الأمة حين احتيج إلي". 2 وعن أبي قدامة السرخسي سمعت أحمد بن حنبل يقول: "كان سفيان الثوري إذا قيل له: إنه رؤي في المنام يقول: أنا أعرف بنفسي من أصحاب المنامات". 3 عن يحيى بن أبي بكير قال: قيل لسفيان الثوري: إلى

_ 1جامع بيان العلم (برقم 1072)، وانظر: الحلية (6/ 369). 2السير (7/ 275). 3المصدر نفسه (7/ 252).

متى تطلب الحديث؟ قال: "وأي خير أنا فيه خير من الحديث فأصير إليه إن الحديث خير علوم الدنيا". 1 أخرج أبو نعيم بإسناده إلى الحسين بن الحسن الحناط قال: سمعت فرقداً إمام مسجد البصرة يقول: "دخلوا على سفيان الثوري في مرضه الذي مات فيه، فحدثه رجل بحديث فأعجبه وضرب يده إلى تحت فراشه، فأخرج ألواحاً له فكتب ذلك الحديث، فقالوا له: على هذه الحال منك؟ فقال: إنه حسن إن بقيت فقد سمعت حسناً، وإن مت فقد كتبت حسناً". وفيه أيضاً عن يوسف بن أسباط قال: سمعت سفيان الثوري يقول: "الرجل إلى العلم أحوج منه إلى الخبز واللحم". وفيه أيضاً قال أبو عبد الرحمن الحارثي: "دفن سفيان ابن سعيد كتبه وكنت أعينه عليها، فدفن منها كذا وكذا

_ 1سير أعلام النبلاء (7/ 243).

قمطرة إلى صدري، فقلت: يا أبا عبد الله وفي الركاز الخمس، فقال لي: خذ ما شئت فعزلت منها شيئاً كان يحدثني به منه". وفي "السير" عن وكيع قال: "أوصى سفيان إلى عمارة بن سيف في كتبه فأحرقها". 1 وفي "الحلية" أيضاً عن الأصمعي قال: "أما سفيان الثوري فأوصى أن تدفن كتبه وكان ندم على أشياء كتبها عن قوم، قال: حملني عليه شهوة الحديث". 2

_ 1 (7/ 242). 2انظر هذه النصوص في: الحلية (7/ 64 - 65)، وقد ذكر الخطيب البغدادي تعليلاً آخر لإتلاف الكتب بالدفن أو الإحراق فقال في تقييد العلم (ص: 61): "وكان غير واحد من المتقدمين، إذا حضرته الوفاة أتلف كتبه أو أوصى بإتلافها، خوفاً من أن تصير إلى من ليس من أهل العلم، فلا يعرف إحكامها، ويحمل جميع ما فيها على ظاهره، وربما زاد فيها ونقص، فيكون ذلك منسوباً إلى كاتبها في الأصل، وهذا كله وما أشبهه قد نقل عن المتقدمين الاحتراس منه". اهـ ثم ساق بأسانيده جملة من الأخبار عن بعض السلف الذين فعلوا ذلك، ومنهم: عَبيدة السماني، وأبو قلابة، وشعبة وغيرهم.

هذه جملة مما ذُكِرَ من عبادة سفيان وفقهه في العبادة وورعه في العلم والعمل. وأما عن زهده في الدنيا وحطامها الفاني وورعه وفقهه في ذلك، فهذه طائفة مما ورد في سيرته: أخرج ابن أبي حاتم بسنده إلى قبيصة بن عقبة (ت 215 هـ) قال: "رأيت على الثوري كساء ما يساوي درهماً، ورأيت عليه نعلين مخصوفتين قومتهما ديناراً". 1 وأخرج أبو نعيم في "الحلية" 2 عن علي بن ثابت قال: "رأيت سفيان الثوري في طريق مكة، فقومت كل شيء عليه حتى نعليه: درهم وأربع دوانق، وما رأيت الثوري في صدر مجلس قط، إنما كان يقعد إلى جنب حائط ويجمع بين ركبتيه". وفيه أيضاً عن بشر بن الحارث قال: قيل لسفيان الثوري: "أيكون الرجل زاهداً ويكون له مال؟ قال: نعم

_ 1الجرح والتعديل (1/ 100). 2 (6/ 378).

إن كان إذا ابتلي صبر وإذا أعطي شكر". 1 وعن داود بن الجراح قال: سمعت سفيان يقول: "كان المال فيما مضى يكره، فأما اليوم فهو ترس المؤمن". 2 وقال عبد الله بن محمد الباهلي: جاء رجل إلى الثوري فقال: "يا أبا عبد الله تمسك هذه الدنانير فقال: اسكت لولا هذه الدنانير لتمندل بنا هؤلاء الملوك، ثم قال: من كان في يده من هذه شيء فليصلحه، فإنه في زمان من احتاج كان أول ما يبذل دينه". 3 وعن يوسف بن أسباط قال: قال لي الثوري: "لأن أخلف عشرة آلاف درهم يحاسبني الله عليها أحب إلي من أن أحتاج إلى الناس". 4

_ 1 (6/ 387 - 388). 2الحلية (6/ 381)، السير (7/ 246). 3الحلية (6/ 381)، السير (7/ 241). 4الجرح والتعديل (1/ 90)، الحلية (6/ 381)، جامع بيان العلم (برقم 1321).

قال محمد بن عبيد: "كان سفيان الثوري إذا أبطأت عليه بضاعته نقض جذوع بيته فباعها، فإذا رجعت بضاعته أعادها". 1 وقال يحيى بن يمان: "ما رأيت مثل سفيان، ولا أبصر سفيان مثل نفسه، أقبلت الدنيا عليه فصرف وجهه عنها". 2 عن محمد بن يوسف الفريابي (ت 212 هـ): سمعت سفيان يقول: "لنعمة الله علي فيما زوى عني من الدنيا أفضل من نعمته فيما أعطاني". 3 وعن حفص بن غياث (ت 194 هـ) قال: "كنا نتعزى بمجلس سفيان الثوري عن الدنيا". وعن سفيان بن وكيع عن أبيه قال: "مات سفيان وله مائة دينار بضاعة". 4

_ 1الجرح والتعديل (1/ 99). 2الحلية (7/ 3). 3الحلية (7/ 82). 4الحلية (7/ 82)، السير (7/ 242).

وفي "الحلية" لأبي نعيم عن محمد بن مزاحم قال: "كان جعل سفيان على نفسه ثلاثة أشياء: أن لا يخدمه أحد، وأن لا تطوى له ثوب، وأن لا يضع لبنة على لبنة". 1 وفيه أيضاً عن عبد الله بن داود الخريبي (ت 213 هـ) قال: قال سفيان: "ما أنفقت قط درهماً في بناء". 2 وفي "الجرح والتعديل" قال عبد الرحمن بن مصعب: "كان سفيان الثوري يكره الطيلسان الطرازي والثوب المروي، وقال: إنهما من ثياب المترفين". 3 وعن أحمد بن عبد الله بن يونس: سمعت سفيان الثوري ما لا أحصي يقول: "اللهم سلم سلم، اللهم سلمنا منها إلى خير، اللهم ارزقنا العافية في الدنيا والآخرة". 4 وعن متٍّ البلخي قال: "أهديت لسفيان الثوري ثوباً

_ 1الحلية (6/ 390). 2المصدر نفسه (6/ 392). 3 (1/ 95). 4الحلية (6/ 392).

فرده علي، قلت له: يا أبا عبد الله لست أنا ممن يسمع الحديث حتى ترده علي، قال: علمت أنك ليس ممن يسمع الحديث، ولكن أخوك يسمع مني الحديث، فأخاف أن يلين قلبي لأخيك مما يلين لغيره". 1 وعن يحيى بن سليم الطائفي قال: "بعث محمد بن إبراهيم الهاشمي - كان والياً على مكة - إلى سفيان الثوري بمائتي دينار فأبى أن يقبلها، فقلت: يا أبا عبد الله كأنك لا تراها حلالاً، قال: بلى، ما كان آبائي وأجدادي إلا في العطية، ولكن أكره أن أذل لهم"2 وذكر الخطيب بسنده إلى يحيى بن أيوب عن مبارك بن سعيد - أخو سفيان - قال: "جاء رجل إلى سفيان ببدرة أو ببدرتين - شك أبو زكريا -، وكان أبو ذلك الرجل صديقاً لسفيان جداً، وكان سفيان يأتيه فيقيل عنده، ويأتيه

_ 1المصدر نفسه (7/ 3). 2المصدر نفسه (7/ 40).

كثيراً، قال: فقال: يا أبا عبد الله في نفسك من أبي شيء؟ فأثنى عليه، وقال: رحم الله أباك وذكر من فضله، فقال له: يا أبا عبد الله قد عرفت كيف صار إلي هذا المال، وأنا أحب أن تقبل هذا الذي جئتك به تستعين به على عيالك، قال: فقبله منه، فخرج الرجل، فلما خرج أو كاد أن يخرج قال لي: يا مبارك الحق فرده، قال: فلحقته فرددته، فقال: يا ابن أخي أحب أن تقبل هذا المال، فإني قد قبلته منك، ولكن أحب أن تأخذه فترجع به، فقال: يا أبا عبد الله في نفسك منه شيء قال: لا، ولكن أحب أن تقبله، فلم يزل به حتى أخذه، فلما خرج وقد داخلني ما لا أملك، فقعدت بين يديه فقلت: ويحك يا أخي إيش قلبك هذا حجارة أنت ليس لك عيال، أما ترحمني، أما ترحم إخوانك أما ترحم صبياننا، قال: فأكثرت عليه من هذا النحو فقال: يا مبارك تأكلها أنت هنيئاً مريئاً وأسأل أنا عنها لا يكون هذا

أبداً". 1 وفي "طبقات ابن سعد" قال: "وكانوا يرون أن سفيان أخذ مرة من بعض الولاة مالاً وصلة، ثم ترك ذلك فلم يقبل من أحد شيئاً، وكان يأتي اليمن فيتجر، وكان يفرق ما عنده على قوم من إخوانه يبضعون له به ويوافي الموسم كل عام فيلقاهم ويحاسبهم ويأخذ ما ربحوا". 2 وفي"السير" للذهبي: "قيل: إن سفيان سار إلى اليمن بأربعة آلاف مضاربة، فأنفق الربح". 3 وعن يحيى بن يمان قال لي سفيان: "إن اقتصرت على خبزك وبقلك، لم يستعبدك هؤلاء". 4

_ 1تاريخ بغداد (9/ 161). 2الطبقات الكبرى (6/ 372). 3سير أعلام النبلاء (7/ 277). 4الحلية (6/ 378).

