صفة جزيرة الأندلس

الحميري، ابن عبد المنعم

مقدمة كتاب الروض المعطار

مقدمة كتاب الروض المعطار قال أبو عبد الله محمد بن أبي محمد عبد الله بن المنعم الحميري: الحمد لله الذي جعل الأرض قرارا، وفجر خلالها أنهارا، وجعل لها رواسي ألزمتها استقرارا، ومنعتها اضطراباً وانتثارا، جعلها قسمين فيافى وبحارا، وأودع فيها من بدائع الحكم وفنون المنافع ما بهر ظهوراً وانتشارا، وأطلع في آفاقها شموساً وأقمارا؛ جعلها ذلولا، وأوسعها عرضاً وطولا، وأمتع بها شيباً وشباباً وكهولا، وعاقب عليها غيوثاً وقبولا، وأغرى بالمشي في مناكبها تسويغاً للنعمة الطولى، وتتميماً لإحسانه الذي نرجوه في الآخرة والألى، وإن في ذلك لعبرةً لمن صار له قلب وسمع وبصر وفهم منقولاً ومعقولا، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا؛ أحمده على جزائل آلائه التي وإلى أمدادها، وأحصى أعدادها، وعم بها البرية وبلادها؛ وصلى الله على نبيه الكريم الذي زويت له الأرض فرأى غايتها، وأبصر نهايتها؛ وأخبر أن ملك أمته سيبلغ ما رآه، وينتهي إلى حيث قدره الخالق وأنهاه. وبعد فإني قصدت في هذا المجموع ذكر المواضع المشهورة عند الناس من العربية والعجمية، والأصقاع التي تعلقت بها قصة، أو كان في ذكرها فائدة، أو كلام فيه حكمة، أولها خبر ظريف، أو معنى يستملح أو يستغرب ويحسن إيراده، أما ما كان غريباً عند الناس، ولم يتعلق بذكره فائدة، ولا له خبر يحسن إيراده، فلا ألم بذكره، ولا أتعرض له غالباً استغناء عنه واستثقالاً لذكره؛ ولو ذهبت إلى إيراد المواضع والبقاع على

الاستقصاء لطال الكتاب، وقل إمتاعه؛ فقتصرت لذلك على المشهور من البقاع وما في ذكره فائدة ونكتفى عما سوى ذلك، ورتبته على حروف المعجم لما في ذلك من الإحماض المرغوب فيه، ولما فيه من سرعة هجوم الطالب على اسم الموضع الخاص من غير تكلف عناء ولا تجشم تعبٍ؛ فقد صار هذا الكتاب محتوياً على فنين مختلفين: أحدهما ذكر الأقطار الجهات، وما اشتملت عليه من النعوت والصفات؛ وثانيها الأخبار والوقائع والمعاني المختلفة بها، الصادرة عن مجتليها؛ واختلست ذلك ساعات زماني، وجعلته فكاهة نفسي؛ وأنصبت فيه بفكري وبدني؛ ورضته حتى انقاد للعمل، وجاء حسب الأصل، فأصبح طارداً للهموم، ملقيا للغموم، وشاهداً بقدرة القيوم؛ مغنيا عن مؤانسة الصحب، منبها على حكمة الرب؛ باعثاً على الاعتبار، مستحضراً لخصائص الأقطار؛ مشيراً لآثار الأمم وأحداثها، مشيراً إلى وقائع الأخباز وأنبائها؛ ثم إني قسته بالكتاب الأخبارى المسمى بنزهة المشتاق فوجدته أعظم فائدةً وأكثر أخباراً وأوسع في فنون التواريخ وصنوف الأحداث مجالاً حتى في وصف البلاد فإنه إنما ذكر نبذة منها شيئاً قليلاً في مواضع مخصوصةٍ معدودة، بل إنما عظم حجمه بما اشتمل عليه من قوله: من فلانة إلى فلانة خمسون ميلاً أو عشرون فرسخاً، ومن فلانة إلى فلانة كذا وكذا، أما الخبر عن الأصقاع مما يحسن إيراده، ويلذ سماعه، من خبرٍ ظريف، أو وصفٍ يستغرب أو يستملح، فإنما يوجد فيه في مواضع قليلةٍ معدودةٍ، إلى غير ذلك من عسر وجدان الناظر فيه بمطلوبه بأول وهلةٍ بل بعد البحث والتفتيش. وجعلت الإيجاز في هذا الكتاب قصدى، وحرصت على الاختصار جهدي؛

حتى جاء نسيج وحده ميليحاً في فنه، غريباً في معناه، مبهجاً للنفوس المتشوقة، ومذهباً للأفكار المحرقة؛ مؤنسا لمن استولى عليه الانفراد ورغب عن معاشرة الناس، ومع هذا فقد لمت نفسي على التشاغل بهذا الوضع الصاد عن الاشتغال بما لا يغنى عن أمر الآخرة والمهم عن العلم المزلف عند الله تعالى وقلت: هذا من شأن البطالين وشغل من لا يهمه وقته، ثم رأيت ذلك من قبيل ما فيه ترويح لهذه النفوس، ومن حسن تعليلها بالمباح لمن ينشط إلى ما هي به أعنى؛ ثم هو مهيع يسلكه الناس، واعتنى به طائفة من العلماء، وقيده جماعة من أهل التحصيل؛ فلا حرج في الاقتداء بهم بل أقول: أعوذ بالله من علمٍ لا ينفع، وأستغفره وأستقيله، واسأله التجاوز عن الهفوات، والصفح عن الاشتغال بما لا يفيد في الآخرة، فيا رب عفواً عن اقتراف ما لا رضى لك فيه فأنت على كل شيء قدير؟!

حرف الألف

حرف الألف الأندلس هذه الجزيرة في آخر الإقليم الرابع إلى المغرب، هذا قول الرازي، وقال صاعد ابن أحمد في تأليفه في طبقات الحكماء: معظم الأندلس في الإقليم الخامس وجانب منها في الرابع كإشبيلية ومالقة وقرطبة وغرناطة والمرية ومرسية. واسم الأندلس في اللغة اليونانية إشبانيا، والأندلس بقعة كريمتة طيبة كثيرة الفواكه، والخيرات فيها دائمة، وبها المدن الكثيرة والقواعد العظيمة، وفيها معادن الذهب والفضة والنحاس والرصاص والزيبق واللازورد والشب والتوتيا والزاج والطفل. والأندلس آخر المعمور في المغرب لأنها متصلة ببحر أقيانس الأعظم الذي لا عمارة وراءه، ويقال: إن أول من اختط الأندلس بنو طوبال بن يافت بن نوح، سكنوا الأندلس في أول الزمان، وملوكهم مائة وخمسون ملكاً، ويقال إن الأندلس خربت وأقفرت وانجلى عنها أهلها لمحلٍ أصابهم فبقيت خالية مائة سنةٍ، ثم وقع ببلاد إفريقية محل شديد ومجاعة عظيمة فرقت أهلها، فلما رأى ملك إفريقية ما وقع ببلاده اتخذ مراكب وشحنها بالرجال، وقدم عليهم رجلاً من إفريقية ووجههم، فرمى بهم البحر إلى حائط إفرنجة وهم يومئذ مجوس، فوجههم صاحب إفرنجة إلى الأندلس.

وقيل اسمها في القديم: إبارية، ثم سميت بعد ذلك: باطقة، ثم سميت: إشبانيا من اسم رجل ملكها في القديم كان اسمه إشبان، وقيل سميت بالإشبان الذين سكنوها في الأول من الزمان، وسميت بعد ذلك بالأندلس من أسماء الأندليش الذين سكنوها. وسميت جزيرة الأندلس بجزيرة لأنها شكل مثلث وتضيق من ناحية شرق الأندلس حتى تكون بين البحر الشأمى والبحر المظلم المحيط بالأندلس خمسة أيام، ورأسها العريض نحو من سبعة عشر يوماً، وهذا الرأس هو في أقصى المغرب في نهاية انتهاء المعمور من الأرض محصور في البحر المظلم، ولا يعلم أحد ما خلف هذا البحر المظلم، ولا وقف منه بشر على خبرٍ صحيحٍ لصعوبة عبوره وإظلامه، وتعاظم موجه وكثرة أهواله، وتسلط دوابه وهيجان رياحه، حسبما يرد ذلك في موضعه اللائق به إن شاء الله تعالى، وبلاد الأندلس مثلث الشكل كما قلناه. ويحيط بها البحر من جميع جهاتها الثلاث؛ فجنوبيها يحيط به البحر الشأمى، وجوفيها يحيط به البحر المظلم، وشماليها يحيط به بحر الأنقليشيين من الروم، وطول الأندلس من كنيسة الغراب التي على البحر المظلم إلى الجبل المسمى بهيكل الزهرة ألف ميل ومائة ميلٍ، وعرضها ستمائة ميلٍ. والأندلس أقاليم عدة ورساتيق جملة، وفي كل إقليم منها عدة مدنٍ، والركن الواحد من أركانها الثلاثة هو الموضع الذي فيه صنم قادس بين المغرب والقبلة، والركن الثاني شرقي الأندلس بين مدينة نربونة ومدينة برذيل بإزاء جزيرتي ميورقة

ومنورقة، والركن الثالث حيث يتعطف البحر من الجوف إلى المغرب حيث المنارة في الجبل الموفى على البحر، وفيه الصنم العالي المشبه بصنم قادس، وهو في البلد الطالع على بلد برطانية. والأندلس شأمية في طيبها وهوائها، يمانية في اعتدالها واستوائها، هندية في عطرها وذكائها، أهوازية في عظم جبايتها، صينية في جواهر معادنها، عدنية في منافع سواحلها؛ وفيها آثار عظيمة لليونانيين أهل الحكمة وحاملي الفلسفة، وكان من ملوكهم الذين أثروا الآثار بالأندلس هرقلش، وله الأثر في الصنم بجزيرة قادس، وصنم جليقية، والأثر في مدينة طر كونه الذي لا نظير له. وفي غربي شنترين على مقدار خمسين ميلا فيما بين أشبونة وشنترة، في جبلٍ هناك كان حصناً فيما مضى، يوجد الحجر اليهودي، وهو على شكل البلوط سواء، ومن خاصيته تفتيت الحصى التي تكون في المثانة والكلية ويقع في الأكحال، وفي جوفي بطليوس على قدر أربعين ميلاً معدن المهى. والأندلس دار جهاد وموطن رباط، وقد أحاط بشرقيها وشماليها وبعض غربيها أصناف أهل الكفر؛ وروى عن عثمان رضي الله عنه أنه كتب إلى من انتدب إلى غزو الأندلس: أما بعد فإن القسطنطينية إنما تفتح من قبل الأندلس، وإنكم إن فتحتموها كنتم شركاء من يفتحها في الأخير والسلام؛ وعن كعب الأحبار أنه قال: يعبر البحر إلى الأندلس أقوام يفتحونها يعرفون بنورهم يوم القيامة. ودخل الأندلس رجل واحد من أصحاب النبي " - صلى الله عليه وسلم - "، قال عبد الملك بن حبيب: اسمه المنذر الإفريقي، وإنه

يروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: من قال رضيت بالله ربا إلى آخرها فأنا الزعيم لآخذن بيده وأدخله الجنة! ودخلها من التابعين حنش بن عبد الله الصنعاني وهو الذي أسس جامع سرقسطة وكان مع علىٍ " رضه " بالكوفة، فلما قتل على " رضه " انتقل إلى مصر وقبره بسر قسطة معروف، ومنهم على بن رباح اللخمى، وعمرو بن العاصي، وعلقمة بن عامر، وأبو عبد الرحمن عبد الله الجبلي الأنصار، وعياض بن عقبة الفهرى، وموسى بن نصير، يقال بكرى ويقال لخمى؛ ويقال إن نصيرا من سبى عين التمر أعتقه صبيح مولى أبي العاص بن أمية، يقال أصابه خالد في علوج عين التمر وادعوا أنهم من بكر بن وائلٍ، فصار نصير وصيفاً لعبد العزيز بن مروان وأعتقه فمن أجل هبذا يختلف في نسبه؛ وعقد الوليد لموسى على إفريقية سنة83، وكان مولد موسى سنة19 في خلافة عمر " رضه "، وكان معاوية " رضه " قد جعل نصيراً أبا موسى على حرسه، فلم يقاتل معه عليا " رضه "، فقال له معاوية " رضه ": ما منعك من الخروج على علي ولم تكاف يدي عليك؟ فقال: لم يمكنني أن أشكرك بكفر من هو أولى بشكرى منك، فقال: ومن هو؟ قال: الله عز وجل! ومسافة ما يملكه المسلمون من الأندلس ثلاثمائة فرسخٍ طولاً في ثمانين فرسخاً عرضاً؛ والذي يملك منها النصارى مثل ما يملكه المسلمون أو نيفا، ثم حدث فيها من تغلب الثوار ما أضاع ثغورهم وأذهب أكثر بلادهم، ولم يبق من ذلك إلا الأقل. وبها الجبال المشهورة والحمامات الكثيرة. قال الرازي: أول من سكن الأندلس بعد الطوفان على ما يذكره علماء عجمها قوم يعرفون بالأندلس بشين معجمة بهم سمى البلد ثم عرب، وكانوا أهل تمجسٍ

فحبس الله تعالى عنهم المطر حتى غارت عيونها ويبست أنهارها، فهلك أكثرهم وفر من قدر على الفرار منهم فأقفرت الأندلس وبقيت خالية مائة عامٍ، وملكها إشبان ابن طيطش، وهو الذي غزا الأفارقة وحاصر ملكهم بطالقة، ونقل رخامها إلى إشبيلية وبه سميت، فاتخذها دار مملكته وكثرت جموعه فعلا في الأرض وغزا من إشبيلية إيلياء بعد سنتين من ملكه، خرج إليها في السفن وهدمها، وقتل من اليهود مائة ألفٍ واسترق مائة ألفٍ، وفرق في البلاد مائة ألف، وانتقل رخام إيلياء وآلاتها إلى الأندلس؛ والغرائب التي أصيبت في مغانم الأندلس كمائدة سليمان التي ألفاها طارق ابن زياد بكنيسة طليطلة، وقليلة الدر التي ألفاها موسى بن نصير بكنيسة ماردة، وغيرهما من الذخائر، إنما كانت مما حازه صاحب الأندلس من غنيمة بيت المقدس إذ حضر فتحها مع بخت نصر. وذكروا أن الخضر وقف بإشبان هذا وهو يحرث الأرض بفدانٍ له أيام حداثته فقال: يا إشبان، إنك لذو شأنٍ، وسوف يحظيك زمان، ويعلي سلطان، فإذا أنت تغلبت على إيلياء فارفق بورثة الأنبياء! فقال له إشبان: أساحر أنت رحمك الله أني يكون هذا، وأنا ضعيف مهين حقير؟ فقال: قدر ذلك من قدر في عصاك اليابسة ما تراه! فنظر إشبان إلى عصاه فرآها قد أورقت، فريع لما رأى وذهب الخضر عنه؛ وقد وقر ذلك الكلام في نفسه والثقة بكونه، فترك الامتهان وداخل الناس، وصحب أجل الناس وسما به جده فارتقى في طلب السلطان حتى نال منه عظيما، وكان ملكه عشرين سنة، واتصلت مملكة

الإشبان بعده إلى أن ملك منهم الأندلس خمسة وخمسون ملكاً، ثم دخل عليهم من عجم رومة أمة أخرى تعرف بالشبونقات، وذلك زمان مبعث المسيح عليه السلام، فملكوا الأندلس وإفرنجة معها واتخذوا دار مملكتهم مدينة ماردة واتصلت مملكتهم إلى أن ملك منهم أربعة وعشرون ملكاً، ويقال إن منهم كان ذو القرنين. ثم دخل على هؤلاء الشبونقات أمة القوط فغلبوا على الأندلس واقتطعوها من يؤمئذٍ عن صاحب رومة وانفردوا بسلطانهم واتخذوا مدينة طليطلة دار سلطانهم؛ ودخشوش ملك القوط هو أول من تنصر من هؤلاء، فدعا الحواريين ودعا قومه إلى النصرانية، وكان أعدل ملوكهم وأحسنهم سيرةً، وهو الذي أصل النصرانية؛ والإنجيلات أو المصاحف الأربعة من انتساخه وجمعه وتثقيفه؛ فتنافست ملوك القوط بالأندلس بعده حتى غلبهم عليها العرب؛ وعدد من ملك منهم إلى آخرهم وهو لذريق ستة وثلاثون ملكاً. والذريق لم يكن من أبناء الملوك ولا بصحيح النسب في القوط، وإنما نال الملك من طريق الغصب والتسور عندما مات غيطشة الملك وكان أثيراً لديه فاستصغر أولاده واستمال طائفةً من الرجال مالوا إليه فانترع الملك من ولد غيطشة، وغيطشة آخر ملوك القوط بالأندلس، ولى سنة77 من الهجرة فملك خمسة عشرة سنة. وكانت طليطلة دار المملكة بالأندلس حينئذٍ، وكان بها بيت مغلق متحامى الفتح يلزمه من ثقات القوط قوم قدو كلوا به لئلا يفتح، قد عهد الأول في ذلك إلى الآخر، كلما ملك منهم ملك زاد على البيت قفلاً، فلما ولى لذريق عزم على فتح الباب

والاطلاع على ما في البيت، فأعظم ذلك أكابرهم، وتضرعوا إليه في الكف فأبى، وظن أنه بيت مالٍ، ففض الأقفال عنه ودخله فأصابه فارغاً لا شيء فيه إلا تابوتاً عليه قفل، فأمر بفتحه فألفاه أيضاً فارغاً ليس فيه إلا شقة مدرجة قد صورت فيها صور العرب على الخيول وعليهم العمائم، متقلدي السيوف، متنكبى القسى، رافعى الرايات على الرماح، وفي أعلاها كتابة بالعجمية فقرئت فإذا هي: إذا كسرت هذه الأقفال من هذا البيت وفتح هذا التابوت فظهر ما فيه من هذه الصور فإن الأمة المصورة فيه تغلب على الأندلس وتملكها، فوجم لذريق وعظم غمه وغم العجم وأمر برد الأقفال وإقرار الحراس على حالهم. وكان من سير الأعاجم بالأندلس أن يبعث أكابرهم إلى بساط الملك ليتأدبوا بأدبه، وينالوا من كراماته، حتى إذا بلغوا أنكح بعضهم بعضا استئلافاً لآبائهم، وحمل صدقاتهم وتولى تجهيز إناثهم إلى أزواجهن؛ فاتفق أن فعل ذلك يليان عامل لذريق على سبتة، وجه ابنةً له بارعة الجمال تكرم عليه، فوقعت عين لذريق عليها فأعجبته فاستكرهها على نفسها واحتالت حتى أعلمت أباها بذلك سراً بمكاتبةٍ خفيةٍ، فأحفظه شأنها وقال: ودين المسيح لأزيلن سلطانه! وكان امتعاضه من فاحشة ابنته السبب لفتح الأندلس بالذي سبق من قدر الله سبحانه؛ ثم إن يليان ركب بحر الزقاق من سبتة في أصعب الأوقات في شهر ينير، وأقبل حتى احتل بطليطلة حضرة لذريق، فأنكر عليه مجيئه في ذلك الوقت وسأله عن السبب في ذلك، فذكر له أن زوجته اشتد شوقها إلى ابنتها التي عنده، وتمنت لقاءها قبل الموت، وألحت عليه في إحضارها،

وأحب إسعافها بها، وسأل الملك إخراجها إليه وتعجيل إطلاقه للمبادرة بها؛ ففعل وأجاز الجارية، وتوثق منها بالكتمان عليه، وأفضل عليها وعلى أبيها وانقلب عنه. وذكر أنه لما دخل عليه قال له لذريق: إذا أنت قدمت علينا فاستفره لنا من الشذانقات! فقال له: أيها الملك، والمسيح لأدخلن عليك شذانقات ما دخل عليك بمثلها قط! يعرض له بما أضمره من السعي في إدخال رجال العرب الأندلس عليه، وهو لا يفطن؛ فلم يتنهنه يليان إذ وصل سبته أن تهيأ للمسير نحو موسى بن نصير، فأتاه بإفريقية، فحرضه على غزو الأندلس ووصف له حسنها وفوائدها وفضلها، وهون عليه حال رجالها، فعاقده موسى على الانحراف إلى المسلمين وسامه مكاشفة أهل ملته من أهل الأندلس، ففعل يليان ذلك وحل بساحل الجزيرة الخضراء، فقتل وسبى وغنم وأقام بها أياماً يشن الغارات، وشاع الخبر عند المسلمين، فآنسوا بيليان، وذلك عقب سنة90. وكتب موسى بن نصير إلى الوليد يعلمه بما دعاه إليه يليان ويستأذنه في افتتاح الأندلس، فكتب إليه الوليد أن خضها بالسرايا حتى تختبر شأنها ولا تغرر بالمسلمين في بحرٍ شديد الأهوال، فراجعه أنه ليس ببحراٍ وإنما هو خليج يتبين للناظر ما وراءه، فكتب إليه: وإن كان فلا بد من اختباره بالسرايا! فبعث موسى عند ذلك رجلاً من مواليه من البربر اسمه طريف بن ملوك المعافى يكنى أبا زرع في أربعمائة رجلٍ فعبر بهم ونزل في الجزيرة المنسوبة إليه؛ ثم أغار على الجزيرة الخضراء ونواحيها فأصاب سبياً لم ير موسى فميا أصابه مثله حسناً، وأصاب مالاً جسيماً وأمتعة، وذلك في شهر رمضان من سنة91

فلما رأى ذلك الناس أسرعوا إلى الدخول، فدعا موسى مولىً له كان على مقدماته يسمى طارق بن زياد، قيل هو فارسي وقيل هو من الصدف وقيل ليس بمولى، وقيل هو بربري من نفزه، فعقد له وبعثه في سبعة آلاف من البربر والموالى، ليس فيهم عربي إلا القليل. فهيأ له يليان المراكب وحل بجبل طارق يوم سبت في شعبان من سنة92، وهو من شهور العجم شهر أغشت، وقيل في رجب من السنة، في اثنى عشر ألفاً غير ستة عشر رجلاً لم يكن فيهم من العرب إلا القليل. وأصاب طارق عجوزاً من أهل الجزيرة فقالت له: كان لي زوج عالم بالحدثان، وكان يحدث عن أميرٍ يدخل بلدنا هذا ويصفه ضخم الهامة وأنت كذلك! ومنها أن بكتفه الأيسر شامةً عليها شعر، فإن كانت بك هذه الشامة فأنت هو، فكشف طارق ثوبه فإذا بالشامة على كتفه كما ذكرت العجوز، فاستبشر بذلك هو ومن معه. وذكر عن طارق أنه كان نائماً في المركب فرأى في منامه النبي " - صلى الله عليه وسلم - " والخلفاء الأربعة يمشون على الماء حتى مروا به، فبشره النبي " - صلى الله عليه وسلم - " بالفتح وأمره بالرفق على المسلمين والوفاء بالعهد؛ وفي حكايةٍ إنه لما ركب البحر غلبته عيناه فرأى النبي " - صلى الله عليه وسلم - " وحوله المهاجرون والأنصار قد تقلدوا السيوف، وتنكبوا القسى، فيقول له النبي: يا طارق تقدم لشأنك! ونظر إليه وإلى أصحابه قد دخلوا الأندلس قدامه فهب من نومه مستبشراً وبشر أصحابه ولم يشك في الظفر، فنزل بالجبل شاناً للغارات في البسائط، ولذريق يومئذٍ غائب في غزاةٍ له، واتصل به الخبر فعظم عليه أمره، وفهم الخبر الذي أتى منه مع يليان، وأقبل مبادراً في جموعه حتى احتل بقرطبة أياماً والجنود تتوافى عليه،

أبال

وكان في وجهته ولى ششبوت بن الملك غيطشه ميمنته وأخاه ميسرته، وهما الولدان الذان سلبهما ملك أبيهما، فبعثا إلى طارق يسألانه الأمان إذا مالا إليه عند اللقاء بمن معهما، وعلى أن يسلم إليهما ضياع والدهما غيطشة إن ظفر، فأجابهما طارق إلى ذلك، وعاقدهما عليه؛ فلما التقى الجمعان انحاز هذان الغلامان إلى طارق، فكان ذلك سبب الفتح، وكان الطاغية لذريق في ستمائة ألف فارسٍ. وقد خرجت عن حكم الاختصار الذى التزمت في هذا الوضع فلنقتصر على هذا القدر، وأما ذكر بلاد الأندلس فتأتى في مواضعها اللائقة بها إن شاء الله تعالى. وافتتحت الأندلس في أيام الوليد بن عبد الملك، فكان فتحها من أعظم الفتوح الذاهبة بالصيت في ظهور الملة الحنيفية؛ وكان عمر بن عبد العزيز معتنياً بها، مهتماً بشأنها، وهو الذي قطعها عن نظر وإلى إفريقية وجرد لها عاملاً من قبله. أبال حصن بالأندلس في شمال قرطبة وعلى مرحلة منها، وهو الحصن الذي فيه معدن الزئبق. وفيه يعمل الزنجفور ومنه يتجهز بالزئبق والزنجفور إلى جميع أقطار الأرض، ويخدم هذا المعدن أكثر من ألف رجلٍ، فقوم للنزول وقطع الحجر، وقوم لنقل الحطب لحرق المعدن، وقوم لعمل أواني السبك والتصفية، وقوم لبنيان الأفران والحرق، ومن وجه الأرض إلى أسفله فيما حكى أكثر من مائة قامةٍ.

أبذة

أبذة مدينة بالأندلس. بينها وبينب بياسة سبعة أميال، وهي مدينة صغيرة وعلى مقربة من النهر الكبير، ولها مزارع وغلات، قمح وشعير، كثيرة جداً. وفي سنة 609 مالت عليها جموع النصرانية بعد كائنة العقاب، وكان أهلها قد أنفوا من إخلائها كما فعل جيرانها أهل بياسة، ولم ترفع تلك الجموع يداً عن قتالها حتى ملكتها بالسيف، وقتل فيها كثير، وأسروا كثيراً، ووقع على ما كان فيها بين أجناس النصارى خصام آل إلى الشحناء والافتراق، وكفى الله المسلمين بذلك شراً كثيراً، وكان بعضهم قد طلب أبذة فتنافسوا فيها ولم يأخذها أحد منهم وخربوا أسوارها. أبطير حصن بالأندلس بمقربة من بطليوس، من بناء محمد بن أبي بعامر من جليل الصخر، داخله عين ماء خرارة، وهو اليوم خالٍ. وعلى مقربة منه، بنحو ثلاث غلاءٍ، قبر في نشزٍ من الأرض قد نحت في حجرٍ وقد نضد عليه صفائح الحجارة، ويعرف بقبر الشهيد، ولا يعلم له وقت لقدمه، يرفع عنه بعض تلك الصفائح فيرى صحيح الجسم لم يتغير، نابت الشعر. أربونة مدينة هي آخر ما كان بأيدي المسلمين من مدن الأندلس وثغورها مما يلي بلاد

أرجونة

الإفرنجة، وقد خرجت من أيدي المسلمين سنة 330مع غيرها مما كان في أيدي المسلمين من المدن والحصون. أرجونة مدينة أو قلعة بالأندلس، إليها ينسب محمد بن يوسف بن الأحمر الارجوني من متأخرى سلاطين الأندلس. أرشذونة بالأندلس وهي قاعدة كورةٍ، ومنزل الولاة والعمال، وهي بقبلى قرطبة، تسقى أرضها وتطرد في نواحيها عيون غزار، وأنهار كبار، وهي برية بحرية، سهلها واسع وجبلها مانع، وسورها الآن مهدوم، ولها حصن فوق المدينة، ولها مدن كثيرة، وبها آثار قديمة، ومن مدنها مالقة، بينهما وعشرون ميلاً. أرغون هو اسم بلاد غرسية بن شانجه تشتمل على بلادٍ ومنازل وأعمالٍ. الأرك هو حصن منيع بمقربة من قلعة رباح أول حصون إذ فونش بالأندلس، وهناك كانت وقعة الأرك على صاحب قشتالة وجموع النصارى على يد المنصور يعقوب ابن يوسف بن عبد المؤمن بن علي ملك المغرب في سنة 591؛ وكان بلغ المنصور يعقوب

إستجة

أن صاحب قشتالة شن الغارات على بلاد المسلمين بالأندلس شرقاً وغرباً في يوم واحدٍ، وعم ذلك جهة إشبيلية ونواحيها، فامتعض من ذلك ثم تحرك من حضرته مراكش إلى الأندلس واستقر بإشبيلية فأعرض الجند وأعطى البركات، ثم نهض في الحادي عشر من جمادى الأخرى ووصل قرطبة فروح بها فالتقى الجمعان بجسر الأرك والتحم القتال فانهزم العدو وركبهم بالسيف من ضحى يوم الأربعاء تاسع شعبان إلى الزوال وانتهب محلة الروم وقتل منهم زهاء ثلاثين ألفاً، واستشهد من المسلمين دون الخمسمائة، وأفلت إذ فونش واجتاز على طليطلة لا يعرج على شئ في عشرين فارساً، وحصر المسلمون فلهم بحصن الأرك وكانوا خمسة آلاف فصالحوا بقدرهم من أسارى المسلمين. وسمعت من يحدث أن هذا الفتح كان اتفاقيا بسبب إحراز الروم بعض رايات المسلمين وذهابهم بها قائمةً منتصبةً وانبعاث حفائظ بعض القبائل لما عاينوا راية إخوانهم مقدمةً على العدو، وإذ ظنوا أن أصحابهم حملوا على العدو فأوغلوا وهم لا يعلمون الحال، وكيفما كان فهو فتح مبين ونصر مؤزر. ثم رجع المنصور إلى إشبيلية ظافراً فأقام مدة ثم غزا بلاد الجوف فحاصر ترجاله ونزل على بلنسية ففتحها عنوةً، وقبض على قائدها يومئذ مع مائة وخمسين من أعيان كفارها، ووجههم إلى خدمة بناء الجامع الكبير بسلا مع أسارى الأرك، ثم انتقل إلى طلبيرة ومكادة فخربهما، ثم برز على طليطلة فشن عليها الغارات، ثم نازل مجريط وشرع في القفول، فأخذ على جيان إلى قرطبة إلى إستجة إلى قرمونة، ووصل إلى إشبيلية في رمضان.

أركش

أركش حصن بالأندلس على وادي لكه وهو مدينة أزلية قد خربت مراراً وعمرت، وعندها زيتون كثير. أرنيط مدينة بالأندلس أولية بينها وبين تطيلة ثلاثون ميلاً، وحواليها بطاح طيبة المزارع، وهي قلعة عظيمة منيعة من أجل القلاع، وفيها بئر عذبة لا تنزح، قد أنبطت في الحجر الصلد؛ وهذه القلعة مطلة على أرض العدو، وبينها وبين تطيلة ثلاثون ميلاً. إستجة بين القبلة والغرب من قرطبة بينهما مرحلة كاملة، وهي مدينة قديمة لم يزل أهلها في جاهليةٍ وإسلامٍ على انحرافٍ وخروج عن الطاعة. ومعنى هذا الاسم عندهم جمعت الفوائد؛ وفي أخبار الحدثان إنه كان يقال: إستجة البغي، مذكورة باللعنة والخزى، ويذهب خيارها، ويبقى شرارها. وكانت هيئتها التي ألفاها عليها طارق بن زياد أن سورها كان قد عقد بسورين أحدهما صخر أبيض والثاني صخر أحمر بأجمل صنعةٍ وأحكم بناءٍ، وردم وسوى

ووضع في مواضع الشرفات من المرمر صور بني آدم من كل الجهات تواجه القاصد نحوها فلا يشك الناظر أنها رجال وقوف، وكان لها من الأبواب باب القنطرة شرقي، باب أشونة قبلي، باب رزق غربي، باب السويقة جوفي، وغير ذلك من الأبواب، والمدينة مبنية على الرصيف الأعظم المسلوك عليه من البحر إلى البحر. وكانت إستجة واسعة الأرباض ذات أسواقٍ عامرةٍ وفنادق جمةٍ، وجامعها في ربضها مبنى بالصخر له خمس بلاطات على أعمدة رخامٍ، وتجاوره كنيسة للنصارى؛ وبإستجة آثار كثيرة ورسوم تحت الأرض موجودة وهي منفسحة الخطة، عذبة الأرض، زكية الريع، كثيرة الثمار والبساتين، نضيرة الفواكه والزرع، ولها أقاليم خمسة. وكان أهل إستجة ممن خلع وخالف، فافتتحها عبد الرحمن بن محمد على يد بدر الحاجب سنة300، فهدم سورها ووضع بالأرض قواعدها، وألحق أعاليها بأسافلها، وهدم قنطرة نهرها، وفي ذلك يقول أحمد بن محمد بن عبد ربه " طويل ". ألا إنه فتح يقر له الفتح ... فأوله سعد وآخره نجح سرى القاعد الميمون خير سريةٍ ... تقدمها نصر وتابعها فتح ألم تره أردى بإستجة العدا ... فلقوا عذاباً كان موعده الصبح فلا عهد للمراء من بعد هذه ... يتم له عند الإمام ولا صلح فولوا عباديد بكل ثنيةٍ ... وقد مسهم قدح وما مسنا قدح وبين إستجة ومرشانة عشرون ميلاً، وكذلك بينها وبين قرمونة.

أشبونة

أشبونة بالأندلس من كور باجة المختلطة بها، وهي مدينة الاشبونة، والأشبونة بغربي باجة، وهي مدينة قديمة على سيف البحر تنكسر أمواجه في سورها، واسمها قودية، وسورها رائق البنيان، بديع الشأن، وبابها الغربي قد عقدت عليه حنايا فوق حنايا على عمدٍ من رخام مثبتةٍ على حجارة من رخام وهو أكبر أبوابها، ولها باب غربي أيضاً يعرف بباب الخوخة مشرف على سرح فسيح يشقه جدولا ماء يصبان في البحر، ولها باب قبلي يسمى باب البحر تدخل أمواج البحر فيه عند مده وترتفع في سوره ثلاث قيم، وباب شرقي يعرف بباب الحمة، والحمة على مقربةٍ منه ومن البحر ديماس ماءٍ حارٍ وماءٍ باردٍ، فإذا مد البحر واراهما؛ وباب شرقي أيضاً يعرف بباب المقبرة. والمدينة في ذاتها حسنة ممتدة مع النهر، لها سور وقصبة منيعة؛ والأشبونة على نحر البحر المظلم؛ وعلى ضفة البحر من جنوبه قبالة مدينة الأشبونة حصن المعدن؛ ويسمى بذلك لأن عند هيجان البحر يقذف بالذهب التبر هناك؛ فإذا كان الشتاء قصد إلى هذا الحصن أهل تلك البلاد فيخدمون المعدن الذي به إلى انقضاء الشتاء، وهو من عجائب الأرض. ومن مدينة الأشبونة كان خروج المغرورين في ركوب بحر الظلمات ليعرفوا ما فيه وإلى أين انتهاؤه، ولهم بأشبونة موضع بقرب الحمة منسوب إليهم يعرف

بدرب المغرورين، وذلك أن ثمانية رجال، كلهم أبناء عمٍ، اجتمعوا فابتغوا مركباً وأدخلوا فيه من الماء والزاد ما يكفيهم لأشهرٍ، ثم دخلوا البحر في أول طاروس الريح الشرقية، فجروا بها نحواً من إحدى عشر يوماً؛ فوصلوا إلى بحرٍ غليظ الموج، كدر الروائح، كثير التروش، قليل الضوء، فأيقنوا بالتلف، فردوا قلعهم في اليد الأخرى، وجروا في البحر في ناحية اثنى عشر يوماً؛ فخرجوا إلى جزية الغنم، وفيها من الغنم مالا يأخذه عدو لا تحصيل، وهي سلوحة لا ناظر لها ولا راع، فقصدوا الجزيرة ونزلوها فوجدوا عين بماء جاريةً، عليها شجرة تينٍ برىٍ، فأخذوا من تلك الغنيم فذبحوها فوجدوا لحومها مرةً لا يقدر أحد على أكلها، فأخذوا من جلودها وساروا مع الجنوب اثنى عشر يوماً إلى أن لا حت لهم جزيرة، فنظروا فيها إلى عمارةٍ وحرثٍ، فقصدوا إليها ليروا ما فيها، فما كان إلا غير بعيدٍ حتى أحيط بهم في زوارق، فأخذوا وحملوا إلى مدينةٍ على ضفة البحر، فأنزلوا بها في دارٍ، فرأوا بها رجالاً شقراً زعراً، شعورهم سبطة، وهم طوال القدود، ولنسائهم جمال عجيب، فاعتقلوا في بيت ثلاثة أيام ثم دخل عليهم في اليوم الرابع رجل يتكلم باللسان العربي، فسألهم عن حالهم، وفيم جاؤوا، وأين بلادهم فأخبروه بكل خبرهم فوعدهم خيراً، وأعلمهم أنه ترجمان؛ فلما كان في اليوم الثاني من ذلك اليوم أحضروا بين يدي الملك، فسألهم عما سألهم عنه الترجمان فأخبروه بما أخبروا به الترجمان بالأمس، وأنهم اقتحموا البحر ليروا ما فيه من العجائب، وليقفوا على نهايته، فلما علم الملك ذلك ضحك وقال للترجمان: أخبر القوم أن أبي أمر قوماً من عبيده بركوب هذا البحر، وأنهم جروا في عرضه شهراً

إشبيلية

إلى أن انقطع عنهم الضوء وانصرفوا من غير فائدةٍ تجدي، ثم وعدهم خيراً، وصرفوا إلى موضع حبسهم، إلى أن بدأ جرى الريح الغربية؛ فعمر بهم زورق وعصبت عيونهم وجرى بهم في البحر برهةً من الدهر. قال القوم: قدرنا أنه جرى بنا ثلاثة أيامٍ بلياليها، حتى جئ بنا إلى البر، فأخرجنا وكتفنا إلى خلفٍ، وتركنا بالساحل إلى أن تضاحى النهار، وطلعت الشمس، ونحن في ضنكٍ وسوء حالٍ من شدة الكتاف، حتى سمعنا ضوضاء وأصوات ناسٍ فصحنا بجملتنا، فأقبل القوم إلينا فوجدونا بتلك الحال السيئة؛ فحلوا أو ثاقنا وسألونا فأخبرناهم بخبرنا، وكانوا برابر، فقال لنا أحدهم: أتعلمون كم بينكم وبين بلدكم؟ فقلنا: لا، فقال: مسيرة شهرين! فقال زعيم القوم: واأسفى! فسمى المكان إلى اليوم آسفي، وهو المرسى الذي في أقصى المغرب. إشبيلية مدينة بالأندلس جليلة بينها وبين قرطبة مسيرة ثلاثة أيامٍ، ومن الأميال ثمانون. وهي مدينة قديمة أزلية، يذكر أهل العلم باللسان اللطينى أن أصل تسميتها إشبالى معناه المدينة المنبسطة، ويقال إن الذي بناها يوليش القيصر، وإنه أول من تسمى قيصر، وكان سبب بنائه إياها أنه لما دخل الأندلس ووصل إلى مكانها أعجبه كرم ساحته، وطيب أرضه، وجبله المعروف بالشرف. فردم على النهر الأكبر مكاناً، وأقام فيه المدينة وأحدق عليها بأسوارٍ من صخرٍ، وبنى في وسط المدينة قصبتين

متقنتين عجيبتى الشأن، تعرفان بالأخوين، وجعلها أم قواعد الأندلس، واشتق لها اسماً من اسمه ومن اسم رومية فسماها رومية يوليش؛ ويقال إن إشبانيا اسم خاص ببلد إشبيلية الذي كان يبزله إشبان بن طيطش وباسمه سميت الأندلس إشبانيا، ولم تزل معظمة عند العجم من ذلك الوقت، وقد كان منها رجال ولوا قيادة العجم العظمى والمملكة بمدينة رومية، وروى ابن وضاح أن المرأة التي قتلت يحيى بن زكرياء عليه السلام من إشبيلية من قرية طالقة. وهي كبيرة عامرة لها أسوار حصينة، وأسواقها عامرة، وخلقها كثير، وأهلها مياسير، وجل تجارتهم الزيت يتجهزون به إلى المشرق والمغرب برا وبحراً فيجتمع هذا الزيت من الشرف، وهو مسافة أربعين ميلاً كلها في ظل شجر الزيتون والتين، أوله مدينة إشبيلية، وآخره مدينة لبلة، وسعته اثنا عشر ميلاً، وفيه ثمانية آلاف قريةٍ عامرةٍ بالحمامات والديار الحسنة، وبين الشرف وإشبيلية ثلاثة أميال. ومدينة إشبيلية موفية على النهر الكبير، وهو في غربيها؛ ويذكر في بعض الأخبار أن إشبان بن طيطش من ذرية طوبيل بن يافت بن نوح كان أحد أملاك الإشبانين، وخص بملك أكثر الدنيا، وأن بدء ظهوره كان من إشبيلية فغلظ أمره، وبعد صيته، وتمكن في كل ناحية سلطانه: فلما ملك نواحى الأندلس، وطاعت له أقاصى البلاد خرج في السفن من إشبيلية إلى إيلياء؛ فغنمها وهدمها وقتل بها من اليهود

مائة ألف، وسبى مائة ألف، وفرق في الأرض مائة ألف، وانتقل رخامها إلى إشبيلية وماردة وباجة؛ وإنه صاحب المائدة التي ألفيت بطليطلة، وصاحب الحجر الذي وجد بماردة، وصاحب قليلة الجوهر التي كانت بماردة أيضاً على حسب ما ذكر في فتح الأندلس، فإنه حضر خراب بيت المقدس الأول مع بخت نصر، وحضر الخراب الذي كان مع قيصر بشيشيان؛ وأذريان قيصر يذكر أنه من طالقة إشبيلية، وفي سنة عشرين من دولته أنفق ببنيان إيلياء، وكان من مضى من ملوك الأعاجم يتداولون بمسكنهم أربعة من المدن الأندلسية: إشبيلية، وماردة، وقرطبة، وطليطلة، ويقسمون أزمانهم على الكينونة. وكان سور إشبيلية من بناء الإمام عبد الرحمن بن الحكم، بناه بعد غلبة المجوس عليها بالحجر وأحكم بناءها، وكذلك جامعها من بنائه، وهو من عجيب البنيان وجليله، وصومعته بديعة الصناعة، غريبة العمل، وأركانها الأربعة عمود فوق عمودٍ إلى أعلاها، في كل ركنٍ ثلاثة أعمدة؛ فلما مات عبد الرحمن بن إبراهيم بن حجاج في محرم سنة 301 قدم أهلها أحمد بن مسلمة، وكان من أهل البأس والنجدة فأظهر العناد، وجاهر بالخلاف، فأخرج إليه عبد الرحمن بن محمد قائداً من قواده بعد قائدٍ، حتى افتتحها على يدي الحاجب يوم الاثنين لخمس خلون من جمادى الأولى سنة301. واستعمل عليها سيعد بن المنذر المعروف بابن السليم، فهدم سورها، وألحق أعاليه بأسافله، وبنى القصر القديم المعروف بدار الإمارة، وحصنه بسور صخرٍ

رفيع، أبراج منيعةٍ وبنى سور المدينة في الفتنة بالتراب. وبإشبيلية آثار للأول كثيرة، وبها أساطين عظام تدل على هياكل كانت بها؛ وإشبيلية من الكور المجندة نزلها جند حمص، ولواؤهم في الميمنة بعد لواء جند دمشق، وهي من أمصار الأندلس الجليلة الكثيرة المنافع، والعظيمة الفوائد، ويظل على إشبيلية جبل الشرف، وهو شريف البقعة، كريم التربة، دائم الخضرة، فراسخ في فراسخ طولاً وعرضاً، لا تكاد تشمس منه بقعة لا لتفاف زيتونه واشتباك غصونه، وزيته من أطيب الزيوت كثيرة الرفع عند العصر، لا يتغير على طول الدهر، ومن هناك يتجهز به إلى الآفاق براً وبحراً، وكل ما استودع أرض إشبيلية نمى وزكى وجل؛ والقطن يجود بأرضها فيعم بلاد الأندلس ويتجهز به التجار إلى إفريقية وسجلماسة وما والاها، وكذلك العصفر بها يفضل عصفر الآفاق؛ وبقبلى مدينة إشبيلية بساتين تعرف بجنات المصلى وبها قصب السكر، وفي آخر نهر إشبيلية من كلتى جانبيه جزائر كثيرة يحيط بها الماء، كلأها قائم لا يصوح لدولم ندوتها، ورطوبة أرضها، ويصلح نتاجها وتدوم ألبانها ويمتنع ما فيها من الحوافر والظلف على العدو فلا يصل إليه أحد، وهذه الجزائر تعرف بالمدائن وبعضها بقرب من البحر. وفي سنة 597، في جماداها الأخير، كان السيل العظيم الجارف على إشبيلية المربى على كل سيلٍ، وهو مذكور في الثاني من جالى الفكر في أول ورقة منه سنة597 فانقله من هناك.