ما ذكر من إمامة الثوري في السنة والحديث

ما ذكر من إمامة الثوري في السنة والحديث: أخرج ابن أبي حاتم بسنده إلى عبد الرحمن بن مهدي قال: "الناس على وجوه: فمنهم من هو إمام في السنة، إمام في الحديث، ومنهم من هو إمام في السنة وليس بإمام في الحديث، ومنهم من هو إمام في الحديث ليس بإمام في السنة، فأما من هو إمام في السنة وإمام في الحديث فسفيان الثوري". 1 وعنه أيضاً قال: "أئمة الناس في زمانهم أربعة: سفيان الثوري بالكوفة، ومالك بن أنس بالحجاز، وأبو عمرو الأوزاعي بالشام، وحماد بن زيد بالبصرة". 2 وأخرج أبو نعيم بسنده إلى عبد الرزاق قال: سمعت ابن عيينة يقول: "أئمة الناس ثلاثة - بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، والثوري في

_ 1الجرح والتعديل (1/ 118). 2المصدر نفسه.

زمانه". 1 وقال أبو القاسم اللالكائي (ت 418 هـ): "باب سياق ذكر من رسم بالإمامة في السنة والدعوة والهداية إلى طريق الاستقامة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام الأئمة" ثم ذكر طوائف من الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى قريب عصره، وذكر منهم الإمام سفيان بن سعيد الثوري. 2 ثم ذكر بإسناده عن ابن المبارك قال: قال سفيان الثوري: "استوصوا بأهل السنة خيراً فإنهم غرباء". وبسنده إلى يوسف بن أسباط قال: سمعت الثوري يقول: "إذا بلغك عن رجل بالمشرق صاحب سنة وآخر بالمغرب فابعث إليهما بالسلام وادع لهما، ما أقل أهل السنة والجماعة". 3 وعن أبي بكر المروزي عن أحمد بن حنبل قال: "أتدري

_ 1الحلية (6/ 356)، تاريخ بغداد (9/ 154). 2شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 29 - 41). 3شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 64).

من الإمام؟ الإمام سفيان الثوري لا يتقدمه أحد في قلبي". 1 وعن أحمد بن عمران قال: سمعت يحيى بن يمان يقول: "ما رأينا مثل سفيان ولا رأى سفيان مثل نفسه، كان سفيان في الحديث أمير المؤمنين". 2 قال أبو داود سليمان بن داود الطيالسي (ت 204 هـ): "قدمت المسجد الحرام فرأيت حلقة نحواً من خمسمائة - أقل أو أكثر - ورجل وسطها نائم، قلت: من هذا قالوا: هذا أمير المؤمنين، هذا سفيان الثوري". 3 وأخرج الخطيب بإسناده إلى شعبة وابن عيينة قالا: "سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث". 4 وبسنده إلى يحيى بن معين قال: "سفيان الثوري أمير

_ 1سير أعلام النبلاء (7/ 240). 2الجرح والتعديل (1/ 59). 3تاريخ بغداد (9/ 158). 4المصدر نفسه (9/ 164)، وانظر: الحلية (6/ 356).

المؤمنين في الحديث". 1 وفي "سير أعلام النبلاء": قال شعبة وابن عيينة وأبو عاصم - النبيل - وابن معين وغيرهم: "سفيان أمير المؤمنين في الحديث". 2 وأخرج أبو نعيم بسنده عن بشر بن الحارث قال: "كان سفيان الثوري عندي إمام الناس". 3 وعن أبي أسامة حماد بن أسامة قال: "كان زائدة يرى الثوري سيد الناس". 4 وقال أبو قطن عن شعبة أنه قال: "ساد سفيان الناس بالورع والعلم". 5 وقال أحمد بن حنبل: "قال لي ابن عيينة: لن ترى

_ 1المصدر نفسه (9/ 165)، الجرح والتعديل (1/ 119). 2السير (7/ 236). 3الحلية (6/ 357)، سير أعلام النبلاء (7/ 239). 4الجرح والتعديل (1/ 118). 5السير (7/ 238).

بعينيك مثل سفيان الثوري حتى تموت، قال أحمد: وهو كما قال". 1 وأخرج أبو نعيم إلى عبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت 211 هـ) قال: سمعت أبا عمرو الأوزاعي يقول: "لو قيل لي اختر رجلاً يقوم بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لاخترت لهما الثوري". 2 وبسنده إلى أبي أسامة قال: "الثوري حجة". 3 وعن الهيثم بن جميل قال: سمعت شريكاً يقول: "إن الله تعالى لا يدع الأرض من حجة تكون لله على عباده، ونرى أن سفيان منهم". 4 وقال شعيب بن حرب: "إني لأحسب أنه يجاء غداً

_ 1الجرح والتعديل (1/ 58). 2الحلية (6/ 358). 3المصدر نفسه (6/ 359 - 392). 4المصدر نفسه (6/ 360).

بسفيان حجة من الله على خلقه". 1 وقال عثمان بن أبي زائدة: "ما رأيت مثل سفيان قط، بسفيان أقتدي وعليه أبكي". 2 وعن عبد الرحمن بن مهدي قال: "برز سفيان الثوري على الناس لأنه كان صحيح الأديم بعيداً عن الأهواء عابداً يقول الحق ويريده إن شاء الله". 3 وأخرج ابن أبي حاتم عن مطرف بن مازن قال: قال لنا معمر - لما بلغه أن سفيان قادم عليهم اليمن -: "إنه قدم عليكم محدث العرب". وفيه أيضاً عن محمد بن المعتمر بن سليمان قال: قلت لأبي: "من فقيه العرب؟ قال: سفيان الثوري". 4 قال الحافظ الذهبي (ت 748 هـ): "قد كان سفيان

_ 1تاريخ بغداد (9/ 158)، السير (7/ 239). 2الحلية (6/ 361). 3الجرح والتعديل (1/ 95). 4المصدر نفسه (1/ 57).

رأساً في الزهد والتأله والخوف، رأساً في الحفظ، رأساً في معرفة الآثار، رأساً في الفقه، لا يخاف في الله لومة لائم، من أئمة الدين". 1

_ 1السير (7/ 241 - 242).

ما ذكر من تعظيم العلماء لسفيان الثوري ونزولهم عند قوله وفتواه

ما ذكر من تعظيم العلماء لسفيان الثوري ونزولهم عند قوله وفتواه: أخرج ابن أبي حاتم عن أبي زنبور عمرو بن أبي زنبور قال: "رأيت سفيان الثوري بالري والزبير بن عدي على القضاء، والزبير يستفتي الثوري في قضايا ترد عليه ويفتيه الثوري ويقضي به". 1 وعن أبي بكر بن عياش: "إني لأرى الرجل يصحب سفيان فيعظم في عيني"، وفي رواية: "فينبل في عيني". 2 وقال ابن إدريس: "ما رأيت بالكوفة رجلاً أتبع للسنة ولا أحداً أودُّ أني في مسلاخه - هديه وسمته - من سفيان الثوري". 3 وعن حفص بن غياث قال: "ما أدركنا مثل سفيان، ولا أنفع من مجالسته". 4

_ 1الجرح والتعديل (1/ 83). 2الجرح والتعديل (1/ 84)، سير أعلام النبلاء (7/ 238). 3الحلية (7/ 6)، السير (7/ 253). 4السير (7/ 238).

وقال أبو عبيد الآجري: سمعت أبا داود (ت 275 هـ) يقول: "لا يختلف سفيان وشعبة في شيء إلا ظفر به سفيان، خالفه في أكثر من خمسين حديثاً القول فيه قول سفيان". 1 وعن يحيى بن معين قال: "ما خالف أحد سفيان في شيء إلا كان القول قول سفيان". 2 وعن عباس بن الوليد بن مزيد عن أبيه عن الأوزاعي أنه كتب إلى عبد الله بن يزيد: "بلغني كتابك، تذكر دروس العلم وذهاب العلماء، وإن كنت لم تعرف ذهاب العلماء إلا في عامك هذا فقد أغفلت النظر، فإنه قد أسرع بهم منذ حين وذهب بقاياهم منذ أعوام، فلم يبق منهم رجل واحد يجتمع عليه العامة بالرضا والصحة إلا ما كان من رجل واحد بالكوفة"، قال عباس: يعني الثوري. 3 عن يحيى بن يمان ويحيى بن الضريس قال سفيان:

_ 1المصدر نفسه (7/ 240). 2المصدر نفسه. 3الجرح والتعديل (1/ 55).

"أتاني عاصم بن بهدلة (ت 128 هـ) في حاجة فقلت له: ألا تبعث إلي فآتيك قال: في بيته يؤتى الحكم". 1 وعن المبارك بن سعيد قال: "رأيت عاصم بن أبي بهدلة يجيء إلى سفيان يستفتيه ويقول: يا سفيان أتيتنا صغيراً وأتيناك كبيراً". 2 قال علي بن المديني: سألت يحيى بن سعيد القطان: "أيما أحب إليك رأي مالك أو رأي سفيان؟ قال: سفيان، لا نشك في هذا، ثم قال: سفيان فوق مالك في كل شيء". 3 وعنه أيضاً قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: "ما سمعت من سفيان عن الأعمش أحب إلي مما سمعت أنا من الأعمش؛ لأن الأعمش كان يمكن سفيان ما لا يمكنني". 4

_ 1الجرح والتعديل (1/ 83 - 84). 2الجرح والتعديل (1/ 84)، الحلية (6/ 357)، السير (7/ 249). 3الجرح والتعديل (1/ 57)، تاريخ بغداد (9/ 164). 4الجرح والتعديل (1/ 84).

وقال عبد الله المبارك: "كنت إذا أعياني الشيء أتيت سفيان أسأله فكأنما أغتمسه من بحر". 1 وقال يونس بن عبيد: "ما رأيت أفضل من سفيان، فقيل له: فقد رأيت سعيد بن جبير، وإبراهيم، وعطاء، ومجاهد، وتقول هذا قال: هو ما أقول، ما رأيت أفضل من سفيان". 2

_ 1المصدر نفسه (1/ 57). 2سير أعلام النبلاء (7/ 237).