أشتبين

وفي سنة 646، تغلب العدو على مدينة إشبيلية في شعبان منها، بعد أن حوصرت أشهراً حتى ساءت أحوال أهلها، وخافو وأيئسوا من الإعانة، فأصفق رأيهم على إسلامها للعدو والخروج عنها؛ فكان ذلك أجلهم الفنش ريثما يستوفون احتمال ما استطاعوا حمله من أموالهم، ثم خرجوا عنها وأقامت خاليةً ثلاثة أيام وسرح معهم الطاغية خيلاً توصلهم إلى مأمنهم، وكان صاحب أناةٍ وسياسةٍ، ويقال إنه لما مات دفن في قبلة جامعها الأعظم. أشتبين حصن بالأندلس على يسار الطريق، تحت أصل جبلٍ ممتنع، لا يدركه مقاتل طمع، بنى عليه بعض الملوك حصوناً كثيرةً، وحوصر مدةً سنة313. وبعد لأيٍ ما افتتح وذلك في عقب سنة313. أشكوني بالأندلس من كور تدمير معروف، ومن الغرائب أن من أراد أن يتخذ فيه جناناً صرف إلى الموضع العناية بالتدمين والعمارة والسقى من النهر، فتنبت الأرض هناك بطبعها شجر التفاح والكمئرى والتين والرمان وضروب الفواكه حاشا شجر التوتِ من غير غراسةٍ ولا اعتمالٍ.

أشونة

أشونة من كور إشتجة بالأندلس بينهما نصف يوم، وحصن اشونة ممدن، كثير الساكن. إصطبة مدينة بالأندلس على خمسة وعشرين ميلاً من قلشانة، ومن قلشانة، وهي قاعدة شذونة، إلى قرطبة أربعة أيامٍ، ومن الأميال مائة ميلٍ وعشرة أميالٍ. إغرناطة مدينة بالأندلس، بينها وبين وادي آش أربعون ميلاً، وهي من مدن إلبيرة. وهي محدثة من أيام الثوار بالأندلس، وإنما كانت المدينة المقصودة إلبيرة؛ فخلت وانتقل أهلها منها إلى إغراناطة، ومدنها وحصن أسوارها، وبنى قصبتها حبوس الصنهاجى، ثم خلفه ابنه باديس بن حبوس؛ فكملت في أيامه، وعمرت إلى الآن، ويشقها نهر يسمى حدره، وبينها وبين إلبيرة ستة أميال، وتعرف بإغرناطة اليهود لأن نازليها كانوا يهود، وهي اليوم مدينة كبيرة قد لحقت بأمصار الأندلس المشهورة، وقصبتها بجوفيها، وهي من القصاب الحصينة، وجلب الماء إلى داخلها من عينٍ عذبةٍ تجاورها، والنهر المعروف بنهر فلوم ينقسم عند مدينتها قسمين: قسم بحري في أسفل المدينة، وقسم يجري في أعلاها، يشقها شقاً، فيجري في بعض حماماتها، وتطحن

إفراغة

الأرحاء عليه خلال منازلها، ومخرجه من جبلٍ هناك، وتلقط في جرية مائه برادة الذهب الخالص، ويعرف بالذهب المدتى، ومقبرة إغرناطة بغربيها عند باب إلبيرة. وفحص إلبيرة أزيد من مسافة يومٍ في مثله يصرفون فيه مياه الأنهار كيف شاؤوا كل أوان، ومن جميع الأزمان، وهو أطيب البقاع نفعةً، وأكرم الأرضين تربة، ولا يعدل به مكان غير غوطة دمشق وشارحة الفيوم، ولا تعلم شجرة تستعمل وتستغل إلا وهي أنجب شيء في هذا الفحص، وما من فاكهةٍ توصف وتستظرف إلا وما هناك من الفاكهة فوقها، ويجود فيها من ذلك ما لا يجود إلا بالساحل من اللوز وقصب السكر وما أشبهما. وحرير فحص إلبيرة هو الذي ينتشر في البلاد، ويعم الآفاق، وكتان هذا الفحص يربو جيده على كتان النيل، ويكثر حتى يصل إلى أقاصي بلاد المسلمين، وبإلبيرة معادن جوهرية من الذهب والفضة والصفر والحديد والرصاص والتوتيا، وجبل الثلج هو جبل يشرف على جبل إلبيرة. إفراغة مدينة بقرب لاردة من الأندلس، بينهما ثمانية عشر ميلاً، وهي على نهر الزيتون، حسنة البناء لها حصن منيع لا يرام وبساتين كثيرة لا نظير لها. وحاضرها العدو في جمع كثيفٍ، وآلى زعيمهم ابن ردمير على نفسه ألا يبرح حتى يأخذها عنوةً، وذلك سنة525، في شهر رمضان منها، فسهد إليه يحيى بن علي بعزمة صادقةٍ ونيةٍ صحيحةٍ في جموعه؛ فلقاه الله تعالى بركتها، وأجناه ثمرتها، وهزمه بعد

أن قتل أكثر رجاله، والجملة التي بها كان يصول من أبطاله، وفر اللعين وسيوف المجاهدين تأخذ منه، وعزيمتهم لا تقلع عنه، إلى أن أوى إلى حصنٍ خربٍ في رأس جبلٍ شاهقٍ مع الفل الذي بقي معه بعد الإمساء، وأحدق المسلمون تلك الليلة بذلك الحصن يرقبونه؛ ولما أيقن أنه سيصطلم إن أقام هناك تسلل في ظلمة الليل من ذلك الموضع واتخذ الليل جملاً، وإذا رأى غير شيء ظنه رجلاً. وانصرف المسلمون مغتبطين بغنيمتهم وأجرهم وكان ذلك سبباً لبقائها بأيدي المسلمين، إلى أن ينقضى أجل الكتاب. ففي صفة الحال، يقول شاعر الشرق في وقعة يحيى بن علي هذه، أبو جعفر بن وضاح المرسى، من قصيدةٍ يمدحه بها بسيط: شمرت برديك لما أسبل الوانى ... وشب منك الأعادي نار غيان دلفت في غابة الخطى نحوهم ... كالعين يهفو عليها وطف أجفان عقرتهم بسيوف الهند مصلتهً ... كأنما شربوا منها بغدران هون عليك سوى نفسٍ قتلتهم ... من يكسر النبع لم يعجز عن البان أودى الصميم وعاقت عن هيئتهم ... مقادر أغمدت أسياف شجعان وقفت والجيش عقد منك منتثراً ... إلا فرائد أشياخ وشبان والخيل تنحط من وقع الرماح بها ... كأن تصهالها ترجيع ألحان في أبيات غير هذه.

إفرنجة

إفرنجة في وسط الإقليم الخامس، هواؤها غليظ لشدة بردها، ومصيفها معتدل، وهي بلاد كثيرة الفاكهة، وغزيرة الأنهار المنبعثة من ذوب الثلج، ومدائنها متقنة الأسوار، محكمة البناء، وآخر حدودها البحر الشأمى بقبليها، والبحر المحيط بجوفيها، وتتصل ببلاد رومة أيضاً من ناحية القبلة، وتتصل أيضاً من ناحية الجوف ببلاد الصقالبة، بينهما شعراء ملتفة مسيرة الأيام الكثيرة، وتتصل في الشرق بالصقالبة أيضاً، وتتصل في الغرب بالبشكنش، وتتمادى أعمال إفرنجة في الطول والعرض مسيرة شهرين في شهرين، ويحجز بين بلاد الصقالبة من الجوف والشرق الجبل المعترض بين البحرين فيتمادى بلاد الإفرنج مع ساحل البحر الشأمى حتى يلزق بجزيرة رومة وبلاد لنقبرذية، ويتمادى مع الجبل المعترض في الجوف إلى البحر المحيط، ويتصل بالصقالبة بلاد المجوس المعروفين بالأنقاش؛ وسيوف إفرنجة تفوق سيوف الهند، ومنها يرد الرقيق من بلاد الصقالبة، ولا يكاد يرى ببلاد إفرنجة زمن ولا ذو عاهةٍ، والزنى في غير ذوات الأزواج عند الإفرنج غير منكرٍ، وإذا حلف أميرهم أو كبيرهم حانثاً استهانوه، ولم يزالوا يعيرونه بذلك، وأبناء الأشراف عندهم يسترضعون في الأباعد، ولا يعرف الا بن أبويه حتى يعقل، وإذا عقل رد إليهما، فيراهما كالسيدين ويكون لهما كالعبد. وكانت مملكتهم مجتمعةً، وأمرهم ملتئماً حتى ثار على رجلٍ من ملوكهم

يسمى قارله قومس مع ملكٍ يقال له ردبيرت، وذلك في عهد الإمام عبد الله، فحشد له قارله، وزحف بعضهما على بعضٍ فقتله قارله، وأسر أصحاب ردبيرت قارله فمكث عندهم أسيراً أربعة أعوامٍ ثم هلك بأيديهم، فافترق ملكهم واقتسم؛ والإفرنجة من ولد يافت هم والجلالقة والصقالبة واللواكبرد، والإشبان والترك والخزر وبرجان وآلان ويأجوج ومأجوج؛ والإفرنجة تدين بدين النصرانية، وبرأي الملكية منهم ودار ملكهم آلان لوذون وهي مدينة عظيمة، ولهم من المدائن نحو من خمسين ومائة مدينة، وقد كانت مملكتهم قبل ظهور الإسلام بإفريقية وجزيرة صقلية وجزيرة إقريطش؛ والإفرنجة أكثر هذه الأمة عدةً وأحسنهم انقياداً لملوكهم وأكثرهم مدداً، وأول ملوكهم قلودية، وهو أول من تنصر وكانوا مجوساً، فنصرته امرأته واسمها قلوطلد. ويحكى أن موسى بن نصير لما غزا الأندلس أراد أن يخرق ما بقى عليه من بلاد إفرنجة، وفتح الأرض الكبيرة حتى يتصل بالناس إلى الشأم مؤملاً أن يتخذ مخترقة تلك الأرض طريقاً مهيعاً يسلكه أهل الأندلس في مسيرهم ومجيئهم من الشرق إليه على البر لا يركبون بحراً، وأنه أوغل في بلاد إفرنجة حتى انتهى إلى مفازةٍ كبيرةٍ وأرضٍ سهلةٍ ذات آثارٍ، فأصاب فيها ضمناً عظيماً قائماً كالسارية مكتوبة فيه بالنقر كتابة عربية قرئت فإذا هي: يا بني إسماعيل انتهيتم فارجعوا! فهاله ذلك وقال: ما كتب هذا إلا بمعنى! وشاور أصحابه في الإعراض عنه وجوازه إلى ما وراءه، فاختلفوا عليه، فأخذ برأي جمهورهم وانصرف بالناس وقد أشرفوا على قطع البلاد وتقصى الغاية.

أقش

أقش مدينة هي كانت قاعدة الجليقيين، بينها وبين ليوزدال ثلاثون ميلاً، وكانت أقش قبل هذا منسوبة إلى غرسية بن لب، وهي مبنية بالصخر المربع الكبير، وهي على نهر كبير يدخل منه المجوس بمراكبهم إليهم، وفي المدينة حمة غزية الماء، واسعة الفضاء، يستحم أهلها في جنباتها على بعدٍ من عنصرها لشدة سخونته. أقليش مدينة لها حصن في ثغر الأندلس، وهي قاعدة كور شنتبرية، وهي محدثة، بناها الفتح بن موسى بن ذى النون، وفيها كانت ثورته وظهروه في سنة160، ثم اختار أقليش داراً وقراراً، فبناها ومدنها، وهي على نهرٍ منبعثٍ من عين عاليةٍ على رأس المدينة، فيعم جميعها، ومنه ماء حمامها؛ ومن العجائب البلاط الأوسط من مسجد جامع أقليش فإن طول كل جائزةٍ من جوائزه مائة شبرٍ وإحدى عشر شبراً، وهي مربعة منحوتة مستوية الأطراف. أقيانس هو اسم لبحر الظلمات، ويقال له البحر الأخضر، والمحيط الذي لا يدرك له غاية، ولا يحاط بمقداره، ولا فيه حيوان، وهو الذي يخرج منه البحر الرومي الذي هو بحر الشأم ومصر والغرب والأندلس، فإنه خليج يخرج من هذا البحر وقد خاطر بنفسه خشخاش من الأندلس، وكان من فتيان قرطبة، في جماعة من

إلبيرة

أحداثها، فركبوا مراكب استعدوها، ودخلوا هذا البحر، وغابوا فيه مدةً، ثم أتوا بغنائم واسعةٍ وأخبارٍ مشهورةٍ. وإنما يركب من هذا البحر مما يلي المغرب والشمال، وذلك من أقاصي بلاد السودان إلى برطانية، وهي الجزيرة العظمى التي في أقصى الشمال، وفيه ست جزائر تقابل بلاد السودان تسمى الخالدات، ثم لا يعرف أحد ما بعد ذلك، وستأتي إن شاء الله تعالى حكاية أخرى عمن دخل هذا البحر أطول من هذه في موضعها في ذكر الأشبونة. إلبيرة من كور الأندلس، جليلة القدر، نزلها جند دمشق من العرب، وكثير من موالى الإمام عبد الرحمن بن معاوية، وهو الذي أسسها وأسكنها موالية، ثم خالطتهم العرب بعد ذلك؛ وجامعها بناه الإمام محمد، على تأسيس حنش الصنعاني، وحولها أنهار كثيرة، وكانت حاضرة إلبيرة من قواعد الأندلس الجليلة، والأمصار النبيلة، فخربت في الفتنة وانفصل أهلها إلى مدينة غرناظة، فهي اليوم قاعدة كورها، وبين إلبيرة وغرناطة ستة أميال. ومن الغرائب أنه كان بناحية مدينة إلبيرة فرس قد نحت من حجر صلدٍ قديم هناك لا يعلم واضعه، فكان الغلمان يركبونه ويتلاعبون حوله، إلى أن انكسر منه عضو، فزعم أهل إلبيرة أن في تلك السنة التي حدث فيها كسره تغلب البربر على مدينة إلبيرة فكان أول خرابها.

ومدينة إلبيرة بين القبلة والشرق من قرطبة، ومنها إبراهيم بن خالد، سمع من يحيى وسعيد بن حسان، وسمع من سحنون، وهو أحد السبعة الذين اجتمعوا في إلبيرة في وقتٍ واحدٍ من رواة سحنون، ومنها أبو إسحق بن مسعود الإلبيرى صاحب القصيدة الزهدية التي أولها وافر: تفت فؤادك الأيام فتا ... وتنحت جسمك الساعات نحتا وهي طويلة جداً، وهو القائل كامل: من ليس بالباكي ولا المتباكي ... لقبيح ما يأتي فليس يراك القصيدة بطولها، وهو القائل سريع: ما أميل النفس إلى الباطل ... وأهون الدنيا على العاقل آه لسرٍ صنته لم أجد ... خلقا له قط بمستاهل هل يقظ يسألني، علنى ... أكشفه لليقظ السائل لو شغل المرء بتركيبه ... كان به في شغل شاغلٍ وعاين الحكمة مجموعةً ... ماثلةً في هيكلٍ مائلٍ يا أيها الغافل عن نفسه ... ويحك فق من سنة الغافل وساحل إلبيرة كان به نزول الأمير عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك الداخل إلى الأندلس حين عبوره إليها.

ألش

ألش بالأندلس إقليم ألش من كور تدمير، بينه وبين أريولة خمسة عشر ميلاً. وألش مدينة في مستوٍ من الأرض، يشقها خليج يأتى إليها من نهرها، يدخل من تحت السور ويجري في حمامها، ويشق أسواقها وطرقها وهو ملح سبخى. ومن ألش إلى لقنت خمسة عشر ميلاً، ومن الغرائب أن بساحل ألش بمرسىً يعرف بشنت بول حجراً يعرف بحجر الذئب. إذا وضع على ذئبٍ أوسبع لم يكن له عدوان، وفارق طبعه من الفساد. أندة مدينة منكور بلنسية. أندارة مدينة عظيمة في شرق الأندلس خربتها البربر. أندرش مدينة من أعمال المرية؛ هي من أنزه البلدان، وفيها يقول أبو الحجاج بن عتبة الإشبيلي الطبيب الأديب الشاعر، وقد مر عليها كامل: لله أندرش لقد حازت على ... حسنٍ تتيه به على البلدان

أنيشة أنيجة

النهر منساب سرت خلجانه ... في الروض بين أزاهر الكتان فكأنما انسابت هناك أراقم ... قد عدن راجعةً عن الشعبان أنيشة أنيجة بالشين المعجمة والجميم معاً موضع على مقربة من بلنسية وبالقرب من بنشكلة. وعقبة أنيشة؛ جبل معترض عالٍ على البحر والطريق عليه، ولا بد من السلوك على رأسه، وهو صعب جداً. وفيه كانت الوقيعة بين المسلمين من أهل بلنسية وبين النصارى، واستشهد فيها الأديب المحدث العلامة أبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم الكلاعى مصنف كتاب الاكتفاء في سير النبي " - صلى الله عليه وسلم - " والثلاثة الخلفاء؛ وكانت هذه الوقيعة في سنة 634؛ وكان خطيباً راوية ناظماً ناثراً، ورثاه الكاتب أبو عبد الله بن الأبار القضاعى بقصيدةٍ طويلة أولها طويل. ألما بأشلاء العلى والمكارم ... تقد بأطراف القنا والصوارم أحسن فيها ما شاء، وفيها: سقى الله بسفح أنيشة ... سوافح تزجيها ثقال الغمائم وفيها: أضاعهم يوم الخميس حفاظهم ... وكرهم في المأزق المتلاحم وفيها: سلام على الدنيا إذا لم يلح بها ... محيا سليمان بن موسى بن سالم

أوريط

ورثاه أيضاً الفقيه الكاتب أبو المطرف أحمد بن عبد الله بن عميرة المخزومي، فقال من قصيدة " متقارب ": وأعظم ميتٍ فجعنا به ... حليف الندى الماجد الواهب وذاك سليمان لا غائب ... إذا الأمر جد ولا لا عب فلله من حقه جانب ... واللصحب من أنسه جانب فأى امرئٍ صار نحو الردى ... كما صمم الصارم القاضب وأى مناقب ملء الزمان ... يلم بها بعده النادب فيا نور علمٍ تبدى لنا ... شهاب لناظره ثاقب ويا طود حلمٍ هوى سائخاً ... وهو على حاله راسب ألا في سبيل هداة السبيل ... مضاؤك حين بنا الهائب هربت إلى الله في موطنٍ ... على عاره حصل الهارب وغودرت نهب عفاة العلى ... فنال الذي شاءه الناهب إذا كان للدود ميت القبور ... فللذئب أكرم والناعب تلقاك ربى برضوانه ... وجادك منه الحيا الساكب وإن الذي نلت من قربه ... لأفضل ما يطلب الطالب عليك السلام إلى غايةٍ ... من الموت كل لها ذاهب أوريط مدينة قديمة بالأندلس، كانت عظيمة مذكورة مع طليطلة، وهي معها في حدٍ واحدٍ من قسمة قسطنطين، وإنما عمرت قلعة رباح وكركى بخراب أوريط.

أوريولة

أوريولة حصن بالأندلس، وهو من كور تدمير، وأحد المواضع السبعة التي صالح عليها تدمير بن عبدوس عبد العزيز بن موسى بن نصير، حين هزمه عبد العزيز ووضع المسلمون السيف فيه، فصالحه على هذه المعاقل وعلى أداء الجزية، وكان حصن أرويولة قاعدة تدميرٍ، وذكره مشروح في ذكر قرطاجنة. وبين أوريولة وألش ثمانية وعشرون ميلاً، ومدينة أوريولة قديمة أزلية. كانت قاعدة العجم وموضع مملكتهم، وتفسيرها باللطينى الذهبية. ولها قصبة في نهايةٍ من الامتناع على قنة جبلٍ، ولها بساتين وجنات فيها فواكه كثيرة، وفيها رخاء شامل وأسواق وضياع، وبينها وبين مرسية اثنا عشر ميلاً، وبينها وبين قرطاجنة خمسة وأربعون ميلاً. ولى قضاءها أبو الوليد الباجى. أولية السهلة بالأندلس قريبة من قرطبة، وتعرف بالرملة، وهي أم الأقاليم، كثيرة الأهل، واسعة الخطبة، ومثمرة الأرضين، بها ديار للعجم متقنة البنيان، في أحداها أربع سوارٍ مجزعة من نفيس الرخام في نهاية العظم والطول، عليها الناقوس.

أونبة

أونبة من مدن جبل العيون بالأندلس، وهي مدينة ممتنعة بين جبالٍ ضيقة المسالك، وهي قديمة، لها آثار للأول، فيها ماء مجلوب في أقباء واسعةٍ قد خرق بها الجبال الشامخة حتى وصل الماء إلى أسفل هذه المدينة، فيسقى بعض بساتينها، ولا يدري من أين أصل هذا الماء، وشرقى المدينة كنيسة كبيرة معظمة عندهم؛ يزعمون أن أحد الحواريين بها، وما أكثر ما يوجد في حفائر هذه المدينة من آثارٍ عجيبةٍ. وهذه المدينة برية بحرية، بينها وبين البحر ميلٍ، وبينها وبين لبلة ستة فراسخ.

حرف الباء

حرف الباء باجة وأما باجة الأندلس فهي من أقدم مدائنها، بنيت في أيام الأقاصرة، وبينها وبين قرطبة مائة فرسخ، وهي من الكور المجندة، نزلها جند مصر وكان لواؤهم في الميسرة بعد جند فلسطين، وهم النازلون بشذونة، فحمل الأمير عبد الرحمن بن معاوية لواءهم، وأسقط جندهم، وأخمل ذكرهم؛ وكان سبب ذلك أن العلاء بن مغيث اليحصبى كان رئيس جند باجة، وفثار بها، وقام بها بدعوة بني العباس، ولبس السواد، ورفع راية سوداء، واجتمع إليه قيام من الناس؛ فقاتله عبد الرحمن بن معاوية في قريةٍ من قرى إشبيلية تعرف بالكرم حتى هزمه الإمام وقتله. ومدينة باجة أقدم مدن الأندلس بنياناً، وأولها اختطاطاً، وإليها انتهى يوليش القيصر، وهو أول من سمى قيصر، وهو الذي سماها باجة، وتفسير باجة في كلام العجم الصلح وحوز باجة وخطتها واسعة، ولها معاقل موصوفة بالمنعة والحصانة. ومنها الإمام القاضي أبو الوليد الباجى، سليمان بن خلف، شارح الموطا، الفقيه الأديب، العالم المتكلم، رحل إلى الحجاز والعراق، ولقى العلماء وتجول ثلاثة عشر عاماً، وصنف في الأصول والفروع. وله " متقارب ": إذا كنت أعلم علماً يقيناً ... بأن جميع حياتى كساعه فلم لا أكون صيننا بها ... وأجعلها في صلاح وطاعه

ببشتر

ذكر ابن عساكر في تأريخه أنه توفي في سنة 474 بالمرية، وقبره في الرباط، على حاشية البحر. ببشتر بالأندلس، حصن منيع بينه وبين قرطبة ثمانون ميلاً، وهو حصن تزل عنه الأبصار، فكيف الأقدام، على صخرةٍ صماء منقطعةٍ، لها بابان يتوصل إلى أعلاهما من شعب يسلكه الراجل الخفيف، وطريقه عند الطلوع والهبوط على النهر، وأعلى الصخرة سهلة مربعة ذات مياهٍ كثيرةٍ تقطع الحجر، فينبعث الماء العذب، وينبط فيها الآبار بأيسر عملٍ وكدٍ. وحصن ببشتر كان قاعدة العجم، كثير الديارات والكنائس والدواميس، ولهذا الحصن قرى كثيرة، وحصون خطيرة، وما حوله كثير المياه، والأشجار، والثمار، والكروم، وشجر التين، وأصناف الفواكه، والزيتون؛ وما بها الآن إلا نبذ مما كان، فإن فتنة ابن حفصون أتت على أكثر ذلك. بجانة بفتح الباء بعدها جيم مفتوحة مشددة بعدها ألف وبعد الألف نون. مدينة بالأندلس، كانت في قديم الدهر من أشرف قرى أرش اليمن، وإنما سمى الإقليم أرش اليمن لأن بني أمية لما دخلوا الأندلس أنزلوا بني سراج القضاعيين في هذا الإقليم، وجعلوا إليهم حراسة ما يليهم من البحر وحفظ الساحل، فكان ما ضمنوا من مرسى كذا إلى مرسى كذا يسمى أرش اليمن، أي عطيتهم ونحلتهم.

وبقرب بجانة كان جامع الإقليم بالأعظم، إلا أنها كانت حارات مفترقة حتى نزلها البحريون وتغلبوا على ما كان فيها من العرب وصار الأمر لهم فجمعوها وبنوا سورها، وامتثلوا في ذلك ببنية قرطبة وترتيبها، وجعلوا على أحد أبوابها صورة تشا كل الصورة التي على باب القنطرة، فأمتها الناس من كل جهةٍ وانجفلوا إليها من كل ناحيةٍ، فارين من الفتن التي كانت إذ ذاك شاملةً، فكانت أمنا لمن قصدها، وحرماً لمن لجأ إليها، وكانت الميرة تجلب إليها من العدوة، وضروب المرافق والتجارات؛ وكان ذلك أيضاً من الأسباب الداعية إلى قصدها واستيطانها، وصار حولها أرباض كثيرة. ويدخلها من النهر جدولان، أحدهما بأعلى المدينة من جانب الشرق ويسقى بساتينها كلها، والثاني يشق الأرباض الجوفية، ويخرج عنها إلى الأرباض القبلية، حتى يقع في النهر هناك؛ وجامعها داخل المدينة، بناه عمر بن أسود، وفيه قبو على قبةٍ فيها أحدى عشر حنية، منضربة على أربعة عشر عموداً، فنقش أعاليه بنقوش عجيبة. وبغربى القبو ثلاث بلاطات أوسع من الشرقية على عمد صخرٍ، وفي الصحن بئر عذبة؛ وكان بمدينة بجانة إحدى عشر حماماً، وطرز حريرٍ ومتاجر رابحة، وكان يذهب الوادي الآتي من شرقيها كثيراً من أرباضها وأسواقها عند حمله. وبشرقى بجانة على ثلاثة أميالٍ جبل شامخ فيه معادن غريبة، وفيه الحمة العجيبة الشأن، ليس لها نظير في الأندلس، في طيب مائها وعذوته وصفائه وبذرقته ونفعه عموم بركته، يقصدها أهل الأسقام والعاهات من جميع النواحي، فلا يكاد يخطئهم نفعها، وعليها من بناء الأول صهريج إلى جانب العين مربع واسع كانوا قد

بربشتر

بنوا على شرقيه قيوين، فأعلاهما هناك ظاهر إلى اليوم، والجدر الباقية حواليه، واتخذوا على ذلك الماء قريةً كثيرة الزيتون والأشجار وضروب الثمار، يسقى جميعها من هذا الماء، تعرف بقرية الحمة، وما فضل عن سقى هذه القرية يجتمع أسفلها في صهريجٍ عظيمٍ من بناء الأول أيضاً، فإذا تكامل فيه الماء سرب إلى قريةٍ متخذةٍ تسمى آبله، فسقيت بذلك الماء. وبجوفي مدينة بجانة حمة أخرى أغزر من الحمة الأولى، أنجع في الأسقام، وأصلح للأبدان، وهم يزعمون أن جرى الأولى على الكبريت، وجرى هذه على النحاس؛ وتذكر الأعاجم أن ملك تدمير وملك ريه في غابر الدهر خطبا ابنة ملك أرش اليمن وما يليه، فشرطت ابنة الملك أن من بلغ ماء إحدى الحمتين حتى يدخله في دار سكنى أبيها وكان في موضع مدينة بجانة اليوم أنه أحق ببضعها؛ فجد كل واحدٍ منهما في ذلك وجهد جهده، وبنيا قنى يجلبون الماء فيها، فاعترض صاحب الحمة الجوفية خندق، ولم يكن بد من بناء قناطر عليه، فشغله ذلك حتى بلغ صاحب الحمة الشرقية ماءه، فزوجه الملك ابنته؛ وأثر ما حاولاه من ذلك باقٍ في الجانبين إلى اليوم؛ وبين بجانة والمرية خمسة أميال أو ستة أميال. بربشتر هي مدينة من بلاد بريطانية بالأندلس، وهي حصن على نهرٍ مخرجه من عين قريبةٍ منها، وبربشتر من أمهات مدن الثغر الفائقة في الحصانة والامتناع، وقد

غزاها على غرةٍ، وقلة عددٍ من أهلها، وعدةٍ، أهل غاليش والروذمانون، وكان عليهم رئيس يسمى ألبيطش، وكان في عسكره نحو أربعين ألف فارسٍ، فحصرها أربعين يوماً حتى افتتحها، وذلك في سنة 456، فقتلوا عامة رجالها، وسبوا فيها من ذرارى المسلمين ونسائهم مالا يحصى كثرةً؛ ويذكر أنهم اختاروا من أبكار جوارى المسلمين وأهل الحسن منهن خمسة آلاف جارية، فأهدوهن إلى صاحب القسطنطينية، وأصابوا فيها من الأموال والأمتعة ما يعجز عن وصفه، وتخلفوا فيها من جلة رجالهم وأهل البأس منهم من وثقوا بضبطه لها، ومنعه إياها، واستوطنوها بالأهل والولد وجعلوها ثغراً من ثغورهم، ثم انصرفوا عنها. وفي ذلك يقول الفقيه الزاهد ابن العسال من قصيدة كامل: ولقد رمانا المشركون بأسهمٍ ... لم تخط لكن شأنها الصماء هتكوا بخيلهم قصور حريمها ... لم يبق لا جبل ولا بطحاء جاسوا خلال ديارهم فلهم بها ... في كل يومٍ غارة شعراء باتت قلوب المسلمين برعبهم ... فحماتنا في حربهم جبناء كم موضع غنموه لم يرحم به ... طفل ولا شيخ ولا عذراء ولكم رضيع فرقوا من أمه ... فله إليها ضجة وبغاء ولرب مولودٍ أبوه مجدل ... فوق التراب وفرشه البيداء ومصونةٍ في خدرها محجوبةٍ ... قد أبرزوها ما لها استخفاء

برذال

وعزيز قومٍ صار في أيديهم ... فعليه بعد العزة استخذاء لولا ذنوب المسلمين وأنهم ... ركبوا الكبائر ما لهن خفاء ما كان ينصر للنصارى فارس ... أبداً عليهم فالذنوب الداء فشرارهم لا يختفون بشرهم ... وصلاح منتحلى الصلاح رياء ثم تداعت لأخذها ممالك الأندلس، وجمع أحمد بن سليمان بن هود صاحب سرقسطة وجهاتها أهل الثغور، ونهد إليها في جمع كثيفٍ، ذوى جدٍ وحدٍ، ففتحها الله عز وجل على يديه عنوةً، فقتل المقاتلة وسبى النساء والذرية، ودخل منها سرقسطة نحو خمسة آلاف سبيةٍ مختارةٍ، ونحو ألف فرسٍ وألف درع، وأموال كثيرة، وثياب جليلة، وعدة وسلاح؛ وكان افتتاحه لها لثمانٍ خلون من جمادى الأولى سنة457، ولذلك تسمى بالمقتدر بالله، وكانت مدة ملك النصارى لها تسعة أشهرٍ برذال مدينة من إقليم برغش، كاملة شاملة بضروب النعم كثيرة الفواكه، بينها وبين البحر اثنا عشر برذيل في بلاد جليقية، وإقليم برذيل من أشرف أقاليم تلك الناحية، وهو كثير الكروم والفاكهة والحبوب، وهي مدينة كبيرة مبنية بالكلس والرمل، وهي على نهرٍ عجاج يسمى جرونة، وربما عطبت مراكب المجوس فيه عند الأهوال لاتساعه وانخراقه، وبين هذه المدينة وموقع نهرها في البحر مائة وخمسون ميلاً؛ وأهل برذيل في

برشانة

أخلاقهم ولباسهم على أخلاق الجليقيين؛ وبجوفي مدينة برذيل بنيان منيف على سوارٍ ساميةٍ جليلةٍ هو قصر طيطش، وفي سواحل هذه المدينة يوجد العنبر. برشانة بالأندلس، وهي حصن على مجتمع نهرين، وهو من أمنع الحصون مكاناً، وأوثقها بنياناً، وأكثرها عمارةً. برشلونة مدينة للروم بينها وبين طركونة خمسون ميلاً، وبرشلونة على البحر، ومرساها ترش لا تدخله المراكب إلا عن معرفةٍ، وبها ربض، عليها سور منيع، والدخول إليها والخروج عنها إلى الأندلس على باب الجبل المسمى بهيكل الزهرة، ويسكن برشلونة ملك إفرنجة، وهي دار ملكهم، وله مراكب تسافر وتغزو، وللإفرنج شوكة لا تطاق. وبرشلونة كثيرة الحنطة والحبوب والعسل، واليهود بها يعدلون النصارى كثرةً، ولها ربض خارج منها، وهي في القسم الثالث من الأندلس، وهي مسورة كبيرة. وصاحب برشلونة اليوم راى مند بن بلنقير بن بريل، وكان خرج يريد بيت المقدس سنة 446، فنزل في مدينة نربونة على رجل من كبراء أهلها، فتعشق امرأته وتعشقته، ثم تمادى في سفره حتى وصل بيت المقدس، ثم كر راجعاً حتى أتى نربونة

فنزل على ضيفه بها وليس له هم إلا امرأته، فحكم ذلك التعشق بينهما، واتفق معها على أن تعمل الحيلة في الهروب إليه من بلدها، فيزوجها من نفسه؛ فلما وصل إلى برشلونة أرسل إليها قوماً من اليهود في ذلك، ودخل صاحب طرطوشة في الأمر فأوصلهم في الشوانى إلى نربونة، فلم تتوجه لليهود الحيلة في أمرها، وأحسن زوجها ببعض شأنها، وكان بها كلفاً فثقفها، فكان تثقيفه لها سبباً لمعونة أهلها، على مرادها، فوصلت مع قوم منهم إلى برشلونة، فنزل راى مند عن امرأته وتزوج النربونية، فلبست الأولى المسوح، وخرجت مع جماعة من أهل بيتها إلى رومة حتى أتت عظيمها وصاحب الدين بها، وهو الذي يسمونه البابه، فشكت إليه ما صنع زوجها، وأنه تركها بغير سبب، وهو أمر لا يحل في دينهم، وأنهم لا يجوز لهم فعله، وإنما حمله على ذلك عشقه لها، وشهد لها شهود قبلهم، فحرم البابه على صاحب برشلونة دخول الكنائس، وأمر أن لا يدفن له ميت، وأن يتبرأ منه جميع من يعتقد النصرانية فلما علم ذلك، علم أنه لا حيلة له معه ولا بقاء في أفقٍ يكون فيه لنصراني حكم؛ فبذل الأموال ودس مشاهير الأساقفة والقسيسين، فأوطاهم على الشخوص إلى البابه، وأن يشهدوا له أنه تقصى عن نسب المرأة التي ترك، فوجدها منه بقربى يحرمها عليه، وأن النربونية فرت من زوجها لذلك، لأنه كانت منه بنسبٍ، وكان يكرهها على المقام معه، فنفذ القوم إلى البابه، وشهدوا للقومس ما أوصاهم عليه، فقبلهم، وأباح له دخول الكنائس ودفن من مات له، وسائر ما حجر عليه.

برغش

برغش في بلاد الروم بالقرب من مدينة ليون، وهي مدينة كبيرة يفصلها نهر، ولكل جزء منها سور، والأغلب على الجزء الواحد منها اليهود، وهي حصينة منيعة، ذات أسواقٍ وتجارٍ، وعددٍ وأموال، وهي رصيف للقاصد والمتحول، وهي كثيرة الكروم، ولها رساتيق وأقاليم معمورة. بريانة بالأندلس بقرب عقبة أنيشة. وهي مدينة جليلة عامرة، كثيرة الخصب والأشجار والكروم، وهي في مستوٍ من الأرض، وبينها وبين البحر ثلاثة أميالٍ، وهي قريبة من بلنسية. بزليانة قرية على ساحل البحر، قريبة من مالقة، وهي قرية تشبه بالمدينة في مستوٍ من الأرض، وأرضها رمل، وبها الحمام والفنادق، ويصاد بها الحوت الكثير، ويحمل منها إلى الجهات المجاورة لها، وبينها وبين مالقة ثمانية أميال. بسطة مدينة بالأندلس بالقرب من وادي آش، وهي متوسطة المقدار، حسنة الموضع،

بطروش

عامرة، آهلة، حصينة، ذات أسواقٍ، وبها تجارات، وفعلة بضروب الصناعات، وبينها وبين جيان ثلاث مراحل؛ وهي من كور جيان، وشجر التوت فيها كثير. وعلى قدر ذلك غلة الحرير والزيتون، وسائر الثمار بها على مثل ذلك من الكثرة، وأرضها عذاة كثيرة الريع، وبها كانت طرز الوطاء البسطى من الديباج الذي لا يعلم شفيرها، وبها جبل يعرف بجبل الكحل، لا يزال ينقر منه كحل أسود، يزيد بزيادة القمر، وينقص بنقصانه، لم يزل على ذلك من قديم الدهر. ومدينة بسطة مدينة مفردة من الجزء الرابع من قسمة قسطنطين، وهي مشهورة بالمياه والبساتين، وكان الأديب أبو الحسن على بن محمد بن شفيع البسطى يقول: لو طبعت على الزهد لحملنى حسن بلادي على المجون والتعشق والراحات!، وكان شاعر بسطة. بطروش بالأندلس في طريق قرطبة، وهو حصن كثير العمارة، شامخ الحصانة، لأهله جلادة وحزم على مكافحة أعدائهم، ويحيط بجبالهم وسهولهم شجر البلوط، الذي فاق طعمه كل بلوط على وجه الأرض، ولهم اهتمام بحفظه وخدمته، وهو لهم غلة وغياث في سنى الشدة والمجاعة.

بطليوس

بطليوس بالأندلس من إقليم ماردة، بينهما أربعون ميلاً، وهي حديثة الاتخاذ، بناها عبد الرحمن بن مروان المعروف بالجليقى بإذن الأمير عبد الله له في ذلك، فأنفذ له جملة من البناة، وقطعة من المال، فشرع في بناء الجامع باللبن والطابية، وبنى صومعته خاصةً بالحجر، واتخذ مقصورةً، وبنى مسجداً خاصاً بداخل الحصن، وابتنى الحمام الذي على باب المدينة، وأقام البناة عنده حتى ابتنوا له عدة مساجد؛ وكان سور بطليوس مبنيا بالتراب، وهو اليوم مبنى بالكلس والجندل، وبنى في سنة 421. وهي مدينة جليلة في بسيطٍ من الأرض، ولها ربض كبير أكبر من المدينة في شرقيها، فخلا بالفتن، وهي على ضفة نهرها الكبير المسمى الغور، لأنه يكون في موضع يحمل السفن، ثم يغور تحت الأرض حتى لا توجد منه قطرة، فسمى الغؤور لذلك، وينتهي جريه إلى حصن ما رتلة، ويصب قريباً من جزيرة شلطيش؛ ومن بطليوس إلى إشبيلية ستة أيامٍ، ومنها إلى قرطبة ستة مراحل. بلاطة فحص بلاطة بالأندلس بين أشبونة وشنترين. يقول أهل أشبونة وأكثر أهل الغرب إن الحنطة تزرع بهذا الفحص، فتقيم في الأرض أربعين يوماً فتحصد، وإن الكيل الواحد منها يعطى مائة كيل، وربما زاد ونقص.

بلطش

بلطش بالأندلس، إقليم من أقاليم سرقسطة، ونهر هذا الإقليم يسقى مسافة عشرين ميلاً، وبقرب بلطش موضع ينفجر بالماء العذب أول ليلة شهر أغشت، ومن الغد إلى حد الزوال، ثم يبدو فيه القلوص والنقصان، فإذا غربت الشمس، جف إلى تلك الليلة من العام المستقبل، هذا دأبه أبداً. بلنسية في شرق الأندلس، بينها وبين قرطبة على طريق بجانة ستة عشر يوماً، وعلى الجادة ثلاثة عشر يوماً. وهي مدينة سهلية، وقاعدة من قواعد الأندلس، في مستوٍ من الأرض، عامرة القطر، كثيرة التجارات، وبها أسواق وحط وإقلاع، وبينها وبين البحر ثلاثة أميال. وهي على نهرٍ جارٍ ينتفع به، ويسقى المزارع، ولها عليه بساتين، وجنات، وعمارات متصلة. والسفن تدخل نهرها، وسورها مبنى بالحجر والطوابى، ولها أربعة أبواب، وهي من أمصار الأندلس الموصوفة، وحواضرها المقدمة، ولأهلها حسن زيٍ، وكرم طباع، والغالب عليهم طيب النفوس، والميل إلى الراحات، وهي في أكثر الأمور راخية الأسعار، كثيرة الفواكه والثمار، جامعة لخيرات البر والبحر، ولها أقاليم كثيرة، وهي في الجزء الرابع من قسمة قسطنطين.