اعتقاد أبي عبد الله سفيان بن سعيد الثوري

اعتقاد أبي عبد الله سفيان بن سعيد الثوري: دأب السلف رحمهم الله بعد ظهور الفرق وانتشار الأهواء وكثرة البدع على كتابة معتقدهم في قضايا العقيدة، لا سيما تلك التي خاض فيها أصحاب الأهواء بآرائهم وعقولهم القاصرة والمتناقضة، كالأسماء والصفات، والقدر، والإيمان، والسمع والطاعة لولاة الأمر، ومعارضة نصوص الشرع بالآراء والعقل والقياس، وغير ذلك. والمتتبع لتراجم أئمة السلف وسيرهم منذ القرن الثاني وما بعده، يجد ما يلي: 1 - أن أكثرهم قد كتب معتقده، وأوضحه ثم نشره في الأمة 2 - أنهم متفقون على وجوب أخذ الدين كله من الكتاب والسنة. 3 - أنهم أخذوا دينهم وعقائدهم خلفاً عن سلف وقرناً عن قرن إلى أن انتهوا إلى التابعين، وأخذه التابعون عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأخذه

أصحاب رسول الله صلى الله وسلم عليه وعلى آله عن رسول الله صلى الله وسلم عليه وعلى آله. 4 - أنهم لما طلبوا الدين من الكتاب والسنة لم يطلبوه لتأييد ما هم عليه، وما رأوه بآرائهم وعقولهم بل طلبوه لتصحيح ما هم عليه، فيعرضون ما وقع لهم وخواطرهم على الكتاب والسنة فإن وجدوه موافقاً لما في الكتاب والسنة قبلوه وشكروا الله عز وجل حيث أراهم ذلك ووقفهم عليه، وإن وجدوه مخالفاً لهما تركوا ما وقع لهم وأقبلوا على الكتاب والسنة، ورجعوا بالتهمة على أنفسهم، فإن الكتاب والسنة لا يهديان إلا إلى الحق. 5 - لما كان الكتاب والسنة عند السلف هما مصدر تلقي الدين ومنهج التلقي عندهم للعمل والتصحيح صاروا على تباعد ديارهم وبلدانهم واختلاف أزمانهم وأعصارهم وكثرة مصنفاتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة ونمط واحد يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها ولا يميلون فيها قولهم في ذلك واحد وفعلهم واحد لا ترى بينهم اختلافاً ولا

تفرقاً في شيء ما وإن قل. 1 فهذا عبد الله بن فيروز الديلمي - أحد كبار التابعين - يقول: "أتيت أبي بن كعب فقلت: أبا المنذر إنه وقع في قلبي شيء من هذا القدر، فحدثني بشيء لعل الله أن يذهبه عني، فقال: إن الله عز وجل لو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، لو كان لك مثل جبل أحد ذهباً أنفقته في سبيل الله، ما قبل الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وإنك إن مت على غير هذا دخلت النار، ولا عليك أن تأتي عبد الله بن مسعود فتسأله، فأتيت ابن مسعود فسألته، فقال

_ 1 انظر: الحجة في بيان المحجة لأبي القاسم إسماعيل بن محمد التيمي (2/ 223 - 226)، وفصول من كتاب الانتصار لأهل الحديث لأبي المظفر السمعاني (ص: 44 - 46)، جمع وتعليق الدكتور محمد بن حسين الجيزاني.

مثل ذلك، ثم قال ابن مسعود: ولا عليك أن تأتي أخي حذيفة بن اليمان فتسأله، فأتيت حذيفة بن اليمان، فسألته فقال مثل ذلك، وقال: فأت زيد بن ثابت، فأتيت زيد بن ثابت فقال مثل ذلك". 1 وقد ساق أبو القاسم هبة الله بن الحسن اللالكائي (ت 418 هـ) مجمل اعتقاد طائفة من أعلام السلف كالثوري وابن عيينة والأوزاعي وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني وغيرهم وذلك في كتابه القيم "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" 2 فقال رحمه الله: "سياق ما روي من المأثور عن السلف في جمل اعتقاد أهل السنة والتمسك بها والوصية بحفظها قرناً

_ 1رواه الإمام أحمد في المسند (5/ 182)، وأبو داود في السنة - باب في القدر (5/ 66) ح 4699، وأخرجه أيضاً عبد الله بن أحمد في السنة (2/ 388)، واللالكائي في شرح أصول أهل السنة (3/ 612) ح 673. 2طبع في تسعة أجزاء بتحقيق الدكتور أحمد بن سعد بن حمدان.

بعد قرن". 1 وقد بدأ بذكر اعتقاد أبي عبد الله سفيان بن سعيد الثوري، فذكر بإسناده إلى علي بن حرب الموصلي قال: سمعت شعيب بن حرب يقول: قلت لأبي عبد الله سفيان بن سعيد الثوري: حدثني بحديث من السنة ينفعني الله عز وجل به، فإذا وقفت بين يدي الله تبارك وتعالى وسألني عنه فقال لي: من أين أخذت هذا قلت: يا رب حدثني بهذا الحديث سفيان الثوري وأخذته عنه، فأنجو أنا وتؤاخذ أنت. فقال: "يا شعيب هذا توكيد وأي توكيد اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، من قال غير هذا فهو كافر، والإيمان قول وعمل ونية يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ولا يجوز القول إلا بالعمل، ولا يجوز القول والعمل إلا بنية، ولا يجوز القول

_ 1انظر: (1/ 151).

والعمل والنية إلا بموافقة السنة. 1 قال شعيب: فقلت له: يا أبا عبد الله وما موافقة السنة قال: تقدمة الشيخين: أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. يا شعيب: لا ينفعك ما كتبت حتى تقدم عثماناً وعلياً على من بعدهما. يا شعيب بن حرب: لا ينفعك ما كتبت لك حتى لا تشهد لأحد بجنة ولا نار إلا العشرة الذين شهد لهم رسول الله وكلهم من قريش. يا شعيب بن حرب: لا ينفعك ما كتبت لك حتى ترى المسح على الخفين دون خلعهما أعدل عندك من غسل قدميك.

_ 1أورد الحافظ ابن بطة العكبري في الإبانة (2/ 802 - 814) عن عدد من السلف نحو هذا القول، ومنهم أنس بن مالك وعلي بن أبي طالب والحسن والأوزاعي وسهل بن عبد الله التستري وغيرهم.

يا شعيب بن حرب: ولا ينفعك ما كتبت حتى يكون إخفاء بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة أفضل عندك من أن تجهر بها. 1 يا شعيب بن حرب: لا ينفعك الذي كتبت حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره، كل من عند الله عز وجل. يا شعيب بن حرب: والله ما قالت القدرية ما قال الله،

_ 1هذه المسألة والتي قبلها وأمثالهما من المسائل العملية التي ذكر السلف ضمن قضايا الاعتقاد، إنما ذكرت في قضايا العقيدة لأمور، منها: 1 - وجود من عارض هذه السنن بمجرد الرأي والعقل والقياس. 2 - أن السلف رحمهم الله لا يفرقون في الالتزام بالسنة والوقوف عندها بين واجب ومندوب، بل يتبعون السنة في الجميع ويلتزمون بها تديناً. 3 - أن شعيب بن حرب إنما سأل سفيان عن السنة، ومن تمام بيان السنة أن يذكر له السنن الاعتقادية والعملية التي وقع فيها معارضة من أصحاب الأهواء بعقولهم وآرائهم الفاسدة حتى يحذر تلك الأهواء والآراء المنحرفة عن هدي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه رضي الله عنهم.

ولا ما قالت الملائكة، ولا ما قال النبيون، ولا ما قال أهل الجنة، ولا ما قال أهل النار، ولا ما قال أخوهم إبليس لعنه الله. قال الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ الله عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ الله أَفَلا تَذَكَّرُونَ}. 1 وقال تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ الله}. 2 وقالت الملائكة: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ}. 3 وقال موسى عليه السلام: {إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ}. 4 وقال نوح عليه السلام: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ

_ 1سورة الجاثية - الآية (23). 2سورة التكوير - الآية (29). 3سورة البقرة - الآية (32). 4سورة الأعراف - الآية (55).

أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ الله يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. 1 وقال شعيب عليه السلام: {وَمَا يَكُونَ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ الله رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيءٍ عِلْمًا}. 2 وقال أهل الجنة: {الحَمْدُ الله الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَ‍هْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله}. 3 وقال أهل النار: {غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ}. 4 وقال أخوهم إبليس لعنه الله: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي}. 5 يا شعيب: لا ينفعك ما كتبت حتى ترى الصلاة خلف كل بر وفاجر، والجهاد ماض إلى يوم القيامة، والصبر تحت لواء السلطان جار أم عدل.

_ 1سورة هود - الآية (34). 2سورة الأعراف - الآية (89). 3سورة الأعراف - الآية (43). 4سورة المؤمنون - الآية (106). 5سورة الحجر - الآية (39).

قال شعيب: فقلت لسفيان: يا أبا عبد الله الصلاة كلها قال: لا، ولكن صلاة الجمعة والعيدين صل خلف من أدركت، وأما سائر ذلك فأنت مخير لا تصل إلا خلف من تثق به وتعلم أنه من أهل السنة والجماعة. يا شعيب بن حرب: إذا وقفت بين يدي الله عز وجل فسألك عن هذا الحديث فقل: يا رب حدثني بهذا الحديث سفيان بن سعيد الثوري، ثم خل بيني وبين ربي عز وجل" اهـ. 1 هذا مجمل اعتقاد أبي عبد الله الثوري، وهي عين ما نقل عن الأئمة قبله وبعده، كما ذكر ذلك الحافظ أبو القاسم اللالكائي وغيره. وقد ضمَّن سفيان ما كتبه لتلميذه شعيب بن حرب التأصيل العلمي والمنهجي في الرد على أصحاب البدع والأهواء، فذكر مسألة خلق القرآن والقول الحق فيها

_ 1شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 151 - 154).

وكذلك الإرجاء والقدر، ومسألة معارضة السنن بالرأي والهوى، أو القياس والعقل، ثم مسألة السمع والطاعة لولاة الأمر وبيان منهج أهل السنة والجماعة فيها. لقد كان سفيان وأقرانه من الأئمة في عصره كابن المبارك والأوزاعي وأبي إسحاق الفزاري وغيرهم كانوا شجاً في حلوق أصحاب الأهواء والبدع وعلقماً في أفواههم، فحفظ الله بهم الدين وأحيا بهم السنة وقمع بهم البدع والأهواء في زمانهم. قال مؤرخ الإسلام أبو عبد الله الذهبي: "وفي زمان هذه الطبقة - الخامسة من تذكرة الحفاظ - كان الإسلام وأهله في عز تام وعلم غزير، وأعلام الجهاد منثورة والسنن مشهورة، والبدع مكبوتة، والقوَّالون بالحق كثير، والعباد متوافرون والناس في بُلهنية من العيش بالأمن وكثرة الجيوش المحمدية من أقصى المغرب وجزيرة الأندلس، وإلى قريب

مملكة الخطا - كذا - وبعض الهند وإلى الحبشة". 1 وهذه نماذج من مواقف سفيان من أهل الأهواء وآرائه فيهم: عن يحيى بن يمان قال: سمعت سفيان الثوري يقول: "من أصغى سمعه إلى صاحب بدعة فقد خرج من عصمة الله تعالى". 2 وفي "سير أعلام النبلاء": أن سفيان الثوري قال: "من أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة وهو يعلم، خرج من عصمة الله، ووكل إلى نفسه". 3 وفيه أيضاً عنه أنه قال: "من سمع ببدعة فلا يحكها لجلسائه ولا يلقها في قلوبهم". 4 قال الذهبي: "أكثر أئمة السلف على هذا التحذير، يرون أن القلوب ضعيفة والشبة خطافة".

_ 1تذكرة الحفاظ (1/ 244). 2انظر: الحلية لأبي نعيم (7/ 26)، سير أعلام النبلاء (7/ 261). 3سير أعلام النبلاء (7/ 261). 4المصدر نفسه.