وكان الروم تغلبوا على بلنسية قديماً، ثم أحرقوها عند خروجهم منها سنة495، فقال أبو إسحاق إبراهيم بن أبي الفتح بن خفاجة كامل: عاثت بساحتك الظبى يادار ... ومحا محاسنك البلى والنار فإذا تردد في جنابك ناظر ... طال اعتبار فيك واستعبار أرض تقاذفت النوى بقطينها ... وتمخضت بخرابها الأقدار فجعلت أنشد خير سادة أهلها ... لا أنت أنت ولا الديار ديار وقال الأستاذ أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن خلصة البلنسى بسيط: وروضة زرتها للانس مبتغياً ... فأوحشتنى لذكرى سادةٍ هلكوا تغيرت بعدهم خرباً وحق لها ... مكان نوارها أن ينبت الحسك لو أنها نطقت قالت لفقدهم ... بأن الخليط ولم يرثوا لمن تركوا ثم في سنة 630، ملك الروم بلنسية صلحاً، واستولى عليها ملك أرغون جاقمه، وأكثر أدباؤها بكاؤها، والتأسف عليها نظماً ونثراً؛ فمن ذلك قول الكاتب أبي المطرف ابن عميرة، خاطب به الكاتب أبا عبد الله بن الأبار، جواباً عن رسالةٍ: طارحنى حديث موردٍ جف، وقطينٍ خف؛ فيا لله لأترابٍ درجوا، وأصحاب عن الأمطان خرجوا؛ قصت الأجنحة وقيل: طيروا، وإنما هو القتل أو الأسر أو تسيروا؛ فتفرقوا أيدي سبا، وانتشروا ملء الوهاد والربا؛ ففي كل جانبٍ عويل وزفره، وبكل صدرٍ غليل وحسره؛ ولكل عينٍ عبره، لا ترقأ من أجلها عبره؛

داء خاص بلادنا حين أتاها، وما زال بها حتى سجى على موتاها، وشجا ليومها الأطول كهلها وفتاها؛ وأنذر بها في القوم بحران أنيجه، يوم أثاروا أسدها المهيجه؛ فكانت تلك الحطمة طل الشؤبوب، وبا كورة البلاء المصبوب؛ اثكلتنا إخواناً أبكانا نعيهم، فالله أحوذيهم وألمعيهم؛ ذاك أبو ربيعنا، وشيخ جميعنا؛ سعد بشهادة يومه، ولم ير ما يسوءه في أهله وقومه؛ وبعد ذلك أخذ من الأم بالمخنق، وهي بلنسية ذات الحسن والبهجة والرونق؛ وما لبث أن أخرس من مسجدها لسان الأذان، وأخرج من جسدها روح الإيمان؛ فبرح الخفاء، وقيل على آثار من ذهب العفاء وانعطفت النوائب مفردةً ومركبةً كما تعطف الفاء؛ وأودت الخفة والحصافه، وذهب الجسر والرصافة؛ ومزقت الحلة والسهله، وأوحشت الجرف والرمله؛ ونزلت بالحارة وقعة الحره، وحصلت الكنيسة من جآذرها وظبائها على طول الحسره؛ فأين تلك الخمائل ونضرتها، والجداول وخضرتها؛ والأندية وأرجها، والأودية ومنعرجها؛ النواسم وهبوب مبتلها، والأصائل وشجوب معتلها؛ دار ضاحكت الشمس بحرها وبحيرتها، وأزهار ترى من أدمع الطل في أعينها ترددها وحيرتها؛ ثم زحفت كتيبة الكفر بزرقها وشقرها، حتى أحاطت بجزيرة شقرها؛ فآها لمسقط الرأس هوى نجمه، ولفادح الخطب سرى كلمه؛ وبالجنة أجرى الله تعالى النهر تحتها، وروضةٍ أجاد أبو إسحاق نعتها؛ وإنما كانت داره التي فييها دب، وعلى أوصاف محاسنها ألب، وفيها أتته منيته كما شاء وأحب؛ ولم تعدم بعده محبين قشيبهم إليها ساقوه، ودمعهم عليها أراقوه. وله من رسالةٍ أخرى في المعنى: ثم ردف الخطاب الثاني بقاصمة المتون،

وقاضية المنون، ومضرمة الشجون، ومذرية ماء الشؤون؛ وهو الحادث في بلنسية دار النحر، وحاضرة البر والبحر؛ ومطمح أهل السياده، ومطرح شعاع البهجة والنضاده؛ أودى الكفر بإيمانها، وأبطل الناقوس صوت أذانها؛ ودهاها الخطب الذي أنسى الخطوب، وأذاب القلوب، وعلم سهام الأحزان أن تصيب، ودموع الأجفان أن تصوب؛ فيا ثكل الإسلام، ويا شجو الصلاة والصيام؛ يوم الثلاثاء، وما يوم الثلاثاء، يا ويح الداهية الدهياء، وتأخير الإقدام عن موقف العزاء؛ أين الصبر وفؤادي أنسيه، لم يبق لقومي على الرمى سيه؛ هيهات نجد ما مضى من اتنسية، من بعد مصابٍ حل في بلنسيه. يا طول هذه الحسره! ألا جابر لهذه الكسره؟ أكل أو قاتنا ساعة العسرة؟ أخى! أين أيامنا الخوالي؟ وليالينا على التوالي؟ ولأية عيش نعم بها الوالي؟ ومسندات أنس يعدها الرواة من الغوالي؛ بعداً لك يا يوم الثلاثاء من صفر، ما ذنبك عندي بشيئ يغتفر؛ قد أشمت بالإسلام حزب من كفر، من أين لنا المفر كلا لأمفر. كل رزءٍ في هذا الرزء يندرج، وقد اشتدت الأزمة فقل لي متى تنفرج، كيف انتفاعنا بالضحى والأصائل إذا لم يعد ذلك النسيم الأرج؛ ليس لنا إلا التسليم، والرضى بما قضاه الخلاق العليم. وقال في رسالةٍ أخرى في المعنى: وأجريت خبر الحادثة التي محقت بدر التمام، وذهبت بنضارة الأيام: فيا من حضر يوم البطشه، وعزى في أنسه بعد تلك الوحشه؛ أحقاً إنه دكت الأرض، ونزف المعين والبرض؛ وصوح روض المنى، وصرح الخطب وما كنى؟ أبن لي كيف فقدت رجاحة الأحلام، وعقدت مناحة الإسلام؛

وجاء اليوم العسر، وأوقدت نار الحزن فلا تزال تستعر؛ حلم ما نرى؟ بل ما رأى ذا حالم، طوفان يقال عنده لا عاصم، من ينصفنا من الزمان الظالم، الله بما يلقى الفؤاد عالم؛ بالله أي نحوٍ تنحو، ومسطورٍ تثبت وتمحو؛ وقد حذف الأصلى والزائد، وذهبت الصلة والعائد؛ وباب التعجب طال، وحال البائس لا تخشى الانتقال؛ وذهبت علامة الرفع، وفقدت سلامة الجمع؛ والمعتل أعدى الصحيح، والمثلث أردى الفصيح؛ وامتنعت العجمة من الصرف، وأمنت زيادتها من الحذف؛ ومالت قواعد الملة، وصرنا إلى جمع القله؛ وللشرك صيال وتخمط، ولقرنه في شركه تخبط؛ وقد عاد الدين الى غربته، وشرق الإسلام بكربته؛ كأن لم يسمع بنصر ابن نصيرٍ، وطرق طارقٍ بكل خيرٍ؛ ونهشات حنشٍ وكيف أعيت الرقى، وأذالت بليل السليم يوم الملتقى، ولم تخبر عن المروانية وصوائفها، وفتى معافر وتعفيره للأوثان وطوائفها: لله ذلك السلف، لقد طال الأسى عليهم والأسف. وقال في رسالةٍ أخرى: وما الذي نبغيه، وأي أمل لا نطرحه ونلغيه؛ بعد الحادثة الكبرى، والمصيبة التي كل كبدٍ لها حرى، وكل عينٍ من أجلها عبرى: لكن هو القضاء لا يرد، ولله الأمر من قبل ومن بعد. ومما قاله في ذلك من المنظوم قوله كامل: ما بال دمعك لا ينى مدراره ... أم ما لقلبك لا يقر قراره أللوعةٍ بين الضلوع لظاعنٍ ... سارت ركائبه وشطت داره أم للشباب تقاذفت أوطانه ... بعد الدنو وأخفقت أوطاره أم للزمان أتى بخطب فادح ... من مثل حادثة خلت أعصاره

بحر من الأحزان عب عبابه ... وارتج ما بين الحشا زخاره في كل قلبٍ منه وجد عنده ... أسف طويل ليس تخبو ناره أما بلنسية فمثوى كافرٍ ... حفت به في عقرها كفاره زرع من المكروه حل حصاده ... عند الغدو غداة لج حصاره وعزيمة للشرك جعجع بالهدى ... أنصارها إذ خانه أنصاره قل كيف تثبت بعد تمزيق العدا ... آثاره أم كيف يدرك ثاره ما كان ذاك المصر إلا جنة ... للحسن تجرى تحته أنهاره طابت بطيب بهاره آصاله ... وتعطرت بنسيمه أشجاره أما السرار فقد غداه وهل سوى ... قمر السماء يزول عنه سراره قد كان يشرق بالهداية ليله ... والآن أظلم بالضلال نهاره ودجا به ليل الخطوب بصبحه ... أعيا على أبصارنا إسفاره ومما صدر عن الكاتب أبي عبد الله محمد بن الأبار في ذلك من رسالةٍ: وأما الأوطان المحبب عهدها بحكم الشباب، المشبب فيها بمحاسن الأحباب: فقد ودعنا معاهدها وداع الأبد، وأخنى عليه الذي أخنى على لبد؛ أسلمها الإسلام، وانتظمها الانتثار والاصطلام؛ حين وقعت أنسرها الطائره، وطلعت أنحسها الغائرة؛ فغلب على الجذل الحزن، وذهب مع المسكن السكن: بسيط كزعزع الريح صك الدوح عاصفها ... فلم يدع من جنى فيها ولا غصن واهاً وواهاً يموت الصبر بينهما ... موت المحامد بين البخل والجبن أين بلنسية ومغانيها، وأغاريد ورقها وأغانيها؛ أين حلى رصافتها وجسرها،

ومنزلا عطائها ونصرها؛ أين أفياؤها تندى غضاره، وركاؤها تبدو من خضاره؛ أين جداولها الطفاحة وخمائلها، أين جنائبها النفاحة وشمائلها؛ شد ما عطل من قلائد أزهارها نحرها، وخلعت شعشعانية ضحاها بحيرتها وبحرها؛ فأية حيلةٍ لا حيلة في صرفها مع صرف الزمان، وهل كانت حتى بانت إلا رونق الحق وبشاشة الإيمان؛ ثم لم يلبث داء عقرها، أن دب إلى جزيرة شقرها؛ فأمر عذبها النمير، وذوى غصنها النضير؛ وخرست حمائم أدواحها، وركدت نواسم أرواحها؛ ومع ذلك اقتحمت دانيه، فنزحت قطوفها وهي داينة؛ ويالشاطبة وبطحائها، من حيف الأيام وإنحائها؛ ولهفاه ثم لهفاه على تدمير وتلاعها، وجيان وقلاعها؛ وقرطبة ونواديها، وحمص وواديها؛ كلها رعى كلأها، ودهى بالتفريق والتمزيق ملأها؛ عض الحصار أكثرها، وطمس الكفر عينها وأثرها؛ وتلك إلبيرة بصدد البوار، وريه في مثل حلقة السوار؛ ولا مرية في المرية وخفضها على الجوار؛ وإلى بنيات لواحق بالأمهات، ونواطق بهاك لأول ناطقٍ بهات؛ ما هذا النفخ بالمعمور، أهو النفخ في الصور، أم النفر عارياً من الحج المبرور؛ وما لأندلس أصيبت بأشرافها، ونقصت من أطرافها؛ قوض عن صوامعها الأذان، وصمت بالنواقيس فيها الآذان؛ أجنت ما لم تجن الأصقاع، أعقت الحق فحاق بها الإيقاع؛ كلا بل دانت للسنة، وكانت من البدع في أحصن جنه؛ هذه المروانية مع اشتداد أركانها، وامتداد سلطانها؛ ألقت حب آل النبوة في حبات القلوب، وألوت ما ظفرت من خلعةٍ ولا قلعةٍ بمطلوب؛ إلى المرابطة بأقصى الثغور، والمحافظة على معالي الأمور، والركون إلى الهضبة المنيع، ة والروضة المريعه، من معاداة الشيعه، وموالاة الشريعه؛ فليت شعرى بم استوثق

تمحيصها، ولم تعلق بعموم البلوى تخصيصها؛ اللهم غفراً! طالما ضر ضجر، ومن الأنباء ما فيه مزدجر؛ جرى بما لم نقدره المقدور، فما عسى أن ينفث به المصدور؛ وربنا الحكيم العليم، فحسبنا التفويض له والتسليم؛ ويا عجبا لبنى الأصفر، أنسيت مرج الصفر، ورميها يوم اليرموك بكل أغلب غضفر؛ دع ذا فالعهد به بعيد، ومن اتعظ بغيره فهو سيعد؛ هلا تذكرت العامرية وغزواتها، وهابت العامرية وهبواتها. ومما قاله في ذلك من المنظوم، قصيدته السينية التي أولها: بسيط. أدرك بخيلك خيل الله أندلسا يقول فيها: يا للجزيرة أضحى أهلها جزاراً ... للحادثات وأمسى جدها تعسا يا للمساجد عادت للعدى بيعاً ... وللنداء يرى أثناءها جرسا لهفى عليها إلى استرجاع فائتها ... مدارساً للمثانى أصبحت درساً كانت حدائق للأحداق مونقةً ... فصوح النضر من أدواحها وعسا وحال ما حولها من منظر عجبٍ ... يستجلس الركب أو يستركب الجلسا محا محاسنها طاغ أتيح لها ... ما نام عن هضمها حيناً ولا نعسا ورج أرجاءها لما أحاط بها ... فغادر الشم من أعلامها خنسا مدائن حلها الإشراك مبتسما ... جذلان وارتحل الإيمان مبتئسا وصيرتها العوادي العائثات بها ... يستوحش الطرف منها ضعف ما أنسا

بنبابش

وفي بلنسيةٍ منها وقرطبة ... ما ينسف النفس أو ما ينزف النفسا وهي طويلة. وفي بلنسية، يقول أبو عبد الله بن عياش طويل: بلنسية بيني عن القلب سلوةً ... فإنك روض لا أحن لزهرك وكيف يحب المرء داراً تقسمت ... على صارمي جوع وفتنة مشرك وانتقض من هذا القول أبو الحسن بن حريق فأجاب وافر: بلنسية نهاية كل حسن ... حديث صح في شرق وغرب فإن قالوا محل غلاء سعرٍ ... ومسقط ديمتى طعن وضرب فقل هي جنة حفت رباها ... بمكروهين من خوفٍ وحرب بنبابش مدينة في بلاد الإفرنجة، عامرة، كثيرة الأهل، سورها بالآجر والكلس، وبها نحو من خمسمائة حداد، يعملون الدروع والسيوف والبيضات والرماح؛ وهو بلد واسع الخطة، كثير الخير، وتنتهي أحوازها في الجوف إلى البحر المحيط مسيرة ثلاثة أيامٍ، وأهل بنبابش يزعمون أنهم من الإفرنج، يشبهونهم في صفتهم وملابسهم وهيئتهم وأخلاقهم. بنبلونة مدينة بالأندلس، بينها وبين سرقسطة مائة وخمسة وعشرون ميلاً، بها كانت دار مملكة غرسية بن شانجه سنة 330، وهي بين جبالٍ شامخةٍ، وشعاب غامضةٍ،

بنشكلة

قليلة الخيرات، أهلها فقراء، جاعة لصوص، وأكثرهم متكلمون بالبشقية لا يفهمون؛ وخيلهم أصلب الدواب حافراً الخشونة بلادهم، ويسكنون على البحر المحيط في الجوف. بنشكلة حصن بالأندلس، وبالقرب من طركونة، منيع على ضفة البحر، وهو عامر آهل، وله قرى وعمارات ومياه كثيرة، وبه عين ثرة تريق في البحر، ويقابل مرسى بنشكلة من بر العدوة جزائر بنى مزغناى، بينه وبينها ستة مجارٍ. البونت هي قرية من أعمال بلنسية، ينسب إليها صاحب الوثائق المجموعة، عبد الله بن فتوح بن عبد الواحد. بيارة مدينة بالأندلس، قريبة من بلكونة، بينهما عشرة أميال، وكان ميناها على النهر الأعظم معقوداً بالرصيف، وكانت المحجة العظمى عليها من باب نربونة إلى بابها إلى باب قرطبة، وحنية بابها باقية لم تتثلم وهي عالية، لا يدرك أعلاها فارس بقناته، وكانت من بناء ركارد بن لويلد ملك القوط، وهو الذي جمع الفرق، وقطع الشعوب، وبث الاختلاف، وقدم ثمانين أسقفاً على ثمانين مدينة، وكان مستقره طليطلة، وهو الذي بنى الكنائس الجليلة في نواحي الأندلس، وهو الذي قال بالتثليث.

بياسة

بيّاسة بالأندلس أيضاً: بينها وبين جيان عشرون ميلاً، وكل واحدةٍ منهما تظهر من الأخرى؛ وبياسة على كديةٍ من ترابٍ، مطلةٍ على النهر الكبير المنحدر إلى قرطبة، وهي مدينة ذات أسوارٍ وأسواقٍ ومتاجر، وحولها زراعات، ومستغلات الزعفران بها كثيرة. وفي سنة 623، ملك الروم بياسة يوم عرفة من ذي حجتها، وكان صاحب جيان إذ ذاك عبد الله بن محمد بن عمر بن عبد المؤمن، قد تغير له عبد الله العادل بن المنصور، صاحب إشبيلية، فخافه فخرج إلى بياسة ودخلها، وكلم أهلها في مساعدته وامتناعه بهم، إلى أن يأخذ لنفسه الأمان، فساعدوه على مراده، ومنعوه عن رأيه، فجهز إليه العادل العساكر، وقدم عليهم إدريس بن المنصور؛ فلما نزلوا بظاهر بياسة مكثوا عليها أياماً، والزمان شاتٍ، فلم يغنوا شيئاً؛ وأرد عبد الله صاحب بياسة تفريق ذلك الجمع بما أمكن، فداخله بأن صالحة على أن يدفع له ابناً صغيراً ليكون رهينة لديه بطاعته؛ فوجد إدريس السبيل إلى الانصراف عنه، وكان أكبر همه؛ إذ قد جهده وأصحابه شدة البرد ونزول المطر، إلى ما كانوا يخافونه من مد النهر، ووصول روم طليطلة، الذين كانوا أولياء لصاحب بياسة، وأنصاراً له؛ فخاف أن يدعو بهم، فيلبوه، إذ كان حصل من أنفسهم محلاً كثيراً لشجاعته؛ فارتحل أبو العلاء لذلك، ورأى أنه قد صنع شيئاً، وأنه قد أقام عذره فلما وصل إلى إشبيلية، استقصر فعله، واستهجن رأيه، وبقي عندهم كالخامل المتخوف.

ثم جهزوا بعده جيشاً آخر إلى بياسة، قدموا عليه عثمان بن أبي حفص، فسار حتى بلغ قبلى بياسة، خلف النهر الكبير، على خمسة أميال من بياسة، فبرز إليهم دون المائة من فرسان عبد الله صاحب بياسة، ومن الروم الذين معه؛ فلما رأوهم انهزموا، وولوا الأدبار، ولم يجتمع منهم أحد؛ وبقى صاحب بياسة ببلده، ولا أحد يرومه، إلى أن تملك قرطبة ومالقة وغيرهما؛ وكاد يستولى على الأمر لو ساعده القدر، وخرج فأوقع بأهل إشبيلية بفحص القصر سنة622، وقتل منهم نحواً من ألفي رجل، وانصرف عنها مكسوراً مفلولاً. وقد كان أدخل الروم قصبة بياسة وأسكنهم فيها، والمسلمون معهم في سائر المدينة، وكان دفعه القصبة إليهم على سبيل الرهن في مال كان تعين لهم عليه؛ فبقوا في القصبة ساكنين، والمسلمون في البلد يداخلونهم ويعاملونهم، وهو إذ ذاك في قرطبة مقيم؛ فلما غزا إشبيلية وانصرف عنه مفلولاً مكسوراً، ثار به أهل قرطبة؛ إذ توهموا أنه يريد إدخال النصارى مدينتهم، فخرج عنهم فاراً إلى الحصن المدور فأقام هناك، وبقيت قصبة بياسة بيد الروم وغلق الرهن، وأحب أهل بياسة إخراج الروم عن قصبتهم، فداخلوا صاحب جيان عمر بن عيسى بن أبي حفص بن يحيى، وسألوه المسير إليهم في جموعه، فجاءهم بحشوده ومعه محمد بن يوسف المسكدالي، فدخلوا بياسة، وأما من كان بالقصبة من الروم فلم ينالوا شيئاً، وأما من كان منهم بالمدينة فأتى عليها القتل بعد أن أبلوا في الدفاع، إلا أنهم غلبوا بالكثرة، وبقي أهل القصبة لا يستطيع أحد الوصول إليهم لحصانتها، ولو أراد الله تعالى لوفق هذا الوالي المقام؛ فإن أهل

بيانة

القصبة لم يكن عندهم شئ يقتاتونه إلا ما يأتيهم من المدينة مياومةً، فلو مكث عليه يوماً أو يومين لضاقوا وخرجوا؛ ولم يكن أهل ملتهم نصروهم إلا في مدةٍ بعيدة لبعد المسافة، لكن أبى المقدار إلا أن يفرغ في يومه ذلك، ولم يختر على المبيت ليلةً واحدةً وظن أن الفجاج ترميه بالخيل والرجال، فقال لأهل البلد: أنا راجع؛ فمن أحب أن يخرج فليخرج، ومن أحب أن يقعد فليقعد! فرغبوه أن يمكث يوماً أو يومين فأبى عليهم إلا الرجوع في يومه، فلم يكن لأهل البلد بد من فراق بلدهم والخروج عن نعمتهم فتفرقوا في البلاد، وبقي الروم في جميع المدينة، وملكوها كلها. ومن أهل بياسة الأديب التأريخى أبو الحجاج يوسف بن إبراهيم البياسى، مصنف كتاب الإعلام لحروب الإسلام، وغيره من تصانيفه. بيانة بالأندلس من أعمال قرطبة، وهي من مدن قبرة، وعلى يمين الطريق الذاهب إلى قرطبة، وشرقي قبرة، بينهما عشرة أميال، وهي على ربوة من الأرض طيبة التربة، كثيرة المياه السائحة، ولها حصن منيع، وبها جامع بناه الإمام عبد الرحمن ومنبر، وكانت قبل الفتنة من غرر البلدان، وكان بها أسواق عامرة، وحمامات، وهي كثيرة البساتين والكروم والزيتون، وهي على نهر مربلة، يأتيها من جهة القبلة، وهو نهر كبير، عليه الأرحارء الكثيرة. ومن بيانة، قاسم بن أصبغ بن محمد بن يوسف بن ناصح بن عطاء البياني، مولى الوليد بن عبد الملك، سمع بقرطبة من بقى بن مخلد وغيره، وبمكة من جماعة، وبالعراق

بيران

من أحمد بن زهير بن حرب، وهو ابن أبي خيثمة، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وعبد الله بن مسلم بن قتيبة، ومحمد بن يزيد المبرد، وثعلب، وغيرهم. بيران حصن من حصون الأندلس، ومن قصيدة ابن الأبار يمدح بها السيد أبا زيد عند انقياد أهل بيران لابنه السيد أبي يحيى أبي بكر سنة622 بسيط: لله قلعة بيران وعزتها ... على الأعاصر في ماضي الأعاصير عنت ودانت على حكم المنى فرقاً ... من سيدٍ قد هوت من أرفع السور وأذعنت وهي الشماء ذروتها ... على حجاج لها من قبل مذكور ولو أصرت على الإعراض ثانيةً ... لأصبحت بين تخريب وتدمير مدت إليك أبا زيد بطاعتها ... يداً مخافة صولٍ منك مشهور وأكدت في الرضى والصفح رغبتها ... كما تقدم تأييد المقادير فجدت جودك بالنعمى بما سألت ... من الأمان لها طلق الأسارير بيغو مدينة بالأندلس من عمل غرناطة. كان عبد الله صاحب بياسة من بني بعد الؤمن وهو المعروف بالبياسي استدعى عدو الدين لما نزل عليه العادل ببياسة، فحاصره فأقلع عنه دون شيء لما لم

بيونة

يجد في المسلمين كبير إعانة، استدعى النصارى فوصلوا إليه، فسلم إلى الفنش بياسة، وجازى أهلها شر الجزاء، بعد ما آووه ونصروه، فأخرجهم منها وسار مع الفنش ليأخذ معاقل الإسلام باسمه، فدخل قيجاطة من عمل جيان بالسيف، وقتل العدو فيها خلقاً كثيراً، وأسر آخرين، وكان حديثها شنيعاً تنفر منه الأسماع والقلوب؛ ثم نهض أيضاً ومعه العدو إلى لوشة من عمل غرناطة، فاستعصم أهلها بسورها الحصين، وقاتلوه أشد قتال، وأسمعوه ما هاج غيظه، فلما تمكن منها سلط عليهم عدوهم في الدين، ففتكوا بهم أشد الفتك، ثم سار إلى بيغو هذه فأطال مع الفنش حصارها إلى أن دخل البلد بعد شدةٍ، وصالحه أهل القلعة، وما زال أمره يقوى إلى أن احتوى على قرطبة ومالقة وكثير من معاقل هاتين القاعدتين وبلادهما، فخاف منه العادل بإشبيلية، وجمع من عنده من الجند، ونظر في كفه عن جهته، وكان ذلك في سنة622. بيونة مدينة في بلاد الروم على ساحل البحر وهي بالقرب من مدينة طودة.

حرف التاء

حرف التاء تاجه نهر عظيم يشق طليطلة قصبة الأندلس في الزمان الأقدم، يخرج من بلاد الجلالقة، ويصب في البحر الرومي، وهو نهر موصوف من أنهار العالم، وعليه، على بعدٍ من طليطلة، قنطرة عظيمة، بنتها ملوك سالفة، وهي من البنيان الموصوف. تاكرنا مدينة بالأندلس بمقربةٍ من إستجة، وهي مدينة أزلية، إليها تنسب الكورة، وبها بلاط من بناء الأول لم يتغير. وإقليم تاكرنا مصاف إلى إقليم إستجة، ومن مدن تاكرنا مدينة رندة، وهي قديمة، ولها آثار كثيرة، وسنذ كرها في موضعها إن شاء الله تعالى. تدمير من كور الأندلس، سميت باسم ملكها تدمير. ونسخة كتاب الصلح الذي صالحه عليه عبد العزيز بن موسى بن نصير: بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب من عبد العزيز بن موسى بن نصير لتدمير ابن عبدوش. أنه نزل على الصلح، وأن له عهد الله وذمته، وذمة نبيه " - صلى الله عليه وسلم - "، ألا يقدم له

ترجاله

ولا لأحدٍ من أصحابه، ولا يؤخر، ولا ينزع من ملكه، وأنهم لا يقتلون ولا يسبون ولا يفرق بينهم وبين أولادهم ولا نسائهم، ولا يكرهوا على دينهم، ولا تحرق كنا ئسهم، ولا ينزع عن كنائسه ما يعبد، وذلك ما أدى الذي اشترطنا عليه، وأنه صالح على سبع مدائن: أرويولة، وبلتنه، ولقنت، ومولة، وبلانة، ولورقة، وأله، لا يأوى لنا آبقاً، ولا يأوى لنا عدوا، ولا يخيف لنا آمناً، ولا يكتم خبر عدو علمه، وأن عليه وعلى أصحابه ديناراً كل سنة، وأربعة أمداد قمح، وأربعة أمداد شعير، وأربعة أقساط طلاء، وأربعة أقساط خلٍ، وقسطى عسلٍ، وقسطى زيتٍ، وعلى العبد نصف ذلك، وكتب في جب سنة 94 من الهجرة. ترجاله مدينة بالأندلس. كالحصن المنيع، لها أسوار، وأسواق عامرة، وخيل ورجل يقطعون أعمارهم في الغارات على بلاد الروم، والأغلب عليهم التلصص والخداع. وفي سنة 630 نزل الروم على ترجاله فحاصروها، فخرج إليهم محمد بن يوسف بن هود طامعاً في انتهاز فرصة فيهم فلم يمكنه ذلك، فرحل إلى إشبيلية وأخذ منها مراحله إلى ترجاله، وفجاءه الخبر بأخذ الروم لها، فرجع إلى إشبيلية؛ وكان تملك الروم لترجاله في ربيع الأول من هذه السنة.

تطيلة

تطيلة مدينة بالأندلس في جوفي وشقة، وبين الجوف والشرق من مدينة سرقسطة، ويطيف بجنات تطيلة نهر كالش، وهي من أكرم تلك الثغور تربة، يجود زرعها، ويدر ضرعها، وتطيب ثمرتها، وتكثر بركتها، وأهل تطيلة لا يغلقون أبواب مدينتهم ليلاً ولا نهاراً، قد انفردوا بذلك بين سائر البلاد. ومن الغرائب المستطربة، أنه كان بتطيلة بعد الأربعمائة من الهجرة، أو على رأسها، امرأة لها لحية كاملة سابغة كلحى الرجال، وكانت تتصرف في الأسفار، وسائر ما يتصرف فيه الناس، ولا يؤبه لها حتى أمر قاضي الناحية نسوةً من القوابل بالنظر إليها، فأحجمن عن ذلك لما عاينه من منظرها، فألزمهن النظر إليها، فإذا بها امرأة كسائر النساء؛ فأمر القاضي بحلق لحيتها، وأن تتزيا بزي النساء، ولا تسافر إلا مع ذي محرم. ومن بنات تطيلة مدينة طرسونة. ومن تطيلة الشاعر المجيد التطيلى الأعمى، صاحب القصيدة المشهورة، التي أولها طويل: ألا حدثاني عن فلٍ وفلان ... لعلى أرى باقٍ على الحدثان التوبة جزيرة بالأندلس على البحر المحيط، قد أحاط بها خليج، وهي مأوى للصالحين، ورباط لأخيار المسلمين، وبها آبار عذبة، يعتملون عليها من أصناف البقول ما يقوم لمعايشهم مع مرافق البحر.

حرف الجيم

حرف الجيم جرف مواز بالأندلس، على قرطبة جبل يقال له جلطراء، يشرف على قرطبة وجميع منتزهاتها وقصورها، وهو وعر في الشتاء، ومزلة لا يستمسك عليه قدم، وفيه يقول بعض الظرفاء خفيف: نشبتني أخاء من ليس يرعى ... لأخيه الودود حق الإخاء تشبه الجمر والهواء مطير ... في جنوب الأجراف من جلطراء وفي هذا الجبل جرف منقطع عالٍ جداً، تحته مهوى، بعيد مشرف على جميع بساتين رملة قرطبة، يعرف بجرف مواز؛ ومواز رجل أسود من أهل هذه القرية، كان يأتي كل غداة، فيقف بأعلى هذا الحرف، فينادي بأعلى صوته: يا أهل الرملة ثلاثاً يسمعهم عن آخرهم، لجهارة صوته، وإشراف معانية، فإذا تشوفوا له كشف لهم عن دبره، ويركع على أربع، قابضاً على أصل شجيرة كبرٍ هناك ثابتةٍ، يعتصم بها من السقوط؛ فلما طال ذلك عليهم من فعله، دسوا من قطع عروق تلك الشجرة التي كان يتمسك بها، وسوى عليها التراب كحالتها الأولى، وأتى مواز بالغد فصاح بهم على عادته، وصنع كمعهود صنيعه، فتهور من أعلى ذلك الجرف؛ فما وصل إلى الأرض إلا ميتاً فضرب به المثل، حتى قال بعض الشعراء سريع:

جليقية

وعدتني وعداً وقربته ... تقريب من يثنى بإنجاز حتى إذا قلت انقضت حاجتي ... رميت بي من جرف مواز جليقية الجلالقة من ولد يافت بن نوح عليه السلام، وهو الأصغر من ولد نوح، وبلدهم جليقية وهي التي تلي المغرب، وتنحرف إلى الجوف، وكانوا حوالي مدينة براقرة التي في وسط الغرب، وبراقرة هذه أولية من بنيان الروم، وقواعدهم ودور مملكتهم شبيهة بماردة في إتقان بنائها وصنعة أسوارها، وهي اليوم مهدومة الأكثر خالية، هدمها المسلمون وأجلوا أهلها. وبلد الجليقيين سهل، والغالب على أرضهم الرمل، وأكثر أقواتهم الدخن والذرة ومعولهم في الأشربة على شراب التفاح وأنيشكه، وهو شراب يتخذ من الدقيق، وأهلها أهل غدرٍ ودناة أخلاقٍ، لا يتنظفون ولا يغتسلون في العام إلا مرةً أو مرتين بالماء البارد، ولا يغسلون ثيابهم منذ يلبسونها إلى أن تنقطع عليهم، ويزعمون أن الوضر الذي يعلوها من عرقهم به تتنعم أجسامهم، وتصلح أبدانهم، وثيابهم أضيق الثباب، وهي مفرجة تبدو من تفاريجها أكثر أبدانهم، وفيهم بأس شديد، لا يرون الفرار عند اللقاء، بل يرون الموت دونه.

جنجالة

وتنتهي أحواز الجليقيين في الجوف إلى البحر المحيط، وفي القبلة إلى أحواز مدينة طلسونة، وقاعدتهم مدينة أقش، وهي مبنية بالصخر المربع الكبير الخ. جنجالة حصن بالأندلس في شمال مرسية. فيها حبس أبو زيد عبد الرحمن بن موسى بن وجان بن يحيى الهنتاتي، الذي كان وزير المنصور من بني عبد المؤمن، ثم نهض في زمان ابنه الناصر إلى ولاية تلمسان وإصلاح الطرق من عتاة زناتة؛ ولما تمكن أبو سعيد بن جامع وزير المستنصر سعى في ولاية تلمسان لعمه السيد أبى سعيد بن المنصور، فحبس ابن وجان، وجعل بنوه يكتبون سطوراً في البراءة من أفعاله وفرقوها على البلاد؛ ولما زار أبو سعيد بن جامع الوزير غنكيت في سنة617 بعد تأخيره من الوزارة بلغة أن ابن وجان شمت به وهو في حبسه بتلمسان، وتكلم ورجا التسريح، فما كان عنده خبر حتى وصل إليه من جازبه إلى الأندلس وحبسه في حصن جنجالة. ولما حمل إلى ذلك الثغر السحيق، وظنوا إذ ذاك أنه قد حسم بذلك الإقصاء والتفريق؛ وفرقوا بنيه على البلاد، قضى الله تعالى أن مات أبو سعيد بن جامع، وخلص ابن وجان من ذلك الحصن، وقلب الدولة، وسعى في الفتنة، وذلك أنه لما وصل الخبر إلى مرسية بوفاة المستنصر يوسف بن محمد الناصر بن يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن، واستخلاف المبارك عبد الواحد بن يوسف بن عبد المؤمن بمراكش،

والأمر لابن وجان بالمسير إلى جزيرة ميورقة، قرأ قول الله تعالى: ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة، وطلب الاجتماع بالسيد أبي محمد عبد الله بن المنصور صاحب مرسية يومئذ، فلما حضر عنده قال له: أراهم قد أخرجوا الإمامة عن عقب سيدنا المنصور رحمة الله عليه، وأنا أشهد أنه قال: إن لم يصلح محمد فعبد الله قد نصر عليكم، وإن طالبتموهما لم يخالفكم أحد مع كراهية الناس في بني جامع الذين قد اتخذوا الوزارة وراثةً، وجعلوا يقصون من الحضرة كل من هو مؤهل لوزارةٍ واستشارةٍ، وقد وطأ الله لكم هذا الأمر بأن جعل إخوتكم الميامن أولاد المنصور بقرطبة ومالقة وغرناطة، فأول ما قدم فمخاطبتهم بذلك، وتهييج حفائظهم في خروج الإمامة عن بيتهم، وكان السيد أبو محمد هذا لم يبايع عمه عبد الواحد، وهو ناظر في البيعة، فأصغى إلى ابن وجان وعلم أنه قد تقدم له في هذا الأمر سابقة بوزارة المنصور، وأن الموحدين يصيرون إلى قوله في البرين، فنصب نفسه للإمامة، وتلقب بالعادل، وخاطب إخوته فجاوبوه، ثم انتقل العادل من مرسية إلى إشبيلية ومعه ابن وجان، وهو غالب على جميع التدبير، ناظر في مخاطبات ولاة العدوة، والتطلع لأخبار مراكش. ثم إن العادل أراد أن يستريح من ابن وجان لتفرغ أتباعه إلى تدبير الآراء، والاستبداد بحضرته فإنه غم الجميع، وكان ابن وجان إذا احتوى على أمر ضم أطرافه ولم يترك لأحدٍ منه شيئاً، ولذلك رماه أهل الدول عن قوس واحدةٍ، فرسم له العادل ركوب البحر إلى سبتة ليكون بها نائب سلطانه، وناظراً في جميع بر العدوة، فركب في القطائع من نهر إشبيلية إلى سبتة، وذلك كله في سنة621، فاشتغل بالنظر في بلاد العدوة.

ثم أن العادل خلع، واجتمع أهل الحل والعقد وقالوا: نحب ألا نبيت الليلة إلا بإمامٍ! فقال لهم ابن وجان: إن رأيتم أن تتربصوا حتى تتحقق أخبار أبي العلى صاحب الأندلس، فقد ظهرت نجابته بتلك البلاد، وفد ذاق الاستبداد، وما أظنه يترك هذا الأمر لغيره. فعدلوا عن كلامه، وأجمع أبو زكرياء بن الشهيد وأبو يعقوب بن علي على مبايعة أبي زكرياء يحيى بن محمد الناصر. ثم خاطب أبو العلى المذكور لابن وجان يدعوه إلى مبايعته، فأجابه وكذلك خاطبه هلال بن مقدم أمير الخلط، وعمر بن وقاريط شيخ هسكورة في شأن مبايعة أبي العلى، والتضييق على أهل مراكش الذين انحرفوا عن مبايعة أبي العلى وأخذ رأي ابن وجان ومشاركته في ذلك، فأجابهما بأن: لا تزالا تشنا الغارات طرفه عين، وأن تجتهدا في قطع الطرق حتى تحوج الضرورة أهل مراكش إلى مبايعة أبي العلى، وإخراج من لا ينفعهم؛ فلما تواصلت مصائب العرب وهسكورة على مراكش، وصاروا لا يخرج منهم جيش إلا هزموه وغنموه، حتى أفنوا كثيراً من رجالها، واجتمع أهل الرأي فيها على قتل ابن وجان، إذ كان في اعتقادهم أنه يغرى العدو الظاهر بإهلاكهم، فاطلع ابن وجان وابنه الأكبر أبو محمد على ذلك، فاختفى هو في غرفةٍ لبعض أتباعه في جهةٍ ربما يخفى عن العيون، ووقع ابنه في دربٍ من دروب هرغة فاختفى في مسجد هناك؛ ووقع النهب في جميع ما كان لهما، وصار الزمال والسائس والدخاني وأمثالهم يضع كل واحدٍ منهم يده فيمن وقع له من الحرم وغير ذلك، ولا أحد ينكر، ولا يقدر من ينكر أن يتلفظ بذلك، لأنهم كانوا عند العامة مناطبين لأعدائهم، ووقع البحث على

جيان

الشيخ ابن وجان وعلى ولده؛ فأما الشيخ فانتهى إليه جزار، فصاح بصاحبٍ له استعان به على جره فجراه، وذبحه الجزار، وغدا برأسه إلى أبي زيد بن الشيخ أبي محمد عبد الواحد، إذ هو ابن عمه، لأن أبا زيد المقتول هو عبد الرحمن بن عبد الواحد بن أبي جعفر بن يحيى، فيحيى يجمع بين أبي حفص وبين وجان، وجعل الله تعالى بين هذين البيتين ما جعل بين بني هاشم وبني أمية؛ وأما ابنه الوزير أبو محمد فنمى خبره إلى أولاد أبي زكرياء ابن الشهيد فوصلوا إليه وأخرجوه وضربوا عنقه على باب المسجد، وكان قتلهما في نسة625. جيان مدينة بالأندلس، بينها وبين بياسة ستون ميلاً، وهي كثيرة الخصب، رخيصة الأسعار، كثيرة اللحوم والعسل؛ ولها زائد على ثلاثة آلاف قرية، كلها يربى فيها دود الحرير، وبها جنات وبساتين ومزارع وغلات القمح والشعير والباقلاء وسائر الحبوب؛ وعلى ميل منها نهر بلون وهو نهر كبير عليه أرحاء كثيرة جداً، وبها مسجد جامع وعلماء جلة. وجيان في سفح جبل عالٍ جداً، وقصبتها من القصاب الموصوفة بالحصانة وهي من أغر المدن وشريف البقاع، وفي داخلها عيون وينابيع مطردة، ومنها عين ثرة عذبة، عليها قبو من بناء الأول، ولها بركة كبيرة عليها كان حمام الثور، فيه صورة

ثورٍ من رخامٍ وحمام الولد، وهما للسلطان، وحمام ابن السليم، وحمام ابن طرفة، وحمام ابن إسحاق، وتسقى بفضلته بسائط عريضة، ومن عيونها عين البلاط، عليها قبو للأول، وماؤها لا ينقض في زمان من الأزمان، على هذه العين حمام يعرف بحمام حسين، وتسقى بها أيضاً أرض كثيرة، ومن عيونها عين سطرون، وماؤها غزير نمير وعليها سقى كثير؛ والأرحاء الطاحنة على أبواب المنازل بجيان، والجنات بظهور البيوت؛ وجامع جيان مشرف يصعد إليه على درجٍ من جميع نواحيه، وهو من خمس بلاطات على أعمدة رخام، وله صحن كبير حوله سقائف، وهو من بناء الإمام عبد الرحمن بن الحكم على يد ميسرة عامل جيان. وجبل من جبال جيان إذا تبايع أهلها أموالهم فيه شرطوا أنه في مجرى السحاب، لأن هذا الجبل في مكان لا يكاد يخطئه السحاب بالرياح المختلفة، فهم يغالون فيه لهذه الخاصية. وبكورة جيان أقاليم عدة، وبها أسواق كثيرة، وسوقها الجامع يوم وكورتها من أشرف الكور، وهي أشبه الكور بكورة إلبيرة في طيب بقعتها، ووفور غلتها، ورفع بذرها، وكثرة خيرها؛ وجزيرتها تفوق جزيرة إلبيرة طيباً. ومن أمثال العامة: يذكر البلدان، ويسكن جيان!؛ ولها أقاليم كثيرة، وقرىً عامرة، وعمائر واسعة. ومن جيان الحافظ أبو علي الجياني الإمام الضابط؛ وأنشد بعض أهل جيان عند الخروج منها بتغلب العدو عليها وافر:

أودعكم أودعكم جياني ... وأنثر عبرتي نثر الجمان وإني لا أريد لكم فراقاً ... ولكن هكذا حكم الزمان وقال الخطيب بها على المنبر عند العزم على الانفصال عنها في خطبته: وهذه آخر خطبةٍ تقام بجيان! ومن أهل جيان الأستاذ أبو ذر مصعب بن محمد بن مسعود بن عبد الله بن مسعود الخشنى المعروف بابن أبي ركب، وهو القائل بعد خروجه من جيان طويل: أجيان أنت الماء قد حيل دونه ... وإني لظمآن إليك وصادى ذكرتك إذ هبت شمال وإذ بدا ... لعيني من تلك المعالم بادى متى ما أرد سيراً إليك تردني ... مخافة آسادٍ هناك عوادى وكان سكن إشبيلية وولى خطة المناكح بها، ثم سكن فاساً وأقرأ بها، ثم ولى قضاء بلده جيان سنة509، ومن شعره طويل: أيا نخلتي جيان بالله أسعدا ... غريباً بكى من فقد أهلٍ وجيران يحن إلى ظليكما وفؤاده ... رهين بأظعانٍ حللن بجيان يؤمل أقصى الغرب والشرق همه ... ويذكر أوطاناً تحن لأوطان وما ذاك عن بغضٍ ولا عن قلى لها ... ولكن عدت عنها تصاريف أزمان عسى من قضى بالبعد عنهم بلطفه ... يسدد من حالي ويصلح من شاني

حرف الخاء

حرف الخاء الخضراء بالأندلس، وهي الجزيرة الخضراء، ويقال لها جزيرة أم حكيم، وهي جارية طارق بن زياد مولى موسى بن نصير كان حملها معه فخلفها هذه الجزيرة فنسبت إليها، وعلى مرسى أم حكيم مدينة الجزيرة الخضراء، وبينها وبين مدينة قلشانة أربعة وستون ميلاً، وهي على ربوةٍ مشرفةٍ على البحر وسورها متصل به، وبشرقيها خندق وبغربيها أشجار تينٍ وأنهار عذبة؛ وقصبة المدينة موفية على الخندق وهي منيعة حصينة سورها حجارة وهي في شرقي المدينة ومتصلة بها؛ وبالمدينة جامع حسن البناء فيه خمس بلاطات وصحن واسع وسقائف من جهة الجوف وهو في وسط المدينة في أعلى الربوة، وأسواقها متصلة من الجامع إلى شاطئ البحر؛ وعلى البحر بين القبلة والشرق من مدينة الجزيرة مسجد سوى يعرف بمسجد الرايات، ركزت فيه المجوس راياتها، فنسب إليها، وله باب من خشب سفن المجوس، وبها كانت دار صناعةٍ بناها عبد الرحمن بن محمد أمير المؤمنين للأساطيل، وأتقن بناءها، وعلى أسوارها، ثم اتخذها المنتزون بها في الفتنة قصراً، وبقرب المدينة مدخل الوادي في البحر، عليه بساتين كثيرة، ومهبطه من حيث تدخله السفن، ومنه شرب أهل الجزيرة، ويسمونه وادي العسل، ويمده البحر إلى قدر شطر المدينة، وهو نحو نصف ميل، وتجاهه أثر مدينة الجلندي الملك صاحب

قرطاجنة إفريقية بقبلى مدينة الجزيرة، وهو اليوم خربة تزدرع، وبها حائط عريض مبنى بالحجارة داخل البحر، ومن هذا الحائط كانت تشحن المراكب، وبنى عليه محمد بن بلال برجاً. ومدينة الجزيرة طيبة رفيقة بأهلها جامعة لفائدة البر والبحر قريبة المنافع من كل وجهٍ لأنها وسطى مدن الساحل وأقرب مدن الأندلس مجازاً إلى العدوة. ومنها تغلب ملوك الأندلس على ما تغلبوا عليه من بلاد إفريقية؛ وبها ثلاث حمامات، ولها كور كثيرة، وكانت جبايتها ثماني عشر ألفاً وتسعمائة. وأهل الجزيرة هذه هم الذين أبوا أن يضيفوا موسى والخضر عليهما السلام، وبها أقام الخضر الجدار وخرق السفينة، والجلندى هو الذي كان يأخذ كل سفينة غصباً، حكى ذلك عن وكيع بن الجراح. ومرسى الجزيرة مشتى مأمون، وهو أيسر المراسى للجواز، وأقربها من بر العدوة، ويحاذيه مرسى مدينة سبتة، ويقطع البحر بينهما في ثلاث مجارٍ، ويتلوه جبل طارق. وللخضراء هذه سور حجارةٍ مفرغ بالجيار، ولها ثلاثة أبوابه، وبها دار صناعةٍ داخل المدينة؛ وعلى نهرها المسمى نهر العسل بساتين وجنات بضفتيه معاً، وبالجزيرة الخضراء إنشاء وإقلاع وحط، وأمام المدينة الجزيرة المعروفة بأم حكيم المتقدمة الذكر؛ والجزيرة الخضراء أول مدينةٍ افتتحت من الأندلس في صدر الإسلام

سنة90 من الهجرة على يد موسى بن نصير من قبل المروانيين، ومعه طارق بن عبد الله ابن ونمو الزناتي في قبائل البربر. وعلى باب البحر مسجد يسمى مسجد الرايات يقال إن هناك اجتمعت رايات القوم للراى. وكان وصولهم أيضاً من جبل طارق، وإنما سمى بجبل طارق لأن طارق ابن عبد الله لما جاز بالبربر الذين معه تحصن بهذا الجبل. وقدر أن العرب لا ينزلونه فأراد أن ينفى عن نفسه التهمة، فأمر بإحراق المراكب التي جاز بها فتبرأ بذلك مما اتهم به. وبين هذا الجبل والجزيرة الخضراء ستة أميال، وهو جبل منقطع مستدير، في أسفله كهوف فيها ماء. ولها من الأبواب الباب الكبير، يعرف بباب حموة غربي، وباب الخوخة قبلي، وباب طرفة جوفي؛ ولها ثلاث حمامات. وتغلب المجوس عليها في سنة245، وأحرقت المسجد الجامع بها؛ وفي الشرق من مدينة الجزيرة مسجد يقال إنه من بناء صاحبٍ من أصحاب رسول الله " - صلى الله عليه وسلم - "، ويقال إنه أول مسجدٍ بنى بالأندلس ويعرف الموضع الذي هو فيه بقرطاجنة، فإذا أقحط أهل الجزيرة استسقوا فيها بفضل الله تعالى ورحمته. والجزيرة في شرقي شذونة، وقبلي قرطبة، ولها أقاليم عدة.

حرف الدال

حرف الدال دانية مدينة بشرقي الأندلس. على البحر عامرة حسنة، لها ربض عامر، وعليها سور حصين، وسورها من ناحية المشرق في داخل البحر قد بنى بهندسة وحكمة؛ ولها قصبة منيعة جداً، وهي على عمارةٍ متصلة، وشجر تينٍ كثيرة، وكروم؛ والسفن واردة عليها، صادرة عنها، ومنها كان يخرج الأسطول إلى الغزو، وبها ينشأ أكثره لأنها دار إنشاءٍ؛ وفي الجنوب منها جبل عظيم مستدير، وتظهر من أعلاه جبال يابسةٍ في البحر. ومن دانية أبو عمرو الداني المقرئ المعروف بابن الصيرفي، له تواليف في القراءات، سمع بالأندلس من محمد بن عبد الله أبي زمنين، ووصل إلى المشرق، وفسمع من جماعةٍ، توفي بدانية سنة444. دروقة مدينة بالأندلس من عمل قلعة أيوب، وعظيمة في سفح جبل، وعلى مقربة منها كنيسة أبرونية، ولها ثلاثمائة باب وستون باباً، وهي إحدى عجائب البنيات. وقيل بين دروقة وبين قلعة أيوب ثمانية عشر ميلاً، وهي مدينة صغيرة مختصرة،

دلاية

كثيرة العامر كثيرة البساتين والكروم، وكل شيء بها كثير رخيص، وبينها وبين سرقسطة خمسون ميلاً. دلاية قرية بالأندلس من عمل المرية.

حرف الراء

حرف الراء رصافة ورصافة أخرى بقرطبة في الجهة الجوفية منها، ورصافة أخرى بيلنسية بينها وبين البحر، وأظن منها الرصافى الشاعر، مادح عبد المؤمن بن علي. الرقيم وفي الأندلس في جهة إغرناطة، بقرب قريةٍ تسمى لوشة، كهف فيه موتى، ومعهم كلب رمة، وأكثرهم قد انجرد لحمه، وبعضهم متماسك، وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم، ويزعم أناس أنهم أصحاب الكهف، قال: ودخلت إليهم ورأيتهم سنة 504 وهم بهذه الحالة، وعليهم مسجد، وقريباً منهم بناء رومي يسمى الرقيم، كأنه قصر محلق، وقد بقي بعض جدرانه، وهو في فلاةٍ من الأرض خربةٍ، وبأعلى حضرة إغرناطة مما يلي القبلة آثار مدينةٍ رومية يقال لها مدينة دقيوس، وجدنا في آثارها غرائب وقبوراً. ركلة مدينة بالأندلس، بقرب سرقسطة وقلعة أيوب، عالية البنيان، على وادي شلون، وبساتينها تسقى منه، ونزل بمدينة ركلة في أيام بني هود برد عظيم، حطم

رندة

أغصان شجر الكمثرى حتى تركها جذوعاً دون أغصان، وجد في زنة واحد منها في اليوم الثاني من نزوله ثلاثة أرطال بالبغدادي. فسبحان من له القدرة الباهرة! رندة بالأندلس من مدن تاكرنا، وهي مدينة قديمة، بها آثار كثيرة، وهي على نهر ينسب إليها، واجتلب الماء إليها من قريةٍ بشرقيها ومن جبل طلوبرة بغربيها، فيوافى الماء داخلها من شرقيها وغربيها، ويتوارى نهرها في غارٍ فلا ترى جرتيه أميالاً، ثم يظهر حتى يقع في نهر لكه. وبقرب مدينة رندة عين تعرف بالبراوة، وتجرى من أول الربيع إلى آخر الصيف، فإذا دخل الخريف نضب ماؤها فلا يفيض بقطرةٍ إلى أول الربيع من عامٍ ثانٍ. ريمية مدينة بالأندلس تعرف بمدينة بني راشد، بها أنشام عادية، ويأوي إليها عقبان كثيرة فلا تؤذيهم في شيء من دجاجهم، وهي تأتى على ما في سائر القرى المجاورة لها، وإذا حصرها الثلج هناك ومنعها من التصرف صرصرت من الجوع، وأرمقت بأصواتها، فيلقى لها أهل ريمية من فضول ما عندهم، فتأكل وتسكث. ريه كورة من كور الأندلس، في قبلي قرطبة، نزلها جند الأردن من العرب، وهي كثيرة الخيرات.

حرف الزاي

حرف الزاي الزاهرة مدينة متصلة بقرطبة من البلاد الأندلسية، بناها المنصور بن أبي عامر لما استولى على دولة خليفته هشام. قال ابن حيان: كان الخليفة الحكم وقف من الأثر على البقعة التي بنيت فيها الزاهرة، وكانت ملوك المروانية قبله تتخوف ذلك، وكان فيها اهتم بشأنها الحكم، فنظر فيا وقاس على جهاتها البقعة المدعوة بألش بفتح اللام، وهي بغربي مدينة الزهراء، ووجد انتقال الملك إليها، فأمر حاجبه أبا أحمد المصحفى بالسبق إلى بنائها، طمعاً في مزية سعدها، وألا يخرج الأمر من يد ولده، فأنفق عليها ما لا عظيماً؛ فمن الغرائب أن محمد بن أبي عامر تولى له شأنها ولا يعلم يومئذٍ به، ثم وقع إلى الحكم أن البقعة بغير ذلك الموضع، وأنها بشرقي مدينة قرطبة، فأنفذ رسوله بالوقوف عليها، فانتهى إلى منزل ابن بدر المسمى ألش مضمومة اللام؛ وأصاب هناك عجوزاً مسنة وقفته على حد الارتياد وقالت له: سمعنا قديماً أن مدينة تبنى هنا، ويكون على هذه البئر نزول ملكها، فكم سعى أمير المؤميني بالسؤال عنها، وأمر الله واقع لا محالة! فعاد الرسول بالجلية، فلم تطل المدة حتى بناها محمد بن أبي عامر، وبنيى بأرجاء تلك البئر قراره. قال الفتح بن خاقان: لما استفحل أمره، واتقد جمره، وجل شأنه، وظهر

استبداده، وكثر حساده؛ وخاف على نفسه من الدخول إلى قصر السلطان، وخشى أن يقع بطالبه في أشطان؛ فتوثق لنفسه، وكشف له ما ستر عنه في أمسه؛ من الاعتزاز عليه، ورفض الاستناد إليه؛ وسما إلى ما سمت إليه الملوك من اختراع قصرٍ ينزل فيه، ويحله بأهله وذويه؛ ويضم إليه رياسته، ويتم به تدبيره وسياسته؛ ويجمع فيه فتيانه، وغلمانه؛ ويحشر إليه صنائعه. فارتاد موضع مدينته المعروفة بالزاهره الموصوفة بالمشيدات الباهره؛ وأقامها بطرف البلد على نهر قرطبة الأعظم، ونسق فيها كل اقتدار معجز ونظم؛ وشرع في بنائها سنة 368، فحشر إليها الصناع والفعله، وأبرزها بالذهب واللازورد متوجة منعله؛ وجلب نحوها الآلات الجليله، وسربلها بهاء يرد العيون كليله؛ وتوسع في اختصاطها، وتولع بانتشارها في البسيطة وانبساطها؛ وبالغ في رفع أسوارها، وثابر على تسوية أنجادها وأغوارها؛ فاتسعت هذه المدينة في المدة القريبة، وصار بناؤها من الأبنية الغريبة؛ وبنى معظمها في عامين. وفي سنة 370 انتقل المنصور إليها ونزلها بخاصته وعامته، وفتبوأها وشحنها بجميع أسلحته، وأمواله وأمتعته؛ وتخذفيها الدواوين للعمال، ترتفع فيها ضروب الأعمال؛ والاصطبلات لأنواع الكراع وعمل داخلها الأهراء، وأطلق بساحتها؛ ثم أقطع وزراءه وكتابه، وقواده وحجابه؛ القطائع الواسعة فابتنوا بأكنافها كبار الدور، وجليلات القصور؛ واتخذوا خلالها المستغلات المفيده، والمنازه المشيده؛ فاتسعت هذه المدينة

في المدة القريبة وقامت فيها الأسواق، وكثرت فيها الأرزاق؛ وتنافس الناس في النزول بأكنافها، والحلول بأطرافها؛ للدنو من صاحب الدولة، وتناهى الغلو في البناء حوله؛ حتى اتصلت أرباضها بأرباض قرطبة، وكان الفراغ منها في سنة 370. وفي هذه السنة نزل فيها بخاصته، وعامته؛ وخلع الخليفة إلا من الاسم الخلافي، وصير ذلك هو الرسم العافي؛ ورتب فيها جلوس وزرائه، ورؤوس أمرائه؛ وكبت إلى الأقطار بالأندلس والعدوة في أن تحمل إلى مدينته تلك الأموال الجبايات، ويقصدها أصحاب الولايات؛ فحشد إليها الناس من جميع الأقطار، وحجر على خليفته كل تدبير؛ واتفق له ذلك بسرعة بطشه، وأقام الخليفة منذ نقل عنه الملك إلى قصر الزاهرة مهجور الفنا، محجور الغنا؛ خفى الذكر، مسدود الباب، محجوب الشخص، لا يخاف منه بأس ولا يرجى منه إنعام، وليس له إلا الرسم السلطاني في السكة والدعوة والاسم الخلافي، وأزال أطماع الناس منه، وصيرهم لا يعرفونه، واشتد ملكه منذ نزل قصر الزاهرة؛ وتوسع مع الأيام في تشييد أبنيتها، وتنجيد أفنيتها؛ حتى كملت أحسن كمال، وجاءت في نهاية الحسن والجمال؛ ومازالت هذه المدينة رائقةً متناسقة السعود، تراوحها الفتوح وتغاديها، لا توجه منها راية إلا إلى فتح، ولا يصدر عنها تدبير إلا إلا بنجح؛ إلى أن حان يومها العصيب، وقيض لها من المكروه أوفر نصيب؛ فتولت فقيده، وخلت من بهجتها كل عقيده.

الزقاق

الزقاق بحر الزقاق وهو الداخل من البحر المحيط، والذي عليه سبتة، والذي يضيق من المشرق إلى المغرب حتى يكون عرضه ثمانية عشر ميلاً، وهو بساحل الأندلس الغربي بمكان يقال له الخضراء، ما بين طنجة من أرض المغرب وبين الأندلس، ثم يتسع الزقاق كلما امتد حتى يصير إلى ما الا ذرع له ولا نهاية، وهو مخرج بحر الروم المتصاعد إلى الشأم، وسنذكر ذلك إن شاء الله عند ذكر سبتة. وفي بعض الأخبار أنه قبل افتتاح المسلمين البلاد المصرية بمائة سنة، طغى ماء البحر وزاد، فأغرق القنطرة التي كانت بين بلاد الأندلس وبين ساحل طنجة من أرض المغرب، وكانت قنطرة عظيمة لا يعلم لها في المعمور نظير؛ يقال إنها من بناء ذي القرنين مبنية بالحجارة، يمر عليها الإبل والدواب من ساحل المغرب إلى الأندلس، وكان طولها أثنى عشر ميلاً، في عرضٍ واسعٍ وسموٍ كبير؛ وربما بدت هذه القنطرة لأهل المراكب تحت الماء فعرفوها، والناس يقولون: لا بد من ظهورها قبل فناء الدنيا. الزلاقة بطحاء الزلافة من إقليم بطليوس من غرب الأندلس، فيها كانت الوقيعة الشهيرة للمسلمين على الطاغية عظيم الجلالقة إذ فونش بن فرذلند عهيد المعتمد محمد بن عباد، وكان ذلك في الثاني عشر من رجب سنة 479.

وكان السبب في ذلك فساد الصلح المنقعد بين الطاغية وبين المعتمد؛ فإن المعتمد اشتغل عن أداء الضريبة في الوقت الذي صارت عادته يؤديها فيه، بغزو ابن صمادح صاحب المرية، واستنفاده ما في يديه بسبب ذلك، فتأخر لأجل ذلك أداء الإتاوة عن وقتها، فاستشاط الطاغية غضباً، وتشطط فطلب بعض الحصون زيادة على الضريبة، وأمعن في التجنى، فسأل في دخول امرأته القمطيجة إلى جامع قرطبة لتلد فيه من حملٍ كان بها، حيث أشار إليه بذلك القسيسون والأساقفة، لمكان كنيسةٍ كانت في الجانب الغربي منه، ومعظمةٍ عندهم، عمل المسلمون عليها الجامع الأعظم؛ وسأل أن تنزل امرأته المذكورة بمدينة الزهراء غربي مدينة قرطبة، تنزل بها فتختلف منها إلى الجامع المذكور، حتى تكون تلك الولادة بين طيب نسيم الزهراء، وفضيلة ذلك الموضع الموصوف من الجامع، وزعم أن الأطباء، أشاروا عليه بالولادة في الزهراء، كما أشار عليه القسيسون بالجامع، وسفر بذلك بينهما يهودى، وكان وزيراً لابن فرذلند، فتكلم بين يدي المعتمد ببعض ما جاء به من عند صاحبه، فأيأسه ابن عباد من جميع ذلك، فأغلظ له اليهودى في القول، وشافهه بما لم يحتمله، فأخذ ابن عباد محبرة كانت بين يديه، فأنزلها على رأس اليهودى، فألقى دماغه في حلقه، وأمر به فصلب منكوساً بقرطبة. واستفتى ابن عباد الفقهاء لما سكت عنه الغضب، عن حكم ما فعله باليهودى، فبادره الفقيه محمد بن الطلاع بالرخصة في ذلك، لتعدى الرسول حدود الرسالة إلى ما يستوجب له القتل، إذ ليس له أن يفعل ما فعل؛ وقال للفقهاء حين خرجوا: إنما بادرت بالفتوى خوفاً أن يكسل الرجل عما عزم عليه من منابذة العدو، وعسى الله أن يجعل في عمزيمته للمسلمين فرجاً!

بلغ الفنش ما صنع ابن عباد، فأقسم بآلهته ليغزونه بإشبيلية، ويحصره في قصره؛ فجرد جيشين جعل على أحدهما كلباً من مساعير كلابه وأمره أن يسير على كورة باجة من غرب الأندلس، ويغير على تلك التخوم والجهات، ثم يمر على لبلة إلى إشبيلية، وجعل موعده إياه طريانة للاجتماع معه؛ ثم زحف ابن فرذلند بنفسه في جيش آخر عرمرم، فسلك طريقاً غير طريق صاحبه، وكلاهما عاث في بلاد المسلمين وخرب ودمر، حتى اجتمعا لموعدهما بضفة النهر الأعظم، قبالة قصر ابن عباد، وفي أيام مقامه هناك كتب إلى ابن عباد زارياً عليه: كثر بطول مقامي في مجلس الذبان، واشتد على الحر، فألقني من قصرك بمروحةٍ أروح بها على نفسى، وأطرد بها الذباب عنى! فوقع له ابن عباد بخط يده في ظهر الرقعة: قرأت كتابك، وفهمت خيلاءك وإعجابك، وسأنظر لك في مراوح من الجلود اللمطية، في أيدي الجيوش المرابطية، تروح منك لا تروح عليك، إن شاء الله! فلما ترجم لا بن فرذلند توقيع ابن عباد في الجواب، أطرق إطراق من لم يخطر له ذلك ببالٍ. وفشا في بلاد الأندلس خبر توقيع ابن عباد، وما أظهر من العزيمة على إجازة الصحراويين والاستظهار بهم على ابن فرذلند، فاستبشر الناس، وفتحت لهم أبواب الآمال، وانفرد ابن عباد بتدبير ما عزم عليه من مداخلة يوسف بن تاشفين، ورأت ملوك الطوائف بالأندلس ما عزم عليه من ذلك، فمنهم من كتب إليه، ومنهم من شافهه. كلهم يحذره سوء عاقبة ذلك، وقالوا له: الملك عقيم، والسيفان لا يجتمعان في غمدٍ واحدٍ! فأجابهم ابن عباد بكلمته السائرة مثلاً: رعى الجمال خير من رعى الخنازير! أي أن كونه مأكولاً لابن تاشفين أسيراً يرعى جماله في الصحراء، خير من كونه ممزقاً لابن فرذلند، أسيراً يرعى خنازيره في قشتالة؛ وكان

مشهوراً برزانة الاعتقاد. وقال لعذاله ولوامه: يا قوم أنا من أمري على حالتين، حالة يقين وحالة شكٍ، ولا بد لي من إحداهما؛ أما حالة الشك فإني إن استندت إلى ابن تاشفين أو إلى ابن فرذلند ففي الممكن أن يفيالي ويبقيا على، ويمكن ألا يفعلا؛ فهذه حالة الشك. وأما حالة اليقين، فهي أني إن استندت إلى ابن تاشفين فأنا أرضي الله، وإن استندت إلى ابن فرذلند أسخطت الله، فإذا كانت حالة الشك فيها عارضة فلأي شيء أدع ما يرضى الله وآتي ما يسخطه! وحينئذ أقصر أصحابه عن لومه. فلما عزم خاطب جاريه المتوكل عمر بن محمد صاحب بطليوس، وعبد الله بن حبوس ابن ماكسن الصنهاجي صاحب إغرناطة، يأمرهما أن يبعث إليه كل واحدٍ منهما قاضي حضرته، ففعلا؛ ثم استحضر قاضي الجماعة بقرطبة أبا بكر عبيد الله بن أدهم، وكان أعقل أهل زمانه؛ فلما اجتمع القضاة عنده بإشبيلية، أضاف إليهم وزيره أبا بكر ابن زيدون، وعرفهم أربعتهم أنهم رسله إلى يوسف بن تاشفين، وأسند إلى القضاة ما يليق بهم من وعظ يوسف، وترغيبه في الجهاد؛ وأسند إلى ابن زيدون ما لا بد منه في تلك السفارة، من إبرام العقود السلطانية. وكان يوسف بن تاشفين لا تزال تفد عليه وفود ثغور الأندلس، مستعطفين، مجهشين بالبكاء، ناشدين الله والإسلام، مستنجدين بفقهاء حضرته، ووزراء دولته، فيستمع إليهم، ويصغى لقولهم، وترق نفسه لهم؛ فما عبرت رسل ابن عباد البحر إلا ورسل يوسف بالمرصاد؛ وقد آذن صاحب سبتة بقصده الغزو، وتشوقه إلى نصرة أهل الإسلام بالأندلس، وسأله أن يخلى الجيوش تجوز في المجاز؛ فتعذر عليه، فشكاه يوسف إلى الفقهاء، فأفتوا أجمعين بما لا يسر صاحب سبتة. ولما انتهت الرسل إلى ابن تاشفين أقبل عليهم، وأكرم مثواهم، وجددوا الفتوى

في حق صاحب سبتة، واتصل ذلك بابن عباد، فوجه من إشبيلية أسطولاً نحو صاحب سبتة، فانتظمت في سلك يوسف، ثم جرت بينه وبين الرسل مراوضات، ثم انصرفت الىمرسلها. ثم عبر يوسف البحر عبوراً هنيئاً، حتى أتى الجزيرة الخضراء ففتحوا له، وخرج إليه أهلها بما عندهم من الأقوات والضيافات، وجعلوا سماطاً أقاموا فيه سوقاً، جلبوا عليه من عندهم من سائر المرافق، وأذنوا للغزاة في دخول البلد، والتصرف فيها، فامتلأت المساجد والرحبات بضعفاء المطوعين وتواصوا بهم خيراً. فلما عبر يوسف وجميع الجيوش، انزعج إلى إشبيلية على أحسن الهيئات، جيشاً بعد جيش، وأميراً بعد أمير، وقبيلاً بعد قبيل؛ وبعث المعتمد ابنه إلى لقاء يوسف، وأمر عمار البلاد بجلب الأقوات والضيافات، ورأى يوسف من ذلك ما سره ونشطه، وتواردت الجيوش مع أمرائها في إشبيلية، وخرج المعتمد إلى لقاء يوسف من إشبيلية في مائة فارسٍ ووجوه أصحابه، فأتى محلة يوسف فركض نحو القوم وركضوا نحوه، فبرز إليه يوسف وحده، والتقيا منفردين، وتصافحا وتعانقا، وأظهر كل واحدٍ منهما المودة والخلوص، فشكرا نعم الله، وتواصيا بالصبر والرحمة، وبشرا نفسهما بما استقبلاه من غزو أهل الكفر، وتضرعا إلى الله تعالى في أن يجعل ذلك خالصاً لوجهه، مقرباً إليه وافترقا؛ فعاد يوسف لمحلته، ورجع ابن عباد إلى جهته، ولحق بابن عباد ما كان أعده من هدايا وتحفٍ وألطافٍ، وأوسع بها محلة ابن تاشفين. وباتوا تلك الليلة. فلما صلوا الصبح ركب الجميع؛ وأشار ابن عباد على يوسف بالتقدم إلى إشبيلية، ففعل، ورأى الناس من عزة سلطانه ما سرهم؛ ولم يبق من ملوك الطوائف بالأندلس إلا من

بادر وأعان وخرج وأخرج؛ وكذلك فعل الصحراويون مع يوسف بكل صقع من أصقاعه، رابطوا وصابروا. ولما تحققق ابن فرذلند جواز يوسف، استنفر جميع أهل بلاده وما يليها، وما وراءها، ورفع القسيسون والرهبان والأساقفة صلبانهم، ونشروا أناجيلهم، فاجتمع له من الجلالقة والإفرنجة وما يليهم مالا يحصى عدده؛ وجعل يصغى على أبناء المسلمين متغيظا على ابن عباد جافياً ذلك عليه، متوعداً له. وجواسيس كل فريقٍ مترددون بين الجميع، وبعث ابن فرذلند إلى ابن عباد: إن صاحبكم يوسف قد تعنى من بلاده، وخاض البحور، وأنا أكفيه العناء فيما بقى، ولا أكلفكم تعباً، أمضى إليكم، وألقاكم في بلادكم، رفقاً بكم، وتوفيراً عليكم. وقال لأهل وده ووزرائه: إني رأيت إن أمكنتهم من الدخول إلى بلادي، فناجزوني بين جدرها، وربما كانت الدائرة على، فيكتسحون البلاد، ويحصدون من فيها في غداةٍ؛ لكن أجعل يومهم معي في حوز بلادهم، فإن كانت على اكتفوا بما نالوه، ولم يجعلوا الدروب وراءهم إلا بعد أهبةٍ أخرى، فيكون في ذلك صون لبلادي، وجبر لمكاسرى! وإن كانت الدائرة عليهم كان مني فيهم وفي بلادهم ما خفت أنا أن يكون منهم في وفي بلادي إذا ناجزوني في وسطها! ثم برز بالمختار من أنجاد جموعه على باب دربه، وترك بقية جموعه خلفه، وقال حين نظر إلى ما اختاره من جموعه: بهؤلاء أقاتل الجن والإنس وملائكة السماء، فالمقلل يقول: كان هؤلاء المختارون من أجناده أربعين ألف دراع، ولا بد لمن هذه صفته أن يتبعه واحد أو اثنان، وأما النصارى فيتعجبون ممن يزعم ذلك ويقوله. واتفق الكل أن عدة المسلمين كانت أقل من عدة المشركين. ورأى ابن فرذلند في نومه كأنه

راكب على فيلٍ، فضرب نقيرة طبلٍ فهالته روياه، وسأل عنها القسوس والرهبان فلم يجبه أحد! ودس يهودياً إلى من يعلم تأويلها من المسلمين، فدل على عابر فقصها عليه، ونسبها إلى نفسه، فقال له العابر: كذبت! ما هذه الرويا لك، ولا بد أن تخبرني من صاحبها وإلا لم أعبرها لك! فقال له: اكتم، ذلك هو الفنش بن فرذلند! فقال العابر: قد علمت أنها رؤياه ولا ينبغي أن تكون لغيره، وهي تدل على بلاء عظيمٍ، ومصيبةٍ فادحة، تؤذن بصلبه عما قريب، أما الفيل فقد قال الله تعالى: ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل السورة، وأما ضرب النقيرة فقد قال الله تعالى: فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذٍ يوم عسير الآية؛ فانصرف اليهودى إلى ابن فرذلند وجمجم له وذكر له ما وافق خاطره ولم يفسرها له. ثم خرج ابن فرذلند ووفق على الدروب، ومال بجيوشه إلى الجهة الغربية من بلاد الأندلس، فتقدم يوسف فقصده، وتأخر ابن عباد لبعض الأمر، ثم انزعج يقفو إثره بجيش فيه حماة الثغور، ورؤساء الأندلس، وجعل ابنه عبد الله على مقدمته، وسار وهو يتفاءل لنفسه، مكملاً البيت المشهور كامل: لا بد من فرج قريب ... يأتيك بالعجب العجيب غزو عليك مبارك ... سيعود بالفتح القريب لله سعدك إنه ... نكس على دين الصليب لا بد من يوم يكو ... ن أخاً له يوم القليب ورافت الجيوش كلها بطليوس، فأناموا بظاهرها، وخرج إليهم صاحبها

المتوكل عمر بن محمد فلقيهم بما يجب من الأقوات والضيافات، وبذلك مجهوده، ثم جاءهم الخبر بشخوص ابن فرذلند إليهم، ولما ازدلف بعضهم إلى بعضٍ، أذكى المعتمد عيونه في محلات الصحراويين خوفاً عليهم من مكايد ابن فرذلند، إذ هم غرباء لا علم لهم بالبلاد، وجعل يتولى ذلك بنفسه حتى قيل إن الرجل من الصحراويين كان يخرج عن طرق محلاتهم لبعض شأنه، أو لقضاء حاجته، فيجد ابن عباد بنفسه مطيفاً بالمحلة بعد ترتيب الكراديس من خيلٍ على أفواه طرق محلاتهم؛ فلا يكاد الخارج منهم من المحلة يخطئ إذ ذاك من لقاء ابن عباد لكثرة تطوافه عليهم. ثم كتب يوسف إلى ابن فرذلند يدعوه إلى الإسلام أو الجزية أو يأذن بحربه فامتلأ غيظاً وعتا وطغا وراجعه بما يدل على شقائه، وقامت الأساقفة والرهبان فرفعوا صلبهم، ونشروا أناجيلهم، وخرجوا يتبايعون على الموت؛ ووعظ يوسف وابن عباد أصحابهما، وقام الفقهاء والعباد يعظون الناس ويحضونهم على الصبر، ويحذرونهم الفرار؛ وجاءهم الطلائع بخبر أن العدو مشرف عليهم صبيحة يومهم، وهو يوم الأربعاء فأصبح المسلمون قد أخذوا مصافهم، فكع ابن فرذلند ورجع إلى إعمال الخديعة، ورجع الناس إلى محلاتهم، وباتوا ليلتهم، ثم أصبح يوم الخميس فأخذ ابن فرذلند في إعمال الحيلة، فبعث لابن عباد يقول: غداً يوم الجمعة وهو عيدكم، وبعده الأحد وهو عيدنا فليكن لقاؤنا بينهما وهو يوم السبت! فعرف المعتمد بذلك يوسف، فقال: نعم! فقال له المعتمد: هذه خديعة من ابن فرذلند! إنما يريد غدر المسلمين! فلا تطمئن إليه، وليكن الناس على استعدادٍ له طول يوم الجمعة كل النهار! وبات الناس ليلتهم على أهبةٍ واحتراسٍ بجميع المحلات، خائفين من كيد العدو، وبعد مضي جزءٍ من الليل انتبه

الفقيه الناسك أبو العباس أحمد بن رميلة القرطبي وكان في محلة ابن عباد فرحاً مسروراً، يقول إنه رأى النبي " - صلى الله عليه وسلم - " فبشره بالفتح والشهادة له في صبيحة غدٍ وتأهب ودعا ودهن رأسه وتطيب، وانتهى ذلك إلى ابن عباد، فبعث إلى يوسف فخبره بها تحقيقاً لما توقعه من غدر ابن فرذلند، فحذروا أجمعين، ولم ينفع ابن فرذلند ما حاوله من الغدر. ثم جاء في الليل فارسان من طلائع المعتمد، يخبران أنهما أشرفا على محلة ابن فرذلند وسمعا ضوضاء الجيوش، واضطراب الأسلحة. ثم تلاحق بقية الطلائع محققين بتحرك ابن فرذلند، ثم جاءت الجواسيس من داخل محلة ابن فرذلند يقولون: استرقنا السمع الساعة فسمعنا ابن فرذلند يقول لأصحابه: ابن عباد مسعر هذه الحروب، وهؤلاء الصحراويون، وإن كانوا أهل حفاظٍ وذوي بصائر في الجهاد، فهم غير عارفين بهذه البلاد، وإنما قادهم ابن عباد، فاقصدوه واهجموا عليه، واصبروا، فإن انكشف لكم هان عليكم الصحراويون بعده، ولا أرى ابن عباد يصبر لكم إن صدقتموه الحملة! وعند ذلك بعث ابن عبد كاتبه أبا بكر بن القصيرة إلى يوسف يعرفه بإقبال ابن فرذلند، ويستحث نصرته، فمضى ابن القصيرة يطوي المحلات حتى جاء يوسف بن تاشفين، فعرفه بجلية الأمر، فقال له: قل له إني سأقرب منك إن شاء الله تعالى. وأمر يوسف بعض قواده أن يمضي بكتيبةٍ رسمها له حتى يدخل محلة النصارى فيضرمها ناراً، ما دام ابن فرذلند مشتغلاً مع ابن عباد. وانصرف ابن القصيرة إلى المعتمد، فلم يصله إلا وقد غشيته جنود ابن فرذلند، فصدمها ابن عباد صدمةً قطعت آماله، ولم ينكشف له، فحميت الحرب بينهما، ومال ابن فرذلند على المعتمد بجموعه، وأحاطوا به من كل جهةٍ فاستحر القتل فيهم،

وصبر ابن عبادٍ صبراً لم يعهد مثله لأحد، واستبطأ يوسف وهو يلاحظ طريقه، وعضته الحرب، واشتد البلاء، وأبطأ عليه الصحراويون، وساءت ظنون أصحابه، وانكشف بعضهم، وفيهم ابنه عبد الله، وأثخن ابن عباد جراحات، وضرب على رأسه ضربة فلقت هامته، حتى وصلت إلى صدغيه، وجرحت يمنى يديه، وطعن في أحد جانبيه، وعقرت تحته ثلاثة أفراس، كلما هلك واحد قدم له آخر، وهو يقاسي حياض الموت، ويضرب يميناً وشمالاً، وتذكر في تلك الحالة ابناً له صغيراً، كان مغرماً به، تركه بأشبيلية عليلاً، إسمه العلاء، وكنيته أبو هاشم، فقال " متقارب ": أبا هاشم هشمتني الشفار ... ولله صبري لذاك الأوار ذكرت شخيصك تحت العجاج ... فلم يثننى ذكره للفرار ثم كان أول من وافى ابن عباد، من قواد ابن تاشفين، داود بن عائشة، وكان بطلاً شهماً، فنفس بمجيئه عن ابن عباد؛ ثم أقبل يوسف بعد ذلك، وطبولة تصدع الجو، فلما أبصره ابن فرذلند وجه أشكولته إليه، وقصده بمعظم جنوده، وقد كان عمل حساب ذلك من أول النهار، وأعد له هذه الأشكولة، وهي معظم جنوده، فبادر إليه يوسف وصدمهم بجمعه فردهم إلى مركزهم، وانتظم به شمل ابن عباد، ووجد ريح الظفر، وتباشر بالنصر، ثم صدقوا جميعاً الحملة، فتزلزلت الأرض بحوافر خيلهم، وأظلم النهار بالعجاج والغبار، وخاضت الخيل في الدماء، وصبر الفريقان صبراً عظيماً؛ ثم تراجع ابن عباد إلى يوسف وحمل معه حملةً نزل معها النصر، وتراجع المنهزمون من أصحاب ابن عباد حين علموا بالتحام الفئتين، فصدقوا الحملة، فانكشف الطاغية، ومر هارباً منهزماً، وقد طعن في إحدى ركبتيه طعنةً بقي أثرها بقية عمره، فكان

يخمع منها، فلجأ إلى تلٍ كان يلي محلته في نحو الخمسمائة فارس كلهم مكلوم، وأباد القتل والأسر من عداهم من أصحابهم، وعمل المسلمون بعد ذلك من رؤوسهم صوامع يؤذنون عليها، وابن فرذلند ينظر إلى موضع الوقيعة ومكان الهزيمة، فلا يرى إلا نكالاً محيطاً به وبأصحابه. وأقبل ابن عباد على يوسف فصافحه وهنأه وشكره وأثنى عليه، وشكر يوسف مقامه، وحسن بلائه وجميل صبره، وسأله عن حاله عندما أسلمته رجاله بانهزامهم عنه فقال: هم هؤلاء قد حضروا بين يديك فليخبروك! ولما أنحاز الطاغية بشرذمته، جعل ابن عبادٍ يحرض على اتباع الطاغية، وقطع دابره، فأتى ابن تاشفين واعتذر بأن قال: لو اتبعناه اليوم لقي في طريقه أصحابنا المنهزمين راجعين إلينا منصرفين، فيهلكهم؛ بل نصبر بقية يومنا حتى يرجع إلينا اصحابنا، ويجتمعوا بنا، ثم نرجع إليه فنحسم داءه. وابن عباد يرغب في استعجال إهلاكه ويقول: إن فر أمامنا لقيه أصحابنا المنهزمون فلا يعجزون عنه! ويوسف مصر على الامتناع من ذلك. ولما جاء الليل تسلل ابن فرذلند وهو لا يلوى على شيء، وأصحابه يتساقطون في الطريق واحداً بعد واحدٍ من أثر جراحهم، فلم يدخل طليطلة إلا في دون المائة. وتكلم الناس في اختلاف ابن عباد وابن تاشفين، فقال شيع ابن عباد: لم يخف على يوسف أن ابن عباد أصاب وجه الصواب والرأي في معالجته، لكن خاف أن يهلك العدو الذي من أجله استدعاه فيقع الاستغناء عنه! وقالت شيع يوسف: إنما أراد ابن عباد قطع حبال يوسف من العود إلى جزيرة الأندلس! وقال آخرون: كلا الرجلين أسر حسوا في ارتغاءٍ، وإن كان ابن عباد أحرى بالصواب.

وكتب ابن عباد إلى ابنه بإشبيلية: كتابي هذا من المحلة يوم الجمعة الموفى عشرين من رجب وقد أعز الله الدين، ونصر المسلمي، وفتح لهم الفتح المبين؛ وأذاق المشركين العذاب الأليم، والخطب الجسيم؛ فالحمد لله على ما يسره وسناه من هذه الهزيمة العظيمة، والمسرة الكبيرة، هزيمة إذ فونش أصلاه الله نكال الجحيم، ولا أعدمه الوبال العظيم. بعد إتيان النهب على نحلاته، واستئصال القتل في جميع أبطاله وأجناده، وحماته وقواده. حتى اتخذ المسلمون من هاماتهم صوامع يؤذنون عليها، فالله الحمد على جميل صنعه، ولم يصبني بحمد الله تعالى إلا جراحات يسيرة ألمت، لكنها قرحت بعد ذلك، وغنمت وظفرت. ولما فرغ يوسف من وقيعة يوم الجمعة، تواردت عليه أبناء من قبل السفن، فلم يجد معها بداً من سرعة الكرة، فانصرف إلى إشبيلية، فأراح بظاهر ثلاثة أيام، ونهض نحو بلاده، ومشرى ابن عباد معه يوماً وليلةً. فعزم عليه يوسف في الرجوع، وكانت جراحاته تثعب وتورم كلم رأسه، فرجع وأمر ابنه بالمسير بين يديه إلى فرضه المجاز حتى يعبر البحر إلى بلده. ولما دخل ابن عباد إشبيلية جلس للناس وهنى بالفتح، وقرأت القراء، وقامت على رأسه الشعراء فأنشدوه. قال عبد الجليل بن وهبون: حضرت ذلك اليوم، وأعددت قصيدة أنشده إياها، فقرأ القارئ: " إلا تنصروه فقد نصره الله " فقلت: بعداً لي ولشعري! والله ما أبقت لي هذه الآية معنىً أحضره إليه، وأقوم به. واستشهد في ذلك اليوم جماعة من أعيان الناس، كابن رميلة المتقدم الذكر،

الزهراء

وقاضي مراكش أبي مروان عبد الملك المصمودي وغيرهما. وطار ذكر ابن عباد بهذه الوقيعة، وشهد مجده، ومالت إليه القلوب، وسالمته ملوك الطوائف، وخاطبوه جميعاً بالتهنئة، ولم يزل ملحوظاً معظماً إلى أن كان من أمره مع يوسف ما كان. قال مؤلف هذا الكتاب رحمه الله تعالى عليه: قد خالفت بشرح هذه الوقيعة شرط الاختصار لحلاوة الظفر في وقت نزول الهموم، ووقوعها في الزمن الخامل، والله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء وهو المستعان! الزهراء مدينة في غربي قرطبة، بناها الناصر عبد الرحمن بن محمد، كذا قالوا، ولا أدري أهي الزاهرة المتقدمة الذكر، أو غيرها؛ وبينها وبين قرطبة خمسة أميال. وكانت قائمة الذات بأسوارها، ورسوم قصورها، وكان فيها قوم سكان بأهاليهم وذراريهم، وكانت في ذاتها عظيمة، مدرجة البنية؛ وهي مدينة فوق مدينةٍ، سطح الثلث الأعلى على الحد الأوسط، وسطح الثلث الأوسط على الثلث الأسفل، وكل ثلثٍ منها له سور، فكان الحد الأعلى منها قصوراً يعجز الواصفون عن وصفها، والحد الأوسط بساتين وروضات، والحد الأسفل فيه الديار والجامع، ثم خرب ذلك كله، وأصابه ما أصاب قرطبة وغيرها من بلاد موسطة الأندلس، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

حرف السين

حرف السين سرقسطة في شرق الأندلس، وهي المدينة البيضاء. وهي قاعدة من قواعد الأندلس، كبيرة القطر، آهلة، ممتدة الأطناب، واسعة الشوارع، حسنة الديار والمساكن، متصلة الجنات والبساتين، ولها سور حجارةٍ حصين، وهي على ضفة نهرٍ كبيرٍ، يأتي بعضه من بلاد الروم، وبعضه من جبال قلعة أيوب ومن غير ذلك؛ فتجتمع مواد هذه الأنهار كلها فوق مدينة تطيلة، ثم تنصب إلى مدينة سرقسطة؛ ومدينة سرقسطة هي المدينة البيضاء، وسميت بذلك لكثرة جصها وجيارها؛ ومن خواصها أنها لا تدخلها حية ألبتة، وإن جلبت إليها ماتت؛ فمن الناس من يزعم أن فيها طلسما لذلك، ومنهم من يقول إن أكثر بنيانها من الرخام الذي هو صنف من الملح الدراني؛ ومن خاصيتها ألا تدخل الحناش موضعاً يكون فيه، وكذا بأقاليم عدة. ولسرقسطة جسر عظيم يجاز عليه إلى المدينة، ولها أسوار منيعة، ومبانٍ رفيعة. واسمها مشتق من اسم قيصر، وهو الذي بناها، وذكر أنها بنيت على مثل الصليب وجعل لها أربعة أبواب: باب إذا طلعت الشمس من أقصى المطالع في القيظ قابلته عند بزوغها، فإذا غربت قابلت الباب الذي بإزائه من الجانب الغربي، وباب إذا

طلعت الشمس من أقصى مطالعها في الشتاء قابلته عند بزوغها وهو الباب القبلي؛ وإذا غربت قابلت الباب الذي بإزائه من الجانب الغربي. وهذه المدينة على خمسة أنهار. وسرقسطة واسعة الخطة لا تعرف بالأندلس مدينة تشبهها، وقيل تعرف بالبيضاء لأن أسوارها القديمة من حجر الرخام الأبيض؛ وكان الذي بنى المسجد الجامع بسرقسطة ووضع محرابه حنش بن عبد الله الصنعاني، فلما زيد فيها، هدم الحائط القبلي، غير المحراب، فإنه احتفر من جوانبه حتى انتهى إلى قواعده، فأعملت الحيلة في حمله على الخشب وجره إلى الموضع الذي هو فيه اليوم، فتصدع وبنى عليه وحواليه البناء الذي هو باقٍ إلى الآن؛ وتوفي حنش هذا وعلى بن رباح اللخمى، وهما من جلة التابعين، بمدينة سرقسطة، وقبراهما معروفان بمقبرة باب القبلة، وكان بعض من مضى من الملوك أراد أن يتخذ عليها مشهداً، ويبنى فوقها مصنعاً، فلما اعتزم ذلك أتته امرأة معروفة بالصلاح والأمانة، موسومة بالعدالة، فأخبرته أنها رأتهما فيما يرى النائم. وأخبراها أنهما يكرهان أن يبنى على قبرهما شيء. فرجع عن ذلك الأمر الذي كان هم به. ومدينة سرقسطة أطيب البلدان بقعةً، وأكثرها ثمرة، لكثرة الفواكه في بساتينهم، حتى لا يقوم ثمنها بمؤنة نقلها لرخصها. فيتخذونها سرجيناً يدمنون به أرضهم؛ وربما بيع فيها وسق القارب من التفاح بما تباع به الأرطال اليسيرة في غيرها. ومما خصت به سرقسطة معدن الملح الدراني، الذي لا يوجد مثله في مكان ولا يعدل به. وأخذ النصارى سرقسطة من يد المسلمين سنة 512، بعد أن حاصروها تسعة أشهرٍ،

سمورة

صلحاً؛ خرج إليها الإفرنج في خمسين ألف راكب، وابن ردمير في جملةٍ أخرى، أعادها الله للإسلام بفضله. ومن سرقسطة قاسم بن ثابت صاحب كتاب الدلائل، بلغ فيه الغاية من الإتقان ومات قبل أن يكمله، وأكمله أبوه ثابت بعده. وكان قاسم ورعاً فاضلاً، وأريد على أن يلي قضاء سرقسة، فأبى من ذلك، فأراد أبوه إكراهه على ذلك، فسأله أن يتركه ثلاثة أيام حتى ينظر في أمره، ويستخير الله تعالى، فمات في الثلاثة الأيام. فيروى أنه دعا لفنسه بالموت، وكان يقال إنه مجاب الدعوة، توفي برقسطة سنة 302. سمورة هي دار مملكة الجلالقة، على ضفة نهرٍ كبيرٍ جداً، خرارٍ، كثير الماء، شديد الجرية، عميق القعر. وبين سمورة وبين البحر ستون ميلاً. وسمورة مدينة جليلة، قاعدة من قواعد الروم، وعليها سعة أسوار من عجيب البنيان، وقد أحكمته الملوك السالفة، وبين الأسوار فصلان وخنادق ومياه واسعة. وقد كان عبد الرحمن بن محمد الخليفة الأموي بالأندلس غزاسنة327 في أزيد من مائتي ألف من الناس، فنزل على دار مملكة الجلالقة، وهي سمورة هذه، وكان أشد ما على أهل الأندلس من الأمم المحاربة لهم الجلالقة، كما أن الإفرنجة حرب لهم، غير أن الجلالقة أشد بأساً. وكان لبعد الرحمن بن محمد صاحب الأندلس وزير من ولد أمية يقال له أحمد بن إسحاق، فقبض عليه عبد الرحمن على موجدةٍ وجدها عليه، فقتله

عبد الرحمن، وكان لذلك الوزير أخر يقال له أمية في مدينة شنترين من ثغور الأندلس. فلما علم ما فعل بأخيه عصا عبد الرحمن، وصار في حيرز ردمير ملك الجلالقة، فأعانه على المسلمين، ودله على عوراتهم، ثم خرج أمية في بعض الأيام عن المدينة يتصيد في بعض متنزهاته، فغلب على المدينة بعض غلمانه، ومنعه من الدهول إليها، وكاتب عبد الرحمن، فمضى أمية بن إسحاق أخو الوزير المقتول إلى ردمير فاصطفاه واستوزره وصيره في جملته، وغزا عبد الرحمن صاحب الأندلس مدينة سمورة دار مملكة الجلالقة، وكان في أزيد من مائة ألف، فكانت الوقيعة بينه وبين ردمير ملك الجلالقة في شوال سنة327 كما قدمناه، فكانت اللمسلمين عليهم، ثم ثابوا بعد أن حوصروا وألجئوا، فقتلوا من المسلمين بعد عبورهم الخندق خمسين ألفاً، وقيل إن الذي منع ردمير من طلب من نجا من المسلمين أمية بن إسحاق، خوفه الكمين، ورغبه فيما كان في عسكر المسلمين من الأموال والعدد والخزائن، ولولا ذلك لأتى على جميع المسلمين. ثم إن أمية هذا استأمن عبد الرحمن بعد ذلك، وتخلص من ردمير، فقبله عبد الرحمن أحسن قبولٍ؛ وقد كان عبد الرحمن بعد ذلك، وتخلص من ردمير، فقبله عبد الرحمن أحسن قبولٍ؛ وقد كان عبد الرحمن صاحب الأندلس بعد هذه الوقيعة جهز عساكره مع عدةٍ من قواده إلى دار الجلالقة، فكانت لهم بهم حروب هلك فيها من الجلالقة ضعف من قتل من المسلمين في الوقيعة الأولى وكانت للمسلمين عليهم. ومدينة سمورة محدثة اتخذت داراً سنة288.