عن عبد الله بن المبارك: "سئل سفيان بن سعيد عن ثور ابن يزيد الشامي فقال: خذوا عنه واتقوا قرنيه - يعني أنه كان قدرياً -". 1 وعن أحمد بن عبد الله بن يونس: "سمعت رجلاً يقول لسفيان: رجل يكذب بالقدر، أأصلي وراءه قال: لا تقدموه، قال: هو إمام القرية ليس لهم إمام غيره، قال: لا تقدموه، لا تقدموه، وجعل يصيح". 2 وعن أبي غسان قال: حدثنا إبراهيم بن المغيرة - وكان حجاجاً - قال: "سألت سفيان: أأصلي خلف من يقول الإيمان قول بلا عمل قال: لا، ولا كرامة". 3 وذكر أبو نعيم في "الحلية" بسنده عن المؤمل بن إسماعيل قال سفيان الثوري: "خالفتنا المرجئة في ثلاث: نحن نقول: الإيمان قول وعمل، وهم يقولون: الإيمان قول بلا عمل،

_ 1الجرح والتعديل (1/ 74). 2الحلية (7/ 26). 3المصدر نفسه (7/ 27).

ونحن نقول: يزيد وينقص، وهم يقولون: لا يزيد ولا ينقص، ونحن نقول: نحن مؤمنون بالإقرار، وهم يقولون: نحن مؤمنون عند الله". 1 وبإسناده إلى محمد بن يوسف الفريابي قال سفيان: "ليس أحد أبعد من كتاب الله من المرجئة". 2 وعن يوسف بن أسباط قال: سمعت سفيان يقول: "من كره أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله فهو عندنا مرجئ" يمد بها صوته. 3 وفي "الحلية" عن عبد الصمد بن حسان قال: سمعت الثوري يقول: "عليكم بما عليه الحمالون والنساء والصبيان في الكُتَّاب، من الإقرار والعمل". 4

_ 1المصدر نفسه (7/ 29). 2المصدر نفسه. 3المصدر نفسه (7/ 32). 4الحلية (7/ 30).

وفيه أيضاً عن عبد الله بن المبارك قال: سمعت سفيان الثوري يقول: "من زعم أن {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} مخلوق فقد كفر بالله عز وجل". 1 عن غياث بن واقد - من أهل اصطخر - قال: سمعت سفيان يقول: "ارج كل شيء مما لا تعلم إلى الله، ولا تكن مرجئاً، واعلم أن ما أصابك من الله، ولا تكن قدرياً". قال: وسمعت سفيان يقول: "لقد تركت المرجئة هذا الدين أرق من السابري". 2 وعن أبي بكر الحنفي قال: سمعت سفيان الثوري يقول: "الصلاة والزكاة من الإيمان 3، والإيمان يزيد، والناس

_ 1سير أعلام النبلاء (7/ 273)، الحلية (7/ 30). 2الحلية لأبي نعيم (7/ 33)، والسابري كل رقيق سابري، والأصل فيه الدروع، السابرية نسبة إلى سابور (تاج العروس 3/ 253). 3بوَّب بذلك أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في كتاب الإيمان فقال: باب الصلاة من الإيمان، باب الزكاة من الإسلام.

عندنا مؤمنون مسلمون، ولكن الإيمان متفاضل، وجبريل أفضل إيماناً منك". 1 وعن أبي نعيم الفضل بن دكين (ت 218 هـ) قال: سمعت سفيان الثوري يقول: "قدمت الري وعليها الزبير بن عدي قاضياً، فكتبت عنه خمسين حديثاً، ثم مررت بجرجان وبها جوَّاب - بتشديد الواو - التيمي فلم أكتب عنه، ثم كتبت عن رجل عنه"، قال أبو نعيم لم يكتب عنه لأنه كان مرجئاً. 2 قال عبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت 211 هـ): سمعت مالكاً والأوزاعي وابن جريج والثوري ومعمراً يقولون: "الإيمان قول وعمل يزيد وينقص". 3 وفي "السير" عن أبي بكر بن عياش: "كان سفيان

_ 1الحلية (7/ 33). 2الجرح والتعديل (1/ 80). 3السير (7/ 252)، وانظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة (5/ 957 - 958 رقم 1736)، (5/ 962 رقم 1749)، (5/ 980 رقم 1792).

ينكر على من يقول العبادات ليست من الإيمان، وعلى من يقدم على أبي بكر وعمر أحداً من الصحابة، إلا أنه كان يقدم علياً على عثمان". 1 وفيه أيضاً عن محمد بن يوسف الفريابي (ت 212 هـ) قال: سمعت سفيان يقول: "إن قوماً يقولون: لا نقول لأبي بكر وعمر إلا خيراً، ولكن علي أولى بالخلافة منهما، فمن قال ذلك فقد خطَّأ أبا بكر وعمر وعلياً والمهاجرين والأنصار، ولا أدري ترتفع مع هذا أعمالهم إلى السماء". 2 وفي رواية عن عبد العزيز بن أبان: سمعت الثوري يقول: "من قدم على أبي بكر وعمر أحداً، فقد أزرى على اثني عشر ألفاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي رسول الله وهو عنهم راض". 3

_ 1المصدر نفسه. 2المصدر نفسه (7/ 253)، وفي لفظ: "وأخشى أن لا ينفعه مع ذلك عمل". 3المصدر نفسه (7/ 254).

أخرج أبو نعيم في "الحلية" بسنده إلى زيد بن الحباب قال: "كان رأي سفيان الثوري رأي أصحابه الكوفيين، يفضل علياً على أبي بكر وعمر، فلما صار إلى البصرة رجع عنها، وهو يفضل أبا بكر وعمر على علي، ويفضل علياً على عثمان". 1 وفي "السير" عن زيد بن الحباب قال: "خرج سفيان إلى أيوب وابن عون فترك التشيع". 2 وعن علي بن قادم قال سفيان: "ما قاتل عليّ أحداً إلا كان علي أولى بالحق منه". 3 وفيه أيضاً عن محمد بن يوسف الفريابي: "سمعت سفيان ورجل يسأله عن مَنْ يشتم أبا بكر فقال: كافر بالله العظيم، قال: نصلي عليه قال: لا، ولا كرامة. قال: فزاحمه الناس حتى حالوا بيني وبينه، فقلت للذي

_ 1الحلية (7/ 31). 2سير أعلام النبلاء (7/ 253). 3الحلية (7/ 31).

قريباً منه: ما قال قلنا: هو يقول: لا إله إلا الله ما نصنع به قال: لا تمسوه بأيديكم ارفعوه بالخشب حتى تواروه في قبره". 1 وفي "الحلية" عن رواد بن الجراح قال: "قال سفيان لعطاء بن مسلم: كيف حبك اليوم لأبي بكر قال: شديد، قال: كيف حبك لعمر قال: شديد، قال: كيف حبك لعلي قال: شديد، وطولها وشدَّدها، فقال سفيان: يا عطاء هذه الشديدة تريد كية وسط رأسك". 2 وعن عطاء بن مسلم قال: قال لي سفيان: "إذا كنت في الشام فاذكر مناقب علي، وإذا كنت بالكوفة فاذكر مناقب أبي بكر وعمر". 3 وعن المسيب بن وضاح قال: سمعت عبد الوهاب الحلبي يقول: "سألت سفيان الثوري ونحن نطوف بالبيت عن

_ 1السير (7/ 253). 2الحلية (7/ 31). 3الحلية (7/ 27)، السير (7/ 260).

الرجل يحب أبا بكر وعمر إلا أنه يجد لعلي من الحب ما لا يجد لهما، قال: هذا رجل به داء ينبغي أن يسقى دواء". 1 وعن مؤمل بن إسماعيل قال: سمعت سفيان يقول: "منعتنا الشيعة أن نذكر فضائل علي". 2 وفي "السير" عن عثام بن علي: سمعت سفيان يقول: "لا يجتمع حب علي وعثمان إلا في قلوب نبلاء الرجال". 3 عن شعيب بن حرب قال: "ذكروا سفيان الثوري عند عاصم بن محمد، فذكروا مناقبه حتى عدوا خمس عشرة منقبة، فقال: فرغتم إني لأعرف فيه فضيلة أفضل من هذه كلها: سلامة صدره لأصحاب محمد صلى الله وسلم عليه وعلى آله". 4 وفي "السير": "سئل سفيان عن أحاديث الصفات

_ 1الحلية (7/ 27). 2السير (7/ 260). 3الحلية (7/ 32)، السير (7/ 273). 4الحلية (7/ 27).

فقال: أمروها كما جاءت". 1 وعن عبد الله بن المبارك قال سفيان: "الجهمية كفار، والقدرية كفار"، قال الراوي عن ابن المبارك: فما رأيك قال: رأيي رأي سفيان. 2 وفي "الحلية" عن ضمرة قال: "سألت سفيان الثوري أصافح اليهود والنصار فقال: برجلك نعم". 3 وقال مؤمل بن إسماعيل: "مات عبد العزيز بن أبي رواد، وكنت في جنازته حتى وضع عند باب الصفا، فصف الناس، وجاء الثوري فقال الناس: جاء الثوري، حتى خرق الصفوف والناس ينظرون إليه فجاوز الجنازة ولم يصل عليه، لأنه كان يرمى بالإرجاء". 4 وقد تكرر هذا الموقف من سفيان في جنازة عباد بن كثير

_ 1سير أعلام النبلاء (7/ 27). 2الحلية (7/ 28). 3المصدر نفسه (6/ 379). 4المصدر نفسه (7/ 29).

العابد المجاور بمكة لما كان فيه من الغفلة في الرواية عن كل أحد، وهذا الموقفان من سفيان يراد بهما التحذير من البدع وأصحابها، وحتى لا يغتر أحد بصلاته عليهما، وإلا فهو يرى جواز الصلاة عليهما لأنه لم يكفرهما وأمثالهما من أهل البدع غير المكفرة، والله أعلم.

ما ذكر من كلام سفيان في العلم والهدي والزهد والورع

ما ذكر من كلام سفيان في العلم والهدي والزهد والورع: أولاً: من كلامه في الزهد والورع: قال خالد بن نزار الأيلي: قال سفيان: "الزهد زهدان: زهد فريضة، وزهد نافلة، فالفرض: أن تدع الفخر والكبر والعلو والرياء والسمعة، والتزين للناس، وأما زهد النافلة: فأن تدع ما أعطاك الله من الحلال، فإذا تركت شيئاً من ذلك صار فريضة عليك ألا تتركه إلا لله". 1 وأخرج أبو نعيم في "الحلية" بسنده إلى مبارك أبي حماد قال: سمعت سفيان الثوري يقرأ على علي بن الحسن: "لا تحسدن ولا تغتابن فتذهب حسناتك، وقد كان بعض الفقهاء يتوضأ من الغيبة كما يتوضأ من الحدث، وأحسن سريرتك يحسن الله علانيتك، وأصلح فيما بينك وبين الله يصلح الله ما بينك وبين الناس، واعمل لآخرتك يكفك الله أمر دنياك، بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعاً، ولا تبع

_ 1سير أعلام النبلاء (7/ 244).

آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعاً". 1 وعن عبد الله بن داود الحريبي (ت 213 هـ) عن سفيان قال: "احذر سخط الله في ثلاث: احذر أن تقصر فيما أمر، واحذر أن يراك وأنت لا ترضى بما قسم لك، وأن تطلب شيئاً من الدنيا فلا تجده أن تسخط على ربك". 2 وأخرج ابن أبي حاتم بسنده إلى سفيان قال: "أكرموا الناس على قدر تقواهم، وتذللوا عند أهل الطاعة، وتعززوا عند أهل المعصية، واعلموا أن القراءة لا تحلو إلا بالزهد في الدنيا". 3 وفي لفظ عن قبيصة بن عقبة (ت 215 هـ) قال: قال سفيان: "لا تصلح القراءة إلا بالزهد، واغبط الأحياء بما تغبط به الأموات، أحبهم على قدر أعمالهم، وذل عند

_ 1الحلية (7/ 35). 2السير (7/ 244). 3الجرح والتعديل (1/ 90).

الطاعة، واستعص عند المعصية". 1 وعن وكيع قال: قال سفيان: "لو أن اليقين استقر في القلوب لطارت شوقاً أو حزناَ، إما شوقاً إلى الله عز وجل، وإما فرقاً من النار". 2 وعن يوسف بن أسباط قال سفيان: "كثرة الإخوان من سخافة الدين". 3 وعنه أيضاً قال سفيان: "لم يفقه عندنا من لم يعد البلاء نعمة والرخاء مصيبة". 4 وعن بكر العابد قال سفيان: "إن القراءة لا تصلح إلا بالزهد بالدنيا، فازهد، ونم، وصل الخمس". 5 وفي "الحلية" عن يحيى بن يمان قال: سمعت سفيان

_ 1حلية الأولياء (7/ 30). 2الجرح والتعديل (1/ 94). 3المصدر نفسه. 4المصدر نفسه. 5المصدر نفسه (1/ 93).

الثوري يقول: "الحديث أكثر من الذهب والفضة، وليس يدرك، وفتنة الحديث أشد من فتنة الذهب والفضة". 1 وفيه أيضاً عن مبارك أبي حماد سمعت الثوري يقول: "إياك وخشوع النفاق، وأن تظهر على وجهك خشوعاً ليس في قلبك". 2 وعن بكر بن عابد قال: سمعت الثوري يقول: "لا خير في القارئ يعظم أهل الدنيا". 3 وقال يوسف بن أسباط: سمعت سفيان الثوري يقول: "ما رأيت الزهد في شيء أقل منه في الرياسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب، فإذا نوزع في الرياسة حامى عليها وعادى". 4 قال وكيع سمعت سفيان يقول: "ليس الزهد بأكل

_ 1الحلية (6/ 363). 2المصدر نفسه (7/ 48). 3المصدر نفسه (7/ 46). 4سير أعلام النبلاء (7/ 262)، الحلية (7/ 39).

الغليط ولبس الخشن، ولكنه قِصَرُ الأمل وارتقاب الموت". 1 وفي "الحلية" عن يحيى بن يمان قال: سمعت سفيان الثوري يقول: "العالم طبيب الدين، والدرهم داء الدين، فإذا جذب الطبيب الداء إلى نفسه فمتى يداوي غيره". 2 وفيه أيضاً عن عبد الله بن محمد الباهلي قال: "جاء رجل إلى سفيان فقال: يا أبا عبد الله إني أريد الحج، قال: لا تصحب من يكرم عليك فإن ساويته في النفقة أضر بك، وإن تفضل عليك استذلك". 3 وفيه أيضاً عن عطاء بن مسلم الخفاف قال سفيان الثوري: "قدمت البصرة فجلست إلى يونس بن عبيد، فإذا فتيان كأن على رؤوسهم الطير، فقلت: يا معشر القراء ارفعوا رؤوسكم فقد وضح الطريق، واعملوا ولا تكونوا

_ 1الزهد لوكيع (1/ 222) رقم 6، حلية الأولياء (6/ 386)، سير أعلام النبلاء (7/ 243). 2الحلية (6/ 361). 3المصدر نفسه (6/ 381)، السير (7/ 241).

عالة على الناس، فرفع يونس رأسه إليهم فقال: قوموا فلا أعلمن أحداً منكم جالسني حتى يكسب معاشه من وجهه، فتفرقوا قال سفيان: فوالله ما رأيتهم عنده بعد". 1 وعن محمد بن عبيد الطنافسي قال: سمعت سفيان يقول: "يا معشر القراء ارفعوا رؤوسكم، لا تزيدوا التخشع على ما في القلب، فقد وضح الطريق، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا تكونوا عيالاً على المسلمين". 2 وعن يوسف بن أسباط قال: سمعت سفيان يقول: "ثلاثة من الصبر: لا تحدث بمصيبتك، ولا بوجعك، ولا تزك نفسك". 3 وقال عثمان بن زائدة: كتب إليَّ سفيان الثوري: "إذا أردت أن يصح جسمك ويقل نومك فأقلل من الأكل". 4

_ 1المصدر نفسه (6/ 382). 2المصدر نفسه. 3المصدر نفسه (6/ 389). 4المصدر نفسه (7/ 7).

وعن محمد بن يوسف الفريابي قال: سمعت سفيان يقول: "يعجبني أن يكون صاحب الحديث مكفياً، فإن الآفات إليهم أسرع وألسنة الناس إليهم أسرع". 1 وعن عبد الله بن المبارك قال: كان سفيان الثوري يقول: "إذا عرفت نفسك فلا يضرك ما قيل فيك". 2 وعن وكيع عن سفيان قال: "ما عالجت شيئاً قط أشد علي من نفسي مرة علي ومرة لي". 3 وعن سعيد بن صدقة أبي مهلهل قال: "أخذ بيدي سفيان الثوري فاعتزلنا ناحية عن طريق الناس فبكى ثم قال: يا أبا مهلهل إن استطعت أن لا تخالط في زمانك هذا أحداً فافعل، وليكن همك مرمة جهازك، واحذر إتيان هؤلاء الأمراء، وارغب إلى الله في حوائجك لديهم، وافزع إليه فيما ينوبك، وعليك بالاستغناء عن جميع الناس، وارفع

_ 1المصدر نفسه (6/ 369)، السير (7/ 254). 2المصدر نفسه (6/ 390). 3المصدر نفسه (7/ 5).

حوائج إلى من لا تعظم الحوائج عنده". 1 وأخرج ابن أبي حاتم بسنده إلى سفيان قال: "إن دعاك هؤلاء الملوك تقرأ عليهم: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} فلا تجئهم، فإن قربهم مفسدة للقلب". 2 وعن أبي زرعة الدمشقي عن أحمد بن يونس قال: "سمعت رجلاً يقول لسفيان: يا أبا عبد الله أوصني، قال: إياك والأهواء، وإياك والخصومة، وإياك والسلطان". 3 ثانياً: من كلام سفيان في العلم والهدي والعمل: أخرج محمد بن سعد بسنده إلى سفيان قال: "تعلموا هذا العلم، فإذا تعلمتموه فاحفظوه، فإذا حفظتموه فاعملوا به، فإذا عملتم به فانشروه". 4 وقال ابن عبد البر: قال الثوري: "العلماء إذا علموا

_ 1المصدر نفسه (7/ 7). 2الجرح والتعديل (1/ 86). 3المصدر نفسه (7/ 28). 4الطبقات الكبرى (6/ 371).

عملوا، فإذا عملوا شغلوا، فإذا شغلوا فقدوا، فإذا فقدوا طلبوا، فإذا طلبوا هربوا". 1 وذكر ابن أبي حاتم بسنده إلى محمد بن يوسف الفريابي قال: قال سفيان: "العلماء ثلاثة: عالم بالله عز وجل عالم بأمره، فذلك العالم الكامل، وعالم بالله ليس بعالم بأمر الله عز وجل، وعالم بأمر الله ليس بعالم بالله فذلك العالم الفاجر". وقال سفيان: "كأن يقال: اتقوا فتنة العابد الجاهل والعالم الفاجر، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون". 2

_ 1جامع بيان العلم وفضله (1/ 700) رقم 1249 ط: دار ابن الجوزي 2الجرح والتعديل (1/ 91 - 92). وقال الحافظ ابن رجب في شرح حديث أبي الدرداء في طلب العلم (20 - 23): "وكان كثير من السلف - كسفيان الثوري وغيره- يقسمون العلماء ثلاثة أقسام: عالم بالله عالم بأمر الله، يشيرون بذلك إلى من جمع بين هذين العلمين المشار إليهما الظاهر والباطن، وهؤلاء أشرف العلماء وهم الممدوحون في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} إلى أن قال: وعالم بالله ليس عالماً بأمر الله، وهم أصحاب العلم الباطن الذين يخشون الله وليس لهم اتساع في علم الظاهر، وعالم بأمر الله ليس بعالم بالله، وهم أصحاب العلم الظاهر الذين لا نفاذ لهم في العلم الباطن وليس لهم خشية ولا خشوع، وهؤلاء المذمومون عند السلف، وكان بعضهم يقول: هذا هو العالم الفاجر، وهؤلاء الذين وقفوا مع ظاهر العلم، ولم يصل العلم النافع إلى قلوبهم ولا شموا له رائحة غلبت عليهم الغفلة والقسوة والإعراض عن الآخرة، والتنافس في الدنيا ومحبة العلو فيها والتقدم بين أهلها، وقد منعوا إحسان الظن بمن وصل العلم النافع إلى قلوبهم، فلا يحبونهم ولا يجالسونهم وربما ذموهم وقالوا: ليسوا بعلماء ... ولهذا كان علماء الدنيا يبغضون علماء الآخرة ويسعون في أذاهم جهدهم، كما سعوا في أذى سعيد بن المسيب والحسن وسفيان الثوري ومالك وأحمد وغيرهم من العلماء الربانيين، وذلك لأن علماء الآخرة خلفاء الرسل، وعلماء السوء فيهم شبه من اليهود وهم أعداء الرسل وقتلة الأنبياء ومن يأمر بالقسط من الناس، وهم أشد الناس عداوة وحسداً للمؤمنين، ولشدة محبتهم للدنيا لا يعظمون علماً ولا ديناً، وإنما يعظمون المال والجاه والتقدم عند الملوك، فظهر بهذا أن أكمل العلماء وأفضلهم العلماء بالله وبأمره الذين جمعوا بين العلمين وتلقوهما معاً من الوحيين: الكتاب والسنة، وعرضوا كلام الناس في العلمين معاً على ما جاء به الكتاب والسنة فما وافق قبلوه وما خالف ردوه، وهؤلاء خلاصة الخلق وهم أفضل الناس بعد الرسل، وهم خلفاء الرسل حقاً ... ". اهـ ملخصاً.