حرف الشين

حرف الشين شجس قرية بالأندلس قريبة من بطرير، وهي قرية جامعة مفيدة، وهي قريبة من شاطبة. شذونة بالأندلس، وهي كورة متصلة بكورة مورور، وعمل شذونه خمسون ميلا في مثلها، وهي من الكور المجندة، نزلها جند فلسطين من العرب، وكورة شذونة كورة جليلة القدر، جامعة لخيرات البر والبحر، كريمة البقعة، عذبة التربة، يفيض مياهها بلا ندوى مع المحل ثمارها، وقد لجأ إليها عامة أهل الأندلس سنة136، وكانت الأندلس قد قحطت ستة أعوامٍ. ومن كور شذونة شريش وغبرها، وفيها كانت الهزيمة على لذريق حين افتتحت الأندلس سنة96. وبقرب شذونة موضع يعرف بالجبل الواسط، وهو جبل فيه آثار للأول، وفي شق صخرةٍ داخل كهفٍ فيه فأس حديدٍ، يتعلق من الشق الذي في الصخرة، تراه العين وتجسه اليد، فمن رام إخراجه لم يطق ذلك، وإذا رفعته اليد ارتفع وغاب في شق الصخرة، ثم يعود إلى حالته. ويذكر مشايخ كورة شذونة أن النار أوقدت على الموضع، ورش بالخل لينكس، ويوصل إلى استخراج الفأس، فلم يقدر على ذلك،

الشرف

وأعياهم أمره، وقرنت الثيران في بعض الأزمنة، وجعلت عجلتان، وشد بهما طرفا حبلٍ وثيقٍ قد ربط في الفأس، وحملوا على الثيران ليقلع الفأس، فلم يستطع ذلك. قالوا: وأطيب العنبر الغربي إنما يوجد بساحلها، وبساحل شذونه يوجد حوت التن لا في غيره من سواحل الأندلس، فيظهر في أول شهر مايه، لا يرى قبل هذا الشهر، فإنه يخرج من البحر المحيط فيدخل إلى البحر المتوسط الذي يسمى البحر الرومي، فيصيد مدة ظهوره أربعين يوماً، ثم يعود على مثل ذلك الوقت من العام الآخر. وبساحل شذونة المقل الذي يعظم جماره حتى يكون قلبه مثل قلب النخل، وكانت تصنع منه الغرابيل عن الحلفاء. وكانت جباية شذونة في أيام الأمير الحكم بن هشام خمسين ألفاً وستمائة. الشرف من غربي إشبيلية بالأندلس، وهو جبل شريف البقعة، كريم التربة، دائم الخضرة، فراسخ في فراسخ طولاً وعرضاً، لا تكاد تشمس منه بقعة لا لتفاف زيتونه، واشتباك غصونه، وزيته من أطيب الزيوت، كثير الريع عند العصر، لا يتغير على طول الدهر، ومن هناك يتجهز به إلى الآفاق براً وبحراً؛ وكل ما استودع أرض إشبيلية وغرس في تربتها نما وزكا وفضل وجل. ويقال إن في الشرف ثمانية آلاف قرية عامرة، وديارها حسنة، وبين الشرف وبين إشبيلية ثلاثة أميال، وسمي بذلك لأنه مشرف على ناحية إشبيلية، ممتد من الجنوب

شريش

إلى الشمال، وهو كله تراب أحمر، وشجر الزيتون فيه من هذا المكان إلى قنطرة لبلة. شريش من كور شذونة بالأندلس، بينها وبين قلشانة خمسة وعشرون ميلاً، وهي على مقربة من البحر، يجود زرعها، ويكثر ريعها. وبين المغرب والقبلة من شريش حصن روطة، على شاطئ البحر، بينهما ستة أميال، وهو موضع رباطٍ، ومقر للصالحين، مقصود من الأقطار، وبروطة هذه بئر حصب بماء لا يعلم مثله في بقعةٍ، وهي بئر أولية، قديمة البنية، ينزل المرء يستسقى الماء بيده حيث انتهى من البئر، فكلما كثر البشر بحصن روطة، واجتمعت إليه المرابطة طما الذي في البئر وزاد حتى يستسقى من رأس البئر باليد دون مهانةٍ ولا مشقة، فإذا قل الناس بها وتفرفوا نضب الماء حتى يكون بآخر دركه. وشريش متوسطة حصينة حسنة الجهات، قد أطافت بها الكروم الكثيرة، وشجر الزيتون والتين والحنطة بها ممكنة. شقر جزيرة بالأندلس، قريبة من شاطبة، وبينها وبين بلنسية ثمانية عشر ميلاً. وهي حسنة البقعة، كثيرة الأشجار والثمار والأنهار، وبها أناس وجلة، وبها

جامع ومساجد وفنادق وأسواق، وقد أحاط بها الوادي. والمدخل إليها في الشتاء على المراكب، وفي الصيف على مخاضة. وفي إحاطة الوادي بها يقول ابن خفاجة في شعرٍ يتشوق فيه إلى معاهده، ويندب ماضي زمانه " خفيف ": بين شقرٍ وملتقى نهريها ... حيث ألقت بنا الأماني عصاها ويغنى المكاء في شاطئيها ... يستخف النهى فحلت حباها عيشة أقبلت يشهى جناها ... وارف ظلها لذيذ كراها لعبت بالعقول إلا قليلاً ... بين تأويبها وبين سراها فانثنينا مع الغصون غصوناً ... مرحاً في بطاحها ورباها ثم ولت كأنها لم تكن تل؟ ... بث إلا عشيةً أو ضحاها فاندب المرج فالكنيسة فالش؟ ... ط وقل آه يا معيد هواها آه من غربةٍ ترقرق بثا ... آه من رحلةٍ تطول نواها آه من فرقةٍ لغير تلاقٍ ... آه من دارٍ لا يجيب صداها لست أدري ومدمع المرز رطب ... أبكاها صبابةً أم سفاها فتعالى يا عين نبك عليها ... من حياة إن كان يغنى بكاها وشباب قد فات إلا تناس؟ ... يه ونفسٍ لم يب إلا شجاها ما لعيني تبكي عليها وقلبي ... شمنى سواده لو فداها وفي جزيرة شقر يقول الكاتب أبو المطرف بن عميرة طويل:

شقندة

فقد حازنا نأى عن الأهل بعدما ... نأينا عن الأ وطان فهي بلاقع نرى غربةً حتى تنزل غربة ... لقد صنع البين الذي هو صانع وكيف بشقرٍ أو بزرقة مائه ... وفيه لشقرٍ أو لزرقٍ شوارع وقال من قصيدة يمدح فيها صاحب إفريقية الأمير الأجل أبا زكرياء " منسرح ": وعاد قلبي من شوق أندلسٍ ... عبداً شرفته وما فتر فأين منا منازل عصفت ... ريح عليها من العدى صرصر ودون شقرٍ ودون زرقته ... أزرق يحكى قناه وأشقر شقندة قرية بعدوة نهر قرطبة، قبالة قصرها، فيها اجتمع وجوه العجم يتشاورون في حرب العرب، ويحذرونهم من العقود عنهم، ويحضون بعضهم بعضاً على أن يكونوا يداً واحدة، وقدموا على لذريق بقرطبة بسبب ذلك، فنزلوا أكناف شقندة هذه، ولم يطمئنوا إلى الدخول على لذريق أخذاً بالحزم. شقوبية بالأندلس، ليست بمدينة، إنما هي قرى كثيرة متجاورة متقاربة متلاصقة، متداخلة العمارات، فيها بشر كثير، وجم غفير، وهم في نظر صاحب طليطلة، وهم أنجاد أجلاد، ومنها إلى طليطلة مائة ميلٍ.

شقورة

شقورة مدينة من أعمال جيان بالأندلس، قالوا: وجبل شقورة ينبت الورد الذكي المعطر، والسنبل الرومي الطيب، وفي غيران شنت مرتين من جبل شقوره أشقاقل كبير قوى الفعل، يفوق غيره، وإذا نزل بتلك الغيران أحد كثر منه الاحتلام، وربما نزل المنى منه بغير إرادة ولا تذكر؛ ويقال إن في قريةٍ هنالك ماء يفعل مثل ذلك. وفي جبل شقورة شجر الطخش الذي يتخذ منه القسى، وعصير ورقه سم قتال وحي. وفي تلك الناحية ماء صعيدة في حجر قد رما تدخل الدابة رأسها فيه، فتشرب ويتتابع على ذلك العدد الكثير من الدواب فتصدر رواءً، فإذ استقى في إناء لم يكن يروى الرجل. ولعلى بن أبي جعفر بن همشك، وكتب على قبره بشقورة وافر: لعمرك ما أردت بقاء قبري ... وجسمي فيه ليس له بقاء ولكن رجوت وقوف من على ... قبر مر فينفعني الدعاء سبيل الموت غاية كل حيٍ ... فكل سوف يلحقه بالفناء ومن شقورة أبو بكر بن مجبر الشاعر المفلق المجيد، شاعر دولة بني عبد المؤمن.

شلب

شلب من بلاد الأندلس، وهي قاعدة كورة أكشونبة، وهي مدينة بقبلي مدينة ياجة، ولها بسائط فسيحة، وبطائح عريضة؛ ولها جبل عظيم منيف، كثير المسارح والمياه، واكثر ما ينبت فيه شجر التفاح العجيب، يتضوع منه روائح المود. وعليها سور حصين، ولها غلات وجنات، وشرب أهلها من واديها الجاري إليها من جهة جنوبها، وعليه أرحاء البلد، والبحر منها في الغرب على ثلاثة أميالٍ، ولها مرسىً في الوادي وبها الإنشاء، والعود بجبالها كثير، يحمل منها إلى كل الجهات؛ والمدينة في ذاتها حسنة الهيئة، بديعة البناء، مرتبة الأسواق، وأهلها وسكان قراها عرب من اليمن وغيرها، وكلامهم بالعربية الصريحة، وهم فصحاء يقولون الشعر، وهم نبلاء خاصتهم وعامتهم؛ وأهل بوادي هذه البلدة في غاية الكرم، لا يجاريهم فيه أحد. ومن شلب إلى بطليوس ثلاث مراحل، ومن شلب إلى مارتلة أربعة أيام. وفي سنة 585 في ربيع الآخر منها، نازل ابن الرنق صاحب قلمرية وما يليها من غرب الأندلس مدينة شلب هذه، فلم يزل محاصراً لها إلى أن ضاق أهلها بالحصار، فخافوا الغلية عليهم، فصالحوهم على أن يخرجوا سالمين في أنفسهم، ويتركوا البلد بجميع ما فيه من أموالهم وأثاثهم، فأجابهم على ذلك، ووفي لهم بما صالحهم عليه، ودخلها في الموفى عشرين من رجب هذه السنة، وبلغ أمر شلب إلى صاحب المغرب والأندلس، المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، فامتعض من ذلك

وأنف منه، وكبر عليه، فاعترض جنوده، واستنفر حشوده، واستعد الأسلحة، وفرق الأموال، وخرج من مراكش قاصداً الأندلس في وسط ذي الحجة من هذه السنة، واستمر سيره إلى أن وصل إلى رباط الفتح من مدينة سلا، فأقام بها نحواً من ثلاثين يوماً إلى أن توافقت الحشود، وتكاملت القبائل، وورد عليه في أثناء مقامه برباط الفتح فتح فتح عليه في المغرب، وهنى به؛ وفيه يقول أبو بكر بن مجبر " طويل ": قلائد فتح كان يذخرها الدهر ... فلما أردت الغزو أبرزها النصر القصيدة بطولها. وتحرك المنصور من رباط الفتح في أخريات المحرم عام 586، وركب البحر من قصر مصمودة في الثاني والعشرين من ربيع الأول، فأقام بطريف إلى أن تحرك منها في غرة ربيع الآخر، وسار إلى قرطبة، وعقدت له الرايات بجامعها الأكبر؛ وفي ذلك يقول أبو بكر بن مجبر قصيدته المشهورة التي أولها " بسيط ": بشراى هذا لواء قل ما عقدا ... إلا وقد مده الروح الأمين بدا وأقبل النصر لا يعدو بناحيةٍ ... فحيما قصدت راياته قصدا واستقبلته بتبشير الفتوح فقد ... كادت تكون على أكتافه لبدا إلى آخر القصيدة، وهي طويلة. ثم تحرك من إشبيلية إلى قصر أبي دانس من غرب الأندلس، فنزلوا على حكمه، فاحتملهم إلى مراكش، ورحل من قصر أبي دانس إلى حصن بلمالة، فاست سلموا ورغبوا في الأمان على أن يتركوا الحصن، ويسلموا في أنفسهم، وينصرفوا إلى بلادهم، فأجيبوا إلى ذلك، وخلى سبيلهم، فنهضوا إلى بلادهم؛

شلبطرة

وانتهب جميع ما كان في الحصن ثم هدم قصد إلى حصن المعدن، فافتتح وهدم. وبعد الفراغ من ذلك كان النهوض إلى شلب، فوصلها في ثاني جمادى الأخيرة سنة 587، فأحدقت الجيوش بها، وأخذت بمخنقها، ونصب عليها المجانيق وآلات الحرب، وجدوا في قتالها، وبالغوا في نكاية أهلها، فطلبوا الأمان في أنفسهم على أن يسلموا المدينة ويخرجوا إلى بلادهم، فأجيبوا إلى ذلك، وخرجوا منها في السادس والعشرين من جمادى الأخيرة، وفي ذلك يقول أبو بكر بن مجبر قصيدته المشهورة، التي أولها طويل: دعا الشوق قلبي والركائب والركبا ... فلبوا جميعاً وهو أول من لبى وظلنا نشاوى للذي بقلوبنا ... نخال الهوى كأسا ويحسبنا شرابا إذا القضب هزتها الرياح تذكروا ... قدود الحسان البيض فاعتنقوا القضبا القصيدة. ثم أخذ المنصور في الرحيل إلى مراكش. شلبطرة بالأندلس، من بلاد الإذفونش، وهو حصن من حصون الأندلس من عمل قلعة رباح؛ كان الملك الناصر أبو عبد الله محمد بن المنصور بعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن ملك المغرب نزل عليها وحاصرها بالمجانيق الفخام، والآلات الحربية، حتى قهر أهلها وملأها، وذكل في أوائل سنة608؛ وكان نزل أولاً على حصن الثلج فتملكه، ثم رجع الحصار كله على حصن شلبطرة، فنصب عليها المجانيق، ورميت بالحجارة الصم الكبار، وطال حصارها إلى أن ضاق أهلها وأعياهم المر، فطلبوا

أجلاً يستجلبون فيه ملكهم صاحب طليطلة وقشتيلة الإذفونش بن شانجه، فأعطوا ما طلبوا؛ فأخرجوا قوماً من ثقاتهم إلى طليطلة والتقوا مع ملكهم إذفونش بها أو بغيرها من بلاده، وأعلموه بما انتهوا إليه من الشدة، وما بلغوا من الجهد والمشقة، وحملوا إليه بعض أحجار المجانيق التي يرمون بها؛ فعذرهم، ولم تكن عنده قدرة لدفع ما نزل بهم، ولا استطاع الدفاع عنهم، فأذن لهم في الخروج عنها، فرجعت ثقاتهم بذلك، فطلبوا الخروج مسلمين في أنفسهم، فوفى لهم بذلك، ومكنوه من الحصن، وانفصل الناس عنها في صدر ربيع الأول من سنة608. وكان الحصار فيها إحدى وخمسين ليلة. وزعيمهم الإذفونش بن شانجه لم يقدر في ذلك الوقت على شئ حتى استغاث بأهل ملته، وكاتب من قرب وبعد منهم، وشكا إليهم ما دهاه من المسلمين، وحثهم على حماية دينهم ونصر ملتهم، فاستجابوا له وجاؤوه من كل جهة وانثالوا عليه، فكان من وقيعة العقاب على الملك الناصر في عام 609ما هو مذكور في موضعه. ولما ملك الناصر حصن شلبطرة نفذت عنه المخاطبات بهذا الفتح. فمن فضل من ذلك ما خاطب به صاحب إفريقية حينئذٍ الشيخ المعظم أبا محمد عبد الواحد: وهذا كتابنا إليكم من منزل الموحدين بمنزل أندوجر، ولما كان صاحب قشتالة أقرب من تعينت حربه دارا، وأكثرهم عما استطاع أحرارا كان أول من نوينا، ووجب تقديم غزوه علينا؛ وكان المعقل المعروف بشلبطرة قد علقت به حبائل الصلبان، وضجر من ناقوسه ما في جهاته الأربع من التكبير والأذان مرقب الدو، وعقاب الجو؛ العلم المطل على الأعلام، والنكتة السوداء التي هبت بسائط الإسلام؛ والخباة الطلعة الذي لا حال للمسلمين معه قد جعلته النصرانية إلى كل غاية جناحا، وأعدته إلى أبواب

شلطيش

العاقل والمدائن مفتاحا؛ فاستخرنا الله تعالى على منازلته وقلنا: هو يمين صاحب قشتالة إن قطعت قعد مقعد الذليل، ونظنه عبرة إن لم يتحرك لها فقد قام على ضعفه أوضح دليل؛ ونحن في ذلك برءاء من القوة والحول، ونتوكل على الله ذي الفضل والطول؛ فقبل النزول من السروج، ووضع الهند والوشيج؛ حباهم الله بكل ضرب وجيع، وموت حي سريع؛ وملكوا عليهم أرباضهم وكانت من الذروة إلى البطحاء، فأضرموها ناراً من جميع الأنحاء؛ ونسخوا فيا آية النهار بالظلماء؛ فألقوا يد الاستسلام، وذلوا لعزة الإسلام؛ ورغبوا في أمد يقيمون فيه الحجة على صاحبهم فأذنا لرسلهم في التوجه إليه، لعلنا أن ذلك أشد من وقع السيوف عليه؛ فحينئذ وافته رسلهم اعترف لهم بالصغار، وقلة القوة على الانتصار، وفارقوه على تسليم الدار، لمن له عقبى الدار؛ فنبذنا إليهم بأنفسهم احتقارا، وساروا إلى قومهم يحملون هموماً طوالاً وآمالاً قصارا؛ وعلى أثرهم طهر الله تعالى المعقل من الأدران، ورقيت أعاليه ألوية الإيمان، وبدل الله عز وجل فيه الناقوس بالأذان، وحولنا كنيسةً مسجداً ومنبراً على تقوى من الله ورضوان. شلطيش بالأندلس، بقرب مدينة لبلة، وهي جزيرة، لا سور لها ولا حظيرة، إنما هي بنيان متصل بعضه ببعض، وبها دار صناعة الحديد الذي يعجز عن صنعه أهل البلاد لجفائه، وهي صنعة المراسى التي ترسوبها السفن، وقد تغلب عليها المجوس مرات، ويحيط بجزيرة شلطيش البحر من كل ناحية، إلا مقدار نصف رمية حجرٍ هناك

شلوبينية

يجوزون لاستقاء الماء لشربهم؛ وطول الجزيرة نحو ميل أو أزيد، والمدينة منها في جهة الجنوب. وهذه المدينة بإزاء مدينة أو نبة، ومقدار المجاز بينهما أربعة أميالٍ. وفي صفة استدارة البحر بهذه الجزيرة يقول عبد الجليل بن وهبون من قصيدةٍ يمدح بها المعتمد بن عباد وافر: ألم تر للجزيرة كيف أوفى ... عليها مثل ما انعطف السوار أعد بها على شاطيه رسياً ... ومد يداً إليك بها يسار فإن يقبل تحيته فأحذر ... فربتما تواصلت البحار يحيط كما يحيط بها ولكن ... لسمط الدر في العنق افتخار وكان بهذه الجزيرة بيع للأول، واتخذت في الفتنة مدينةً، ولها أرباض واسعة، وبها آبار عذبة قريبة الأرشية، وبساتين حسنة، وفيها أطيب الصنوبر، ولها مراعٍ خصيبة لا تتصوح، وعيون ماء عذبٍ تصلح بها الألبان والقطانى، ومن خاصتها الثريد النفيس. ومدينة شلطيش مرفا للسفن وركاب البحر، ومرساها كن بكل ريح، وهي كثيرة السفن، وبها دار صناعةٍ لإنشائها، ويسكنها جماعة من النصارى؛ ويكون طولها نحو أربعة أميال في عرضٍ يسيرٍ. شلوبينية قرية مسكونة على ضفة البحر، بينها وبين المنكب عشرة أميال، ويجود فيها الموز وقصب السكر، ولعل الأستاذ أبا علي الشلوبين منسوب إليها؛ ويقال إن شلوبينية تقابل من العدوة الأخرى مرسى مليلة، ويقطع البحر بينهما في مجريين.

شلير

شلير هو جبل الثلج المشهور بالأندلس، وهو بإزاء جبل إلبيرة، وهو متصل بالبحر المتوسط، مقتطع بجبل ريه، ويذكر ساكنوه أنهم لا يزالون يرون الثلج نازلاً فيه شتاء وصيفاً. وهذا الجبل يرى من اكثر بلاد الأندلس ويرى من عدوة البحر ببلاد البربر، وفي هذا الجبل أصناف الفواكه العجيبة، وفي قراه المتصلة به يكون أفضل الحرير والكتان الذي يفضل كتان الفيوم. وطوله يومان، وهو في غاية الارتفاع، والثلج به دائماً في الشتاء والصيف. ووادي آش وغرناطة في شمال هذا الجبل، ووجه الجبل الجنوبي مطل على البحر، يرى من البحر على مجرى أو نحوه. وفيه يقول ابن صارة، وأستغفر الله من كتب هذا الاستخفاف " طويل ": يحل لنا ترك الصلاة بأرضكم ... وشرب الحميا وهو شئ محرم فراراً إلى أرض الجحيم فإنها ... أحن علينا من شليرٍ وأرحم فإن كنت ربي مدخلي في جهنمٍ ... ففي مثل هذا اليوم طابت جهنم شنتجالة في طرف كورة تدمير بالأندلس مما بلى الجوف، ويقال لها أيضاً جنجالة، وإليها ينسب الوطاء الجنجالي لعمله بها. شنترة من مدائن الأشبونة بالأندلس على مقربة من البحرن ويغشاها ضباب دائم لا ينقطع، وهي صحيحة الهوى، تطول أعمار أهلها، ولها حصنان في غاية المنعة،

شنترلانة

وبينها والبحر قدر ميل، وهناك نهر ماؤه يصب في البحر، ومنه شرب جناتهم؛ وهي أكثر البلاد تفاحا، ويجل عندهم حتى يبلغ دورها أربعة أشبار، وكذلك الكمترى، وبجبل شنترة ينبت البنفسج بطبعه، ويخرج من شنترة عنبر جيد، ويخرج أيضاً في شذونة من بلاد الأندلس. شنترلانة مدينة أو قرية بالأندلس، على طريق قلشانة، وهي عن يمين الطريق، وناقوسها ملقى في الأرض لا حارس له ولا رقبة عليه، ويزعم أهلها أنه معقود ممنوع من جميع الناس، وأن من اخذه لا يمكنه الخروج به من القرية، وأن خصيتى من أخذه تنتفخان ويشتد وجعهما حتى يصرفه إلى موضعه؛ هذا عندهم صحيح لا يشكون فيه. شنترين بالأندلس، مدينة معدودة في كور باجة. وهي مدينة على جبل عالٍ كثير العلو جداً، ولها من جهة القبلة حافة عظيمة ولا سور لهان وبأسفلها ربض على طول النهر، وشرب أهلها من العيون ومن ماء النهر، ولها بساتين كثيرة وفواكه ومباقل، وبينها وبين بطليوس أربع مراحل. وهي من أكرم الأرضبين، ونهرها يفيض على بطحائها كفيض نيل مصر، فتزدرع أهلها على ثراه عند انقطاع الزريعة في البلاد وذهاب أوانها، فلا يقصر عن نمائه الطيب ولا يتأخر إناه وإدراكه.

شنتمرية

ومن أقاليمها صقلب، وهي أطيب بقاع الأرض، يرفع في أرضه عند توسط الرباح للحبة مائة، وعند كماله اللحبة مائتان. ولشنترين جزائر في البحر مسكونة، وكانت جباية شنترين ألفين وتسعمائة دينار، وأحوازها متصلة بأحواز باجة. وكان يوسف بن عبد المؤمن ملك المغرب اجتاز عليها في حركته الأندلسية بعسكره، وهو أربعون ألفاً من أنجاد العرب الفرسان ومن الموحدين والجنود والمطوعة وفرسان الأندلس، واجتازها ما ينيف على مائة ألف فارس، وبرز أسطوله على الأشبونة، وحاصرها عشرين يوماً، ونزل على أعظم قواعد ابن الرنق عدو المغرب، وكان مؤذياً للمسلمين من قاعدته، وهي شنترين هذه، فبرز إليها في أمم لا تحصى، وهناك عرض له المرض الذي توفى فيه، أقام الرحل به على مطيةٍ مضطجعاً على فراشه، وضعفه يتزايد، إلى أن تفقد في بعض أميالٍ فوجد ميتاً، وذلك في سنة 580 فتقدم بالأمر ولده يعقوب المنصورز فقفل بالناس إلى إشبيلية. فبويع بها ورجع إلى مراكش. شنتمرية مدينة في الأندلس من مدن أكشونبة. وهي أول الحصون التي تعد لبنبلونة، وهي أتقن حصون بنبلونة بنياناً، وأعلاها سموكاً، مبتناه على نهر أرغون، على مسافة ثلاثة أميال منه. وبناحية شنتمرية أعجوبة عاينها كل من دخل على تلك الناحية من المسلمين، وذلك عين ينفجر بماء كثير، ينظر الناس ذلك عياناً، فإذا قربوا منها، ووقفوا عليها انقطع جريانها، فلا تنبض بقطرةٍ، فإذا تباعد الناس عنها عادت إلى حالها، وهذا

شنت ياقوب

مستفيض لا يجهد له أحد ممن صاقب تلك الناحية. وشنتمرية على معظم البحر الأعظم، سورها يصعد ماء البحر فيه إذا كان فيه آلمد، وهي مدينة متوسطة القدر، حسنة التربة بها مسجد جامع ومنبر وجماعة، وبها المراكب واردة وصادرة، وهي كثيرة الأعناب والتين، وبينها وبين شلب ثمانية وعشرون ميلاً. وإليها ينسب الأستاذ أبو الحجاج يوسف بن سليمان الشنتمرى الأعلم ذو التصانيف المشهورة. وهي مدينة أولية، وبها دار صناعةٍ للأساطيل، وبإزائها جزائر في البحر ينبت فيها شجر الصنوبر. ومن الغرائب ما ظهر بشنتمرية هذه في عشر الستين والخمسمائة، وذلك صبى يتواصف المحققون ممن عاين أمره أن سنه خمسة أعوامٍ أو نحوها، بلغ مبلغ الرجال وأشعر، وهذا مستفيض عندهم. شنت ياقوب كنيسة عظيمة عندهم، وهي في ثغور ماردة، وهذه الكنيسة مبنية على جسد يعقوب الحواري، يذكرون أنه قتل في بيت المقدس، وأدخله تلامذته في مركب، فجرى به المركب في البحر الشأمي، ألى أن خرج به إلى البحر المحيط، حتى انتهى به إلى موضع الكنيسة بساحلٍ فيه، فبنيت الكنيسة ليومٍ معروفٍ جعل عيداً لها. وغز اشنت يا قوب عبد الرحمن بن المنصور أبي عامر سنة387، وأوسع أهلها قتلاً وأسراً، وقراها وأسوارها هدماً وإحراقاً، ومن إنشاء القسطلى رسالة إلى الخليفة هشام بن

شنفيرة

الحكم بن عبد الرحمن يخبره بالفتح، ويصف الكنيسة وأرضها، وله فيها قصيدة مشهورة. شنفيرة حصن على أربع مراحل من مرسية بالأندلس في شرقيها، مشهور بالمنحة، ظفر به في الصلح محمد بن هود سنة 614، ومعه خمسمائة من أجناد الرجال، فغدر به؛ لأن أبا سعيد بن الشيخ أبي حفص الهنتاتى، لما طاف على حصون الأندلس يتفقدها في أيام الهدنة، نظر إلى هذا المعقل وهو بارز إلى السماء مع وثاقة بنائه فأعجبه وقال: كيف أخذ الروم هذا الحصن من المسلمين؟ فقيل: غدروا به في زمان الصلح! فقال: أما في أجناد المسلمين من يجازيهم بفعلهم؟ فسمعه ابن هود فأسرها في نفسه، إلى أن تمت له الحيلة، فطلع في سلمٍ من حبالٍ فذبح السامر الذي يحرس بالليل، ولم يزل يطلع رجاله واحداً وأحداً إلى أن حصلوا بجملتهم في الحصن، وفر الروم الذين خلصوا من القتل إلى برج مانع. فقال ابن هود: إن أصبح هؤلاء في هذا البرج جاءهم المدد من كل مكان! فالرأي أن نطلق النيران في بابه! فلما رأوا الدخان، وأبصروا اشتعال النار طلبوا الصلح على أن يخرجوا بأنفسهم، فكان ذلك واستولى المسلمون على الحصن؛ وكان الروم قد أرسلوا في الليل شخصاً دلوه من البرج، فأصبحت الخيل والرجال على الحصن، وقد أحكم المسلمون أمره، فانصرفوا في خجلةٍ وخيبةٍ، وترددت في شأنه المخاطيات إلى مراكش، فقال الوزير ابن جامع لابن الفخار: أخذناه في الصلح، كما أخذ عنا في الصلح! ومن هذه الوقيعة اشتهر أبن هود عند أهل شرق الأندلس، وصاروا يقولون: هو الذي استرجع شنفيره!

شوذر

شوذر بالأندلس، من كور جيان، وهي قرية تعرف بغدير الزيت، لكثرة زيوتها، وهي كثيرة المياه والبساتين، بها جامع من ثلاث بلاطات على أعمدة من رخام، وسوق حافلة يوم الثلاثاء.

حرف الصاد

حرف الصاد الصخور حصن صغير على نهر مرسية من الأندلس. فيه دعا لفنسه محمد بن هود سنة625، وأبو العلى إدريس المأمون إشبيلية، وقد صفت له؛ وكان عازماً على التحريك إلى بر العدوة، فبينما هو يروم ذلك إذ وصله الخبر بقيام ابن هود هذا، وكان من الجند، ولم يكن إذ ذاك أحد من أكابر الأندلسيين يطمع في ثيارة، ولا يحدث بها نفسه؛ فبنو مردنيش في بلنسية، وبنو عيسى في مرسية، وبنو صناديد في جيان، وبنو ... في غرناطة، وبنو فارس في قرطبة، وبنو وزير في إشبيلية، لا نتظام البرين على طاعة الدولة الممهدة القواعد، ورجوع أمورها إلى إمام واحد، حتى اتفقت ثيارة العادل بمرسية، ثم ثيارة البياسى ونكبته، ثم مبايعة أبي العلى بإشبيلية، ففتحوا على دولتهم باباً رحله منه غيرهم، فأوقع الله تعالى في خاطر ابن هود هذا أنه بملك الأندلس، وتحدث بذلك مع من يثق به، وذكر أنه محمد بن يوسف بن محمد بن عبد العليم بن أحمد المستنصر بن هود، واحتقره السيد الذي كان في مسرية من قبل أبي العلى، فجمع أصحابه وخرج بهم إلى الحصن المعروف بالصخور، فدعا لنفسه، واجتمع له جمع من القطاع، وذعار الشعارى والضياع؛ وقال لهم: أنا صاحب الزمان، وأنا الذي أرد الخطبة عباسية! وخاطب بذلك أبا الحسن القسطلى قاضي مرسية يومئذ، وأعلمه أنه إن تمكن من هذا العرض فإن الدولة تكون

في يده، فأصغى الشيخ إليه إصغاء أذهله عن حتفه الذي بحث عنه، ثم حضر القاضي القسطلى عند السيد الملقب بأبي الأمان، وقد لاحت عليه دلائل الخذلان؛ فقال: يا سيدي! هذا الرجل الذي كان في الصخور ما زال خديمكم، فكتبنا له نرغبه في الطاعة ونعده بما يكون له من الخير في إثر ذلك، حتى أذعن، وها هو قد وصل ليقبل به كم الكريمة، وسيدنا يرتب له ولأصحابه ما يكفهم عن الثيارة، ويرجى أن ينتفع بهم في قطع الفساد، عن جهات هذه البلاد! فابتهج السيد، وأنفذ إليه بالمبادرة، فلم يمر إلا القليل حتى دخل ابن هود وأصحابه مرسية في السلاح، فبعد ما مالوا لتقبيل يده قبضوا عليه، ثم حبسوه وأجلسوا ابن هود في مكانه. وخطب في أول جمعة للمستنصر العباسي، ثم لنفسه بالمتوكل على الله أمير المؤمنين؛ وعندما وصل الخبر بذلك إلى أبي العلى، وكان عزم على جواز البحر، تمثل كامل: إن الطبيب إذا تعارض عنده ... مرضان مختلفان داوى الأخطرا وصرف وجهه إلى مرسية؛ ففي أول منزلة نزل بها، قام الأستاذا أبو على الشلوبين فابتده، فخطب وقال: ثلمك الله ونثرك يريد: سلمك ونصرك. وكان يرد السين والصاد ثاء. وقام بعده أبو الحسن بن أبي الفضل، فأنشده قصيدةً أولها " خفيف ": خدمتك السيوف والأقلام ... وأناخت لأمرك الأيام وقام الكاتب البلوى فأنشد قصيدةً منها " سريع ": أرتك مرسية وقد عصت ... لنا قديماً طائعاً أكثر منابر يالك قد أصبحت ... مناظراً إن قد عصى منبر

صدينة

فكره أبو العلى ما أتوا به، واسود وجهه، فتطير الحاضرون بذلك، وامتنع أبو العلى بعد هذا المجلس من كلام الخطباء، وإنشاد الشعراء، في هذه القضية؛ وأقام محاصراً لابن هود حتى رحل في السنة الثانية، وعلم أهلها أنهم لا ينفعهم معه إلا التحريك على ساعد الجد، وعلم هو أنه لا تجوز عليهم حيلة ولا تنفع فيهم موعظة، وكان الأمر على ما نطق به القدر على ألسنة أولئك. صدينة من كور شذونة ببلاد الأندلس، أزلية قائمة الأسوار، باقية الآثار، تطرد المياه داخلها من عين ثرة تطحن على جنوبها الأرحاء، وهي في غاية الحصانة، لا ينفذ جيش إليها، ولا يتوصل عسكر للنزول عليها، وهذه العين عنصر نهر بوصة.

حرف الطاء

حرف الطاء طارق جبل فيه خرج طارق بن زياد ومنه افتتح الأندلس، وهو عند الجزيرة الخضراء، وبجبل طارق مرسى مكن من كل ريح، وبه غريبة، وهو غار هناك يعرف بغار الأقدام، يرى من البطحاء التي تلي الغار أثر قدمٍ أبداً وليس هناك طريق ولا منفذ إلى غير الغار، وقد مسحت تلك البطحاء وسويت، ثم أتوها من الغد، فوجدوها فيها أثر القدم، جرب ذلك مراراً. وكان أحد خلفاء بني عبد المؤمن أمر ببناء مدينةٍ على جبل طارق، فندب إليها البنائين والنجارين وقطاع الحجر للبنيان والجيار من كل بلدة، وخطت فيه المدينة وقدم إليها من المال ما يعجز كثرةً، واتخذ فيها الجامع وقصراً له، وقصوراً تجاروه للسادة بنيه، وتولى العمل في ذلك، وأقطع أعيان وجوه البلاد فيه منازل، نظروا في بنائها، بعد إن حفروا في سفح الجبل مواضع نبع فيها الماء، وجمع بعضها إلى بعض حتى سال منها جدول عم المدينة لأنفسهم ومواشيهم، من أعذب الماء وأطيبه، يصب في صحنٍ عظيمٍ اتخذ له، وأجرى إلى الجنات المغترسة بها عن أمره، فللحين ما جاءت مدينة تفوت المدن حسناً وحصانةً، لا يدخل إليها إلا من موضع واحدٍ، قد حصن بسور منيع من البنيان الرفيع، وسميت بمدينة الفتح، وقالت الشعراء فيها، ثم جاز إليها في سنة 556، وورد الوفود عليه هناك، فتلقاهم بالتكرمة، وفت ذلك في عضد العدو.

طالقة

طالقة مدينة بالأندلس، بقرب إشبيلية، وهي من المدن القديمة، وكانت دار مملكة الأفارقة بالأندلس، وكانت من مدن إشبيلية المتصلة بها في سالف الدهر وهي خراب، إذ كان إشبان بن طيطش غزا طالقة وحاصر ملكهم بها حتى فتحها وتغلب على مملكتهم، فهدم طالقة ونقل رخامها وآلاتها إلى إشبيلية وبه سميت، واتخذها دار ملكه وكثرت جموعه، فعلا في الأرض وغزا من إشبيلية وبه سميت، واتخذها دار ملكه، وكثرت جموعه، فعلا في الأرض وغزا من إشبيلية إيلياء بعد سنتين من ملكه؛ خرج إليها في السفن فغنمها وهدمها، وقتل من اليهود مائة ألفٍ، واسترق مائه ألفٍ، وفرق في البلاد مائة ألف، وانتقل رخام إيلياء وآلاتها إلى الأندلس، والغرائب التي أصيبت من مغانم الأندلس كمائدة سليمان التي ألفاها طارق بن زياد بكنيسة طليطلة، وقليلة الدر التي ألفاها موسى بن نصير بكنيسة ماردة وغيرها من الذخائر، إنما كانت مما صلوا لصاحب الأندلس من غنيمة بيت المقدس إذ حضر فتحها مع بخت نصر. وحكوا أن الخضر وقف بإشبان هذا وهو يحرث الأرض في حداثة فقال له: يا إشبان، إنك لذو شأن، وسوف يحظيك زمان، ويعليك سلطان؛ فإذا أنت غلبت على إيلياء، فارفق بذرية الأنبياء! فقال له إشيان: أساحر أنت رحمك الله؟ أني يكون هذا وأنا ضعيف مهين؟ فقال: قدر ذلك من قدر في عصاك اليابسة ما تراه! فنظر إشبان إلى عصاه فرآها قد أورقت، فريع لما رأى، وذهب الخضر عنه وقد وقر ذلك الكلام في نفسه، والثقة بكونه؛ فترك الامتهان، وداخل الناس، وصحب أجل الناس، وسما به جده، فارتقى في طلب السلطان حتى نال منه عظيماً؛ وكان ملكه عشرين سنة.

طبيرة

واتصلت مملكة الإشبانيين بعده إلى أن ملك منهم الأندلس خمسة وخمسون ملكاً. وكانت بطالقة آثار وعجائب غريبة؛ فمن ذلك صورة جاريةٍ من مرمر لم تسمع في الأخبار، ولا روى في الآثار، صورة أبدع منها في قالب جارية، كاملة القد، حسنة الجسم، جميلة الوجه، صور كل عضوٍ من أعضائها، وكل جاريةٍ، كاملة القد، حسنة الجسم، جميلة الوجه، صور كل عضوٍ من أعضائها، وكل جارحةٍ من جوارحها على أتم ما يكون، وأفضل ما يستحسن في جوارح المرأة حضنها صورة صبيٍ على مثلٍ من الحكمة والإتقان، وقد صورت حية تصعد من قدمها كأنها تريد نهش الصبي، فنظرها بين مصعد الحية ومكان الطفل كالمشفقة الحذرة يتبين ذلك في التقائها، ولو وقف الناظر لتأملها عامة نهاره لم يسأم ذلك ولا مله، لدقيق صنعتها وغريب حكمتها؛ وهذه الصورة موضوعة في بعض حمامات إشبيلية، وقد تعشقها جماعة من العوام، وشغف بها أناس من الطغام؛ فتعطلت أشغالهم، وانقطعت متاجرهم بالنظر إليها. طبيرة لا أدري أهي طلبيرة بزيادة لام أو غيرها، فإن كانت هي فهي مذكورة بعد. طرسونة بالأندلس، كانت مستقر العمال والقواد بالثغور، وكان أبو عثمان عبيد الله بن عثمان المعروف بصاحب الأرض اختارها محلاً، وآثرها على مدن الثغور منزلاً؛ وكانت ترد عليه عشر مدينة أربونة وبرشلونة، ثم عادت طرسونة من بنات تطلية عند تكاثر الناس بتطيلة، وإيثارهم لها، لفضل بقعتها، واتساع خطتها، وبينهما اثنا عشر ميلاً.

طرطوشة

طرطوشة من بلنسية إلى طرطوشة مائة ميل وعشرون أميال، مسيرة أربعة أيام. وهي في سفح جبل، ولها سور حصين، وبها أسواق وعمارات وضياع وفعلة، وإنشاء للمراكب الكبار من خشب جبالها، وبجبالها خشب الصنوبر الذي لا يوجد له نظير في الطول والغلظ، ومنه تتخذ الصوارى والقرى، وهو خشب أحمر صافي البشرية بعيد التغير، لا يفعل فيه السوس ما يفعله في غيره من الخشب، ومنها إلى طر كونة خمسون ميلاً، وبينها وبين البحر الشأمى عشرون ميلاً. وقصبة طرطوشة على صخرةٍ عظيمةٍ سهلة الأعلى، وفي الشرق من القصبة جبل الكهف وهو جبل أجرد والمصلى؛ والمدينة في غربي القصبة وجوفيها؛ وعلى المدينة سور صخرٍ من بناء بني أمية، على رسم أولى قديم؛ ولها أربعة أبواب، وأبوابها كلها ملبسة بالحديد، ولها أرباض من حومة الجوف والقبلة ودار الصناعة قد أحدق على ذلك كله سور صخرٍ حصين، بناه عبد الرحمن بن النظام، وبها جامع من خمس بلاطات، وله رحبة واسعة، بنى سنة345؛ وبها أربعة حمامات، وسوقها في الربض القبلي جامعة لكل صناعة ومتجر، وهي باب من أبواب البحر، ومرقى من مراقيه، تحلها التجار من كل ناحية، وهي كثيرة شجر البقس، ومنا يفترق إلى النواحي، وخشبها الصنوبر له خاصية في الجودة تفوق جميع خشب الأمصار. وقصبة طرطوشة في المنعة والسمو

طركونة

إلى حدٍ لم يستوفه بالصفة إلا عبد الملك بن إدريس الكاتب المعروف بالجزيرى، حين سجنه بها المنصور بن أبي عامر، فقال يصف حاله هناك من قصيدةٍ طويلةٍ مشهورةٍ كامل: في رأس أجرد شاهقٍ عالي الذرى ... ما بعده لمؤملٍ من ممصر يهوى إليه كل أعور ناعق ... وتهب فيه كل ريحٍ صرصر ويكاد من يرقى إليه مرةً ... من دهره يشكو انقطاع الأبهر وأول هذا الشعر: ألوى بعزم تجلدى وتصبرى ... نأى الأحبة واعتماد تذكر شحط المزار فلا مزار ونافرت ... عينى الهجوع فلا خيال يعترى وقصرت عنهم فاقتصرت على جوى ... لم يدع بالواني ولا بالمقصر ومن أهل طرطوشة، الفقيه الإمام الزاهد، أبو الوليد الطرطوشى الفهرى؛ نزل الإسكندرية، صاحب التعلقة في الخلاف، وكتاب الحوادث والبدع وغير ذلك؛ سكن بغداد، وتفقه على أبي بكر الشاشى، وسمع بها الحديث وهو مالكى المذهب. قالوا: وزهده أكثر من علمه، وانتفع به جماعة، وانجلب إليه أكثر من مائتي فقيهٍ مفتٍ؛ ومن كبار أصحابه أبو الطاهر بن عوف، وسند بن عنان الأزدى؛ وعاصر الغزالي، وله في إحيائه كلام، وكان منحرفاً عنه، سيئ الاعتقاد فيه وكانت وفاته بعد العشر والخمسمائة. طركونة بالأندلس، بينها وبين لاردة خمسون ميلاً. وطر كونة مدينة أزلية، قاعدة من

طريانة

قواعد العمالقة، وجعلها قسطنطين في القسم الثالث من الأندلس، وأضاف إليها مدن ذلك القسم. وهي مبنية على ساحل البحر الشأمى، ومعالمها باقية لم تتغير، وأكثر سورها باقٍ لم يتهدم، وهي أكثر البلاد رخاماً محكاً، وسورها من رخام أسود وأبيض، وقليلاً ما يوجد منثله؛ ومن الغرائب بطركونة أرحاء نصبها الأول، وتطحن عند هبوب الريح وتسكن بكسونها؛ وذكر أهل العلم باللسان اللطينى أن معنى طر كونه الأرض المشبهة بالمجنة وكانت في قديم الزمان خاليةً، لأنها كانت فيما بين حد المسلمين والروم؛ والأخياس بها كثيرة، ومبانيها كبيرة، وبها أساطين رفيعة، مما تضل الأوهام في حكمته، ويعجز المتكلفون اليوم عن صنعته. وذكر شيخ ثقة من أهل شبرانة، يقال له ابن زيدان، أنه كان يخرج في السرايا إلى تلك الناحية، فنزل في بعض خرجاته مع جماعة من أصحابه في البنيان الذي تحت مدينة طركونة، فأرادوا التحول منه فضلوا ولم يهتدوا منه لمخرج، وترددوا كذلك ثلاثة أيامن حتى هدوا في آخر اليوم الثالث لما أراد الله تعالى من إبقائهم. وزعم قوم أنهم وجدوا هناك بيوتاً مملوءةً قمحاً وشعيراً من الزمان السالفة، قد اسود حبه، وتغير لونه؛ وفي هذه المدينة يكمن المسلمون عند طلب الفرصة في الغزو، وفيها يكمن العدو أيضاً للمسلمين. طريانة من كور إشبيلية بالأندلس، كان بها الفنش بن فرذلند الطاغية واعد قواد

طلبيرة

جيوشه للاجتماع فيها عام الزلاقة لمحاصرة ابن عباد بإشبيلية في سنة 479، فأخلف الله ظنه، وعكس عليه أمله؛ وكان ما كان في الزلاقة من نصر الله تعالى للمسلمين والفتح لهم، فله الحمد؛ وقد مر ذلك في رسم الزلاقة. ومن كلام عامة إشبيلية لفتكٍ وطريانة تؤدى الجعل! طريف اسم بلد جزيرة طريف، على البحر الشأمى، في أول المجاز المسمى بالزقاق، ويتصل غربها ببحر الظلمة؛ وهي مدينة صغيرة عليها سور ترابٍ؛ ويشقها نهر صغير، وبها أسواق وفنادق وحمامات؛ ومن جزيرة طريف إلى الخضراء ثمانية عشر ميلاً. وكتب موسى بن نصير إلى الوليد يستأذنه في اقتحام الأندلس؛ فراجعه: خضها بالسرايا، ولا تغرر بالمسلمين في بحرٍ شديد الأهوال! فراجعه: ليس ببحرٍ زخارٍ إنما هو خليج يتبين للناظر ما خلفه! فجاوبه: وإن كان فلا بد من اختباره بالسرايا قبل اقتحامه! فبعث موسى رجلاً من وإليه من البربر اسمه طريف، كينى أبا زرعة، في أربعمائة رجل، معهم مائة فرس، في أربعة مراكب؛ فنزل بالخضراء التي هي معبر سفائهم؛ وهي التي يقال لها اليوم جزيرة طريف لنزوله بها؛ فأغار عليها، فأصاب سبياً، لم ير موسى ولا أصحابه مثله حسناً، ومالاً جسيماً، وأمتعة؛ وذلك سنة91. طلبيرة بالأندلس أيضاً، بينها وبين وادي الرمل خمسة وثلاثون ميلاً؛ وهي أقصى ثغور

طليطلة

المسلمين؛ وباب من الأبواب التي يدخل منها إلى أرض المشركين، وهي قديمة أزلية على نهر تاجه. وهي في الجزء الثالث من قسمة قسطنطين. وهي مدينة كبيرة، وقلعتها أرفع القلاع حصناً، ومدينتها أشرف البلاد حسناً، وهو بلد واسع الساحة، كثير المنافع، به أسواق وديار حسنة؛ ولها على نهر تاجه أرحاء كثيرة، ولها عمل واسع، ومزارعها زاكية؛ وبينها وبين طليطلة سبعون ميلا. طلمنكة مدينة بثغر الأندلس، بناها الأمير محمد بن عبد الرحمن؛ منها أحمد بن محمد بن عبد الله بن لب بن يحيى المعافرى الطلمنكى المقرى؛ وبينها وبين وادي الحجارة عشرون ميلاً. طلياطة بالأندلس، بينها وبين إشبيلية محلة من عشرين ميلاً، ومن طلياطة إلى لبلة محلة مثلها. وفي جمادى الأولى من سنة 622كانت الوقيعة على أهل إشبيلية بفحص طلياطة، فأغار الروم الغربيون على تلك الجهة، وغنموا ما وجدوا، وساقوا ما أصابوا، والعادل صاحب المغرب يومئذٍ بإشبيلية، ووزيره أبو زيد بن وجان، ومعهما أهل الدولة وأشياخ الأمر، ولا غناء لديهم، ولا مدفع عندهم، إذ كان الأمر قد أدبر ورونق الدولة قد

تغير. ومن نزلت به من الناس مصيبة أو أغير له على سرحٍ لم يرج مغيثاً ولا يجد نصيراً؛ وكان خبر هؤلاء الروم بلغ إشبيلية قبل ذلك بأيام، واجتمع جمع كثير من العامة في المسجد الجامع، فلما فرغ من صلاة الجمعة قاموا فصاحوا بالسلطان يحملونه على الخروج؛ فلما كان يوم السبت خرج المنادي ينادي الناس بالخروج، فأخذوا في ذلك وتجهزوا، وخرج بعضهم في ذلك اليوم، ولما كان يوم الأحد جد بالناس، فخرجوا على كل صعب وذلول، كبارهم وصغارهم، بسلاح وبغير سلاح كما يخرخون إلى نزههم في البساتين والجنات، فتكامل بعضهم في جهة طلياطة يوم الأحد، ولم يخرج معهم من الخيل إلا دون المائة؛ والروم في عددٍ ضخمٍ، عليهم الدروع، وبأيديهم السلحة، وأكثر جميع المسلمين بغير سلاح إلا ما لا قدرة له، وإنما هم أهل الأسواق والباعة؛ وكان في من خرج من الجند أبو محمد عبد الله بن أبي بكر بن يزيد، وهو أعلم بالحرب من هؤلاء الرعاع والغوغاء الذين لا يعقلون، فصاحوا به أن يسير إلى لقاء العدو، فأبى عليهم ونهاهم وحذرهم؛ فأبوا عليه إلا اللقاء، وسبوه، وآذوه بالقول؛ فزهمهم وانصرف عنهم، هو ومن كان معه من الخيل، إذ رأوا ما لم يروه، وعاينوا ما لم يعاينوه، وأبصروا ما لا طاقة لهم به؛ فلما رأى الروم ذلك مالوا على أولئك العامة، فلما رأوهم مستقبلين لهم أخذوا في الفرار، فوقع القتل بهم، فأفنى منهم بالقتل وأسر منهم كثير، وأفلت كثير؛ وكان الناس بعد يختلفون في مقدار من أتى القتل عليه من أهل إشبيلية والأسر، فمقلل ومكثر، فالمكثر يقول بلغوا عشرين ألفاً، وقيل دون ذلك، فالله أعلم. وخرج العادل من إشبيلية متوجهاً إلى حضرة مراكش في ذي القعدة من هذه السنة، وهي سنة 622.

طليطلة بالأندلس، بينها وبين البرج المعروف بوادي الحجارة خمسة وستون ميلاً، وهي مركز لجميع بلاد الأندلس، لأن منها إلى قرطبة تسع مراحل، ومنها إلى بلنسية تسع مراحل أيضاً، ومنها إلى المرية في البحر الشأمى تسع مراحل أيضاً. وطليطلة عظيمة القطر، كثيرة البشر، وهي كانت دار الملك بالأندلس حين دخلها طارق؛ وهي حصينة، لها أسوار حسنة، وقصبة حصينة، وهي أزلية من بناء العمالقة، وهي على ضفة النهر الكبير، وقل ما يرى مثلها إتقاناً وشماخة بنيانٍ، وهي عالية الذرى، حسنة البقعة، ولها قنطرة من عجائب البنيان، وهي قوس واحدة، والماء يدخل تحتها بعنفٍ وشدة جرىٍ، ومع آخر القنطرة ناعورة، وارتفاعها في الجو تسعون ذراعاً، وهي تصعد الماء إلى أعلى القنطرة، ويجري الماء على ظهرها فيدخل المدينة. وكانت طليطلة دار مملكة الروم، وكان بطليطلة بيت مغلق متحامى الفتح على الأيام، عليه عدة من الأقفال، يلزمه قوم من ثقات القوط قد وكلوا به لئلا يفتح، قد عهد الأول في ذلك إلى الآخر، فلما قعد لذريق ملكاً أتاه أولئك الموكلون بالبيت يسألونه أن يقفل على الباب فقال: لا أفعل حتى أعلم ما فيه ولا بد لي من فتحه! فقالوا: أيها الملك إنه لم يفعل هذا أحد قبلك! فلم يلتفت إليهم ومضى إلى البيت، فأعظمت ذلك العجم، وضرع إليه أكابرهم، فلم يفعل وظن أنه بيت مالٍ قد احترمته الملوك؛

ففض الأقفال عنه، ودخل، فأصابه فارغاً لا شيء فيه إلا تابوتاً عليه قفل، فأمر بفتحه فألفاه أيضاً فارغاً ليس فيه إلا شقة مدرجة صورت فيها العرب، عليهم العمائم وتحتهم الخيل العراب، متقلدى السيوف، متنكبى القسى، رافعي الرايات على الرماح، وفي أعلاها أسطر مكتوبة بالعجمية فقرئت فإذا فيها: إذ كسرت الأقفال عن هذا البيت، وفتح هذا التابوت، وظهر ما فيه من هذه الصور، فإن هذه الأمة المصورة في هذه الشقة تدخل الأندلس فتغلب عليها وتملكها! فوجم لذريق وندم على ما فعل، وعظم غمه وغم العجم بذلك، وأمر برد الأقفال، وإقرار الحراس، وأخذ في تدبير ملكه، وذهل عما أنذر به، إلى أن كان من أمر يليان عامل لذريق على سبتة وأمر ابنته في الخبر المشهور ما سبب إثارة عزمه على إدخاله العرب إلى الأندلس، إلى أن كان ذلك وسبب الل فتحها بسبب ذلك، وما بعد ذلك يذكر في غير هذا المكان. ووجد أهل الإسلام فيها ذخائر عند افتتاح الأندلس، كادت تفوق الوصف كثرةً؛ فمنها مائة وسبعون تاجاً مرصعة بالدر، وأصناف الحجارة الثمينة، ووجد فيها ألف سيف مجوهر ملوكى، ووجد بها من الدر والياقوت أكيالاً وأوساقاً، ومن آنية الذهب والفضة وأنواعها مالا يحيط به وصف، ووجد بها مائدة سليمان بن داوود، وكانت فيما يذكر من زمردة، وهذه المائدة اليوم في مدينة رومية. وزعم رواة العجم أنها لم تكن لسليمان، وإنما أصلها أن العجم، في أيام ملكهم، كان أهل الحسبة في دينهم، إذا مات أحدهم أوصى بمالٍ للكنائس، فإذا اجتمع عندهم ذلك

المال صاغوا منه آلات من الموائد والكراسي وغيرها، من الذهب والفضة، يحمل الشمامعة والقسوس فوقها مصاحف الأناجيل إذا أبرزت في أيام المناسك، ويضعونها على المذابح في الأعياد للمباهاة بزينتها، فكانت تلك المائدة بطليطلة مما ضيع في هذه السبيل، وبالغت الأملاك في تحسينها، يزيد الآخر منهم فيها على الأول، حتى برزت على جميع ما اتخذ من تلك الآلات؛ وطار الذكر بها كل مطار. وكانت مصوغةً من خالص الذهب، مرصعةً بفاخر الدر والياقوت والزبرجد، لم تر الأعين مثلها، فولع في تحسينها من أحل دار المملكة. وأنه لا ينبغي أن يكون بموضع آلة جمالٍ أو متاع مباهاةٍ إلا دون ما يكون فيها؛ وكانت توضع على مذبح كنيسة طليطلة فأصابها المسلمون هناك. وقصة اتصالها إلى سليمان بن عبد الملك ومنازعة موسى بن نصير وطارق مولاه في رحلتهما مشهورة. قال ابن حيان: ومضى طارق خلف فرار أهل طليطلة، فسلك إلى وادي الحجارة، ثم استقبل الجبل فقطعه، فبلغ مدينة المائدة؛ والمائدة خضراء من زبرجدة، حافاتها منها، وأرجلها؛ وكان لها ثلاثمائة وخمسة وستون رجلاً، فأحرزها عنده. وبطليطلة بساتين محدقة، وأنهار مخترقة، ودواليب دائرة، وجنات يانعة، وفواكه عديمة المثل؛ ولها من جميع جهاتها أقاليم رفيعة، وقلاع منيعة؛ وعلى بعد منها في جهة الشمال، الجبل العظيم المعروف بالشارات، فيه من البقر والغنم الشئ الكثير، الذي يتجهز به الجلابون إلى سائر البلاد؛ ولا يوجد شئ من أبقاره وأغنامه إلا في

غاية من السمن، ولا يوجد مهزولاً ألبتة، ويضرب به المثل في ذلك في جميع الأقطار بالأندلس؛ وعلى مقربة من طليطلة قرية تسمى بمغام، وجبالها وترابها الطين المأكول يتجهز به منها إلى مصر والشأم والعراق. وليس على قرار الأرض مثله في لذة أكله، وتنظيف غسل الشعر به؛ وفي جبل طليطلة معادن الحديد والنحاس. وزعموا أن اسم طليطلة باللطينى تولاظو معناه فرح ساكنوها، يريدون لحصانتها ومنعتها؛ وفي كتاب الحدثان كان يقال: طليطلة الأطلال، بنيت على الهرج والقتال؛ إذا وادعوا الشرك، لم يقم لهم سوقة ولا ملك؛ على يدي أهلها يظهر الفساد، ويخرج الناس من تلك البلاد. ومدينة طليطلة قاعدة القوط ودار مملكتهم، منها كانوا يغزون عدوهم، وإليها كان يجتمع جيوشهم، وهي إحدى القواعد الأربع، إلا أنها أقدمهن؛ ألفتها القياصرة مبنيةً، وهي أول الإقليم الخامس من السبعة الأقاليم التي هي ربع معمور الأرض، وإليها ينتهي حد الأندلس، ويبتدئ بعدها الذكر للأندلس الأقصى، أوفت على نهر تاجه، وبها كانت القنطرة التي يعجز الواصفوان عن وصفها، وكان خرابها أيام الإمام محمد. ومن خواص طليطلة أن حنطها لا تسوس على مر السنين، يتوارثها الخلف عن السلف، وزعفران طليطلة هو الذي يعم البلاد، ويتجهز به إلى الآفاق؛ وكذلك الصبغ السماوي. وأول من نزل طليطلة من ملوك الأندلس لوبيان، وهو الذي بنى مدينة رقابل،

وهي على مقربة من طليطلة، وسماها باسم ولده؛ ومنها ولى الأساقفة على الكور، وبها مجتمعهم للمشورة، وكان عددهم ثمانين أسقفاً لثمانين مدينة من حوز الأندلس، كجليقية وطر كونه وقرطباجنة، وكانت قبل ولايته فرقاً، فائتلف أمر الناس وانقطع الخلاف، وأحبه الخاص والعام؛ وهو الذي بنى الكنائس الجليلة، والمعالم الرفيعة، وبنى الكنيسة المعروفة بالمردقة، واسمه مزبور على بابها، وهي بين حاضره إلبيرة ووادي آش. وبطليطلة ألفيت ذخائر الملوك، وعلى مقربة من طليطلة قرية قنيشرة، وهي حارتان فيهما عينا ماء، إذ نضبت أحداهما جرت الأخرى، هذا دأبهاما كل عامٍ، وهما يتعاقبان لا يجريان في زمانٍ واحدٍ، وغربيها على نحو عشرين ميلاً منها تمثالان عظيمان على صورة طورين قد نحتا من حجرٍ صلدٍ. وذكر بعض المؤرخين أن طارقاً لما غزا طليطلة اعترض جنده وهو راكب أحدهما. قالوا: لمامضى طارق بن زياد إلى طليطلة دار مملكة القوط ألفاها خاليةً، وقد فر أهلها عنها، فضم إليها اليهود وخلى بها رجالاً من أصحابه، ومضى خلف فرار أهل طليطلة، فسلك إلى وادي الحجارة، ومنه اقتحم ارض جليقية فخر بها ودوخ الجهة، ثم انصرف إلى طليطلة، وذلك في سنة 93 من الهجرة. وفي سنة 450 نتجت بغلة بطليطلة فلواً في صور مهرٍ، وكانت بغلة كميتا لبعض السقائين، فتشاءم به النصارى، ولم يزالوا يختلونه حتى عقروه؛ وبقلة العهن من جوفي طليطلة على خمسة وعشرين ميلاً منها بئر لا يعرف فيها قط علق، فنبشت في بعض السنين ليكثر ماؤها، فكثر العلق فيها كثرةً مفرطةً، فنظروا فيما

طيلاقة

استخرجوه من نبشها فإذا فيه علقة نحاسٍ، فردت في البئر فانقطع العلق منها. وقيل إنما ذلك في حصن وقش في عينٍ نحو الحصن. وفي قريةٍ على عشرة أميالٍ من طليطلة في طريق مجريط بئر معروفة، إذا شرب من مائها المعلوق أسقطت العلق، إنساناً كان أو دابةً أو غير ذلك. وكان أخذ النصارى لطليطلة في منتصف محرم سنة 478. طيلاقة بينها وبين إشبيلية ميلان.

حرف العين

حرف العين عفص بالأندلس، بقرب مرسية، فيها كانت وقيعة للروم على أهل مرسية في رجبها، ذهب فيها من أهل مرسية بين قتيل وأسير نحو أربعة آلاف رجل؛ وكان الروم أغاروا على تلك الجهة، فخرج إليهم أهل مرسية، وكانوا عاثوا على أهل إشبيلية مثلهان حين وقعت عليهم الهزيمة بفحص طلياطة، ونسبوهم إلى الضعف والخور وقلة الدربة بالحروب، فلم تمض الأيام حتى امتحنهم الله بهذه الوقيعة؛ وكان صاحب جيش هذا اليوم أبو علي بن أشرقى. قال صاحب الملتمس: كائنة عفص هي أخت كائنة طلياطة المتقدمة في سنة 621، كانت هذه في غرب الأندلس وهذه في شرقها، وكان عباد الصليب قد وصلوا إلى عفص من عمل مرسية، فخرج عسكر مرسية ومعهم العامة، فقتل منهم كثير وأسر منهم كثير. وفيها يقول أحد المرسيين متقارب: موقعة عفص وطلياطة ... تكامل إقبال أيامنا فبالغرب تلك وبالشرق ذى ... أناخا على شم أعلامنا وفي وسط الأرض قيجاطة ... ولوشة قما بأحلامنا

العقاب

وليس الصليب يرى جائعاً ... تواتر أعدا ... منا وسيدنا ناظر في الجواز ... يروم النجاة بإسلامنا العقاب بكسر العين بالأندلس بين جيان وقلعة رباح، كانت في هذا الموضع موقعة عظيمة، وهزيمة على المسلمين شنيعة؛ في منتصف صفر من سنة 609. وذلك أن الملك الناصر أمير المؤمنين، محمد بن المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن ملك المغرب، كان تحرك من مراكش إلى الأندلس، فأحل بإشبيلية، ثم تحرك منها إلى قرطبة، ثم نزل على حصنى شلبطرة واللج فحاصرهما، وضيق عليهما. فملك حصن اللج أولاً، ثم حصن شلبطرة، ونصب عليها المجانيق الضخام، ورمبت بالحجارة الضخمة حتى ملكها على رغم الإذفونش صاحب طليطلة وقشتيلة، ولم يكن له يومئذٍ قدرة على دفاعه. وكان ذلك في سنة608، حتى انتصف في العام الذي يليه في هذه الوقيعة. وكان الملك الناصر أعجب بفتح شلبطرة وكتب بذلك إلى الآفاق، وخفى عنه ما فرط الغيوب من خبر العقاب، ورجع إلى إشبيلية ظافراً غانماً، ثم استغاث الإذفونش بأهل ملته، وحثهم على حماية دينهم، فاستجابوا وانثالوا عليه من كل مكان. وخرج إليه الناصر من إشبيلية في العشرين من محرم سنة609 بحشود لا غرض لهم في الغزو، وقد أمسكت أرزاقهم، وقتر عليهم، مع ما كان من قتله لابن قادس صاحب قلعة رباح، بسبب إسلامه القلعة للنصارى، من غير أن يسمع حجته،

وإخراجه من مجلسه الحشود الأندلسية غضباً عليهم، ومخادعة النضارى لباقي الأجناد باشتهار الصلح والعمل على ضده، حتى خالطوهم على غفلة، فأخذ المسلمون في فرارٍ ما سمع بمثله، وكان ذلك في العقاب بين بجيان وقلعة رباح، في منتصف صفر من سنة609 كما ذكرناه، وكانت شنيعةً؛ وفر الناصر لا يلوى على شئ حتى وصله إشبيلية، وتبعهم العدو حتى حال بينهم الليل، وأخذوا خباء الساقة، وماتت تحتهم الخيل، فمشى ودافع بكل طريق سلكوه، ومنهاج وردوه، وأتى القتل على خلقٍ كثيرٍ من المسلمين، وقتل فيها من الأعيان والطلبة جملة، منهم على بن الغانى الميورقى وابن عاتٍ الفقيه وغيرهما؛ وكان فرس الملك الناصر بادناً فلم يطق الحركة، فنزل له بعض العرب عن فرسه وقال له: اركبه فهو خير لك من هذا! وكان أمر أبا بكر بن عبدب الله بن أبي حفص بالوقوف تحت الراية، وحملت الروم فقصدت الراية ظنا منها أن الناصر عندها، فوضعت السيف فيمن واجهها، فقتلت خلقاً، وقتل أبو بكر هذا، وانهزم الناس، واستولى العدو على جميع المحلة وأكثر مضاربها. ثم استولى الروم بعد ذلك على مدينتي بسطة وباغو، وما جاورهما من القرى والحصون، وقتلوا الرجال وسبوا الذرية، وكانت هذه الوقيعة أول وهنٍ دخل على الموحدين. فلم تقم بعد ذلك لأهل المغرب قائمة؛ ولما انتهى الناصر إلى إشبيلية آنس البلاد بخطاب كتبه إليهم بزخرفه الكاذب، ثم جاز البحر إلى مراكش فتوفى في قصره من مراكش سنة610؛ قيل عضه كلب وقيل غير ذلك.

حرف الغين

حرف الغين غافق بالأندلس بقرب حصن بطروش. وهو حصن حصين، ومعقل جليل، في أهله نجدة وحزم، وجلادة وعزم؛ وكثيراً ما تسرى إليهم سرايا الروم، فيستنقذون منهم غنائمهم، ويخرجونهم من أرضهم، والروم تعلم بأسهم وبسالتهم فيجتنبونهم.

حرف الفاء

حرف الفاء فحص البلوط الترجمة في حرف الباء بالأندلس من ناحية قرطبة، منه القاضي أبو الحكم منذر بن سعيد البلوطي. كان متفنناً في ضروب من العلوم، وكانت له رحلة لقى فيها جماعةً من العلماء في الفقه واللغة، وكان كثير المناقب والخصال الحميدة غير مدافع، مع ثبات الجنان وجهارة الصوت وحسن الترتيل؛ وله تفسير على الكتاب العزيز. ومما جرى له مع عبد الرحمن الناصر أمير المؤمنين أنه بنى قبةً واتخذ قراميد القبة من فضة، وبعضها مغشى بالذهب. وجعل سقفها نوعين صفراء فاقعة، وبيضاء ناصعة؛ يستلب الأبصار شعاعها؛ فجلس فيها إثر تمامها لأهل مملكته، وقال لقرابته ووزرائه مفتخراً عليهم: أرأيتم أم سمعتم ملكاً كان قبلى صنع مثل ما صنعت؟ فقالوا: لا والله يا أمير المؤمنين، وإنك لأوحد في شأنك! فبينما هم على ذلك، إذ دخل منذر بن سعيد واجماً ناكساً رأسه؛ فلما أخذ مجلسه قال له ما قال لقرابته، فأقبلت دموع القاضي تنحدر على لحيته وقال له: والله! يا أمير المؤمنين! ما ظننت أن الشيطان لعنه الله يبلغ منك هذا المبلغ، ولا أن تمكنه من قيادك هذا التمكين، مع ما آتاك الله تعالى وفضلك به على المسلمين، حتى ينزلك منازل الكافرين! فاقشعر عبد الرحمن من قوله، وقال له: انظر ما تقول! كيف أنزلني منازلهم؟ قال: نعم! أليس الله تعالى

يقول: " ولولا أن يكون الناس أمةً واحدةً لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضةٍ ومعارج عليهم يظهرون الآيات. فوجم الخليفة عبد الرحمن ونكس رأسه ملياً، ودموعه تنحدر على لحيته خشوعاً وتذمما لما جرى، ثم أقبل على منذر بن سعيدٍ، وقال له: جزاك الله عنا وعن الدين خيراً، وكثر في الناس أمثالك! فالذي قلت، والله! والله هو الحق! وقام من مجلسه ذلك يستغفر الله تعالى، وأمر بنقض سقف القبة، وأعاده قرمداً على صفةٍ غيرها. ومن أخباره أن الناصر لدين الله أمره بالخروج للاستقاء، فخرج واجتمع له الناس في مصلى الربض بقرطبة، بارزين إلى الله تعالى، في جمع عظيمٍ، ثم قام منذر بن سعيدٍ باكياً، خاشعاً لله تعالى، فخطب فقال: سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءاً بجهالةٍ ثم تاب من بعده واصلح فأنه غفور رحيم! ثم قال: " استغفروا ربكم إنه كان غفاراً "، قال: فضج الناس بالبكاء، وارتفعت أصواتهم بالاستغفار، والتضرع إلى الله تعالى بالسؤال، فما تم النهار حتى أرسل الله السماء بماءٍ منهمرٍ. وكان رحمه الله، على متانة دينه، وجزالته في أحكامه، حسن الخلق، كثير الدعابة، ربما ارتاب بباطنه من لا يعرفه، حتى إذا رام أن يصيب من دينه ثار به ثورة الليث العادي، قيل له: إن قوماً من جيران أحد المتحاكمين من أهل ربض الرصافة، قد تألبوا معه على خصمه، وأعانوه بشهادةٍ مدخولةٍ، وهم غادرون بها عليك! وكان كثيراً

الترجمة في حرف الفاء

ما تأتيه عيونه بمثل ذلك، فغدوا عليه بمجلس نظره، وكانت أسماء جميعهم متفقةً في الوزن على مثال فعلون، فأخذوا مواضعهم، وقام الذين يشهدون له؛ فلما رأى القاضي أسماءهم قال رافعاً صوته: يا ابن صيفون، ويا ابن زيدون، ويا ابن سحنون، من الربض الملعون، ألقوا ما أنتم ملقون! فلما سمعوا قوله لاذوا عن الشهادة، وخرجوا متسللين؛ فكفى شأنهم. وكان نظاراً لا يقنع بالتقليد؛ ومن قوله في استقصار هذه الفرقة طويل: عذيرى من قومٍ إذا ما سألتهم ... دليلاً يقولوا هكذا قال مالك فإن زدت قالوا قال سحنون مثله ... وقد كان لا تخفى عليه المسالك فإن قتلت قال الله ضجوا وأعولوا ... على وقالوا أنت خصم مماحك ونوادره كثيره. الترجمة في حرف الفاء بالأندلس، بينه وبين قرطبة مرحلتان أو ثلاث، ومن هذا الفحص جبل البرانس وفيه معدن الزئبق، ومن هناك يحمل إلى الآفاق؛ وبهذا الجبل الزيتون المتناهى في الجودة؛ وبموضع بقرب من معدن الزئبق جبل يعرف بجبل المعز، في شعراء هنالك حجر يسمى حجر العابد، في وسطه قلة، وهي حفرة على قدر الصحفة بمقدار ما يدخل الإنسان فيها يديه، ويملؤهما من ماء هناك، فيشرب أو يصنع به ما احتاج إليه، فيأتي إيه البقر الكثير فيكفيهم، ويرجع إلى حجه لا يغيض ولا يغور؛ وذكر من رآه أنه جاءه في نيفٍ وثلاثين رجلاً أو نحو ذلك، وهذا معروف هناك.

فرنجولش

وبهذا الفحص بلاد وأسواق. وجباية هذا الفحص في عهد الأمير محمد ألفان اثنان، ويتصل بأحواز فحص البلوط أحواز فريش، وتنتظم قراها بقراها. وإلى فحص البلوط أحواز فريش، وتنتظم قراها بقراها. وإلى فحص البلوط ينسب الفقيه القاضي أبو الحكم منذر بن سعيد البلوطى، وقد مر ذكره في حرف الباء. فرنجولش بالأندلس بقرب حصن المدور. وهي مدينة جليلة، كثيرة الكروم والأشجار، ولها على مقربة منها معادن الذهب والفضة بموضع يعرف بالمرج. فريش موضع بالأندلس، بين الجوف والغرب من قرطبة، فيها معدن رخام، والغالب بها أشجار القسطل، وبها معدن حديدٍ؛ ويتصل بأحواز فريش أحواز فحص البلوط، وبينها وبين قرطبة مرحلتان، وبها قرية تعرف بقسطنطينة، كانت مدينةً عظيمةً أوليةً، وفيها آثار الكنائس، ويقال إنها بنيت في أيام قسطنطين ملك الروم؛ وبينها وبين قرطبة أربعون ميلاً. فنيانة قرية بقرب وادي آش من الأندلس، جامعة خطيرة، كثيرة الكروم والتوت

الفهمين

والبساتين وضروب الثمار، وكان بها طرز الديباج، والمياه تطرد في جميع جناتها، وأهلها عجم، ذوو يسار. الفهمين مدينة بالأندلس، بالقرب من طليطلة. وكانت مدينةً متحضرةً، حسنة الأسواق والمباني، وفيها منبر ومسجد جامع، وخطبة قائمة، وملكها الروم لما ملكوا طليطلة.

حرف القاف

حرف القاف قادس جزيرة بالأندلس عند طالقة من مدن إشبيلية، وطول جزيرة قادس من القبلة إلى الجوف اثنا عشر ميلاً، وعرضها في أوسع المواضع ميل، وبها مزارع كثيرة الريع، وأكثر مواشيها المعز، وشعراؤها صنوبر ورتم؛ فإذا رعت معزهم خروب ذلك المكان عند عقدها، واسكر لبنها، وليس يكون ذلك في ألبان الضان. وقال صاحب الفلاحة النبطية: بجزيرة قادس نبات رتم إذا رعته المعز أسكر لبنها إسكاراً عظيماً؛ وأهلها يحققون هذه الخاصية. وفي طرف الجزيرة الثاني حصن خرب أولى، بين الآثار، وبه الكنيسة المعروفة بشنت بيطر، وشجر المثنان كثير بهذه الجزيرة، وبها شجيرة تشبه فسيل النخل، لها صمغ إذا خلط بالزجاج صمغه، وصار حجراً تتخذ منه الفصوص، وبها آثار للأول كثيرة. ومن أعجب الآثار بها الصنم المنسوب إلى هذه الجزيرة، بناه أركليش، وهو هرقلس، أصله من الروم الإغريقيين، وكان من قواد الروم وكبرائهم على زمن موسى عليه السلام؛ وقيل إنه أول معدودٍ لملوك اليونانيين، وملك أكثر الأرض، فحارب أهل المشرق وافتتح مدنهم، إلى أن وصل إلى الهند، وانصرف صادراً مفتتحاً لبلاد أولاد يافت، إلى أن انتهى إلى الأندلس؛ فلما بلغ البحر المحيط الغربي، سأل عما

وراءه فقيل إنه لا يجاوز إلا بر الأندلس فعمد إلى جزيرة قادس، فبنى بها مجدلاً عالياً منيفاً، وجعل صورة نفسه مفرغةً من نحاسٍ في أعلى المنارة، وقد قابلت المغرب، كرجلٍ متوشح برداً من منكبيه إلى أنصاف ساقيه، وقد ضم عليه وشاحه، وفي يده اليمنى مفتاح من حديد، وهو مادها نحو المغرب، وفي اليسرى صحيفة من رصاصٍ منقوشة، فيها ذكر خبره، ومعنى الذي بيده أنه افتتح ما وراءه من البلدان والمدن. والصنم في وسط الجزيرة، وبينه وبين الحصن المذكور ستة أميال، والصنم مربع، ذرع أسفله من كل جانبٍ أربعون ذراعاً، وارتفع على قدر هذا الذرع ثم ضاق، وارتفع على قدر ذلك الذرع الثاني، ثم ضاق، وارتفع على قدر ذلك الذرع الثالث، ثم خرط البنيان من ابتداء الطبقة الرابعة، إلى أن صارت قدما الصورة على صخرةٍ واحدةٍ، قدر تربيعها في رأي العين أربع أذرع، قد تقدمت رجله اليمنى، وتأخرت اليسرى كالماشى؛ وارتفاع الصنم من الأرض إلى رأس الصورة مائة وأربع وعشرون ذراعاً، لطول الصورة من ذلك ثماني أذرع، وقيل ست؛ وقيل إن هذا الذرع بالذراع الكبير الذي هو ثلاثة أشبارٍ ونصف، وقد خرج من بين رجليه عمود نحاسٍ أو ذهبٍ صاعداً حتى علا فوق رأسه نحو ذراعين في رأي العين. وكان يقول أهل العلم بالحدثان في سالف الأزمان: يوشك أن يقع من يد هذه الصورة أحد المفتاحين، فتكون بذلك يده تحرك الفتن بالأندلس، ثم يقع الآخر بعد فيكون حينئذٍ خراب الأندلس. فذكر جماعة أهل قادس أن أحد المفتاحين سقط سنة400، وهو في صورة المفتاح، فحمل إلى صاحب مدينة سبتة، فأمر به فوزن،

فكانت زنته ثمانية أرطال، وقيل إن الصنمو بنى لتأريخ ألفين وأربعمائة وإحدى وخمسين من وقت الطوفان، وقيل لتأريخ ألفين وأربعمائة وإحدى وخمسين من وقت آدم عليه السلام؛ والذي لا يشك فيه أنه بنى على عهد موسى عليه السلام. وقال موسى بن شخيص يعنى هذا الصنم طويل: ورجراجة الأرداف موارة الخطا ... تهادى وليست من حسان الأوانس إلى أن ترى الشخص الملعلع موفياً ... على الصنم الموفى على بحر قادس ولما نزلنا تحته قال صاحبى ... أعاجيب رومٍ أم أعاجيب فارس فقلنا له خفض سؤالك والتمس ... نجاتك من مرسى البحار الكوائس وكانوا يتحدثون أن المتوسطة من البحر الغربي، الذي كان يسمونه ببلايه، لم تسلك قط إلى وقت سقوط ذلك المفتاح حتى سقط المفتاح؛ فمن حينئذٍ سلك الناس في البحر إلى سلا وإلى السوس وإلى غيرهما، وكان هذا مستفيضاً عندهم. وذكر بعض المؤلفين لغرائب الحدثان، أن صنم قادس موضوع على بلاد الأندلس، فجعل رأسه لطليطلة، وصدره لقرطبة، وكذلك أعضاؤه، قسمها عضواً عضواً على بلاد الأندلس، فمتى أصاب عضواً من هذه الأعضاء آفة حلت بذلك القطر الذي من قسيمته آفة. وفي بعض التصانيف: إذا هدم صنم قادس استولى النصارى على بلاد الأندلس؛ فنظروا فإذا الوقت الذي هدمه أبو الحسن على بن عيسى بن ميمون فيه دخل النصارى قرطبة وملكوها. قال المخبر: وكانت إشبيلية تحت الذمة لأن مرقيش النصارى

المعروف بالسليطين، لما استحوذ عليها أقر أبا زكرياء يحيى بن علي بن تايشا على ما كان بأيدي الملثمين منها ومن غيرها، وكان حكم السليطين فافذاً فيها؛ ولقد وقع سنة 540 تنازع بين رجلين من المرابطين في إنزال جنان بقرية من قرى إشبيلية؛ فادعاه أحدهما بإنزال ابن غانية له فيه، وأتى بظهيرٍ؛ وادعاه الآخر بظهير السليطين؛ وحكم بينهما وإلى إشبيلية تحت نظر يحيى بن علي؛ وكان هذا الملثم قد كتب له به السليطين بطليطلة حين سفر إليه رسولاً عن يحيى بن على. وكان هدم على بن عيسى لهذا الصنم لأنه خيل إليه أنه على كنوزٍ ضخمةٍ، وأن داخله محشو تبراً، فدعا له الرجال والبناة وأخذوا في قطع حجرٍ منه، وكلما قطعوا حجراً ادعموا مكانه بدعامةٍ من خشب، حتى وقف ذلك الجرم العظيم على الدعائم؛ ثم رموا إلى الخشب النار، بعد ما ملأوا الخلل الذي بين الخشب حطباً، فسقط جميعة وكانت له وهلة عظيمة، واستخرج الرصاص المعقود بالحجارة، والنحاس الذي كان منه الصنم، وكان مذهباً؛ وبدت في يديه من مطلبه الخيبة. وكان يقال إن الذي يهدم صنم قادس يموت مقتولاً؛ وكذلك كان. ويزعم أهل جزيرة قادس أنهم لن يزالوا يسمعون أن الراكب في هذا البحر إن ألج فيه وغاب عنه صنم قادس، بدا له صنم ثانٍ مثله، فإذا وصلوا إليه وجاوزوه حتى يغيب عليه، بدا له صنم ثالث، فإذا تجاوزوا سبعة أصنامٍ صاروا في بلاد الهند؛ وهذا مستفيض عندهم، معروف جارٍ على ألسنتهم، لم يزل يأخذه آخرهم عن أولهم. قالوا: ولما أحكم أركليش هذه الآثار عمد إلى بلاد البربر؛ فعمد إلى مدينة سبتة من الزقاق الخارج من

قبتور

البحر المحيط، ولم يزل يفتتح مدينةً بعد مدينةٍ حتى انتهى إلى لوبيا وتراقيا؛ فوجد هناك ألماً وأوجاعاً في بدنه، فلما اشتد ذلك به أجج ناراً وألقى نفسه فيها، واحترق؛ وكان غرضه أن يحرق الأوجاع التي في بدنه، فدل هذا من فعله على أنه كان من عبدة النيران. وتفرقت جموعه، واتخذه المجوس وثناً يعبدونه. قبتور قرية من قرى إشبيلية؛ وفي سنة 623 وصلت شياطى الروم الغربيين نهر إشبيلية، فأسروا الناس، وحرقوا القوارب، ثم وصلوا إلى قبتور هذه، وغلبوا أهلها، ودخلوا عليهم عنوةً، ففر منهم من فر، وأخذوا جملةً منهم ومن نسائهم، واستبيح جميع ما كان في الديار من الآلات والمتاع. قبرة مدينة بالأندلس، بينها وبين قرطبة ثلاثون ميلاً، ذات مياهٍ سائحةٍ من عيونٍ شتى، منها العين التي عليها؛ والنهر الذي هناك مخرجه من ناحية جبل شيبة، عليه أرحاء كثيرة؛ وهذا الجبل شامخ ينبت ضروب النواوير وأصناف الأزاهر، وأجناس الأفاويه والعقاقير، وتدوم غضاره نواره، وتتصل بهجة نبته باعتدال هوائه وكثرة أندائه، فيقطف النرجس فيه بأعضان من الورد؛ وللمسجد الجامع بقبرة ثلاث بلاطات، ولها سوق جامعة يوم الخميس، وتحسن بها ضروب الغراسات، وأنواع الثمرات؛ وهي مخصوصة بكثرة الزيتون.