وعن عبد الرحمن بن مهدي قال: "ربما كنا مع سفيان فيقول: النهار يذهب ونحن في غير عمل، ثم يقوم فزعاً فما نراه يومنا". 1 وعن أبي عاصم النبيل قال سفيان: "كان الرجل إذا أراد أن يطلب العلم تعبد قبل ذلك عشرين سنة". 2 وقال محمد بن يوسف الفريابي: "كان سفيان الثوري يقيمنا بالليل يقول: قوموا يا شباب صلوا ما دمتم شباباً". 3 وفي "الحلية" عن أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت محمد بن يوسف الفريابي يقول: "ما من عمل أفضل من

_ 1الجرح والتعديل (1/ 94). 2المصدر نفسه (1/ 95)، الحلية (6/ 361). 3الجرح والتعديل (1/ 96).

طلب الحديث إذا صحت النية فيه، قال أحمد: قلت للفريابي: وأي شيء النية قال: تريد به وجه الله والدار الآخرة". 1 وعن أبي مسلم المستملي عن سفيان قال: "تعلموا العلم، فإذا علمتموه فاكظموا عليه ولا تخلطوه بضحك ولا لعب فتمجه القلوب" 2. وفي رواية: "فتجمد القلوب". 3 وعن مزاحم بن زفر قال: سمعت الثوري يقول: "إنما هو طلبه - العلم - ثم حفظه، ثم العمل به، ثم نشره". 4 وعن أبي عبد الله المهدي قال: سمعت الثوري يقول: "كان يقال: أول العلم: الصمت، والثاني: الاستماع له

_ 1الحلية (6/ 366). 2المصدر نفسه (6/ 368). 3المصدر نفسه (6/ 362). 4المصدر نفسه.

وحفظه، والثالث: العمل به، والرابع: نشره وتعليمه". 1 وعن أبي عاصم قال: قال الثوري: "من حدَّث قبل أن يحتاج إليه ذل". 2 وعن عبد الله بن داود أن الثوري قال: "إنما يطلب العلم ليتقي الله به، فمن ثم فضل، فلولا ذلك لكان كسائر الأشياء". 3 وفي "الحلية" أيضاً عن أحمد بن عبد الله بن يونس قال: سمعت سفيان الثوري يقول: "ليس طلب العلم فلان عن فلان، إنما طلب العلم الخشية لله عز وجل". 4 وعن أبي النضر قيصر قال: قال سفيان: "آمر بالمعروف في رفق فإن قبل منك حمدت الله عز وجل، وإلا

_ 1المصدر نفسه. 2المصدر نفسه (6/ 363). 3المصدر نفسه (6/ 362). 4المصدر نفسه (6/ 370).

أقبلت على نفسك، فإن لك في نفسك شغلاً، وكان الناس إذا التقوا انتفع بعضهم ببعض، فأما اليوم فالنجاة في تركهم". 1 وفي "الحلية" عن وكيع عن سفيان قال: "لله قراء وللشيطان قراء، وصنفان إذا صلحا صلح الناس: السلطان والقراء". 2 وفيه أيضاً عن خلف بن تميم قال: سمعت الثوري: "من أحب أفخاذ النساء لم يفلح". 3 وعن عبد الله بن المبارك قال: "سئل سفيان الثوري: طلب العلم أحب إليك يا أبا عبد الله أو العمل فقال: إنما يراد العلم للعمل، لا تدع طلب العلم للعمل، ولا تدع العمل لطلب العلم". 4

_ 1الجرح والتعديل (1/ 124). 2حلية الأولياء (7/ 5). 3المصدر نفسه (7/ 12). 4المصدر نفسه.

وعن يحيى بن يمان قال: قال سفيان: "البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها". 1 قال أبو إسحاق الفزاري: قال سفيان: "البكاء عشرة أجزاء: جزء لله وتسعة لغير الله، فإذا جاء الذي لله في العام مرة فهو كثير". 2 وعن يحيى بن المتوكل قال: سمعت سفيان الثوري يقول: "إذا أثنى على الرجل جيرانه أجمعون فهو رجل سوء، قالوا لسفيان: كيف ذاك؟ قال: يراهم يعملون بالمعاصي فلا يغير عليهم ويلقاهم بوجه طلق". 3

_ 1المصدر نفسه (7/ 26)، ومعنى كلام سفيان هذا: أن صاحب المعصية يفعل المعصية وهو يشعر بالذنب ويحدث نفسه بالتوبة والرجوع عن المعصية، بخلاف المبتدع فإنه يرى أن عمله قربة وعبادة، والعبادة لا يتاب منها أو يرجع عنها والله تعالى أعلم. 2سير أعلام النبلاء (7/ 258). 3الحلية (7/ 30).

وعن أبي همام الوليد بن شجاع السكوني عن أبيه قال سفيان: "لا يستقيم قول إلا بعمل، ولا يستقيم قول وعمل إلا بنية، ولا يستقيم قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة". 1 وعن أسباط بن محمد قال: سمعت الثوري يقول: "الرجل إلى العلم أحوج منه إلى الخبز واللحم". 2 وعن محمد بن يوسف الفريابي قال الثوري: "ما بسطت الدنيا على أحد إلا اغتراراً، وما زويت عنه إلا اختباراً". 3 أخرج أبو نعيم بسنده إلى عبد الله بن المبارك قال: "كتب إليَّ سفيان الثوري: بُثَّ علمك واحذر الشهرة". 4 وفي "السير" عنه أيضاً قال لي سفيان: "إياك والشهرة،

_ 1المصدر نفسه (7/ 32). 2المصدر نفسه (7/ 65). 3المصدر نفسه (7/ 68). 4حلية الأولياء (7/ 70).

فما أتيت أحداً إلا وقد نهى عن الشهرة". 1 وعن ابن المبارك أيضاً قال: قال سفيان الثوري: "إياكم والبطنة، فإنها تقسي القلب". 2 وقال يحيى بن الضريس قال الثوري: "إذا ترأس الرجل سريعاً أضر بكثير من العلم، وإذا طلب وطلب بلغ". 3 وقال ضمرة قال سفيان: "يثغر الغلام لسبع - تسقط أسنانه اللبنية 4 - ، ويحتلم بعد سبع، ثم ينتهي طوله بعد سبع، ثم يتكامل عقله بعد سبع، ثم هي التجارب". 5 وعن ابن المبارك عن سفيان: "استوصوا بأهل السنة خيراً، فإنهم غرباء". 6 وعن عبد الصمد بن حسان سمعت سفيان يقول:

_ 1سير أعلام النبلاء (7/ 260). 2الحلية (7/ 78). 3المصدر نفسه (7/ 81). 4تاج العروس (3/ 75) مادة ثغر. 5السير (7/ 270). 6المصدر نفسه (7/ 273).

"الإسناد سلاح المؤمن، فمن لم يكن له سلاح فبأي شيء يقاتل". 1 وفي "سير أعلام النبلاء" قال سفيان: "ينبغي للرجل أن يكره ولده على العلم، فإنه مسؤول عنه". 2 وقال ابن عبد البر: قال سفيان: "يهتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل". 3

_ 1المصدر نفسه. 2المصدر نفسه. 3جامع بيان العلم وفضله (1/ 707) رقم 1274 ط: دار ابن الجوزي

من رسائل سفيان إلى إخوانه من أهل السنة وأسلوبه فيها

من رسائل سفيان إلى إخوانه من أهل السنة وأسلوبه فيها: عن يوسف بن أسباط قال: كان سفيان إذا كتب إلى رجل كتب: "بسم الله الرحمن الرحيم، من سفيان بن سعيد إلى فلان بن فلان سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، تبارك وتعالى له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. أما بعد: فإني أوصيك ونفسي بتقوى الله العظيم، فإنه من يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب، جعلنا الله وإياك من المتقين". 1 وفي "الحلية" عن يحيى بن سعيد قال: "أملى عليَّ سفيان كتاباً فقال: اكتب، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو تبارك وتعالى، وهو للحمد أهل وهو على كل شيء قدير، فقلت لسفيان: من كان يكتب هذا الصدر؟ فقال:

_ 1الجرح والتعديل (1/ 86 - 89).

حدثني منصور عن إبراهيم - النخعي - أنه كان يكتبه". 1 وفي "الحلية" أيضاً عن أبي نعيم الفضل بن دكين: سمعت سفيان وكتب إلى ابن أبي ذئب: "من سفيان إلى محمد بن عبد الرحمن، سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأوصيك بتقوى الله، فإنك إن اتقيت الله كفاك الناس، وإن اتقيت الناس لم يغنوا عنك من الله شيئاً، فعليك بتقوى الله، أما بعد". 2 وعن أبي أحمد الزبيري كتب بعض إخوان سفيان إلى سفيان أن عظني وأوجز، فكتب إليه: "بسم الله الرحمن الرحيم، عافانا الله وإياك من السوء، واعلم يا أخي أن الدنيا غمها لا يفنى، وفكرها لا ينقضي، وفرحها لا يدوم، فلا توان فتعطب والسلام عليك". 3

_ 1الحلية (7/ 44)، السير (7/ 264). 2الحلية (7/ 68). 3الجرح والتعديل (1/ 104).

رسالة الإمام الثوري إلى عباد بن عباد: ذكرها ابن أبي حاتم في ترجمة سفيان في تقدمته للجرح والتعديل 1، بسنده إلى محمد بن يوسف الفريابي قال: كتب سفيان بن سعيد إلى عباد بن عباد فقال: "من سفيان بن سعيد إلى عباد بن عباد، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله، فإن اتقيت الله عز وجل كفاك الناس، وإن اتقيت الناس لم يغنوا عنك من الله شيئاً، سألت أن أكتب إليك كتاباً أصف لك فيه خلالاً تصحب بها أهل زمانك وتؤدي إليهم ما يحق لهم عليك، وتسأل الله عز وجل الذي لك، وقد سألت عن أمر جسيم،

_ 1انظر: الجرح والتعديل (1/ 86 - 89)، ولأهمية هذه الرسالة وما حوته من توجيهات سديدة ونصائح قيمة مفيدة يحتاجها كل طالب علم في كل زمان ومكان، نظراً لذلك نقلت هذه الرسالة كاملة كما ذكرها ابن أبي حاتم والله الهادي إلى سواء السبيل.