القبطيل

وعلى مقربة من مدينة قبرة، والمغارة المعروفة بالعروب، لا يدرك قعرها، ولا يسبر غورها، وهي باب من أبواب الرياح، ويعرفونها ببئر الريح، وكان بعض خلفاء بني أمية قد أمر عامل قبرة بردم تلك المغارة، وأن يحشد لذلك أهل الناحية، ويشرف عليه بنفسه، ففعل، واعتمل الناس من ذلك مدةً؛ وكان مما ردموها به التبن والحشيش، إلى أن استوى الردم، وجلس العامل على فم الغار ليخاطب الأمير بذلك، فرجف المكان، وانهال الردم، ونجا العامل ولم يكد ينجو، بقيت المغارة لا يدرك لها قعر كما كانت قبل الردم، ولم يعلم أين ذهب جميع ما قذف فيها؛ إلا أنه رئى من ذلك التبن في بعض ينابيع المياه بذلك الجبل. وفي هذه المغارة قذف جماعة من الصقالبة المأسورين، في هزيمة كانت، أحياء. القبطيل بالأندلس، هو مفرغ وادي طرطوشة في البحر، ويعرف أيضاً بالعسكر، لأنه موضع عسكر به المجوس واحتفروا حوله خندقاً أثره باقٍ إلى الآن. قرباكة بالباء بالأندلس أيضاً، من إقليم مولة، وهي قرية بها عين ماءٍ تولد الحصى بطبعها، وإذا طال مكثه في الإناء من النحاس أو غيره، تحجر بجنباته حتى تتضاعف زنة الإناء؛ وعين ماء أخرى تفتت الحصى بطبعها.

قربليان

قربليان بالأندلس، بينها وبين أوريولة عشرون ميلاً، وهي كثيرة الزيتون، وبها سقى كثير. قرطاجنة هذا الأسم في ثلاثة مواضع: أحدها بالأندلس عند جبل طارق، وهي مدينة للأول غير مسكونة، وبها آثار كثيرة، وتعرف بقرطاجنة الجزيرة، وبمرساها نهر يريق في البحر يعرف بوادي البحر؛ والثانية: قرطاجنة الخلفاء بالأندلس أيضاً من كورة تدمير. وهي فرضة مدينة مرسية، وهي مدينة قديمة أزلية، لها مينا ترسو فيها المراكب الكبار والصغار، وهي كثيرة الخصب والرخاء المتتابع، ولها إقليم يسمى الفندون، وقليلاً ما يوجد مثله في طيب الأرض وعذوبة الماء. ويحكى أن السنبل يحصد فيه عن مطرةٍ واحدةٍ، وإليه المنتهى في الجودة. ومن مدينة قرطاجنة إلى مرسية في البر أربعون ميلاً. وبقرطاجنة هذه، هزم عبد العزيز بن موسى بن نصير تدمير عبدوس، الذي سميت به تدمير؛ هزمه وأصحابه، ووضع المسلمون فيهم السيف، يقتلونهم كيف

شاءوا، حتى نجا تدمير في شرذمةٍ من قلال أصحابه إلى حصن أوريولة، وكان مجرباً بصيراً ذاهيبة؛ فلما رأى قلة أصحابه، أمر النساء فنشرن شعورهن، وأمسكن القصب بأيديهن فيمن بقى من الرجال، وقصد بنفسه كهيئة الرسول واستأمن، فأمن، وانعقد الصلح له ولأهل بلده، وفتحت تدمير صلحا؛ فلا نفذ أمره عرفهم بنفسه وأدخلهم المدينة، فلم يروا بها إلا نفراً يسيراً من الرجال، فندم المسلمون على ما كان منهم؛ وكان ما انعقد من صلح تدمير مع عبد العزيز على إتاوةٍ يؤديها، وجزيةٍ عن يدٍ يعطيها، وذلك على سبع مدائن: منها أوريولة، ولقنت، وبلانة، وغيرها. وتأريخ فتحها سنة94. ومن الغرائب ما حكى أن ديراً بقرطاجنة الخلفاء، كان على مقربة منها، بني لا مرأةٍ شهيدةٍ ولها قدر عندهم، وعلى القبر قبة، في أعلاها كوة، لا يعلو تلك القبة طائر، فإن علاها اجتذبته قوة من تلك الكوة، فسقط في القبة. وقد أخبر رجل بهذه القصة وهو يتصيد بقرطاجنة فأنكر ذلك، واعتمد دفع جوارح وصيده على القبة، فتساقطت داخلها. وكان لتلك القبة مشهد عظيم في يوم من العام، يجتمع إليه الدانى والقاصى من نصارى تلك النواحي، وذلك في الرابع والشعرين من أعشت؛ فلما كانت سنة 414، قصده جماعة من نصارى بلاد إفرنجة في مركبٍ جرى إلى تلك القبة، فاستخرجوا منها الشهيدة وحملوها؛ فلما وصلوا بها إلى جزيرة صقلية بذل لهم نصاراها مالاً عريضاً ليتركوا المرأة عندهم فيقبروها في كنائسهم، فأبوا عليهم؛ ووصلوا بها إلى بلادهم.

قرطبة

قرطبة قاعدة الأندلس، أم مدائنها ومستقر خلافة الأمويين بها، وآثارهم بها ظاهرة، وفضائل قرطبة ومناقب خلفائها أشهر من أن تذكر؛ وهم أعلام البلاد، وأعيان الناس؛ اشتهروا بصحة المذهب، وطيب المكسب، وحسن الزى، وعلو الهمة، وجميل الأخلاق؛ وكان فيها أعلام العلماء، وسادة الفضلاء؛ وتجارها مياسير، وأحوالهم واسعة؛ وهي في ذاتها مدن خمس يتلو بعضها بعضاً، وبين المدينة والمدينة سور حاجز؛ وفي كل مدينة ما يكفيها من الأسواق والفنادق والحمامات وسائر الصناعات؛ وطولها من غربيها إلى شرقيها ثلاثة أميال، وعرضها من باب القنطرة إلى باب اليهود ميل واحد. وهي في سفح جبل مطلٍ عليها، يسمى جبل العروس، ومدينتها الوسطى هي التي فيها باب القنطرة. وفيها المسجد الجامع المشهور أمره، الشائع ذكره؛ من أجل مصانع الدنيا كبر مساحةٍ، وأحكام صنعةٍ، وجمال هيئةٍ، وإتقان بنيةٍ؛ تهمم به الخلفاء المروانيون، فزادوا فيه زيادةً بعد زيادة، وتتميماً إثر تتميم، حتى بلغ الغاية في الإتقان، فصار يحار فيه الطرف، ويعجز عن حسنه الوصف؛ فليس في مساجد المسلمين مثله تنميقاً وطولاً وعرضاً؛ طوله مائة باع، وعرضه ثمانون باعاً، ونصفه مسقف، ونصفه صحن بلا سقف؛ وعدد قسى مسقفه تسع عشرة قوساً، وسوارى مسقفه بين أعمدته وسوارى قببه صغاراً وكباراً مع سوارى القبلة الكبرى وما يليها ألف ساريةٍ؛ وفيه مائة وثلاث

عشرة ثريا للوقيد، أكبرها واحدة منها تحمل ألف مصباح، وأقلها تحمل انثى عشر مصباحاً، وجميع خشبه من عيدان الصنوبر والطرطوشى، ارتفاع حد الجائزة منه شبر وافر، وفي عرض شبرٍ إلا ثلاثة أصابع، في طول كل جائزة منها سبع وثلاثون شبراً؛ وبين الجائزة والجائزة غلظ جائزة؛ وفي سقفه من ضروب الصنائع والنقوش مالا يشبه بعضها بعضاً، قد أحكم تزيينها، وأبدع تلوينها؛ بأنواع الحمرة والبياض والزرقة والخضرة والتكحيل، فهي تروق العين وتستميل النفوس، بإتقان ترسيمها ومختلفات ألوانها. وسعة كل بلاطٍ من بلاط سقفه ثلاثة وثلاثون شبراً؛ وبين العمود والعمود خمسة عشر شبراً؛ ولكل عمود منها رأس رخامٍ وقاعدة رخامٍ ولهذا الجامع قبلة يعجز الواصفون عن وصفها وفيها إتقان يبهر العقول تنميقها، وفيها من الفسفساء المذهب والملون ما بعث به صاحب القسطنطينة العظمى إلى عبد الرحمن الناصر لدين الله؛ وعلى وجه المحراب سبع قسىٍ قائمة على عمد، طول كل قوس أنيف من قامة، وكل هذه القصى موجهة صنعة القوط، قد أعجزت المسلمين والروم بغريب أعمالها، ودقيق صنعها؛ وعلى أعلى الكل كتابان منحوتان بين بحرين من الفسيفساء المذهب في أرض الزجاج اللازوردى، وعلى وجه المحراب أنواع كثيرة من التزيين والنقوش، وفي جهتي المحراب أربعة أعمدة: اثنان أخضران واثنان زرزوريان لا تقوم بمال، وعلى رأس المحراب خصة رخام قطعة واحدة مشبوكة منصعة بأبدع التنميق من الذهب واللازورد وسائر الألوان، واستدارت على المحراب حظيرة خشبٍ، بها من أنواع النقش كل

غريبة، ومع يمين المحراب المنبر الذي ليس بمعمور الأرض مثله صنعةً، خشبه آبنوس وبقس وعود المجمر، يقلل إنه صنع في سبع سنين، وكان صناعة ستة رجال غير من يخدمهم تصرفاً؛ وعن شمال المحراب بيت فيه عدد وطشوت ذهبٍ وفضةٍ وحسك، وكلها لو قيد الشمع في كل ليلة سبع وعشرين من رمضان؛ وفي هذا المخزن مصحف يرفعه رجلان لثقله، فيه أربع أوراق من مصحف عثمان بن عفان " رضه " الذي خطه بيمينه، وفيه نقطة من دمه؛ ويخرج هذا المصحف في صبيحة كل يومٍ، يتولى إخراجه قوم من قومه المسجد وللمصحف غشاء بديع الصنعة، منقوش بأعزب ما يكون من النقش، وله كرسي يوضع عليه، ويتولى الإمام قراءة نصف حزب فيه، ثم يرفع إلى موضعه. وعن يمين المحراب والمنبر باب يفضى إلى القصر بين حائطى الجامع في ساباط متصل، وفي هذا الساباط ثمانية أبواب: منها أربعة تنغلق من جهة القصر، وأربعة تنغلق من جهة الجامع؛ ولهذا الجامع عشرون باباً مصفحةً بصفائح النحاس وكواكب النحاس؛ وفي كل باب منها حلقتان في نهاية الإتقان، وعلى وجه كل باب منها في الحائط ضروب من الفص المتخذ من الآجر الأحمر المحكوك، أنواع شتى وأصناف مختلفة من الصناعات والتنميق: وللجامع في الجهة الشمالية الصومعة الغريبة الصنعة، الجلية الأعمال، الرائقة الشكل والمثال؛ ارتفاعها في الهواء مائة ذراع بالذراع الرشاشى، منها ثمانون ذراعاً إلى الموضع الذي يقف فيه المؤذن، ومن هناك إلى أعلاها عشرون ذراعاً؛ ويصعد إلى أعلى هذا المنار بمدرجين، أحدهما من الجانب الغربي والثاني من الشرقي؛ إذا افترق الصاعدان أسفل الصومعة لم يجتمعا إلا إذا وصلا الأعلى. ووجه هذه الصومعة مبطن

بالكذان، منقوش من وجه الأرض إلى أعلى الصومعة بصنعةٍ تحتوي على أنواع من التزويق والكتابة. وبالأوجه الأربعة الدائرة من الصومعة صفان من قسىٍ دائرةٍ على عمد الرخام، وبيت له أربعة أبواب معلقة يبيت فيه كل ليلة مؤذنان. وعلى أعلى القبه التي على البيت ثلاث تفاحات ذهباً، واثنان من فضة، وأوراق سوسنية؛ تسع الكبيرة من هذه التفاحات ستين رطلاً من الزيت، ويخدم الجامع كله ستون رجلاً، وعليهم قائم ينظر في أمورهم. فهذا ما حكاه محمد بن محمد بن إدريس. وقرطبة على نهرٍ عظيم، عليه قنطرة عظيمة من أجل البنيان قرارا، وأعظمه خطرا؛ وهي من الجامع في قبلته وبالقرب منه فانتظم به الشكل. قالوا: وبأمر عمر بن عبد العزيز قام على نهر قرطبة الجسر الأعظم الذي لا يعرف في الدنيا مثله، وحول الأندلس من عمل إفريقية، وجرد لها عاملاً من قبله، ووقعت المغانم فيها عن أمره. وذكر أن تفسير قرطبة بلسان القوط قرظبة بالظاء المعجمة، ومعنى ذلك بلسانهم القلوب المختلفة وقيل إن معنى قرظبة آخر فاسكنها. ودور مدينة قرطبة في كمالها ثلاثون ألف ذراع؛ ولها من الأبواب باب القنطرة، وهو بقبليها، ومنه يعبر النهر على القنطرة، والباب الجديد وهو شرقيها، وباب عامر وهو بين الغرب والجوف منها وغيرها، وقصر مدينة قرطبة بغربيها متصل بسورها القبلي والغربي؛ وجامعها بإزاء القصر من جهة الشرق، وقد وصل بينهما بساباط يسلك الناس تحته من المحجة العظمى التي بين الجامع والقصر إلى باب القنطرة، وكان طول مسقف

البلاطات من المسجد الجامع، وذلك من القبلة إلى الجوف قبل الزيادة، مائتين وخمسا وعشرين ذرعاً، والعرض من الشرق إلى الغرب قبل الزيادة مائة ذراع وخمس أذرع، ثم مازاد الحكم في طوله في القبلة مائة ذراع وخمس أذرع، فكمل الطول ثلاثمائة ذراع وثلاثين ذراعاً؛ وزاد محمد بن أبي عامر بأمر هشام بن الحكم في عرضه من جهة المشرق ثمانين ذراعاً، فتم العرض بمائتين وثلاثين ذراعاً. وكان عدد بلاطاته أحد عشر بلاطاً، عرض أوسطها ستة عشر ذراعاً، وعرض كل واحدٍ من اللذين يليانه شرقاً واللذين يليانه غرباً أربعة عشر ذراعاً؛ وعرض كل واحدٍ من الستة الباقية إحدى عشر ذراعاً؛ وزاد محمد بن أبي عامر فيه ثماني بلاطات، عرض كل واحدٍ عشر أذرع. وطول الصحن من المشرق إلى المغرب مائة وثمانٍ وعشرون ذراعاً، وعرضه من القبلة إلى الجوف مائة واحدة وخمس أذرع؛ وعرض السقائف المستديرة بصحنه عشرة أذرع؛ فتكسيره ثلاثة وثلاثون ألف ذراع ومائة وخمسون ذراعاً. وعدد أبوابه تسعة: ثلاثة في صحنه غرباً وشرقاً وجوفاً، وأربعة في بلاطات: اثنان غربيان واثنان شرقيان، وفي مقاصير النساء من السقائف بابان. وجميع ما فيه من الأعمدة ألف عمود ومائتا عمود وثلاثة وتسعون عموداً، رخام كلها. وقباب مقصورة الجامع مذهبة، وكذلك جدار المحراب وما يليه قد أجرى فيه الذهب على الفسيفساء، وثريات المقصورة فضة محضة؛ وارتفاع الصومعة اليوم وهي من بناء عبد الرحمن بن محمد، ثلاث وسبعون ذراعاً إلى أعلى القبة المفتتحة التي يستدير بها المؤذنون، وفي رأس هذه القبة تفاح ذهبٍ وفضةٍ، وارتفاعها إلى مكان الأذان أربع وخمسون ذراعاً، وطول كل حائطٍ من حياطانها على الأرض ثماني عشرة أذرع، وعدد المساجد بقرطبة على ما أحصى وضبط أربعمائة وإحدى وتسعون مسجداً.

قرمونة

وأحواز قرطبة تنتهي في المغرب إلى أحواز إشبيلية، وتأخذ في الجوف ستين ميلاً، ويختلط أحوازها في الشرق بأحواز جيان. وعلى الجملة فقد كانت أم البلاد وواسطة عقد الأندلس، وحوت من الأكابر من أهل الدنيا والآخرة، من الملوك والعلماء والصالحين والمفتين وغيرهم خلقاً، ومتعوا فيها ما أراد الله عز وجل، وذلك حين كان جدها صاعداً؛ وبعد ذلك طحنتها النوائب، واعتورتها المصائب؛ وتوالت عليها الشدائد والأحداث؛ فلم يبق من أهلها إلا البشر اليسير على كبر اسمها، وضخامة حالها؛ وقنطرتها التي لا نظير لها، وعد أقواسها تسع عشرة قوساً، بين القوس والقوس خمسون شبراً، ولها ستائر من كل جهة تستر القامة، وارتفاعها من موضع المشى إلى وجه الماء، في أيام جفوف الماء وقلته، ثلاثون ذراعاً؛ وتحت القنطرة يعترض الوادي برصيف مصنوع من الأحجار والعمد الجافية من الرخام؛ وعلى السد ثلاث بيوت أرحاء، في كل بيت منها أربعة مطاحن. ومحاسن هذه المدينة وشماختها أكثر من أن يحاط بها خبراً. فلما عثر جدها، وخوى نجمها، وضعف أمر الإسلام، واختلفت بالجزيرة كلمته، تغلب عليها النصارى، وحكموا عليها في أواخر شوال من سنة 633. قرمونة مدينة بالأندلس في الشرق من إشبيلية، وبينها وبين إستجة خمسة وأربعون ميلاً، وهي مدينة كبيرة قديمة، وهي باللسان اللطينى كارب موية وهي الكاف والألف والراء والباء المعجمة بواحدة معناه صديقي؛ وهي في سفح جبلٍ عليها سور حجارة

من بنيان الأول كان تثلم في الهدنة، ثم بنى في الفتنة، وجنباتها حصينة ممتنعة على المحاربين إلا من جهة المغرب، وارتفاع سورها هناك أربعون حجراً، وبالذراع ثلاث وأربعون ذراعاً، وفي هذا السور الغربي برج يعرف بالبرج الأجم، عليه ينصب العرادات عند القتال؛ وفي ركن هذا السور أيضاً، مما يلي الجوف، بنيان مرتفع على السور يسمى سمرملة، عليه برج للمحاربين، وتحته مرج نضير لا ينهشم ولا يصوح كلاه، ويتصل بهذا السور خندق عميق جداً أولى، وترابه مستند إلى السور، وفي السور القبلي موضع فيه صخرة عظيمة منيعة منتصبة كالحائط، يحسر عنها الطرف من علوها، والسور مبنى فوقها، وقد بقي منها دونه قدر ممشى الرجل، فيتدلى من هناك الرجال لا شتيار العسل، واصطياد فراخ الطير من صدوع تلك الصخرة؛ وفي هذا السور القبلى باب يعرف بباب يرنى، نسب إلى قرية بإزائه تسمى يرنى، وباب قرطبة شرقية عليه قصبة وأبراج، وباب قلشانة بين الشرق والجوف، ومنه الخروج إلى قرطبة لسهولته؛ وأما باب قرطبة فطريقه وعر ممتنع، وباب إشبيلية غربي، دونه إلى داخل المدينة باب ثانٍ بينهما خمسون ذراعاً؛ وبمدينة قرمونة جامع حسن البناء، فيه سبع بلاطات، على أعمدة رخامٍ وأرجل صخرٍ، وسوقها جامعة يوم الخميس، وبها حمامات ودار صناعة، بنيت بعد سنة المجوس مخزناً للسلاح؛ وبداخل مدينة قرمونة آثار كثيرة للأول، ومقطع حجرٍ، وحواليها مقاطع كثيرة، منها مقطع بجوفيها. وإشبيلية بقرب مدينة قرمونة بينهما عشرون ميلاً. وبقرب قرمونة فحص عريض حمال للزرع فيه قرى كثيرة ذات مياهٍ غزيرةٍ وعيونٍ وآبارٍ. وافتتح عبد الرحمن بن محمد مدينة قرمونة سنة305.

قرناطة

قرناطة بالنون مدينة بالأندلس، في ناحية منتزحة عن العمران، وفي جبالٍ شاهقة هناك غار فيه رجل ميت لم تغيره الأزمنة ولا يدرى له أول شأنٍ، ويكف من أعلى الغار ماء في وقبٍ لطيف فلا يفيض ذلك الوقب بدوام الماء، وإن شرب منه العدد الكثير لم ينقص. ويذكر أن بعض المستهزئين أخذ من أكفان ذلك الميت فصعق لفوره. قسطلة دراج قرية في غرب الأندلس، منها أبو عغمر أحمد بن محمد بن دراج القسطلى، ودراج هو الذي تنسب إليه القرية فيقال قسطلة دراج. وكان أبو عمر هذا كاتباً من كتاب الإنشاء في أيام المنصور بن أبي عامر، وهو معدود في جملة العلماء والمقدمين من الشعراء، واختبر واقترح عليه فبرز وسبق. فمن قوله يصف السوسن ويمدح الحاجب المظفر سيف الدولة عبد الملك بن المنصور بن أبي عامر منسرح: إن كان وجه الربيع مبتسما ... فالسوسن المجتلى ثناياه يا حسنه بين ضاحكٍ عبقٍ ... يطيب ريح الحبيب رياه خاف عليه العيون غاشيةً ... فاشتق من حده فسماه وهو إذا مغرم تنسمه ... خلى على الأنف منه سيماه يا حاجباً مذ براه خالفه ... توجه بالعلى وحلاه إذا رآه الزمان مبتهجاً ... فقد رأى كل ما تمناه وإن رآه الهلال مطلعاً ... يقول ربي وربك الله

قشتالة

قشتالة عمل من الأعمال الأندلسية، قاعدته قشتالة سمي العمل بها، وقالوا: ما خلف الجبل المسمى بالشارات في جهة الجنوب يسمى إشبانيا، وما خلف الجبل من جهة الشمال يسمى قشتالة، ولبعضهم كامل: الروم تضرب في البلاد وتغنم ... والعرب تأخذ ما بقي المغرم والمال يورد كله قشتالة ... فالله يلطف بالعباد ويرحم القصر مدينة بالأندلس، بينها وبين شلب أربعة مراحل. وهي مدينة حسنة متوسطة، على ضفة نهر كبير، وهو نهر تصعد فيه السفن السفرية، وفيما استدار بها من أرض كلها شجر الصنوبر، وبها الإنشاء الكثير، وهي خصيبة، كثيرة الألبان والسمن والعسل واللحم، وبين القصر والبحر عشرون ميلاً. قصر أبي دانس بغربي الأندلس، فيه كانت الوقيعة على المسلمين للروم في سنة 614، وأعانهم أهل الأشبونة وغيرها من مملكة ابن الرنق، فأخذوا في نقب الأرض تحت الحصن،

قلب

إلى أن قنطوا وأفضى الناس إلى الهلكة، وبلغ الأمر إلى الولاة الذين في غرب الأندلس وإشبيلية وقرطبة وجيان، فتجهزوا لدفاع العدو، وجاء منهم جيش عظيم لكنهم تخاذلوا على عادتهم، فكانت الهزيمة عليهم وولوا منهزمين، ووقع القتل والأسر، ولم يبرز للمسلمين من الروم إلا نحو سبعين فارساً، ورأى أهل الحصن ذلك فأيقنوا بالتغلب عليهم. قلب هي قاعدة مورور بالأندلس، ودار الولاية بها، وهي مدينة كبيرة، فيها مسجد جامع، وسوق ترده الناس بضروب المتاجر، وهي كثيرة الزيتون والثمار، ولها بطائح سهلة، وجبال شامخة وعرة، منها جبل بقبلتها منيع وعر حصين، وعلى مقربة منه جبل القرود. قلسانة قلشانة بالسين والشين بالأندلس، من كور شذونة، وهي مدينة سهلية على وادي لكه، وهو بقبلتها، وينصب فيه على مقربة منها نهر بوطة، وموقعه في نهر لكه، ولها قصبة مشرفة بغربيها، وتفتح بابها إلى القبلة؛ وفي المدينة جامع حسن البناء، فيه ست بلاطات، بناه الإمام عبد الرحمن بن محمد، وقلشانة متوسطة المدن بكور شذونة، وبها كان قرار العمال والقواد على شذونة، ومدينتها الأولية المذكورة في كتب القياصرة مدينة شذونة التي تعرف في عصرنا بمدينة ابن السليم، وبنو السليم قد انصرفوا

قلعة أيوب

إليها عند خراب مدينة قلشانة وصاروا فيها، وبين قلشانة ومدينة ابن السليم خمسة وعشرون ميلاً، وهي بين الغرب والقبلة من قلشانة، وتعمل في قلشانة ثياب تعرف بالقلشانية مخترعة الصنعة، غريبة العمل. قلعة أيوب بالأندلس بقرب مدينة سالم. وهي مدينة رائقة البقعة، حصينة، شديدة المنعة، كثيرة الأشجار والثمار، كثيرة الخصب، رخيصة الأسعار، وبها يصنع الغضار المذهب، ويتجهز به إلى كل الجهات، وهي قريبة من مدينة دروقة، بينهما ثمانية عشر ميلاً. قلعة رباح بالأندلس أيضاً من عمل جيان، وهي بين قرطبة وطليطلة، وهي مدينة حسنة، ولها حصون حصينة على نهرٍ، وهي مدينة محدثة في أيام بني أمية، وإنما عمرت قلعة رباح بخراب أوريط، وبقرب قلعة رباح حامض إذا مخض في سقاء حلا. وفي سنة 241 أمر الإمام محمد بتحصين مدينة قلعة رباح والزيادة في مبانيها، ونقل الناس إليها وإلى مدينة طلبيرة، ثم ملكها النصارى ولم تزل في أيديهم إلى عام وقيعة الأرك، فخلت قبل الوصول إليها وكان بقاؤها في أيديهم إحدى وخمسين سنة وعشرة أشهر؛ فأمر المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بتطهير جامعها، وصلى فيها، وقدم على قوادها يوسف بن قادس.

قلمرية

قلمرية " بالميم "، بالأندلس من بلاد برتقال، بينها وبين قورية أربعة أيام. وهي على جبل مستدير، وعليها سور حصين، ولها ثلاثة أبواب، وهي في نهاية من الحصانة. وهي صغيرة متحضرة عامرة كثيرة الكروم والتفاح والقراسيا؛ ومكانها في رأس جبل ترابٍ، لا يمكن قتالها، وهي على نهر عليه أرحاء، وبين قلمرية وشنترين ثلاث مراحل، وبينها وبين البحر اثنا عشر ميلاً. قنطرة السيف بالأندلس وهو حصن بينه وبين ماردة يومان وهو حصن منيع على نهر القنطرة، وأهلها متحصنون فيه، ولا يقدر لهم أحد على شيء، والقنطرة لا يأخذها القتال إلا من بابها فقط، والقنطرة هذه قنطرة عظيمة على قوسٍ من عمل الأول، في أعلاها سيف معلق لم تغيره الأزمنة ولا يدري ما تأويله. قورية بالأندلس، قريبة من ماردة، وبينها وبين قنطرة السيف مرحلتان، ولها سور منيع، وهي أولية البناء، واسعة الفناء، من أحصن المعاقل، وأحسن المنازل، ولها بوادٍ شريفة خصيبة، وضياع طيبة، وأصناف من الفواكه كثيرة، وأكثرها العنب والتين.

قيجاطة

قيجاطة مدينة بالأندلس من عمل جيان؛ كان عبد الله المعروف بالبياسى من بني عبد المؤمن، لما نازعه العادل ونزل عليه في بياسة، فلم يقدر عليه، ورجع عنه خائباً، استدعى البياسى النصارى، فسلم لها بياسة، وأخرج منها المسلمين، وسار مع الفنش ليدخل معاقل الإسلام باسمه، فدخل قيجاطة هذه بالسيف، وقتل العدو فيها خلقاً، وأسر آخرين، وكان حديثها شنيعاً تنفر منه الأسماع والقلوب. ثم سار إلى لوشة من عمل غرناطة، فقاتل أهلها وقاتلوه، وأسمعوه ما غاظه، فسلط عليهم النصارى، ففتكوا فيهم أشد الفتك، ثم سار إلى بيغو من عمل غرناطة فدخلها بعد شدة، وذلك مذكور في حرف الباء، وكان ذلك سنة622. قيشاطة حصن بالأندلس كالمدينة، بينه وبين شوذر اثنا عشر ميلاً؛ وفي قيساطة أسواق وربض عامر وحمام وفنادق، وعليها جبل، يقطع به من الخشب الذي تخرط القصاع والأطباق وغير ذلك مما يعم بلاد الأندلس وأكثر بلاد المغرب، وهذا الجبل يتصل ببسطة، وبين جيان وهذا الحصن مرحلتان.

حرف الكاف

حرف الكاف حصن الكرس بالأندلس من عمل جيان، كان الفنش نزل عليه مدة، وفيه القائد أبو جعفر بن فرج، فارس مشهور بالشجاعة، فرأى منه ضبطاً وصبراً وحسن دفاع؛ وكان عند الفنش مهندس من المسلمين المعاهدين بطليطلة، فصنع له برجاً عظيماً من خشب ارتفع به على سور الحصن، فلما أكمل المهندس عمله، بعث إلى ابن فرج في الباطن: إني صنعت هذا البرج اضطراراً لحفظ دمي، وصون من ورائي من الأهل، فاحتل في إحراقه، لئلا تكون ذنوب المسلمين في عنقي وعنقك، إن تركته وأنت قادر عليه بأنواع الحيل؛ وقد طليته بدهانٍ خفيٍ يقبل النار بسرعةٍ، فاعرف كيف تكون في الكتم والإبقاء على! فاختار ابن فرج من أنجاد الرجال جماعةً، ونهض بهم، وبأيديهم القطران والكتان والينران، ودفع تحت الظلام بهم نحو البرج، فأحرقه حتى صار رماداً، ومات من كان فيه ومن حامى عنه، ورجع سالماً. فاغتم الفنش وقال: هذا كان رجاؤنا في فتح الحصن، وقد طالت عليه إقامتنا، ولم يبق إلا أن نعلم قدر ما بقي فيه من الطعام والماء لنبنى أمرنا على حقيقةٍ في ذلك؛ فانتدب لهذا الشأن نصرانى ماكر أشقر أزرق أنحس، تقضى الفراسة بأنه جامع للشر، فأظهر أنه أسلم وأنه هرب من الوباء والغلاء

الواقعين في معسكرهم، فقبله المسلمون وخالطهم حتى اطلع على أنه لم يبق عندهم غير زبيب يقتسمونه بالعدد، وماء يتوزعونه بالقسط؛ فسار ونزل من السور ليلاً إلى أهل ملته، فأعلمهم بحقيقة الأمر؛ فوجه الفنش إلى ابن فرج: إنا قد اطلعنا على خبيئاتكم، ولم يبق إلا أن تسلموا الحصن، وتستريحوا من التعب، المفضى إلى الطب، أو تصبروا قليلاً حتى نظفر بكم رغماً، فنقتل جميعكم! فاشترط عليه ابن فرج أن يقيم لأهل الحصن سوقاً حتى يبيعوا مالا يقدر على حمله، وأن يدفع لهم دواب يحملون عليها أشياءهم إلى جيان فأوفى لهم بذلك. ولما خرج ابن فرج تعجب الفنش من طوله وعظم خلقته، وأنكر عليه كونه سلم عليه بالإشارة ولم يقبل يده، وتكلم معه الترجمان في ذلك فقال: لو كنت أخدمه أكان يجوز أن أقبل يد خصمه؟ فذكر ذلك للفنش فقال: لا يجوز! وضحك الفنش وقال: مثل هذا ينبغي أن تكون الرجال! وأحسن إليه وأعطاه فرسه وسلاحه وقال له: يعجبني أن يكون مثلك عند مثلي. قال: وشغل الله تعالى الفنش مدةً طويلةً بهذا الحصن عن بلاد الإسلام، وكان الناس يرون ذلك في صفيحة ابن فرج، وكان ذلك في سنة620.

حرف اللام

حرف اللام لاردة في ثغر الأندلس الشرقي، وهي مدينة قديمة ابتنيت على نهرٍ يخرج من أرض جليقية، يعرف بشيقر، وهو النهر الذي تلقط منه شذرات الذهب الخالص، وهي بشرقي مدينة وشقة. وكانت مدينة لاردة قد خربت وأقفرت، فجدد بنيانها إسماعيل ابن موسى بن لب بن قسى سنة270. وحصنها منيع، فلا يرام بقتالٍ، ولا يطمع فيه بطول حصار؛ وبأعلاه مسجد جامع متقن البناء، بنى سنة 288. والحصن مشرف على فحصٍ عريضٍ بفحص مشكيجان " بتفخيم الجيم "؛ ومدينة لاردة خصيبة على الجدوب، ولها بساتين كثيرة، وفواكه غزيرة، وهي مخصوصة بكثرة الكتان وطيبه، ومنها يتجهز بالكتان إلى جميع نواحي الثغور؛ وفحص مشكيجان كثيرة الضياع والمزارع والمراعي، ولا تخلو ضيعة منها أن يكون بها برج أو سرداب يمتنع فيه العامرون بها من العدو؛ وأهل الثغور في عملها يخرجون الأموال من الوصايا والصدقات. لبلة في غرب الأندلس مدينة قديمة بها ثلاث عيون: إحداها عين تهشر وهي أغزرها، والثانية عين تنبعث بالشب، والثالثة عين تنبعث بالزاج، ومن إشبيلية إلى طلياطة مرحلة من عشرين ميلاً، ومن طلياطة إلى لبلة مرحلة مثلها؛ وتعرف لبلة بالحمراء، وفيها آثار للأول كثيرة، وسور لبلة قد عقد على أربعة تماثيل: ضم تسميه العامة

لكه

دردب، وعليه صنم آخر، وصنم تسميه العامة مكبح، وعليه صنم آخر؛ ويخيل إلى الناظر أن ذلك البنيان موضوع على أعناقهم، وانفردت بهذه البنية من بين سائر المدن؛ ومن مدنها مدينة جبل العيون. ولبلة مدينة حسنة أزلية متوسطة القدر، ولها سور منيع، ونهرها يأتيها من ناحية الجبل، ويجاز عليه في قنطرة إلى لبلة، وبها أسواق وتجارات، وبينها وبين البحر المحيط ستة أميال. وكور لبلة جامعة لفوائد الكور، كثيرة الزيتون والشجر وضروب الثمار، يكون فيها القرنفل الفاضل، ويجود بها العصفر، وهي سهلية جبلية؛ وكانت جباية كورة لبلة في أيام الأمير الحكم بن هشام خمسة عشر ألفاً وستمائة. لكه مدينة بالأندلس، من كورة شذونة، قديمة، من بنيان قيصر اكتبيان، وآثارها باقية، ولها حمة من أشرف حمات الأندلس. وعلى نهر لكله هذه، التقى لذريق ملك الأندلس في جموعه من العجم، وطارق ابن زيادٍ في من معه من المسلمين، يوم الأحد لليلتين بقيتا من شهر رمضان لسنة 92 من الهجرة؛ فاتصلت الحرب بينهم إلى يوم الاحد لخمس خلون من شوالٍ بعده، ثم هزم الله المشركين، فقتل منهم خلق عظيم، أقامت عظامهم بعد ذلك دهراً طويلاً بتلك الأرض، وحاز المسلمون من عسكرهم ما يجل قدره؛ فكانوا يعرفون كبار العجم

لماية

وملوكهم بخواتم الذهب يجدونها في أصابعهم، ويعرفون من دونهم بخواتم الفضة، ويميزون عبيدهم بخواتم النحاس. لماية إقليم لماية من أقاليم كورة ريه بالأندلس، وبهذا الإقليم جبل يتصل بفحص قرطبة، ويعرف واديه بوادي لماية؛ وفي سند هذا الجبل تمثال صورة إنسانٍ بموضع لا يصل إليه إلا من تدلى بالحبال؛ ويذكر أنه لا يزال يسقط من منخر ذلك التمثال الأيمن نقط ماء، وأن العذراء من النساء تختبر به، وذلك بأن تحاذى بيدها التمثال، فإن كانت بكراً قطر الماء في يدها، وإلا لم يوافق يدها، ولو جهدت في ذلك جهدها؛ هذا عند أهل الناحية مستفيض وأخبر به الثقات. لقنت من بلاد الأندلس، وبينها وبين دانية على الساحل سبعون ميلا. وهي مدينة صغيرة عامرة، وبها سوق ومسجد جامع ومنبر، ويتجهز منها بالحلفاء إلى جميع بلاد البحر، وبها فواكه وبقل كثير وتين وأعناب، ولها قصبة منيعة جداً، في أعلى جبلٍ يصعد إليه بمشقةٍ وتعبٍ، وهي على صغرها تنشأ بها المراكب السفرية والحراريق، ومن لقنت إلى ألش في البرمرحلة.

لورقة

لورقة بالأندلس من بلاد تدمير، إحدى المعاقل السبعة عاهد عليها تدمير، وهي كثيرة الزرع والضرع والخمر. وهي على ظهر جبل، وبها أسواق وربض في أسفل المدينة، وعلى الربض سور، وفي الربض السوق، وبها معدن تربةٍ صفراء، ومعادن مغرةٍ تحمل إلى كثير من الأقطار، وبينها وبين مرسية أربعون ميلاً، وفيها معادن لازورد. ومن أغرب الغرائب الزيتون التي على مقربة من حصن سرنيط، وهو حصن من حصون لورقة البرانية منها، وهي زيتونة في حرمة الجبل، فإذا كان وقت صلاة العصر من اليوم الذي يستقبل أول ليلة من شهر ميه، نورت الزيتونة فلا يجن عليها الليل إلا وقد عقدت، ولا تصبح إلا وقد اسود زيتونها وطاب، قد عرف ذلك الخاصة والعامة ووقفوا عليه. وذكر إبراهيم بن يوسف الطرطوشى أن ملك الروم قال له سنة305: إني أريد أن أرسل إلى ملك الأندلس قومساً بهديةٍ، وإن من أعظم حوائجي عنده، وأعظم مطالبي لديه أن القاعة الكريمة الكنيسة التي في الدار التي فيها الزيتونة المباركة، التي تنور وتعقد ليلة الميلاد، وتطعم من نهارها، فبها قبر شهيدٍ له محل عظيم عند الله عز وجل؛ فأنا أسأله مداراة أهل تلك الكنيسة، وملاطفتهم، حتى يسمحوا إلى بعظام ذلك الشهيد؛ فإن حصل لي فهو أجل عندي من كل نعمةٍ في الأرض!

وبهذه الناحية موضع معروف، من أراد أن يتخذ فيه جناناً، صرف إلى الموضع العناية بالتدمين والعمارة والسقى من النهر، فتنبت الأرض هناك بطبعها شجر التفاح والكمثرى والتين والرمان وضروب الفواكه، حاشا شجر التوت، من غير غراسةٍ ولا اعتمال. وهذا الموضع يعرف بأشكوني. وتفسير لورقة باللطينى الزرع الخصيب وهذا الاسم وافق معناه، لأنها من المعاقل الخصيبة، وعلى نهرٍ مجراه إلى الشرق من هذا القطر، كما يختبر في أرض مصر، ولهذا النهر هناك مجريان، أحدهما أعلى من الثاني، فإذا احتيج إلى السقى به عولى بالسداد حتى يرقى المجرى الأعلى فيسقى به. وعلى هذا النهر نواعير في مواضع مختلفة، تسقى به البساتين، ويخرج منه الجداول العظيمة، يسقى الجدول عشرة فراسخ وأكثر. وطعام لورقة يبقى مطمراً تحت الأرض عشرين عاماً لا يغير، وكثيراً ما يجاح زروع بالجراد، ويزعم أهلها أنه كان فيها جرادة من ذهب طلسما لدفع مضار الجراد، فسرقت من هناك، فلم يزل الجراد من حينئذٍ ظاهراً عندهم فاشياً. ويزعمون أن البقر كانت لا تفتل عندهم، ولا يقع عندهم فيها الموتان العام لها في بعض الأعوام، حتى وجد في بعض الأساس من مباني الأول ثوران من صخرٍ، أحدهما أمام صاحبه، ينظر إليه، فلما انتزعت من ذلك الموضع وقع الموتان في البقر عندهم ذلك العام. وللورقة الفحص الذي لا يعلم في الأرض مثله، وهو المعروف بالفندون، المتصل بفحص شنقنيرة، ومسافة ذلك خمسة وعشرون ميلاً.

لوشة

وكان قدم قرطبة أيام الأمير محمد قوم من وجوه المضرية واليمانية بتدمير، فسألوهم عن هذا الفحص فذكروا فضله ونمو ما يزدرع فيه فأكثروا وقالوا: إن الحبة تتفرع من أصلها ثلاثمائة قصبة! فأنكر ذلك بعضهم، فكذبه، فوجهوا رسولاً أمروه بإغراء اليقين، وبحمل أصولٍ من ذلك الزرع فأحضرها، فأحصى في كل أصلٍ ثلاثمائة قصبة وأكثر، في كل قصبة سنبلة. وبقرية تازة، من قرى لورقة، عين تخرج من حجرٍ صلد، تجري في قناةٍ منقورةٍ في الحجر، عمقها أكثر من قامة، نحو ميلين، ثم يتصل الماء بنقبٍ من الحجر الصلد، ومناهد مفتوحةٍ إلى أعلى المنافس للهواء، ثم يفضى إلى بيتٍ في داخل الجبل ظليم مملوء ماء، والجبل كله مغتمد له على أرجلٍ، ومن دخل إليه لا يعلم ما وراء تلك الأرجل. لوشة بالأندلس من أقاليم إلبيرة، بينهما ثلاثون ميلاً، وبها جبل فيه غار يصعد إليه، وعلى فمه شجرة، وهو في حجرٍ صلدٍ، عمقه نحو قامتين، فيه أربعة نفر موتى لا يعلم أول أمرهم ولا وقت موتهم، يذكر الأبناء عن الآباء أنهم ألفوهم هكذا، إلا أن الملوك والولاة لم يزالوا يراعون أمورهم، ويتعهدون تجديد أكفانهم، ولا توضع عليه إلا بعد أن يقطع فيها قطوع كثيرة لئلا يطمع الفسقة فيخلعونها عنهم. وهو غار موحش مظلم مرهب، لا يدخله إلا رابط الجاش جرئ النفس. وكان صاحب بياسة عبد الله المعروف بالبياسى من بني عبد المؤمن، لما ضايقه

ليون

العادل في سنة 622 استعان بالنصارى وسلم لهم بياسة، فدخل قيجاطة بالسيف، وسار بالعدو إلى لوشة هذه، فقاتلهم أشد قتالٍ، وسقط عليهم عدو الدين، فقتلوا فيهم أشد القتل، ثم سار إلى بيغو من عمل غرناطة، فاحتوى عليها بعد شدة. ليون قاعدة من قواعد قشتالة، عامرة، بها معاملات وتجارات ومكاسب، ولأهلها همة ونفاسة.

حرف الميم

حرف الميم مارتلة على نهر بطليوس، بجزيرة الأندلس، منها الزاهد موسى بن عمران المارتلي، اشتهر بإشبيلية بالصلاح، وله شعر مدون منقول، منه " كامل ": أوصيك لا ترد الشها ... دة والإمامة والأمانة تسلم من التجريح وال؟ ... حسد المبرح والخيانة ولما جاز المنصور الموحدى البحر إلى الجهاد عام الأرك، زاره ثم وجه إليه مالاً، فقال للرسول: هو أحوج في ماله! قل له: هذه مائة دينار من حلالٍ خذها لفنقتك في هذه الغزوة، إني أرجو إن لم تطعم إلا الحلال أن تنصر! فيقال إن المنصور قبل منها ما نابه لخاصته في تلك الحركة، فلم يزل يتعرف ببركتها حتى نصره الله تعالى. وتوفي في سنة591. ماردة مدينة بجوفي قرطبة، منحرفة إلى الغرب قليلاً، وكانت مدينةً ينزلها الملوك الأوائل، فكثرت بها آثارهم والمياه المستجلبة إليها، واتصل ملكهم إلى أن ملك منهم سبعة وعشرون ملكاً؛ ويقال إن ذا القرنين كان منهم، وكان يقال لهذه الأمة الشبونقات، ثم دخلت أمة القوط فغلبوا على الأندلس، فاقتطعوها من صاحب

رومة، واتخذوا طليطلة دار ملكهم وأقروا فيا سرير ملكهم إلى أن دخل عليهم الإسلام؛ وكان آخرهم لذريق، وكان قد أحدق بماردة سوراً عرضه اثنا عشر ذراعاً، وارتفاعه ثماين عشر ذراعاً، وكان على بابها مما يلي الغرب حنايات يكون طولها خمسين ذراعاً، متقنة البناء، عددها ثلاثمائة وستون حنية، وفي وسط قنطرتها برج محنى، يسلك تحته من سلك في القنطرة؛ وتفسيرها باللسان اللطينى مسكن الأشراف. وقيل بل كانت دار مملكةٍ لماردة بنت هرسوس الملك، وبها من البناء آثار ظاهرة تنطق عن ملكٍ وقدرة، وتعرب عن نخوةٍ وعزٍ وتفصح عن غبطةٍ وعبرة؛ لها في قصبتها قصورة خربة، وفيها دار يقال لها دار الطبيخ، وهي في ظهر القصر، وكان الماء يأتي في دار الطبيخ في ساقية، هي الآن باقية الأثر، فتوضع صحاف الذهب والفضة بأنواع الطعام في تلك الساقية على الماء حتى تخرج بين يدي الملكة، فترفع على الموائد، ثم إذا فرغ من أكل ما فيها وضعت في الساقية، فتستدير إلى أن تصل إلى يد الطباخ بدار الطبخ، فيرفعها بعد غسلها، ثم يمر ذلك الماء في سروب القصر؛ ومن أغرب الغرائب جلب الماء الذي كان يأتي إلى القصر على عمدٍ مبنيةٍ تسمى الارجالات، وهي أعداد كثيرة باقية إلى الآن، قائمة على قوائم لم تخل بها الأزمان، ولا غيرتها الدهور، فمنها قصار، ومنها طوال، بحسب الأماكن التي كان فيها البناء، وأطولها يكون غلوة سهمٍ، وهي على خطٍ مستقيمٍ؛ وكان الماء يأتي عليها في قنى مصنوعةٍ خربت وقنيت، وبقيت تلك الارجالات قائمةً، يخيل إلى الناظر إليها أنها من حجرٍ واحدٍ لحكمة إتقانها وتجويد صنعتها؛ وفي الجنوب من سور هذه المدينة قصر آخر صغير، وفي برج منه مكان مرآةٍ كانت الملكة ماردة تنظر إلى وجهها فيه،

مالقة

ومحيط دوره عشرون شبراً، وكان يدور على حرفه، وكان دورانه قائماً، ومكانه إلى الآن باقٍ؛ ويقال إنما صنعته ماردة لتحاكى به مرآة ذي القرنين التي وضعها في منارة الإسكندرية. وقال هاشم بن عبد العزيز، وقد تذاكروا شرف ماردة وفضل ما فيها من الرخام؛ قال: كنت كلفاً بالرخام، فلما وليت ماردة تتبعته لأنتقل منه كل ما استحسنته، فبينا أطوف في بعض الأيام بالمدينة إذ نظرت إلى لوح رخامٍ في سورها، شديد الصفاء، كثيراً ما يخيل للناظر أنه الجوهر، فأمرت باقتلاعه، فقلع بعد معاناةٍ، فلما أنزل وجد فيه كتاب أعجمي، فجمعت عليه من كان بماردة من النصارى، فزعموا أنه لا يقدر على ترجمته إلا أعجمي ذكروه يعظمونه، فأنفذت فيه رسولاً، فأتيت بشيخ هرمٍ كبير، فلما وضع اللوح بين يديه أجهش بالبكاء، واستعبر مليا، ثم قال لترجمته: براءة لأهل إيلياء من عمل في سورها خمس عشرة ذراعاً، فقد كان في افتتاح الأندلس وجد في كنائس ماردة ما وقع إليها من ذخائر بيت المقدس عند انتهاب بخت نصر لإيلياء، وكان ممن حضره في جنوده إشبان ملك الأندلس، ووقع ذلك وغيره في سهامه. وقصر ماردة بناه عبد الملك بن كليب بن ثعلبة، وهو منيع، طول كل شقة من سوره ثلاثمائة ذراع، وعرض البناء اثنا عشر ذراعاً؛ وقنطرة ماردة عجيبة البنيان، طولها ميل بأبدع ما يكون من البنيان. ومن ماردة إلى بطليوس عشرون ميلاً. مالقة بالأندلس، مدينة على شاطئ البحر، عليها سور صخرٍ والبحر في قبلتها، وهي

حسنة عامرة آهلة، كثيرة الديار، وفيما استدار بها من جميع جهاتها شجر التين المنسوب إليها، وهي تحمل إلى مصر والشأم والعراق، وربما وصل إلى الهند، وهو من أحسن التين طيباً وعذوبةً، ولها ربضان كبيران، وشرب أهلها من الآبار، ولها وادٍ يجري في زمان الشتاء، وليس بدائم الجرى. وهي من تأسيس الأول، وأكثر المدينة على جسرٍ من بناء الأول، والجسر داخل في البحيرتين هناك، قد بنى بصخرٍ كأنوف الجبال؛ وقصبتها في شرقي مدينتها، عليها سور صخرٍ، وهي في غاية الحصانة والمنعة. وفي هذه القصبة مسجد بناه الفقيه المحدث معاوية بن صالح الحمصى، وكان ممن حضر وقعة مروان بن محمد ليلة بوصير، فأنجاه الفرار، ولجأ إلى الأندلس فرقاً من المسودة، ومات بها، وله روايات وتقدم في السنة والعلم؛ وجامع مدينة مالقة بالمدينة، وهو خمس بلاطات، ولها خمسة أبواب، بابان منها إلى البحر، وباب شرقي يعرف بباب الوادي، وباب جوفي يعرف بباب الخوخة، وبها مبانٍ فخمة، وحمامات حسنة، وأسواق جامعة كثيرة في الربض والمدينة؛ وذكرها الأول في كتبهم فقالوا: مدينة مالقة لا بأس عليها، ولا فرق، آمنة من جوعٍ وسبيٍ ودمٍ، مكتوب ذلك في العلم الذي يكتب؛ وقد قيل إن هذه الكلمات وجدت في بعض حجارتها نقشاً بالقلم الإغريقي. قال: وجميع هذه الآثار التي أمنها منها، وبقاؤها عنها، قد لحقت بها، وجمعت لها سنة 459، بمحاصرة عباد بن عباد لها، واستطالة برابر قصبتها على أهلها، فشملهم الضر، وعمهم الفقر؛ ثم استحلت حرماتهم وسفت مهجاتهم؛ فما نجا في البحر إلا

مدينة المائدة

الشريد، ولا تخلص إلا السعيد؛ فخلت ديارهم، وتعطلت آثارهم. انتهى. وكذلك عندما نشأت الفتنة في آخر أيام الملثمين وصدر دولة الموحدين، بقيام ابن حسون فيها، وبعد ما قتل فيها من قتل وغرب من غرب، قتل نفسه عند قيام أهل البلد عليه، فسبيت حريمه، ومزقوا في البلاد كل ممزقٍ، وأسيطت حاله، ولله الحكمة البالغة. ومن مالقة إلى أرشذونة ثمانية وعشرون ميلاً، ومرسى مالقة صيفي يكن بالغربى، وبإزائه مما يلي المدينة الجسر الذي ذكرناه، ينكسر عليه الموج. ولما ولى القاضي المحدث الشهير أبو محمد عبد الله بن سليمان بن حوط الله الأنصارى قضاء مالقة، وقدم عليها، خرج طلبتها إلى لقائه، فأنشدهم سريع: مالقة حييت يا تينها ... الفلك من أجلك يأتينها نهى طبيبي عنك في علتى ... ما لطبيبي عن حياتي نها مدينة المائدة في أحواز طليطلة سميت بذلك لأنها وجدت فيها المائدة المنسوبة إلى سليمان بن داوود عليهما السلام، وهي خضراء من زبرجد، حافاتها وأرجلها، وفيها ثلاثمائة وخمسة وستون رجلاً؛ وانتهى إليها طارق حين مضى إلى طليطلة سنة93. مجريط مدينة بالأندلس شريفة، بناها الأمير محمد بن عبد الرحمن، ومن مجريط إلى قنطرة ما قدة، وهو آخر حيز الإسلام، إحدى وثلاثون ميلاً، وفي مجريط تربة

مربلة

يصنع منها البرام، وتستعمل على النار عشرين سنةً لا تنكسر، وما طبخ فيها لا يكاد يتغير في حر الهواء؛ وحصن مجريط من الحصون الجليلة، وهو من بناء الأمير محمد ابن عبد الرحمن. وذكر ابن حيان في تأريخه الخندق الذي خندق بخارج سور مجريط قال: عثر فيه على قبر برمةٍ عاديةٍ، كان طولها إحدى وخمسين ذراعاً، التي هي مائة شبر وشبران، من نمرقة رأسه إلى طرف قدميه، وصح هذا بالثبت من مخاطبة قاضي مجريط، ووقوفه عليه، ومعاينته إياه، ومعاينة شهوده ذلك، وأخبر أن مقدار ما وسعه تجويف قحف دماغه ما قدره ثمانية أرباع أو نحوها، فسبحان من له في كل شيء آية! ومجريط مدينة صغيرة، وقلعة منيعة، وكان لها في زمن الإسلام مسجد جامع وخطبة قائمة، وهي بمقربة من طليطلة. مربلة بالأندلس بقرب مسرى سهيل ومرسى مالقة، ومر بلة مدينة صغيرة مسورة من بناء الأول، محكمة العمل، ممتنعة المرام؛ وهناك جبل منيف عالٍ، يزعم أهل تلك الناحية أن النجم المسمى سهيلاً يرى من أعلاه، ولذلك سمي أبو القاسم الأستاذ الحافظ، مؤلف الروض الأنف، السهيلي. مربيطر حصن بالأندلس، قريب من طرطوشة، وهو على جبل، والبحر بقبلته،

مرج الأمير

ويظهر منه شرقاً وغرباً؛ وبمربيطر جامع ومساجد، وفيها آثار للأول: دار ملعب وأصنام وغير ذلك؛ وهي كثيرة الزيتون والشجر والأعناب وأصناف الثمار؛ ومن مربيطر إلى أول قرى بريانة تسعة عشر ميلاً ونصف ميلٍ. مرج الأمير بالأندلس عند قرية مليس، بقرب وادي آش، وبه عسكر عبد الرحمن بن محمد إذ كان محاصراً لحصن اشتبين. مرسانة مدينة بكورة إشبيلية، ومرسانة أيضاً من حصون المرية. مرسية بالأندلس، وهي قاعدة تدمير، بناها الأمير عبد الرحمن بن الحكم، واتخذت داراً للعمال، وقراراً للقواد. وكان الذي تولى بنيانها، وخرج العهد إليه في اتخاذها جابر بن مالك بن لبيد؛ وكان تأريخ الكتاب يوم الأحد لأربع خلون من ربيع الأول سنة 216؛ فلما بناها ورد كتاب الأمير عبد الرحمن على جابر بن مالك بخراب مدينة أله من المضرية واليمانية؛ وكان السبب في ذلك أن رجلاً من اليمانية استقى من وادي لورقة قلةً، وأخذ ورقةً من كرمٍ لرجل من المضرية، فغطى بها القلة، فأنكر ذلك المضرى وقال: إنما ذلك استخفافاً بي إذا انقطعت ورق كرمى، وتفاقم الأمر بينهما حتى تحارب الحيان، وعسكر بعضهم إلى بعضٍ، واقتتلا أشد قتالٍ. ومرسية على نهر كبير يسقى جميعها كنيل مصر، ولها جامع جليل، وحمامات

وأسواق عامرة، وهي راخية أكثر الدهر، رخيصة الفواكه، كثيرة الشجر والأعناب وأصناف الثمار، وبها معادن فضةٍ غزيرة متصلة المادة؛ وكانت تصنع بها البسط الرفيعة الشريفة؛ ولأهل مرسية حذق بصنعتها وتجويدها لا يبلغه غيرهم. ومن مرسية أبو غالب تمام بن غالب، المعروف بابن التياني اللغوى المرسى صاحب الموعب؛ وكان أبو الجيش مجاهد بن عبد الله، صاحب دانية، قد تغلب على مرسية وأبو غالب إذ ذاك بها، فأرسل إليه ألف دينار على أن يزيد في ترجمة الكتاب أنه ألفه لأبي الجيش مجاهد، فرد الدنانير وأبى من ذلك وقال: والله لو بذلت لي الدنيا على ذلك ما فعلت، ولا استجزت الكذب، فإني لم أجمعه لك خاصةً، وإنما جمعته لكل طالب علمٍ. وعلى أربعين ميلاً من مرسية عين ماء عذبٍ، يقصدها منعلق العلق بحلقه، فيفتح به، فيسقط العلق لحينه، وذلك بإقليم إيلش؛ وقال بعضهم: هذا طب تمام يوجد في كل ماءٍ عذبٍ باردٍ إذا فتح فيه عليه من علق العلق به أسقطه في الأغلب، وذلك لأن العلق إنما ينشا في الماء العذب، فيطرأ عليه من خلاف ذلك المزاج ما يستروح منه إلى الماء، وكثيراً ما يطب به الأطباء فيستغنون به عن شجر أناغاليس الذي من شأنه قتل العلق، وعن العكوب وعن الخل وأمثال هذه الأشياء. ومرسية في مستوٍ من الأرض، ولها ربض عامر آهل، وعليها وعلى ربضها أسوار، وحظائر متقنة، والماء يشق ربضها، وهي على ضفة النهر، ويجاز إليها على قنطرةٍ مصنوعةٍ من المراكب، ولها أرحاء طاحنة في مراكب تنتقل من موضع إلى

موضع، وبها شجر التين كثير، ولها حصون وقلاع وقواعد وأقاليم معدومة المثال، ومنها إلى بلنسية خمس مراحل، ومنها إلى قرطبة عشر مراحل. ويخرج من نهر مرسية جدول على مقربة من قنطرة اشكابه، قد نقرته الأول فهي الجبل وهو حجر، وجابوه نحو ميلٍ، وهذا الجدول هو الذي يسقى قبلى مرسية، ونقبوا بإزاء هذا النقب في الجبل الموازي لهذا الجبل نقباً آخر، مسافته نحو ميلين، وأخرجوا فيه جدولاً ثانياً، وهو الذي يسقى جوفي مرسية؛ ولهذين الجدولين منافس في أعلى الجبلين، ومناهد إلى الوادي؛ تنقى الجدولان منه بفتحها وانحدار الماء مما اجمتع من الغثاء فيهما؛ ولا يسقى من نهر مرسية شئ بغير هذين الجدولين إلا بما رفع بالدواليب والسواني؛ وبين موقع هذين النقيرين ومرسية ستة أميالٍ. المرية بالأندلس مدينة محدثة، أمر ببنائها أمير المؤمنين، الناصر لدين الله، عبد الرحمن ابن محمد سنة 344. وفيهاب يقول الشاعر مجتث: قالوا المرية صفها ... فقلت نط وشيح وقيل فيها معاش ... فقلت إن هب ريح وكان المجوس لما قدموا المرية، وتطوفوا بساحل الأندلس والعدوة، فاتخذها العرب مرأى، وابتنت بها محارس، وكان الناس يتنجعونها ويرابطون فيها، وهي اليوم أشهر مراسى الأندلس وأعمرها، ومن أجل أمصارها وأشهرها، وعليها سور حصين منيع بناه أمير المؤمنين عبد الرحمن، وعلى ربضها المعروف بالمصلى سور ترابٍ،

بناه خيران العامري، وكان قد وصل إلى هذا الربض ماء العين التي هناك، وأجراه في ساقيةٍ، ثم وصله محمد بن صمادح إلى ساقيةٍ عند جامعها داهل المدينة، واستطرد منه، ولا يصب في أسفل القصبة ويرفع بالدواليب إلى أعلاه؛ ووادي بجانة يعم بالسقى بساتين المرية، والبحر بقبلى مدينة المرية، وقصبتها بجوفيها، وهو حصن منيع لا يرام، مديد من المشرق إلى المغرب، ولها باب قبلي يفضى إلى المدينة، مسافة ما بين أول المصعد في الجبل وبينه مائتا ذراع وثمانون ذراعاً، ولها باب شرقي خارج عن أسوار المدينة، والربض متصل بجبالها، وهي أسهل مرتقى من الباب القبلى؛ وعرض ممشى السور الدائر بالقصبة خمسة أشبارٍ، ومرسى المرية صيفي يكن بشرقيه وغربيه. وكانت المرية في أيام الملثمين مدينة الإسلام، وكان بها من كل الصناعات كل غربية، وكان بها من طرز الحرير ثمانمائة طراز، يعمل بها الحلل والديباج السقلاطون والإصبهاني والجرجاني والستور المكللة، والثياب المعينة، والعتابى، والفاخر وصنوف أنواع الحرير؛ وكانت فيما تقدم يصنع بها صنوف آلات النحاس والحديد وما لا يحاد؛ وكان بها من فواكه واديها الكثير الرخيص؛ وكانت المرية تقصدها مراكب التجار من الإسكندرية والشأم، ولم يكن بالأندلس أكثر من أهلها مالاً. والمرية في ذاتها جبلان بينهما خندق معمور، وعلى الجبل الواحد قصبتها المشهورة بالحصانة، وفي الجبل الثاني ربضها، والسور يحيط بالمدينة وبالربض؛ ولها أبواب عدة؛ والمدينة كبيرة كثيرة الخيرات، وفيها ألف فندقٍ إلا ثلاثين فندقاً؛ وكان الروم ملكوها فغيروا محاسنها وسبوا أهلها وخربوا ديارها.

حصن المنار

حصن المنار بالأندلس، قريب من مدينة لكه، وهو منتهى الركن الثالث من أركان الأندلس، التي هي حدودها؛ وهو على ضفة البحر المحيط من الغرب والجوف، وتتصل به الكنيسة المعظمة عندهم المسماة عندهم بشنت يا قوب. وهذا الموضع ضيق ما بين البحرين في حدود الأندلس، وعرضه من البحر إلى البحر ثمانون ميلاً. مندوجر بالأندلس، وبينه وبين المرية مرحلة، وهو حصن على تل ترابٍ أحمر، والمنزل في القرية، ويباع بها للمسافرين الخبز والسمك وجميع الفواكه. منرقة هي جزيرة تقابل برشلونة، بينهما مجرى، وبينها وبين سرذانية أربعة مجارٍ؛ وهي إحدى جزيرتي ميورقة، وهما منرقة هذه ويابسة. وما زالت في يد المسلمين تحت هدنة الطاغية البرشلونى ومصالحته بعد أن جرى على ميورقة ما جرى؛ وكان عامل ابن يحيى صاحب ميورقة الممتحن بعذاب البرشلونى بعد استيلائه على ميورقة حتى مات رحمه الله تعالى مقيماً بجزيرة منرقة هذه؛ وهو سعيد بن حكم، وقد ضبطها وقام عليها أحسن قيام، وهادن الأعداء؛ وطالت مدته في ذلك وحسنت سيرته إلى أن مات، فقصدها العدو واغتنم فرصتها واستولى عليها.

المنكب

المنكب بالأندلس، مرسى المنكب صيفي يكن بشرقيه، وله نهر يريق في البحر، وعليه حصن كبير لا يرام، به ربض وسوق وجامع، وفيه آثار للأول كثيرة وكانت لهم فيه مياه مجلوبة وآبار فيسقى بهتا إلى اليوم؛ وبقرب الحصن من ناحية الشمال ديماس عظيم، مبنى من حجارةٍ، مربع الأسفل محدد الأعلى، ارتفاعه نحو مائة ذراع، في رأسه منفس للماء المجلوب إليه، وقد نحت في عرض جهة الديماس الجنوبية من أعلاه إلى أسفله، فصب الماء حتى وصل إلى الأرض فدل أن الماء كان مجلوباً من موضعٍ هو أرفع من هذا الصنم. وبهذا المرسى خرج الإمام عبد الرحمن بن معاوية عند دخوله الأندلس، وذلك في ربيع الأول من سنة 138، ويتلو مرسى المنكب مدينة حسنة متوسطة كثيرة مصايد السمك، وبها فواكه جمة. قال بعض أهل الأخبار ما هو كالتفسير لما قدمناه: في وسط المنكب بناء مربع كالصنم، أسفله واسع، وأعلاه ضيق، وبه حفيران من جانبيه، متصلان من أسفله إلى أعلاه، وبإزائه من الناحية في الأرض حوض كبير يأتى إليه الماء من نحو ميلٍ على ظهر قناطر كثيرةٍ معقودةٍ من الحجر الصلد، ينصب ماؤها في ذلك الحوض؛ ويذكر أهل المعرفة من أهل المنكب أن ذلك الماء كان يصعد به إلى أعلى المنار، وينزل إلى الناحية الأخرى، فيجرى هناك إلى رحى صغيرةٍ كانت، وبقي أثرها الآن، على جبلٍ مطلٍ على البحر، ولا يعلم ما المراد بذلك، ومن المنكب إلى غرناطة أربعون ميلاً.

منية نصر

منية نصر قرية بالأندلس قريبة من قرطبة، موفية على النهر، وهي في شرقيها، وتعرف بأرحاء الحناء؛ وهي مدينة فسيحة ذات مبانٍ رفيعةٍ، والذي ابتنى منية نصر الإمام عبد الله بن محمد، وفي ذلك يقول عبيد الله بن يحيى من قصيدةٍ له طويل: لعل زماني يستجد بوصلها ... يجدد عهد الملك في منية النصر فكم صدفت عنها الخطوب وأحرزت ... جنان المصلى دون صاقلة الفجر جفاها البلا إذ وصل الملك ربعها ... وتم بها قصر يضاهي سنى البدر قريب المدى رحب المحل تحفه ... رياض ونهر تحت عقرته يجرى والركن الشرقي مما يلي القبلة من هذه المنية يعرف بالركين، وهو على النهر وفيه ثمرات زيتون؛ وبين النهر وبين الركين موضع يثوب به النبيذيون، وينتجعه الظرفاء فلا يكاد يخلو منهم، يمكثون في ظله ويعدمون في غيره لا شتهاره وبرده؛ وفي ذلك يقول محمد بن شخيص على لسان ابن الحمالة إذ كان غائباً في القسطنطينية في شعرٍ له طويل كامل: أقر السلام على الركين وقل له ... مذ غبت لم أرتح لظل نسيم سقياً لظلك بالعشى وبالضحى ... ولبرد مائك في اجترام سموم لوكنت أملك منع مائك لم يقم ... في ظل نقل في هذه الأبيات معنى شعر ابن المعتز وكثيراً من لفظه وهو: أقرأ على الوشل السلام وقل له ... كل المشارب مذهجرت ذميم

مورور

مورور كورة مورور متصلة بأحواز قرمونة من جزيرة الأندلس، وهي في الغرب والجوف من كورة شذونة، وأحوازها متصلة بأحوازها، وهي من قرطبة بين القبلة والمغرب؛ وقاعدة قلب مورور ودار الولاة بها، وكانت جباية كورة مورور أيام الحكم بن هشام بن عبد الرحمن إحدى وعشرين ألف دينار. ميورقة هي جزيرة في البحر الزقاقى تسامتها من القبلة بجاية من بر العدوة، بينهما ثلاثة مجارٍ، ومن الجوف برشلونة من بلاد أرغون، وبينهما مجرى واحد، ومن الشرق إحدى جزيرتيها منرقة، وبينهما مجرى في البحر طوله أربعون ميلاً؛ وشرقي ميورقة هذه سرذانية بينهما في البحر مجريان، وغربيها جزيرتها يابسة بينهما مجرى في البحر طوله سبعون ميلاً، وميورقة أم هاتين الجزيرتين، وهما بنتاها، وإليها مع الأيام خراجهما؛ وطول ميورقة من الغرب إلى الشرق سبعون ميلاً، وعرضها من القبلة إلى الجوف خمسون ميلاً. فتحها المسلمون سنة 290 إلى أن تغلب عليها العدو البرشلونى وخربها سنة 508، وهي المرة الأولى، ودخل المدينة فلم يجد سوى العيال والأطفال والشيخ الفاني، فلحسابهم أحالوا السيف عليهم، فلما قضى وطره من الجزيرة أسرع بالرجوع إلى بلاده، ثم اختلفت عليها ولاة ابن تاشفين، ثم وليها محمد بن علي بن غانية المسوفى، وهو أول ولاة بني غانية، ثم تعاقبوا على ولايتها إلى أن كان آخرهم عبد الله بن إسحق،

فوجه إليه الملك الناصر محمد بن يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي، فاجتمعا بدانية، فعرض كل واحدٍ منهما من أسند إليه، فكان الفريقان ألفى فارسٍ ومائتى فارس، والرماة سبعمائة، والرجالة خمسة عشر ألفاً، غير غزاة القطع؛ وكان الأسطول ثلاثمائة جفن، منها سبعون غراباً، وثلاثون طريدة، وخمسون مركباً كباراً، وسائرها قوارب منوعة؛ وأما العدد والسلاح والمجانيق والسلالم والمساحى الفؤوس والمعاول والرقائق والحبال فشئ لا يأخذه عدد، وكذلك الدروع والسيوف والرماح والبيضات والأتراس والدرق والقسى وصناديق النشاب وجملة وافرة من الطعام؛ فصلوا الجمعية بيابسة، وأقلعوا غدوة السبت الرابع والعشرين من ذي الحجة مكمل سنة 599؛ فأتو ميورقة ونزلوا، وتقرب العسكر من المدينة، ودار الأسطول بالمرسى مع السيد أبي العلى. وخرج إليهم عبد الله بجموعه، وفنشبوا في القتال، ودافعوا كل الدفاع، وآخر ذلك انهزم ثم صرع فقتل، وغلق باب المدينة فأحاطت بها الرماة وغزاة البحر، فتغلبوا عليها فدخلت ونهبت ولم يسلم إلا قصبتها؛ ودخل السيد أبو العلي وأبو سعيد البلد ورأس عبد الله معهما على قناةٍ بيد رجلٍ غزى كان قطعه، فيها الناس عن النهب وأمرا بضرب عنق رجلٍ فعل ذلك وخالف النهى، وطيف برأسه وأمنا الناس، ونودي بالأمن في الأزقة والقصبة، فخرج الناس وأمنوا، وكتبا إلى الملك الناصر بالفتح. وكان السبب في التوجيه إلى ميورقة أن المنصور يعقوب كان وجه إلى صاحب ميورقة على بن إسحق بن محمد بن غانية يستدعي بيعته، فأنف من ذلك وأساء الرد

واحتال على الرسل حتى اعتقلهم وأودعهم في السجون، ثم تحرك من ميورقة على المذكور إلى بجاية، فاحتال حتى استولى عليها وملكها، ولما تم له ذلك أتى الجزائر فدخلها، ثم مليانه ومازونة، ثم دخل أشير عنوةً ثم أتى القلعة فملكها؛ وبعد ثلاث من دخولها كانت له في العرب الحطمة المشهورة، وبث في هذه البلاد عمالاً وحكاماً ثم قصد قسطينة فسار إليها وحاصرها أشهراً فلم يفلح؛ وهنا بلغه أن عسكراً برياً، وأسطولاً بحرياً هاتئذٍ أيتاه من المغرب، ووصل الأسطول والعسكر إلى بجاية، فأخرج نائبه منها، وهو أخوه يحيى، فتوجه إلى أخيه على وهو على قسنطينة وخلى للقوم بلدهم، ثم توجها معاً نحو القبلة، ومرا بالقلعة فاستأصلاها، ثم سار علي إلى قفصة فأخذها، ثم توزر، ومع ذلك جاء عسكر المغرب فيه المنصور يعقوب، فجهز إليه عسكراً، فالتقوا بوطاء عمرة؛ فكانت الوقيعة المشهورة والهزيمة العظيمة على عسكر المنصور بعد الإثخان الكثير في أصحابه وتبددوا في الصحراء. وكان أول خروج ابن غانية من ميورقة لذلك في سنة 580، وهي السنة التي مات فيها صاحب مراكش والمغزب يوسف بن عبد المؤمن، ثم بقى على بن إسحق وأخوه يحيى يهيمان في تلك الجهات؛ ولما بلغ المنصور خبر وقيعة عمرة وما جرى فيها على عسكره، امتعض من ذلك واستبد برأيه، فتوجه بنفسه حتى نزل على قفصة فحاصرها حصاراً عظيماً، إلى أن نزلوا على حكمه، فحكم فيهم بالسيف، وأثر فيهم الأثر الشنيع، وهدم سورها. ولابن مجبر في ذكر ذلك قصيدة مليحة جداً. منها بسيط: ما غبر قفصة إلا أنها اجترمت ... فلم يكن عند أهل الحلم تثريب

ميرتلة

ما بالها زار ... حوزتها ... فلم يكن عندها أهل وترحيب وقد ذكرنا ذلك في حرف العين عند ذكر عمرة؛ وبعد ذلك كله مات على بعد أن تفرق جمعه، قيل سهم أصابه وهو على توزر سنة 585؛ وتمادت ميورقة على امتناعها إلى إن توفي المنصور في شهر ربيع الأول سنة 595؛ وولى ابنه الملك الناصر فوجه إليها الجيوش وحكم عليها كما قلناه. ثم لم تزل ولاة الملك الناصر تتخلف على ميورقة إلى أن كانت المصيبة العظمى والحادث الشنيع بهزيمة العقاب عليه سنة 609؛ ثم إن الطاغية البرشلونى تحرك إلى ميورقة عازماً عليها، فنزل عليها أسطوله في شوال سنة 626، فأراها من القتال وشدة الحصار وأنواع المحن ما لم يجر مثله في زمان، وحكم عليها عنوةً بعد طول الحصار والقتل والسبى، ثم أخذ واليها ابن يحيى فعذبه أشد العذاب حتى مات، واستولى الشرك على الجزيرة في عام 627. ميرتلة مدينة بالأندلس شرقي مدينة باجة، بينهما أربعون ميلاً، وهي على وادي آنة، وبمقربة من شاطئ البحر مرسى هاشم، وهو حصن أولى فيه آثار قديمة، وبه كنيسة عظيمة بنيت في أيام قسليان قيصر الذي بنيت في أيامه كنيسة طليطلة المعروفة بكنيسة الملك، وقيصر هذا أول من نسج في ثيابه وفرشه الذهب، وهو الرابع والثلاثون من القياصرة.

حرف الواو

حرف الواو وادي آش مدينة بالأندلس قريبة من غرناطة، كبيرة خطيرة تطرد حولها المياه والأنهار، ينحط نهرها من جبل شلير وهو في شرقيها وهي على ضفته، ولها عليه أرحاء لاصقة بسورها، وهي كثيرة التوت والأعناب وأصناف الثمار والزيتون، والقطن بها كثير، وكان بها حمامات، ولها بابان شرقي على النهر وغربي على خندق، وقصبتها مشرفة عليها، وعليها سور حجارةٍ، وهي في ركنها الذي بين المغرب والقبلة. وبقرب وادي آش قرية بها عين تجرى سبعة أعوامٍ وتغور سبعة أعوامٍ، قالوا: وهذا معروف على قديم الزمان، تسكن بجريان عينها وتخلو بغورها. منها عبد البر بن فرسان الواد يآشى المتصل بعلى بن غانية الميورقى، ثم استوزره بعده أخوه يحيى الطويل الفتنة بإفريقية وجهاتها، فكان صاحب رياسة السيف والقلم، وإليه تنسب الأبيات المشهورة طويل: أجبنا ورمحى ناصرى وحسامى ... وعجزاً وعزمى قائدي وزمامى ولي منك بطاش اليدين غضنفر ... يضارب عن أشباله ويحامى ألا غنيانى بالصهيل فإنه ... سماعى ورقراق الدماء مدامى وحطا على الرمضاء رحلى فإنها ... مهادى وخفاق البنود خيامى

وادي الحجارة

وأكثر شعره فيما يكتنى به طول مدة الميورقى من الحروب، كقوله " طويل ": أديروا مداماً للدماء فإنني ... بها أنتشي طيباً وبالنوح أطرب معيشة ليث ليس يأوى لراحة ... يخال إذا ما جدت الحرب يلعب ذكره ابن سعيد وابن بجير، ومات بفزان سنة622. وادي الحجارة وهي مدينة تعرف بمدينة الفرج بالأندلس، وهي بين الجوف والشرق من قرطبة وبينها وبين طليطلة خمسة وستون ميلاً. وهي مدينة حسنة كثيرة الأرزاق، جامعة لأشتات المنافع والغلات، ولها أسوار حصينة، ومياه معينة؛ وبغربيها نهر صغير، لها عليه بساتين وجنات وكروم وزراعات، وبها من غلة الزعفران الشئ الكثير، بتجهز به منه ويحمل إلى سائر البلاد، وبينها وبين مدينة سالم خمسون ميلاً. وادي لكه موضع من أرض الجزيرة الخضراء من ساحل الأندلس القبلى، فيه التقى طارق ابن زياد مولى ابن نصير وجموعه الداخلون الأندلس، مع لذريق طاغية الأندلس آخر ملوك القوط، الذين عدة ملوكهم بالأندلس ستة وثلاثون ملكاً؛ وكانت مدة ملكهم ثلاثمائة سنة واثنتين وأربعين سنة. ولم يكن لذريق هذا من أبناء الملوك ولا صحيح النسب في القوط، إنما اغتصب الملك وتسور عليه عند موت الملك الذي كان قبله،

عين والغر

واستصغر أولاده، واستمال طائفة من الرجال مالوا معه فانتزع الملك من أولاده، وكانت الوقيعة سنة 92 من الهجرة، فانهزم القوط أعظم هزيمة، وقتل لذريق، وغلبت العرب على الأندلس. عين والغر بالأندلس بمقربة من جيان، وعين والغر هذه كثيرة تجرى سبعة أيامٍ متواليةٍ وتغيض سبعة أيام كذلك دائماً. والمو بالأندلس إقليم من أقاليم قونكة وهو على نهر شقر، وبإقليم والمو قرية، فيها غريبة، وذلك عين راكدة قد علاها الطحلب، فإذا فاجأها إنسان وصاح عليها بشدة صياحه درت بالماء، وغلي إلى البرام على النار، وينقطع طحلبها بشدة غليان الماء ثم يعود إلى حاله. وبذة مدينة بالأندلس وهي حصن على وادٍ بقرب أقليش، وعلى وادي وبدة قرية يقال لها بنتيج أهلها، ويسقم علة الحصى. وشقة مدينة بالأندلس لها سوران من حجر، بينها وبين سرقسطة خمسون ميلاً، ووشقة مدينة حسنة.

وشكة

لها أسواق عامرة وصنائع قائمة، وأحوازها تتصل بأحواز بربطانية، ووشقة بشرقي مدينة تطيلة وهي مدينة كبيرة أولية قديمة، رائعة البنيان، قد أتقن سورها أتم إتقان، وبها ونهر يشق مدينتها ويجري في حمامين من حماماتها، ويسقي بفضل مائه بساتين، وهي كريمة التربة، ويحيط بها من جهاتها جنات معروشة وحدائق من الثمار ملتفة. وهي مخصوصة بطيب الكمثرى والزعرور. وحاصر المسلمون مدينة وشقة منذ فتح الأندلس حصاراً طويلاً، حتى بنوا عليها المساكن، وغرسوا الغروس، وحرثوا لمعايشهم، واتصل ذلك من فعلهم سبعة أعوام والنصارى في القصبة القديمة محصورون، فلما طال عليهم الحصار استأمنوا لأنفسهم وذراريهم، فمن دخل في الإسلام ملك نفسه وماله وحرمته، ومن أقام على النصرانية أدى الجزية، فليس بوشقة من أهلها المتأصلين رجل ينتهي إلى أصلٍ صحيحٍ من العرب. وشكة مدينة بثغر سرقسطة، منها أبو عبد الله محمد بن أحمد الوشكى، سكن مرسية، وعاشر صفوان صاحب زاد المسافر وبينهما مراسلات، ومن شعره " رمل ": لست أهوى الجد إلا ... مثل ماء دون طحلب والذي يلقاه يهوى ... ذاك كالهائم يطلب سريع: إن عضك الدهر بأنيابه ... فاصبر عسى ينزع من عضه ودار من تبصره مبغضاً ... فربما يضجر من بغضه

وقش

وقش قرية بثغر الأندلس، ينسب إليها أبو الوليد هشام بن أحمد بن هشام بن خالد الكناني الوقشى من أهل طليطلة، ولي قضاء طلبيرة، وعني بالهندسة والمنطق، مليح النادرة؛ ذكر أنه اختصم إليه رجلان فقال أحدهما: يا فقيه اشتريت من هذا اثنى عشر تيساً حاشاك! فقال له: قل أحد عشر! توفي بدانية سنة489. وقعة الحمار موضع من عمل إشبيلية كانت وقعة للمسلمين على النصارى وذلك في سنة 610، اتفق صاحب قشتالة وصاحب بلاد الجوف أن يخرجا بعسكرهما على بلاد الإسلام التي لا دافع عنها بجزيرة الأندلس بعد وقيعة العقاب، فأما صاحب بلاد الجوف فجاء في الشمال إلى عمل إشبيلية فاصطلم كل ما مر عليه إلى أن انتهى إلى مرج الحمار، فخرج إليه أبو زكرياء أبي حفص بن عبد المؤمن صاحب إشبيلية بعسكر الأندلس الوافر الذين لم تلحقهم معرة العقاب في السنة الماضية، فوعدهم ومناهم وأثار حفائظهم، وزحف بهم إلى العدو، فأعطاه الله نعل النصر؛ فيقال إنه قتل منهم نيفاً على عشرة آلاف، وامتلأت أيديهم مما كان في عسكرهم. وكانت وقعة تحدث بها زماناً، وما زال أهل إشبيلية يعتزون بما اتفق فيها، فيخرجون متى هم عدو بجهاتهم، فيرجعون إلى أنخس حالةٍ، وأكثرهم أسير أو قتيل.

حرف الياء

حرف الياء يابرة مدينة من كور باجة بالأندلس، وهي قديمة، وتنتهي أحواز باجة فيما حواليها مائة ميلٍ، وينسب إليها ابن عبدون اليابرى الشاعر، وفي قصيدة عيسى بن الوكيل المشهورة التي مدح بها علي بن القاسم بن محمد بن عشرة قاضي سلا، التي أولها طويل: سل البرق إذ يلتاح من جانب البرقا ... أقرطى سليمى أم فؤادي حكى خفقا ولم سيلت تلك الغمامة دمعها ... أريعت لو شك البين أم ذاقت العشقا يقول فيها: غريب بأرض الغرب فرق قلبه ... فآوت سلا فرقاً ويابرة فرقا إذا ما بكى أو ناح لم يلق مسعداً ... على شجوه إلا الغمائم والورقا ومنها في المدح: يحاء يغض الطرف إلا عن العلى ... وعرض كماء المزن في الحزن بل أنقا وفضل نمير الماء قد خضر الربا ... وعدل منير النجم قد نور الأفقا بلغنا بنعماك الأماني كلها ... فما بقيت أمنية غير إن تبقا وسبب مدحه له بهذه القصيدة أنه كان مستعملاً بغرناطة في الدولة اللمتونية، فحكى أنه انكسر عليه مال جليل يبلغ عشرة آلاف دينارٍ، فقبض عليه، وأشخص منكوباً إلى مراكش، فلما بلغ الموكلون به مدينة سلا، وبها يومئذٍ بنو القاسم المعروفون ببنى عشرة، رباب السماح، وأرباب الأمداح، قال هذه القصيدة

يابسة

يمدح القاضي أبا الحسن منهم، ويستجير به، وسأل إيصالها إليه، فبادر عند الوقوف عليها إلى المخاطبة بتضمن المال وتحمله، وسؤال الصفح عنه والإبقاء عليه بإعادته على عمله، فصار جوابه الإسعاف والإسعاد، وعاد ابن الوكيل إلى غرناطة. يابسة جزيرة تلى جزيرة ميورقة، ويقال لهذه الجزيرة ولمنورقة بالنون، بنتا جزيرة ميورقة. وهي جزيرة حسنة كثيرة الكروم والأعناب، وبها مدينة حسنة صغيرة متحضرة، وأقرب برٍ إليها مدينة دانية، بينهما مجرى والمجرى مائة ميلٍ، وفي شرقي يابسة جزيرة ميورقة بينهما مجرى. وبجزيرة يابسة عشرة مراسٍ، وبها أنهار جارية، وقرى كثيرة، وعمائر متصلة، وأرضها ينبت الصنوبر الجيد العود للإنشاء وعدة المراكب، وبها ملاحة لا ينفد ملحها، ويتصل بها في القبلة جزيرتان، بينهما وبينها مجازات تسمى الأبواب. يبورة مدينة بالأندلس بينها وبين مدينة القصرين مرحلتان. ينشتة حصن من حصون الأندلس، على نحو مرحلتين من جنجالة التي تعمل فيها البسط.

وإليها ينسب أبو العباس الينشتى صاحب سبتة، كان قيامه فيها سنتة 630، ويلقب بالموفق وكان أمره بها مستقيماً براً وبحراً، يخاف ويمدح ويقصد ويخاطبه الملوك من البلاد إلى أن غتر ب " ... " بن مسعود الكومى من جهة الزهد واطراح الدنيا، فكان إذا ورد سبتة يكرمه " ويغزله " والسماع ويتبرك به، ويستريح إليه، وهو في أثناء ذلك يعلم القلوب المائلة إليه، والقلوب المتغيرة عليه، ويتأمل الأماكن التي يدخل منها إلى إفساد دولته وإعادتها إلى بني عبد المؤمن، حتى اطلع من ذلك على المطلب، وظفر بالغرض، ولم يشعره الينشتى المغتر بزهده حتى نثر عليه سلكه، وابتز منه ملكه؛ فصبحه بمثل راغية البكر، وجاء مع جيش من قبل الملك الرشيد عبد الواحد، فخرج جنده القليل ورجاله وعامة أهل سبتة فحمل عليهم الجيش حملةً فقد فيها من السبتيين نحو ستمائة، وتخاذل الباقون فهلك عليه الأهل والولد ما وثب عليه الينشتى، وكان له ولدان فاختفى الأكبر محمد فكان خلوصه إلى البحر، ثم حبسه بجاية، ثم وصوله بالإسكندرية ولحوقه باليمن وموت أبيه فيقال إن وباء جارفاً كان بحضرة مراكش أهلك الجميع من الغرباء؛ وقيل إنه والولد هلكا بشربة لبن؛ واستمرت بسبتة دولة الرشيد عبد الواحد إلى آخر أيامه. وكان أبو العباس هذا سلك الأدباء وهو يقول وقد رآه على فرسٍ عتيقٍ وعليه ثياب ملوكية وتكنفته الرجال بالرماح وبجانبيه الحجاب: ذا العار بن العابر يريد أن يحكى بني عبد المؤمن! فمازال العار من

انتهى

لا يحكى بني عبد المؤمن؟ ثم خلى سبيله فلم يصبح المراكشى إلا في طريق مراكش. وكان من جهةٍ أخرى في نهايةٍ من الغيرة على الملك، بلغه أن طلحة بن الشرقي من أقارب بني عبد المؤمن قد قال: لو كان في سبته رجل ما ملكها هذا! وأشار إليه فأحضره وقال: زعمت ألا بسبتة رجل؟ وأنا أكذبك! احملوه وغرقوه في اللجة! فحمل في زورقٍ وغرق. انتهى ما تضمنه كتاب الروض المعطار من صفة الجزيرة الأندلسية وذكر كورها وثغورها ومدنها وأقاليمها، والبلاد النصرانية المصاقبة لها وما اشتهر بها من العجائب والآثار، والوقائع والأخبار.

§1/1