الناظرون فيه اليوم المقيمون به قليل، بل لا أعلم مكان أحد، وكيف يستطاع ذلك وقد كدر هذا الزمان، إنه يشتبه الحق والباطل، ولا ينجو من شره إلا من دعا بدعاء الغريق، فهل تعلم مكان أحد هكذا وكان يقال: يوشك أن يأتي على الناس زمان لا تقر فيه عين حكيم، فعليك بتقوى الله عز وجل، والزم العزلة واشتغل بنفسك واستأنس بكتاب الله عز وجل، واحذر الأمراء، وعليك بالفقراء والمساكين والدنو منهم، فإن استطعت أن تأمر بخير في رفق فإن قبل منك حمدت الله عز وجل، وإن رد عليك أقبلت على نفسك فإن لك فيها شغلاً، واحذر المنزلة وحبها فإن الزهد فيها أشد من الزهد في الدنيا، وبلغني أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يتعوذون أن يدركوا هذا الزمان، وكان لهم من العلم ما ليس لنا، فكيف بنا حين أدركنا على قلة علم وبصر وقلة صبر وقلة أعوان على الخير مع كدر الزمان وفساد من الناس. وعليك بالأمر الأول والتمسك به، وعليك بالخمول فإن هذا زمان خمول وعليك بالعزلة وقلة مخالطة الناس، فإن عمر

ابن الخطاب رضي الله عنه قال: "إياكم والطمع، فإن الطمع فقر واليأس غنى، وفي العزلة راحة من خلاط السوء"، وكان سعيد بن المسيب يقول: "العزلة عبادة"، وكان الناس إذا التقوا انتفع بعضهم ببعض، فأما اليوم فقد ذهب ذلك والنجاة في تركهم فيما نرى، وإياك والأمراء والدنو منهم، وأن تخالطهم في شيء من الأشياء، وإياك أن تخدع فيقال لك: تشفع فترد عن مظلوم أو مظلمة، فإن تلك خدعة إبليس، وإنما اتخذها فجار القراء سلماً. وكان يقال: فتنة العابد الجاهل وفتنة العالم الفاجر فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون، وما كفيت المسألة والفتيا فاغتنم ذلك ولا تنافسهم، وإياك أن تكون ممن يحب أن يعمل بقوله وينشر قوله أو يسمع منه، وإياك وحب الرياسة، فإن من الناس من تكون الرياسة أحب إليه من الذهب والفضة، وهو باب غامض لا يبصره إلا البصير من العلماء، واحذر الرياء فإن الرياء أخفى من دبيب النمل وقال حذيفة: "سيأتي على الناس زمان يعرض على الرجل الخير والشر فلا يدري أيما يركب"، وقد ذكر عن

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال يد الله عز وجل على هذه الأمة وفي كنفه وفي جواره ما لم يَمِل قراؤها إلى أمرائهم، وما لم يبر خيارهم شرارهم، ما لم يعظم أبرارهم فجارهم، فإذا فعلوا ذلك رفعها عنهم وقذف في قلوبهم الرعب، وأنزل بهم الفاقة، وسلَّط عليهم جبابرتهم فساموهم سوء العذاب"، وقال: "إذا كان ذلك لا يأتيهم أمر يضجون منه إلا أردفه بآخر يشغلهم عن ذلك. فليكن الموت من شأنك، ومن بالك، وأَقِلَّ الأمل، وأكثر ذكر الموت، فإنك إن أكثرت ذكر الموت هان عليك أمر دنياك، وقال عمر: "أكثروا ذكر الموت، فإنكم إن ذكرتموه في كثير قلله، وإن ذكرتموه في قليل كثره، واعلموا أنه قد حان للرجل يشتهي الموت"، أعاذنا الله وإياك من المهالك وسلك بنا وبك سبيل الطاعة".

ما ذكره من دخول سفيان الثوري على السلطان للإنكار عليه ومناصحته إياه في أمر الأمة وتركه وبره

ما ذكره من دخول سفيان الثوري على السلطان للإنكار عليه ومناصحته إياه في أمر الأمة وتركه وبره: مناساسيات عقيدة أهل السنة والجماعة السمع والطاعة لمن ولاه الله أمرهم في المنشط والمكره، وكان من هديهم إقامة الصلاة في الجمع والجماعات خلف الإمام سواء كان بارا أو فاجرا أو ظالما كان أو عادلا، والجهاد تحت رايتهم ماض إلى يوم القيامة. كما كان من هدي أهل السنة والجماعة عدم جواز الخروج على الأئمة وإن جاروا وظلموا بل يرون قتال الخوارج عليهم تحت راية الأئمة. وكان من هديهم أيضا مناصحة ولاة الأمر بالطرق الشرعية الصحيحة المؤيدة إلى المقصود من النصيحة، كذلك من هديهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاحتساب في ذلك حتى على الحاكم. وحتى تكون مناصحتهم إياهم وإنكارهم عليهم خالصا لوجه الله عز وجل كانوا لايقبلون أعطياتهم لئلا يؤثر ذلك

في إخلاصهم فيحبط عملهم في الاحتساب عليهم، وتمييزا عن علماء السوء الذين لا يدخلون على الولاة إلا لنيل الأعطيات وحطام الدنيا الفاني فيبيعون دينهم بدنياهم. وهذا الإمام الهمام أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري أنموذج من أولئك الأئمة الأعلام الذين كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم وكانوا على هدى من الله وبصيرة وفيما يأتي بعض النصوص التي ذكرت في مناصحة سفيان للسلطان واحتسابه في الإنكار عليه. قال عبد الرحمن بن مهدي: " ما سمعت سفيان يسب أحدا من السلطان قط في شدت عليهم ". وقال أيضا: سمعت سفيان يقول: إني لأدعو للسلطان – يعني بالصلاح – ولكن لا أستطيع أن أذكر إلا فيهم ". وذكر ابن أبي حاتم بسنده إلى محمد بن يوسف الفريابي

قال: قال الثوري: " أدخلت على أبي جعفر المنصور – بمنى – فقلت له: اتق الله فإنما أنزلت هذه المنزلة وصرت في هذا الموضع بسيوف المهاجرين والأنصار وأبنائهم يموتون جوعا، حج عمر بن الخطاب فما أنفق إلا خمسة عشر دينارا، وكان ينزل تحت الشجر فقال لي: فإنما تريد أن أكون مثلك؟ قال: قلت: لا تكن مثلي ولكن دون ما أنت فيه وفوق ما أنا فيه، فقال لي: أخرج ". وفي "الحلية "عن محمد بن مسعود عن سفيان الثوري قال: " ادخلت على المهدي بمنى، فلما سلمت عليه بالإمرة قال لي: أيها الرجل طلبناك فأعجزتنا فالحمد الله الذي جاء بك فارفع إلينا حاجتك، فقلت: قد ملأت الأرض ظلما وجورا فاتق الله، وليكن منك في ذلك عبرة، قال: فطأطا رأسه ثم رفعه وقال: أرأيت إن لم أستطع رفعه، قلت: تخليه وغيرك، قال: فطأطا رأسه ثم قال: ارفع إلينا

حاجتك، قلت: أبناء المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان بالباب فاتق الله وأوصل إليهم حقوقهم، قال: فقال: أيها الرجل ارفع إلينا حاجتك، فقلت: وما أرفع؟ حدثني إسماعيل بن أبي خالد قال: حج عمر بن الخطاب فقال لخازنه كم أنفقت؟ قال: بضعة عشر دينارا وأرى هاهنا أمورا لا تطيقها الجبال. وفي " الحلية " أيضا عن حسين بن عبد الرحمن الوراق قال: قال أبو عبيد الله – وزير المهدي -: ما أعقلنا مخالينا هذه في عنق أحد إلا قضم منها إلا فسيان الثوري. وفيه أيضا عن يحيى بن يمان عن سفيان الثوري قال: قال لي المهدي: يا أبا عبد الله اصحبني حتى أسير فيكم سيرة العمرين، قلت: أما وهؤلاء جلساؤك فلا، قال: تكتب إلينا في حوائجك فنقضيها، قلت: والله ما كتبت إليك كتابا

قط. ثم قال لي سفيان: إن اقتصرت على خبزك وبقلك لم يستعبدك هؤلاء. عن حبان عن ابن المبارك قال: قيل لسفيان الثوري: لو دخلت عليهم؟ قال: إني أخشى أن يسألني الله عن مقامي ما قلت فيه، قيل له: تقول وتتحفظ، قال حبان: وبلغني أنه قال: ليس أخاف ضربهم لكني أخاف أن يميلوا علي بدنياهم، ثم لا أرى سيئتهم سيئة. وعن الوليد بن مسلم عن سفيان الثوري قال: لا يأمر السلطان بالمعروف إلا رجل عالم بما يأمر، عالم فيما ينهى، رفيق فيما يأمر، رفيق فيما ينهى، عدل فيما يأمر، عدل فيما ينهى.

وعن يوسف بن أسباط قال: سمعت سفيان الثوري يقول: إذا رأيت القارئ يلوذ بباب السلطان فاعلم أنه لص فإذا رأيته يلوذ بالأغنياء فاعلم أنه مرئي. وعن عبد الرحمن بن مهدي قال: سمعت سفيان الثوري يقول: طلبت أيم المهدي فهربت فأتيت اليمن فكنت في حي وآوي إلى مسجدهم فسرق في ذلك حي فاتهموني، فأتو بي معن بن زائد – وكان قد كتب له طلبي – فقيل له: إن هذا قد سرق منا، فقال: لم سرقت متاعهم؟ فقلت: ما سرقت شيئا، فقال لهم تنحوا لأسأله ثم أقبل علي فقال: ما اسمك؟ قلت: عبد الله بن عبد الرحمن قال: يا عبد الله بن عبد الرحمن نشدتك بالله لما نسبت لي نسبك، قلت: الثوري؟ قلت الثوري قال أنت بغير أمير المؤمنين؟ قلت: أجل، فأطرق ساعة ثم قال: ما شئت فأقم، وارحل

متى شئت فوالله لو كنت تحت قدمي ما رفعتها. عن المفضل بن المهلهل قال: خرجت حاجا مع سفيان فلما صرنا إلى مكة وافينا الأوزاعي بها فاجتمعنا أنا والأوزاعي وسفيان في دار قال وكان على الموسم عبد الصمد بن علي الهاشمي فدق الباب فقلنا من هذا؟ قال: الأمير، فقام سفيان فدخل المخدع وقام الأوزاعي قال: حياك الله بالسلام، أما إن كتبك كانت تأتينا فكنا نقضي حوائجك ما فعل سفيان؟ قال: قلت: دخل المخدع فدخل الأوزاعي في إثره فقال: إن هذا الرجل ما قصد إلا قصدك، فخرج سفيان مغضبا فقال: سلام عليكم كيف أنتم؟ فقال له عبد الصمد: أتيتك أكتب هذه المناسك عنك، فقال له سفيان: أولا أدلك على ما هو أنفع لك منها؟ قال: وما هو؟ قال: تدع ما أنت فيه، فقال: وكيف اصنع بأمير المؤمنين أبي جعفر؟ قال: إن أردت الله كفاك أبا جعفر،

فقال له الأوزاعي: يا أبا عبد الله إن هؤلاء ليس يرضون منك إلا بإعظام لهم، فقال له: يا أبا عمر إنا لسنا نقدر أن نضر بهم وإنما نؤدبهم بمثل هذا الذي ترى فقال: قم بنا من هاهنا، فإني لا آمن هذا يبعث من يضع في رقابنا حبالا وإن هذا لا يبالي. عن يحيى بن سليم الطائفي: بعث محمد بن إبراهيم الهاشمي إلى سفيان الثوري بمائتي دينار فأبى أن يقبلها، فقلت: يا أبا عبد الله كأنك لا تراها حلالا، قال: بلى، ما كان آبائي وأجدادي إلا في العطية، ولكن أكره أن أذل لهم. وعن عطاء بن مسلم قال: لما استخلف المهدي بعث على الى سفيان، فلما دخل خلع خاتمه فرمى به إليه فقال: يا أبا عبد الله هذا خاتمي فاعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة فأخذ الخاتم بيده، وقال: تأذن في الكلام يا أمير المؤمنين؟

قال: نعم، قال: أتكلم على أني آمن؟ قال: نعم، قال: لا تبعث إلي حتى آتيك ولا تعطيني شيئا حتى أسألك قال: فغضب من ذلك وهم به، فقال له كاتبه: أليس قد أمنته يا أمير المؤمنين؟ قال: بلى. فلما خرج حف به أصحابه فقالوا: ما منعك يا أبا عبد الله وقد أمرك أن تعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة؟ قال: فاستصغر عقولهم ثم خرج هاربا إلى البصرة. وعن خلف بن تميم الكوفي قال: قال الثوري: إن الرجل ليستعير من السلاطين الدابة والسرج أو اللجام فيتغير قله لهم. وأختم هذه الفقرة بقول الحافظ الذهبي: وكان سفيان ينكر على الملوك، ولا يرى الخروج أصلا.

قال أبو بكر الخطيب البغدادي: ذكر أخبار ربما أشكلت على سامعيها وبيان الإشكال الواقع في وجوهها ومعانيها

قال أبو بكر الخطيب البغدادي: ذكر أخبار ربما أشكلت على سامعيها وبيان الإشكال الواقع في وجوهها ومعانيها قال أبو بكر الخطيب البغدادي: "ذكر أخبار ربما أشكلت على سامعيها وبيان الإشكال الواقع في وجوهها ومعانيها ". أورد رحمه الله هذا العنوان في آخر كتابه "شرف أصحاب الحديث" 1 وذكر فيه جملة من الأخبار، رُويت عن الأئمة: المغيرة بن مقسم الضبي (ت 130 هـ)، وسليمان بن مهران الأعمش (ت 148 هـ)، وشعبة (ت 160 هـ)، وسفيان الثوري (ت 161 هـ)، والإمام مالك (ت 179 هـ)، وعبد الله بن إدريس (ت 192 هـ)، وأبي بكر بن عياش (ت 193 هـ)، وسفيان بن عيينة (ت 198 هـ) وغيرهم. وكل هذه الأخبار تؤول إلى التحذير من الغرائب والشواذ من الأحاديث وذم المشتغلين بها، وجلهم من أحداث الأسنان من طلبة العلم الذين شغفوا بحب الغرائب والشواذ وتكثير الطرق، وأقتصر هنا على ما أورده عن الإمام

_ 1انظر: (ص: 112 - 140).

سفيان الثوري وأجوبته عن إشكلاتها فمن ذلك: 1 - ما ذكره بسنده إلى علي بن قادم قال: سمعت سفيان الثوري يقول: "لوددت أني لم أكن دخلت في شيء -يعني الحديث-، ولوددت أني أفلت منه لا عليَّ ولا ليَّ". 2 - وبسنده إلى محمد بن بشر: سمعت سفيان الثوري يقول: "ليتني أنجو منه كفافاً - يعني الحديث -". قال أبو بكر الخطيب رحمه الله: "إنما قال سفيان هذا خوفاً على نفسه أن لا يكون قام بحق الحديث والعمل به فخشي أن يكون ذلك حجة عليه". 1 3 - وعن عبد الرحيم بن مصعب قال: سمعت سفيان الثوري يقول: "من يزدد علماً يزدد وجعاً، ولو لم أعلم لكان أيسر لحزني". 4 - وعن المعافي بن عمران قال: سمعت سفيان بن سعيد الثوري يقول: "وددت أن كل حديث في صدري، وكل

_ 1شرف أصحاب الحديث (ص: 116 - 117).

حديث حفظه الرجال عني، نسخ من صدري وصدورهم، فقلت: يا أبا عبد الله ذا العلم الصحيح، وذا السنة الواضحة التي قد بينتها، تمنى أن تنسخ من صدرك وصدور الرجال قال: اسكت، وما يدريك ألست أريد أن أقف يوم القيامة حتى أسأل عن كل مجلس جلسته، وعن كل حديث حدثته، إيش أردت به". قال الخطيب: "فقد بين سفيان في هذا الحديث المعنى الذي لأجله خاف على نفسه، وقد قيل: إنما خاف سفيان على نفسه من الحديث وتمنى أنه لم يكن دخل فيه، لأن حب الإسناد وشهوة الرواية غلب على قلبه حتى كان يحدث عن الضعفاء، ومن لا يحتج بروايته، فمن اشتهر باسمه ذكر كنيته تدليساً للرواية عنه، فخاف على نفسه من هذا الفعل، وقد كره التدليس والرواية عن الضعفاء جماعة من أئمة العلماء". 1

_ 1المصدر نفسه (ص: 118 - 119).

5 - قال يحيى بن سعيد: "كان سفيان الثوري قد غلب عليه شهوة الحديث". 6 - وقال أيضاً: "ما أخاف على سفيان شيئاً إلا حبه للحديث". 1 7 - وعن عبد الرحمن بن مهدي قال: "كنا نكون عند سفيان كأنه قد وافق الحساب، فلا نجترئ أن نكلمه، فنعرض بذكر الحديث قال: فيذهب ذلك الخشوع، فإنما هو حدثنا وحدثنا". 8 - وعن يحيى بن يمان قال: سمعت سفيان يقول: "فتنة الحديث أشد من فتنة الذهب والفضة". 2 9 - قال الحسن بن الربيع البهراني: قال سفيان: "احذركم ونفسي الشهوة الخفية، وإنها لفي قولي لكم: لا

_ 1قال الذهبي: "حب ذات الحديث والعمل به مطلوب من زاد المعاد، وحب روايته وعواليه والتكثر بمعرفته مذموم مخوف، فهو الذي خاف منه سفيان والقطان وأهل المراقبة، فإن كثيراً من ذلك وبال على المحدث" (سير أعلام النبلاء 7/ 255). 2انظر هذه النصوص في: شرف أصحاب الحديث (ص: 120).

تأتوني، ولو لم تأتوني لأتيتكم، ولو لم أحدثكم لحدثت الجدْران". 1 10 - وعن محمد بن بشر قال: سمعت سفيان يقول: "لو كان هذا من الخير لنقص كما ينقص الخير - يعني الحديث -". 11 - وعن خلف بن خليفة سمعت سفيان بن سعيد يقول: "أرى كل شيء من أنواع الخير ينقص، وهذا الحديث إلى زيادة، فأظن أنه لو كان من أسباب الخير لنقص أيضاً". 2 قال الخطيب: "عنى الثوري بكلامه الذي تقدم ذكره: غرائب الأحاديث ومناكيرها دون معروفها ومشهورها، لأن الأخبار الشاذة والأحاديث المنكرة أكثر من أن تحصى، فرأى الثوري أن لا خير فيها، إذ رواية الثقات بخلافها وعمل الفقهاء ضدها، وقد ورد عن جماعة من العلماء سوى الثوري

_ 1شرف أصحاب الحديث (ص: 105). 2انظر: هذين النصين في شرف أصحاب الحديث (ص: 123).

كراهة الاشتغال بها، وذهاب الأوقات في طلبها". 1 قال أبو بكر الخطيب: "وليس يجوز الظن أنه قصد بقوله الذي ذكرناه صحاح الأحاديث ومعروف السنن وكيف يجوز ذلك وهو القائل: "أكثروا من الأحاديث فإنها سلاح". وقوله: "ينبغي للرجل أن يكره ولده على طلب الحديث، فإنه مسؤول عنه". وقال أيضاً: "ما أعلم شيئاً يطلب به الله عز وجل هو أفضل من الحديث، فقال له إنسان: إنهم يطلبونه بغير نية قال: طلبهم له نية". وقال أيضاً: "لا نعلم شيئاً من الأعمال أفضل من طلب العلم والحديث لمن حسنت فيه نيته". 2 اهـ

_ 1شرف أصحاب الحديث (ص: 125 - 126). وقد أورد أقوال جملة من العلماء في كراهة مثل هذه الأحاديث، منهم إبراهيم النخعي وأبو يوسف وأحمد بن حنبل وغيرهم. 2شرف أصحاب الحديث (ص: 126 - 127).

وقال الخطيب - أيضاً -: تعقيباً على قول عبد الله بن إدريس "الإكثار من الحديث جنون". وقول مالك: "ما أكثر أحد من الحديث فأنجح" -: "وهذا الكلام كله قريب من كلام الثوري في ذم شواذ الحديث، والمعنى فيهما سواء، إنما كره مالك وابن إدريس وغيرهما الإكثار من طلب الأسانيد الغريبة والطرق المستنكرة كأسانيد: حديث الطائر، وطرق حديث المغفر، وغسل الجمعة، وقبض العلم، وإن أهل الدرجات، ومن كذب علي، ولا نكاح إلا بولي، وغير ذلك، مما يتتبع أصحاب الحديث طرقه ويعنون بجمعه، والصحيح من طرقه أقلها، وأكثر من يجمع ذلك الأحداث منهم فيتحفظونها ويذاكرون بها، ولعل أحدهم لا يعرف من الصحاح حديثاً، وتراه يذكر من الطرق الغريبة والأسانيد العجيبة التي أكثرها موضوع وجلها مصنوع مما لا ينتفع به، وقد أذهب من عمره جزءاً في طلبه، وهذه العلة هي التي اقتطعت أكثر من في عصرنا من طلبة الحديث عن التفقه به، واستنباط ما فيه من الأحكام، وقد فعل متفقهة زماننا كفعلهم، وسلكوا في ذلك سبيلهم ورغبوا عن سماع

السنن من المحدثين، وشغلوا أنفسهم بتصانيف المتكلمين، فكلا الطائفتين ضيع ما يعنيه، وأقبل على ما لا فائدة له فيه". 1

_ 1المصدر نفسه (ص: 128 - 130).

الخاتمة

الخاتمة: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وبعد: فهذه أهم النتائج التي يمكن استخلاصها من هذا البحث: 1 - إن حياة الأئمة الأعلام من سلف هذه الأمَّة هي الأنموذج العملي والتطبيق الفعلي لتعاليم الإسلام وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الهدى والنور. 2 - إنَّ سلف هذه الأمَّة كانوا وقَّافين عند حدود الله، وكانوا هم أسمى قدوة في الزهد والورع والخشية لله. 3 - إنهم كانوا يجرون في هديهم في العلم والعمل والعبادة والاعتقاد على منهاجٍ واضحٍ منضبطٍ ثابت مستقر، فحماهم الله بذلك المنهاج والثبات عليه من التناقض والتنازع والتقلُّب والاختلاف. 4 - إن السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ تلقَّوا هذا الدين والعمل به من كتاب الله عز وجل وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يتجاوزوهما، ولم يعارضوهما بقياسٍ أو عقلٍ أو هوى، فأورثهم ذلك: الاتفاق والائتلاف والثبات والاستقرار، في حين ضل أصحاب البدع والأهواء

الثبات والاستقرار، في حين ضل أصحاب البدع والأهواء معارضتهم للكتاب والسنَّة بعقولهم وأهوائهم فأُورثوا: التنازع والاختلاف والتناقض والاضطراب. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

§1/1